491:492low

Page 1

‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬

‫الصراع العربي حول العلمانية‬

‫بين‬ ‫الدولة‬ ‫والدين‬

‫عشيقة ماياكوفسكي عميلة سرية‬ ‫جالل أمين‪ :‬الغرب لم يعد يحتاج‬

‫هل كان بورخيس ُيــعيد‬

‫االستشراق والعرب «استغربوا»‬

‫كتابة فرويد؟‬ ‫‪www.alfaisalmag.com‬‬

‫مبان‬ ‫«مجامع العربية»‬ ‫ٍ‬ ‫مهجورة وسط المدن‬


‫‪www.kfcris.com‬‬

‫اﻟﺒﺤﻮث واﻟﺪراﺳﺎت‬

‫اﻟﻤﺤﺎﺿﺮات واﻟﻨﺪوات‬

‫‪kfcris@kfcris.com‬‬

‫‪@kfcris_sa‬‬

‫اﻟﻤﻜﺘﺒﺔ‬

‫اﻟﻤﺘﺎﺣﻒ‬

‫‪kfcris_sa‬‬

‫‪KFCRISKSA‬‬

‫اﻟﺘﺪرﻳﺐ‬

‫‪KFCRIS‬‬

‫اﻟﻜﺘﺐ واﻹﺻﺪارات‬

‫ص ب‪ ٥١٠٤٩ :‬اﻟﺮﻳﺎض ‪ ١١٥٤٣‬اﳌﻤﻠﻜﺔ اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ اﻟﺴﻌﻮدﻳﺔ ﻫﺎﺗﻒ‪ ٠٠٩٦٦ ١١ ٤٦٥٢٢٥٥ :‬ﻓﺎﻛﺲ‪٠٠٩٦٦ ١١ ٤٦٥٩٩٩٣ :‬‬ ‫‪Fax: 00966 11 4659993‬‬

‫‪Tel: 00966 11 4652255‬‬

‫‪P.O. Box 51049 Riyadh 11543 Kingdom of Saudi Arabia‬‬

‫اﻟﺸﺆون اﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ‬


‫«‬ ‫ﺗﺠﻮل ﻓﻲ ﻣﻮﻗﻊ »‬ ‫ﻣﻘﺎﻻت ﻟﻨﺨﺒﺔ ﻣﻦ أﻫﻢ اﻟﻜﺘﺎب‬ ‫ﻣﻠﻔﺎت وﺗﺤﻘﻴﻘﺎت وﻗﻀﺎﻳﺎ ﻋﻦ اﻟﺮاﻫﻦ اﻟﺜﻘﺎﻓﻲ واﻟﺴﻴﺎﺳﻲ‬ ‫ﻣﻊ إﻃﻼﻟﺔ ﻋﻠﻰ اﻹﺑﺪاع ﻓﻲ ﻣﺨﺘﻠﻒ اﻟﻔﻨﻮن‬

‫‪@alfaisalmag‬‬ ‫‪alfaisalmag‬‬ ‫‪alfaisalmag‬‬ ‫ﻣﺠﻠﺔ اﻟﻔﻴﺼﻞ‬

‫‪alfaisalmag.com‬‬

‫‪editorial@alfaisalmag.com‬‬

‫‪+966 11 4647851 :¢ùcÉa +966 11 4653027 :∞JÉg ájOƒ©°ùdG á«Hô©dG áµ∏ªŸG 11411 ¢VÉjôdG 3 Ü ¢U‬‬


‫يصدرها‬

‫أسسها عام ‪1397‬هـ‪1977/‬م‬

‫األمير خالد الفيصل‬

‫العددان‬

‫‪492-491‬‬

‫كتاب الفيصل ‪18‬‬

‫العلمانية والدين ‪41 14‬‬

‫الملف‬

‫حسـن حنفــي‬ ‫أسسها في القرآن الكريم‬ ‫العلمانية ُ‬ ‫وجذورها في التراث القديم‬

‫‪2‬‬

‫جلبير األشقر‬ ‫العلمانية شرط الحداثة وال تق ُّدم بدونها‬ ‫محمد بن علي المحمود‬ ‫الدين والعلمانية‪ ..‬المعنى وفضاء التأويل‬ ‫سامية بن عكوش‬ ‫اإلسالمي‬ ‫وضد الدين‬ ‫العلمانية‪ ..‬مع‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫موسى برهومة‬ ‫هل العالم العربي قادر على جعل‬ ‫«العلمانية هي الحل»؟‬ ‫قادري أحمد حيدر‬ ‫العلمانية في مقابل غياب خطاب نقد االستبداد‬ ‫محمد شوقي الزين‬ ‫الدين والرؤيةالعلمانية للعالم‬ ‫في ضوء النماذج التنظيمية الكبرى‬ ‫الحمامي‬ ‫نادر‬ ‫ّ‬ ‫العلمانية وخصومها‬ ‫تعبر عن وجهة نظر كتَّابها‪ ،‬وال تم ِّثل رأي مجلة الفيصل‪.‬‬ ‫اآلراء المنشورة ّ‬ ‫تكفل المجلة حرية التعليق على موضوعاتها المنشورة شريطة االلتزام بالموضوعية‪.‬‬ ‫تحتفظ المجلة بحقوق ملكيتها للمواد المنشورة فيها‪ ،‬ويتطلب إعادة نشر أي مادة‬ ‫ورقيا الحصول على موافقة المجلة مع اإلشارة إلى المصدر‪.‬‬ ‫إلكترونيا أو‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ترسل المواد إلى بريد المجلة اإللكتروني‪editorial@alfaisalmag.com :‬‬

‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬

‫ردمد‬ ‫‪٠٢٥٨ - ١١٤٠‬‬ ‫رقم اإليداع‬ ‫مكتبة الملك فهد الوطنية ‪14/0542‬‬


‫رئيس التحرير‬

‫الناشر‬

‫رئيس مجلس اإلدارة‬

‫األمير تركي الفيصل‬

‫الثقافية‬

‫دار‬

‫‪editorinchief@alfaisalmag.com‬‬

‫فضاءات‬

‫ثقافات‬

‫الخريطة الروائية للمدينة العربية‬

‫وتحوالته‬ ‫«ربيع الغرب»‬ ‫ّ‬ ‫(أحمد فرحات)‬

‫‪116‬‬

‫ليس للعرب وحدهم «ربيعهم» الدامي شبه المتمادي اليوم‪ ،‬بل‬ ‫للغرب المتقدم ً‬ ‫أيضا‪ .‬غير أن «ربيع الغرب» وإن ترجم نفسه في‬ ‫وسخطا واعتقالاً‬ ‫ً‬ ‫الساحات والميادين على نحو أقل ً‬ ‫عنفا ودمً ا‬ ‫تعسفيًّا ومدى زمانيًّا ومكانيًّا‪ ،‬إالّ أنّ ثقافة هذا «الربيع» رَسَ خت‬ ‫ّ‬ ‫مفكري هذا الغرب وأدبائه وشعرائه وف ّنانيه‪،‬‬ ‫أكثر في ذاكرة‬ ‫وبخاصة في الواليات المتحدة األميركية وبعض الدول األوربية‪،‬‬ ‫ممن تأثر في البداية «بالثورات العربية»‪.‬‬

‫‪152‬‬

‫العجيلي)‬ ‫(شهال ُ‬

‫التركي أورهان باموق‪ ،‬عن عالقته بالمدينة‬ ‫الروائي‬ ‫يقول‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫التي ولد فيها وعاش‪ ،‬وكتب عنها‪ ،‬وذلك في كتابه‬ ‫الذي حمل اسمها‪« :‬إسطنبول‪ -‬الذكريات والمدينة»‪:‬‬ ‫«كانت إسطنبول دائمً ا بالنسبة لي‪ ،‬مدينة الخراب‬ ‫وسوداويّة نهاية اإلمبراطوريّة‪ .‬وقد قضيت حياتي أحارب‬ ‫هذه السوداويّة أو أجعلها مثل أهل إسطنبول جميعً ا‪،‬‬ ‫سوداويّتي»‪.‬‬

‫فنون‬

‫قضايا‬

‫مجامع اللغة العربية‪ ..‬تعيش في غربة‬

‫بسيطا‬ ‫منال الضويان‪ :‬أستعمل رمزًا‬ ‫ً‬ ‫للتعبير عن قضية كبيرة‬

‫ماجد الحجيالن‬

‫(الفيصل ‪ -‬خاص)‬

‫‪174‬‬

‫ترى الفنانة السعودية منال الضويان الفن ً‬ ‫نوعا من الحوار‬ ‫المتطور‪ ،‬وتؤكد في حوار لـ«الفيصل» أن القول بالحضور الواضح‬ ‫للفنانة السعودية «مُ َسيَّس»‪ .‬وتشدد على الحاجة إلى نقد الذات‬ ‫سعيًا للتطور‪ .‬الضويان في تجربتها المتنوعة تستعمل الرمز‬ ‫البسيط من أجل التعبير عن قضية كبيرة‪ ،‬بدأت مشوارها الفني‬ ‫من خالل التصوير الفوتوغرافي‪ ،‬ثم طوَّرت هذا الفن إلى ما‬ ‫يعرف بفن الـ ‪ installation‬وصممت أفكارًا فنية ثالثية األبعاد‬ ‫ّ‬ ‫تحتل مساحات تعبر عن الفكرة بأشكال متعددة‪.‬‬ ‫كبيرة الحجم‬

‫‪68‬‬

‫على هامش العصر (الفيصل خاص)‬

‫هل من حضور اليوم فاعل وفعلي لمجامع اللغة في الوطن‬ ‫العربي؟ سؤال تستدرجه القطيعة بين هذه الكيانات المعنية‬ ‫بحراسة اللغة‪ ،‬والواقع الذي يتجدد في كل لحظة‪ ،‬القطيعة‬ ‫التي يستشعرها على نحو واضح‪ ،‬المثقف والمختص والرجل‬ ‫العادي؟ فعلى كثرة انتشار مجامع اللغة في الوطن العربي‪،‬‬ ‫بدءً ا من مجمع دمشق‪ ،‬ومجمع القاهرة‪ ،‬مرورًا بالمجمع‬ ‫العلمي العراقي‪ ،‬والمجمع األردني‪ ،‬والمجمع التونسي‪،‬‬ ‫والمجمع السوداني‪ ،‬وأخي ًرا مجمع اللغة بالشارقة‪.‬‬

‫‪3‬‬


‫بورتريه‬

‫سينما‬

‫مِ ركل‪..‬من «فتاة كول» إلى «قائدة العالم الحر»‬

‫جديد كريستوفر نوالن «دنكرك»‪..‬‬

‫‪170‬‬

‫(زياد عبدالله)‬

‫ال حاجة لكريستوفر نوالن في جديده «دنكرك»‪ ،‬الذي بدأ عرضه‬ ‫في الصاالت األميركية من شهر تقريبًا‪ ،‬إلى أجهزة معقدة تجعل‬ ‫الحلم موازيًا للواقع ومسرحً ا للصراعات كما في «استهالل»‬ ‫‪2010 Inception‬م‪ ،‬وال إلى خيال علمي وثقب أسود ليتسرب‬ ‫منه أحد خارج الزمان والمكان كما فعل في «بين النجوم»‬ ‫‪2014 Interstellar‬م‪.‬‬

‫كتب‬

‫‪130‬‬

‫‪64‬‬

‫(سمير جريس)‬

‫حكت مركل للصحافيين أنها اعتادت الذهاب إلى «السوبرماركت»‬ ‫بنفسها‪ ،‬وشراء ما تحتاج إليه‪ .‬لكن ذلك أصبح صعبًا بعد أن‬ ‫َّ‬ ‫تولت منصب المستشارية‪ .‬فما تكاد تدخل محلاًّ حتى يلتف‬ ‫العاملون حولها‪« .‬لم يكن يحدث هذا من قبل»‪ ،‬تقول مركل‬ ‫بنبرة جافة‪ .‬ثم تسمع في المحل السؤال التقليدي‪« :‬عن أي‬ ‫شيء تبحثين؟»‪..‬‬

‫‪141‬‬

‫‪4‬‬

‫‪44‬‬

‫مقاالت‬

‫حاتم الص َكر‬

‫في غياب الموهبة‪:‬‬ ‫مصنع لتفريخ األدباء!‬

‫‪78‬‬

‫محمد علي اليوسفي‬ ‫هل نعيش ًّ‬ ‫حقا أزمة في الشعر‬ ‫وازدهارا للرواية؟‬ ‫ً‬

‫‪126‬‬

‫زكي الميالد‬

‫لم يعد ألوربا ما تقدمه‬ ‫للعرب‪..‬‬

‫‪156‬‬

‫شايع الوقيان‬ ‫صورة المرأة في‬ ‫عصر النهضة‬

‫‪168‬‬

‫سعيد يقطين‬

‫ثقافة المصلحة‬ ‫وضرورات المصالحة‬

‫‪184‬‬

‫فيصل دراج‬

‫هل للنقد األدبي العربي‬ ‫الحديث ذاكرة؟‬

‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬

‫‪80‬‬


‫نصوص‬

‫‪91‬‬

‫نبيل سبيع‬ ‫في عيادة طبيب األحوال‬ ‫مي عاشور‬ ‫عصفور الزيبرا‬

‫‪42‬‬

‫عاشور الطويبي‬ ‫صامتة كعتبات‬ ‫حجرية منهكة‬ ‫ّ‬

‫‪100‬‬

‫‪62‬‬

‫أحمد الخميسي‬ ‫اسم في الليل‬

‫‪142‬‬

‫عائشة البصري‬ ‫حين تتوقف ساعة العقل‬

‫‪67‬‬

‫سلمان الجربوع‬ ‫ظل النظرات المتعبة‬ ‫ُّ‬

‫‪158‬‬

‫عبدالله السفر‬ ‫يا طفلي نصوص‬

‫‪88‬‬

‫عمر الككلي‬ ‫طيران‬

‫‪179‬‬

‫فاطمة عبدالحميد‬ ‫ابتهال‬

‫سوسيولوجيا الخطاب الشعري (آمال موسى)‪................‬‬ ‫المرجعية الشعرية عند خالد جمعة (يوسف القدرة)‪........‬‬ ‫حوار مع جالل أمين (محمد جازم)‪.........................................‬‬ ‫الفيلسوف والعالِم (توني سيمبسون)‪.............................‬‬ ‫المسرح العربي في مأزق (الفيصل خاص)‪.........................‬‬ ‫ألف ليلة وليلة أو صوت شهرزاد (بيترو تشيتاتي)‪............‬‬ ‫سعاد الحكيم تستعيد الصوفية (خالد محمد عبده)‪.........‬‬ ‫مخطوطات ‪..............................................................................‬‬ ‫التسامح في النزاع (راينر فورست)‪.......................................‬‬ ‫كنزابورو أوي (أرنو فولران)‪...................................................‬‬ ‫لِيلي بريك‪( ..‬عماد أبو صالح)‪.................................................‬‬ ‫جالل الدين الرومي األميركي (محمد الحجيري)‪................‬‬ ‫السيلفي (هند السليمان)‪.....................................................‬‬ ‫الوقف في وسائل اإلعالم‪( ..‬حبيب الشمري)‪....................‬‬ ‫هاني شنودة (الفيصل خاص)‪................................................‬‬

‫ينال إسحق‬ ‫التنفيذ‬

‫‪46‬‬ ‫‪52‬‬ ‫‪58‬‬ ‫‪80‬‬ ‫‪92‬‬ ‫‪94‬‬ ‫‪102‬‬ ‫‪106‬‬ ‫‪110‬‬ ‫‪112‬‬ ‫‪122‬‬ ‫‪144‬‬ ‫‪148‬‬ ‫‪160‬‬ ‫‪164‬‬ ‫‪180‬‬

‫االشتراك السنوي‪ 100 :‬ريال �سعودي للأفراد‪ 250 ،‬اً‬ ‫ريال �سعود ًّيا للم�ؤ�س�سات‪� ،‬أو ما‬ ‫يعادلهما بالدوالر ا ألمـريكي خارج اململكة العربية ال�سعودية‪.‬‬ ‫السعر اإلفرادي‪ :‬ال�سعــودي ــة ‪ 10‬رياالت‪ ،‬الإمارات ‪ 10‬دراهم‪ ،‬قطر ‪ 10‬رياالت‪ ،‬البحرين‬ ‫دينار واحد‪ ،‬الأردن ديناران ‪ ،‬م�صر ‪ 10‬جنيهات‪ ،‬املغرب ‪ 10‬دراهم‪ ،‬لبنان ‪ 5000‬لرية‪.‬‬ ‫الموزعون‪ :‬م�صر‪ ،‬م�ؤ�س�سة توزيع الأهرام‪ ،‬القاهرة �شارع اجلالء‪ ،‬هاتف‪ ،27703195 :‬فاك�س‪:‬‬ ‫‪ ،27704293‬قطـر‪ ،‬دار ال�شرق للطباعة والن�شر والتوزيع‪� ،‬ص‪.‬ب ‪ ،3488‬هاتف ‪،44557810‬‬ ‫فاك�س‪ ،44557819 :‬الأردن‪� ،‬شركة وكالة التوزيع الأردنية‪� ،‬ص‪.‬ب ‪ ،3371‬هاتف‪،65358855 :‬‬ ‫فاك�س‪ ،65337733 :‬الإمارات العربية املتحدة‪� ،‬أبو ظبي املتحدة للطباعة والن�شر والتوزيع ‪،‬‬ ‫�ص‪.‬ب ‪ ،39955‬هاتف‪ ،25010967 :‬املغرب‪ ،‬ال�شركة ال�شريفية لتوزيع ال�صحف‪� ،‬ص‪.‬ب ‪،13683‬‬ ‫هاتف‪ ،2400223 :‬فاك�س‪ ،2246249 :‬لبنان‪ ،‬بريوت‪� ،‬شركة �شرق الأو�سط لتوزيع املطبوعات‪،‬‬ ‫�ص ‪.‬ب ‪ ،11-6400‬هاتف‪ ،009611697310 :‬فاك�س‪009611697320 :‬‬ ‫التوزيع داخل المملكة‬

‫ال�شركة الوطنية املوحدة للتوزيع‬ ‫هاتف‪ )011( 4871414 :‬فاك�س‪)011( 4871460 :‬‬

‫أحمد زين‬ ‫اإلخراج‬

‫في هذا العدد‬ ‫هل كان بورخيس يعيد كتابة فرويد؟ (حسن المودن)‪......‬‬

‫مدير التحرير‬

‫رياض دفدوف‬ ‫مبارك علي‬ ‫الموقع اإللكتروني‬

‫معتز عبدالماجد‬ ‫التدقيق والمراجعة اللغوية‬

‫عبدالله الدوسري‬ ‫محمد نصير سيد‬ ‫االشتراكات والتوزيع‬

‫جعفر عبدالرحمن‬ ‫‪ -)+966(11٤٦٥٢٢٥٥‬تحويلة‪6640 :‬‬ ‫‪subscriptions@alfaisalmag.com‬‬

‫مراسالت التحرير‬ ‫‪editorial@alfaisalmag.com‬‬ ‫مراسالت اإلدارة‬ ‫ص‪.‬ب (‪ )3‬الرياض ‪11411‬‬ ‫المملكة العربية السعودية‬ ‫هاتف المجلة ‪)+966( 11٤٦٥3027:‬‬ ‫فاكس‪)+966( 11٤٦٤٧٨٥١ :‬‬ ‫‪contact@alfaisalmag.com‬‬ ‫اإلعالنات‬ ‫هاتف‪)+966( 11٤٦٤٧٨٥١ :‬‬ ‫‪advertising@alfaisalmag.com‬‬

‫‪5‬‬


‫المركز‬

‫السرحان‪ :‬مبادرة السالم العربية هي الحل‬ ‫في الصراع مع إسرائيل‬

‫سعود السرحان (الثاني من اليمين) في الجلسة النقاشية‬

‫‪6‬‬

‫أكد الدكتور سعود السرحان األمين العام لمركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية أن الصراع العربي‪ -‬اإلسرائيلي‬

‫يعد من أهم المشكالت الرئيسة التي تواجهها منطقة الشرق األوسط‪ ،‬مشي ًرا إلى أنه لن يكون هناك سالم كامل في المنطقة‬ ‫من دون التوصل لحل شامل لهذا الصراع يتمثل في مبادرة السالم العربية في الشرق األوسط التي ُطرحت عام ‪2002‬م في القمة‬

‫العربية في بيروت‪ ،‬ونالت تأييدً ا عربيًّا‪ ،‬وتهدف إلى إنشاء دولة فلسطينية ذات سيادة على األراضي الفلسطينية ومعترف بها‬ ‫دوليًّا على حدود ‪1967‬م‪ ،‬وعودة الالجئين واالنسحاب من هضبة الجوالن المحتلة‪ ،‬مقابل اعتراف وتطبيع العالقات بين الدول‬ ‫العربية وإسرائيل‪.‬‬

‫وتطرق السرحان‪ ،‬خالل مشاركته في جلسة نقاشية حول صنع السالم في الشرق األوسط ضمن فعاليات الدورة‬

‫السادسة من منتدى السالم العالمي التي نظمتها أواخر يونيو الماضي جامعة تسينغهوا الصينية ومعهد الشعب الصيني‬ ‫للشؤون الخارجية‪ ،‬إلى مشكالت رئيسة مهمة تواجهها منطقة الشرق األوسط‪ ،‬يتمثل أُ اَ‬ ‫ولها في الصراع العربي‪ -‬اإلسرائيلي‪،‬‬

‫مشددًا على أن الوقت قد حان إليجاد حل لهذه المشكلة التي طال أمَ دها‪ .‬ولفت السرحان إلى مرور نحو ‪ 15‬عامً ا على طرح‬ ‫هذه المبادرة الشاملة والعادلة من دون ِّ‬ ‫تلقي أي رد عليها من إسرائيل‪ ،‬سواء بالقبول أو الرفض‪ ،‬محمِّ لاً المجتمع الدولي‬

‫مسؤولية ممارسة مزيد من الضغوط على إسرائيل لحملها على الجلوس إلى الطاولة لمناقشة المبادرة؛ ألنها تمثل أفضل‬ ‫سبيل إلى حل هذا الصراع الطويل‪ .‬وأضاف السرحان في الحلقة التي انطلقت بعنوان‪« :‬مواجهة تحديات األمن العالمي‪ :‬تكاتف‬

‫الجهود‪ ،‬تحمل المسؤولية‪ ،‬تحقيق اإلصالح»‪ ،‬أن المشكلة الثانية التي تواجهها منطقة الشرق األوسط تتمثل في ضعف‬ ‫الدولة القومية وفي الوقت نفسه وجود كثير من الالعبين الذين يقومون بأداء أدوار مختلفة يفترض من الدولة القومية القيام‬

‫بها‪ ،‬وهم أطراف مختلفة مثل الحوثيين في اليمن‪ ،‬والميليشيات في العراق‪ ،‬مشي ًرا إلى أن هؤالء الالعبين يملكون جناحً ا‬ ‫عسكريًّا وأحزابًا سياسية في البرلمان‪ ،‬ولهذا فإنه من األهمية بمكان تدعيم دور الدول القومية في المنطقة وتقويته؛ ألن ذلك‬

‫من شأنه وقف كثير من الصراعات الحاصلة اآلن‪ .‬وضمت الجلسة النقاشية السيد وو سي كه المبعوث الصيني الخاص السابق‬

‫لمنطقة الشرق األوسط ونائب رئيس جمعية الصداقة الصينية العربية‪ ،‬وباسكال بونيفاس مدير المعهد الفرنسي للعالقات‬ ‫الدولية واإلستراتيجية‪ ،‬وكورتونوف أندري مدير عام المجلس الروسي للشؤون الدولية‪.‬‬

‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬


‫اتفاقية تعاون مع جامعة كينغز لندن‬ ‫وقع مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات‬

‫اإلسالمية مؤخ ًرا اتفاقية تعاون مع جامعة كينغز‬ ‫لندن في بريطانيا إلطالق مشروع بحثي مشترك‪،‬‬

‫يهدف إلى دراسة الجهات المؤثرة غير الحكومية‬

‫على المستوى السياسي في العالم العربي‪،‬‬ ‫جماعات وتنظيمات ما دون الدولة (‪non-state‬‬

‫‪ّ .)actors‬‬ ‫وقع االتفاقية من جانب المركز األمين‬

‫العام الدكتور سعود السرحان ومن جانب الجامعة‬ ‫عميد كلية دراسات الدفاع في الجامعة وين باوين‪،‬‬ ‫وحضر التوقيع عدد من مسؤولي الجامعة من‬

‫بينهم الدكتور بيتر نيومان مدير المعهد الدولي لدراسات التطرف ونائب مدير المعهد الدكتور شيراز ماهر‪ .‬وتضمنت‬

‫االتفاقية قيام الجانبين بعمل بحوث ودراسات مشتركة تركز على القضايا السياسية في منطقة الشرق األوسط والعالم‬

‫العربي‪ ،‬إضافة إلى إقامة عدد من األنشطة الفكرية مثل الندوات وورش العمل‪ ،‬وكذلك تبادل الخبرات والباحثين بين‬

‫الجهتين‪ .‬وتأتي هذه االتفاقية ضمن جهود المركز في التعاون مع مؤسسات البحث العلمي المرموقة في مختلف دول‬

‫العالم؛ إذ إن للمركز دورًا مهمًّ ا في تحليل قضايا الفكر السياسي والتطرف‪ ،‬فهو ينجز البحوث والدراسات والتقارير‬

‫والتحليالت المتخصصة التي تسهم في زيادة الوعي والفكر المجتمعي بمثل هذه القضايا‪.‬‬

‫منحة بحثية من جامعة هارفارد‬ ‫حصل المركز مؤخ ًرا على منحة بحثية من جامعة هارفارد‪،‬‬

‫مقدمة من كلية جون كينيدي الحكومية‪ ،‬عبارة عن تمويل‬ ‫مشروع بحثي في مجال االقتصاد بقيادة الباحث الرئيس في‬

‫مجال االقتصاد السياسي في وحدة البحوث بالمركز الدكتور‬

‫فهد الشريف‪ .‬وقد اختير مقترح البحث األساسي بعنوان‪« :‬تنمية‬

‫المهارات وخلق فرص للعمل في المملكة العربية السعودية‪:‬‬ ‫تقييم برنامج خادم الحرمين الشريفين لالبتعاث الخارجي‬

‫في ضوء برنامج التحول الوطني السعودي»‪ ،‬من بين عشرات‬

‫العناوين المقدمة من الجامعات ومراكز البحوث حول العالم‪ .‬وتأتي المنحة البحثية ضمن برنامج «أدلة تصميم السياسات» في‬ ‫جامعة هارفارد‪ ،‬الذي يهدف إلى تصميم السياسات التي تساعد الحكومات على االستفادة من الموارد المتاحة‪ ،‬وتنمية سوق‬ ‫العمل‪ ،‬وتحديد المشاكل‪ ،‬وبناء السياسات الفعّ الة القائمة على األدلة‪.‬‬

‫وأعربت لجنة المراجعة في جامعة هارفارد عن إعجابها بمقترح البحث المقدم من المركز‪ ،‬وال سيما أهميته المتعلقة‬

‫بالسياسة العامة‪ ،‬وإمكانية إيجاد رؤى ذات أهمية بشأن آثار البرامج الدراسية في الخارج على نتائج سوق العمل‪ .‬وذكر الدكتور‬ ‫فهد الشريف أن البحث سوف يقدم تحليلاً لمخرجات برنامج االبتعاث وتقييمً ا لسياسات سوق العمل‪ ،‬من أجل بناء سياسات‬

‫فاعلة تساهم في االستفادة من البرامج الدراسية وتنويع االقتصاد والحدّ من آثار البرامج غير الفاعلة‪.‬‬

‫‪7‬‬


‫المركز‬

‫المركز يحذر من استخدام العمالت اإللكترونية‬ ‫في تمويل اإلرهاب‬ ‫حذرت دراسة جديدة من خطورة استخدام العملة‬

‫اإللكترونية «بيتكوين»‪ ،‬في ظل لجوء التنظيمات المتطرفة‬ ‫إلى استخدامها‪ ،‬إضافة إلى جماعات الجريمة المنظمة‪،‬‬ ‫وعمليات غسيل األموال‪ ،‬مبينة أن التنظيمات اإلرهابية توظف‬

‫الـ«بيتكوين» لديها‪ ،‬وتستخدمها في التمويالت المحظورة‪،‬‬ ‫وشراء األسلحة والمعدات‪ ،‬في حين هناك جهود دولية كبيرة‬

‫لتجفيف منابع اإلرهاب‪.‬‬

‫وكشفت الدراسة التي نشرها المركز حول عملة «بيتكوين»‪،‬‬

‫ودورها في تمويل الحركات اإلرهابية للباحث حسن محمد‪ ،‬أن‬

‫هناك توجهًا من التنظيمات المتطرفة نحو توظيف تلك العمالت‬

‫واالستفادة من ميزاتها المتنوعة والكبيرة؛ إذ تلجأ إلى «بيتكوين»‬

‫في حال عدم كفاية الموارد التقليدية كوسيلة للتمويل والتخفي‬ ‫ً‬ ‫وأيضا مع التقدم التكنولوجي للجماعات‬ ‫عن أعين السلطات‪،‬‬ ‫اإلرهابية‪ ،‬وكذلك استمرار عدم خضوع الـ«بيتكوين» لسلطة‬

‫‪8‬‬

‫مركزية أو أي قيود‪.‬‬

‫وحدة منها حتى اآلن‪ ،‬ومن المنتظر الوصول لإلصدار الكامل‬ ‫عام ‪ 2025‬إلى ‪2030‬م؛ إذ يُن َتج ‪ 25‬عملة «بيتكوين» حول العالم كل‬ ‫‪ 10‬دقائق‪ ،‬تتقلص هذه الكمية إلى النصف كل أربع سنوات‪ ،‬فيما‬ ‫سيجري إنتاج آخر «بيتكوين» عام ‪2140‬م‪.‬‬

‫وأوضحت الدراسة التي صدرت ضمن دورية (تعليقات)‬

‫وأشارت الدراسة إلى أن من أهم مميزات الـ«بيتكوين» التي‬

‫بناء وهيكلة الجماعات والتنظيمات المتطرفة‪ ،‬وأنه قد ظهرت‬

‫المالية حول العالم‪ ،‬سهولة إخفاء المستخدمين‪ ،‬واتساع‬

‫التي يصدرها المركز‪ ،‬أن التمويل يمثل أحد األعمدة الرئيسة في‬ ‫عمالت إلكترونية افتراضية ال يوجد لها رصيد فيزيائي أو وجود‬

‫مادي ملموس‪ ،‬وانتشرت بين مختلف دول العالم‪ ،‬وقبلت بها‬ ‫ً‬ ‫وسيلة للدفع والشراء‪ ،‬واتسع نطاق االستخدام‬ ‫شركات كبرى‬ ‫واالنتشار السريع لعمالت افتراضية‪ ،‬وظهرت مؤشرات مهمة‬

‫على استخدام الجماعات اإلرهابية تلك العمالت‪ ،‬وخطورة‬ ‫التوظيف السيئ للـ«بيتكوين» بوصفها أبرز العمالت االفتراضية‬ ‫وأكثرها انتشارًا‪.‬‬

‫تعد إحدى صور العمالت االفتراضية الناجحة في المعامالت‬

‫النطاق‪ ،‬والسرعة الفائقة في نقل األموال‪ ،‬والتحكم وحماية‬ ‫الهوية واألموال‪ ،‬وانخفاض تكلفة االستخدام وسهولته مع‬

‫صعوبة التعقب‪ ،‬والتحصين األمني‪ .‬وتعد ألمانيا الدولة‬

‫الوحيدة التي اعترفت رسميًّا بالـ«بيتكوين» ً‬ ‫نوعا من النقود‬ ‫اإللكترونية‪ ،‬وعربيًّا ُتس َتخدم الـ«بيتكوين» بشكل طفيف‪ ،‬فيما‬ ‫تدرس بعض البنوك العالمية استخدامها‪.‬‬

‫وتبرز أهمية الدراسة في كونها تطرقت إلى مجال خفي‬

‫وبيَّنت الدراسة أن الـ«بيتكوين» عملة إلكترونية بشكل كامل‬

‫في تمويل العنف وجماعاته المتعددة‪ ،‬وتناولت مدى إمكانية‬

‫جهة إصدار‪ ،‬وال تخضع لرقابة‪ ،‬وال يمكن تعقبها‪ ،‬وهي سريعة‬

‫لمواجهة تلك الظاهرة‪ ،‬والحد من آثارها السلبية‪ ،‬ودعت‬

‫ُتتداول عبر اإلنترنت فقط‪ ،‬وال تخضع لهيئة تنظيمية مركزية أو‬

‫توظيف جماعات العنف لهذه العمالت‪ ،‬ووضعت التوصيات‬

‫التداول‪ ،‬ويمكن الحصول عليها عبر شبكة اإلنترنت باستخدام‬

‫لضرورة إيجاد عدد من الضوابط التي تحافظ على الميزات‬

‫وإصدارها عبر عملية تعدين الـ«بيتكوين»‪ ،‬ويحتاج المستخدم‬

‫إضافة إلى تحديد هويات المتعاملين والمتداولين لتلك العملة‪.‬‬

‫برامج مجانية تجري عمليات حسابية معقدة وموثقة‪،‬‬ ‫فيها إلى حل مجموعة من الخطوات الرياضية والمتسلسلة‬ ‫«الخوارزمات» باستخدام أسماء مستعارة‪ .‬وال يمكن أن تصل‬ ‫القيمة الكلية لعمالت الـ«بيتكوين» التي طرحت للتداول ألول‬

‫مرة عام ‪2009‬م بهدف تغيير االقتصاد العالمي‪ ،‬والموجودة في‬

‫السوق ألكثر من ‪ 21‬مليون بيتكوين‪ ،‬وجرى إنتاج ‪ 14‬مليون‬ ‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬

‫النسبية للعمالت االفتراضية‪ ،‬وتضمن قدرًا من األمن والسالمة‪،‬‬ ‫وتقتصر الدراسة على الجماعات والتنظيمات التي تنتهج‬

‫العنف؛ مثل‪ :‬القاعدة‪ ،‬وتنظيم داعش‪ ،‬والفرق والجماعات‬ ‫التابعة لهما والمنضوية تحت لوائهما‪ُ ،‬‬ ‫وتلقي الضوء على مدى‬ ‫إدراك تلك التنظيمات أو بعضها ألهمية العمالت االفتراضية‬

‫الجديدة عامة‪ ،‬وعملة «بيتكوين» خاصة‪.‬‬


‫كاريكاتير‬


‫فعاليات‬

‫«الفيصل‪ ..‬شاهد وشهيد»‬ ‫يشهد محطة جديدة في كازاخستان‬ ‫محطة ثانية شهدها معرض «الفيصل‪..‬‬

‫شاهد وشهيد» في كازاخستان؛ إذ انتقل‬ ‫اً‬ ‫إقبال‬ ‫المعرض من أستانا إلى آلماتي بعد أن لقي‬ ‫ّ‬ ‫ودشن‬ ‫واسعً ا على محتوياته من الجمهور هناك‪.‬‬

‫المعرض في محطته الثانية بالمتحف المركزي‬

‫الحكومي بحضور رئيس مجلس إدارة المركز‬ ‫األمير تركي الفيصل ووزير الثقافة والرياضة في‬ ‫كازاخستان أريستانبك محمد أولي‪ ،‬إضافة إلى‬

‫السفير السعودي في كازاخستان الدكتور ظاهر‬ ‫العنزي وأرمان كيريكباييف أورازبايفتش نائب‬

‫حاكم مدينة آلماتي‪ ،‬وعالم جان وكيل إدارة‬ ‫الثقافة بحاكمية آلماتي‪ ،‬ولفيف من المسؤولين‬

‫‪10‬‬

‫واألكاديميين والمثقفين في كازاخستان‪.‬‬

‫وقدم األمير تركي الفيصل الشكر لدولة‬

‫كازاخستان وحكومتها على استضافة معرض‬ ‫الفيصل‪ ،‬كما شكر سفارة كازاخستان في الرياض‬

‫على اهتمامها باستضافة المعرض ومتابعة‬ ‫ترتيباته‪ ،‬وكذلك سكرتيرة دولة كازاخستان ووزير‬ ‫الثقافة والرياضة على رعايته المعرض وتشريفه‬

‫ً‬ ‫أيضا الشكر‬ ‫حفل االفتتاح‪ ،‬ووجّ ه الفيصل‬

‫والتقدير للشعب الكازاخي على حفاوة االستقبال‬

‫واالهتمام بزيارة المعرض‪ ،‬مثمِّ ًنا العالقة األخوية‬

‫التي تجمع فخامة الرئيس الكازاخي نور سلطان‬

‫نزارباييف وملوك المملكة وقياداتها السياسية ورؤيتهم‬

‫الذي ينظمه المركز على مدار شهر‪ ،‬وهو يرصد جوانب وصورًا‬

‫بداية انطالق معرض «الفيصل‪ ..‬شاهد وشهيد» في أولى‬

‫سبيل نهضة بالده‪.‬‬

‫المشتركة نحو تطلعهم للمستقبل وللتطور‪ .‬وعدّ الفيصل‬ ‫محطاته خارج المملكة من أستانا بمنزلة تقدير لما يجمع بين‬

‫الشعب الكازاخي والشعب السعودي ليس فقط على المستوى‬

‫الدبلوماسي أو التجاري إنما للروابط التاريخية والثقافية التي‬ ‫تجمع الشعبين‪ ،‬موضحً ا أن استمرار إقامة المعرض ونقله‬ ‫إلى مدينة آلماتي دليل على نجاح المعرض بالعاصمة وتفاعل‬

‫الشعب الكازاخي معه بصورة كبيرة‪ .‬وتستمر فعاليات المعرض‬ ‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬

‫مختلفة من حياة الملك فيصل وقصة كفاحه ومواقفه في‬ ‫وتأتي إقامة هذا المعرض ونقله إلى مدينة آلماتي‬

‫الكازاخية بعد اإلقبال الكبير عليه في المتحف الوطني بمدينة‬

‫أستانا العاصمة‪ ،‬وبناء على طلب من وزارة الثقافة والرياضة‬ ‫بكازاخستان؛ إذ كان المعرض بأستانا أول معرض عربي يقام‬ ‫ً‬ ‫وأيضا في بلدان رابطة الدول المستقلة عن‬ ‫في كازاخستان‪،‬‬

‫ً‬ ‫سابقا‪.‬‬ ‫االتحاد السوفييتي‬


‫المركز يشارك في مؤتمر الجمعية الوطنية البريطانية‬ ‫لدراسات الشرق األوسط في جامعة أدنبرة‬ ‫شارك المركز في المؤتمر السنوي الذي‬

‫تعقده الجمعية الوطنية البريطانية لدراسات‬

‫الشرق األوسط (‪ ،)BRISMES‬في جامعة‬ ‫أدنبرة‪ ،‬أسكوتلندا‪ ،‬وجاء المؤتمر هذا العام‬

‫تحت عنوان‪« :‬الحركة والهجرة في الشرق‬ ‫األوسط‪ :‬الناس واألفكار في تغير مستمر»‪.‬‬

‫وحظيت مشاركة المركز بحلقة نقاش‬

‫كاملة بعنوان‪« :‬الهجرة في الشرق األوسط‪:‬‬

‫وجهات نظر من المملكة العربية السعودية»‪،‬‬

‫تحدث فيها وأدارها باحثون من المركز‪ ،‬وهم‪:‬‬ ‫الباحث في مجال العالقات الدولية الدكتور‬

‫جوزيف كشيشيان‪ ،‬والباحث في االقتصاد‬ ‫السياسي الدكتور فهد الشريف‪ ،‬والباحثان في‬

‫الفكر السياسي المعاصر فيصل أبو الحسن‪،‬‬ ‫وسمية فطاني‪.‬‬

‫حيث تحدث الدكتور جوزيف كشيشيان عن الالجئين السوريين في السعودية‪ ،‬مشيرًا إلى أن المملكة استقبلت‬

‫مليوني سوري ونصف المليون تقريبًا منذ مطلع عام ‪2011‬م‪ ،‬من دون وصف أي منهم «بالالجئين»‪ .‬وقامت الرياض‬

‫بتحويلهم إلى «مقيمين قانونيين»‪ ،‬وهو وضع يسمح لهم بالتحرك في السعودية أو السفر إلى وجهات أخرى كما‬ ‫يرغبون‪ ،‬حيث تتوافر لهم الرعاية الطبية والتعليم المجانيان‪ ،‬وأكد كشيشيان أن استقبال الالجئين السوريين في‬ ‫السعودية جعل من اللجوء اندماجً ا وتكاملاً بدلاً من االحتجاز والعزلة‪.‬‬

‫في حين قدم الدكتور فهد الشريف ورقة عمل عن المهاجرين األفارقة‪ ،‬وهي دراسة حالة ل ِتسع جاليات هاجرت من‬ ‫بلدان إفريقية مختلفة‪ ،‬إذ قدم الباحث تحليلاً للمهاجرين والمجتمعات التي يعيشون فيها‪ ،‬وأسباب هجرتهم وحياتهم‪.‬‬

‫وتستكشف ورقة فيصل أبو الحسن الهجرة من فرنسا إلى السعودية‪ ،‬مع التركيز على فهم العالقات االجتماعية‬ ‫واالقتصادية‪ .‬وتقدم تحليلاً لعدد من المواقع التي تقدم المساعدة والتشجيع للمسلمين الفرنسيين من الرجال‬

‫والنساء بخصوص الهجرة إلى السعودية‪ ،‬إضافة إلى مقابلة بعض هؤالء المهاجرين‪ ،‬ومحاولة فهم طبيعة هذا النوع‬ ‫من الهجرة‪.‬‬

‫وتأتي هذه المشاركة للباحثين ضمن جهود المركز في التعاون مع المؤسسات العلمية واألكاديمية في مختلف‬

‫ً‬ ‫وتأكيدا للجهود األكاديمية التي يبذلها المركز في مختلف المجاالت البحثية‪.‬‬ ‫دول العالم‪،‬‬

‫وتأسست الجمعية البريطانية لدراسات الشرق األوسط في عام ‪1973‬م؛ لتشجيع دراسات الشرق األوسط بالمملكة‬

‫المتحدة وتعزيزها ودعمها‪ .‬وهي منبر يجمع المعلمين والباحثين والطلبة والدبلوماسيين والصحافيين وغيرهم ممن‬

‫يتعاملون مهنيًّا مع الشرق األوسط‪ ،‬والعضوية مفتوحة للجميع من جميع البلدان‪ ،‬وتعقد الجمعية مؤتمرًا سنويًّا‬

‫في المجال المعرفي حول دراسات الشرق األوسط‪ ،‬وتستضيفه بدورها إحدى الجامعات البريطانية التي تضم قسمً ا‬

‫لدراسات الشرق األوسط‪ ،‬وتصدر الجمعية عد ًدا من المنشورات األكاديمية البحثية أهمها المجلة البريطانية لدراسات‬ ‫الشرق األوسط‪.‬‬

‫‪11‬‬


‫مقال‬

‫ماجد الحجيالن‬ ‫رئيس التحرير‬

‫السياسة بين الخاصة والعامة‬

‫‪12‬‬

‫ينسب إلى اإليرلندي الساخر برنارد شو قوله‪:‬‬ ‫«أي رجل ال يكون شيوعيًّا في العشرين فهو أحمق‪،‬‬ ‫ً‬ ‫حمقا»‬ ‫فإن استمر شيوعيًّا بعد الثالثين فهو أكثر‬ ‫وتعود هذه المقولة الشهيرة إلى النصف األول‬ ‫من القرن العشرين حين سرت األفكار الشيوعية‬ ‫في أوربا مسرى الهشيم‪ ،‬وهي ً‬ ‫أيضا ال تبتعد من‬ ‫انشغاالت شو نفسه أيام شبابه‪ ،‬وهو الذي عاش‬ ‫عم ًرا مديدً ا حتى تجاوز التسعين‪ ،‬ما أتاح له فرصة‬ ‫التأمل في األفكار وطبائع البشر والعقائد السياسية‬ ‫ومآالتها‪ ،‬إنها فرصة ال تتاح لكثير من المفكرين‬ ‫والفالسفة‪ ،‬فحين تقرأ في ِسيَر عظماء التاريخ‬ ‫تفاجأ بأن بعضهم لم يعمّ ر أكثر من أربعين عامً ا‪،‬‬ ‫ولك أن تتأمل ماذا كان سيقول لو امتدّ به العمر‬ ‫عقدين أو ثالثة؟‬ ‫وماذا لو أننا م ّررنا هذه المقولة على أيامنا‬ ‫هذه لنفحص األفكار السياسية السائدة في عالمنا‬ ‫العربي واإلسالمي؟ سنجد أن عقائد اإلسالم‬ ‫السياسي بصيغها المختلفة من المغرب العربي‬ ‫إلى أفغانستان هي األكثر رواجً ا وشعبية‪ ،‬وليس‬ ‫ّ‬ ‫أدل على ذلك من مآالت ما عرفناه بالربيع العربي‪،‬‬ ‫سواء عبر صناديق االنتخاب أو عبر صراع الجماعات‬ ‫المتناحرة والخطاب الديني السائد في النزاعات‬ ‫العربية‪ .‬هكذا نكتشف لو ُقدّ ر لنا أن نراجع المشهد‬ ‫بعد عقود أن أفكارًا محددة أتيح لها لظروف‬ ‫تاريخية ما أن تتسيّد المشهد‪ ،‬وتبدو كأنها الخيار‬ ‫الناجز الوحيد أمام الجماهير وعامة الناس‪ ،‬وأن‬ ‫الخروج عليها والتفكير خارجها يبدو خيانة وانتحارًا‬ ‫صريحً ا‪ .‬وعليه‪ ،‬فلك أن تتساءل مجددًا‪ :‬ترى ما‬ ‫األفكار التي هي في طريقها لالضمحالل‪ ،‬وتلك‬ ‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬

‫التي ستنتعش في العقد القادم والعقود القريبة التي‬ ‫تتليه؟ وما الضريبة التي دُفعت في الماضي وستدفع‬ ‫في المستقبل بسبب االحتراب على أفكار سياسية آلت‬ ‫للسقوط والتالشي؟ إن المتأمل في ِسيَر جيل كامل من‬ ‫المثقفين العرب الذين ناضلوا من أجل الشيوعية في‬ ‫الخمسينيات وما بعدها حتى أنهكت السجون أعمارهم‪،‬‬ ‫وبدّ دتهم المنافي في أطراف األرض‪ ،‬ثم أعلنوا تحوّالتهم‬

‫درسا يستحق التعلم‪.‬‬ ‫الجذرية؛ سيجد فيها ً‬ ‫والفرق الذي ال تخطئه العين بين تلك األزمان‬ ‫توسع االشتغال بالسياسة‬ ‫وما نعيشه اليوم‪ ،‬هو في ّ‬ ‫وشؤونها ليضاهي فيها بسطاء الناس خاصتهم‪،‬‬ ‫واالنتشار المذهل للعقائد السياسية بين جميع طبقات‬ ‫المجتمع العربي‪ .‬فبعد أن كان الهوى السياسي‬ ‫والتح ّزب مقتص ًرا على رجال السلطة والمثقفين‬ ‫والمتعلمين؛ صار اليوم لكل فرد مهما تواضعت‬ ‫معرفته رأيه السياسي وجماعته المفضلة‪ ،‬وصار لدى‬ ‫الجميع االستعداد للقتال والموت من أجل فكرة قد ال‬ ‫يعي معتنقها بالضرورة خلفياتها وعواقبها‪.‬‬ ‫وبفضل من الثورة االتصالية ال شك صار لدينا‬ ‫مجتمعات مسيّسة بالكامل‪ ،‬وعبر وسائل اإلعالم‬ ‫التقليدية والجديدة أصبح لكل فرد منصته التي يعبر‬ ‫فيها عن رأيه بلغته وإمكاناته المعرفية‪ ،‬وهو ما أنتج‬ ‫مستوى غير مسبوق من الشقاق والتناحر والكراهية‬ ‫واألحقاد الدينية والطائفية والسياسية واالجتماعية‪،‬‬ ‫وإذا أضفت لدور التقنيات الجديدة عوامل أخرى‬ ‫تعانيها المنطقة مثل‪ :‬الغزو‪ ،‬واالحتالل‪ ،‬واالضطهاد‪،‬‬ ‫والحروب األهلية الصغيرة والكبيرة‪ ،‬واإلرهاب‪ ،‬واالنهيار‬ ‫االقتصادي‪ ،‬وتفكك الدولة؛ أضحى لكل فرد حقه‬ ‫الطبيعي في التعبير عن يومياته وانشغاالته‪ ،‬ورواية‬


‫األحداث وفق شهادته‪.‬‬ ‫ً‬ ‫غليانا‬ ‫وتعتمل كل هذه العناصر سيكولوجيًّا لتنتج‬ ‫مستم ًّرا قابلاً للتمدّ د واالنفجار في أي لحظة‪ ،‬سواء كان‬ ‫ً‬ ‫حدثا ما‪ ،‬أو مجرد حوار إعالمي أو خاص‪،‬‬ ‫باعث االنفجار‬ ‫ويعيش الواحد منا أبرز مظاهر هذا التسييس الشامل‬ ‫في مجتمعه القريب‪ ،‬سيراها عبر خالفات في المستوى‬ ‫العائلي‪ ،‬وجداالت في محيط األصدقاء‪ ،‬ونزاعات‬ ‫في بيئة العمل‪ ،‬وسيراها بوضوح في وسائل اإلعالم‬ ‫المموّلة وعبر التدوينات اإللكترونية المختلفة‪ .‬صحيح أن‬ ‫األيديولوجيا السياسية كانت دومً ا مبعث تباين وخالف‪،‬‬ ‫لكنها لم تكن أكثر انتشارًا والتزامً ا منها اليوم لدى شرائح‬ ‫لم تكن مهجوسة بما وراء مصدر الرزق وسبل المعاش‬ ‫اليومي‪.‬‬ ‫إن هذه الهواجس حول التسيُّس الشامل تحيلنا‬ ‫إلى مبحث فلسفي قديم قِدم التاريخ‪ ،‬يتعلق بمعنى‬ ‫الخاصة والعامة‪ ،‬ومن يحق له االشتغال بالسياسة أو‬ ‫وغني عن القول أن الديمقراطية الغربية‬ ‫االمتناع عنها‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫السائدة اليوم أعطت جوابها مبك ًرا‪ ،‬ومنحت كل فرد‬ ‫حقه في التعبير والتصويت والترشح واالشتغال بكل ما‬ ‫هو عام وخاص‪ ،‬وأن هذه الديمقراطية المباشرة ُترجمت‬ ‫بشكل مثير للذهول عبر ثورة االتصال‪ ،‬وأنها استخلصت‬ ‫العبر من انهيار األنظمة الشمولية والدكتاتورية التي‬ ‫ِ‬ ‫قمعت األفراد وحقوقهم بما فيها حق التعبير وحق‬ ‫العمل السياسي؛ غير أن المشكلة الفلسفية القديمة‬ ‫حول اشتغال «العامة» بشأن «الخاصة» ال تلبث أن‬ ‫تظهر بين حين وآخر في خطابات السياسيين والمثقفين‬ ‫على حد سواء‪ ،‬وبرزت غربيًّا كر ّد فعل على صعود‬ ‫الشعبوية‪ ،‬ووصول متطرفين يمينيين إلى الفوز‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫عامة‪ ،‬وهي‬ ‫الخاصة‬ ‫باالنتخابات على قاعد ٍة ممن يراهم‬ ‫برزت عربيًّا في دعوات سياسية لتقنين من يحق لهم‬ ‫االنتخاب في بعض الدول العربية خشية صعود الدعاة‬ ‫والشيوخ وزعماء الحركات اإلسالمية‪.‬‬ ‫ويعثر الباحث على بدايات هذا التمييز النوعي بين‬ ‫الخاصة والعامة في المدينة اليونانية القديمة لدى‬ ‫أرسطو‪ ،‬ثم تتجدد بمكيافيلي في كتابه (األمير) وصولاً‬ ‫إلى غوستاف لوبون في (سيكولوجية الجماهير)‪ ،‬ومن‬ ‫المفروغ منه أن أوصاف العامة تباينت من تسمية‬ ‫طبقات العبيد والرعاع وغير النبالء والدهماء والجموع‬ ‫والجمهور والشعب‪ ..‬وكلها تؤدي إلى معنى قريب من‬ ‫فكرة «العامة» المعروف عربيًّا وغايته الداللية التي كثي ًرا‬

‫هكذا نكتشف لو ُق ّدر لنا أن نراجع المشهد بعد‬ ‫أفكارا محددة أتيح لها لظروف تاريخية‬ ‫عقود أن‬ ‫ً‬ ‫تتسيد المشهد‪ ،‬وتبدو كأنها الخيار‬ ‫ما أن‬ ‫ّ‬ ‫الناجز الوحيد أمام الجماهير وعامة الناس‪،‬‬ ‫وأن الخروج عليها والتفكير خارجها يبدو خيانة‬ ‫صريحا‪.‬‬ ‫وانتحارا‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫ما تعلقت بالتحقير واالزدراء‪.‬‬ ‫ومن الجدير باالنتباه أن مفهوم «العامة»‬ ‫و«الجماهير» يكاد يكون نادرًا في النصوص العربية‬ ‫اإلسالمية المبكرة‪ ،‬حيث يؤكد الدكتور معجب العدواني‬ ‫في دراسته الثمينة (مفهوم العامة في الحضارة العربية‬ ‫اإلسالمية) أن هاتين المفردتين طارئتان على الثقافة‬ ‫العربية‪ ،‬على أنك تجد في عصور إسالمية الحقة على‬ ‫يدي الجاحظ وسواه من أدباء ومؤرخين استخدامً ا‬ ‫واسعً ا لمفردة العامة في معرض التجهيل والذمّ‬

‫والتهميش‪ ،‬وال يبتعد ابن خلدون في مقدمته من‬ ‫ّ‬ ‫يخص الحكم واألمر والسياسة بمن‬ ‫هذا التوجه حين‬ ‫أسماهم ذوي العصبية‪.‬‬ ‫ومهما يكن األمر؛ فإننا أمام حقيقة جديدة يختلط‬ ‫فيها الثقافي واالجتماعي بالسياسي‪ ،‬ويتساوى فيها‬ ‫الجاهل مع المتعلم‪ ،‬فلكل منهما صوت ولكل منهما‬ ‫حق ولكل منهما رأي‪ ،‬ولم يعد خيارًا متاحً ا أمام النخب‬ ‫أن تنفرد بتحديد توجّ هات الناس عامتهم وخاصتهم‪،‬‬ ‫وصار من المنبوذ ثقافيًّا أن تعيّن طبقات نبالء لها‬ ‫دم أزرق‪ ،‬وطبقات ُسفلى من العامة المهمشين‪ ،‬وال‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ونفاقا‪ ،‬وال بسبب ثورة‬ ‫تحفظا‬ ‫يجيء هذا االمتناع والنبذ‬ ‫المهمشين على اإلقطاعيين؛ بل ألن التجارب أكدت أن‬ ‫البشر سواسية‪ ،‬وأن تمايزهم مرتبط بمهاراتهم الفردية‪،‬‬ ‫فأستاذ جامعي تعطيه صوتك سيخيّب ظنك‪ ،‬وبائع‬ ‫خضار ازدريته قد يغير كل قناعاتك عن النخبة‪ ،‬وال يبقى‬ ‫أمام المنشغل بأمر العامة والخاصة إال الرهان على‬ ‫ما ق ّرره مفكرو السياسة الحديثة من أن الديمقراطية‬ ‫متجددة‪ ،‬وأن الحرية سرعان ما تصلح أخطاءها وتنبعث‬ ‫في فجر جديد‪.‬‬

‫‪13‬‬


‫الملف‬

‫الصراع العربي حول العلمانية‬

‫بين الدولة والدين‬ ‫تبرز في النقاشات حول الدولة العربية مفردتا «العلمانية والدين» وبقدر ما تمثالن إحدى‬ ‫الثنائيات التي طبعت المشهد الفكري والفكري السياسي عقو ًدا طويلة‪ ،‬ظل دور الدين في الدولة‬

‫قضية جوهرية لم تحسم‪ ،‬ولعل من أسباب االرتباك والضبابية في السجاالت الدينية والسياسية‬ ‫ً‬ ‫سريعا ما تنزلق لسوء فهم يتحول إلى حملة تشويه غير مسبوقة‪ ،‬لكن القضية ال تلبث أن‬ ‫أنها‬

‫تتعاظم ويزداد االهتمام بها والدفع بها إلى واجهة السجال عند كل منعطف أو مأزق تاريخي‬ ‫يعيشه العرب‪.‬‬

‫ً‬ ‫طرفا في ثنائية فكرية مكانها الكتب واألبحاث وقاعات الندوات‪ ،‬إنما صار‬ ‫لم تعد العلمانية‬ ‫ً‬ ‫عالجا ألزمات الدولة‬ ‫يقدمها عدد كبير من المفكرين بوصفها‬

‫‪14‬‬

‫ّ‬ ‫ملحة أكثر من أي وقت‬ ‫العربية‪ ،‬وحاجة مجتمعية باتت‬ ‫مضى‪ ،‬إذا ما رام العرب العيش في كنف دولة مدنية‬ ‫ً‬ ‫بعيدا من االحتراب الطائفي والعنف المذهبي‬

‫والعنصرية االجتماعية‪ ،‬على خلفية التنوع اإلثني‬

‫والديني الهائل في المنطقة العربية‪.‬‬

‫والالفت أن من المفكرين والباحثين من يرى‬

‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬


‫وجود أساسات للعلمانية في اإلسالم والتراث القديم‪ ،‬ويؤكد أن هناك «علمانيات» وليست «علمانية»‬ ‫واحدة‪ ،‬وأنه يمكن األخذ بإحداها وتكييفها مع احتياجات العربي المسلم‪ ،‬وذلك على النقيض من رؤية‬

‫مقابلة‪ ،‬لها جمهورها الواسع‪ ،‬ترى في العلمانية خطرًا وتغريبًا‪ ،‬وترى أن قسر المجتمع المتدين على‬ ‫أنظمة مدنية هو تضييع لهوية األمة‪.‬‬

‫في اللحظة الراهنة التي يميزها الدم نرى انحسارًا لكل األيديولوجيات في العالم العربي‪ ،‬في مقابل‬

‫صعود اإلسالم السياسي‪ ،‬وما يتبعه من تصاعد لدور الخطب والفتاوى في الحياة السياسية‪ ،‬وما‬

‫يرافقه من أدوار عسكرية وثورية وانتخابية ألحزاب وميليشيات يعتمد معظمها على الخطاب الديني‪،‬‬

‫فهل يستمر تديين السياسة والمجتمع في الحياة العربية؟ ما أضرار لعبة الدين والسياسة على‬ ‫مجتمعات مليئة بالطوائف واألقليات الدينية؟ هل أخفقت فعلاً كل العقائد السياسية أم أنها لم تختبر‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫تماما من‬ ‫يمينا ويسارًا قومية وليبرالية‪ ،‬وكيف اختفت‬ ‫حقا؟ أين ذهبت العقائد السياسية المختلفة‬

‫الساحة لصالح اإلسالميين؟‬

‫هل الدين هو الحل لمجتمعات ثقافتها دينية؟ وكيف ينظر المفكرون إلى هذا‬

‫الواقع الذي وصلت له الحياة السياسية والفكرية العربية بعد عقود من‬

‫التجديف في المعسكرات الشرقية والغربية‪ ،‬والرهان على المدارس‬

‫الفلسفية المستوردة؟‬

‫استفهامات كثيرة تطرحها «الفيصل» على نخبة من‬

‫المفكرين والباحثين العرب‪ ،‬في ملف يتفاعل مع أكثر‬ ‫ً‬ ‫إلحاحا في الراهن العربي‪.‬‬ ‫القضايا‬

‫‪15‬‬


‫الملف‬

‫أسسها في القرآن الكريم‬ ‫العلمانية ُ‬

‫وجذورها في التراث القديم‬

‫‪16‬‬

‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬


‫حسـن حنفــي‬

‫مفكر مصري‬

‫انتقل إلينا هذا الموضوع «الدين والعلمانية» من الثقافة الغربية بعد انتشارها في الثقافة‬

‫ثان للفكر اإلسالمي المعاصر‪ .‬فالموضوع غربي‪ .‬نشأ في سياق الثقافة الغربية‬ ‫العربية وكمصدر ٍ‬ ‫الحديثة‪ ،‬نشأة وتطورًا‪ .‬فقد تسلطت الكنيسة على الفكر الغربي‪ .‬واضطهدت المفكرين األحرار منذ‬

‫مارتن لوثر وحركة اإلصالح الديني في القرن الخامس عشر حتى إسبينوزا وفولتير في القرنين السابع‬ ‫عشر والثامن عشر‪ .‬وكان الدين كما تعرضه الكنيسة دي ًنا عقائد ًّيا‪ .‬يصعب فهمه بالعقل الصريح‬ ‫الذي اعتمد عليه الغرب في بداية عصوره الحديثة منذ ديكارت في القرن السابع عشر‪.‬‬ ‫فماذا يعنى التثليث والتجسد‪ ،‬وابن الله‪ ،‬وأم اإلله؟ وهل‬

‫العالم ‪ Mundus‬وليس االتجاه إىل خارج العالم يف الغيبيات‬ ‫واألساطري والخرافات التي ّ‬ ‫مثلتها املسيحية واليهودية يف العصور‬

‫سلطة الكنيسة واملعبد وهما مؤسستان تاريخيتان من صنع البشر‬

‫فيه العلمانية يف صراعها ضد الدين‪ .‬ثم أسقط املتغربون‪ ،‬أنصار‬

‫يجوز صلب األنبياء يف التوراة واإلنجيل؟ وماذا تعني الطقوس‬ ‫الكنسية السبعة من أول طقس العماد حتى طقس الزواج؟ وملاذا‬

‫بحثا عن السلطة الدينية يف مقابل السلطة السياسية‪ ،‬سلطة‬ ‫األباطرة وامللوك‪ ،‬وكالهما يتسلط عىل رقاب الناس‪ ،‬ويتحكم‬

‫يف عقولهم‪ ،‬ويدخل يف قلوبهم لتحديد من املؤمن ومن الكافر‬ ‫وكأنهما قد ّ‬ ‫شقا قلوب الناس؟ وهي معصومة من الخطأ‪ .‬وهو‬

‫الوسطى الكنسية‪ .‬هذا هو السياق التاريخي الغربي الذي نشأت‬

‫الثقافة الغربية‪ ،‬هذا السياق عىل التاريخ اإلسالمي وقرؤوه من‬

‫منظور السياق الغربي‪ .‬فأخفقوا مرتني‪ :‬األوىل‪ ،‬إخراج املوضوع‬ ‫من سياقه الغربي‪ .‬والثانية‪ ،‬إسقاط السياق الغربي عىل السياق‬

‫اإلسالمي املختلف تمامً ا عن السياق الغربي‪.‬‬

‫الدين الغيبي األسطوري‪ ،‬دين الخطيئة والخالص‪ ،‬وحصار‬

‫عب عن ذلك القرآن‬ ‫أما اإلسالم فإنه منذ البداية وكما رّ‬

‫لم يسع إليه‪ ،‬واإليمان باملسيح أو بشعب الله املختار‪ .‬فاليهود هم‬

‫عب عنه القرآن صراحة يف مئات‬ ‫ضد الخرافة والجهل‪ .‬وهو ما رّ‬ ‫من اآليات مثل‪﴿ :‬أَفَلاَ َتعْ ِق ُلونَ ﴾‪ .‬وهو ما ظهر يف الرتاث اإلسالمي‬

‫اإلنسان العاقل الحر بني ذنب لم يرتكبه؛ خطيئة آدم‪ ،‬وخالص‬

‫أبناء الله وأحباؤه‪ ،‬والعودة إىل أرض امليعاد‪.‬‬

‫حركة املفكرين األحرار‬

‫فكان من الطبيعي أن تنشأ حركة املفكرين األحرار يف كل‬

‫مكان يف فرنسا وأملانيا وإنجلرتا وإيطاليا وإسبانيا وهولندا وأمريكا‬

‫ً‬ ‫دفاعا عن العقل والربهان وعن مركزية اإلنسان يف الكون‪ .‬فنشأ‬

‫الصراع بني الدين والعلمانية‪ .‬وتعني العلمانية‪ ،‬االتجاه نحو‬

‫لما كان اإلسالم آخر األديان فقد احتوى‬ ‫كل القيم العلمانية فيه‪ :‬العقل‪،‬‬ ‫والعلم‪ ،‬وحقوق اإلنسان‪ ،‬وديمقراطية‬ ‫الحكم‪ .‬المصلحة مصدر للتشريع طبقً ا‬ ‫لمبدأ «ال ضرر وال ضرار»‪« ،‬وما رآه‬ ‫المسلمون حس ًنا فهو عند الله حسن»‪.‬‬ ‫والكافر العادل خير عند الله من المسلم‬ ‫الظالم‪ .‬واإلنسان بعمله‪ .‬هكذا نادى‬ ‫الفقهاء القدماء والمصلحون المحدثون‬

‫الكريم مرات عدة فإنه دين العقل الذي دافعت عنه العلمانية‬

‫وبخاصة عند املعتزلة وبعض الفقهاء يف صيغة العقل أساس‬ ‫النقل‪ .‬ومن قدح يف العقل فقد قدح يف النقل‪ .‬وهو ما ظهر ً‬ ‫أيضا‬ ‫عند الفقهاء‪ ،‬وبخاصة عند ابن تيمية يف «موافقة صريح املنقول‬

‫لصريح املعقول»‪ ،‬ووضع مبادئ للمنطق اإلسالمي الذي يعتمد‬ ‫عىل العقل والربهان مثل «ما ال دليل عليه يجب نفيه»‪ .‬والدليل‬

‫ً‬ ‫راسخا يف القلوب كما سأل الله‬ ‫العقيل هو الذي يجعل اإليمان‬ ‫تعاىل إبراهيم عليه السالم‪﴿ :‬أَو َ​َلمْ ُت ْؤمِنْ َق َ‬ ‫ال َبلىَ و َ​َلكِنْ ِلي َْطم نِ َّ‬ ‫َئ‬

‫َق ْل ِبي﴾‪ .‬بل إن الفالسفة أطلقوا عىل الله اسم «العقل والعاقل‬

‫واملعقول»‪ .‬واالجتهاد وهو املصدر الرابع من مصادر التشريع يقوم‬ ‫الع ّلة من األصل قبل أن يجدها‬ ‫عىل العقل الذي يقوم باستنباط ِ‬ ‫يف الفرع‪ .‬والعقل هو مناط التكليف‪ .‬فاملجنون ال يُكلف‪.‬‬

‫واإلسالم دين العلم‪ .‬يقوم عىل النظر واملشاهدة والتجربة؛‬ ‫﴿ف ْان ُظ ُروا﴾‪﴿ ،‬أَفَلاَ‬ ‫لذلك تتكرر آيات النظر يف األرض مثل‪َ :‬‬ ‫َي ْن ُظ ُرونَ ﴾‪ .‬وملا طلب إبراهيم عليه السالم الدليل عىل قدرة الله‬ ‫أعطاه الله دليلاً تجريبيًّا وهو قطع الطري أربع قطع‪ .‬ونرث كل‬

‫قطعة يف اتجاه ثم يأتينه ويعدن طريًا بإذن الله‪ .‬وملا أراد أن يعطي‬ ‫إبراهيم عليه السالم قومه دليلاً عىل أن األصنام ليست آلهة قام‬ ‫بتكسريها‪ ،‬وعلق الفأس يف رقبة كبري األصنام‪ .‬وملا سأله قومه‬

‫‪17‬‬


‫الملف‬

‫مركز اإلنسان يف الكون‬

‫َ‬ ‫ت هَ َذا بِآ ِل َه ِت َنا يَا إِ ْبرَاهِ يمُ ‪َ .‬ق َ‬ ‫ت َفعَ ْل َ‬ ‫﴿ق ُالوا أَأَ ْن َ‬ ‫ال ب َْل َفعَ َل ُه‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫اسألوهُ مْ إِنْ َكانوا َي ْنطِ قون﴾‪ .‬يعتمد اإلسالم‬ ‫َك ِب ُ‬ ‫ريهُ مْ هَ ذا ف ْ‬

‫عىل النظر يف ظواهر الطبيعة مثل‪ :‬الشمس والقمر والنجوم‬ ‫والكواكب بل يُقسم بها‪ .‬وال يعتمد عىل املعجزات بمعنى‬ ‫ً‬ ‫ثعبانا أو إنزال مائدة‬ ‫خرق قوانني الطبيعة مثل قلب العصا‬ ‫من السماء كما طلبت بنو إسرائيل من عيىس‪ .‬فاملعجزة‬

‫عن حرية إرادته‪ ،‬وتأسيس املجتمع الديمقراطي االشرتايك الحر‪،‬‬

‫فإن هذه األهداف تنبع من اإلسالم‪ .‬فاإلنسان هو خليفة الله يف‬ ‫َ‬ ‫ْض َخل َ‬ ‫األرض ﴿ َوإِ ْذ َق َ‬ ‫ِيف ًة﴾‪﴿ ،‬يَا‬ ‫ال َرب َُّك ل ِْلمَالئ َِك ِة إِ يِّن جَ ِ‬ ‫اع ٌل فيِ األر ِ‬ ‫َ‬ ‫اك َخل َ‬ ‫دَا ُو ُد إِ َّنا جَ عَ ْل َن َ‬ ‫اس بِ ْالحَ ِّق﴾‪ .‬وقد‬ ‫ْض َفاحْ ُكمْ َبينْ َ ال َّن ِ‬ ‫ِيف ًة فيِ الأْ ر ِ‬ ‫خمسا وستني مرة يف القرآن الكريم مما يدل عىل‬ ‫ُذكر اإلنسان‬ ‫ً‬ ‫أهميته‪ .‬كما يركز القرآن عىل مجتمع املساواة والعدالة ﴿أَرَأَي َ‬ ‫ْت‬

‫َّ‬ ‫ِك َّالذِ ي َيد ُُّع ْال َيتِيمَ ‪ .‬و اَ​َل يَحُ ُّ لىَ َ‬ ‫ين‪َ .‬ف َذل َ‬ ‫ام‬ ‫الذِ ي ي َُك ِّذ ُب بِال ِّد ِ‬ ‫ض َع طعَ ِ‬ ‫َ‬ ‫المْ ِْسكِني﴾‪َ ﴿ ،‬وي ُْط ِعمُونَ َّ‬ ‫ِسكِي ًنا َو َيتِيمً ا وَأ ِسريًا﴾‪.‬‬ ‫الطعَ امَ َعلىَ حُ ِّب ِه م ْ‬

‫لإلبهار والدهشة‪.‬‬ ‫واإلسالم دين العقل والتجربة ﴿ َومَا َم َنعَ َنا أَنْ ُن ْر ِس َل‬ ‫َات إ اَّل أَنْ َك َّذ َب بهَا َ‬ ‫األو َُّلونَ ﴾‪ .‬ويعتمد املصدر الرابع‬ ‫بِالآْ ي ِ ِ‬ ‫ِ‬

‫طاو»‪ .‬وهذه هي‬ ‫ويف الحديث «ليس منا من بات شبعان وجاره ٍ‬

‫يف الفرع‪ ،‬ومعرفة علة الفرع بالتجربة‪ .‬فالخمر مسكر يف‬

‫وقد نادى الصحابي أبو ذر الغفاري بمجتمع املساواة‬

‫يف أصول الفقه عىل التعليل‪ .‬وهو وجود العلة من األصل‬ ‫األصل‪ .‬ومعرفة هذا الشراب مسكر أم ال يتم بالتجربة‪.‬‬

‫فإذا ثبتت علة السكر يف الفرع أخذت حكم األصل‪ .‬وعندما‬ ‫ادعت امرأة أن رجلاً ضاجعها بدليل وجود منيه عىل ثوبها‬ ‫فركه عيل بن أبي طالب ريض الله عنه بيديه واكتشف أنه‬

‫زالل بيض‪ .‬لذلك ازدهر العلم التجريبي يف الرتاث القديم‬

‫‪18‬‬

‫وإذا كانت العلمانية تعني مركزية اإلنسان يف الكون والدفاع‬

‫والريايض مثل‪:‬‬ ‫مثل‪ :‬الطب والصيدلة والنبات والحيوان‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الهندسة والجرب‪ ،‬واملوسيقا والفلك‪ .‬فإذا كانت العلمانية‬

‫تقوم عىل العلم كما قامت عىل العقل فإن اإلسالم كذلك‪.‬‬ ‫والعلماء ورثة األنبياء‪.‬‬

‫داللة الصيام والزكاة‪ ،‬اإلحساس باآلخر‪.‬‬

‫عندما رأى البون الشاسع بدأ يظهر بني األغنياء والفقراء‪ .‬وعند‬ ‫ً‬ ‫حفاظا عىل الحياة ﴿و َ​َل ُكمْ‬ ‫األصوليني لقد وضعت الشريعة ابتداءً‬ ‫ْالق َصاص حَ ي ٌ ُ‬ ‫َ‬ ‫َاب َلعَ َّل ُكمْ َت َّت ُقونَ ﴾٭‪َ ﴿ ،‬وإِ َذا المَْوْءُ ودَةُ‬ ‫فيِ ِ‬ ‫َاة يَا أ يِ‬ ‫ول األ ْلب ِ‬ ‫ِ‬ ‫ت‪ .‬بأيَِّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ب ُق ِت َل ْ‬ ‫ْ‬ ‫ت﴾ والحفاظ عىل العقل بالرغم من النسبة‬ ‫ن‬ ‫ذ‬ ‫سُ ِئ َل ِ‬ ‫ٍ‬ ‫العالية لألمية يف بالدنا‪ ،‬والحفاظ عىل الدين أي الحقيقة املطلقة‬

‫ضد الحقائق النسبية واألهواء البشرية واملصالح الشخصية‪،‬‬ ‫والحفاظ عىل العرض أي عىل الشرف والكرامة والحياء‪ ،‬والحفاظ‬ ‫عىل املال ضد تبديد الرثوات وبخاصة تلك التي يف باطن األرض‬

‫يف مظاهر االستهالك الذي ال يفيد‪ ،‬وليس يف بناء املستشفيات‬

‫واملدارس‪ .‬واملجتمع اإلسالمي مجتمع ديمقراطي حر‪ .‬األمر شورى‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫األم ِْر﴾‪.‬‬ ‫او ْرهُ مْ فيِ‬ ‫بني املسلمني ﴿وَأ ْم ُرهُ مْ ُشورَى َب ْي َنهُمْ ﴾‪﴿ ،‬و َ​َش ِ‬ ‫وهو مجتمع حر يقبل املعارضة والرقابة عىل الحكام ً‬ ‫طبقا ملبدأ‬ ‫األمر باملعروف والنهي عن املنكر‪ ،‬املبدأ الخامس من مبادئ‬ ‫التوحيد عند املعتزلة مثل العدل‪ ،‬واالستحقاق‪ ،‬والحسن والقبح‬

‫العقليني‪ .‬وقد قال عمر بن الخطاب ريض الله عنه من فوق املنرب‪:‬‬

‫«رحم الله من أرشدين إىل عيوبي»‪ ،‬فأجاب أحد املصلني‪« :‬والله‬ ‫لو رأينا فيك عيبًا لقومناه بسيوفنا»‪ .‬ونذكر ذلك دائمً ا واملعارضة‬

‫ضعيفة عندنا‪ ،‬يف السجون واملعتقالت أو هاربة إىل الخارج‪.‬‬

‫لذلك ملا كان اإلسالم آخر األديان فقد احتوى كل القيم‬

‫العلمانية فيه‪ :‬العقل‪ ،‬والعلم‪ ،‬وحقوق اإلنسان‪ ،‬وديمقراطية‬ ‫الحكم‪ .‬املصلحة مصدر للتشريع ً‬ ‫طبقا ملبدأ «ال ضرر وال ضرار»‪« ،‬وما‬

‫رآه املسلمون حس ًنا فهو عند الله حسن»‪ .‬والكافر العادل خري عند‬

‫الله من املسلم الظالم‪ .‬واإلنسان بعمله‪ .‬هكذا نادى الفقهاء القدماء‬ ‫واملصلحون املحدثون‪ .‬فأي إيهام بتعارض الدين والعلمانية هو نسيان‬

‫لجذور العلمانية يف الرتاث القديم وأسسها يف القرآن الكريم أو‬ ‫التبعية للثقافة الغربية وإخراجها من سياقها‪ ،‬وإسقاطها عىل سياق‬ ‫آخر ً‬ ‫طبقا لعقلية التعارض بني الصوري واملادي‪ ،‬العقيل والتجريبي‪،‬‬

‫األنا واآلخر‪ ،‬الدنيا واآلخرة‪ ،‬من دون الجمع بني الحسنيني‪.‬‬ ‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬


‫الملف‬

‫‪19‬‬

‫العلمانية شرط الحداثة‬ ‫وال تق ُّدم بدونها‬ ‫جلبير األشقر‬

‫أكاديمي وباحث لبناني‬

‫قبل الخوض في موضوع العلمانية‪ ،‬ال ّ‬ ‫بد من توضيح ما المقصود بهذا التعبير لما يكتنفه‬

‫في منطقتنا من غموض والتباس‪ ،‬إن لم يكن تشويه متعمّ د‪ .‬فالعلمانية ليست عداءً للدين كما‬

‫يحلو ألعدائها تصويرها لتأليب المؤمنين عليها‪ ،‬وليس هناك من تناقض بين اإليمان الديني وتأييد‬ ‫العلمانية بمفهومها الصحيح‪ .‬بل تقوم العلمانية بمعناها الضيّق على فصل الدين عن الدولة‪،‬‬

‫وتقوم بمعناها األوسع على تجريد رجال الدين من السلطة في الشؤون غير الدينية كافة‪.‬‬


‫الملف‬ ‫ويستند املعنيان الضيق واألوسع إىل منطق واحد‪.‬‬ ‫اً‬ ‫مثال يف تطبيق هذا املنطق (وهو‬ ‫فلو أخذنا اإلسالم‬

‫ينطبق عىل جميع األديان) النطلقنا من أن االختالف‬ ‫العظيم بني ظروفنا وعلومنا املعاصرة وبني الظروف‬ ‫والعلوم التي كانت سائدة يف الجزيرة العربية يف عصر‬

‫اإلسالم األول‪ ،‬يقتيض ممن يريد يف عصرنا تسيري جميع‬

‫الشؤون االجتماعية والعلمية باسم‬ ‫الدين يعنيان بالضرورة أن بعض‬ ‫مخو فرض ِب َدعه‬ ‫الرجال يرى نفسه‬ ‫ّ لاً‬ ‫وتفسيراته االعتباطية على المجتمع؛‬

‫األمور باسم الدين أن يُبدع‪ ،‬مهما حاول سرت إبداعه‬

‫يهدد بأسوأ العواقب‬ ‫األمر الذي‬ ‫ّ‬

‫السياسية وتقرير الشؤون االجتماعية والعلمية باسم‬

‫مجال علوم الطبيعة هي شرط بديهي لتقدّ م تلك العلوم‬

‫وراء قناع االجتهاد والتفسري‪ .‬لذا فإن ممارسة السلطة‬ ‫الدين يعنيان بالضرورة أن بعض الرجال يرى نفسه‬ ‫مخو اًّل فرض بِدَ عه وتفسرياته االعتباطية عىل املجتمع‪،‬‬ ‫األمر الذي يهدّ د بأسوأ العواقب‪ .‬وبما أن عصر النبوّة قد‬

‫انتهى وال يجوز ألحد أن يدّ عي تمثيل اإلرادة اإللهية‪ ،‬فإن‬

‫خري أشكال السلطة بالتأكيد ذلك الذي يحول من دون‬

‫‪20‬‬

‫ممارسة السلطة السياسية وتقرير‬

‫استبداد بعض األفراد باملجتمع بحجة ادّعائهم احتكار‬ ‫ّ‬ ‫ويتحقق هذا الشرط‬ ‫املعرفة الدينية‪ ،‬أو بأي حجة أخرى‪.‬‬

‫من خالل حيازة عامة الشعب عىل السيادة واستناد القرار‬ ‫السيايس إىل األغلبية الشعبية‪ ،‬أي من خالل الحكم املدين‬ ‫الديمقراطي‪ .‬وهذا ما ّ‬ ‫لخصه الشعار الشهري لثورة عام‬

‫‪1919‬م يف مصر‪« :‬الدين لله والوطن للجميع»‪.‬‬ ‫العلمانية والظالمية اإللحادية‬

‫أما مرادف العلمانية السياسية يف مجال علوم‬

‫الطبيعة فقد بات سائدً ا يف معظم البلدان‪ .‬صحيح أن ثمة‬ ‫اً‬ ‫دول أو واليات قليلة ال تزال تمنع تدريس تطوّر األجناس‬

‫بحجة تعارض هذه املقولة مع الدين‪ ،‬غري أنه لم يعد‬

‫هناك من حكم سيايس يص ّر عىل أن الشمس تدور حول‬

‫األرض بحجة أن هذا ما ّ‬ ‫نص عليه الرتاث الديني‪ .‬والحقيقة‬ ‫أن الظالمية يف مجال علوم الطبيعة لم تقتصر يف القرن‬

‫العشرين عىل تلك التي تحجّ جت بالديانات السماوية‪ ،‬بل‬ ‫شملت ً‬ ‫أيضا ظالمية إلحادية يف االتحاد السوفييتي حيث‬

‫التي يعود تأسيسها بوصفها علومً ا باملعنى الحديث إىل‬ ‫ّ‬ ‫تسلط األفكار الدينية املصدر‪.‬‬ ‫زمن تح ّررها من‬

‫واألمر نفسه ينطبق عىل العلوم االجتماعية‪ ،‬وهي‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬ ‫ملفكر عربي أسبقية يف تأسيسه عىل أسس‬ ‫حقل كان‬

‫ّ‬ ‫يحق لنا أن نفتخر بأن‬ ‫علمية باملعنى الحديث‪ .‬وإذا كان‬ ‫أسس علم‬ ‫عبدالرحمن بن محمد بن خلدون هو أول من ّ‬

‫التاريخ وعلم االجتماع الحديثني‪ ،‬علينا أن نفهم طبيعة‬ ‫ما كان سب ً‬ ‫ّاقا إليه وما أتاح له تحقيق إنجازه العظيم‪ .‬وابن‬ ‫خلدون خري مثال عىل إمكانية التوفيق بني اإليمان الديني‬

‫ّ‬ ‫يشك أحد يف‬ ‫وفصل املعرفة الوضعية عن الدين؛ إذ ال‬

‫إيمانه واعتناقه اإلسالم‪ .‬بيد أن إيمانه هذا لم يمنعه من‬

‫التح ّرر من تفسري التاريخ باإلرادة اإللهية‪ ،‬وكيف به يعزو‬ ‫إىل تلك اإلرادة ما شهده يف عصره من ّ‬ ‫تغلب للمسيحيني‬ ‫ّ‬ ‫وتغلب للمغول عىل الخالفة‬ ‫عىل املسلمني يف األندلس‪،‬‬

‫العبّاسية يف العراق مع قيام هؤالء بقيادة هوالكو باجتياح‬

‫همجي لعاصمة الخالفة بغداد‪ ،‬وبعد ذلك تع ّرض دار‬ ‫اإلسالم أسوة بأوربا وغريهما من مناطق العالم لكارثة‬ ‫الطاعون التي أودت بما يناهز ثلث مسلمي ذلك العصر‬

‫ّ‬ ‫تعرض بغداد‬ ‫(بمن فيهم والدي ابن خلدون)‪ ،‬وأخريًا‬ ‫الجتياح مغويل همجي جديد بقيادة تيمور لنك‪.‬‬

‫فكيف بمسلم صادق يقبل عقله أن يعزي إىل اإلرادة‬

‫اإللهية كل هذه الكوارث والنكبات البشعة التي لحقت‬ ‫بعامة املسلمني يف عصره؟ هو ذا س ّر بحث ابن خلدون‬

‫كانت ُتفرض يف عهد ستالني نظريات «علمية» مستوحاة‬ ‫ّ‬ ‫تشكل أيديولوجيا‬ ‫من فلسفة «ماركسية» مح ّنطة كانت‬

‫عن تفسري للتاريخ متح ّرر من التفسري الديني‪ ،‬وقد حداه‬

‫لوجود العلوم الحديثة‪ .‬بكالم آخر‪ ،‬فإن العلمانية يف‬

‫واالجتماعية (العمرانية) يف تحديد مجرى التاريخ البشري‪.‬‬ ‫ومن هذه العوامل «العصبية» التي رأى فيها عاملاً‬

‫الحكم الرسمية‪ ،‬أي ديانته «املادية»‪ .‬فإن ممارسة النقد‬ ‫ٌ‬ ‫شرط ال بدّ منه‬ ‫العقالين الذي ال يتقيّد بأي أفكار سابقة‬

‫األمر عىل اكتشاف دور العوامل الطبيعية واالقتصادية‬

‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬


‫ُّ‬ ‫تغلب‬ ‫مفس ًرا‬ ‫أساسيًّا يف تأمني صالبة القوة العسكرية‪،‬‬ ‫ِّ‬

‫الجماعات القبَلية اآلتية من البادية عىل الجماعات الحضرية‬

‫بكون عصبية األوىل أقوى من عصبية الثانية (وينسحب هذا‬ ‫التفسري نفسه عىل ّ‬ ‫تغلب املغول عىل الحضارة العبّاسية)‪.‬‬ ‫وبينما رأى ابن خلدون يف الدين عصبية تتميّز بنطاقها‬

‫األوسع بكثري من نطاق العصبية القبَلية‪ ،‬عصبية قادرة عىل‬

‫صهر قبائل كثرية ومختلفة يف بوتقة قوة قتالية واحدة‪،‬‬ ‫لم يفته أن شتى األديان لعبت مثل هذا الدور الذي لم يكن‬

‫حك ًرا لإلسالم أو حتى لديانات أهل الكتاب‪ ،‬وقد لحظ ذلك‬ ‫يف مقدمته الشهرية‪.‬‬

‫العلمنة وتحرر الدين‬

‫يف أوربا‪ ،‬استكمل الفكر العلمي الحديث سيادته يف‬

‫مختلف املجاالت‪ ،‬سواء أكان يف علوم الطبيعة أم يف العلوم‬

‫االجتماعية‪ ،‬بالرتافق مع ما أسمي بعصر التنوير الذي قام‬ ‫عىل التح ّرر من سلطة الدين وتغليب العقل عىل اإليمان‬

‫خالد فياض‬

‫تقدّ مت الثورة العلمية لدى األوربيني بدءً ا من عصر النهضة‬

‫العظمى قد فرض هيمنته عىل املؤسسة الدينية (الكنيسة)‬

‫يف املجال السيايس كما يف مجال املعرفة الوضعية‪ .‬وقد‬

‫لديهم‪ ،‬أي بدءً ا من القرن السادس عشر امليالدي‪ ،‬بالتوازي‬ ‫مع النقد الديمقراطي للحكم َ‬ ‫املليك املطلق الذي كان يدّ عي‬

‫االستناد إىل ّ‬ ‫حق إلهي‪ .‬ومع أن العَ لمَ نة انتصرت عىل امتداد‬

‫وحوَّلها إىل أداة سياسية من أدوات سلطته‪.‬‬

‫ويف هذا الصدد نذكر أن جماعات تستخدم راية اإلسالم‬

‫استخدامً ا سياسيًّا كانت قد رفعت صوتها يف مصر‪ ،‬خالل‬

‫يختف الدين‬ ‫القارة األوربية ومستعمراتها االستيطانية‪ ،‬لم‬ ‫ِ‬ ‫يف تلك املناطق‪ ،‬بل استم ّر يف شكل إيمان ح ّر طوعي حلّ‬

‫باستقالل مؤسسة األزهر عن الدولة‪ .‬وقد قرأنا حينها‬

‫فحسب‪ ،‬بل إن تح ّرر املجتمع والدولة والعلوم والتعليم من‬

‫لنقابة العاملني باألوقاف وإمام وخطيب املسجد الفاريس‬

‫ّ‬ ‫محل التديّن القسري الذي كان سائدً ا من قبل‪ .‬ليس هذا‬

‫هيمنة الدين قد وجد نظريًا له يف تح ّرر الدين ذاته من هيمنة‬ ‫الدولة‪ ،‬بعد أن كان الحكم َ‬ ‫املليك يف كل دولة من دول أوربا‬

‫تحرر المجتمع والدولة والعلوم‬ ‫ّ‬

‫انتفاضة «الربيع العربي» التح ّررية يف عام ‪2011‬م‪ ،‬تطالب‬

‫أخبارًا كالتايل‪« :‬أكد الشيخ خالد فياض – األمني العام‬ ‫باألنفويش – أنه ال بد من استقالل األزهر ماليًّا وإداريًّا ليؤدي‬

‫دوره الحقيقي يف املجتمع املصري والعربي والعاملي» («أمل‬ ‫األمة»‪ 25 ،‬يونيو ‪2011‬م)‪ .‬واملفارقة أن الذين رفعوا هذا املطلب‬ ‫هم أعداء للعلمانية بالرغم من أنه‪ ،‬من حيث ال يدركون‪،‬‬

‫نظيرا‬ ‫والتعليم من هيمنة الدين وجد‬ ‫ً‬

‫جزءٌ ال يتج ّزأ من مبادئ العلمانية؛ إذ يندرج يف فصل الدين‬

‫الدولة‪ ،‬بعد أن كان الحكم الملَكي‬

‫سوى أن يثني عىل كالم الشيخ املقتبس أعاله‪ ،‬ويؤيد مطلبه‪.‬‬

‫تحرر الدين ذاته من هيمنة‬ ‫له في ّ‬

‫عن الدولة‪ .‬وال يسع أي نصري للعلمانية بمعناها الصحيح‬

‫في كل دولة من دول أوربا العظمى‬

‫أما الذين يريدون أن يجمعوا بني تحرير الدين من الدولة‬

‫وحولها إلى أداة‬ ‫الدينية (الكنيسة)‬ ‫ّ‬

‫يسيرّ ها رجال الدين حتى لو ادّعى بعضهم أنه من أنصار‬

‫قد فرض هيمنته على المؤسسة‬ ‫سياسية من أدوات سلطته‬

‫وتقييد الدولة بالدين‪ ،‬فهم يدافعون يف الحقيقة عن دولة‬ ‫الدولة املدنية‪ ،‬والحال أن ال دولة مدنية وال ديمقراطية‬ ‫حقيقيتني بال علمانية‪.‬‬

‫‪21‬‬


‫الملف‬

‫الدين والعلمانية‪..‬‬ ‫المعنى وفضاء التأويل‬

‫‪22‬‬

‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬


‫محمد بن علي المحمود‬

‫كاتب سعودي‬

‫الدين والعلمانية‪ ،‬وجدل العالقة بينهما‪ ،‬من أهم محاور التجاذبات الفكرية المعاصرة‪،‬‬ ‫وبخاصة بعد صعود األصوليات في الشرق والغرب‪ ،‬ودخولها على خط المواجهة ‪-‬صراحة أو ضم ًنا‪-‬‬ ‫مع الزمن الحداثي الذي كانت العلمانية جوهر رؤيته ومصدر تصوراته‪ ،‬بل هي ‪-‬في الغالب‪ -‬الوسيلة‬ ‫آن‪ .‬وال يعني ارتفاع وتيرة الجدل حول هذه العالقة بالتزامن مع صعود األصوليات أن صراع‬ ‫والغاية في ٍ‬ ‫الدين والعلمانية الذي احتدم في القرون الثالثة األخيرة سيعود من نقطة البداية‪ ،‬إنما يعني ‪-‬في أهم‬ ‫ما يعنيه‪ -‬أن ثمة انتفاضة دينية على النسخة السائدة من العلمانية؛ بغية تصحيحها بدرجة ما؛ ألنها‬ ‫ً‬ ‫تهميشا غير منطقي وغير واقعي‬ ‫(االنتفاضة الدينية‪ /‬عودة األصوليات) ترى في هذه النسخة إقصاء أو‬ ‫للديني؛ على الرغم من حضوره الفاعل والمؤثر‪ ،‬في السياق الفردي وفي السياق المجتمعي‪.‬‬ ‫مع هذا‪ ،‬فاملسألة أعمق وأشمل؛ إذ عىل الرغم من أن‬

‫مصطلح‪« :‬العلمانية» جديد نسبيًّا؛ فإن إشكالية الدين‬ ‫والعلمانية هي إشكالية قديمة قِدم الحضور اإلنساين يف‬

‫التاريخ‪ ،‬ذلك الحضور الذي استلزم تشكل الظاهرة الدينية‬ ‫(أي دين‪ ،‬وبأي درجة) يف املجال الدنيوي‪ ،‬الذي هو ‪-‬ابتداء‪-‬‬ ‫ّ‬ ‫وتجذر هذه اإلشكالية يف التاريخ‬ ‫التمظهر العلماين يف الواقع‪.‬‬ ‫ال يعني أنها كانت ‪-‬يف كل املراحل التاريخية‪ -‬موجودة عىل‬

‫هذا النحو الذي بدت ‪-‬وتبدو‪ -‬فيه اآلن‪ ،‬إنما املقصود أن هناك‬ ‫توجّ ًها ملعنى متجاوز للوجود املادي‪ /‬الواقعي‪ /‬الدنيوي‪ ،‬يصدر‬

‫معان أو أفكار‪ ،‬تتماس ‪-‬بالضرورة‪ ،‬وبشكل‬ ‫عنه تصورات أو‬ ‫ٍ‬ ‫أو بآخر‪ -‬مع هذا الوجود املادي‪ ،‬الذي ستؤثر هذه األفكار‬ ‫والتصورات ‪-‬أو تحاول التأثري‪ -‬فيه‪ ،‬وسيتأثر بها ال محالة؛‬

‫بصرف النظر عن درجة هذا التأثري‪.‬‬

‫تحوالت املعنى تاريخيًّا وجغرافيًّا‬

‫ال يتسع املجال هنا لبحث «ماهية الدين» من حيث‬

‫كل الذين انخرطوا في الصراع الديني‪-‬‬ ‫العلماني‪ ،‬إنما يعتقدون بـ«نوع من‬ ‫الدين» ضد «نوع من العلمانية»‪،‬‬ ‫أو العكس‪ .‬وال يمكن بحال أن يكون‬ ‫صراع «كل أنماط التدين» مع‬ ‫الصراع‬ ‫َ‬ ‫ُ‬

‫«كل أنماط التعلمن»‬

‫املاورايئ‪ .‬ويف السياق نفسه‪ ،‬كان هناك من يرى الدنيا‪ /‬الوجود‬

‫املادي مجرد محطة عابرة يف سفر طويل يتغيا «مقصدً ا نهائيًّا»‬ ‫هو أسمى وأبقى‪ ،‬ويف املقابل‪ ،‬هناك من يراها هي املقصد‬ ‫ًّ‬ ‫وهشا؛ سرعان ما‬ ‫النهايئ املشهود‪ ،‬حتى لو كانت وجودًا عاب ًرا‬

‫يضمحل ويتالىش‪.‬‬ ‫لمَ‬ ‫َ‬ ‫ال يعني وضعنا هذه الثنائيات التي ترتد إىل عا ني‬ ‫مُ َتمايزين‪ ،‬أو شبه متمايزين يف حالة َت َقابل اختاليف‪ ،‬أنها كانت‬

‫هو «دين»‪ ،‬وال بحث أصل التصور «العلماين»‪ ،‬وتحوالت‬

‫‪-‬بالضرورة‪ -‬محكومة بعالقات صراعية‪ .‬بل عىل العكس‪ ،‬كان‬

‫‪-‬كما تتجىل يف أطوارها التاريخية‪ -‬بواسطة هذه اإلشارات‬

‫سيد املوقف؛ حتى إن كان الجدل النظري ربما أخذ كل طرف‬

‫املعنى فيه تاريخيًّا وجغرافيًّا‪ .‬لكن‪ ،‬نأمل أن تتضح الصورة‬ ‫املقتضبة إىل تمظهرات الديني‪ ،‬يف مقابل الحضور املادي‪/‬‬

‫التداخل والتعاضد‪ ،‬بل تبادل األدوار يف بعض األحيان‪ ،‬هو‬ ‫من أطراف هذه الثنائية إىل مداه األقىص يف االنفصال والتمايز‪،‬‬ ‫بل التضاد واالحرتاب‪ ،‬ولو ِس ْلميًّا عىل مستوى‪ :‬فضول الكالم‪.‬‬

‫الواقعي‪ /‬الدنيوي‪ .‬فمنذ ال ِقدم كانت هناك ثنائية‪ :‬السماء‬ ‫واألرض‪ ،‬اآلخرة والدنيا‪ ،‬الله واإلنسان‪ ،‬النقل والعقل‪،‬‬

‫عمومً ا‪ ،‬وأيًّا كان األمر‪ ،‬فال بد من إيضاح أن هذا التقابل‬

‫ثنائيات حاضرة منذ فجر التاريخ‪ ،‬متقابلة منذ فجر التاريخ‪،‬‬

‫العامة لظاهرة الدين من ناحية‪ ،‬واملالمح العامة للعلمانية من‬

‫الغيب والشهادة‪ ،‬رجال الدين‪ ،‬ورجال السياسة‪...‬إلخ‪ ،‬وهذه‬ ‫حاضرة عىل مستوى التصورات النظرية‪ ،‬كما هي حاضرة عىل‬ ‫مستوى املمارسات العملية‪ ،‬فدائمً ا‪ ،‬ويف كل مكان تقريبًا‪،‬‬

‫كان هناك من ينظر إىل السماء ليتجاوز عالم األرض‪ ،‬أو من‬ ‫يرتبط باألرض‪ ،‬بالوجود الطبيعي املباشر‪ ،‬متجاهلاً الالمريئ‪/‬‬

‫يكشف عن «نسبية التمايز»؛ بقدر ما يكشف عن املالمح‬ ‫ناحية أخرى‪ .‬وبالتايل‪ ،‬يتضح أن مناقشة حالة‪« :‬التدين»‪ ،‬ال‬ ‫تنفصل ‪-‬فهمً ا‪ -‬عن مناقشة حالة‪« :‬ال َّتعَ ْلمن»‪ ،‬وأن استحضار‬ ‫أحدهما؛ يستلزم استحضار اآلخر بداهة‪ .‬وهذا ي ّ‬ ‫َدُل ‪-‬أول‬ ‫داللة‪ -‬عىل أن العلمانية بمجرد وعيها بذاتها‪ /‬بهويتها‪ ،‬فإنما‬

‫‪23‬‬


‫الملف‬

‫تمارس االعرتاف بحضور «الديني» يف الواقع‪ ،‬كما أن‬ ‫الدين بمجرد وعيه بذاته‪ /‬هويته إنما يعرتف بحضور‬

‫«العلماين» يف الواقع‪ ،‬فهو دين‪ ،‬مقابل ما ليس بدين‪،‬‬

‫أو ما ال يحكمه الدين‪ .‬فال يمكن ‪-‬والحال كذلك‪ -‬أن‬ ‫ً‬ ‫معرتفا بالطرف‬ ‫يعرتف أحدهما بنفسه؛ إال يف حال كونه‬

‫‪24‬‬

‫اآلخر‪ /‬املقابل‪.‬‬

‫لكن‪ ،‬يف هذا السياق يجب التأكيد عىل حقيقة‬

‫أن «العلمانية» وما يلحق بها من أطراف تلك الثنائية‪،‬‬

‫ليست فكرة قارّة‪ /‬مُ ستقرة؛ حتى يمكن ربطها بمعنى‬ ‫قارّ‪ /‬مُ ستقر‪ .‬وكذلك «الدين» من حيث هو دين‪ .‬واملقصود‬ ‫أن العلمانية كفكرة‪ /‬كتصور‪ /‬ك َتوجّ ه‪ ،‬ليست هي ذاتها‬

‫يف كل مراحل التاريخ‪ ،‬ويف كل فضاءات الجغرافيا‪ .‬هي‬ ‫وأيضا‪ ،‬متنوعة؛ ً‬ ‫ً‬ ‫وفقا للثقافة التي‬ ‫متطورة‪ ،‬ومتغرية‪،‬‬

‫تتموضع فيها‪ .‬حتى العلمانية يف صورتها املتأخرة (يف‬ ‫القرنني‪ )20/19 :‬ليست يف سياق واحد ينتظمها‪ ،‬كما أن‬

‫التدين» مع «كل أنماط ال َّتعلمن»؛ ليس فقط ألن تصور هذا‬ ‫الديني أو ذاك العلماين يختلف يف الدرجة‪ ،‬ويف النوع‪ ،‬وإنما‬ ‫ً‬ ‫أيضا‪ -‬لحتمية التفاعل بني نمطني من التصور‪ ،‬كل منها يريد‬‫االستيالء عىل أكرب قدر من الهيمنة املشروعة عىل الشأن العام‪.‬‬ ‫يؤكد «التوجه العلماين» بكل تنويعاته عىل مركزية العقل‬

‫اإلنساين يف تدبري املجال الدنيوي‪ .‬ويف املقابل‪ ،‬يؤكد «التوجه‬ ‫الديني» عىل دور النقل (كمرجعية ُكلية شمولية مستقلة‪ ،‬أو‬ ‫نسبية؛ باعتماد «املنقول» مصدر إلهام وتوجيه عام) يف تدبري‬ ‫املجال الدنيوي؛ عىل اعتبار أن هذا املجال ليس مجرد َف ْ‬ ‫ص ٍل يف‬ ‫مسرحية أكرب‪ ،‬ليس مجرد رقم يف معادلة أشمل‪ ،‬يؤثر فيها‪،‬‬

‫التشكل السياسي‬ ‫ومهمة إدارة الشأن العام‬ ‫إن أي تشكل سياسي مؤسساتي إنما يأخذ على نفسه‬

‫العلمانية الفرنسية‪ ،‬ليست هي ‪-‬طبق األصل‪ -‬العلمانية‬ ‫األمريكية أو الربيطانية‪ ،‬فضلاً عن العلمانية الشيوعية‬

‫مهمة إدارة الشأن العام‪ ،‬أو اإلسهام في ذلك‪ .‬وال ريب أن‬

‫ً‬ ‫موقفا موحدً ا من الدين؛ إذ‬ ‫العلمانيات ال تتخذ‬

‫حيث تجليه في ممارسات المؤسسة الدينية‪ ،‬هو جزء من‬

‫التي كانت سائدة يف االتحاد السوفييتي‪.‬‬

‫الدين‪ ،‬من حيث تجليه في الممارسات الفردية‪ ،‬أو من‬

‫بقدر اختالفها يف تصور العلمانية‪ ،‬يختلف موقفها من‬

‫هذا الشأن العام‪ .‬وال يمكن ألي فعالية سياسية أن تتجاهل‬

‫فهمه‪ /‬تصوّره‪ ،‬هو ما يحدد املوقف من العلمانية‪ ،‬أو من‬

‫وتزداد صعوبة التجاهل؛ كلما كان الدين أكثر تأثيرًا وأبلغ‬

‫الدين أو عالقتها بالدين‪ .‬كذلك طبيعة الدين‪ ،‬من حيث‬

‫الديني؛ من حيث هي مَ عنيّة بتدبير فضاء يتضمن الديني‪.‬‬

‫العلمانيات (فـ«دين ما»‪ ،‬قد يتصالح مع «علمانية ما»‪،‬‬

‫حضورًا‪ ،‬سواء من حيث عدد األتباع‪ ،‬أو من حيث نوعية‬ ‫ال ّتدين‪ .‬حتى تلك الممارسات السياسية المتعلمنة التي‬

‫بـ«نوع من الدين» ضد «نوع من العلمانية»‪ ،‬أو العكس‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫صراع «كل أنماط‬ ‫الصراع‬ ‫وال يمكن بحال أن يكون‬

‫أضراره الفضاء المدني العام‪ ،‬هي تتداخل مع الفضاء‬

‫ويخاصم أخرى يف الوقت نفسه)‪ .‬وال ريب أن كل الذين‬ ‫انخرطوا يف الصراع الديني‪ - ‬العلماين‪ ،‬إنما يعتقدون‬

‫تحاول كبح جماح السلوك الديني المتطرف الذي تطال‬

‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬


‫بقدر ما تؤثر فيه‪ .‬ومن هنا‪ ،‬ال يستطيع الديني‪ /‬النقيل تصوّر‬ ‫اً‬ ‫معزول عن تنظيم‪ /‬تدبري هذا املجال الدنيوي؛ إال بأن‬ ‫نفسه‬

‫يفصل الخالص األخروي عن كل صور املمارسات الدنيوية‪،‬‬ ‫وهذا ‪-‬يف بدهيات التصور الديني‪ -‬من ضروب املُحال‪.‬‬ ‫العقل اإلنساين منتج واقعي‬

‫ليست مشكلة االتصال‪ /‬التداخل بني هذين العاملني‪:‬‬

‫الديني والدنيوي محصورة يف تصور املتدين التقليدي عن حدود‬

‫الفاعلية الدينية‪ ،‬فـ«العقل اإلنساين» الذي يُراد له ‪-‬يف التصور‬ ‫العلماين‪ -‬االستقالل بتدبري الشأن العام‪ ،‬هو منتج واقعي‬ ‫بصورة ما‪ ،‬هو أداة محدودة بحدود العالقة بني الطبيعة‬

‫واإلنسان‪ .‬وهنا ال يجوز لنا أن ننىس أن الدين جزء من مكونات‬

‫هذا الواقع الذي يصنعه اإلنسان من خالل الطبيعة‪ ،‬أو تصنعه‬

‫الطبيعة من خالل اإلنسان‪ .‬ومن حيث هو كذلك‪ ،‬فحتمً ا‪ ،‬يف‬ ‫العقل من الديني؛ بمقدار ما فيه من الطبيعي‪ /‬املادي‪ ،‬ومن‬ ‫اإلنساين‪ /‬الفطري‪.‬‬

‫إن تصور العالقة ‪-‬يف تفاعلها‪ ،‬ويف تمايزها‪ -‬عىل هذا‬ ‫النحو النسبي‪ /‬امللتبس‪ /‬املتداخل من شأنه أن ي ّ‬ ‫ُخفف من‬ ‫حدة املوقف الديني من العلمانية التي تتغيا تحييد االختالف‬

‫الديني يف املؤسسات العمومية‪ ،‬كما من شأنه أن يخفف من‬ ‫حدة املوقف العلماين من الدين‪ .‬فحتى أولئك الذين يريدون‬

‫التخفيف من الصرامة العلمانية بجعلها محددة يف‪« :‬فصل‬ ‫الدين عن الدولة»‪ ،‬وليس «فصل الدين عن الحياة‪ /‬عن الفضاء‬ ‫العمومي»‪ ،‬ال يستطيعون تحقيق ذلك بصورة قاطعة‪ُ ،‬تنهي‬

‫يؤكد «التوجه العلماني» ‪-‬بكل‬ ‫تنويعاته‪ -‬على مركزية العقل‬ ‫اإلنساني في تدبير المجال الدنيوي‪.‬‬ ‫وفي المقابل‪ ،‬يؤكد «التوجه الديني»‬ ‫على دور النقل (كمرجعية ُكلية‬ ‫شمولية مستقلة‪ ،‬أو نسبية؛ باعتماد‬ ‫«المنقول» مصدر إلهام وتوجيه عام)‬ ‫في تدبير المجال الدنيوي‬ ‫الجدل حول املحاور التفاعلية‪ ،‬عىل الرغم من أن ما قدموه‬ ‫يُعَ دّ من أفضل ما يقال يف هذا السياق‪.‬‬

‫هل يمكن فصل الدين عن الدولة بصورة قاطعة؟ بل هل‬

‫يمكن فصل املؤسسات العمومية الدنيوية عن الدين بصورة‬ ‫قاطعة ً‬ ‫أيضا؟ نعم‪ ،‬الفصل ‪-‬من حيث املبدأ العلماين املجرد‬ ‫نظريًّا‪ -‬هدف منشود‪ .‬فاملراد تحييد املؤسسات العمومية؛ إن‬ ‫لم يكن من املمكن تحييد الدولة كلها ككيان‪ .‬لكن صعوبة هذا‬

‫الهدف ال تعني التخيل عنه‪ ،‬كما ال تعني أن تحققه ‪-‬بمستوى‬

‫ما‪ -‬ليس يف صالح املجال الديني أو الدنيوي‪ .‬صحيح أن بعض‬ ‫ّ‬ ‫محل‬ ‫التفاصيل ستبقى ‪-‬بحكم التداخل‪ /‬التفاعل بني املجالني‪-‬‬ ‫ّ‬ ‫وتوتر وشدّ وجذب ال ينتهي‪ .‬لكن كل العلمانيات تجتهد‬ ‫جدل‬

‫يف تحقيق الفصل بني الخطوط العريضة للديني والخطوط‬ ‫اً‬ ‫مجال‬ ‫العريضة للمدين‪ ،‬وتبقى التفاصيل ‪-‬وستبقى أبدً ا‪-‬‬ ‫لتجاذب الرؤى وصراع اإلرادات‪.‬‬

‫الديني الخاص؛ بحكم اضطرارها لفهم الحالة الدينية ‪-‬بكل ما يستلزمه الفهم من تواصل واشتباك‪ -‬وتوجيهها بما يكفل‬ ‫تراجع خطرها عن المجتمع ككل ‪-‬بكل ما يستلزمه التوجيه من تفاعل وتعاضد‪ -‬حتى يتحقق الحد األدنى من السالم‪ً .‬‬ ‫أيضا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تشكل سياسي بالضرورة‪ ،‬سواء َعمِ َل بالسياسة على‬ ‫تشكل ديني مؤسساتي‪ ،‬أو حتى شبه مؤسساتي هو‬ ‫في المقابل‪ ،‬أي‬

‫نحو مباشر‪ ،‬أو اكتفى بالتأثير في خيارات الناخبين‪ ،‬أو عمل كقوة ضغط على الجماهير ولو من بعيد‪ .‬الدين لم يكن ‪-‬ولن‬ ‫يكون‪ -‬خارج سياق الفاعلية السياسية؛ ألن الدين له فاعلية ‪-‬تختلف ً‬ ‫نوعا أو َكمّ ا‪ -‬في الشأن المدني العام‪ .‬حتى عندما يكون‬

‫ً‬ ‫خالصا؛ فله ‪-‬حتمً ا‪ -‬تمظهرات عامة‪ /‬غير فردية‪ُ ،‬تمليها الواجبات الدينية‪ ،‬وال يمكن تجاهلها؛ ألن للدين‬ ‫الدين روحانيًّا‬ ‫حُ كمً ا ً‬ ‫نافذا على أتباعه‪ ،‬يفعلون ‪-‬طواعية‪ ،‬وإن بإكراه ديني‪ -‬ما يمليه عليهم‪ ،‬وإال أصبحوا غير مؤمنين أو غير كاملي اإليمان‪.‬‬ ‫وفي األخير‪ ،‬نؤكد على أهم محاور التواصل الديني ‪ -‬العلماني‪ ،‬وهو أن االتجاه‪ /‬التوجه العلماني ذاته ‪-‬كحراك فكري‬

‫وعملي‪ -‬يُعيد بالضرورة تأويل الدين‪ ،‬ومن ثم صياغته‪ ،‬في الفضاء الذي يشتغل عليه‪ ،‬كما أن «التعلمن» في بيئة ما‪ ،‬ال‬

‫يستطيع االستقالل بهويته العلمانية عن الحالة الدينية السائدة‪ ،‬التي تفرض تأثيرها (ولو بردة الفعل المضادة) تبعً ا لدرجة‬

‫نفوذها‪ .‬والمحصلة من وراء كل ذلك‪ ،‬أن العلمانية من حيث هي ضرورة لتحقيق العدالة في تصورها الحديث‪ ،‬مرتبطة‬ ‫بالدين الذي تقابله‪ ،‬وتتفاعل مع مُ تعيّناته في الواقع‪ .‬وكما أن لكل مجتمع دي ًنا أو مجموعة أديان ُت ّ‬ ‫ؤطره ثقافيًّا‪ ،‬فكذلك لكل‬ ‫مجتمع علمانيته أو علمانياته الخاصة التي ُتقابل دينه‪ /‬أديانه‪ .‬ما يعني أن العلمانية ُتصنع تفاعليًّا‪ ،‬وأن «علمانية ناجزة» ال‬ ‫محل لها من اإلعراب في الزمن الليبرالي الذي يحتضن المتنوع‪ ،‬وينبذ ‪-‬في الوقت نفسه‪ -‬كل الشموليات التي تحاول إلغاء‬

‫كل األصوات لصالح الصوت الواحد الذي يدعي امتالك الحقيقة في كل مجال‪ ،‬وفي كل األحوال‪.‬‬

‫‪25‬‬


‫الملف‬

‫العلمانية‬ ‫اإلسالمي‬ ‫وضد الدين‬ ‫مع‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫سامية بن عكوش‬

‫باحثة جزائرية‬

‫لنعلنها من دون مواربة منذ البداية‪ :‬باتت العلمانية خيارًا ملحًّ ا لوضع حد للصراعات‬ ‫واإلسالمي‪ّ .‬‬ ‫وإننا بهذه المصارحة سنقف‬ ‫الطائفية والمذهبية التي يشهدها العالمان العربي‬ ‫ّ‬ ‫في مواجهة خطرة لمخاوف ومغالطات من قبيل‪ :‬من ُ‬ ‫يدع إلى تطبيق العلمانية فهو ملحد‪،‬‬

‫‪26‬‬

‫اإلسالمي‪ ،‬اإلسالم دين ودولة‪ ،‬والعلمانية إذ تفصل الدين عن‬ ‫العلمانية اعتداء على الدين‬ ‫ّ‬ ‫الدولة فهي تعتدي على حدوده‪ّ ..‬‬ ‫بعض في وجه ّ‬ ‫ٌ‬ ‫كل من يرى في‬ ‫كلها ُتهم جاهزة يقذفها‬ ‫ّ‬ ‫الحل إلخماد نيران الحروب الطائفية والدينية التي يشهدها الوطن العربي‪.‬‬ ‫العلمانية‬

‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬


‫إنّ هذه املخاوف غذتها تجربة العلمانية يف الساحة العربية‬

‫التي كانت أيديولوجية حسب برهان غليون‪ ،‬أي وقفت يف عداء‬

‫دائم للدين فتحولت إىل عقيدة ثابتة‪ ،‬أو لنقل‪ :‬تحوّلت إىل دين‬ ‫ً‬ ‫اإلسالمي األقرب إىل‬ ‫الحقا‪ .‬وملا كان التيار‬ ‫يف االتجاه املعاكس‬ ‫ّ‬ ‫عامة الناس يف املجتمعات العربية؛ فإنّ الصورة املخيفة حول‬ ‫العلمانية قد ترسّ خت يف الالوعي الجمعي‪ ،‬فأنتجت سلو ًكا ً‬ ‫نابذا‬ ‫العلماين‪ .‬إذن وضعية العلمانية يف الوطن‬ ‫ملجرد مناقشة الطرح‬ ‫ّ‬ ‫العربي هي صورة مشوّهة‪ ،‬وكليشيهات جاهزة‪ ،‬ومغالطات‬ ‫ّ‬ ‫العلماين‬ ‫الطرفني‪،‬‬ ‫كال‬ ‫من‬ ‫التفكري‬ ‫يف‬ ‫التطرف‬ ‫أنتجها‬ ‫فكرية‪،‬‬ ‫ّ‬

‫يفسر عنونة مقالنا بـ« العلمانية مع وضدّ‬ ‫واإلسالمي‪ ،‬وهو ما ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫اإلسالمي»‪ .‬فمع تدل عىل املمكن املشرتك بني العلمانية‬ ‫الدين‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫اإلسالمي‪ .‬وضدّ‬ ‫تدل عىل سلب املمكن‪ ،‬وإرساء جدار‬ ‫والدين‬ ‫ّ‬

‫اإلسالمي‪ /‬العلمانية‪.‬‬ ‫املعارضة‪ :‬الدين‬ ‫ّ‬

‫أفضل طريقة لتبديد المخاوف‪ ،‬هي‬ ‫يم‬ ‫مواجهتها‪ ،‬بأن نلقي عقولنا في ّ‬ ‫المخاوف التي ترسخت في عقول‬ ‫عموم الشعوب العربية‪ ،‬بل حتى في‬ ‫أوساط المثقفين المحسوبين على‬ ‫اإلسالمي حول تعارض العلمانية‬ ‫التيار‬ ‫ّ‬ ‫اإلسالمي‪ ،‬بل خطورة‬ ‫مع الدين‬ ‫ّ‬

‫العلمانية على اإلسالم والمسلمين‬ ‫مفاهيم حية‬

‫إنّ املفاهيم الفكرية مثلها مثل الكائنات الحية كما يقول‬

‫إنّ أفضل طريقة لتبديد املخاوف‪ ،‬هي مواجهتها‪ ،‬بأن‬

‫الفيلسوف الفرنيس جيل دولوز‪ .‬فقد ترتحل من مكان إىل آخر‪.‬‬ ‫وقد تنمو يف األماكن الجديدة التي ترتحل إليها‪ ،‬أو تموت؛ ً‬ ‫وفقا‬

‫اإلسالمي‪،‬‬ ‫اإلسالمي حول‪ :‬تعارض العلمانية مع الدين‬ ‫التيار‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫بل خطورة العلمانية عىل اإلسالم واملسلمني‪ .‬فما صحة هذه‬

‫العربي العلمانية‪ ،‬كتنظري‬ ‫بني املفاهيم التي ارتحلت إىل الفكر‬ ‫ّ‬ ‫وممارسة سياسية‪ .‬أما التنظري فنجد كثريًا من املفكرين العرب‬

‫نلقي عقولنا يف يمّ املخاوف التي ترسخت يف عقول عموم‬

‫الشعوب العربية‪ ،‬بل حتى يف أوساط املثقفني املحسوبني عىل‬

‫املخاوف؟ وإذا كانت العلمانية تنبني عىل مبدأ حرية املعتقد‬

‫األسايس؟ تعدّ‬ ‫وحرية الفرد‪ ،‬فهل اإلسالم يعارض هذا املبدأ‬ ‫ّ‬ ‫العلمانية من أهمّ املفاهيم التي أنتجتها الحداثة الغربية‬ ‫الغربي‪ .‬وتعني يف معناها املتداول فصل الدين‬ ‫وحركة التنوير‬ ‫ّ‬ ‫عن الدولة‪ .‬كما تعني ً‬ ‫أيضا عدم إجبار الدولة أو الحكومة‬

‫ديني‪ .‬فالفرد حر يف‬ ‫ديني أو غري‬ ‫أليّ أحد عىل معتقد معينّ ‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫اعتناق أيّ دين‪ .‬أما الدولة فال دين لها‪ .‬لك ّنها تحمي يف الوقت‬ ‫ديني‪ّ .‬‬ ‫نفسه حرية ّ‬ ‫حلت إذن‬ ‫فلسفي أو ال‬ ‫كل معتقد ديني أو‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫ّ‬ ‫محل صكوك الغفران الكنسية‪.‬‬ ‫التشريعات القانونية الوضعية‬

‫فأصبحت الشرعية دنيوية يف هذا الشكل الجديد من االجتماع‬ ‫البشريّ ‪ ،‬بدل الشرعية السماوية السابقة‪ .‬فانبثقت العلمانية‬ ‫الالهويت‪ .‬وقد ملّح فيورباخ إىل‬ ‫للديني أو‬ ‫أو الدنيوية كمقابل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫هذا املعنى يف قوله‪« :‬علينا أن نو ّزع الكنوز السماوية يف األرض»‪.‬‬ ‫وقد ارتبطت العلمانية وظيفيًّا بشبكة مفاهيم‪ ،‬انبثقت من‬

‫العلماين؛ أال‬ ‫شكل االجتماع الجديد للغرب‬ ‫الحدايث التنويريّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وهي‪ :‬الديمقراطية‪ ،‬واملجتمع املدين‪ ،‬واملساواة بني الجنسني‪،‬‬ ‫وتعب هذه الشبكة املفهومية‬ ‫السلمي للسلطة‪ ...‬إلخ‪.‬‬ ‫والتداول‬ ‫رّ‬ ‫ّ‬

‫عن انتقال الغرب من وضعية الدول الدينية إىل وضعية دول‬ ‫مواطنيها‪ .‬ومع أنّ الدول الغربية علمانية؛ إال ّأنها أكرث الدول‬

‫التي تنشط فيها الجمعيات الدينية يف مجال العمل الخرييّ ‪،‬‬ ‫وبخاصة املسيحية‪ .‬فالدول الغربية ال دينية داخل مؤسسات‬

‫الدولة وأجهزتها املختلفة؛ لكنها تفتح مساحات واسعة لحرية‬ ‫ممارسة الشعائر الدينية واملعتقدات‪.‬‬

‫لتوافر الشروط املوضوعية لنموها وتكاثرها أو عدم توافرها‪ .‬ومن‬

‫منذ العصر الحديث‪ ،‬كتبوا عن العلمانية‪ ،‬وعدّ وها الشكل‬

‫السيايس األنسب للدول العربية للدخول يف طور الحداثة‬ ‫ّ‬ ‫الفكرية والسياسية‪.‬‬ ‫أما عىل مستوى املمارسة السياسية‪ ،‬فقد ارتبط معظم‬

‫العلمانيني العرب بالسلطة السياسية‪ .‬ومن ثم حرصوا عىل‬

‫مصالحهم أكرث من حرصهم عىل تثقيف الشعوب العربية وزيادة‬ ‫اإلسالمي‪،‬‬ ‫وعيها والدفاع عن الحريات‪ .‬وأبان هؤالء عداوة للتيار‬ ‫ّ‬

‫وكثريًا ما يبطن موقفهم عداوة للدين‪ .‬وعىل الطرف النقيض‬

‫اإلسالمي لعقود عىل مستوى الطبقات الفقرية‬ ‫اشتغل التيار‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫اإلسالمي‬ ‫يف املجتمع العربي‪ ،‬مثلما كان األمر بالنسبة للتيار‬ ‫ّ‬

‫يف مصر الذي قدّم املساعدات الغذائية والصحية للفقراء‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫سيايس‬ ‫كحل‬ ‫الشعبي‪ .‬وقدّ م نفسه‬ ‫فاستطاع كسب التعاطف‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وإلهي يف الوقت نفسه‪ ،‬لكل أزمات مصر‪ .‬وهي اإلسرتاتيجية‬ ‫ّ‬ ‫ذاتها التي ّاتبعتها التيارات اإلسالمية يف ّ‬ ‫كل البلدان العربية‪.‬‬

‫اإلسالمي يف االنتخابات العربية بعد موجة‬ ‫والنتيجة‪ :‬فوز التيار‬ ‫ّ‬

‫العربي‪ .‬وعىل الطرف النقيض نشأت هوة كبرية‬ ‫ما يسمى الربيع‬ ‫ّ‬

‫بني العلمانيني وعامة الناس يف املجتمعات العربية‪ .‬فاألغلبية‬ ‫الساحقة من الشعوب العربية ترفض العلمانية‪ ،‬وتعدها‬ ‫ويفسر الدكتور برهان غليون‬ ‫اإلسالمي‪.‬‬ ‫اعتداءً عىل حرمة الدين‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫سبب نشوء الهوة بني العلمانيني العرب والشعوب العربية‪،‬‬

‫أنّ العلمانيني العرب لم ينشغلوا بتحديث الشعوب العربية‬ ‫السيايس؛ بل الدين ً‬ ‫أيضا‪.‬‬ ‫وتطويرها‪ .‬واكتفوا بمعاداة اإلسالم‬ ‫ّ‬ ‫وقد تحوّلت العلمانية حسبه بثبات هؤالء عىل آرائهم املتصلبة‬

‫‪27‬‬


‫الملف‬ ‫إزاء الدين‪ ،‬إىل أيديولوجيا وعقيدة ثابتة‪ .‬وقد حرص هؤالء‬

‫عىل الدفاع عن مصالحهم املرتبطة بالسلطة السياسية‪.‬‬

‫فصادروا واجب التحديث والتحرير للشعوب يف مقابل‬ ‫الحفاظ عىل امتيازاتهم ومصالحهم الفئوية‪ .‬ويصدق ما‬ ‫قاله برهان غليون عىل التيار العلماين الجزائريّ الذي رحّ ب‬

‫بتوقيف مسار االنتخابات يف تسعينيات القرن املايض بعد‬ ‫فوز الجبهة اإلسالمية لإلنقاذ‪ .‬كما يصدق ً‬ ‫أيضا عىل معظم‬ ‫العلمانيني املصريني الذين وقفوا يف ّ‬ ‫صف املطالبني بتنحية‬

‫الرئيس محمد مريس‪.‬‬

‫إنّ معظم الكليشيهات السلبية عن العلمانية‪،‬‬

‫ناجمة عن مواقف هؤالء أمام األحداث السياسية املهمة‬

‫العربي‪ .‬وإنّ هذه املمارسات ناجمة‬ ‫التي م ّر بها العالم‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫أو اًّل عن استرياد مفهوم العلمانية مجتزأ ومشوَّهً ا عما هو‬

‫عليه عند الغرب‪ .‬كما ّأنه ناجم عن تغليبهم للمصلحة‬

‫املجتمعي التوعويّ ‪ .‬فبدل أن‬ ‫الفئوية عىل حساب املشروع‬ ‫ّ‬ ‫يتبنوا مشروع حرية األديان واألفراد واملجتمعات كما هي‬

‫العلمانية يف نسختها األصلية لدى الغرب؛ فإن العلمانية‬

‫‪28‬‬

‫يف نسختها العربية املشوّهة اختزلت إىل علمانية ملحدة يف‬ ‫كثري من األحيان‪ .‬وهذا التشويه الالحق بها هو جزء من‬ ‫تشويه شامل ّ‬ ‫لكل ما نستورده من منظومات مفهومية من‬

‫الغرب‪ .‬ويحتاج األمر إىل دراسات وافية عن أشكال التشويه‬

‫أو غري املسلم‪ .‬وما تفعله داعش يف العراق وسوريا مثال لإلكراه‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬ ‫الحل‬ ‫اإلسالمي‪ .‬فما‬ ‫بعض خطأً ّأنه جوهر الدين‬ ‫الذي يعتقد‬ ‫ّ‬

‫ّ‬ ‫لكل هذه املعضالت التي أغرقت املجتمعات العربية يف النفاق‬ ‫الطائفي؟‬ ‫الديني والعنف‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫يقول املفكر محمد شحرور‪ :‬إن اإليمان مسألة غيبية‪ ،‬ال‬ ‫تستطيع الدولة ّ‬ ‫بكل أجهزتها قياسها أو إثباتها أو نقضها‪ .‬ومن‬

‫ثم يقرتح رفع رقابة أجهزة الدولة عن املسلم‪ .‬فتكون العلمانية‬ ‫حسب املفكر محمد شحرور حلاًّ لألوضاع العربية‪ .‬ويرى أنّ‬

‫األسايس لإلسالم هو تحقيق القيم اإلنسانية‪ .‬وهي قيم‬ ‫املقصد‬ ‫ّ‬

‫واالختزال التي تلحق املفاهيم التي نستوردها من الغرب‪.‬‬ ‫فهل يقودنا هذا التشويه إىل حتمية التخليّ عن‬

‫دولة علمانية تجيز شهادة الزور‪ ،‬أو السرقة‪ ،‬أو االعتداء عىل‬

‫العربي؟ إنّ التشويه الالحق بالعلمانية يف نسختها‬ ‫العالم‬ ‫ّ‬ ‫العربية‪ ،‬يجعل بناء األحكام حول عالقة العلمانية بالدين‬

‫تلتقي العلمانية املمجدة لقيم األمانة والعدالة واالحرتام املتبادل‬ ‫ّ‬ ‫اإلسالمي‬ ‫وكل األديان‪ .‬ويؤ ّكد الداعية واملفكر‬ ‫مع قيم اإلسالم‬ ‫ّ‬

‫حقيقي‪.‬‬ ‫هو‬ ‫ّ‬

‫العربي‪ ،‬وبخاصة إخماد فتيل الحرب الطائفية يف الشرق‬ ‫ّ‬ ‫األوسط؛ لك ّنه يف الوقت نفسه يعارض العلمانية امللحدة التي‬

‫العلماين بوصفه حلاًّ للحروب الدينية والطائفية يف‬ ‫الطرح‬ ‫ّ‬

‫ً‬ ‫نوعا من التشويه املضاعف‪ .‬فما هو واقع ال يعني دومً ا ما‬

‫إكراه املسلم‬

‫إنّ إكراه املسلم عىل أداء العبادات يؤدي إىل نتيجتني‪:‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫منافقا يف كثري من األحيان‪.‬‬ ‫شخصا‬ ‫أوالهما يخلق اإلكراه‬ ‫فقد يؤدي ّ‬ ‫كل الشعائر للتظاهر أمام اآلخرين‪ ،‬وإلبعاد‬

‫عليا ال تخلو منها دساتري حتى الدول العلمانية‪ :‬فال نجد حسبه‬ ‫الغري‪ .‬فهذه األفعال مح ّرمة دينيًّا وأخالقيًّا وقانونيًّا‪ .‬ومن ثم‬

‫ّ‬ ‫الحل األنسب ملعضالت العالم‬ ‫عدنان إبراهيم أنّ العلمانية هي‬

‫تتحوّل إىل فلسفة ورؤية إلحادية للوجود‪.‬‬

‫نتوصل مما سبق أنّ العلمانية يف نسختها األصلية غري‬

‫اإلسالمي كما ورد يف القرآن‬ ‫املشوّهة‪ ،‬ال تتنافى مع جوهر الدين‬ ‫ّ‬ ‫الكريم‪ّ .‬‬ ‫وأنها تتقاطع مع كثري من املبادئ اإلسالمية الواردة يف‬

‫عبء النبذ االجتماعي؛ لكن الشخص نفسه قد يسرق‬

‫القرآن الكريم‪ ،‬من حرية الفرد‪ ،‬وحرية املعتقد‪ ،‬وحرية ممارسة‬ ‫وحق الوجود ّ‬ ‫ّ‬ ‫لكل األديان واملعتقدات‪ .‬وإنّ هذا‬ ‫الشعائر الدينية‪،‬‬

‫الدينية كوسيلة ال غاية يف حدّ ذاتها‪ .‬ثانيتهما‪ :‬يخلق‬

‫العربي‪ ،‬شريطة أن تكون‬ ‫لعالج املعضالت الدينية يف العالم‬ ‫ّ‬ ‫حامية لألديان وراعية للقيم اإلنسانية‪ .‬أو لنقل‪ :‬تكون علمانية‬

‫ويكذب ويحقد وينمّ ‪ ،‬ويقذف املحصنات‪ ،‬ويهدر الوقت‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وجل فرض الشعائر‬ ‫وال يتقن العمل‪ .‬مع أن الله عز‬

‫اإلكراه ما يسمى بوصاية املسلم عىل باقي البشر‪ ،‬فما‬

‫ديني‪ ،‬يعيد إنتاجه مع اآلخر املسلم‬ ‫يمارس عليه من إكراه‬ ‫ّ‬

‫اإلنساين املشرتك يقودنا إىل عدّ العلمانية هي أنجع الحلول‬ ‫األفق‬ ‫ّ‬

‫الديني ومع القيم الدينية اإلنسانية‪.‬‬ ‫ضدّ اإلكراه‬ ‫ّ‬

‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬


‫الملف‬

‫هل العالم العربي‬ ‫قادر على جعل‬ ‫«العلمانية هي الحل»؟‬ ‫موسى برهومة‬

‫كاتب وأكاديمي أردني‬

‫يستعيد سؤال لماذا نجحت العلمانية في أوربا والعالم المتقدم‪ ،‬وأخفقت عربيًّا‪،‬‬

‫أصداءَ السؤال الذي حاول اإلجابة عنه المفكر اإلصالحي العروبي شكيب أرسالن في‬ ‫كتابه‪« :‬لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟»؛ إذ يطرح أرسالن في كتابه الذي‬

‫صدر عام ‪1939‬م مجموعة أسباب لتأخر المسلمين تتمثل في «الجهل‪ ،‬والعلم الناقص‪،‬‬ ‫وفساد األخالق‪ ،‬والجُ بن‪ ،‬ونسيان ماضيهم المجيد»‪ ،‬وكذلك «اليأس والقنوط من التقدم‬

‫والنهوض واالنتصار»‪.‬‬

‫‪29‬‬


‫الملف‬ ‫ويتطرق أرسالن امللقب بـ«أمري البيان» إىل عدم تعارض‬

‫البوذية مع نهضة اليابان‪ ،‬وعدم تناقض املسيحية مع‬ ‫تطور أوربا‪ ،‬الف ًتا إىل أنّ املعضلة ليست يف األديان‪ ،‬إنما‬ ‫يف «عقول الناس» مؤكدًا قدرة اإلسالم عىل إنشاء «مدنيّة‬ ‫متطورة»‪ .‬وما بني سؤال أرسالن‪ ،‬الذي سبقه مفكرون‬

‫كثريون إىل معاينة أسباب تقهقر املسلمني‪ ،‬وبني اللحظة‬ ‫الراهنة امللتبسة التي اشتجر فيها الدين مع السياسة‬

‫فتفجّ رت التناقضات حتى تحولت إىل حروب مذهبية‪،‬‬

‫ثمة أسئلة ال تزال تنهض ولو من تحت رماد الحرائق‪ :‬هل‬

‫هناك أفق لنهضة عربية إسالمية بشروط مدنيّة تحرتم‬ ‫العقل‪ ،‬وتنهض عىل تأسيساته‪ ،‬وتعمل ً‬ ‫وفقا لرهاناته؟‬ ‫ٌ‬ ‫سؤال آخر‪ :‬هل العقل العربي مهيّأ الستقبال‬ ‫ويستتبع ذلك‬ ‫ّ‬ ‫التفكري العقالين واحتضانه‪ ،‬أم أنه‪ ،‬وحسب‪ ،‬عقل «بياين»‬

‫و«عرفاين» بتعبري محمد عابد الجابري‪ ،‬وبالتايل غري قادر‬ ‫عىل إنتاج املعرفة العقالنية‪ ،‬كما يفعل العقل «الربهاين»‪،‬‬ ‫الذي يعمل يف ضوء الديناميات الثقافية والفكرية‪ ،‬ويستمد‬

‫معرفته من االستدالل االستنتاجي‪ ،‬وعالم املعرفة الفلسفية‬

‫‪30‬‬

‫العلمية‪ ،‬حيث التعويل عىل طرائق التفكري‪ ،‬وليس عىل‬

‫التفكري نفسه؟‬

‫ويُفيض هذا التشخيص آلليات عمل العقل العربي‬

‫متعسفة‪،‬‬ ‫إىل مجموعة من االستنتاجات التي قد تبدو‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫للوهلة األوىل؛ ألنّ العقل ال يعرتف‪ ،‬بالضرورة‪ ،‬بشروط‬

‫الجغرافيا‪ ،‬وال يمتثل إلكراهات العوامل الجينية‪ .‬هذا عىل‬ ‫ً‬ ‫متوافقا مع شروط التحليل‪ ،‬لكن‬ ‫املستوى املنطقي يبدو‬ ‫يتعني عدم إغفال ما يقرتحه علم االجتماع الذي يرى أنّ‬

‫العملية املعرفية تنشأ بالتعلم ال بالوراثة‪ ،‬إذ إنّ للثقافة‬

‫لعل الدرب إلى توطين العلمانية‬ ‫في بيئة النظام السياسي‬ ‫العربي ليس مهمة مستحيلة‪،‬‬ ‫لكنها تحتاج إلى تضحيات كبيرة‪،‬‬ ‫متقدم‬ ‫وإلى فهم سياسي‬ ‫ّ‬ ‫لدى السلطات العربية يقضي‬ ‫بتقديم «تنازالت» لمصلحة سريان‬ ‫أفكار العلمانية وشق الدروب‬ ‫والقنوات لسيالنها من دون أية‬ ‫عوائق‬

‫جانبني أحدهما مضمر؛ وهو املعتقدات والقيم والعادات التي‬ ‫ّ‬ ‫تشكل املضمون الجوهري للثقافة‪ ،‬واآلخر هو األشياء والرموز‬

‫تجسد ذلك املضمون‪ .‬وبصفتنا أعضاء يف‬ ‫وأشكال التقانة التي‬ ‫ّ‬

‫مجمع الثقافة العربية اإلسالمية‪ ،‬ننهل من معينه‪ ،‬فإنّ ممارسة‬ ‫االختالف يف التفكري ال تحظى بـ«مباركة» من السلطات السياسية‬ ‫والدينية واالجتماعية‪ ،‬ما أنتج يف العموم جملة من اليقينيات التي‬

‫تواطأ فيها العقل الجمعي مع تلك السلطات من أجل «التوافق»‬ ‫عىل رواية عامة ملختلف التصوّرات واألسئلة املتصلة بالحكم وإدارة‬ ‫الدولة واالقتصاد وحركية األفراد‪ ،‬وكذلك ما له صلة بامليتافيزيقا‬

‫من حيث محاولة االقرتاب من فكرة اإلله وديناميات عمله‪.‬‬ ‫كائنات دينية‬

‫العلمانية انبثقت كخالص يف لحظة انسداد اآلفاق‪ ،‬ويف‬

‫غمرة هيمنة التصوّرات الدينية املتطرفة التي ال صلة لها باإلسالم‬

‫الحقيقي‪ ،‬التي غمرت األرجاء‪ ،‬وحوّلت الناس إىل «كائنات دينية»‪،‬‬ ‫يف ظل تواطؤات مع السلطة السياسية التي منحت هيئة الفتوى صفة‬

‫«املقدّس» فأغلقت باب التفكري النقدي‪ .‬االنسداد وصل اآلن إىل ذروته‪،‬‬ ‫وتضاءل األمل بعد أن غمرت األفكار السلفية املتطرفة كل يشء‪،‬‬

‫وبعد أن أدركت السلطات السياسية العربية أنّ التصورات الدينية‬ ‫التي اعتمدتها بصفتها ملجأً‬ ‫ً‬ ‫ومالذا قد ورّطتها يف أزمات ال حصر لها‪،‬‬ ‫وأضحت أحد أكرب مصادر التهديد لكياناتها‪ ،‬وصار االنفكاك من تلك‬

‫الهيمنة املستشرية هو املشتهى‪ ،‬ولكن كيف‪ ،‬وبأية أدوات؟‬

‫هل نذهب مع املتحمسني‪ ،‬ونقول‪ :‬إنّ «العلمانية هي الحل»‬

‫بعد سقوط خطاب الجماعات الدينية التي أفرزت الحلول الجهادية‬ ‫وقدمت املسلمني بوصفهم غزاة جددًا للحضارة والتمدن وللعلم‬

‫والحداثة؟ وإذا كانت «العلمانية هي الحل» فأية علمانية ستكون‪،‬‬ ‫وكيف يمكن «تبْيئة» خطابها يف تربة األرض العربية التي لطاملا‬ ‫جاهرت بالعداء لها‪ ،‬وقلبت لها ظهر املجنّ ؟ ينبغي اإلقرار بأنّ‬

‫العلمانية لم تخترب عربيًّا يف أيّ من األقطار املمتدة من املاء إىل‬

‫الصحراء‪ .‬جرى اختبارها يف بلدان إسالمية (تركيا‪ ،‬وإندونيسيا‪،‬‬

‫وماليزيا) وشهدت نجاحات الفتة‪ ،‬وكانت عالمة عىل نهضة‬ ‫سياسية واقتصادية‪ ،‬ولم ُترق أية قطرة دم يف النزاع بني الدين‬

‫والسياسة‪ ،‬وجرت املؤاخاة بينهما‪ ،‬ولم ي َ‬ ‫ُفصل األول عن فضاء‬ ‫الدولة وروحها‪ ،‬لكن جرى وضع ترسيمات لضمان عدم فيضان‬ ‫أحد الركنني عىل اآلخر‪ .‬ولعل الدرب إىل توطني العلمانية يف بيئة‬

‫النظام السيايس العربي ليس مهمة مستحيلة‪ ،‬لكنها تحتاج إىل‬ ‫تضحيات كبرية‪ ،‬وإىل فهم سيايس متقدّم لدى السلطات العربية‬

‫يقيض بتقديم «تنازالت» ملصلحة سريان أفكار العلمانية وشق‬

‫الدروب والقنوات لسيالنها من دون أية عوائق‪ ،‬إذا كانت تلك‬ ‫السلطات ترتجي التم ّدن الحقيقي والنهضة الحقيقية واالستقرار‬

‫الحقيقي واالستقالل الحقيقي واملزاحمة الحقيقية يف عالم السياسة‬ ‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬


‫واالقتصاد والرفاه االجتماعي والتقدم العلمي‪.‬‬ ‫فك االشتباك مع املقدس‬

‫ولنئ كانت التصورات القديمة تعطف العلمانية عىل اإللحاد‬

‫والكفر والزندقة‪ ،‬وتراها بمنظار السوء وتهديم املجتمعات‬ ‫وشقائها وانحاللها األخالقي‪ ،‬فإنّ ذلك يستدعي كشف هزاله‬

‫ال يتعني القبول بأن تدار الدولة املدنية بمرجعيات دينية شمولية‪،‬‬

‫بما يحولها إىل دولة «ثيوقراطية» يسيطر عليها الكهنوت‪ .‬وتحفظ‬

‫العلمانية حق األفراد يف التعبري عن آرائهم ومعتقداتهم من دون‬ ‫تهديد أو فرض وصاية‪ ،‬وهذا القانون مشتمل يف النص القرآين‪﴿ :‬الَ‬ ‫ين﴾؛ ألنّ التدخل يف معتقدات اآلخرين‪ ،‬وعدم إفساح‬ ‫إِ ْك َرا َه فيِ ال ِّد ِ‬ ‫املجال أمامهم ملمارسة الحقوق السياسية واملدنية بعيدًا من تدخل‬

‫وتهافته‪ ،‬فالعلمانية األوربية كانت محرك النهضة األول‪ ،‬وقادح‬

‫الدولة‪ ،‬يسفر عن استبداد وطغيان وانهدام الحرية‪ .‬لقد نشأت يف‬

‫استطرادًا‪ ،‬ليست كلها «علمانية صلبة» تدعو إىل تحرير الفرد‬

‫الحروب التي عصفت وال تزال ببلداننا بني املسلمني واملسيحيني‪،‬‬

‫شعلة التمدن وانفجارات العقل يف مختلف امليادين‪ .‬والعلمانية‪،‬‬ ‫من أغالل امليتافيزيقا‪ ،‬وإىل إقصاء الدين‪ ،‬ومنعه من التدخل يف‬

‫أوربا حروب طائفية ومذهبية بني الربوتستانت والكاثوليك‪ ،‬تشبه‬

‫واآلن بني السنة والشيعة‪ ،‬وكل طرف يزعم أنه يملك الحقيقة‬

‫الشؤون املدنية للدولة واألفراد‪ ،‬فثمة «علمانية مرنة» أو «علمانية‬ ‫مؤمنة» ترنو إىل ّ‬ ‫فك االشتباك مع إشكالية املقدّس‪ ،‬وترسم للدين‬

‫املطلق‪ .‬وكما تعافت أوربا من هذا الوباء بعد آالم مربّحة‪ ،‬فاختارت‬

‫ميدانه الحيوي‪ ،‬بما يضمن حياد الدولة إزاء األديان‪ .‬العلمانية‪،‬‬

‫أمام العرب واملسلمني يك يسلكوا الدرب ذاته‪ ،‬فيجربوا الوصفة‬

‫والسياسة مسارات تحول من دون التداخل‪ ،‬وتحفظ لكل حقل‬ ‫حتى تتنفس يف مجال حيوي نقي ومريح‪ ،‬ويك تنمو وتزهر‪،‬‬

‫تحتاج إىل الديمقراطية والعدالة واملساواة وضمان الحريات‬

‫العامة‪ .‬وبجوار هذه املقومات يمكن الحديث عن استقالل املؤسسة‬ ‫السياسية عن املؤسسة الدينية‪ ،‬وبالتايل إضعاف (باملعنى اإليجابي)‬ ‫هيمنة الدين عىل املجتمع‪ ،‬واإلقرار بضرورة الفصل بني السلطتني‬

‫الدينية املقدسة‪ ،‬ويريد فرضها بالقوة عىل املجتمع‪ ،‬بوصفه ممثل‬

‫الحل العلماين ومضت عقودًا وهي تشيّد بنيانه‪ ،‬فإنّ املجال مفتوح‬

‫املدنية يف الحكم وإدارة الصراع‪ ،‬وجعل الدين هاديًا للروح‪ ،‬ومنقيًا‬

‫للنفس من الدرن والفساد‪ ،‬وممارسة الشعائر املقدسة يف أماكنها‬ ‫التي يحفظها القانون‪ ،‬ويؤمّن لكل املختلفني فضاءً للتعبري من دون‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مختلفا‪.‬‬ ‫مخالفا أو‬ ‫إقصاء أو دعوات الستئصال اآلخر بوصفه‬ ‫لقد كانت الدعوات املستمرة لتمدين الدين‪ ،‬ودفعه نحو‬

‫الزمنية والروحية‪ ،‬فما كان صالحً ا قبل ألف عام ال يصلح اآلن‪،‬‬ ‫وهذا ما ّ‬ ‫سلم به النبي الكريم صىل الله عليه وسلم‪« :‬أنتم أعلم‬

‫خيار الحكم الحصري بما قالت به الشريعة‪ ،‬فإذا لم يتم التوافق‬

‫وثمة من يرى أنّ التشريعات املدنيّة تتعني أن تكون مستقاة‬ ‫ً‬ ‫افرتاضا بأنّ الشريعة‪ ،‬أية شريعة‪ ،‬تشتمل‬ ‫من الشريعة‪ ،‬ألنّ هناك‬

‫الوسطى‪ .‬ال بد‪ً ،‬‬ ‫إذا‪ ،‬من خلق ثقافة علمانية تبني سفينة النجاة من‬

‫بأمور دنياكم»‪.‬‬

‫عىل الكماالت األخالقية املطلقة‪ ،‬يف حني يرى إسبينوزا‪ ،‬عىل سبيل‬

‫املثال‪ ،‬أنّ قوانني العدل الطبيعية واإلخاء والحرية هي وحدها مصدر‬ ‫التشريع‪ .‬وقد تتوافق قوانني العدل هذه مع قوانني الشريعة‪ ،‬لكن‬

‫معركة بناء النموذج الحضاري للدولة‪ ،‬تلقى صدودًا من قبل أنصار‬

‫عىل تمدين الدين‪ ،‬والحيلولة دون طغيان النزعات املحمومة لتديني‬ ‫املدينة‪ ،‬فإن التزمّت سيبقى سائدًا‪ ،‬وسي َ‬ ‫ُحكم البشر بعقلية القرون‬

‫أمواج الجماعات اإلقصائية التي تسعى بحد السيف «املسلول» إىل‬ ‫أن تديّن املدينة‪ ،‬وتحجّ بها‪ ،‬وتربقعها‪ ،‬اً‬ ‫نزول عىل مقتضيات األحكام‬ ‫السلطانية!‬

‫‪31‬‬


‫الملف‬

‫العلمانية في مقابل‬ ‫غياب خطاب نقد االستبداد‬

‫‪32‬‬

‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬


‫قادري أحمد حيدر‬

‫باحث يمني‬

‫سؤال الدين والعلمانية يعكس أزمة بناء الدولة وتطور المجتمع في منطقتنا من أواخر‬

‫األربعينيات‪ ،‬وبداية الخمسينيات والستينيات حتى اليوم‪ ،‬ويتعلق بأزمة الفكر (األيديولوجية) وأزمة‬ ‫النظام‪ /‬الدولة‪ ،‬والعالقة فيما بينهما دالة على وحدتهما‪ ،‬وتكاملهما في سياق الممارسة الواقعية‪،‬‬

‫كل منهما يشير إلى اآلخر ويقود إليه‪ ،‬ويكمل تعريفه‪ .‬العلمانية في الممارسة السياسية نجد لها‬ ‫بذورًا أولية مادية‪ ،‬حاضرة وقائمة في العديد من تجارب الدول السياسية التاريخية الدينية (اليهودية‬ ‫والمسيحية واإلسالم) أي العلمانية كمجال للنشاط االقتصادي واإلنتاجي‪ ،‬والعلمي‪ ،‬والتنظيمي‬

‫واإلداري والمالي‪ ،‬قبل أن تتخذ العلمانية تجلياتها المفهومية االصطالحية السائدة اليوم‪ ،‬وهو ما‬ ‫ً‬ ‫اتفاقا مع الدكتور عبدالوهاب المسيري بالعلمانية الجزئية‪.‬‬ ‫يمكننا تسميته‬ ‫كانت الثورة الفرنسية عام ‪1789‬م هي النموذج السيايس‬

‫الصارخ والعنيف يف تعبري العلمانية السياسية عن نفسها كثورة‬

‫عنيفة يف مواجهة سلطة الكنيسة التي اشتبكت مع الثورة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫طرفا فاعلاً وقويًّا يف الصراع ملواجهة قوى الثورة‬ ‫حني دخلت‬ ‫الفرنسية وضدها‪ ،‬وهو ما وسم التحول السيايس واالجتماعي‬

‫للثورة بطابع‪ ،‬الصراع الدموي والعنيف بعضهما ضد بعض‪...‬‬

‫ومن هنا الدعوة الصريحة والحادة لفصل السياسة عن الدين‪،‬‬ ‫ارتد ممارسة سلبية ليس فحسب ضد الكنيسة‪ ،‬بل ضد الدين‬ ‫نفسه‪ ،‬وهو ما ارتسم يف املخيال األيديولوجي والسيايس بأنه‬ ‫عداء العلمانية (الدين الجديد) ضد األديان‪ ،‬وجرى تعميمه‬

‫عىل كل املسار السيايس للتجربة السياسية العلمانية يف‬ ‫بناء الدولة‪ ،‬والعالقة بالدين‪ ،‬مع أن هناك تجارب سياسية‬

‫إن جذر األزمة في عجز وفشل الفكرة‬ ‫العلمانية سواء على صعيد األحزاب‬ ‫واألفكار أو على مستوى بناء الدول‬ ‫هو غياب خطاب نقد االستبداد وتعميم‬ ‫حالة الفساد‪ ،‬وعدم االعتراف باآلخر‬ ‫والقبول بحقه في أن يكون ما يريد ال‬ ‫ما نحن نريده له‬ ‫الحمولة السلبية للعلمانية‬

‫ويف تقديرنا لم تظهر الحمولة األيديولوجية والسياسية‬

‫السلبية يف منطقتنا تجاه العلمانية إال مع سقوط دولة‬

‫الخالفة العثمانية‪ ،‬وتحديات الدولة الرتكية العلمانية القومية‬

‫للعلمانية يف سياق بناء الدولة الربجوازية (الرأسمالية) التي‬ ‫اً‬ ‫أشكال سلمية للعالقة بني الدولة والدين ويف صدارتها‬ ‫اعتمدت‬

‫العسكرية إلرث الدولة العثمانية يف بعدها الديني بصورة‬

‫الكنيسة‪ ،‬ورم ًزا لها‪ ،‬ولم يتجسد فيها البعد الصراعي العنيف‬

‫وقومية) وكان لنشأة وحضور الخطاب السيايس اإلسالمي عىل‬

‫التجربة الربيطانية التي تقف املؤسسة امللكية (امللك) عىل رأس‬ ‫يف العالقة بني املشروع السيايس لبناء الدولة والدين‪ ،‬بل إن‬

‫مجلس اللوردات فيه مجموعة من القساوسة‪ ،‬كما هناك‬

‫التجربة السياسية األمريكية التي تحمل عملتها الدوالر عبارة‬ ‫(نحن نثق باإلله) كرمز للحضور الديني يف أدق تفاصيل وجود‬

‫الدولة‪ ،‬ويف أهم أشكال رمزيتها تعبريًا عن القوة والسيادة‬ ‫والسلطة (املال)‪ ،‬ويف التجربة األملانية نشهد أحزابًا دينية‬

‫مسيحية تمارس حضورها الشرعي والتشريعي والسيايس‪،‬‬

‫حتى وصولها إىل قمة السلطة‪ ،‬عىل قاعدة اعرتافها بالدستور‬ ‫واملساواة‪ ،‬والقيم واملبادئ العليا للدولة‪.‬‬

‫اجتثاثية (تصفوية) ويف موقفها العدايئ ضد العروبة (لغة‪/‬‬ ‫يد محمد رشيد رضا‪ ،‬ومن بعده حسن البنا (اإلخوان املسلمون)‬

‫كحركة سياسية عام ‪1928‬م‪ ،‬دور مركزي يف االشتغال عىل‬ ‫هذا البعد واملعنى‪ ،‬وبخاصة بعد إسقاط محاولة تولية امللك‬

‫فؤاد خليفة للمسلمني‪ ،‬وبعد الحرب العاملية الثانية وصعود‬ ‫الصراع األيديولوجي كعنوان للحرب الباردة‪ ،‬تمظهر البعد‬

‫السيايس للعلمانية بوصفها شيوعية‪ /‬وماركسية‪ ،‬معادية‬ ‫للدين‪ ،‬حيث جرى تهريب مصطلح العلمانية من حقله الداليل‬ ‫املعريف والواقعي ليدخل ً‬ ‫طرفا يف معادلة الصراع السيايس بني‬

‫الرأسمالية واالشرتاكية‪ ،‬وساعدت خطايا التجربة االشرتاكية‬

‫‪33‬‬


‫الملف‬

‫(عرقي‪ /‬قومي(إثني)‪ ،‬االنتماء والوالء هما حصر لفكرة وقضية‬

‫(الستالينية) يف موقفها العدايئ من الدين يف الرتويج‬

‫الروابط الوطنية الداخلية‪ ،‬أممية عاملية دينية مقابلة لجماعات‬

‫والسلبي للعلمانية‪.‬‬

‫األزمة السياسية التاريخية اليوم يف عالقة العديد من حركات‬

‫لتعميم هذا املعنى واملفهوم السيايس االستنكاري‬

‫التطرف اليساري املاركيس (األممية االشرتاكية)‪ ،‬وهنا تكمن‬

‫لقد انعكست سلبًا تجربة العلمانية يف املمارسة‬

‫اإلسالم السيايس بالدولة‪ ،‬والوطن والشعب‪ ،‬ولم يتحرر من‬

‫عقيدة وضد الدين‪ /‬األديان؛ مما أوجد حالة وعي‬

‫أعلنه حزب النهضة يف تونس وبعض الكتابات املحدودة لبعض‬

‫السياسية عىل تعريف وتأطري مفهوم العلمانية بوصفها‬ ‫مشوشة ومضطربة يف العقل السيايس اإلسالمي –أو‬ ‫لدى قطاع واسع منهم– بعد اختزالها واختصارها يف‬

‫تعريفات سياسية سالبة ال صلة حقيقية لها بجوهر‬ ‫مفهوم العلمانية‪ .‬تحول مصطلح العلمانية يف خطاب‬ ‫حركات اإلسالم السيايس وحتى الرسمي العربي إىل‬ ‫تهمة تعادل الكفر‪ ،‬واإللحاد‪ ،‬واإلباحية‪ ،‬والتحريض‬

‫عىل الخروج من األديان‪ ،‬علمً ا أن التجربة الواقعية‬ ‫(املعاصرة) لنا كعرب أظهرت حالة من التداخل والتماهي‬

‫فوق العادة بني الدين والدولة وبني السياسة والسلطة‬ ‫والدين‪ ،‬وهو ما يعني أن العلمانية كممارسة وتجربة‬

‫‪34‬‬

‫الجماعة الدينية اإلسالمية‪ ،‬وهي أقوى وأعمق من جميع‬

‫سياسية اقتصادية اجتماعية وحياتية هي (تنظيم سيايس‬ ‫لإلدارة واملجتمع والدولة) حاضرة بأشكال مختلفة‬ ‫يف جميع التجارب السياسية لبناء الدولة‪ ،‬والتجربة‬ ‫العملية يف منطقتنا العربية (مَ َلكية أو جمهورية) تقول‬

‫هذا الوعي والخطاب فيما هو كتابة وبيانٌ منشور سوى ما‬

‫هنا أو هناك‪.‬‬

‫الدولة الوطنية العربية املعاصرة‬

‫إن مشكلتنا يف املنطقة العربية مع مشروع بناء الدولة‬

‫يف إطارها العلماين العام هو تدثريها للعلمانية بالروح‬

‫والصيغة االستبدادية يف بداية صعودها‪ ،‬ثم بالفساد املعمم‬

‫يف املسار السيايس الالحق للتجربة‪ ،‬وهو ما تبدى يف معظم‬ ‫تجليات ممارسة بناء الدولة عىل أسس وقواعد مدنية‬ ‫علمانية عسكرية وال ديمقراطية‪ ،‬واألمر ذاته –بدرجات‬

‫متفاوتة– ينطبق عىل أشكال الحكم العربية (جمهورية‪،‬‬ ‫مَ َلكية) يف رؤيتها وموقفها من العلمانية‪ ،‬فقد ناصبت‬

‫أشكال الحكم امللكية الفكرة العلمانية العداء يف الخطاب‬

‫بتعايش العلمانية والدين من دون تعارض‪ ،‬فقط الشأن‬

‫السيايس هو من أنتج ذلك التعارض الحدي فيما بينهما‪.‬‬ ‫إن حركات اإلسالم السيايس يف نشأتها النظرية‬

‫والسياسية العملية التاريخية إنما وجدت كحالة رد‬

‫فعل لتفكك وسقوط الدولة العثمانية (دولة الخالفة)‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مناقضا لفكرة وقضية الدولة الوطنية‬ ‫وجذر نشأتها‬ ‫العربية املعاصرة ولفكرة الجماعة الوطنية (الشعب)‬

‫حيث دولة الجماعة ووطنهم هو االمتداد الجغرايف‪،‬‬ ‫والديمغرايف يف حدوده (املكانية) اإلسالمية كلها‪ ،‬دولة‬

‫خالفة عاملية جديدة يف إطار تنظيمي سيايس «االتحاد‬ ‫العاملي لعلماء املسلمني» دولة مصغرة استمرار‬

‫لدولة الخالفة‪ ،‬ولذلك فإن فكرة دولة الخالفة هي‬

‫عنوان تنظيمي أيديولوجي سيايس محوري يف أدبيات‬

‫جميع تنظيمات وحركات وجماعات اإلسالم السيايس‬

‫بمختلف عناوينها‪ ،‬وتسمياتها (سنة‪ /‬شيعة) (خليفة‪/‬‬

‫إمام معصوم‪ /‬الويل الفقيه) حيث الشعب هو كتلة‪/‬‬ ‫جماعة افرتاضية مفتوحة موحدة ال تنتظمها حدود‬

‫جغرافية وطنية (قومية) وال يجمعها انتماء وطني‬ ‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬


‫يف واقع الصراع األيديولوجي العاملي الدائر يف قلب الحرب‬ ‫الباردة مع حضور تجليات العلمانية‪ :‬كقوة مادية‪ ،‬وإنتاجية‬

‫وتقنية وصناعية وعلمية وقانونية‪ ،‬وتنظيمية إدارية ومالية‬ ‫(البورصة) يف جميع صور وأشكال تعاملها‪ ،‬مع مكونات‬ ‫بناء الدولة والنظام السيايس‪ ،‬يف تكويناته املختلفة (البنية‬

‫تحويل العلمانية‬ ‫إلى احتكار للسياسي‬ ‫إن جذر األزمة في عجز وفشل الفكرة العلمانية سواء‬

‫التحتية الرأسمالية والبنية الفوقية بدرجة أقل)‪ ،‬لقد‬ ‫دمغت ووصمت دولة االستقالل والدولة الوطنية ُ‬ ‫القطرية‬

‫غياب خطاب نقد االستبداد وتعميم حالة الفساد‪ ،‬وعدم‬

‫باالستبدادين‪ :‬السيايس والعسكري‪ ،‬حيث الحزب الواحد‬

‫نريده له‪ ،‬وتحول الفكرة والممارسة العلمانية (المدنية)‬

‫العربية الحديثة‪ ،‬السياسة واملجتمع والثقافة ونظام الحكم‬

‫على صعيد األحزاب واألفكار أو على مستوى بناء الدول هو‬

‫االعتراف باآلخر والقبول بحقه في أن يكون ما يريد ال ما نحن‬

‫الثوري‪( ،‬صانع االستقالل) والجيش (مجلس قيادة الثورة)‬

‫في تجربة األحزاب الواحدية (الشمولية) والمعارضة أو‬

‫فالحزب هو قائد الدولة واملجتمع (جنوب اليمن‪ /‬سوريا‪،‬‬

‫ليبرالية) إلى أحادية محتكرة للسياسة‪ ،‬وللحقيقة في ذاتها‬ ‫(توليتارية) بعد تحويلها العلمانية إلى استبداد‪ .‬لقد ّ‬ ‫علقت‬

‫يف أحسن األحوال بمنجزات الديمقراطية االجتماعية‪ ،‬التي‬

‫األيديولوجية القومية واليسارية االشتراكية والليبرالية‬ ‫َّ‬ ‫حل المسألة الديمقراطية على مشجب حل المسألة‬

‫هما رمزا السلطة والسيادة‪.‬‬

‫العراق والجزائر) وجميعها من دون استثناء نماذج ناصبت‬

‫السياسة الديمقراطية العداء وواجهت الديمقراطية السياسية‬ ‫امتصها الفساد وقىض عليها تدريجيًّا االستبداد‪ ،‬ويف هذا املسار‬

‫الصعب واملناخ الطارد للسياسة املدنية‪ ،‬تحولت العلمانية يف‬

‫صورة عقيدة الحزب (أيديولوجيته) إىل طوطم‪ ،‬وسوط وكتاب‬ ‫مقدس استحالت معه العلمانية كشكل للتنظيم االقتصادي‬ ‫واإلداري واملايل والثقايف إىل استبداد وفساد‪.‬‬

‫الواقعة في قمة هرم صحن الحكم (قومية اشتراكية‬

‫أنظمة الحكم الوطنية االستقاللية (العلمانية) في صيغها‬

‫االجتماعية‪ ،‬تحت شعار وغطاء «ال صوت يعلو فوق صوت‬

‫المعركة» و«ال صوت يعلو فوق صوت الحزب الواحد»‬ ‫والنتيجة السياسية والعملية التي تفقأ العين أننا ال أنجزنا‬

‫حل المسألة الديمقراطية‪ ،‬وال خلقنا قواعد راسخة متينة‬ ‫للتنمية على طريق إذابة أو إزالة الفوارق بين الطبقات‪ ،‬كما‬ ‫رفعتها أدبيات وبيانات هذه األحزاب واألنظمة‪ /‬الدول وال‬

‫في المقابل دخلنا المعركة وانتصرنا‪ ،‬بل إننا حولنا بعض‬ ‫انتصاراتنا الجزئية العسكرية إلى هزائم وخسائر سياسية‪.‬‬

‫ويبلغ الفشل ذروته في الممارسة االجتماعية‬

‫والثقافية والتعليمية (تعليم ماضوي)؛ إذ نشهد اليوم‬ ‫ً‬ ‫انبعاثا للهويات القاتلة ‪-‬حسب تعبير الروائي أمين معلوف–‬

‫الهويات ما قبل الوطنية‪ ،‬وما قبل الدولة‪ :‬المذهبية‬ ‫والطائفية والقبلية والمناطقية‪ ،‬ومحاوالت حرف الصراع‬ ‫السياسي من جانب بعض (ميليشيات‪/‬ودول إقليمية)‬ ‫إلى عنوان لصراع مذهبي‪ /‬طائفي (ديني) (سني‪ /‬شيعي)‬

‫وحضور الخارج اإلقليمي والدولي في داخلنا؛ بسبب‬ ‫ما تركناه من فراغ في السياسة وفي حالة األمن القومي‬

‫العربي‪ ،‬األمر الذي جعل الفضاء والمدى الجيو‪ /‬سياسي‬ ‫ً‬ ‫منتهكا‪ ،‬حضر بعض أطراف الخارج اإلقليمي‬ ‫القومي لنا‬ ‫ً‬ ‫عوضا عنا (إيران‪ /‬تركيا‪ /‬إسرائيل) وهو قمة تعبير‬ ‫ليمأله‬

‫الفشل عن نفسه‪ ،‬فشلنا كأحزاب ومشاريع وأفكار ودول‬ ‫وهنا تكمن األزمة‪ .‬والمشكلة متى نبدأ الفعل باتجاه رحلة‬

‫األلف ميل نحو اإلصالح واالستنارة؟ ذلكم هو السؤال‪.‬‬

‫‪35‬‬


‫الملف‬

‫الدين والرؤية‬ ‫العلمانية للعالم‬ ‫في ضوء النماذج التنظيمية الكبرى‬

‫‪36‬‬

‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬


‫محمد شوقي الزين‬

‫باحث جزائري‬

‫الدين اليوم بمنزلة اإلحاطة التي ُت ّ‬ ‫غلف نظام التصوّرات والسلوكيات‪ .‬يمكن القول بأنه‬ ‫«النموذج» أو «البرادايم» (‪ )paradigm‬الذي تنصاع إليه هذه التصوّرات والسلوكيات‪ .‬إنه لها‬ ‫ّ‬ ‫يشدها إليه‪ .‬أتكلم بطبيعة الحال عن برادايم الدين في السياق الجغرافي‬ ‫بمنزلة الثقاف الوثيق الذي‬ ‫والتداولي للثقافة العربية اإلسالمية؛ ألن الدين في الغرب ّ‬ ‫توقف عن كونه الدليل والمرشد‪ ،‬أي‬ ‫ّ‬ ‫توقف عن كونه برادايم الوعي الغربي بعد أن حل محله برادايم جديد في منعطف القرنين السابع‬ ‫عشر والثامن عشر بظهور الدولة الحديثة‪ ،‬ويمكن تسمية هذا البرادايم بالقالب السياسي األخالقي‬ ‫الذي قولب التصوّرات والسلوكيات في نظام جديد هو نظام العقل الذي حوَّل (‪)conversion‬‬ ‫المضامين الدينية إلى أشكال علمانية من القول والفعل‪.‬‬ ‫ملحة تاريخية مختصرة ُتربز لنا طريقة هذا التحوّل وموقعنا‬

‫مفهوم الدولة الحديثة الذي وجد اكتماله النظري مع الفيلسوف‬

‫األملاين فريدريش هيغل‪ ،‬فإن املساحة السياسية واالجتماعية‬

‫نحن يف خريطة هذا االنتقال التدريجي للوعي؛ ألن هذه اللمحة‬ ‫مفيدة وحاسمة يف تبيان ملاذا وبأي معنى لم ُتفلح املشاريع‬

‫لم تعُ د من اختصاص املؤسسة الدينية‪ ،‬الراعية عىل الضمري‬

‫وباملقارنة مع التجربة الغربية التي هي لنا بمنزلة املرآة نرى ذواتنا‬

‫نتحدث عن األخالق الدينية بعد تراجع املرجعية العُ ليا وأفولها‪،‬‬

‫العلمانية يف الرتسّ خ يف الثقافة العربية اإلسالمية‪ .‬أقول باختصار‪،‬‬

‫فيها‪ ،‬أقول بأن هذه التجربة انتظمت وفق ثالثة برادايمات‬ ‫تأسيسية وحاسمة‪:‬‬

‫اً‬ ‫أول‪ -‬الربادايم الديني الالهويت الذي قولب الوعي الغربي‬

‫طيلة ‪ 1700‬سنة بهيمنة املسيحية منذ تبنيها من طرف اإلمرباطورية‬ ‫ً‬ ‫وخصوصا هيمنة املذهب الكاثولييك عرب الكنيسة‪،‬‬ ‫الرومانية‪،‬‬

‫الجمعي‪ ،‬إنما من قيام املؤسسة السياسية املنتخبة‪ .‬لم نعد‬ ‫إنما عن األخالق املدنية بعلمنة هذه املرجعية وتحويل املضامني‬ ‫الدينية إىل املحتويات االجتماعية‪ :‬مثلاً ‪ ،‬ال نتحدث عن الزكاة أو‬ ‫الصدقة إنما عن الضرائب والتضامن االجتماعي‪ ،‬إلخ‪.‬‬

‫انهيار مفهوم الدولة‬ ‫ً‬ ‫ثالثا‪ -‬مثله مثل الربادايم الديني األخالقي‪ ،‬وصل الربادايم‬

‫لسان حال العقيدة وظل اليسوع يف األرض‪ .‬غري أن اختالالت بنيوية‬ ‫ً‬ ‫وأيضا إىل‬ ‫حصلت يف هذا الربادايم جعلته يصل إىل منتهى عطائه‬

‫السيايس األخالقي‪ ،‬الذي دام قرابة ‪ 200‬سنة‪ ،‬إىل منتهى عطائه‬

‫يف إصالح املنظومة الدينية‪ ،‬فوقع الشرخ املعروف الذي انتهى‬

‫االشرتاكية والشيوعية مفهوم الدولة نفسه‪ ،‬فأصبح هيكل هذه‬

‫ثانيًا‪ -‬وسط اهتزاز النواة الصلبة لهذا الربادايم وبروز شقوق‬

‫الرمزي‪ .‬بانهيار مفهوم الدولة املركزية ذات الحزب الواحد بعد‬

‫ذروة قسوته مع محاكم التفتيش والحروب الدينية والنداء امللحّ‬

‫بانشقاق اإلصالحيني لوثر وكالفن عن الكنيسة الكاثوليكية‪.‬‬

‫وذروة تشدده‪ ،‬بعد أن ابتلع الحزب الواحد يف عز األيديولوجيات‬ ‫الدولة عىل الصعيد التنظيمي‪ ،‬والراعي عىل األمة عىل املستوى‬

‫وانهيارات بظهور مذاهب وطوائف وأفول املرجعية العامة التي‬

‫الحرب العاملية الثانية‪ ،‬توجه الوعي الغربي نحو برادايم جديد‪،‬‬

‫نظريًّا عرب التأمالت الفلسفية حول نظام الحكم (روسو‪ ،‬هوبس‪،‬‬

‫والتواصل والتنافس‪ ،‬فكان أن تعزز الربادايم االقتصادي املايل‬

‫كانت تضمن باألمس كل هذه الوشائج‪ ،‬حصل أن تعززت الدولة‬

‫مونتيسكيو) وعمليًّا بسقوط امللكية يف أوربا (الثورة الفرنسية)‬ ‫وظهور الديمقراطية التشاركية يف أمريكا (الثورة األمريكية)‪ .‬بظهور‬

‫من شأن الرؤية العلمانية أن تنتشل‬ ‫الفعل من دائرة التقليد وسجن المحاكاة‪،‬‬ ‫شرع لذاته من‬ ‫تحرره وتدفعه ألن ُي ّ‬ ‫بأن ّ‬ ‫بادِ هِ اللحظة التي تتولّد عنها أشكال من‬ ‫التصور وأنظمة من السلوك‬ ‫ّ‬

‫قائم عىل القيم الليربالية والفردانية‪ ،‬ويواكب مفاهيم التقدم‬ ‫بمنطق خاص‪ ،‬يقوم عىل املبادالت الحرة عىل املستوى التجاري‬

‫والسيولة املالية والوفرة اإلنتاجية‪ .‬أصبحت املؤسسات املالية‬

‫(صندوق النقد الدويل‪ ،‬ومؤسسات املراقبة يف ميزانيات الدول‪،‬‬

‫إلخ) هي الحاكم والفيصل‪ .‬يقع الغرب اليوم يف هذا الربادايم‬ ‫الذي ُتبنى عليه كل سياسة أو قرار‪ .‬ال ندري ما الربادايم املقبل‬

‫عندما يصل الربادايم االقتصادي املايل إىل منتهى عطائه وذروة‬ ‫تشدده ب ُندرة العمل وتسريح العمال‪ ،‬مع كل املخاطر الناتجة‬ ‫عن البطالة واألزمات االقتصادية واالجتماعية وصعود الفقر‬

‫والجريمة املنظمة‪.‬‬

‫‪37‬‬


‫الملف‬

‫معركة الفعل‬

‫عندما نفقه هذه املسألة‪ ،‬أي عندما ُندرك أن الفعل الحر‬

‫والعفوي واملش ّرع لذاته من وحي اللحظة الراهنة‪ ،‬فإن تشكيل‬

‫نظرية سياسية أمر ممكن‪ ،‬وعقلنة نظام الحكم وصناعة القرار‬ ‫يشء حاسم‪ .‬ال بد من تخطي هذه العتبة ومجاوزة هذه العقبة‪،‬‬

‫أقصد أن الثقافة العربية اإلسالمية عىل عاتقها قيادة «معركة‬

‫الفعل»‪ ،‬بعدما ظفرت «بمعركة القول»‪ .‬كان القول محظورًا يف‬ ‫التعسف عىل املستوى السيايس‪ .‬باندالع‬ ‫الفضاء العمومي بسبب‬ ‫ّ‬ ‫بعض االنتفاضات العربية‪ ،‬ظفر املجتمع العربي اإلسالمي بمعركة‬

‫القول وساعدته يف ذلك التكنولوجيات الحديثة مثل مواقع التواصل‬ ‫االجتماعي؛ لكن معركة الفعل لم يظفر بها؛ ألن األفعال ال تزال‬ ‫يف دائرة املحاكاة والتقليد باحتذاء نماذج خالية أو السري وفق نظام‬ ‫ّ‬ ‫متشخص من السلوك‪ :‬اتباع داهية أو داعية أو صفوة أو نخبة‪ .‬مع‬ ‫أن الفعل هو فعل متف ّرد‪ ،‬فعل كل فرد (أنا‪ ،‬أنت‪ ،‬نحن) قابل‬

‫للتشارُك من أجل التناغم االجتماعي والعيش املشرتك‪.‬‬ ‫السؤال املطروح اآلن‪ :‬ما موقعنا يف هذه الخريطة؟ يمكن‬

‫أعتقد أن فهم استقاللية الفعل من شأنه أن يساعد عىل بلورة‬ ‫رؤية علمانية لألشياء‪ .‬هذه الرؤية متعثرّ ة اليوم يف السياق العربي‬

‫بقدر ما يحيا هذا السياق الربادايم نفسه كالذي يعيشه‬

‫عرب مساحة التديّن (اآليل وامليكانييك الذي يخلو من الروح)‪ ،‬ألن‬

‫أن نلمس ً‬ ‫نوعا من الشرخ يف السياق العربي اإلسالمي؛ ألن‬

‫‪38‬‬

‫اإلسالمي؛ ألن مجال الفعل ينتمي يف معظمه إىل الفضاء الديني‬

‫والسيولة املالية ووسائل املواصالت املتطورة‪ ،‬بقدر ما يزال‬

‫الفعل يف هذه املساحة هو محاكاة األوائل‪ ،‬باحتذاء نظام تصوّرهم‬ ‫وسلوكهم‪ .‬إذا كانت الرؤية العلمانية متعثرّ ة اليوم‪ ،‬فألن نظام‬

‫تنظيم الحياة االجتماعية واألخالقية للعرب واملسلمني‪ .‬هل‬

‫ألن كل طائفة تع ّد نظام التصوّر والسلوك الذي تحتكم إليه بمنزلة‬

‫الغرب عرب أنظمة التواصل واالتصال والتحديث التقني‬

‫يقبع يف روح الربادايم الديني الالهويت‪ ،‬الذي لم ينفك عن‬

‫ن ّدعي أننا نراوح بني الديني الالهويت واالقتصادي املايل دون‬ ‫وسيط السيايس األخالقي؟‬

‫ليست األمور بهذه السهولة املبتذلة‪ .‬اً‬ ‫أول‪ -‬نحيا بال‬

‫املحاكاة يف الفعل يُشجّ ع املذهبية والطائفية‪ ،‬وقود كل حرب أهلية؛‬

‫اليقني الذي ال يشوبه شك أو ارتياب؛ وكل نظام مختلف عبارة عن‬ ‫نظام مخالف‪ ،‬وينخرط يف شكل من أشكال الصراع والصدام‪ .‬من‬

‫شأن الرؤية العلمانية أن تنتشل الفعل من دائرة التقليد وسجن‬

‫يعيشه الغرب نفسه عرب الوحدات الكربى مثل العوملة‪،‬‬

‫املحاكاة‪ ،‬بأن تح ّرره وتدفعه ألن يُش ّرع لذاته من با ِد ِه اللحظة التي‬ ‫ّ‬ ‫تتولد عنها أشكال من التصوّر وأنظمة من السلوك‪.‬‬

‫لكن‪ ،‬ثانيًا‪ -‬ال نزال نقبع تحت إمرة الربادايم الديني الالهويت‬

‫اليوم يف طبعة عريقة‪ ،‬تحمل أثقالها املهرتئة‪ ،‬فهي العائق وليست‬

‫شك آثار أو مفاعيل الربادايم االقتصادي املايل الليربايل الذي‬

‫والوحدات الصغرى مثل األنظمة التجارية العابرة للقارات؛‬

‫الخاص باإلسالم‪ .‬هل هذا عائق أم حتمية؟ إنه عائق بحكم‬ ‫عدم امتثالنا بع ُد إىل برادايم سيايس أخالقي ي رِّ‬ ‫ُعب عن‬

‫هذا ال يعني أن األشكال الدينية ملفوظة‪ ،‬لكن كما تتبدّى‬

‫الالئق لبا ِد ِه العصر‪ .‬من شأن الرؤية العلمانية أن تعمل عىل عقلنة‬

‫هذه األشكال يف طبعة جديدة ومنقحة ومزيدة‪ ،‬بأن تقوم بتحويل‬

‫نمط وجودنا يف العالم‪ .‬املمارسات السياسية األخالقية يف‬

‫هذه األشكال الدينية إىل مضامني مدنية‪ ،‬إىل أخالق فردية وجمعية‬

‫لم نصنع بع ُد لذواتنا نظامً ا سياسيًّا وأخالقيًّا يقول عفوية‬

‫من أشكال سياسية وأخالقية‪ ،‬وما يرتقبه من إمكانات يف الزمن‬

‫السياق العربي اإلسالمي مختوم عليها بخاتم األمر والنهي‪.‬‬

‫الفعل يف ابتكاره للقواعد والصيغ السلوكية‪ ،‬وحرية املبادرة‬ ‫واملساهمة‪ .‬ال نزال يف مجال االمتثال إىل األوامر والنواهي‬

‫واتباع نظام ميكانييك أو آيل هو مج ّرد االحتذاء واإلذعان‪.‬‬

‫يف حني الفعل السيايس األخالقي هو فعل من وحي‬ ‫ً‬ ‫تطبيقا‬ ‫الزمن الحاضر وعفوية األشكال السلوكية‪ ،‬وليس‬ ‫ملخططات سالفة أو محاكاة ألفعال ماضية‪.‬‬

‫تقول أصالة الفعل يف انبثاقه اآلين وسبقه اآليت‪ ،‬أي ما يُنتجه اآلن‬

‫املقبل‪ .‬الرؤية العلمانية نقطة حاضرة وخط نحو املستقبل؛ لذا‬ ‫ّ‬ ‫وتتطلع إىل اآليت‪،‬‬ ‫ُتعوّل عىل ابتكار الفعل يف الحياة اليومية والراهنة‬ ‫بعد أن تسعى إىل تحرير هذا الفعل من بداهة التقليد التي تسجنه‬

‫يف املايض‪ .‬هل العالم العربي اإلسالمي عىل استعداد لخوض معركة‬ ‫ّ‬ ‫والتطلع إىل املستقبل؟ هذا ما ينبغي‬ ‫الفعل من أجل بناء الحاضر‬ ‫االنتباه له ومصاحبته بالبحث الحثيث والعمل الجاد‪.‬‬

‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬


‫الملف‬

‫العلمانية‬ ‫وخصومها‬

‫الحمامي‬ ‫نادر‬ ‫ّ‬

‫باحث تونسي‬

‫انطلق النقاش حول العلمانية‬

‫في المجتمعات اإلسالمية منذ نهاية‬

‫القرن التاسع عشر؛ ليأخذ أبعا ًدا‬ ‫أعمق بعد إلغاء نظام الخالفة خاصة‪،‬‬

‫وظهور تيارات فكرية متعارضة‬

‫ومتجادلة فيما بينها من داخل‬

‫المنظومة اإلسالمية الدينية يمكن‬ ‫التمثيل عليها بكتاب محمّ د رشيد رضا‬

‫«الخالفة أو اإلمامة العظمى»‪ ،‬وقد‬

‫سبق قيام تركيا الكمالية بسنتين‪،‬‬

‫علي عبدالرازق‬ ‫في مقابل كتاب‬ ‫ّ‬ ‫«اإلسالم وأصول الحكم»‪ ،‬وليس‬ ‫علينا هنا اإلطناب في بيان أن الكتاب‬

‫األول يمثل تيّارًا سيحوّل نقاشات‬ ‫مصلحي القرن التاسع عشر في‬

‫قضية الحكم من المجال السياسي‬ ‫إلى المجال الديني‪ ،‬في حين سيكون‬

‫الكتاب الثاني من أهمّ مستندات‬ ‫ّ‬ ‫مجذري العلمانية ودعاة الفصل بين‬

‫السياسي والديني في التراث والتاريخ‬ ‫اإلسالميين‪ ،‬ور ّبما يكون ذلك بغاية‬ ‫جعلها مقبولة اجتماعيًّا ومستساغة‬

‫ّ‬ ‫خاصة‬ ‫إلى الضمير اإلسالمي الجمعي‬ ‫بعد حمالت تشويه العلمانية وربطها‬ ‫بالتغريب أو ح ّتى بالكفر‪.‬‬

‫‪39‬‬


‫الملف‬

‫ً‬ ‫نشأة وتط ّورًا وإجراءً ‪ ،‬وال يمكن بأي حال من‬ ‫العلمانية غربية‬

‫ولكن هذا الصراع لم يكن يف أغلب األحيان لصالح‬

‫العلمانيني‪ ،‬ونحسب أنّ محاولة الوقوف عىل األسباب‬ ‫ّ‬ ‫الكامنة وراء ذلك بجدية وعمق‬ ‫تشكل اليوم أكرث من أيّ‬

‫وقت مىض حاجة ملحّ ة وضرورية ملستقبل املجتمعات‬

‫اإلسالمية‪ .‬وما نروم بيانه يف هذا املقام هو محاولة‬

‫نشره مثل يوسف القرضاوي سنة ‪1987‬م «اإلسالم والعلمانية‬ ‫ً‬ ‫منطلقا من الر ّد عىل ما نشره فؤاد زكريا يف‬ ‫وجهًا لوجه»‬

‫األهرام املصرية سنة ‪1985‬م‪ .‬ومن الالفت للنظر أنّ كالم زكريا‬

‫الذي سري ّد عليه القرضاوي بكتاب كامل كان دائ ًرا حول مسألة‬ ‫الشريعة ومفهومها‪ ،‬فكان مدخلاً إىل مهاجمة العلمانية‪.‬‬

‫اإللحاح عىل أنّ العلمانية تواجه هجومً ا من طرف دعاة‬

‫ًّ‬ ‫حقا يستبطنها دعاة اإلسالم‬ ‫ّإننا إزاء معادلة رهيبة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وثيقا‬ ‫ربطا‬ ‫السيايس يف مجمل خطاباتهم‪ ،‬تربط اإلسالم‬ ‫ً‬ ‫أحيانا تقع املماهاة بني اإلسالم والشريعة‪ ،‬وبما‬ ‫بالشريعة‪ ،‬بل‬

‫وصوب لسبب أساس‪ ،‬وهو أنها وضعت موضع صراع‬ ‫أيديولوجي‪ ،‬وقدّ مت عىل ّأنها أيديولوجيا سواء من‬ ‫ّ‬

‫أنّ الالفت للنظر ًّ‬ ‫حقا أنّ ما تذهب إليه مثل هذه املعارضة‬ ‫األيديولوجية التي يتب ّناها دعاة اإلسالم السيايس تتقاطع مع‬ ‫ً‬ ‫شرقا وغربًا؛ ّ‬ ‫ألنهم بدورهم حوّلوا‬ ‫كثري من دعاة العلمانية‬

‫اإلسالم السيايس بكل تلويناته وأشكاله من ناحية‪،‬‬ ‫لكن ال بدّ من اإلقرار ً‬ ‫أيضا أنّ العلمانية قد ُطعنت من‬ ‫طرف املنتسبني إليها يف كثري من األحيان‪ .‬ويف تقديرنا‬ ‫كل هذا الهجوم من ّ‬ ‫فإنّ العلمانية تواجه ّ‬ ‫كل حدب‬

‫معارضيها أو حتى من كثري من الدعاة إليها وهو ما‬

‫سنحاول بيانه‪.‬‬

‫خصوصيات ثقافية‬

‫يحشد معارضو العلمانية من التيارات اإلسالمية‬ ‫ً‬ ‫أحيانا لدى‬ ‫الحجج لبيان أمرين أساسني قد يجتمعان‬

‫‪40‬‬

‫األحوال تطبيقها يف البلدان اإلسالمية‪ .‬ويمكن هنا النظر فيما‬

‫ّ‬ ‫ويتمثل‬ ‫بعض ُكتاب تلك التيارات‪ ،‬وقد ال يجتمعان‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫األمر األوّل يف بيان أنّ العلمانية هي معاداة لكل األديان‬

‫ّ‬ ‫ديني‪ .‬أمّ ا األمر‬ ‫لكل انتظام‬ ‫وأشكال التديّن ومحاربة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫فيتلخص يف السعي إىل محاولة بيان الخصوصيات‬ ‫الثاين‬

‫الثقافية والتاريخية للمجتمعات اإلسالمية‪ ،‬وأنّ‬

‫العلمانية والعلمنة تغزو كل‬ ‫المجتمعات باستثناء المجتمعات‬ ‫اإلسالمية فيجري الحديث عن‬ ‫استثناء إسالمي‪ ،‬وهذا أمر خطير‬ ‫ج ًّدا‪ ،‬فهو يمثل نقطة التقاء‬ ‫أساسية بين خصوم العلمانية‬ ‫ّ‬ ‫ودعاة اإلسالم السياسي‬

‫وشق من‬ ‫من ناحية أولى‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫العلمانيين ودعاتها من ناحية‬ ‫ثانية في المجتمعات اإلسالمية‪،‬‬ ‫وشق من المستشرقين‬ ‫ّ‬ ‫المعادين لإلسالم والمنظرين‬ ‫لالستعمار من ناحية ثالثة‬

‫أنّ العلمانية تتضمّ ن تشريعات ال تستند إىل املوروث الديني‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫فإنها بالتايل معادية لإلسالم‪ ،‬بل هي ضرب من اإللحاد غري‬

‫العلمانية إىل أيديولوجيا‪ ،‬فخدموا خصومهم من حيث ال‬ ‫يحتسبون‪ ،‬وخسروا عىل املستوى االجتماعي‪ .‬ومن اإلشكاليات‬

‫التي يحدث الوقوع فيها يف األغلب يمكننا الرتكيز عىل أمرين‬ ‫أساسني ينبغي يف تقديرنا للعلمانيني تجاوزهما تنظرييًّا‬

‫وعمليًّا‪:‬‬

‫ّ‬ ‫يتمثل األمر األوّل يف تحديد أنموذج للعلمانية؛ إذ إنّ وضع‬

‫أنموذج معينّ لها يؤدّي إىل تحنيط املفهوم‪ ،‬وتخلق بالتايل‬ ‫ً‬ ‫عائقا أمام فهمه يف تاريخيّته وتطوّره‪ ،‬وبالتايل إمكانية توافقه‬

‫مع مختلف الخصوصيات والهويات واالنتماءات الثقافية‪،‬‬ ‫فيكون كل ذلك مدخلاً مناسبًا ملعاريض العلمانية للقول ّ‬ ‫بأنها‬

‫خاصة باملجتمعات الغربية‪ ،‬وال يمكن أن تكون مطبقة يف‬ ‫املجتمعات اإلسالمية‪ .‬إنّ العلمانية ينبغي أن تقدَّ م عىل ّأنها‬

‫صريورة وهي متحوّلة باستمرار ومتعدّ دة تمامً ا كالديمقراطية‬ ‫مثلاً ‪ ،‬فهي مثلها طريقة إجرائية لتنظيم الحياة االجتماعية‬

‫املتحوّلة‪ ،‬وبالتايل فهي ليست أيديولوجيا ثابتة‪ ،‬وليست دي ًنا‪،‬‬ ‫وهي لم توضع لتعويض الدين‪ ،‬وهي ً‬ ‫أيضا ليست معادية‬

‫لقناعات الناس الدينية ولعقائدهم‪ ،‬هي فقط طريقة تضمن‬ ‫ّ‬ ‫بغض النظر‬ ‫معاملة املواطنني معاملة متساوية أمام القانون‬

‫عن اعتقاداتهم ومذاهبهم وطوائفهم‪ ،‬فتغدو العلمانية‬ ‫ً‬ ‫شرطا أساسً ا من شروط تحقيق العدل بني املواطنني‬ ‫بذلك‬

‫عىل أساس املواطنة‪ .‬ومن هذا املنطلق ينبغي معارضة اآلراء‬ ‫َّ‬ ‫املؤصلة للعلمانية يف فرنسا وعدّ ها خصوصية من خصوصيات‬ ‫النظام الجمهوري الفرنيس‪ ،‬وكذلك معارضة اآلراء القائلة بأنّ‬

‫العلمانية خصوصية غربية منبثقة من التحوّالت التاريخية‬

‫والسياسية واالجتماعية يف الغرب‪ .‬إنّ العلمانية ينبغي أن تقدَّ م‬

‫كما الحداثة وما ارتبط بها من قيم الحرية واملساواة والعقالنية‬

‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬


‫عىل ّأنها كونية وإنسانية وإن كانت غربيّة املنشأ؛ إذ ال يمكن‬ ‫خاصة بالغرب‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫وإنها‬ ‫القول‪ :‬إنّ الحرية يف مفهومها الحديث‬

‫ّ‬ ‫وشق من املستشرقني املعادين لإلسالم واملنظرين‬ ‫اإلسالمية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫لالستعمار من ناحية ثالثة‪ .‬صحيح أننا نجد لدى بعض مفكري‬ ‫عصر النهضة يف كتاباتهم السياسية ما يؤ ّكد أنهم يميزون بني‬

‫ال تصلح للمجتمعات اإلسالمية‪ ،‬واألمر كذلك للمساواة أو‬ ‫العقالنية أو ّ‬ ‫كل منظومة حقوق اإلنسان بصورة عامّ ة‪ .‬كما‬

‫اإلسالم واملسيحيّة عىل أساس أنّ اإلسالم يشمل املعاش واملعاد‬

‫باستمرار‪ ،‬فهي يف تحوّل ّ‬ ‫مطرد يساير تطوّر البشريّة‪ ،‬وهذا يف‬

‫ظهور اإلسالم السيايس الذي يمثل ردّة فعل عىل مدّ ديمقراطي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫إصالحي بدأ يف الظهور يف‬ ‫األقل‪ :‬نفس تح ّرري‬ ‫أو لنقل عىل‬ ‫ّ‬

‫ال يمكن القول ّ‬ ‫بأننا سنكف عن املطالبة بالحرية أو املساواة‬ ‫أو العدالة؛ ّ‬ ‫ألننا بلغنا الغاية فيها‪ ،‬فهذه القيم نسعى إليها‬ ‫الحقيقة مبدأ أساس من مبادئ الحداثة‪ :‬التقدّ م باستمرار‪.‬‬ ‫ومن هنا نعدّ أن وضع أنموذج للعلمانية يهدّ د العلمانية أو اًّل‬ ‫وهو مخالف للحداثة نفسها‪.‬‬ ‫استثناء إسالمي‬

‫أو الدنيا واآلخرة‪ ،‬ولكن نحسب أنّ هذه الفكرة تعمّ قت مع‬

‫بعض املجتمعات اإلسالمية‪ ،‬وهذا نظري املسيحية السياسية يف‬ ‫أوربا التي ظهرت ردّة فعل عىل النظريات القائمة عىل القطع‬ ‫مع التصوّرات القديمة فيما يتعلق بالشرعية السياسية‪ ،‬حيث‬

‫لم تعد السلطة مقدّ سة؛ ألنّ شرعيتها مستمدّ ة من الله كما‬ ‫ّ‬ ‫يتمكنوا من بسط هيمنتهم‪،‬‬ ‫يريد أن يقول رجال الدين ح ّتى‬

‫ّ‬ ‫املتعلق باألنموذج إىل األمر الثاين وهو‬ ‫يحيل هذا األمر األوّل‬

‫بل أصبحت الشرعية مرتبطة بإرادة الشعب ومصالح املواطنني‪.‬‬

‫الغربيّة‪ ،‬وبالتايل فإنّ ما يعدّ أنموذجً ا غربيًّا ال يصلح للمجتمع‬

‫حك ًرا عىل العالم املسيحي‪ ،‬ولكن من الالفت للنظر أن دعاة‬ ‫ّ‬ ‫وشق من العلمانيني يف املجتمعات اإلسالمية‬ ‫اإلسالم السيايس‬

‫اإلسالمية‪ ،‬فيجري الحديث عن استثناء إسالمي‪ ،‬وهذا يف‬

‫خاصيات الغرب‪ ،‬وقالوا بمسألة االستثناء اإلسالمي يف هذا‬

‫القول بأنّ املجتمعات اإلسالمية متمايزة تمامً ا عن املجتمعات‬

‫اإلسالمي‪ ،‬وحني ينظر إىل العالم بأسره يمكن مالحظة أن‬ ‫العلمانية والعلمنة تغزو كل املجتمعات باستثناء املجتمعات‬ ‫تقديرنا أمر خطري جدًّ ا‪ ،‬فهو يمثل نقطة التقاء أساسيّة بني‬

‫خصوم العلمانية ودعاة اإلسالم السيايس من ناحية أوىل‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وشق من العلمانيني ودعاتها من ناحية ثانية يف املجتمعات‬

‫ومثل هذا التحوّل يف مصدر السلطة ال يمكن بأيّ حال أن يُعَ دّ‬

‫واملعادين لإلسالم من الغربيني اتفقوا عىل عدّ هذا األمر من‬ ‫املجال‪ ،‬سواء استعملوا املصطلح أو لم يستعملوه‪ ،‬فتابعوا‬ ‫من حيث شاؤوا أو أبوا املقوالت ّ‬ ‫املنظرة لالستعمار أو لصراع‬

‫الحضارات أو ح ّتى لإلسالموفوبيا‪.‬‬

‫‪41‬‬


‫نصوص‬

‫حجرية منهكة‬ ‫صامتة كعتبات‬ ‫ّ‬ ‫ترجمة‪ :‬عاشور الطويبي‬

‫شاعر ومترجم ليبي‬

‫تضرب الريح صدري‬

‫‪42‬‬

‫الشعر‬

‫الشاعر التشيلي‪ :‬بابلو نيرودا ‪1973 -1903‬م‬

‫الشاعر اليوناني‪ :‬أناستاسيس فيستونايتس‪1952 :‬م‪.‬‬

‫الظل والفضاء‪ ،‬بين ُّ‬ ‫ّ‬ ‫اللجم والعذارى‪،‬‬ ‫بين‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫وأحالم قاتلة‪ ،‬متهور‬ ‫وحيد‬ ‫قلب‬ ‫ٍ‬ ‫عطية ٍ‬ ‫ّ‬ ‫مغضن الجبهة‬ ‫شاحب‪،‬‬ ‫غاضب ّ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫كل أيام حياتي‪،‬‬ ‫أرمل‬ ‫وفي الحِ داد‬

‫ً‬ ‫أوراقا‬ ‫القصيدة ال تشبه‬

‫آه‪ ،‬مع ّ‬ ‫كل جرعة ماء ال مرئي أشربها نعسان‬ ‫ومع ّ‬ ‫كل صوت آخذه‪ ،‬أرتعش‪،‬‬ ‫أُ ُّ‬ ‫حس ذات العطش المفقود وذات الحمى‬

‫الباردة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫أُ ٌ‬ ‫خفي‪،‬‬ ‫تولد‪ ،‬قلق‬ ‫ذن‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أشباحا‪،‬‬ ‫لصوصا على وصول‪ ،‬أو‬ ‫كأن‬ ‫ّ‬ ‫مجوفة‪،‬‬ ‫داخل محارة طويلة عميقة‬ ‫كنادل ذليل‪ ،‬كجرس بحّ قليلاً ‪،‬‬

‫كمرآة قديمة‪ ،‬كرائحة بيت مهجور‬ ‫يرجع إليه الضيوف ليلاً مخمورين‪،‬‬

‫كنستها الريح في الشوارع‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ساكنا‪،‬‬ ‫ليست بحرًا‬ ‫ً‬ ‫مربوطا‪.‬‬ ‫قار ًبا‬

‫ً‬ ‫سماء زرقاء‬ ‫ليست‬ ‫ً‬ ‫وطقسا صافيًا‪.‬‬

‫ٌ‬ ‫شوكة‬ ‫القصيدة‬

‫في قلب العالم‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫المع‬ ‫سكين‬

‫ً‬ ‫ٌ‬ ‫مباشرة في المدن‪.‬‬ ‫مغروس‬ ‫القصيدة َكر ٌ‬ ‫ْب‪،‬‬

‫قطعة معدن المعة‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫جليد‪ ،‬جرحٌ‬ ‫غامق‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫صلبة‪،‬‬ ‫القصيدة‬

‫ّ‬ ‫ثمة روائح مالبس ملقاة على األرض‪،‬‬

‫ّ‬ ‫ٌ‬ ‫متعدد األسطح‪.‬‬ ‫ماس‬

‫الحقيقة‪ ،‬فجأة‪ ،‬تضرب الريح صدري‪،‬‬

‫ً‬ ‫صوتا‪،‬‬ ‫القصيدة ليست‬

‫وأزهار غائبة‬ ‫أو ربما ّ‬‫أقل كآبة‪-‬‬

‫الليالي الكالحة تغمر غرفة نومي‪،‬‬

‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫رخام منحوت‪.‬‬ ‫متين –‬ ‫سي ٌ‬ ‫ّال – نهر آسيوي‪.‬‬

‫جلبة نهار يحترق لقربان يبحث عن العرّاف‬

‫طائر‪.‬‬ ‫عبور‬ ‫ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫طلقة‬ ‫إنها‬

‫قرع أشياء تنادي بال ر ّد‬ ‫ٌ‬ ‫واسم َعكر‪.‬‬ ‫حركة ال تهدأ‪،‬‬

‫القصيدة ليست وردة تذبل‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫أنها ٌ‬ ‫محنط‪.‬‬ ‫ألم‬

‫بداخلي‪ ،‬كآبة حاضرة‬

‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬

‫في األفق والتاريخ‪.‬‬


‫فن الشعر‬

‫الشاعر األميركي‪ :‬أرشيبالد ماكليش ‪1982 -1917‬م‬

‫ّ‬ ‫وصماء‬ ‫على القصيدة أن تكون محسوسة‬

‫على القصيدة أن تكون مساوية لـ‪:‬‬

‫بكماء‬

‫كاألنواط القديمة إلصبع اإلبهام‪،‬‬

‫ّ‬ ‫لكل تاريخ األسى‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫وورقة شجر ِة قيقب‪.‬‬ ‫فارغ‬ ‫مم ٌّر‬ ‫ّ‬ ‫للحب‬

‫لنافذة نمت عليها األشنات‪.‬‬

‫ُ‬ ‫كاءة عشب وفناران فوق البحر‪.‬‬ ‫ّات‬

‫كفاكهة ّ‬ ‫مكورة‪،‬‬ ‫ٍ‬

‫صامتة كعتبات حجريّة منهكة‬

‫على القصيدة أن تكون بال كلمات‬ ‫كتحليق الطيور‬

‫غير حقيقي‪.‬‬

‫‪ ‬‬

‫ليس على القصيدة أن تعني‬ ‫بل أن تكون‪.‬‬

‫٭‬

‫على القصيدة أن تكون ساكنة في وقتها‬

‫كما يصعد القمر‪،‬‬

‫ُ‬ ‫يطلق القم ُر‬ ‫طارحة‪ ،‬كما‬

‫األشجار حبيسة الليل عو ًدا عو ًدا‪،‬‬

‫طارحة‪ ،‬كما يختبئ القمر خلف أوراق الشتاء‬ ‫ذكرى وراء ذكرى‪ -‬العقل‬

‫على القصيدة أن تكون ساكنة في وقتها‬

‫كما يصعد القمر‬ ‫٭‬

‫‪43‬‬


‫مقال‬

‫حاتم الص َكر‬ ‫ناقد عراقي‬

‫في غياب الموهبة‪:‬‬ ‫مصنع لتفريخ األدباء!‬ ‫يتزايد في الغرب تيار انفتاح أبواب الفنون واآلداب‬

‫للكتابة دون شروط أو قواعد أو مؤهالت محددة‪ ،‬ما‬

‫فيصفون قوالب وأط ًرا معينة توقع مقلديها في البساطة‬

‫يتيح ألفراد يتخذون قرارًا أو يرغبون ‪-‬بحسب كليشهات‬

‫والهشاشة‪ ،‬ويصبحون مستنسخين للنماذج المتصورة‪،‬‬

‫أو معاهد أشبه بمصانع لتفريخ األدباء وفق نصائح‬

‫المراهقون وأنصاف األميين للتعبير عن مشاعرهم من خالل‬

‫الدعاية‪ -‬في أن يصبحوا كتابًا‪ ،‬أن ينتظموا في دورات‬

‫وتطبيقات ساذجة‪ ،‬كالوصفات السريعة لتعلم اللغات‬

‫في سبعة أيام من دون معلم‪.‬‬

‫يتزامن ذلك مع صعود موجات ما بعد الحداثة‬

‫‪44‬‬

‫زمني‪ ،‬وعبر مواد يتصور واضعوها أنها كافية للخلق واإلبداع‪،‬‬

‫أو بسببها في األحرى‪ ،‬وبتأثير النزعة الشعبوية التي‬

‫تستهدف تسطيح الفن والثقافة عمومً ا‪ ،‬بدعوى جعلها‬

‫جماهيرية وانتزاعها من نخبويتها وانغالقها‪ ،‬واالعتقاد‬ ‫بإمكان توليد المهارات والمواهب من دون استعداد‬ ‫نفسي سابق أو تهيئة ذاتية؛ لذا انتشرت في الغرب‬

‫مدارس ومواقع لتعليم الشعر والفن خارج األهداف أو‬

‫البرامج البيداغوجية التي تعتمد تعليمً ا منظمً ا‪ ،‬يساعد‬

‫في تمكين الموهوبين وتقوية قدراتهم بدراسات منظمة‬

‫شاملة‪ ،‬وتزويدهم بعدة الفن واألدب التي ال تعني‬ ‫بالضرورة أن يكونوا أدباء أو فنانين‪.‬‬

‫والمفارقة الكبرى تكمن في اختالط تلك المقترحات‬

‫يذكروننا بكتب الرسائل الجاهزة للمناسبات‪ ،‬التي يقتدي بها‬ ‫تلك الوسائط الجاهزة‪ .‬واألخطر هو ما تبع ذلك من ازدراء‬ ‫الموهبة‪ ،‬والحديث عنها كما لو كانت تهمة أو ً‬ ‫نقصا في‬ ‫المبدع‪ ،‬أو كأنها المقابل العدائي للثقافة‪.‬‬

‫جابر عصفور والترويج لبضائع متنافرة‬

‫أذكر استطرادًا أن الدكتور جابر عصفور كان يناديني‬

‫بالناقد الموهوب كلما جمعنا لقاء‪ .‬وكتب ذلك بخطه وهو‬

‫يهديني أحد كتبه‪ .‬كنت أعلم أن ذلك الوصف‪ -‬في المسكوت‬ ‫عنه من خطاب الدكتور عصفور‪ -‬هو أنني ال أعبأ بالجانب‬

‫النظري مثله وبعض الزمالء اآلخرين‪ .‬وذلك يعني أنه يربط‬

‫جهدي النقدي بدافع واحد هو الموهبة التي تقف من وجهة‬

‫نظره بمقابل أو بمعاداة النظرية التي يضمر تقسيمه هذا‬

‫انتماءه إليها‪ .‬والحق أن صلة الدكتور عصفور بالنظرية هو دور‬

‫تعريفي‪ .‬أي أنه يقدم خالصاتها للقراء ويع ّرف بروادها وكتبهم‬

‫الشعبوية مع الدعوة النظرية لمناهج ما بعد الحداثة‬ ‫ً‬ ‫فنونا كتابية‬ ‫إلعالء الهوامش والمهمشين‪ :‬سواء أكانت‬ ‫ً‬ ‫صنفا من الك ّتاب ‪ -‬النساء مثلاً كجنس‪ ،‬والسيرة‬ ‫أو‬

‫لذا لم ينعكس ذلك في دراساته ومقاالته التي تقوم على حرية‬

‫ونشارك في االهتمام المستحق ألدب الهوامش المقصاة‬

‫أو النقد‪ .‬أما كتبه ذات الحمولة النظرية وأكثرها ترجمة فهي‬

‫الذاتية كنوع أدبي‪ -‬وإذ نق ّر بضرورة نبذ التهميش‬

‫اجتماعيًّا بسبب الهيمنة التقليدية‪ ،‬ونؤمن بتنشيط‬

‫الفنون المقصاة ألسباب معروفة كالكتابة السيرية‪،‬‬

‫وما تقوم عليه نظرياتهم من منطلقات فكرية وممارسات‬

‫نقدية في لغاتهم وبأدب بلدانهم نموذجً ا للتطبيق أو اإلجراء؛‬

‫منهجية كافية لتقديم مقاربة للموضوع أو النص قيد الدرس‬

‫والقليل المؤلف في التنظير ليست إال انحباسً ا تامًّ ا فيما تقوله‬ ‫تلك النظريات دون حوار ندّ ي معها‪ ،‬يرفض ويقبل أو يقوم‬

‫فنحن ال نق ّر بأن يغدو ذلك مبررًا إللغاء شرط الموهبة‬

‫بتكييفها لتالئم مادة الدرس النقدي العربي‪ .‬وهذا جانب‬

‫والفنون عامة‪ .‬وال تقنعنا بجدوى تلك المصانع التي‬

‫إسقاطها على النصوص أو الموضوعات والظواهر؛ لتجربتها‬

‫الفردية‪ ،‬أو التقليل من شأنها في الكتابة اإلبداعية‬

‫يراد لها أن تفرخ الكتاب والفنانين بإخضاعهم لبرنامج‬

‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬

‫تشكو منه بعض كتابات الزمالء المع َّرفين بالنظرية دون‬ ‫عبر إجراءات منهجية تفضي إلى تحليل مدروس وتأويل‬


‫مقنع‪ .‬كنت أجد لهؤالء شبهًا بمن يصف عمل آلة كهربائية‬ ‫أو أجزاءها بدقة‪ ،‬استنادًا إلى تعليماتها المصاحبة لها‪ .‬ثم‬

‫يتركها دون تشغيل؛ لذا نجد في كتبهم تناقضات منهجية‬

‫كأنهم مروِّجو بضائع متنافرة‪ ،‬فيكتبون عن البنيوية والواقعية‬ ‫واألسلوبية في كتب متتالية من تأليفهم‪ .‬وهذا الهوس النظري‬ ‫يرادف النظر للنقد والشعر بكونهما حرفة ُتعَ َّلم‪ ،‬أو (صنعة)‬

‫بتعبير المصطلح النقدي العربي القديم الذي وضع وصايا‬ ‫وقواعد لصناعة الشعر وكتابته مثلاً ‪ ،‬لكنها تنتج ّ‬ ‫نظامين في‬ ‫الواقع يسبكون أشعارهم بطرائق تقليدية متشابهة‪ ،‬حين ال‬

‫األخطر هو ازدراء الموهبة‪ ،‬والحديث‬ ‫نقصا في‬ ‫عنها كما لو كانت تهمة أو‬ ‫ً‬ ‫المبدع‪ ،‬أو كأنها المقابل العدائي‬ ‫للثقافة‬

‫يمتلكون موهبة تمييز المفردة وتركيب العبارة‪ ،‬وال يمتلكون‬

‫بقراءته وتحديثه‪ ،‬باالستعانة بالموهبة الفردية للشاعر‪.‬‬ ‫حتى حين يدعو مسترسلاً إلى قراءة القصائد الخالدة منذ‬

‫ً‬ ‫وحديثا مدى‬ ‫من الشعر خاصة‪ ،‬إذ ناقش النقاد العرب قديمً ا‬

‫المتحصلة من القراءة أن تتوفر لدى الشاعر الموهبة‪ .‬ويذكرنا‬

‫طلب توفر األمرين‪ .‬فالموهبة تتمثل في قدرة الناقد على‬

‫مما تعلمه من الشعر اإلنجليزي» رغم ما قيل عن ثقافته‬

‫الخيال المطلوب والمؤثر الشعوري لقول الشعر‪.‬‬

‫وأعتقد أن هذه القضية‪ -‬موهبة الناقد أو ثقافته‪ -‬مُ رحَّ لة‬

‫حاجة الشعراء للموهبة والثقافة‪ .‬وكانوا معتدلين غالبًا في‬

‫التذوق واالختيار والفهم ثم الحكم على النصوص‪ ،‬فيما‬

‫تعضد الثقافة عمل الموهبة ودورها‪ ،‬فتكون عدة الناقد‬

‫هوميروس حتى المعاصرين فإنه يشترط بجانب تلك الثقافة‬

‫الدكتور لؤلؤة بأن السياب «كانت موهبته الشعرية أكبر بكثير‬

‫بسبب دراسته في قسم اللغة اإلنجليزية في دار المعلمين‬ ‫العالية ببغداد في األربعينيات‪ ،‬تلك الموهبة هي التي رأى‬

‫ًّ‬ ‫خاصا‬ ‫لغوية وعروضية وبالغية‪ ،‬وهي أمور تطلب استعدادًا‬

‫إليوت أن أمثالها قادرة على تجديد التراث وإعادته حيًّا‬

‫ترتبط بدورها بشروط الصناعة التي استخدموها للتدليل على‬

‫يكتف بمراجعها العالمية‪ ،‬بل اتخذ من واقعه ومحيطه‬ ‫ولم‬ ‫ِ‬

‫لغوية وبالغية وعروضية بجانب المقدرة الخيالية والتصوير‬

‫فالموهبة أعانته على التقاط تلك القيمة الشعرية للموروث‬

‫وتعلمً ا ودراية؛ لذا قرنوا ثقافة الناقد بالنصوص ذاتها التي‬

‫أهمية المعرفة العلمية في نظم الشعر‪ ،‬أي التوفر على عدة‬ ‫العاطفي‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وقد تنبه المنظرون الحداثيون ومن تالهم إلى ذلك؛‬

‫فأكدوا ضرورة التثقف والتزود بالمعرفة‪ ،‬بما يشبه صناعة‬ ‫الشعر العربية‪ .‬ولكن إغفال دور الموهبة أو الملكة األولية‬

‫أضر كثي ًرا في عافية الشعر والنقد معً ا‪.‬‬ ‫الشعر والموهبة‬

‫وقد قيل في السياب‪ :‬إنه يتوفر على موهبة فحسب‪ ،‬دون‬

‫ثقافة كافية‪ ،‬وإن مصادره الثقافية محدودة وقراءاته ال تشي‬ ‫بمؤثر معرفي‪ .‬وهذا الرأي ومن أبرز دعاته الشاعر العراقي‬

‫معاص ًرا‪ .‬وكذلك فعل السياب إذ توفر على الرموز التراثية‬

‫وثقافته العربية كثي ًرا من رموز المنطقة وإشاراتها الثقافية‪.‬‬

‫شعبيًّا أو دينيًّا أو أسطوريًّا‪ .‬موهبة ارتقت بشعره وأهَّ لته لفتح‬ ‫كبير في الشعرية العربية‪.‬‬

‫وليكن! فالسياب موهوب في كيفية امتصاص المرجع‬

‫الثقافي‪ .‬كتاب واحد أعاره إياه جبرا إبراهيم جبرا هو «الغصن‬

‫الذهبي» جعله ينصرف إلى األساطير والرموز ويكيّف الفكرة‬

‫عراقيًّا؛ ليعود بكنز من رموز العراق القديم بجانب ما أدخله‬ ‫في شعره من التراث العربي والعالمي؛ فارتبطت باسمه‬

‫أسطورة تموز وعشتار‪ .‬وكذلك رموزه األثيرة كأيوب والمسيح‬

‫وبروميثيوس وسيزيف وغيرها‪ .‬وقريبًا من أمثولة التحديث‬ ‫والفعل الشعري تأث ًرا بمصدر واحد مع استثمار الموهبة‬

‫الستيني سامي مهدي تعرض لنقاش مطول وردود‪ .‬من بينها‬

‫ما ذكره إليوت في مقالته تلك من أن (صاحب موهبة مثل‬

‫قال في معرض التنبيه على ما قدمه السياب في مجال الرمز‬

‫اإلغريق والرومان» أكثر مما أفاد كثيرون من مكتبة المتحف‬

‫ما فصل فيه الناقد والمترجم الدكتور عبدالواحد لؤلؤة إذ‬

‫واألسطورة مبك ًرا‪« :‬يرتبط تطويع اإلشارة الثقافية إلى صيغ‬

‫محلية‪ ،‬ال يقوى عليه سوى صاحب موهبة كبرى»‪ .‬في إشارة‬

‫لما أخذه السياب من إديث ِستويل في قصيدته «أنشودة‬ ‫المطر»‪.‬‬

‫ومستندً ا إلى مقالة إليوت ذات الشهرة واألهمية «التراث‬

‫والموهبة الفردية» حيث تعرض لضرورة تجديد الموروث‬

‫شكسبير أفاد من كتاب واحد ترجمه نورث بعنوان‪« :‬مشاهير‬ ‫البريطاني برمتها)‪.‬‬ ‫٭٭٭‬

‫وال أحسب تلك المصانع الوهمية قادرة اليوم على أن‬

‫تصنع موهبة تلتقط بحساسية ورهافة تلك المعارف الساندة‬

‫لشعرية النص أو للخطاب النقدي اللصيق بالنصوص والمقبل‬ ‫عليها بدقة وحس‪ ،‬تعضدهما المعرفة الالزمة‪.‬‬

‫‪45‬‬


‫دراسات‬

‫هل كان بورخيس‬ ‫يعيد كتابة‬ ‫فرويد؟‬ ‫‪46‬‬

‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬


‫حسن المودن‬

‫ناقد مغربي‬

‫على النقيض من تصريحات الكاتب‬

‫بال شك‪ ،‬هناك تمايزات بين االثنين‪ :‬فاألنا تحب أن تتمشى‬ ‫في بوينس آيريس‪ ،‬وقد تتوقف لتتأمل شي ًئا أثار انتباهها؛ إنها‬

‫تعيش وتترك نفسها لعيشها وحياتها؛ في حين أن بورخيس‬ ‫تحدث له أمور أخرى‪ ،‬فأخباره تصل عبر البريد والمؤلفات‪ ،‬وهو‬

‫األرجنتيني خورخي لويس بورخيس ونصوصه‬

‫يمارس األدب‪ ،‬ويظهر في قائمة األكاديميين أو في بعض معاجم‬

‫والقصصية باألخص‪ ،‬كان ينتصر للتحليل‬

‫كأنها مجرد تمثيل وتصنع‪ ،‬كما أنه معروف بطريقته المضللة في‬

‫النظرية(‪ ،)1‬نفترض أنه في نصوصه التخييلية‪،‬‬ ‫النفسي‪ ،‬وكان يتبنى السؤال الفرويدي «نسبة‬

‫األعالم‪ ،‬وهو معروف بطريقته السمجة التي تجعل األشياء تبدو‬ ‫تشويه األشياء وتهويلها‪ .‬لكن سيكون من المبالغة والمغاالة‪،‬‬ ‫كما يقول النص‪ ،‬أن نعد عالقتهما عدائية؛ ألن هناك أشياء‬

‫إلى سيغموند فرويد‪ ،‬مؤسس التحليل النفسي»‬

‫مشتركة ومتداخلة بينهما‪ :‬فهما معً ا يحبان الساعات الرملية‪،‬‬

‫أدبية وثقافية‪ ،‬فكرية وفلسفية‪ ،‬أوسع وأكبر‬

‫وطعم القهوة‪ ،‬ونثر ستفنسون‪ ..‬واألكثر من ذلك‪ ،‬فإن أدب‬

‫بشكل من األشكال‪ ،‬لكن من مرجعيات أخرى‪،‬‬

‫ربما من تلك التي يستند إليها فرويد‪ .‬وأقترح‬ ‫أن نعود في هذه المحاولة النقدية إلى بعض‬

‫نصوصه القصصية الشهيرة‪.‬‬

‫والخرائط‪ ،‬والفن الطباعي للقرن الثامن عشر‪ ،‬وأصول الكلمات‪،‬‬ ‫اآلخر‪ ،‬بورخيس‪ ،‬هو الذي يبرر وجود األنا‪ ،‬وإن كان غير قادر‬

‫على إنقاذها من ضياعها ومصيرها‪ ،‬فإن هناك بضع شذرات من‬

‫األنا لن تنجو إال من خالل ذلك الرجل‪ :‬بورخيس‪ ..‬كأن األديب هو‬ ‫آخر األنا‪ ،‬وكأن األدب هو موطن ذلك اآلخر‪ ،‬آخر األنا‪ ..‬وهو ال‬

‫أول هذه النصوص قصة قصيرة بعنوان‪:‬‬

‫يقول األنا كاملة‪ ،‬وال يمكنه أن يقول إال شذرات منها‪ ،‬لكنه وحده‬ ‫يقول شي ًئا عنها‪ ،‬وحده األدب يتحدث عن األنا‪ ،‬وعن آخر األنا‪.‬‬

‫واضحً ا‪ ،‬من العنوان نفسه‪ ،‬أن المبدأ الذي‬

‫ثانية‪ ،‬وهو ما يعني أن الذات هي األنا ونقيضها‪ ،‬وأن الذات‬

‫ليست بسيدة بيتها الخاص»‪ ،‬هو المبدأ نفسه‬

‫الذات‪ ،‬ولذلك يسميه النص بـ «ذلك الرجل» في أكثر من مكان‪،‬‬

‫بورخيس وأنا(‪)2‬؛ وفي هذا النص القصير‪ ،‬يبدو‬

‫تأسس عليه التحليل النفسي عند فرويد‪« :‬األنا‬

‫هناك «أنا» من جهة أولى‪ ،‬وهناك «بورخيس» من جهة‬

‫«هي نوع من التناشز واالنفصام»‪ ،‬واآلخر هو شيء يقع خارج‬

‫فالحياة التي تعيشها األنا في شوارع بوينيس آيريس غير الحياة‬

‫الذي تتأسس عليه هذه القصة القصيرة عند‬

‫التي يعيشها بورخيس على صفحات الجرائد وقوائم األكاديميين‬

‫جهة أولى‪ ،‬وهناك بورخيس من جهة ثانية‪،‬‬

‫لكن النص يقدم من الدالئل ما يكشف أن ما بينهما ليس عداء‪،‬‬

‫بورخيس‪ :‬في الذات الواحدة‪ ،‬هناك «أنا» من‬

‫ومعاجم األعالم‪ ،‬ويبدو كأن لكل واحد منهما حياته الخاصة؛‬

‫واالثنان هما ً‬ ‫معا يشكالن الذات‪ ،‬بشكل يصعب‬

‫بل إنه نوع من التماهي‪ ،‬واألنا‪ ،‬على الرغم من محاوالتها‪ ،‬فهي‬

‫معه‪ ،‬في النهاية‪ ،‬أن نحدد بالضبط مَ نْ كاتب‬

‫هذا النص القصصي‪« :‬حتى إني ال أعرف اآلن من‬

‫منا كتب هذه السطور»(‪.)3‬‬

‫لم تستطع التحرر من ذلك اآلخر‪« :‬أما أنا فسأبقى على الدوام في‬ ‫بورخيس‪ ،‬وليس في نفسي‪ ،‬إذا كنت في الحقيقة كائ ًنا ما»(‪،)4‬‬

‫فاألنا تذهب إلى حد الشك في وجودها بوصفها كائ ًنا حقيقيًّا؛‬

‫ذلك ألن وجودها ال يكون إال من خالل ذلك اآلخر‪ :‬فاألنا هي‬

‫اآلخر(‪ ،)5‬ألنه في النهاية‪ ،‬سيكون مصير األنا هو النسيان‪ ،‬ووحده‬

‫ذلك اآلخر سيبقى‪« :‬لقد انتهت األشياء جميعً ا إلى خسارة‪ ،‬سقط‬

‫كل شيء في النسيان أو في يد ذلك الرجل»(‪)6‬؛ ولهذا‪ ،‬فالكاتب‬

‫على النقيض من تصريحات بورخيس‬

‫ال يعرف‪ ،‬في النهاية‪ ،‬مَنْ كاتب هذا النص‪ :‬أهو أنا أم بورخيس أم‬

‫كان يتبنى السؤال الفرويدي لكن من‬

‫بل ربما أنها ليست بكاتبته‪ ،‬فاآلخر ربما هو الكاتب‪ ،‬لكنه الذي ال‬ ‫يمكنه أال يقول شي ًئا‪ ،‬ولو قليلاً ‪ ،‬عن األنا‪ ،‬لما بينهما من عالقات‪،‬‬

‫نفترض أنه في نصوصه القصصية‪،‬‬ ‫مرجعيات أخرى‪ ،‬أدبية وثقافية‪ ،‬فكرية‬ ‫وفلسفية‪ ،‬أوسع وأكبر ربما من تلك‬ ‫التي يستند إليها فرويد‬

‫هما معً ا؟ وهو ما يعني أن األنا ليست بالوحيدة التي تكتب النص‪،‬‬

‫فاألنا هي اآلخر‪ ،‬بما يعني أن اآلخر هو األنا‪ ،‬ولو جزئيًّا‪ .‬لكن‬ ‫الذي يبقى هو ذلك «الرجل اآلخر» الذي ينتمي إلى نظام الكتابة‬

‫واألدب‪ ،‬أما األنا التي تنتسب إلى نظام الواقع والعالم فإنك تنتهي‬

‫‪47‬‬


‫دراسات‬

‫اً‬ ‫وإجمال‪ ،‬يبدو بورخيس‪ ،‬في هذا النص‬ ‫إلى الموت والنسيان‪.‬‬

‫(لنقل‪ :‬الكتابة؟) شي ًئا آخر غير الواقع‪ ،‬وإن كانت تبدو كأنها تنقل‬

‫النفسي إلى مائدة النقاش‪ :‬ماذا عن األنا؟ أهي موحدة منسجمة‬

‫والكتابة‪ ،‬فإنه قد يتحول إلى شيء آخر؛ ولهذا‪ ،‬فالسارد الكاتب‬

‫على األقل‪ ،‬كأنه يعيد كتابة فرويد‪ ،‬كأنه يعيد أسئلة التحليل‬ ‫وسيدة بيتها أم أنها منقسمة منفصلة منفصمة؟ كيف يتأسس‬ ‫هذا االنقسام بين األنا واآلخر؟ ما دور اآلخر في تشكيل الهوية؟‬

‫ما دور الغيرية في بناء الذاتية؟ كيف يمكن أن أكون آخر بالنسبة‬ ‫إلى أناي؟ لكن بورخيس يدرج األدب في إطار هذه المسألة‪ :‬ما‬

‫عالقة األدب باألنا؟ أبإمكانه أن يقول األنا في كليتها وشموليتها‪،‬‬

‫أم أنه ال يقولها إال جزئيًّا من خالل بضع شذرات منها؟ أيقول األنا‬

‫انتظر لسنوات قبل أن يروي ما حدث‪ ،‬من أجل أن يقرأه اآلخرون‬ ‫على أنه قصة‪ ،‬ومن أجل أن يتحول إلى قصة بالنسبة إليه ً‬ ‫أيضا‪.‬‬ ‫لكن‪ ،‬وبشكل مفارق‪ ،‬فالنص من بدايته يوضح أن ما حدث قد‬ ‫حدث فعلاً وحقيقة‪ ،‬والسارد الكاتب يريد من القارئ أن يقتنع‬

‫بهذه الجزئية األساس‪ ،‬بنقطة انطالق ربما هي ضرورية إن أراد‬ ‫القارئ أن يتصور ما حدث‪ ،‬وأن يستوعب ما وقع‪ ،‬وأن يدرك‬

‫أم يقول اآلخر‪ ،‬آخر األنا؟ أليس اآلخر بالذي يبقى في النهاية بعد‬

‫أبعاد ما عاشه السارد الكاتب في ذلك الصباح من أيام شباط‬

‫وحده يحتفظ ولو بقليل من األنا‪ ،‬وهو ال يقولها في كليتها‪ ،‬لكنه‬

‫ما حدث وقت حدوثه؟ وماذا عن الحدث عندما ينتقل إلى نظام‬

‫أن تؤول األنا إلى النسيان؟ أال يعني ذلك أن األدب هو هذا الذي‬ ‫يحتفظ ربما بكثير عن آخرها؟‬

‫اً‬ ‫استشكال وبخاصة عندما نستحضر ًّ‬ ‫نصا آخر‬ ‫هي أسئلة تزداد‬

‫‪1969‬م‪ .‬لكن ما الذي حدث؟ ولماذا لم يعمل الكاتب على تدوين‬

‫التدوين والكتابة؟‬

‫عند بورخيس‪ ،‬عنوانه‪ :‬اآلخر(‪ .)7‬من بداية النص‪ ،‬يخبرنا السارد‬

‫ما حدث هو شيء ال يتصوره العقل‪ ،‬ولهذا كان السارد‬ ‫ً‬ ‫خوفا على عقله بالضبط‪ ،‬فالحدث‬ ‫الكاتب يريد أن ينسى ما عاشه‬

‫حدث عاشه هو نفسه‪ ،‬لكنه لم يقم بأي محاولة لتدوينه؛ في‬

‫ليالي األرق التي أعقبته»(‪ .)8‬وعلى الرغم من كل هذا الرعب‪،‬‬

‫أن األمر يتعلق بحدث وقع صباح أحد أيام شباط ‪1969‬م‪ ،‬وهو‬ ‫ذلك الوقت‪ .‬وهذا يعني أن الحدث عاشه السارد الكاتب‪ ،‬أي‬

‫‪48‬‬

‫ما وقع‪ ،‬فالواقع عندما يروى‪ ،‬أي عندما ينتقل إلى نظام التدوين‬

‫كان‪ ،‬على حد تعبيره‪« ،‬مرعبًا عندما وقع‪ ،‬وكان أكثر رعبًا في‬ ‫فالكاتب انتظر سنوات قبل أن يقرر نقل ما حدث رواية وكتابة‪.‬‬

‫واألكثر من ذلك‪ ،‬فهو يوضح أن أثر ما وقع بالنسبة إليه لن‬

‫بورخيس نفسه‪ .‬وهو يوضح أنه لم يقم بأي محاولة لتدوينه‪،‬‬ ‫ً‬ ‫خوفا على عقله؛ لكن بعد انقضاء‬ ‫ألنه كان يريد نسيان ما وقع‪،‬‬

‫يكون بالضرورة هو األثر نفسه بالنسبة إلى مجرد قارئ لهذا الذي‬

‫على أنه قصة‪ ،‬وثانيًا من أجل أن يتحول إلى مجرد قصة بالنسبة‬ ‫إليه ً‬ ‫أيضا‪ .‬وهذا يعني أن السارد الكاتب (بورخيس) يرى القصة‬

‫بالضرورة»(‪ .)9‬وذلك ألن الحدث كما عاشه الكاتب غيره عندما‬ ‫انتقل إلى نظام الرواية والتدوين‪ ،‬وأن أثره على من عاشه فعلاً‬

‫سنوات‪ ،‬قام بتسجيله على الورق‪ ،‬اً‬ ‫أول من أجل أن يقرأه اآلخرون‬

‫وقع‪« :‬لكن هذا ال يعني أن رواية ما حدث ستهز كل شخص آخر‬

‫وحقيقة غيره على من قرأه‪ ،‬وأن هناك ً‬ ‫فرقا بين نظام الواقع‬ ‫والعالم ونظام الكتابة والقراءة‪.‬‬

‫ما حدث هو أن خورخي لويس بورخيس كان يجلس فوق‬

‫أحد المقاعد التي تطل على نهر «تشارلز»‪ ،‬وكانت الساعة نحو‬ ‫العاشرة صباحً ا من أحد أيام فبراير ‪1969‬م‪ ،‬وكان هناك شخص‬ ‫جالس على الحافة األخرى من المقعد نفسه‪ ،‬ولن يمر وقت كثير‬

‫ليبدأ التعارف بينهما‪ ،‬وليكتشف خورخي لويس بورخيس أن هذا‬ ‫الشخص الجالس قريبًا منه اسمه خورخي لويس بورخيس ً‬ ‫أيضا‪،‬‬ ‫لكن مع وجود فارق‪ :‬فاألول يعيش بمبردج أواخر الستينيات‪،‬‬

‫والثاني يعيش بجنيف في العقد الثاني من القرن العشرين‪ ،‬أي‬ ‫أن األول أكبر س ًّنا من الثاني‪ ،‬كأن بورخيس يلتقي الذي كانه في‬ ‫زمن مضى وانقضى‪ ،‬فبورخيس األول يمثل المستقبل‪ ،‬في حين‬

‫نجد الثاني يمثل الماضي‪ .‬ودار حوار طويل بينهما‪ ،‬حول حقيقة‬ ‫ما يقع لهما وعالقته بالحلم‪ ،‬حول الماضي والمستقبل‪ ،‬حول‬

‫الكتب والكتابة‪ .‬وهو الحوار الذي كشف عن عدد من االختالفات‬ ‫بين االثنين حول الناس والقراءات واألذواق‪ ،‬بحيث يبدو أنهما‬

‫بورخيس‬

‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬

‫غير قادرين على التفاهم‪ ،‬على أن يفهم الواحد منهما اآلخر‪،‬‬ ‫فقد كانا «متشابهين جدًّا ومختلفين جدًّا»(‪ .)10‬وقبل أن يفترقا‪،‬‬


‫هل كان بورخيس يعيد كتابة فرويد؟‬

‫اتفقا على اللقاء في اليوم التالي «على المقعد نفسه الموجود‬ ‫في زمانين ومكانين مختلفين»(‪)11‬؛ لكن بورخيس األول لم يحضر‬ ‫في اليوم التالي‪ ،‬وال شك أن اآلخر لم يحضر ً‬ ‫أيضا‪.‬‬ ‫هذا ملخص ما حدث بإيجاز شديد‪ ،‬وأفترض أنه يطرح‪ ،‬من‬

‫منظور التحليل النفسي‪ ،‬ثالث مسائل‪:‬‬

‫(أ) هل األنا منقسمة متنافرة ال موحدة متجانسة؟‬

‫إعادة قراءة فرويد‪ ،‬بما يعمل على‬ ‫تجديد أسئلة التحليل النفسي لم يكن‬ ‫ليكون ممك ًنا إذا لم نأخذ بعين االعتبار‬ ‫أن بورخيس يعمل قبل ذلك على‬ ‫اشتراط مفهوم جديد للكتابة األدبية‬ ‫(ب) هل الزمن هو الذي يقسم األنا ويعددها ويغيرها؟‬

‫في أكثر من مكان في النص ما يؤكد أن انقسام األنا أمر‬ ‫ّ‬ ‫ومسلم به‪ ،‬فـ«ليس هناك من ال يجد نفسه مع نفسه‬ ‫معروف‬

‫نفترض أن الفكرة الرئيسة التي يدافع عنها بورخيس من خالل‬

‫أحد أيام فبراير ‪1969‬م‪ ،‬وجد نفسه مع نفسه‪ ،‬لكن ليس بمعنى‬

‫في حياة األنا ووجودها‪ ،‬في انقسامها وتعددها‪ ،‬في اختالفها‬

‫في اليقظة»(‪ ،)12‬وهذا ما حدث لبورخيس في ذلك الصباح من‬

‫أنه اختلى بنفسه‪ ،‬وليس بمعنى أنه يحدث نفسه في مونولوغ‬ ‫ً‬ ‫مختلفا في هذه الحالة‪ ،‬صاغه‬ ‫داخلي مثلاً ‪ .‬ذلك ألن هناك شي ًئا‬ ‫بورخيس بهذا الشكل االستثنائي‪« :‬عدا أننا اثنان»(‪ :)13‬فالجديد‬

‫هنا أننا أمام بورخيسين اثنين‪ ،‬هناك تشابه كبير بينهما‪ ،‬لكن‬ ‫هناك ما يفصل بينهما‪ ،‬ويجعل كل واحد منهما منفصلاً‬ ‫ً‬ ‫مختلفا‬

‫عن اآلخر‪ :‬هناك «األنا» وهناك «األنا اآلخر»‪ ،‬وبينهما اختالفات‬

‫كثيرة وعلى مستويات عديدة‪ :‬فعلى المستوى العائلي‪ ،‬وبالنسبة‬

‫إلى األنا‪ ،‬فاألم حية ترزق‪ ،‬واألب ميت والجدة ميتة كذلك‪،‬‬ ‫لكنهم كلهم أحياء بالنسبة إلى األنا اآلخر؛ وعلى المستوى‬ ‫الشخصي‪ :‬األنا كاتب مشهور ومحاضر في كمبردج‪ ،‬أما األنا‬

‫اآلخر فإنه ال يزال في بداياته‪ ،‬يقرأ رواية لدوستويفسكي التي‬ ‫لم تعد األنا تتذكرها؛ وواضح أن بينهما اختالفات كبرى في‬

‫تصور كل واحد منهما للقراءة والكتابة‪ :‬فاألنا اآلخر يتحدث عن‬ ‫كتاب يحتفل فيه بأخوة اإلنسان وهو موجه إلى الجمهور األعظم‬

‫من المضطهدين والمنبوذين‪ ،‬في حين يوضح األنا أن فكرة‬

‫«الجمهور» تجريدية‪ ،‬إذ ال وجود في الواقع إال لألفراد؛ واألنا‬

‫اآلخر يؤمن في األدب بابتكار استعارات جديدة أو اكتشافها‪ ،‬فيما‬ ‫يؤمن األنا بتلك االستعارات التي تحمل شبهًا حميميًّا واضحً ا‪،‬‬ ‫تلك االستعارات التي ارتضاها خيالنا ً‬ ‫سلفا (الشيخوخة والغروب‪،‬‬ ‫األحالم والحياة‪ ،‬انسياب الزمن والمياه)‪ .‬والخالصة أننا أمام‬

‫اثنين مختلفين جدًّا‪ :‬في واقعهما ومصيرهما‪ ،‬في أفكارهما‬ ‫وتصوراتهما‪ ،‬في قراءاتهما وكتاباتهما‪ .‬وكان الحوار بينهما صعبًا‪:‬‬

‫وإن كان بينهما كثير من التشابه‪ ،‬فإن كل واحد منهما يبدو كأنه‬ ‫«نسخة كاريكاتورية لآلخر»(‪ ،)14‬كأنه ال يمكن ألي واحد منهما أن‬

‫هذه القصة هي ضرورة االنتباه إلى الدور الكبير الذي يؤديه الزمن‬ ‫وتنافرها‪ .‬وهكذا‪ ،‬فالخالصة األساس التي انتهت إليها األنا هي‬ ‫أنها في زمن مضى وانتهى غيرها في الوقت الحاضر أو في الزمن‬

‫المستقبل؛ والعنصر األساس في هذه التغيرات التي تصيب األنا‪،‬‬ ‫فتجعلها منقسمة متعددة‪ ،‬هو الزمن‪ ،‬فهذا هو ما انتهت إليه األنا‬

‫بعد ذلك الذي حدث في فبراير ‪1969‬م لما التقت األنا اآلخر وهو‬ ‫يعيش زم ًنا آخر يعود إلى بداية القرن العشرين‪« :‬وإنسان األمس‬ ‫غير إنسان اليوم» كما قال أحد اإلغريق‪ ،‬وربما كنا نحن الجالسين‬ ‫على هذا المقعد في جنيف أو كمبردج دليلاً على ذلك(‪ .)15‬وليس‬

‫من دون داللة أن يكون ما فكرت فيه األنا قبل أن يحدث ما حدث‬

‫هو التفكير بالزمن من خالل صورة النهر عند هيراقليطس‪« :‬كنت‬

‫جالسا فوق أحد المقاعد التي تطل على نهر تشارلز‪ ..‬كانت المياه‬ ‫ً‬

‫الرمادية تدفع الطوف الجليدي‪ .‬وقد دفعني ذلك إلى التفكير‬

‫بالزمن صورة هيراقليطس قبل ألف‬

‫عام»(‪.)16‬‬

‫وهذه الفكرة التي‬

‫يصوغها بورخيس تخييليًّا هي نفسها الفكرة التي يوضحها في‬

‫نصوصه النظرية‪ ،‬ففي مقالته حول الزمن‪ ،‬نجده يقول‪:‬‬

‫«يشبه الزمن دائمً ا نهر هيراقليطس‪ ،‬فنحن دائمً ا نرجع إلى‬ ‫هذا المجاز القديم‪ ...‬فنحن دائمًا هيراقليطس يتأمل ّ‬ ‫ظله في مياه‬ ‫النهر‪ ،‬وهو يفكر في أن هذا النهر ليس هو إياه؛ ألن المياه فيه قد‬ ‫تغيرت‪ ،‬ويفكر ً‬ ‫أيضا في أنه ليس هيراقليطس نفسه؛ ألنه كان‬ ‫ً‬ ‫شخصا آخر بين اللحظة التي رأى فيها النهر في المرة الفارطة‬

‫وبين اللحظة الراهنة»(‪.)17‬‬

‫في المقعد نفسه‪ ،‬في اللحظة نفسها‪ ،‬يلتقي بورخيس الذي‬

‫نيف على السبعين وبورخيس الشاب الذي لم يبلغ العشرين‪ ،‬أي‬ ‫يلتقي الماضي والمستقبل‪ ،‬فاألنا هي مستقبل األنا اآلخر‪ ،‬وهذا‬

‫يكون صورة طبق األصل من اآلخر‪ ،‬ألن هناك وجه الشبه كما أن‬

‫األخير هو ماضي األنا‪ ،‬وبورخيس في اللحظة الراهنة هو االثنان‬

‫أنوات مختلفة وإن كان هناك شبه بينها‪ :‬أي أن األنا ليست وحدة‬

‫الممكن أن نقبل بإمكانية أن يلتقي أحدكم بذلك الشخص الذي‬

‫هناك وجه االختالف‪ ،‬وهو ما قد يعني أن هناك أنا تنقسم إلى‬

‫متطابقة ومنسجمة‪ ،‬موحدة ومتجانسة‪ ،‬بل إنها وحدة تنقسم‬ ‫وتنفصل‪ ،‬تتضاعف وتتعدد‪ ،‬تختلف وتتعارض‪ .‬فما تفسير ذلك‬ ‫ً‬ ‫انطالقا من النص نفسه؟‬

‫معً ا‪ .‬وبالنظر إلى طبيعة عقولنا وعقائدنا وإدراكاتنا‪ ،‬فإنه من غير‬

‫كانه في الزمن الماضي‪ :‬أن يلتقي في اللحظة نفسها شخصك في‬ ‫األلفية الجديدة وشخصك في عقد من زمن األلفية المنصرمة؛‬ ‫ألن عقولنا سلمت بأن ما مضى قد انتهى ومات‪ ،‬والواقع أن ليس‬

‫‪49‬‬


‫دراسات‬

‫هناك من دالئل على موته ونهايته‪ ،‬ألن األمر ال يتعلق إال بتصور‬ ‫للزمن سلمنا بأنه وحده الصحيح‪ ،‬ولهذا سيكتب بورخيس مقالة‬

‫نظرية بعنوان شديد الداللة‪« :‬دحض جديد للزمن»(‪ ،)18‬وفيها‬ ‫يوضح مفهومه لألنا وللزمن فيقول‪:‬‬

‫فكرت األنا كثي ًرا في هذا اللقاء الذي لم تروه ألحد‪ ،‬واعتقدت في‬

‫النهاية أنها وجدت المفتاح‪« :‬كان اللقاء حقيقيًّا‪ .‬أما اآلخر فكان يحلم‬

‫عندما تحاور معي»(‪ .)20‬وهذا يعني أن الحدث‪ ،‬حدث اللقاء‪ ،‬قد كان‬

‫«الزمن نهر يجرفني لكنني أنا الزمن‪ ،‬إنه نمر يفترسني لكنني‬

‫حقيقيًّا بالنسبة إلى األنا‪ :‬بورخيس في اللحظة الراهنة‪ ،‬وهو يشرف‬

‫يمكن أن ننتهي إليه هو أن مفهوم األنا ال يمكن تصوره من دون أن‬

‫العشرين بعد‪ ،‬فهو يعرفه جيدًا‪ ،‬ألنه عاشه فعليًّا؛ لكن األنا اآلخر‪،‬‬

‫هي التي يمكن أن تفسر لنا لماذا ينبغي لنا أن نجدد من مفهوماتنا‪:‬‬

‫ولذلك ال يمكن للقاء أن يكون حقيقيًّا بالنسبة إليه‪ ،‬ال يمكنه أن يكون‬

‫موحدة متطابقة منسجمة متجانسة‪ ،‬بل إنها على عكس ذلك‬

‫تمامًا»(‪ .)21‬ومعنى هذا أن ما حدث ال يمكن تفسيره إال بهذا المفتاح‪:‬‬

‫أنا النمر‪ ،‬إنه النار التي تلتهمني لكنني النار‪ ...‬فأنا بورخيس»(‪ .)19‬ما‬

‫نأخذ بعين االعتبار مفهوم الزمن‪ ،‬وأن تلك العالقة الجدلية بينهما‬

‫لماذا يكون من الضروري أن ننظر إلى األنا على أنها ليست وحدة‬

‫وحدة منقسمة متنافرة ال تعرف االنسجام والتجانس؟ ولماذا‬

‫على السبعين سنة بإمكانه أن يتعرف إلى نفسه لما كان شابًّا لم يبلغ‬

‫أي ذلك الـ«بورخيس» الشاب لم يعش بعد بورخيس السبعين سنة‪،‬‬

‫إال حلمًا‪ ،‬ولهذا تقول األنا‪« :‬لقد حلم بي اآلخر‪ ،‬ولكنه لم يحلم بي‬

‫الحلم‪ ،‬والحلم عند فرويد هو الطريق الملكي إلى الالوعي(‪ ،)22‬والذي‬

‫يكون من الضروري أن نأخذ بعين االعتبار أن األمس غير اليوم‪ ،‬وأن‬

‫يحلم في أثناء الحلم ليس هو األنا (الوعي؟)‪ ،‬بل إنه األنا اآلخر‪ ،‬فهل‬

‫أن اللحظة الراهنة هي الماضي والمستقبل معً ا‪ ،‬كما قد ال يكون‬

‫عند بورخيس وإن كان لها هذا البعد النفسي‪ ،‬فإن لها أبعادًا أخرى‪،‬‬

‫الماضي غير المستقبل‪ ،‬لكن الحاضر قد يكون هو ذلك كله‪ ،‬أي‬ ‫هذا الحاضر أي شيء‪ ،‬كأنه غير موجود‪ ،‬ما يوجد هو الماضي أو‬

‫المستقبل‪ .‬وفي األحوال كلها‪ ،‬فإن مفهومنا للزمن ولألنا يحتاج‬ ‫إلى التغيير‪ :‬فاألنا يغيرها الزمن باستمرار‪ ،‬لكنها هي الزمن نفسه؟‬

‫‪50‬‬

‫(ج) هل الحلم هو المفتاح؟‬

‫نقول مع التحليل النفسي‪ :‬إن اآلخر هو الالوعي؟(‪ )23‬لكن المسألة‬

‫ومنها باألساس البعد الزمني‪ :‬فاآلخر هو بورخيس الشاب الذي يحلم‬

‫بمستقبله‪ ،‬أي ببورخيس الشيخ‪ ،‬أي أن اآلخر هو الماضي الذي يحلم‬ ‫بالمستقبل؛ وربما أن هذه الفكرة تعاكس فكرة فرويد التي تقول‪ :‬إن‬

‫رأسا على عقب‬ ‫قلب فرضيات فرويد ً‬

‫هل أفترض أن بورخيس قد قرأ فرويد‪ ،‬وأنه قد أعاد كتابته بشكل من األشكال‪ ،‬بمعنى أنه‬

‫يسائله ويقوّمه ويطوره‪ ،‬فهو وإن كان ينطلق من الفرضية األساس في التحليل النفسي الفرويدي‬

‫بأن األنا ليست بسيدة بيتها الخاص‪ ،‬أي أنها ليست وحدة متطابقة‪ ،‬وأنها تنقسم إلى أنوات‬

‫متعددة وغير متجانسة كل التجانس‪ ،‬فإنه يلفت االنتباه إلى أبعاد أخرى للمسألة النفسانية‪،‬‬ ‫ويبدو كأنه يقلب بعض فرضيات فرويد رأسً ا على عقب‪ :‬الماضي هو الذي يحلم بالمستقبل وليس‬

‫المستقبل بحالم بالماضي؛ الحلم ليس بمجرد استعادة لما عاشته األنا في الماضي‪ ،‬ذلك ألن‬ ‫الحلم هو عالم آخر‪ ،‬هو مستوى آخر من الحياة والوجود‪ .‬وبورخيس بذلك كله‪ ،‬يبدو كأنه يرفض‬

‫تطبيق التحليل النفسي على األدب‪ ،‬لكنه يفضل تطبيق األدب على التحليل النفسي‪ ،‬بالمعنى الذي‬

‫بلوره أحد قراء بورخيس الناقد والمحلل النفسي الفرنسي المعاصر بيير بيار(‪ ،)25‬ذلك ألن األدب هو‬ ‫األقدر دومً ا على تجديد األسئلة والمفهومات والتصورات النفسانية لإلنسان ولغته وأدبه‪.‬‬

‫لكن إعادة قراءة فرويد‪ ،‬وإعادة كتابته‪ ،‬بما يعمل على تجديد أسئلة التحليل النفسي لم يكن‬ ‫ليكون ممك ًنا إذا لم نأخذ بعين االعتبار أن بورخيس يعمل قبل ذلك على اشتراط مفهوم جديد‬

‫للكتابة األدبية‪ .‬ألنه ال بد من تصور جديد لألدب يكون قادرًا على مقاربة جديدة لتلك األسئلة‬

‫النفسانية والفلسفية‪ .‬وقد رأينا أعاله‪ ،‬وبخاصة مع النص الثاني‪ ،‬كيف يتحدث بورخيس عن كتابة‪،‬‬ ‫وإن كانت تنطلق من الواقع اليومي المعيش‪ ،‬إال أنها سرعان ما تحلق عاليًا نحو فضاءات الخيال‬ ‫والرمز والغرابة وغير المعقول‪ .‬فالتفصيالت اليومية مادة أساس في الكتابة‪ ،‬لكن هذه األخيرة ال‬

‫تكتفي بالنسخ والتسجيل‪ ،‬وإنما تقوم بالنبش في أماكن ومسالك أخرى القتناص ذلك الغريب في‬ ‫واالجتماعي والتاريخي‪ .‬وتتقدم الرؤية‬ ‫الذهني‬ ‫واقعنا ووجودنا‪ ،‬ومساءلة قدرنا الكوني واشتغالنا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫التي تنسجها نصوص بورخيس استشباحية (فانطاسماغورية) لألنا والزمن‪ ،‬للوجود والحياة‪.‬‬

‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬


‫هل كان بورخيس يعيد كتابة فرويد؟‬

‫بورخيس يبدو كأنه يرفض تطبيق التحليل‬ ‫النفسي على األدب‪ ،‬لكنه يفضل تطبيق‬ ‫األدب على التحليل النفسي‬ ‫الحلم يحكي رغبة مكبوتة منسية‪ ،‬أي أن الالوعي يستعيد ً‬ ‫حدثا من‬

‫الماضي لم تنجزه األنا فعليًّا‪ ،‬وحصل إنجازه حلميًّا في زمن الحق؛‬

‫ذلك ألن بورخيس يقلب األدوار‪ :‬الماضي هو الذي يحلم بالمستقبل‬ ‫وليس العكس‪ ،‬الماضي هو الذي يحلم كأنه يريد أن يعرف مصيره‬

‫ومنتهاه ومستقبله‪ .‬وربما قد يتعلق األمر بشيء آخر‪ ،‬كأن تكون‬

‫تلك الفكرة عند فرويد بأن الالوعي ال يعرف الزمن هي التي يحاول‬ ‫بورخيس بلورتها وتطويرها؟ يبقى أن بورخيس يترك النافذة مفتوحة‬

‫أمام أسئلة مقلقة وغريبة دارت بين األنا واألنا اآلخر‪ :‬من الحالم ومن‬ ‫المحلوم به‪ :‬األنا أم األنا اآلخر؟ ما الفرق بين الحلم والعالم؟ ماذا لو‬

‫استمر الحلم ولم يتوقف؟ وهي أسئلة تمنح المسألة بعدًا وجوديًّا‪،‬‬

‫أي أن الحلم‪ ،‬مثل الواقع‪ ،‬هو مستوى آخر من الحياة والوجود‪ ،‬وال‬ ‫بد‪ ،‬يقول نص بورخيس‪« :‬أن نقبل بالحلم تمامًا كما نقبل بالعالم‬

‫وبأننا نولد ونرى ونتنفس»(‪.)24‬‬

‫هوامش‪:‬‬

‫اإلسباني مرسيديس بالنكو أنه من غير‬ ‫(‪ )1‬تلحظ الناقدة وأستاذة األدب‬ ‫ّ‬ ‫الممكن أن نميّز ما كان يعرفه بورخيس عن فرويد‪ ،‬فال تصريحاته‬ ‫وال أعماله النظرية تساعدنا على ذلك؛ لكن الشيء اليقين هو أن‬ ‫تلك اإلحاالت القليلة على التحليل النفسي في كتاباته تأتي مختزلة‬ ‫وسطحية ومتهكمة؛ ولمزيد من التفصيل‪ ،‬نحيل على دراستها‪:‬‬ ‫‪Mercedes Blanco : «Borges et l’aversion pour la‬‬ ‫‪psychanalyse», Savoirs et clinique, 2005 / 1,N : 6‬‬

‫(‪ )2‬بورخيس‪ ،‬خورخي لويس‪« :‬بورخيس وأنا»‪ ،‬ضمن مؤلف‪:‬‬ ‫سداسيات بابل‪ ،‬مختارات نقلها إلى العربية حسن ناصر‪ ،‬دار الكتاب‬ ‫الجديد المتحدة‪2013 ،‬م‪.‬‬ ‫(‪ )3‬نفسه‪ ،‬ص ‪.156‬‬

‫(‪ )4‬نفسه‪ ،‬ص ‪.156‬‬

‫(‪« )5‬األنا هي آخر» هي ً‬ ‫أيضا قولة مشهورة للشاعر أرتور رامبو في إحدى‬ ‫رسائله التي تعود إلى ‪ 15‬مايو ‪1871‬م؛ وهي عنوان كتاب ألحد أكبر‬ ‫المنظرين لألتوبيوغرافيا في العصر الراهن‪ :‬فليب لوجون في كتابه‪:‬‬ ‫األنا هي آخر‪ ،‬الصادر عن دار سوي بباريس سنة ‪1980‬م‪.‬‬

‫(‪ )6‬بورخيس‪ :‬نفسه‪ ،‬ص ‪.156‬‬

‫(‪ )7‬خورخي لويس بورخيس‪« :‬اآلخر»‪ ،‬ضمن‪ :‬كتاب الرمل‪ ،‬ترجمة‬ ‫سعيد الغانمي‪ ،‬اإلصدار الثاني‪ ،‬أزمنة للنشر والتوزيع‪ ،‬األردن‪،‬‬ ‫‪1999‬م‪.‬‬ ‫(‪ )8‬نفسه‪ ،‬ص ‪.14‬‬ ‫(‪ )9‬نفسه‪.‬‬

‫فمن الصعب في قصة بورخيس أن نعرف أيتعلق األمر بحكاية‬

‫واقعية حقيقية‪ ،‬أم أنها مجرد حلم أو استيهام‪ ،‬أيتعلق األمر‬ ‫بواقعة حدثت فعلاً في الزمن والمكان‪ ،‬أم أن األمر كله مجرد‬ ‫تهيؤات وتخيالت وأحالم؟ وكأن األمر يتعلق بلغز يحاول النص‬

‫التخييلي فك أسراره والوصول إلى حقيقته‪ ،‬لكنه بقي مفتوحً ا‬ ‫على كل االحتماالت من دون أن ينغلق على حقيقة ما على أنها‬

‫الحقيقة‪ ،‬وتبقى األسئلة مطروحة دون جواب‪ :‬هل حدث اللقاء‬ ‫فعلاً بين بورخيس الشيخ وبورخيس الشاب؟ هل من الممكن‬ ‫أن يلتقي الشاب والشيخ‪ ،‬بوصفهما كائنين منفصلين وإن كانا‬ ‫متشابهين‪ ،‬في المقعد نفسه‪ ،‬لكن كل واحد منهما يوجد في‬

‫تلك اللحظة بزمان ومكان مختلفين؟ هل األمر واقع أو حلم؟‬ ‫من الحالم ومن المحلوم به؟ ما الفرق بين الحلم والواقع؟‬ ‫أليس الحلم شكلاً آخر من الحياة والوجود؟‬

‫يبدو أن ذلك كله قد يقود إلى المزيد من األسئلة‬ ‫ً‬ ‫بعيدا بالتفكير‬ ‫والشكوك‪ ،‬إلى حد أن أنطونيو تابوكي قد ذهب‬ ‫البورخيسي عندما تساءل‪ :‬هل وجد بورخيس فعلاً ؟ أو أنه‬

‫مجرد اختراع من كتاب ومثقفين من األرجنتين‪ ،‬وأن حياته‬ ‫مجرد كتابة‪« :‬من المسموح لنا أن نقول‪ :‬إن خورخي لويس‬ ‫بورخيس هو شخصية من ابتداع شخص يحمل اسمه‪ ،‬لم يكن‬ ‫له وجود باعتباره هو»(‪.)26‬‬

‫(‪ )10‬بورخيس‪ :‬نفسه‪ ،‬ص ‪.19‬‬ ‫(‪ )11‬نفسه‪.‬‬

‫(‪ )12‬نفسه‪ ،‬ص ‪.16‬‬ ‫(‪ )13‬نفسه‪.‬‬

‫(‪ )14‬نفسه‪ ،‬ص ‪.19‬‬

‫(‪ )15‬نفسه‪ ،‬ص ‪.18‬‬

‫(‪ )16‬نفسه‪ ،‬ص ‪.14‬‬

‫(‪ )17‬بورخيس‪ :‬الزمن‪ ،‬ضمن مؤلف‪ :‬بورخيس صانع المتاهات‪ ،‬ترجمة‬ ‫وتقديم محمد آيت لعميم‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬البيضاء‪،‬‬ ‫بيروت‪2016 ،‬م‪ ،‬ص ‪.83‬‬

‫(‪ )18‬مقالة مذكورة ضمن حوار مع ألبرتو مانغويل‪ ،‬مترجم ومنشور‬ ‫ضمن مؤلف‪ :‬بورخيس صانع المتاهات‪ ،‬المذكور أعاله‪.‬‬ ‫(‪ )19‬نفسه‪ ،‬ص ‪.132 ،131‬‬

‫(‪ )20‬بورخيس‪ :‬اآلخر‪ ،‬ص ‪.20‬‬ ‫(‪ )21‬نفسه‪.‬‬

‫(‪ )22‬جان بيلمان نويل‪ :‬التحليل النفسي واألدب‪ ،‬ترجمة حسن المودن‪،‬‬ ‫المجلس األعلى للثقافة‪ ،‬القاهرة‪1997 ،‬م‪ ،‬وبخاصة الفصل الثاني‪،‬‬ ‫وعنوانه‪ :‬قراءة في الالوعي‪.‬‬

‫‪(23) Roland Chemama : Dictionnaire de la psychanalyse,‬‬ ‫‪ed. Larousse, Paris, 1993, p28.‬‬ ‫(‪ )24‬بورخيس‪ :‬اآلخر‪ ،‬ص ‪.15‬‬

‫‪(25) Pierre Bayard : Peut-on appliqué la littérature à la‬‬ ‫‪psychanalyse, ed. Minuit, Paris, 2004.‬‬ ‫(‪ )26‬أنطونيو تابوكي‪ :‬هل وجد بورخيس فعلاً ؟‪ ،‬ضمن مؤلف‪ :‬بورخيس‬ ‫صانع المتاهات‪ ،‬سبق ذكره‪ ،‬ص‪.251‬‬

‫‪51‬‬


‫دراسات‬

‫سوسيولوجيا الخطاب‬ ‫الشعري اإلحيائي‪..‬‬

‫ثالوث‬ ‫الذاكرة‬ ‫والتراث‬ ‫والهوية‬

‫‪52‬‬

‫آمال موسى‬

‫شاعرة تونسية‬

‫عرف الشعر العربي في العصر الحديث مدارس وتيارات واتجاهات عدة‪ ،‬ظهرت بشكل متعاقب منذ‬ ‫ً‬ ‫تاريخا مفصليًّا في تاريخ‬ ‫بداية عصر النهضة في الفضاء العربي اإلسالمي؛ لذلك‪ ،‬فإن عصر النهضة يمثل‬ ‫ً‬ ‫خصوصا أنه بعد عصور‬ ‫الشعر العربي ككل‪ ،‬وعاملاً مهمًّ ا في انبثاق النهضة األدبية في العصر الحديث‪،‬‬ ‫ازدهار الشعر العربي التي تعود إلى الشعر الجاهلي وصولاً إلى الشعر العباسي‪ ،‬شهدت الحياة األدبية‬ ‫العربية ً‬ ‫نوعا من الخمول والضعف‪ ،‬أصاب اللغة العربية والكتابة الشعرية والنثرية‪ ،‬ومس كذلك اتجاهات‬ ‫الثقافة الشعبية التي كانت تجنح إلى اإلنتاجات الهزلية والخرافية‪ ،‬الشيء الذي مثل بدوره سببًا أساسيًّا من‬ ‫أسباب ظهور النهضة األدبية في القرن التاسع عشر‪ ،‬وأكد الحاجة إليها‪ ،‬إذ النهضة مدلوليًّا تشير إلى حالة‬ ‫من التعارض مع ما سبق‪ ،‬وإلى طموح تجاوز حالة الوهن الحضاري ومالمحه الدالة عليه كافة‪.‬‬ ‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬


‫سوسيولوجيا الخطاب الشعري اإلحيائي‪ ..‬ثالوث الذاكرة والتراث والهوية‬

‫وهكذا يتضح لنا أن كل مقاربة للشعر العربي في العصر‬

‫الحديث‪ ،‬وبشكل خاص تلك التي تهتم بالمدارس الشعرية األولى‪،‬‬ ‫وتحديدًا مدرسة اإلحياء والبعث‪ ،‬إنما هي بالضرورة مقاربة تتنزل‬

‫في جزء من تحليلها ومن استنتاجاتها في إطار عصر النهضة‪ ،‬على‬ ‫أساس أن عوامل النهضة األدبية العربية‪ ،‬تساعدنا على فهم طبيعة‬

‫الخطاب الشعري اإلحيائي‪ ،‬وعلى تفسير مضامينه وخياراته الفنية‬ ‫الجمالية وتأويلها‪.‬‬

‫فشأن الشعر من منظور بنيوي وظيفي ماكرو‪-‬سوسيولوجي‪،‬‬

‫كشأن سائر مجاالت اإلبداع كافة‪ .‬فهو في أحد أهم وجوهه‪،‬‬

‫نتاج ظروف تاريخية واجتماعية‪ .‬وذلك من منطلق أن الشعر هو‬ ‫جزء من الفعل االجتماعي‪ ،‬وأحد الحقول االجتماعية المهمة‪،‬‬ ‫ويخضع في إنتاجه وتلقيه إلى عملية مركبة من التواصلية‬

‫والتفاعلية‪ .‬بمعنى آخر‪ ،‬ال ينبغي التعامل مع المنتوج األدبي‬ ‫ً‬ ‫منغلقا على نفسه‪ ،‬مترك ًزا فيها‪ ،‬وال يرتبط‬ ‫اإلبداعي «كما لو كان‬

‫بأي شيء خارجه»(‪ .)1‬فهو – أي الخلق الثقافي اإلبداعي ‪ -‬كما ذهب‬

‫إلى ذلك لوسيان غولدمان (‪ )Lucien Goldmann‬نتاج ذات‬ ‫جماعية‪ ،‬ويحمل في باطنه رسائل ومعاني كاشفة عن طبيعة ما‬ ‫يسميه عالم االجتماع الفرنسي بيير بورديو (‪)Pierre Bourdieu‬‬ ‫«نسق اإلحاالت المشتركة» للذات الجماعية‪.‬‬

‫أهم ما ميز النهضة العربية إلى‬ ‫جانب عنصر االتصال بالحضارة الغربية‬ ‫واالستفادة من بعض منجزاتها‬ ‫المادية‪ ،‬هو ظاهرة استعادة االرتباط‬ ‫الوثيق بالتراث العربي الثقافي في‬ ‫أزمنة ازدهاره وإشعاعه وقوته‬ ‫األدبية وانطالقها من مصر ولبنان‪ .‬ذلك أنه في التعرف إلى حيثيات‬ ‫عوامل النهضة العربية‪ ،‬تأصيل مهم لفهم الظاهر والباطن في‬ ‫الخطاب الشعري اإلحيائي‪.‬‬

‫اً‬ ‫أول‪ -‬اإلطار التاريخي العام وظروف النشأة‪ :‬عصر النهضة‬

‫يكاد يجمع مختلف الذين درسوا عصر النهضة العربية‬

‫على األهمية المركزية التي حظيت بها تاريخيًّا الحملة البونابرتية‬

‫الفرنسية على مصر في سنة ‪1798‬م‪ ،‬بل إنهم يؤرخون لعصر‬ ‫ً‬ ‫انطالقا من تاريخ دخول نابليون إلى مصر وذلك لما مثلته‬ ‫النهضة‬

‫تلك الحملة في جوانب منها من اتصال وتالقح ثقافيين ما بين‬ ‫الشرق وأوربا‪ .‬وأدى استمرار هذا االحتكاك بين الشرق والغرب‬

‫إذن ظهرت في العصر الحديث مدارس شعرية عربية متعددة‪،‬‬

‫على إثر الحملة الفرنسية على مصر إلى «ظهور النهضة المادية» ‪،‬‬

‫وتولدت المدرسة الرومنطيقية أو االبتداعية‪ ،‬وذلك في بداية‬

‫حدوث النهضة الثقافية‪ ،‬حيث كانت المطبعة آنذاك «وسيلة لنشر‬

‫افتتحتها مدرسة اإلحياء والبعث‪ ،‬ثم جاءت جماعة الديوان‪،‬‬

‫(‪)2‬‬

‫فكان دخول المطبعة إلى مصر من أكبر العوامل التي أسهمت في‬

‫القرن العشرين متأثرة برموز الرومنطيقية في اآلداب الفرنسية‬ ‫ً‬ ‫وأيضا ما‬ ‫واإلنجليزية‪ .‬وبعدها عرف الشعر العربي جماعة أبولو‪،‬‬ ‫اً‬ ‫وصول إلى مدرسة الواقعية في األدب‪ ،‬ويليها‬ ‫سمي أدب المهجر‬

‫الثقافية واألدبية على امتداد القرن التاسع عشر في البالد العربية‪،‬‬

‫من المدارس واالتجاهات الذي شهده الشعر العربي في العصر‬

‫بالخصوص التراث العربي فك ًرا وشع ًرا ونقدًا ونث ًرا‪ ،‬فكانت العامل‬

‫ظهور حركة الشعر الحر أو قصيدة التفعيلة‪ .‬ولعل هذا العدد‬

‫الحديث يكشف بدقة ووضوح عن حالة من الحراك الشعري‪ ،‬من‬ ‫أهم مظاهرها وعناوينها استعادة قوية لمكانة الشعر في الثقافة‬

‫التراث» ‪ ،‬ومواجهة الصدمة الحضارية ومظاهر االستالب الثقافي‬ ‫(‪)3‬‬

‫التي عبرت عنها البعثات التبشيرية‪ .‬فالمطبعة شكلت قاطرة النهضة‬ ‫وذلك لكونها مثلت األداة المادية لتأمين حركة نشر واسعة‪ ،‬شملت‬

‫الرئيس لظهور النهضة الثقافية واألدبية في مصر وبالد الشام‪،‬‬ ‫وانتقالها إلى عواصم عربية أخرى مشرقية ومغربية‪ .‬ويبرر الدكتور‬

‫والحضارة العربيتين‪ ،‬واستنهاض لوظيفة الشعر عند العرب‪ ،‬وتلبية‬ ‫اً‬ ‫مجال من مجاالت‬ ‫لحاجة اجتماعية وثقافية ملحّ ة للشعر‪ ،‬بوصفه‬

‫بالد العرب إلى مشارف التوعية وأغزرها عطاء أدبيًّا نظ ًرا إلى موقعها‬

‫وفي هذا اإلطار‪ ،‬فإننا اخترنا التوقف عند مدرسة اإلحياء‬

‫لهما من مكانة علمية وينابيع للمعرفة يقبل عليها العطاش من‬

‫الذكر أولى المدارس الشعرية العربية في العصر الحديث‪ .‬ويبدو‬

‫وقد شهد المغرب العربي ً‬ ‫أيضا في القرن التاسع عشر نهضة‬ ‫مهمة‪ ،‬تمثلت في تونس مثلاً في سياسة اإلصالحات التحديثية التي‬

‫النهضة‪ ،‬وأحد أبرز مضامينها ومسوغاتها‪.‬‬

‫والبعث التي ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر‪ ،‬وهي كما أسلفنا‬ ‫لنا أنه قبل التعرض إلى نشأة هذه المدرسة والتعرف إلى روادها‬ ‫ً‬ ‫وأيضا النقد الذي‬ ‫وأهم خصائصها وسماتها ومرجعياتها ومبادئها‪،‬‬

‫وجهته لها جماعة الديوان بزعامة محمود عباس العقاد‪ ،‬من المهم‬ ‫جدًّا االنطالق من العوامل التي لم تسهم في ظهور مدرسة اإلحياء‬

‫والبعث ذات الخطاب الشعري الذي تغلب عليه ظاهرة محاكاة‬ ‫الشعر العربي القديم‪ ،‬وإنما أسهمت كذلك في ظهور النهضة‬

‫علي شلق انطالق حركة النهضة في مصر ولبنان بأنهما «كانتا أسبق‬ ‫على شاطئ البحر المتوسط ملتقى حضارات الشرق والغرب‪ ،‬ولما‬

‫مختلف بالد العالم»(‪.)4‬‬

‫حصلت في عهد محمد الصادق باي الذي تولى الحكم في منتصف‬

‫القرن التاسع عشر (من ‪ 1859‬إلى ‪1882‬م)‪ ،‬فدخلت الطباعة إلى‬ ‫تونس‪ ،‬وأسست أول مطبعة حجرية سنة ‪1857‬م‪ ،‬وأنشئت مدرسة‬ ‫باردو الحربية في عهد أحمد باي (‪1855 -1837‬م) سنة ‪1840‬م‪ .‬فضلاً‬

‫عن إصدار دستور ‪1861‬م‪ ،‬وقبله وثيقة عهد األمان سنة ‪1857‬م‪،‬‬

‫‪53‬‬


‫دراسات‬

‫وتأسيس الوزير خير الدين باشا التونسي (‪1890 -1822‬م) مدرسة‬

‫نخبة طالئعية ترنو إلى اإلصالح ومواجهة الثقافة الوافدة بسالح‬

‫مجاالت التعليم والسياسة والفكر والثقافة‪ ،‬انبثاق حركة في القرن‬

‫لإلصالح والنهضة‪ ،‬يهيمن فيه عنصر التراث وتمجيد رموز الماضي‬

‫الصادقية سنة ‪1875‬م‪ .‬وكان من نتاج هذا الحراك اإلصالحي في‬ ‫التاسع عشر عرفت باسم «الشعر العصري»‪ ،‬وكان من أعالمها‬

‫العربي المزدهر وإبداعاته في مجاالت القول الشعري والنثري‬

‫محمد الشاذلي خزندار (‪1954 -1881‬م)‪ .‬وبناء على هذه المعطيات‬

‫القرن العشرين مع بداية االحتالل الفرنسي واالنتداب البريطاني‬

‫المؤسسين محمد السنوسي (‪1900 -1851‬م) ومن أبرز شعرائها‬ ‫مجتمعة‪ ،‬يمكننا االستنتاج أن العواصم العربية‪ ،‬وإن كان بشكل‬

‫متفاوت ومختلف‪ ،‬كانت قد اتصلت بمظاهر النهضة وعواملها‬ ‫وتفاعلت معها ً‬ ‫طبقا لآلليات والمضامين نفسها‪ .‬وهنا نلحظ أن أهم‬

‫ما ميز النهضة العربية إلى جانب عنصر االتصال بالحضارة الغربية‬

‫واالستفادة من بعض منجزاتها المادية‪ ،‬هو ظاهرة استعادة االرتباط‬

‫الوثيق بالتراث العربي الثقافي في أزمنة ازدهاره وإشعاعه وقوته‪.‬‬ ‫استدعاء التراث‬

‫ً‬ ‫خصوصا في أواخر القرن التاسع عشر وبداية‬ ‫والفكري والديني‪،‬‬ ‫للبالد العربية اإلسالمية‪ ،‬فتدعم بذلك الطابع االنكفائي للنهضة‬

‫ً‬ ‫خصوصا في أطوارها األولى‪ ،‬وبالتوازي مع النهضة األدبية‪،‬‬ ‫العربية‬ ‫تولدت النهضة الفكرية بزعامة جمال الدين األفغاني ومحمد عبده‪،‬‬

‫حيث ظهر تيار الوعي الفكري الديني إلنقاذ العالم اإلسالمي من‬ ‫االستعمار‪ .‬إذن كان القرن التاسع عشر عصر النهضة العربية بامتياز‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫صادقا وتعبي ًرا‬ ‫ترجمانا‬ ‫ولعل الجانب األدبي من هذه النهضة‪ ،‬كان‬

‫متماهيًا إلى حد بعيد مع الظروف التاريخية والمالبسات االجتماعية‬ ‫والثقافية والسياسية التي أدت إلى انبثاق النهضة العربية‪.‬‬

‫ويبدو لنا فعل استدعاء التراث واعيًا وتوجيهيًّا‪ ،‬ويعبر عن‬

‫يبدو لنا أن مدرسة اإلحياء والبعث التي ظهرت في أواخر القرن‬

‫العربية‪ .‬وهو ما يعني أن ظاهرة العودة إلى التراث التي هيمنت‬

‫المدارس الشعرية في العصر الحديث في عالقة تكاد تكون عضوية‬

‫اختيار عقالني ذي أهداف وأبعاد متصلة بالذاتية الثقافية والحضارية‬ ‫على حركة الطباعة والنشر واإلنتاج الفكري واألدبي‪ ،‬إنما هي في‬ ‫األساس آلية دفاعية ضد ثقافة اآلخر‪ ،‬وخوف حضاري من الذوبان‬

‫‪54‬‬

‫التراث إلى اجتماع عوامل النهضة‪ ،‬التي انطوت على تصور مخصوص‬

‫واالضمحالل‪ .‬فنحن أمام رد فعل ثقافي‪ ،‬يرمي إلى التمسك بالهوية‬ ‫الثقافية واستحضار الذاكرة الحضارية‪ ،‬كآليات دفاع وهجوم في‬

‫الوقت نفسه ضد الغزو الثقافي والسياسي األجنبي‪ .‬وهو ما يفسر‬ ‫لنا‪ ،‬لماذا أخذت النهضة في نسختها العربية مسؤولية بعث مشاعر‬

‫الهوية العربية‪ ،‬وتدارك الواقع الثقافي واالجتماعي المتقهقر بسبب‬

‫التاسع عشر‪ ،‬أي بعد قيام دعائم النهضة األساسية‪ ،‬وذلك كأولى‬

‫بظاهرة االنكباب على التراث تمجيدًا واقتفاء آلثاره التي استحوذت‬ ‫على شواغل حركة النشر في القرن التاسع عشر في مصر وبالد‬

‫الشام‪ .‬لقد عمدنا إلى تخصيص حيز كبير من هذه المقدمة لتناول‬ ‫اإلطار التاريخي العام الذي أنتج النهضة األدبية العربية العتقادنا‬ ‫العميق بأن مدرسة اإلحياء والبعث أو كما يسميها بعض الدارسين‬

‫مدرسة النهضة الشعرية‪ ،‬هي نتاج عصر النهضة العربية وثمرة‬ ‫من ثمارها‪ ،‬ومرآة يمكن في ضوئها قراءة الواقع العربي في تلك‬

‫سياسة التتريك التي اتبعتها الدولة العثمانية‪ ،‬والضعف الذي الزم‬

‫الحقبة من جوانبه االجتماعية والنفسية والثقافة كافة‪ .‬ناهيك عن‬

‫مصر حكام ال يحسنون العربية منذ الحكم العثماني بصورة خاصة‬

‫اإلحيائية بالذات‪ ،‬وكيف أنها نقلت التصور السائد الذي يربط بين‬

‫اللغة العربية واألدب في العصر العثماني حيث «اختلف على حكم‬

‫مما حال دون وجود شاعر أو أديب يتمتع بموهبة متميزة لعدم توفر‬ ‫العوامل الضرورية لنشوء الفكر والثقافة واألدب»(‪.)5‬‬

‫ولقد أدى ازدهار حركة الطباعة والنشر‪ ،‬وإنشاء دار الكتب‬ ‫المصرية وجمعية المعارف ومجمع اللغة العربية‪ ،‬فضلاً عن ظهور‬

‫حركات اإلصالح اإلسالمية والجمعيات واألحزاب السياسية‪ ،‬وبروز‬

‫إننا أمام مدرسة شعرية مفتونة‬ ‫بمفهوم الفحولة الشعرية‪ ،‬فكان أن‬ ‫عمد رموزها إلى تمثل تجارب الشعراء‬ ‫القدامى ومعايشة فروسيتهم‬ ‫واستدعاء ذواتهم الشعرية والتلبس‬ ‫بها من جديد‪ ،‬وذلك لما يرمزون إليه‬ ‫من قوة الحضارة العربية‬ ‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬

‫إدراك كيف كان ذلك الواقع متحكمًا في بروز هذه المدرسة الشعرية‬ ‫تحقق النهضة والعودة إلى التراث وإحيائه‪ .‬فال شك في أن ألحداث‬ ‫العصر أثرها في المعجم الرمزي اإلحيائي‪ ،‬بوصفها محددة للسياق‬ ‫اللفظي الشعري بشكل من األشكال‪ .‬فضلاً عما يعبر عنه الباحث‬

‫إبراهيم السعافين بالموقف النفسي للشاعر من الحياة االجتماعية‬

‫ومدى انغماسه في جانب من جوانبها‪ ،‬وذلك من منطلق أن هذا‬

‫الوقف هو نتاج تفاعل مع أحداث العصر بغض النظر عن طبيعة هذا‬ ‫التفاعل(‪ .)6‬فكيف نعرف مدرسة اإلحياء والبعث؟ ومن أهم رموزها؟‬

‫وما أهم المبادئ التي قامت عليها‪ ،‬والخصائص التي ميزت المدونة‬ ‫العامة لرواد ورموز المدرسة اإلحيائية في قول الشعر؟‬

‫ثانيًا‪ -‬الخطاب الشعري اإلحيائي‪ :‬الخصائص والمضامين‬

‫يعد الشعر اإلحيائي مدرسة شعرية كالسيكية جديدة‪،‬‬

‫ظهرت في عصر النهضة األدبية العربية في أواخر القرن التاسع‬ ‫عشر‪ ،‬وامتدت إلى الربع األول من القرن العشرين‪ .‬رائدها األول‬


‫سوسيولوجيا الخطاب الشعري اإلحيائي‪ ..‬ثالوث الذاكرة والتراث والهوية‬

‫الشاعر المصري محمود سامي البارودي‬ ‫(‪1839‬هـ‪1904/‬م) الذي أشاد عميد األدب‬ ‫العربي طه حسين بموهبته قائلاً ‪« :‬أصبح‬ ‫ًّ‬ ‫فذا من حيث إنه استطاع أن يرد إلى الشعر‬ ‫العربي من القوة وجزالة اللفظ ورصانة‬ ‫األسلوب ودقة المعنى ما كان قد بعد‬

‫به العهد وطالت عليه القرون»(‪ .)7‬لذلك‪،‬‬

‫فإن هذه الحركة الشعرية مصرية المولد‬ ‫ً‬ ‫سابقا‬ ‫والنشأة‪ ،‬وهو ما يدعم ما ذهبنا إليه‬ ‫من رصد للعالقة بين بداية عصر النهضة‬

‫محمود سامي البارودي‬

‫خليل مطران‬

‫العربية في مصر وبالد الشام وظهور مدرسة اإلحياء والبعث‪ ،‬بعد‬

‫‪1944‬م) من السعودية ومحمد الشاذلي خزندار (‪1954 -1881‬م)‬

‫أسبابها السياسية والثقافية في مصر وباقي العواصم العربية في‬

‫وأحمد علي الشارف ( ‪1959-1872‬م) من المغرب العربي ‪.‬‬

‫أن تحققت أسباب النهضة األدبية في جوانبها المادية‪ ،‬وفي تراكم‬ ‫ذلك التاريخ‪ .‬والالفت لالنتباه أن االتجاه اإلحيائي الشعري قد عبرت‬

‫عنه تسميات عدة‪ ،‬يصب جميعها في الداللة ذاتها والتوصيف‬

‫نفسه‪ .‬فقد أطلق عليها الدارسون قرابة خمس تسميات وهي‪:‬‬ ‫مدرسة اإلحياء والبعث‪ ،‬ومدرسة اإلحياء والتراث‪ ،‬والمدرسة‬ ‫ً‬ ‫وأيضا‬ ‫االتباعية اإلحيائية‪ ،‬والمدرسة االتباعية في الشعر العربي‪،‬‬ ‫مدرسة النهضة‪.‬‬

‫ومحمد غريط (‪1949 -1880‬م) وأحمد رفيق المهدوي (‪1960-1898‬م)‬ ‫(‪)9‬‬

‫ال شك في أن قائمة شعراء اإلحياء أطول مما ذكرنا‪ ،‬وأن لها‬

‫كشأن جميع المدارس الشعرية روادها المؤسسين ورموزها األشهر‬

‫والمنتسبين إليها تحت راية مبادئها الشعرية‪ ،‬واألقل شهرة من‬ ‫الرموز الكبار‪ ،‬لكن المهم حسب تقديرنا هو أن مدرسة اإلحياء‬

‫هي تصور مخصوص للعملية الشعرية وللشعر‪ ،‬نجد صداه حتى‬

‫ونلحظ من خالل هذه التسميات أن توصيف المدرسة‬

‫في الشعر العربي الراهن‪ .‬بمعنى آخر‪ ،‬إن ظاهرة اإلحياء بصفتها‬ ‫تمثيلاً لموقف ثقافي حضاري‪ ،‬ولعالقة تقوم على تمجيد الماضي‬

‫واالتباع‪ .‬وكلها مفاهيم في تواصل داللي‪ ،‬وتشير إلى سجل من‬

‫الشعر‪ ،‬باعتبار أن الشعر هو تفاعل بين الفكر والمعرفة وللنظرة‬

‫ينحصر أساسً ا في مفاهيم أربعة هي اإلحياء‪ ،‬والبعث‪ ،‬والتراث‪،‬‬ ‫الرموز والمعاني المتقاربة المترادفة؛ بل إن كل المفاهيم حركية‬

‫(اإلحياء‪-‬البعث–االتباع) تجسد حركتها وفعلها في نحت عالقة‬

‫والحنين إليه‪ ،‬هي تعبير عن طبيعة الفكر المنتج لذلك النمط من‬ ‫إلى العالم واألحاسيس معً ا‪ .‬ومما تتميز به مدرسة اإلحياء والبعث‬

‫اعتمادها المحاكاة‪ ،‬وهي خاصية تفيد التقليد الذي تواتر في‬

‫تفاعلية إيجابية مع التراث الشعري العربي‪ .‬وال تفوتنا اإلشارة‬

‫القصيدة اإلحيائية‪ ،‬وهي القصيدة التي سعت إلى محاكاة منوال‬

‫ليس عامًّا‪ ،‬بل هو اتصال انتقائي‪ ،‬يوجه بوصلته تحديدً ا في اتجاه‬ ‫التراث العربي الذي أُنتج في عهود ازدهار الشعر العربي وأوج‬

‫ونظام القافية الواحدة والتمسك باعتماد البحور الشعرية الخليلية‬ ‫المعروفة‪ .‬وفي الحقيقة‪ ،‬فإن ظاهرة محاكاة عمود الشعر القديم‪،‬‬

‫وإذا كان جميع دارسي مدرسة اإلحياء والبعث الشعرية يقرون‬

‫المدرسة‪ ،‬وسبب محدوديتها في مجال اإلضافة الشعرية الكبيرة في‬

‫إشارات صريحة تبين أن بدايات االتجاه اإلحيائي كانت مع الشعراء‬

‫ال عن إبداع‪ ،‬يجمع بين الوصل والتجاوز‪ .‬فالطابع المحافظ لمدرسة‬

‫في هذه الجزئية إلى أن اتصال مدرسة الشعر اإلحيائي بالتراث‬

‫قوته ونهضته اإلبداعية‪.‬‬

‫بأن محمود سامي البارودي رائدها‪ ،‬فإننا في الوقت نفسه نعثر على‬ ‫علي الليثي وعبدالله فكري وعائشة التيمورية‪ .‬أما أبرز شعراء مدرسة‬ ‫النهضة الشعرية‪ ،‬فنذكر منهم أمير الشعراء أحمد شوقي (‪-1869‬‬ ‫‪1932‬م) ومحمد حافظ إبراهيم (‪1932 -1872‬م) من مصر وشكيب‬

‫أرسالن (‪1946 -1869‬م) وخليل مطران (‪1949 -1872‬م) وعمر أبو ريشة‬

‫(‪1990– 1910‬م) وسليم الزركلي (‪1989-1905‬م) ومحمد البزم (‪-1887‬‬

‫‪1955‬م) وعدنان مردم بك (‪1989-1917‬م) من بالد الشام‪ ،‬ومعروف‬ ‫الرصافي (‪1945-1875‬م) وأحمد الصافي النجفي (‪1977- 1897‬م)‬

‫وجميل صدقي الزهاوي (‪1936- 1863‬م) من العراق‪ ،‬وأسماء أخرى‬

‫ذات بصمة في شعر اإلحياء من اليمن(‪ )8‬ومحمد بن عثيمين (‪-1854‬‬

‫أغراض الشعر العربي القديم ومضامينه والمحافظة على الوزن‬

‫تبدو مهيمنة بقوة على مدونة اإلحيائيين‪ ،‬وهي السمة البارزة لهذه‬

‫الوقت نفسه‪ .‬ذلك أن المحاكاة في حد ذاتها‪ ،‬تنم عن تقليد واتباع‬

‫اإلحياء ومحاكاتها السلبية غالبًا للقدامى‪ ،‬جعلت سهام النقد تطول‬ ‫ً‬ ‫أحيانا ومبالغ فيه في أحايين أخرى‪.‬‬ ‫رموزها بشكل موضوعي‬ ‫ويتجلى التأثير القوي للشعر العربي القديم في أشعار المدرسة‬

‫اإلحيائية في مستويات عدة‪ ،‬تشمل المعجم والبالغة واإليقاع‬ ‫وغيرها من القوالب التعبيرية الشعرية المتواترة في الشعر العربي‬ ‫القديم والمعبرة عن فضائه السوسيولوجي والسيميائي ولحظته‬

‫التاريخية‪ ،‬حيث يطغى تقليد القصيدة القديمة ومجاراتها في نمط‬ ‫تعبيرها سواء في غرض الغزل أو في ظاهرة البكاء على األطالل‪ .‬فضلاً‬

‫عن امتداد أثر الشعر العربي القديم في مستوى التجربة وموضوع‬

‫‪55‬‬


‫دراسات‬

‫القصيدة ومستوى مقروئيتها وتأثيرها في‬

‫المتلقي‪ .‬فعلى مستوى المعجم‪ ،‬يشير‬

‫صالح لبكي إلى وصف الطلول واإلبل‪،‬‬ ‫وتواتر ظواهر االستعارة والتشبيه والنزوع‬

‫إلى الزخرف اللفظي(‪ .)10‬ومن جهته يذهب‬ ‫الدكتور إبراهيم السعافين إلى أن شعراء‬ ‫اإلحياء كانوا يميلون إلى األشعار القديمة‬ ‫ويؤثرون شعر األمراء الفرسان‪ ،‬كما يميلون‬

‫إلى شعر الفخر والبطولة والحكمة(‪ .)11‬بل‬

‫يذهب هذا الناقد إلى القول‪ :‬إنهم عاشوا‬

‫«بمزاج القدماء ومثلهم العليا وكان الفرد «النمطي» النموذجي هو‬ ‫الذي يستولي على اهتماماتهم»(‪.)12‬‬

‫االفتتان بمفهوم الفحولة الشعرية‬

‫إننا أمام مدرسة شعرية مفتونة بمفهوم الفحولة الشعرية‪،‬‬

‫فكان أن عمد رموزها إلى تمثل تجارب الشعراء القدامى ومعايشة‬

‫فروسيتهم واستدعاء ذواتهم الشعرية والتلبس بها من جديد‪،‬‬

‫وذلك لما يرمزون إليه من قوة الحضارة العربية‪ .‬ومن ثمة‪،‬‬

‫تكون المحاكاة في حد ذاتها تلبية لحاجة نفسية لدى شعراء‬

‫‪56‬‬

‫عصر النهضة عمومً ا ومدرسة اإلحياء والبعث تحديدً ا‪ .‬بل إنها‬

‫محاكاة مفكر فيها ومستندة إلى معرفة وتكوين(‪ ،)13‬ذلك أن‬

‫المحاكاة ‪ -‬كما حددها الفرنسي عالم النفس االجتماعي غابريال‬

‫تارد (‪ -)Gabriel Tarde‬نوعان‪ :‬محاكاة ساذجة أو سطحية‪،‬‬ ‫ومحاكاة عالمة‪ ،‬إن صح التعبير‪ .‬والظاهر أن التقليد يمثل خاصية‬

‫معروف الرصافي‬

‫عمر أبو ريشة‬

‫إن تركيزنا على استحداث مدرسة اإلحياء‬ ‫والبعث لالتجاه الوطني في الشعر ال‬ ‫نقصد منه الغض من قيمة اإلضافات‬ ‫الشعرية األخرى‪ ،‬بقدر ما أردنا به أن نبين‬ ‫تأثير هذا االستحداث في تحقيق نقلة‬ ‫مهمة في الخطاب الشعري اإلحيائي‬ ‫معارضات شعرية كثيرة‪ .‬كما تعد ً‬ ‫أيضا قصيدة البردة التي كتبها‬ ‫(‪)15‬‬

‫البوصيري في مدح الرسول ﷺ ومنها ذاع صيته الشعري‪ ،‬من أكثر‬

‫القصائد التي عورضت في الشعر العربي‪ .‬لقد ازدهر فن المعارضات‬ ‫الشعرية في العصرين األموي والعباسي والقى رواجً ا استثنائيًّا‬ ‫في األشعار األندلسية‪ .‬لذلك‪ ،‬فقد مثلت المعارضات الشعرية ف ًّنا‬

‫شعريًّا يثبت من خالله الشاعر العربي تمكنه من فن الشعر وقدرته‬

‫على التميز والمباراة الشعرية والتفوق وإثبات الفحولة الشعرية‪.‬‬

‫أساسية من خصائص القاموس اإلحيائي اللفظي والفني‪ ،‬الشيء‬ ‫الذي جعل الدارسين للخطاب اإلحيائي بشكل عام‪ ،‬يرون مثلاً في‬

‫وهو ما يعني أن إحياء فن المعارضات الشعرية جزء ال بد منه في‬

‫من الضمور على مستوى اإلبداع‪ .‬وقد اختصر الناقد جابر عصفور‬

‫وكي يتسنى لنا فهم أهمية المعارضات الشعرية في مدرسة‬

‫تعامله مع الصورة الفنية‪ ،‬بوصفها أساس الشعر والشعرية ً‬ ‫نوعا‬

‫عملية محاكاة أبهى عصور الشعر العربي القديم‪.‬‬

‫اإلحياء والبعث‪ ،‬قد يكون من المهم تحديد مفهومها وشروطها‪.‬‬

‫هذا الضعف في أربع خصائص تميز طبيعة الصورة الفنية عند‬ ‫اإلحيائيين وهي اً‬ ‫أول‪ :‬التفكك والتناقض‪ ،‬وثانيًا الجمود واإلشارية‪،‬‬

‫يحدد الباحثان في مجال نقد الشعر عبدالرؤوف زهدي وعمر‬

‫ومن أهم ما اشتهر به أعالم هذه المدرسة هو إنتاجهم‬

‫والمعاظمة والمشابهة والمحاكاة»(‪ .)16‬وتقتضي المعارضة الشعرية‬

‫ضمن عملية بعث القصيدة القديمة وإحياء أبرز نماذج شعراء العصر‬

‫من القوافي فيعجب بها شاعر آخر بسبب من الصياغة المتميزة أو‬

‫ً‬ ‫وثالثا المبالغة واالفتعال‪ ،‬ورابعً ا النمطية والتعميم(‪.)14‬‬

‫للمعارضات الشعرية‪ ،‬وهو في الحقيقة إنتاج يندرج بشكل عميق‬ ‫العباسي‪ .‬أي أن معارضة الشعراء القدامى في قصائدهم المشهورة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وبعثا وإحيا ًء لتجاربهم الشعرية‪ ،‬ولزمنهم الحضاري‬ ‫يمثل استدعا ًء‬

‫األسعد مفهوم المعارضة الشعرية بأنها تفيد «المقابلة والمباراة‬

‫«أن ينظم قصيدة في موضوع معين على بحر من البحور وقافية‬ ‫اإليقاع الالفت أو المعاني الظاهرة أو الصورة المعبرة‪ ،‬فينظم على‬

‫ً‬ ‫حريصا‬ ‫بحرها وقافيتها وموضوعها ملتزمًا التزاما تامًّا أو محدودًا‬

‫الموسوم باالزدهار الحضاري والقوة الثقافية والسياسية‪ .‬وكما هو‬

‫على أن يضاهي الشاعر المعارض إن لم يتفوق عليه»(‪.)17‬‬

‫أدبي عريق في األدب العربي‪ ،‬بدأت تاريخيًّا تقريبًا مع القصيدة التي‬

‫مدرسة اإلحياء والبعث وسمة من سماتها الكبرى‪ ،‬فكان رموزها‬

‫موثق في الدراسات التاريخية األدبية‪ ،‬فإن المعارضات الشعرية فن‬ ‫سميت «البردة» والتي قالها كعب بن زهير بن أبي سلمى في مدح‬

‫الرسول ﷺ‪ ،‬فالقت هذه القصيدة من فرط إعجاب الشعراء بها‬ ‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬

‫لقد شكلت المعارضات الشعرية خاصية أساسية من خصائص‬

‫من أهم شعراء العصر الحديث إبدا ًعا في هذا الفن‪ ،‬حيث عارض‬

‫رائد شعر اإلحياء محمود سامي البارودي أبرز الشعراء القدامى‬


‫سوسيولوجيا الخطاب الشعري اإلحيائي‪ ..‬ثالوث الذاكرة والتراث والهوية‬

‫مثل عنترة والنابغة وأبي نواس والمتنبي وأبي فراس الحمداني‪.‬‬

‫ي��������������ا اب������������ن������������ة ال��������������ي��������������م‪ ،‬م��������������ا أب�����������������������وك ب�����ـ�����ـ�����ـ�����خ�����ي�����ل‬

‫أن أحمد شوقي من أهم رواد فن المعارضات الشعرية في مدرسة‬

‫أح�����������������������ـ�����������������������ـ ٌ‬ ‫�����������������������رام ع����������ـ����������ـ����������ـ����������ـ����������ل����������ى ب�������ل�������اب���������������ل���������������ه ال�����������������������دو‬ ‫ٌ‬ ‫���س؟‬ ‫ح‪ ،‬ح ـ���� ـ����ـ��ل�ال ل���ل���ط���ي���ر م������ن ك������ل ج ـ��� ـ���ن ِ‬

‫ويكاد يجمع المختصون في مدرسة اإلحياء والبعث الشعرية‪ ،‬على‬ ‫اإلحياء والشعر العربي الحديث بشكل عام‪ ،‬حيث عارض ابن زيدون‬

‫وأبا البقاء الرندي والبحتري وتحديدًا في سينيته‪ ،‬التي عارضها‬

‫بقصيدة يقول في مطلعها‪ [ :‬الخفيف]‬

‫اخ����������������ت��������ل�������اف ال�����������ن�����������ـ�����������ه�����������ار وال�������������ل�������������ي�������������ل ي������ن������س������ي‬

‫اذك�����������������ـ�����������������را ل�������ـ�������ـ�������ـ�������ي ال����������ص����������ب����������ا وأي����������������������������ام أن�������س�������ي‬ ‫ً‬ ‫������������������ل�����������������اوة م������������������ن ش���������ب���������اب‬ ‫وص���������������ف���������������ا ل���������ـ���������ـ���������ـ���������ي م‬ ‫ص���������ـ���������ـُ���������ـ���������ـ���������ـ��������� ِّورت م�������ـ�������ـ�������ـ�������ـ�������ن ت����������������ص����������������ورات وم ِّ‬ ‫��������������س‬

‫ع�����ص�����ف�����ت ك�����ال�����ص�����ب�����ا ال����ل����ـ����ـ����ـ����ـ����ع����وب وم����ـ����ـ����ـ����رت‬

‫م�����������������ا ل�����������������ه م��������������ول ً‬ ‫���������������س؟‬ ‫��������������ع��������������ا ب����������م����������ن����������ع وح���������������ب ِ‬

‫ك�����������������������ل دار أح������������������������������ق ب��������������األه��������������ـ��������������ـ��������������ـ��������������ـ��������������ل‪ ،‬إال‬

‫����������س‬ ‫ف����������ي خ������ب������ي������ث م����������ن ال�������م�������ـ�������ـ�������ـ�������ذاه�������ب رج ِ‬

‫ن�����������ف�����������س�����������ي م����������������������رج ٌ‬ ‫����������������������ل‪ ،‬وق�������������ل�������������ب�������������ي ش�������������������راع‬

‫ب���ه���م���ا ف����ي ال�����دم�����وع س����ي����ري وأرس ����ـ ����ـ����ي‬

‫(‪)18‬‬

‫وال مناص لنا في هذا المستوى من محاولة قراءة مدرسة‬

‫النهضة الشعرية‪ ،‬من البحث موضوعيًّا عن األسباب األساسية التي‬

‫اقتضت أن يحوم مشروع شعراء اإلحياء حول بعث الشعر العربي‬

‫س������������������������ن������������������������ة ح������������������������������ل������������������������������وة ول�����������������������������������������������������������ذة خ������������ل������������س‬

‫القديم والسير على نهج شعرائه إيقا ًعا ومعجمًا وبالغة‪ .‬بل حتى‬

‫أو أس���������������ا ج���������رح���������ه ال��������ـ��������ـ��������ـ��������زم��������ان ال������م������ؤس������ي‬

‫عملية إحياء التراث الشعرية‪ ،‬فقط من أجل اإلحياء من دون أن‬

‫رق‪ ،‬وال������ع������ه������د ف������ـ������ي ال������ل������ي������ال������ي ت���ق��� ـ��� ـ���س���ي‬

‫واضح المقاصد‪ .‬فإلى جانب تفسير الميل إلى شعر القدامى بما‬

‫��������رس‬ ‫أول ال������ل������ي������ل‪ ،‬أو ع����������وت ب���� ـ���� ـ����ع����د ج ِ‬

‫وحضاري(‪ ،)19‬فإن هناك واقعً ا تاريخيًّا وثقافيًّا‪ ،‬أسهم إلى حد كبير‬

‫وس ـ����ـ��ل�ا م�����ص�����ر‪ :‬ه�����ل س��ل��ا ال����ق����ل����ب ع�� ـ�� ـ��ن��ه��ا‬ ‫ك��������������ل��������������م��������������ا م��������������������������������رت ال�������������ل�������������ي�������������ال�������������ـ�������������ـ�������������ـ�������������ي ع��������ل��������ي��������ه‬ ‫م����������������س����������������ت����������������ط����������������ا ٌر إذا ال���������������������ب���������������������واخ���������������������ر رن����������������ت‬ ‫راه ٌ‬ ‫������������������ب ف���������ي ال�������ض�������ل�������وع ل�����ل�����س�����ف�����ن ف���ط���ن‬

‫معارضة روائعه من القصائد؛ ذلك أنه من غير المنطقي أن تكون‬

‫يرتبط فعل البعث الشعري بأهداف محددة ومعلومة ومشروع‬ ‫يرمز إليه هذا الشعر من مرحلة زمنية قديمة صاحبها مجد سياسي‬ ‫في تحديد حجم ظاهرتي المحاكاة والمحافظة ومديهما‪.‬‬

‫������������س‬ ‫ك���������������ل���������������م���������������ا ث������������������������������������رن ش������������������اع������������������ه������������������ن ب������������ن������������ق ِ‬

‫هوامش‪:‬‬

‫‪1) Macherey (Pierre), Pour une théorie de la production‬‬ ‫‪littéraire, Paris, François Maspero, 1966, p.66.‬‬ ‫‪ )2‬السعافين (إبراهيم)‪ ،‬مدرسة اإلحياء والتراث‪ :‬دراسة في أثر الشعر العربي‬ ‫القديم على مدرسة اإلحياء في مصر‪ ،‬دار األندلس‪ ،‬بيروت‪ ،‬ص‪.40‬‬ ‫‪ )3‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.41‬‬ ‫‪ )4‬شلق (علي)‪ ،‬النثر العربي في نماذجه وتطوره لعصر النهضة والحديث‪،‬‬ ‫دار القلم‪ ،‬بيروت ‪ ،1974‬ص‪.46‬‬ ‫‪ )5‬السعافين (إبراهيم)‪ ،‬مرجع مذكور‪ ،‬ص‪.52‬‬ ‫‪ )6‬يقول الباحث السعافين في هذا السياق‪ :‬إن «القاموس اللفظي ذو داللة‬ ‫اجتماعية حضارية‪ ،‬يقترن بالتطور وتفاعل الشاعر مع المجتمع ومع‬ ‫أحداث العصر المختلفة‪ .‬وهو على هذا النحو يختلف من فئة إلى أخرى‬ ‫ً‬ ‫اختالفا ال ندعي أنه حاسم بصورة قاطعة‪ ،‬وإنما يملك من الدالالت‬

‫المميزة ما يبرز هذا االختالف بجالء؛ فالقاموس اللفظي العام متصل‬ ‫بعصور ازدهار الشعر‪ ...‬كما أنه يتأثر بأحداث العصر وبخاصة في المرحلة‬ ‫المتأخرة من اإلحياء»‪ .‬انظر‪ :‬المرجع السابق‪ ،‬السعافين (إبراهيم)‪،‬‬ ‫ص‪.52‬‬ ‫‪ )7‬انظر‪ :‬حسين (طه)‪ ،‬تقليد وتجديد‪ ،‬دار العلم للماليين‪ ،‬ص‪.83- 80‬‬ ‫‪ )8‬شعراء اإلحياء في اليمن هم‪ :‬ابن شهاب والسقاف وأحمد عبدالله‬ ‫السالمي والشاطري والزبيري والحامد والموشكي والشامي ‪...‬انظر عبادي‬ ‫صالح (عبدالرزاق)‪ ،‬المعجم الشعري لشعراء اإلحياء في اليمن‪ ،‬رسالة‬ ‫ماجستير‪ ،‬جامعة عدن‪ ،‬اليمن‪2008 ،‬م‪.‬‬

‫‪ )9‬ال يتسع مجال هذه المقدمة إلى ذكر جميع شعراء االتجاه اإلحيائي في‬ ‫الشعر العربي‪.‬‬ ‫‪ )10‬لبكي (صالح)‪ ،‬األعمال الكاملة‪ ،‬المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر‬ ‫والتوزيع‪1982 ،‬م‪ ،‬ص‪.140-139‬‬ ‫‪ )11‬السعافين (إبراهيم)‪ ،‬ص‪.60‬‬ ‫‪ )12‬المرجع السابق‪ ،‬الصفحة نفسها‪.‬‬ ‫‪13) Gabriel TARDE, Les lois de l’imitation, Réimpression,‬‬ ‫‪Paris , Éditions Kimé, 1993,p.28.‬‬ ‫‪ )14‬لألستاذ جابر عصفور رسالة ماجستير حول «الصورة الفنية عند شعراء‬ ‫اإلحياء في مصر « انظر‪ :‬المرجع السابق‪ ،‬السعافين (إبراهيم)‪ ،‬ص‪.52‬‬ ‫‪ )15‬قصيدة البردة‪ ‬أو‪ ‬الكواكب الدريَّة في مدح خير البريَّة‪ ،‬قصيدة مشهورة‬ ‫جدًّا في مدح ‪ ‬النبي‪ ‬محمد ﷺ‪ ،‬نظمها الشاعر‪ ‬محمد بن سعيد‬ ‫البوصيري‪ ‬في القرن السابع الهجري الموافق القرن الحادي عشر‬ ‫الميالدي‪ ،‬وهناك إجماع بين النقاد على أن هذه القصيدة تعد من‬ ‫أجمل وأقوى أشعار المديح النبوي‪. ‬‬ ‫‪ )16‬زهدي (عبدالرؤوف)‪ ،‬األسعد (عمر )‪ ،‬المعارضات الشعرية وأثرها في‬ ‫إغناء التراث األدبي‪ ،‬دراسات العلوم اإلنسانية واالجتماعية‪ ،‬المجلد ‪،36‬‬ ‫الجامعة األردنية‪2009 ،‬م‪ ،‬ص‪.904‬‬ ‫‪ )17‬المرجع السابق‪ ،‬الصفحة نفسها‪.‬‬ ‫‪ )18‬الشوقيات‪ ،‬المجلد األول‪ ،‬دار العودة‪ ،‬بيروت ‪1986‬م‪ ،‬ص ‪. 46-45‬‬ ‫‪ )19‬السعافين (إبراهيم)‪ ،‬مرجع مذكور‪ ،‬ص‪.61‬‬

‫‪57‬‬


‫دراسات‬

‫‪58‬‬

‫المرجعية العقائدية للصورة الشعرية عند‬

‫خالد جمعة‬

‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬


‫يوسف القدرة‬

‫شاعر وباحث فلسطيني‬

‫ّ‬ ‫تتمثل المرجعيّة الثقافيّة للصورة الشعريّة في تجربة الشاعر‪ ،‬بتلك العناصر التي‬ ‫الثقافي للشاعر وتجربته‬ ‫لصيق بالتكوين‬ ‫طابع‬ ‫يعتمد عليها في إبداع صوره‪ ،‬وهذا ذو‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫مشاركا‬ ‫الحياتيّة‪ ،‬كذلك قدرته اإلبداعيّة على توظيف معرفته وتأمّ الته‪ ،‬وجعله المُ تلقي‬ ‫فاعلاً في عمليّة اإلبداع من خالل مرجعيّة ثقافيّة مشتركة‪ ،‬تعتمد اإليحاء واإلشارة‪ ،‬وليس‬

‫المباشرة والعبارة‪ ،‬فالقارئ لشعر خالد جمعة‪ ،‬والمُ ّطلع على تجربته الشعرية الكاملة‪ ،‬يجد‬ ‫ّأنه ذهب إلى خلق «عوالم ممكنة» غير تقليدية؛ إذ إن البنى والتراكيب البالغية عنده تشير إلى‬ ‫هيمنة غياب المرجع‪ ،‬غير أنّ ذلك ال يعني انقطاعه وانفصاله عن موروثه التراثي‪ ،‬فالقراءة‬ ‫والبحث في أعماقها‪ّ ،‬‬ ‫الثقافيّة المُ ّ‬ ‫يدلنا على مراجع مُ تنوّعة‪ُ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫وت ُّ‬ ‫عد الديانات‬ ‫تأنية لنصوصه‪،‬‬ ‫عميق‪.‬‬ ‫أثر‬ ‫السماو ّية واألرضيّة‪ ،‬من أهم مصادر المعرفة‪ ،‬لما لهذا التراث الديني من ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫تأثر الشاعر بالكتب المقدّ سة‪ ،‬وظهر ذلك جليًّا في‬

‫نصوصه‪ .‬وهنا نشير للكتاب المقدّ س بعهديه القديم‬ ‫والجديد‪ ،‬هذا ّ‬ ‫التأثر نجده تحت جلدِ قصائده ال على سطحها‪،‬‬ ‫أي في عروق وأوردة نصوصه‪ ،‬هذا ّ‬ ‫التأثر تعدّ ى مجادلة الفكرة‬

‫إلى أسلوب الصياغة والتصوير‪ ،‬ومن الصور ذات المرجع‬ ‫العقائدي عند الشاعر خالد جمعة‪ ،‬نقرأ له ّ‬ ‫نص «أمّ ا َكرْمِ ي‬ ‫ُ‬ ‫حيث يعو ُد بنا من خالل معجمه‬ ‫َف َلمْ أَ ْن ُط ْره» نموذجً ا‪،‬‬

‫اللغوي‪ ،‬إلى الكتاب المقدّ س‪ ،‬في صورة رسم فيها التقابل‬

‫بين نصه والنص المقدس‪ ،‬إذ يقول الشاعر‪:‬‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫حسن في‬ ‫مثل َع َم ٍل‬ ‫الرب غافيًا‬ ‫خرائط‬ ‫«لوني‪ ،‬في‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫دائما أطلَّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫حكايات جدتي‬ ‫عينِهِ ‪ ،‬إلى قلبي ينظرُ‪ ،...‬وفي‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫الموجوعين قبل النهايةِ بقليل»‪.‬‬ ‫كبلسم على مأسا ِة‬ ‫ٍ‬ ‫ي ِّ‬ ‫ُشخ ُ‬ ‫ص الشاعر لون األنثى‪ ،‬فيستعير صفة الغفوة من‬ ‫اإلنسان‪ ،‬وينسبها إلى اللون‪ ،‬ولونها الغافي شبهه بعمل‬

‫حسن في عيني الرب‪ ،‬الذي ينظر إلى قلبها‪ ،‬ثمّ يذهب إلى‬ ‫تبديل الجنود بالوردة مضافة إلى الرب‪ ،‬كناية عن رحمة‬

‫الرب وجماله‪ ،‬ثم يذهب إلى صورة أخرى يشبّه فيها طلة‬

‫الرب بالبلسم في حكايات الجدة‪ ،‬الذي يظهر فيها منتص ًرا‬ ‫ً‬ ‫تناصا مع ِسفر‬ ‫للموجوعين‪ ،‬ونحن نرى في هذه الفقرة‬

‫السفر‪ ،‬في أول‬ ‫التكوين؛ إذ يظهر جليًّا في اإلصحاح األول من ِّ‬

‫المقدسة‪ ،‬وظهر ذلك‬ ‫تأ ّثر الشاعر بالكتب‬ ‫ّ‬ ‫جل ًّيا في نصوصه‪ .‬هذا التأ ّثر نجده تحت جلدِ‬ ‫قصائده ال على سطحها‪ ،‬أي في عروق‬ ‫تعدى مجادلة‬ ‫وأوردة نصوصه‪ ،‬هذا التأ ّثر‬ ‫ّ‬ ‫الفكرة إلى أسلوب الصياغة والتصوير‬

‫صفحات الكتاب المقدس‪ ،‬كيف أن الرب كان مُ عجبًا بخليقته‬ ‫ُ‬ ‫حيث يذكر‪:‬‬ ‫ومؤكدً ا ومُ شددًا على جمال كل شيء وصالحه‪،‬‬ ‫«رأى الل ُه جميع ما صنعه فإذا هو حسنٌ »‪ ،‬وفي هذا تقارب‬

‫الثقافي‪.‬‬ ‫للصورة الشعرية مع مرجعها‬ ‫ّ‬

‫حين ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ويُكمل الشاعر ّ‬ ‫تجلى‬ ‫أمام ُه‬ ‫«جثوت‬ ‫نصه‪ ،‬فيقول‪:‬‬

‫جناح‬ ‫ريش على‬ ‫جبل على ماءٍ على غيمةٍ على‬ ‫كضوءٍ على‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫سكبت أدعيتي وقرباني‬ ‫انتظار ال ينتهي‪،‬‬ ‫نار على‬ ‫ٍ‬ ‫سر على ٍ‬ ‫ن ٍ‬ ‫ُ‬ ‫بس»‪.‬‬ ‫عيني‬ ‫دمع‬ ‫ّ‬ ‫الفائض عن الحَ ِ‬ ‫ِ‬

‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫«جثوت أمامَ ه»‪،‬‬ ‫النص‬ ‫يقول الشاعر على لسان أنثى‬

‫فنرى صورة بالغية فيها داللة على انكسارها أمام الرب‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫حيث شبّه الشاعر‬ ‫الذي يجيء في صورة ثانية فيها تشبيه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تجلي الرب بالضوء‪ ،‬ثم تحوّالت أمكنة تجليه في صورة تتسع‬

‫لمكونات من الطبيعة‪ :‬جبل‪ ،‬ماء‪ ،‬غيمة‪ ،‬ريش‪ ،‬جناح نسر‪،‬‬ ‫نار‪ ،‬وأضاف إلى الصورة مكو ًّنا معنويًّا وهو االنتظار‪ ،‬الذي‬ ‫صبغه بالديمومة واالستمرارية‪ ،‬ثمّ ينتقل إلى صورة فيها‬

‫استعارة يتم تحويل األدعية إلى مادة تنسكب في إشارة إلى‬

‫دمع عينيها‪ ،‬وكذلك القربان‪ .‬هذه اللوحة التي تشكلها مقدرة‬

‫الشاعر الشعرية‪ ،‬أبدت لنا صورة المحبوبة كما تجلت في‬ ‫ِسفر نشيد اإلنشاد‪ ،‬في إعادة إنتاج لدالالته‪ ،‬مبتعدً ا كثي ًرا‬

‫للسفر‪ ،‬ومُ قتربًا من المفردات إفرادًا‬ ‫من الدالالت األصليّة ِّ‬ ‫ّ‬ ‫نص الشاعر‬ ‫وتركيبًا‪ ،‬وكذلك التعبيرات الجمالية‪ ،‬وفي‬ ‫َ‬ ‫جمعة‪ ،‬نجدُ‬ ‫براعة الشاعر في توظيف شخصيّة األنثى المؤمنة‬

‫برب الوردة‪ ،‬يقول‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫في وانهمرت َ‬ ‫كثلج‬ ‫السماوات‬ ‫سكينة‬ ‫ِ‬ ‫«تجول النور َّ‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫رج في‬ ‫م‬ ‫في‬ ‫راقصة‬ ‫قلبي‬ ‫ر‬ ‫وصا‬ ‫حريق صدري‬ ‫على‬ ‫كغزالةٍ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫إحساسها بخِ ش ِفها األ ّول يركل قلبَها فتؤلف روحً ا‬ ‫ربيع في‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫جديدة وتغزل حُ بَّها الغريزيَّ كف ْر َو ٍة لشتائِهِ اآلتي»‪.‬‬

‫‪59‬‬


‫دراسات‬

‫اتساع الصورة لمكونات الطبيعة‬

‫يستعير الشاعر صفة التجوّل من اإلنسان‪ ،‬وينسبها للنور‬

‫الذي يتجوّل في دواخل األنثى‪ ،‬وفي صورة ثانية يشبّه الشاعر‬ ‫«سكينة السماوات» المعنوية بالثلج الماديّ في االنهمار‪ ،‬ثمّ‬

‫يشبّه قلب األنثى بالراقصة‪ ،‬ثمّ يضيف إلى الصورة تشبيهًا‬ ‫ُ‬ ‫حيث شبه قلب الراقصة بالغزالة‪،‬‬ ‫آخر بأداة التشبيه الكاف‪،‬‬

‫لمكونات طبيعية وهي المرج والربيع‪،‬‬ ‫ثمّ تتسع الصورة‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫والخ ْش ُ‬ ‫ُ‬ ‫ف وهو ولد الظبية أول ما يولد ويطلق على الذكر‬

‫واألنثى‪ ،‬والصورة الشعرية مجتمعة في داللة عن فعل‬ ‫ُ‬ ‫حيث يستحضر أحد لوازمه‬ ‫المخاض واقتراب حالة الوالدة‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫وهو فعل «الركل» الذي يحيلنا إلى «الطلق»‪ ،‬وفي الصورة‬ ‫بالنص الذي ي ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُؤلف‪ ،‬أي الروح الجديدة‪.‬‬ ‫يشبّه الشاعر الخشف‬

‫الحب المعنوي إلى مادة يمكن غزلها‪ ،‬ويشبهه‬ ‫ويحوّل الشاعر‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫حيث بدائيتها‪،‬‬ ‫بالفروة‪ ،‬ومكونات الصورة كلها منسجمة من‬ ‫ُ‬ ‫حيث‬ ‫وهي تحيلنا إلى بدائية األنثى في ِسفر نشيد اإلنشاد‪،‬‬

‫الثقافي‪.‬‬ ‫تتالقى أبعاد الصور الشعرية هنا مع مرجعها‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫النص بفقرة جديدة‪ ،‬يبدؤها الشاعر‬ ‫خطاب‬ ‫ويستمر‬ ‫ُ‬ ‫صوت األنثى ال يزال يتجدّ د مع ِّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫كل‬ ‫حيث إن‬ ‫بتحديد للمكان‪،‬‬

‫‪60‬‬

‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬

‫سطر جديد‪ ،‬وتتضح المرجعية الثقافية للصورة كذلك في‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫النص‪ ،‬إذ يقول الشاعر‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫بت وعو َد الر ِّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫خيمتي‪ ،‬رت ُ‬ ‫َ‬ ‫وخرجت‬ ‫تحت وسادتي‪،‬‬ ‫َّب‬ ‫«في‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫أل ُ‬ ‫ٍّ‬ ‫ُ‬ ‫كروم بني ّ‬ ‫َ‬ ‫أمي‪ ،‬خفيفة بال هم يكاد يسوقني الهواءُ‬ ‫نط َر‬

‫وحين و َّد ُ‬ ‫َ‬ ‫عت‬ ‫عاصفة‪،‬‬ ‫كريشةِ‬ ‫فراغ في ِ‬ ‫ٍ‬ ‫عصفور على ٍ‬ ‫رمل في ٍ‬ ‫َّ‬ ‫جد ُ‬ ‫وألقيت تعبي على حصيرتي التي ّ‬ ‫ُ‬ ‫الش َ‬ ‫لتها من بقايا‬ ‫مس‬ ‫القمح الذي ْ‬ ‫أف َل َ‬ ‫ّ‬ ‫أج ْد وسادتي‬ ‫مناجل‬ ‫ت من‬ ‫الحصادين‪ ،‬لم ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫أج ْد ما َ‬ ‫تحتها»‪.‬‬ ‫ولم ِ‬ ‫نالحظ هنا أن الوعود المعنويّة تحوّلت إلى شيء ما ّديّ‬

‫يختبئ تحت الوسادة‪ ،‬ثمّ تحوّلت األنثى في صورة ثانية إلى‬

‫ريشة يحركها الهواء‪ ،‬ونالحظ خروجً ا من هذه المجازات إلى‬ ‫مجاز آخر تتحرك فيه الصورة إلى استحضار اللوازم في تحويل‬ ‫ٍ‬

‫الشمس إلى كائن يمكن توديعه‪ ،‬ثمّ تحويل التعب إلى مادة‬ ‫تلقيها األنثى على حصيرتها‪ ،‬وهي صورة متسعة تستوعب‬

‫مكونات الوسادة‪ ،‬والكروم‪ ،‬والهواء‪ ،‬والعصفور‪ ،‬والرمل‪،‬‬ ‫والشمس‪ ،‬والحصيرة‪ ،‬والمنجل‪ ،‬وهي مكونات يكاد يتنافر‬

‫بعضها مع بعض‪ ،‬لكن المقدرة الشعرية صالحت بينها لتكوّن‬ ‫هذه اللوحة التي تجمع بين النعومة في الوسادة والهواء‪،‬‬


‫المرجعية العقائدية للصورة الشعرية عند خالد جمعة‬

‫والخشونة في العواصف ومناجل الحصادين‪ ،‬لتتجلى صورة‬ ‫األنثى كما تجلت في سفر نشيد اإلنشاد مع بعض التحريفات‬

‫التي تباعد الصورة عن مرجعها الثقافي‪.‬‬

‫وتتضح مالمحها‪ ،‬فنجدها كذلك «أنثى يتيمة»‬ ‫ً‬ ‫إضافة إلى كونها «مؤمنة» و«فقيرة» إذ يقول‪:‬‬ ‫و«مضطهدة»‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ْ‬ ‫أمي‪ ،‬ولم ُ‬ ‫أع ّ‬ ‫أك ْن حزينة لهذا‪ ،‬لم‬ ‫«لم ِ‬ ‫أعرف أبي ولم ِ‬ ‫ُ‬ ‫الكروم التي نطرتها كي ِّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫الغاضبين‬ ‫غضب‬ ‫أهو َن‬ ‫أعرف غي َر‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ينقط ْع‪ ،‬كنتُ‬ ‫الذي لم أعرف من َ‬ ‫ً‬ ‫أين َ‬ ‫كمطر ال‬ ‫دائما‬ ‫كان يأتي‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫دائما أنتظ ُر هد ّي ًة خبّأَها الر ُّ‬ ‫ّب في اختباراتِه الهائلةِ لجسدي‬ ‫القصبي‪ ،‬وقلبي الذي ال يقوى على ِّ‬ ‫قمح‬ ‫هش ُقبَّر ٍة عن حبّةِ‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫في كرم ُ‬ ‫أنط ُر ُه»‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫النص‪ ،‬فيبدأ بصورة‬ ‫يرسم لنا الشاعر صورة جليّة ألنثى‬

‫يستلهم الشاعر من نشيد اإلنشاد لغته؛‬ ‫إذ إن الصورة الشعرية تعتمد على‬ ‫تجسيد الرغبات اإلنسانية األولى‪ ،‬بكل ما‬ ‫فيها من استبداد بالنفس البشرية‬ ‫األرض عينيها من وخز َّ‬ ‫المعبدِ َ‬ ‫ُ‬ ‫الشمس»‪.‬‬ ‫قبل أن تفرك‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫النص الثقافي‪ ،‬وهو التوراة‪،‬‬ ‫يعود بنا الشاعر إلى مرجع‬

‫في مطلع هذه الفقرة‪ ،‬من خالل وصايا الرب‪ ،‬وهي الوصايا‬ ‫العشر التي ُذكرت في اإلصحاح العشرين من «سفر الخروج»‪،‬‬

‫فنجد الشاعر يدلل بجمله الشعرية النافية على نقاء هذه‬

‫األنثى وطهارتها‪ ،‬وعلى عملها بالوصايا والتزامها بها‪ ،‬وأنهى‬

‫مجازية فيها غياب لمعرفة الوالدين‪ ،‬وفيها داللة على يتمها‪،‬‬

‫الفقرة بصورة مجازية حوّل فيها البراءة المعنوية إلى مادة‬ ‫ً‬ ‫إنسانا ذا عينين يفركهما‪ ،‬ويواصل‬ ‫تحس‪ ،‬وجعل األرض‬ ‫ّ‬

‫أنها معرفتها الوحيدة‪ ،‬أال وهي الكروم التي تنطرها في محاول ٍة‬

‫ّ‬ ‫النص‬ ‫مع الكذب‪ ،‬في دالل ٍة على ادّعاء اإليمان‪ ،‬ثمّ ينتهي‬ ‫بفقر ٍة ُتحيلنا إلى مبتدئه‪ ،‬إلى لون األنثى الغافي في خرائط‬

‫هذا تغيب داللة المطر الخيّرة والبنائية واإلحيائية‪ ،‬وتحل‬

‫«أنا سودا ُء وجميلة يا بنات أورشليم‪ ،‬أمي ما كانت إال‬ ‫جدتي‪ ،‬أما كرمي‪ ،‬فلم ُ‬ ‫وصي ًَّة في حِ جْ ر ّ‬ ‫أنط ْر ُه‪ ،‬ولم أ َر ُه‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫نطرتها‪ ،‬فمن غي ُر‬ ‫الكروم الكثير ِة التي‬ ‫واحدا من‬ ‫وربما كان‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫وم ْن غي ُر الر ِّ‬ ‫الر ِّ‬ ‫يعرف؟ َ‬ ‫َ‬ ‫العالم إلى‬ ‫يعيد‬ ‫ّب قاد ٌر على أن‬ ‫َّب ِ‬

‫معان قاسية‪ ،‬ومع‬ ‫بكل ما يحتوي ويتضمن ذلك الفقدان من‬ ‫ٍ‬

‫ذلك تنفي كونها حزينة بسبب يتمها‪.‬‬

‫ثمّ صورة مجازية أخرى فيها حضور لمعرفة مُ غايرة وتبدو‬

‫منها لتخفيف وتجنب‪ ،‬إن أمكن‪ ،‬غضب الغاضبين المستمر‪،‬‬ ‫وفي الصورة تشبيه غضب الغاضبين بالمطر المتواصل‪ ،‬وفي‬

‫مكانها داللة المطر التدميرية الرتباط المطر بغضب الغاضبين‪.‬‬

‫ثمّ ينتقل إلى مجاز آخر في صورة يشبه فيها جسد األنثى‬ ‫بالقصب‪ ،‬من طول االنتظار والنطر للكروم‪ ،‬انتظارها كـ«أنثى‬ ‫الرب‪،‬‬ ‫مؤمنة» ال خيارات أمامها‪ ،‬تظل في انتظار هديّة من‬ ‫ّ‬

‫ثمّ ينتقل إلى صورة مجازية أخرى فيها كناية عن كو ِنها أنثى‬ ‫مسالمة ذات جسد واهن وقلب ّ‬ ‫هش يضعف عن هش طائر‬

‫الشاعر ّ‬ ‫نصه‪ ،‬ذاك ًرا شهادة األنثى على بني أمِّ ها‪ ،‬راسمً ا لنا‬ ‫ُ‬ ‫لوحة من الصور الصريحة عن الطقوس والعادات التي تمارس‬

‫الرب‪ ،‬إذ يقول الشاعر‪:‬‬ ‫ّ‬

‫بداياتِهِ المسالِمة‪.»...‬‬

‫هكذا يحيلنا الشاعر عبر صوت األنثى‪ ،‬في تجسيدها‬

‫لصورة معرفة الرب الشاملة‪ ،‬وقدرته القديرة‪ ،‬في تساؤلين‬

‫في كرم تنطره‪ .‬والصور مجتمعة تشكل لنا لوحة هذه األنثى‬

‫منفصلين‪ ،‬عن معرفة أي كرم هو كرم األنثى من بين الكروم‬

‫وذات الجسد الضعيف والقلب الهش‪ ،‬وحالة انتظارها ونظرها‬

‫العالم إلى سلميته ومسالمته‪ ،‬في داللة على اإليمان المُ ستمر‬

‫المؤمنة واليتيمة والفقيرة والمضطهدة والراضية والمسالمة‬

‫للكروم تحيلنا إلى نشيد اإلنشاد في تقارب للصورة مع مرجعها‬ ‫ُ‬ ‫حيث تصوير الشاعر لالنتظار والنطر‪.‬‬ ‫الثقافي من‬ ‫صوت األنثى‬

‫ويواصل الشاعر ّ‬ ‫نصه‪ ،‬بصوت هذه األنثى التي ّاتضحت‬

‫لنا أغلب مالمحها االجتماعية والروحيّة والجسديّة‪ ،‬إذ يقول‪:‬‬ ‫«أح َبب ُ‬ ‫ْت الر َّ‬ ‫أنطق باسمِ هِ‬ ‫َّب كما قالت الوصايا‪ ،‬لم ِ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫وقد ُ‬ ‫َ‬ ‫نطرت‬ ‫أشعل نارًا وال‬ ‫سابع أيامِ هِ فلم‬ ‫ست‬ ‫باطلاً ‪،‬‬ ‫ِ‬

‫ْ‬ ‫وس َق َط ْ‬ ‫ً‬ ‫أعرف والديَّ‬ ‫ُ‬ ‫كرما فيهِ ‪َ ،‬‬ ‫خامس الوصايا ألني لم‬ ‫ت‬ ‫لاً‬ ‫ُ‬ ‫ذراعي‬ ‫رجل وامرأةٍ‪ ،‬لم أعرف رج بين‬ ‫فأشفقت على كل‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ولم أقتل نملة وال نظرت بعين الحسدِ إلى شي ٍء؛ لذا برّأني‬ ‫َّب من ِّ‬ ‫َ‬ ‫براءت ُه في قلبي كلما أيقظني ُ‬ ‫الر ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫ديك‬ ‫أحس‬ ‫كل َد َنس‪،‬‬

‫التي نطرتها‪ ،‬وأي قدرة غير التي يمتلكها الرب قادرة على إعادة‬ ‫ّ‬ ‫النص‪ .‬ففي النص بكليّته‪ ،‬يستلهم‬ ‫الذي تحدثنا عنه في بداية‬

‫الشاعر من نشيد اإلنشاد لغته؛ إذ إن الصورة الشعرية تعتمد‬ ‫على تجسيد الرغبات اإلنسانية األولى‪ ،‬بكل ما فيها من‬

‫استبداد بالنفس البشرية‪ ،‬وكذلك نرى أن الشاعر عمد إلى‬ ‫استخدام التشكيل البالغي في صور النص من خالل التشبيه‬

‫واالستعارة والكناية‪ .‬حريّ بنا أن نذكر‪ ،‬أن الشاعر قد افتتح‬ ‫ّ‬ ‫نصه بهذا المقطع من مقدمة ِسفر نشيد اإلنشاد‪ ،‬فنقل منه‪:‬‬

‫«أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم‪ ،‬كخيام قيدار‪،‬‬ ‫كشقق سليمان‪ ،‬ال ُ‬ ‫تنظر َ‬ ‫َ‬ ‫الشمس‬ ‫إلي لكوني سوداء ألن‬ ‫ْن َّ‬

‫قد ّ‬ ‫علي‪ ،‬جعلوني ناطورة الكروم‪،‬‬ ‫لوحَ ْتني‪ ،‬بنو أمي غضبوا ّ‬ ‫أما كرمي فلم أنطر ُه»‪.‬‬

‫(االقتباسات من ديوان «كما تتغير الخيول»)‪.‬‬

‫‪61‬‬


‫نصوص‬

‫اسم في الليل‬ ‫أحمد الخميسي‬

‫كاتب وقاص مصري‬

‫ً‬ ‫جالسا في مضيفة الطابق األول من بيته الريفي‬ ‫كان‬

‫على كتفيه وركض إلى الخارج‪ .‬توقف عند بوابة البيت‪ .‬زر عينيه‬

‫الهدوء‪ .‬تناهت إليه أصوات غريبة مدغومة كموجة من ظلمة‪.‬‬

‫لمح على الطريق الضيق المحاذي للترعة كتلة بشرية‬

‫وقد أراح رأسه على المسند الخلفي بعد أن نام األوالد وخيم‬ ‫نهض‪ .‬خرج بالجلباب إلى الشرفة المفتوحة على الحديقة‪.‬‬

‫كانت السحب تغطي وجه القمر والليل شديد القتامة‪ .‬مال‬

‫برقبته يلقي نظرة على أرضه الممتدة خلف الحديقة‪ .‬ال حركة‬ ‫ً‬ ‫عائدا للداخل سمع األصوات تقترب‬ ‫وال صوت‪ .‬قبل أن يستدير‬ ‫واضحة‪ .‬دبيب أقدام مهرولة‪ ،‬ضجيج وصيحات‪ ،‬ثم شق‬ ‫األجواء صوت يصيح بكلمة «غريب» كأنما تحذير أو استنفار‪.‬‬

‫تنبهت حواسه كلها‪ .‬ال معنى لكلمة «غريب» في ليل القرية‬ ‫سوى أن أحد األشقياء سطا على زرع أو ماشية أو هجم على‬ ‫بيت يسرقه‪ .‬فجأة تقصف سكون الليل من هزيز الرصاص‪ .‬دوي‬

‫متالحق بومض من لهب برتقالي‪ .‬انطلق إلى الداخل بسرعة‪.‬‬

‫‪62‬‬

‫سحب بندقيته‪ .‬اختطف تلفيعة صوفية من على مقعد ألقى بها‬

‫في العتمة ليرى مصدر الصوت‪.‬‬

‫تتحرك داخل شبورة‪ .‬هرول فوق الجسر الخشبي وأدرك الرجال‬

‫هناك‪ .‬احتشدوا في حلقة بعضهم يحمل البنادق والبعض‬ ‫يمسك بشوم غليظ‪ ،‬يتبادلون المشورة بكلمات مقتضبة وهم‬ ‫يرسلون نظراتهم في كل ناحية ً‬ ‫بحثا عن الطريق الذي يرجح‬ ‫أن يكون الغريب قد سلكه‪ .‬لمح بين المحتشدين محمود‬

‫ابن عمه حسن‪ .‬اقترب منه وسأله وهو يلهث ‪«:‬ماذا جرى؟»‪.‬‬

‫أجابه محمود بنبرة قاطعة من دون أن ينظر ناحيته‪« :‬غريب»‪.‬‬ ‫ً‬ ‫مهموما‪« :‬ال أدري‪ .‬أبو‬ ‫استفسر بقلق‪« :‬وماذا فعل؟»‪ .‬قال‬

‫إسماعيل هو الذي لمحه عند الساقية»‪ .‬سأله‪« :‬أي ساقية؟»‪.‬‬

‫ً‬ ‫متبرما‪« :‬ال أعرف»‪ .‬قالها وغاب في قلب التجمهر يشق‬ ‫أجاب‬ ‫لاً‬ ‫معه الطريق بين أعواد الزرع بغضب وتوتر‪ .‬مشوا طوي ‪،‬‬ ‫يرفعون فوهات البنادق‪ ،‬يرخونها‪ ،‬يدمدمون‪ ،‬يتلفتون حولهم‬ ‫إلى أن بلغوا أرض السلباوي التي هجرها أبناؤه في نزاع فأمست‬

‫خربة ثعابين‪ .‬لعنة الله على الغريب المجهول الذي جره في‬

‫الليل ليستنشق الغبار الصاعد من بين األقدام برئتيه المنهكتين‬ ‫من التدخين‪ .‬من هو؟ ما الذي فعله؟ وأين هو في‬

‫تلك الظلمة؟ توقف عبدالمولى والريح تهز أطراف‬

‫جلبابه‪« :‬كأنه فص ملح وذاب»! هتف غنام بغل‪:‬‬ ‫ً‬ ‫بعيدا»‪ .‬زعق أبو إسماعيل وهو‬ ‫«ال يمكن أن يذهب‬ ‫يؤرجح طرف بندقيته عاليًا‪« :‬ها هو‪ .‬هناك يا رجال»‪.‬‬

‫لعلع الرصاص في االتجاه الذي أشار إليه الرجل‪ ،‬ثم‬

‫ساد صمت‪ .‬اندفع ثالثة منهم إلى األمام يخبطون األرض‬

‫بأطراف أقدامهم يتلمسون جثة مصاب برصاصهم‪ .‬سمعهم‬

‫من بعيد يرددون «ال أحد»‪.‬‬

‫عادوا من جديد‪ ،‬كتلة واحدة‪ ،‬تجتاح الليل وعيونها‬

‫تلمع بالشرر‪ .‬بدأ يشعر بالتعب‪ ،‬واالنهاك يتسرب إلى‬

‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬


‫قدميه‪ ،‬ونغزة في ذراعه اليسرى‪ .‬تثاقلت خطوته إلى أن تخلف‬

‫ً‬ ‫تماما والريح تعوي حوله‪.‬‬ ‫عن الموكب ووجد نفسه بمفرده‬

‫التقط أنفاسه‪« :‬لو كنت قد استفسرت عما رآه أبو إسماعيل؟‬ ‫عما حدث؟ أو أين جرى ما جرى؟»‪ .‬استراح قليلاً ومد بصره‬ ‫ً‬ ‫قديما مهجورًا يشبه مخزن غالل‬ ‫إلى جهة اليسار فرأى مبنى‬ ‫ً‬ ‫وأمامه شجرتان‪ .‬لم يكن مسموعا سوى نقيق الضفادع في‬ ‫ضوء قمر مختنق حين لمح فجأة طرف تلفيعة يرفرف في الهواء‬

‫ويتوارى خلف إحدى الشجرتين‪ .‬قال لنفسه‪« :‬إنه الغريب‪.‬‬ ‫عليك بالحذر»‪ .‬كتم أنفاسه وسار ببطء على مدق رفيع نحو‬

‫المبنى وإصبعه على زناد البندقية‪ .‬توقف مكانه‪ .‬خايله ظل‬

‫التلفيعة كأنما يثب من وراء الشجرة إلى كومة أحجار عالية‬ ‫يتوارى خلفها‪ .‬وثب عدة وثبات فوق قنوات ماء مهجورة‪ .‬شقت‬

‫أغصان جافة جلبابه عند كتفه وانخلعت منه فردة من نعله‬ ‫وهو يخوض في األرض‪ .‬أحس بسن زجاجة ينغرز في باطن‬ ‫ً‬ ‫الهثا‪« :‬لعنة الله على الغريب المجهول»‪ .‬قطع‬ ‫قدمه‪ .‬توقف‬

‫وكثافة شديدتين‪ .‬بدأ يسمع دبيب خطوهم يرج األرض والغبار‬

‫عدة خطوات إلى اليمين وهو يعرج في مشيته‪ ،‬ثم حط على‬

‫يعلو في اتجاهه‪ .‬أدرك أن أي همس يصدر عنه اآلن سيؤدي إلى‬

‫وجهه‪ .‬تفكر فيما جرى‪« :‬للقرية أسرارها‪ ،‬مثل كل القرى‪ ،‬ربما‬ ‫ال يكون ًّ‬ ‫ً‬ ‫مجرما بل مجرد عاشق طوف ببيت امرأة؟»‪.‬‬ ‫لصا وال‬

‫بريق غريب ثم انطفأ‪ .‬قال لنفسه‪« :‬يطاردونك ويفتحون النار بال‬

‫حجر في األرض ووضع بندقيته إلى جواره‪ .‬ضرب الهواء البارد‬

‫تساءل‪« :‬هل أيقظ ضجيج المطاردة أوالده الصغار في البيت؟‬ ‫أم أنهم ينعمون بنومهم؟»‪ .‬أحس بالدم ّ‬ ‫ينز من قدمه‪ .‬شملته‬

‫مصرعه‪ .‬أحس بيأس أسود يغمر روحه كلها‪ .‬ترجرج في عينيه‬ ‫هوادة‪ .‬ال يمنحونك لحظة تقول فيها من أنت؟ وتدفع ظنونهم؟‬ ‫أي جنون! لم يعد إال الفرار طريقا وحيدا أمامك»‪.‬‬

‫جرى إلى األمام يعرج تالحقه غيمة أصوات تتشعب في‬

‫رجفة رعب من الصمت المطبق كحد السكين‪ ،‬ومن ضوء القمر‬

‫الجو بتوتر وإصرار يئز بينها صياح صارخ‪« :‬ال تتركوه‪ .‬إنه هناك»‪.‬‬

‫ً‬ ‫تماما‪.‬‬ ‫بمفرده‬ ‫ً‬ ‫استجمع همته وضرب بيده على فخذه ناهضا‪« :‬ال بد من‬ ‫ً‬ ‫مسترشدا‬ ‫الرجوع إلى الجماعة»‪ .‬تحامل على قدمه النازفة وخطا‬

‫قبر مفتوح منبوش‪ ،‬وخياالت الرجال تطول وتتمايل في العتمة‬

‫الفضي الميت‪ ،‬ومن رائحة التراب‪ ،‬ومن شعوره أنه وحيد‬

‫ً‬ ‫مسموعا‬ ‫بأصداء األصوات‪ .‬أصبح صياح الرجال ودبيب خطوهم‬

‫عن قرب‪ .‬مأل صدره بنفس االرتياح العميق‪ .‬رفع بندقيته ألعلى‬ ‫ً‬ ‫هاتفا‪« :‬يا جماعة»‪ .‬قبل أن يتم نطق الكلمة وقبل‬ ‫ولوح لهم‬

‫أن يتبين أحد صوته انصب عليه الرصاص بال توقف‪ ،‬وصرخ‬ ‫ً‬ ‫مرتعدا‬ ‫أحدهم‪« :‬وجدناه‪ .‬من هنا‪ .‬تعالوا»‪ .‬تجمد مذهولاً ‪ .‬صاح‬

‫من الغضب واالنفعال‪« :‬أنا شفيق حمدان»‪ .‬لم يلحق بنطق‬ ‫الحرف األول من اسمه إال وكان الرصاص يتطاير ناحيته بقوة‬

‫تقطعت أنفاسه وهو يعدو بقدمه النازفة إلى أن وجد نفسه قرب‬

‫كاألشباح‪ .‬لم يشعر بالرصاص الذي اخترق صدره وكتفه‪ ،‬فقط‬

‫أحس بنصفه العلوي يميل ويهوي‪ ،‬ثم بوجهه ينكفئ على تراب‬ ‫القبر‪ .‬لحظة أخيرة من الوعي‪ ،‬ثم طوته غيبوبة األبد‪.‬‬

‫وبحلول الصيف بزغ في األرض الخربة زهر مجهول يتوهج‬

‫بقسوة‪ ،‬اشتدت أعواده في أكثر من مكان‪.‬‬

‫‪63‬‬


‫بورتريه‬

‫ِمركل‪..‬‬ ‫من «فتاة كول»‬ ‫إلى «قائدة العالم الحر»‬ ‫سمير جريس‬

‫كاتب ومترجم مصري يقيم في ألمانيا‬

‫ذات مرة سأل صحافيون أنغيال مِ ركل‪ :‬ماذا تغير في حياتك‬

‫بعد أن أصبحت مستشارة؟ فأجابت‪ :‬التسوق!‬

‫‪64‬‬

‫في ذلك اليوم حكت مركل للصحافيين أنها اعتادت الذهاب إلى‬

‫«السوبرماركت» بنفسها‪ ،‬وشراء ما تحتاج إليه‪ .‬لكن ذلك أصبح صعبًا‬ ‫بعد أن َّ‬ ‫تولت منصب المستشارية‪ .‬فما تكاد تدخل محلاًّ حتى يلتف‬

‫العاملون حولها‪« .‬لم يكن يحدث هذا من قبل»‪ ،‬تقول مركل بنبرة‬

‫جافة‪ .‬ثم تسمع في المحل السؤال التقليدي‪« :‬عن أي شيء تبحثين؟»‬ ‫تقول لهم‪ :‬عن خرشوف (أرضي شوكي) مُ ّ‬ ‫علب‪« .‬ماذا؟»‪ ،‬يأتي الرد‬

‫باندهاش‪ .‬في تلك األثناء يكون مدير الفرع قد ظهر أمامها ليعيد السؤال‬ ‫نفسه‪« :‬عن أي شيء تبحثين؟» فتكرر مركل اإلجابة‪ .‬يقول المدير‪:‬‬ ‫«ماذا؟ لدينا بالطبع خرشوف طازج‪ ،‬سيادة المستشارة‪ ».‬تعيد مركل‬ ‫أنها تفضل المُ َّ‬ ‫علب؛ ألنه جاهز لالستخدام‪ .‬هذه المواقف دفعتها‬ ‫إلى أن تطلب من زوجها يواخيم زاور‪ ،‬البروفيسور في‬ ‫الكيمياء‪ ،‬أن يقوم هو بالتسوق‪ ،‬لكن تضيف مركل‪:‬‬ ‫«بعد أن أكتب له ورقة بما نحتاج إليه»‪.‬‬

‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬


‫هذا الموقف يبين على خير وجه شخصية مركل التي لم تغيرها‬

‫السلطة كثيرًا‪ .‬ما زالت هي المرأة التي تحب أن تطبخ بنفسها‪ ،‬إذا‬

‫توافر لديها الوقت‪ ،‬وتخبز في فصل الصيف فطيرة البرقوق؛ وما‬ ‫زالت هي البروتستانتية المتواضعة‪ ،‬المتقشفة‪ ،‬المحبة للعمل‪،‬‬

‫التي تبتعد من األضواء في حياتها الشخصية‪ .‬لن تجد إال نادرًا صورة‬ ‫لمركل وهي تقضي إجازتها السنوية في إيطاليا مثلاً ‪ ،‬أو على جبال‬ ‫األلب‪ ،‬أو على أحد الشواطئ الساحرة‪ ،‬مثلما كان يفعل المستشار‬

‫السابق غيرهارد شرودر‪ ،‬أو كما كان يفعل راعيها هلموت كول‪.‬‬ ‫لن نجد لمركل سوى صورها في أثناء تأدية عملها كمستشارة‪.‬‬

‫بموضوعية العالِم وتجرده اقتربت من السياسة رغم أنها لم تفكر‬ ‫يومً ا في االنضمام إلى حزب‪ ،‬ناهيك عن أن تصبح مستشارة‪.‬‬

‫ولدت أنغيال مركل في هامبورغ (ألمانيا الغربية) في عام ‪1954‬م‪،‬‬

‫وفي العام نفسه انتقلت عائلتها إلى ألمانيا الشرقية حيث نشأت‬

‫وتعلمت في مدارس الدولة االشتراكية‪ ،‬ومن جامعة اليبزيغ نالت‬ ‫درجة الدكتوراه في الفيزياء‪ .‬وفي عام ‪1978‬م حصلت على وظيفة في‬ ‫معهد الكيمياء الفيزيائية بأكاديمية العلوم في برلين الشرقية‪ .‬ولوال‬

‫سقوط جدار برلين عام ‪1989‬م‪ ،‬وانهيار الكتلة الشرقية‪ ،‬وتوحد شرق‬ ‫ألمانيا مع غربها‪ ،‬ما تركت مركل السلك العلمي أب ًدا‪.‬‬ ‫عالمة براغماتية‬

‫ما زالت هي المرأة التي تحب أن تطبخ‬ ‫بنفسها‪ ،‬وتخبز في فصل الصيف فطيرة‬ ‫البرقوق؛ وما زالت هي البروتستانتية‬ ‫المتواضعة‪ ،‬المتقشفة‪ ،‬المحبة للعمل‬ ‫انتخابات عام ‪1998‬م‪ ،‬وبعد أن افتضح أمره بسبب تبرعات حزبية‬

‫تلقاها على حسابات بنكية سرية‪ .‬كانت مركل مِن أول منتقدي كول‬ ‫علنيًّا‪ ،‬بل كتبت مقالاً في واحدة من أهم الصحف األلمانية لتعلن‬ ‫ً‬ ‫متشوقا‬ ‫تبرؤها مما فعله‪ .‬في عام ‪2000‬م اختارها الحزب –الذي كان‬

‫إلى بداية جديدة بعد «فضحية كول»‪ -‬رئيسة له‪ ،‬لتصبح أول امرأة‬ ‫ترأس حزبًا سياسيًّا كبيرًا في ألمانيا‪ .‬ولم تمض خمس سنوات حتى‬

‫َّ‬ ‫حلت محل شرودر على كرسي المستشارية‪ ،‬لتغدو أول مستشارة‬ ‫َّ‬ ‫في تاريخ ألمانيا‪ ،‬وأصغر من تولى هذا المنصب ً‬ ‫أيضا (كانت آنذاك‬ ‫في الحادية والخمسين)‪.‬‬

‫برز دور مركل القيادي في االتحاد األوربي خالل األزمة المالية‬

‫واالقتصادية التي اجتاحت العالم منذ نهاية ‪2007‬م‪ ،‬وكافحت من‬ ‫أجل إنقاذ العملة األوربية الموحدة‪ .‬ثم تعزز دور ألمانيا‪ ،‬ومعه‬

‫مكانة مركل‪ ،‬بعد إجراء االستفتاء في بريطانيا حول البقاء في‬ ‫االتحاد األوربي‪ .‬كانت نتيجة االستفتاء صدمة كبيرة لدول االتحاد‪،‬‬

‫يقول بعض‪ :‬إنها تتعامل مع السياسة بمنطق العالِم الذي‬

‫بل صدمة للحكومة البريطانية نفسها؛ إذ لم يتوقع أحد أن تكون‬

‫يقولون ذلك ليس على سبيل المديح‪ ،‬بل ليؤكدوا أنه ليس لديها‬

‫لكن مركل‪ ،‬كعادتها‪ ،‬استطاعت تحويل األزمة إلى فرصة‪ :‬فرصة‬

‫يقف أمام مشكلة ويريد حلها‪ .‬ويطلقون عليها «البراغماتية» –‬ ‫رؤية سياسية‪ .‬هي تحل ما يعترضها من مشاكل فحسب‪ ،‬أو «تدير‬ ‫األزمات»‪ ،‬بحسب تعبير المنتقدين‪ .‬ونحن إذا نظرنا إلى كيفية‬

‫تعاملها مع مشكلة العملة األوربية‪ ،‬وانهيار بعض البنوك‪ ،‬واألزمة‬ ‫المالية في اليونان وإسبانيا وإيطاليا‪ ،‬نجد أن هذا التحليل صحيح‬

‫إلى حد كبير‪ .‬بعد انهيار المعسكر الشرقي أرادت عالمة الفيزياء أن‬

‫تشارك في البداية السياسية الجديدة في شرق ألمانيا‪ ،‬فانضمت‬ ‫إلى الحزب الديمقراطي المسيحي في عام ‪1990‬م (عام الوحدة‬

‫األلمانية)‪ ،‬وتقدمت إلى أول انتخابات برلمانية تجرى في ألمانيا‬

‫نتيجة التصويت لصالح الخروج من االتحاد األوربي (البريكست)‪.‬‬

‫للوصول إلى مزيد من التضامن األوربي عبر إظهار الثمن المرتفع‬ ‫الذي ستدفعه لندن مقابل هذه الخطوة‪ ،‬أو على األقل هذه هي‬

‫إستراتيجية مركل‪.‬‬

‫المدافعة األخيرة عن الغرب الليبرالي‬

‫رئيسا‬ ‫ثم ارتفعت مكانة مركل عالميًّا بعد انتخاب دونالد ترمب ً‬ ‫للواليات المتحدة األميركية الذي رفع شعار «أميركا أولاً »‪ .‬خشي‬

‫المتحدة‪ ،‬ونجحت في الحصول على مقعد في البوندستاغ‪ .‬لفتت‬

‫أنظار المستشار األسبق هلموت كول‪ ،‬فاختارها لتكون وزيرة للمرأة‬ ‫والشباب‪ُ .‬نظِ ر إليها باستخفاف آنذاك‪ ،‬وأُطلِق عليها «فتاة كول»‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫وات ِهمت بأنها مجرد تابعة لراعيها‪ ،‬من دون أن يكون لديها شخصية‬

‫سياسية مستقلة‪.‬‬

‫لكن المقربين من الوزيرة الشابة تعرَّفوا «غريزة السلطة»‬ ‫لديها‪ ،‬كما أُعجبوا بأسلوبها الموضوعي في مقاربة القضايا‬ ‫السياسية‪ ،‬وإصرارها على الوصول إلى ما تعده صحيحً ا‪ ،‬من دون‬

‫الصدام مع الكبار في الحزب‪ ،‬وعلى رأسهم راعيها هلموت كول‬

‫بالطبع‪ .‬غير أن الصدام مع كول كان حتميًّا‪ ،‬وبخاصة بعد أن خسر‬

‫مركل مع هلموت كول‪ ،‬سنة ‪2000‬م‬

‫‪65‬‬


‫بورتريه‬

‫كثيرون‪ ،‬في أميركا وخارجها‪ ،‬صحوة التيارات القومية المتشددة‬

‫في العالم كله‪ ،‬التي ال ترى سوى مصالحها الذاتية‪ .‬ظهرت مركل‬ ‫–بمواقفها األوربية وتعاملها اإلنساني مع أزمة الالجئين‪ -‬كأنها‬

‫المضاد لشخصية ترمب‪ ،‬فوصفتها صحيفة «نيويورك تايمز»‬ ‫بـ«المدافعة األخيرة عن الغرب الليبرالي»‪ .‬ولعل أكبر ٍّ‬ ‫تحد واجهته‬ ‫مركل خالل سنوات حكمها االثنتي عشرة هو مشكلة الالجئين‪،‬‬ ‫وقرارها الخاص بفتح الحدود أمامهم في الرابع من أغسطس عام‬

‫‪2015‬م‪ .‬يقول بعض الصحافيين‪ :‬إن هذه الليلة تشبه ليلة سقوط‬ ‫جدار برلين في التاسع من نوفمبر ‪1989‬م‪ ،‬وي ّدعون أن ليلة الرابع من‬

‫أغسطس عام ‪2015‬م ستغيّر ألمانيا في العقود المقبلة بشكل عميق‪،‬‬

‫مركل مع الالجئين السوريين‬

‫مثلما فعل سقوط الجدار وما أعقبه من انهيار المعسكر الشرقي‪،‬‬ ‫ثم إعادة توحيد ألمانيا‪ .‬آنذاك قالت مركل تلك الجملة التي اشتهرت‬

‫فيما بعد في ألمانيا‪« :‬نستطيع ذلك»‪ ،‬أي نستطيع أن نتغلب على‬ ‫مشكلة الالجئين التي ع َّدتها المستشارة «مهمة وطنية ضخمة»‪،‬‬ ‫وبخاصة بعد أن استقبلت ألمانيا نحو مليون الجئ في عام واحد‪.‬‬

‫القت سياسة مركل التأييد لدى قطاع كبير من األلمان‪،‬‬

‫واكتسبت في تلك األيام شعبية كبيرة داخل ألمانيا وخارجها‪،‬‬ ‫وأصبح لقبها لدى الالجئين «ماما مركل»‪ ،‬وتناقلت وسائل اإلعالم‬

‫ِّ‬ ‫«السيلفي» معها‪ .‬ومع نهاية‬ ‫صور الالجئين وهم يلتقطون صور‬

‫‪66‬‬

‫العام توقع كثيرون أن تنال المستشارة األلمانية جائزة نوبل للسالم‬ ‫لموقفها اإلنساني النبيل‪ .‬من ناحية أخرى‪ ،‬أصيب عدد كبير من‬

‫األلمان بالصدمة والخوف عندما رأوا بالدهم تفقد السيطرة على‬ ‫حدودها؛ والدول في نهاية المطاف ُتعرّف بحدودها‪ ،‬وهو ما أدى‪،‬‬ ‫مع تزايد عدد الالجئين‪ ،‬إلى انقسام عميق في المجتمع األلماني ما‬

‫زال مستمرًّا حتى اليوم‪.‬‬

‫مواجهة النازية الجديدة‬ ‫ً‬ ‫في تلك المُ دة زارت مركل مركزا إليواء الالجئين في مدينة‬ ‫«هايندناو» في والية سكسونيا (شرق ألمانيا) التي أصبحت رم ًزا‬

‫ُوجمت بأقذع‬ ‫للتعصب واالتجاهات النازية الجديدة في ألمانيا‪ ،‬فه ِ‬ ‫ُوجهت للمرة األولى بهذا الغضب‬ ‫الشتائم («عاهرة»‪« ،‬خائنة»)‪ ،‬وو ِ‬

‫المنفلت لدى بعض قطاعات الشعب األلماني‪ ،‬وال سيما تيارات‬ ‫اليمين المتطرف‪ ،‬التي ربما لم تكن تعلم بحجمها‪ .‬ثم توالت أحداث‬ ‫في ألمانيا رفعت صوت منتقدي مركل عاليًا‪ ،‬بدءًا من أحداث ليلة‬

‫لعل أكبر تح ٍّد واجهته مركل خالل‬ ‫سنوات حكمها هو مشكلة الالجئين‪،‬‬ ‫وقرارها الخاص بفتح الحدود أمامهم‬ ‫في الرابع من أغسطس عام ‪2015‬م‪.‬‬ ‫يقول صحافيون‪ :‬إن هذه الليلة تشبه‬ ‫ليلة سقوط جدار برلين‬ ‫واندفعوا يتساءلون‪ :‬هل ارتكبنا خطأً باستقبال كل هذا العدد في‬

‫مدر ً‬ ‫كة حجمَ القرار الذي‬ ‫هذه المدة القصيرة؟ هل كانت حكومتنا ِ‬ ‫َّاتخذته؟ هل ارتكبت مركل أخطاء في التعامل مع ملف الالجئين؟‬ ‫كانت اإلجابة عن كل هذه األسئلة من وجهة نظر اليمين المتطرف‬

‫هي‪ :‬ال بد من إزاحة مركل!‬

‫في تلك األيام قويت شوكة حزب جديد هو «البديل من أجل‬

‫ألمانيا» الذي تأسس عام ‪2013‬م كحزب قومي مُ عا ٍد لالتحاد األوربي‬

‫والعملة األوربية‪ ،‬غير أنه سرعان ما وجد في أزمة الالجئين موضوعه‬ ‫ً‬ ‫حاضنة لكل خصوم سياسة «الباب‬ ‫المفضل‪ ،‬وبسرعة أصبح‬ ‫المفتوح» التي انتهجتها مركل‪ ،‬سوا ٌء من المواطنين َ‬ ‫«الق ِل ِقين» على‬

‫مستقبل بالدهم‪ ،‬أو من النازيين الجُ دد‪ .‬قد يكون تشبيه ليلة الرابع‬

‫من أغسطس بسقوط جدار برلين مبالغة كبيرة‪ ،‬لكن األكيد أن تلك‬ ‫الليلة أ َّدت إلى حدوث انقسام حا ّد في المجتمع األلماني‪ ،‬وهو ما‬

‫سيؤثر بالطبع في نتيجة االنتخابات المقبلة‪.‬‬

‫وعلى الرغم من كل ذلك‪ ،‬ففي اعتقادي أن مركل ستنجح في‬

‫تحقيق انتصار لحزبها‪ ،‬وستجلس أربع سنوات أخرى على كرسي‬

‫االحتفال برأس السنة الميالدية‪ ،‬وهي الليلة التي شهدت فيها مدن‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫جماعية من االعتداءات‬ ‫حاالت‬ ‫وخصوصا مدينة كولونيا‬ ‫ألمانية عدة‪،‬‬ ‫ٍ‬

‫المستشارية؛ فكثير من األلمان يتحدثون عن غياب بديل حقيقي‬

‫شمال إفريقيا‪ .‬ثم جاءت سلسلة من االعتداءات اإلرهابية نفذها‬

‫الباب المفتوح التي انتهجتها‪ ،‬بقدر ما يعني ثقتهم في المستشارة‬

‫الجنسية والسرقة‪ ،‬وكان معظم الجُ ناة من الالجئين‪ ،‬أغلبهم من‬ ‫الجئون في مدن متفرقة من ألمانيا‪ ،‬بل شهدت العاصمة برلين في‬

‫ً‬ ‫شخصا بين‬ ‫‪ 19‬ديسمبر ‪2016‬م عملية إرهابية راح ضحيتها نحو ثمانين‬ ‫قتيل وجريح‪ .‬أُصيب ماليين من األلمان عندئذ بالصدمة والذهول‪،‬‬ ‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬

‫جدير بإزاحة مركل‪ .‬لن يعني فوز مركل تأييد الماليين لسياسة‬

‫«البراغماتية»‪« ،‬مديرة األزمات» التي أدركت‪ ،‬واعترفت‪ ،‬بأنها‬ ‫ارتكبت أخطاء في تعاملها مع أزمة الالجئين‪ ،‬ووعدت شعبها بأن‬

‫ما حدث ليلة الرابع من سبتمبر لن يتكرر ثانية‪.‬‬


‫نصوص‬

‫ظل النظرات المتعبة‬ ‫ُّ‬ ‫سلمان الجربوع‬

‫شاعر سعودي‬

‫غروب‬

‫ْ‬ ‫تهافتت أشباحُ نا‬ ‫عندما‬ ‫آخ َر اليوم‬

‫على رصيف الميناء‬

‫مثل أوراق الخريف‬

‫كان الشاطئ‬

‫ّ‬ ‫ينضم على بعضه‬ ‫ً‬ ‫حنانا‬

‫بقدميها العاريتين‪.‬‬

‫قبطانة‬

‫ُ‬ ‫أدركتها‬

‫قبيل الفجر‬ ‫ً‬ ‫حائرة‬

‫في خطوط الحرق القديم‬ ‫على ظاهر ّ‬ ‫كفي‬ ‫َ‬ ‫مكانه‬ ‫كمن يلتمس‬ ‫في خريطة كنز‬ ‫ٌ‬ ‫متقاعس‬ ‫دمي‬

‫ورياحي غي ُر مواتية‬ ‫ّ‬ ‫لكنها‬

‫ٌ‬ ‫اإلبحار‬ ‫عازمة على‬ ‫ِ‬ ‫على أ ّية حال‬ ‫ُ‬ ‫قبطانة الوقت المهدور‬ ‫في عينيها فقط‬

‫تلتمع‬ ‫ُ‬ ‫لؤلؤة روحي‪.‬‬

‫وشم‬ ‫ٌ‬ ‫واحة‬

‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫أسفل سا ِقها‪،‬‬ ‫موشومة‬ ‫ُّ‬ ‫ظل النظرات المتعبة‪.‬‬

‫طريق البيت‬ ‫على‬

‫ّجات‬ ‫تعر ِ‬

‫خطوط الوالدة‬ ‫ِ‬

‫في بطون زوجاتهم‬

‫يجد اآلباء التائهون‬

‫أخيرًا‬ ‫َ‬ ‫طريقهم إلى البيت‪.‬‬

‫رجوع‬

‫أنوء بنفسي‬

‫َ‬ ‫الوهج‬ ‫ثقيلة‬ ‫شمس‬ ‫مثل‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ها أنا‬

‫في الرجوع الطويل إلى حبيبتي‬ ‫أحرقت جميع الظالل‪.‬‬

‫‪67‬‬


‫قضايا‬

‫‪68‬‬

‫مقارها تشبه بيو ًتا مهجورة في‬ ‫وسط المدن‬

‫مجامع اللغة‬ ‫العربية‪..‬‬

‫تعيش في غربة على هامش العصر‬ ‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬


‫مجامع اللغة العربية‬

‫صبحي موسى القاهرة‬

‫هدى الدغفق الرياض‬

‫هيا صالح األردن‬

‫تونس‬

‫هل من حضور اليوم فاعل وفعلي لمجامع اللغة في الوطن العربي؟ سؤال تستدرجه‬

‫القطيعة بين هذه الكيانات المعنية بحراسة اللغة‪ ،‬والواقع الذي يتجدد في كل لحظة‪ ،‬القطيعة التي‬

‫يستشعرها على نحو واضح‪ ،‬المثقف والمختص والرجل العادي؟ فعلى كثرة انتشار مجامع اللغة‬ ‫في الوطن العربي‪ ،‬بدءً ا من مجمع دمشق عام ‪1916‬م‪ ،‬ومجمع القاهرة (‪)1932‬م‪ ،‬مرورًا بالمجمع‬

‫العلمي العراقي (‪1947‬م)‪ ،‬والمجمع األردني (‪1961‬م)‪ ،‬والمجمع التونسي (‪1983‬م)‪ ،‬والمجمع‬ ‫السوداني (‪1993‬م)‪ ،‬وأخيرًا مجمع اللغة بالشارقة (‪2016‬م)‪ ،‬فضلاً عن كثير من المؤسسات والروابط‬

‫المعنية باللغة‪ ،‬إال أن ً‬ ‫أحدا ال يشعر بحضور أي من هذه المجامع والروابط والمؤسسات في الحياة‬

‫االجتماعية والثقافية‪ ،‬على الرغم من األدوار األساسية التي أنشئت من أجلها‪ ،‬وعلى الرغم من‬ ‫أهمية المعاجم والقواميس التي عكف شيوخ اللغة الكبار على إنجازها‪ ...‬فقد ظلت مغلقة على‬

‫نفسها حتى إن بعض مقارها يكاد يكون أشبه ببيوت مهجورة في وسط المدن‪ ،‬لذلك ال عجب أن‬

‫تسأل عن مقر مجمع ما للغة في عاصمة عربية وال تعثر على إجابة شافية‪ ،‬األمر الذي يعكس حال‬ ‫العزلة الذي أضحت تعيشه هذه المجامع ومن ينتسب إليها‪ ،‬العزلة التي راحت تتفاقم مع تقدم‬ ‫ثقافة العصر وتقنياته‪ ،‬فما تقترحه هذه المجامع من معادل لغوي لكثير من مفردات العصر ال‬

‫يلقى االستحسان‪ ،‬إما لوعورة الكلمة المقترحة‪ ،‬أو لعدم تعبيرها عن روح المفردة الجديدة‪ ،‬إضافة‬

‫إلى التحديات التي تواجهها هذه المجامع‪ ،‬ومنها ضعف التمويل وعدم صدور قرارات سيادية تلزم‬

‫بتوصياتها‪ .‬فهل تجاوز الزمن فكرة مجمع اللغة‪ ،‬أم أن خروج العرب من دائرة اإلسهام الحضاري‬ ‫جعل لغتهم ومؤسساتها خارج اهتمام المثقف وليس فقط المواطن العادي؟‬

‫محمود فهمي حجازي‪ :‬التمويل ال يتناسب‬ ‫مع الطموحات‬

‫مجمعا اللغة العربية في القاهرة وفي دمشق أُ ِّس َسا‬

‫على نمط مجمع اللغة الفرنسية في باريس‪ ،‬ومن ثم فقد‬ ‫ً‬ ‫عمقا لغويًّا أكثر‪ ،‬ومن ثم تمثل دوره‬ ‫أخذ العمل فيهما‬

‫الثقافي في عمل ملتقيات لغوية من حين إلى آخر‪ ،‬وهناك‬ ‫اتجاه قوي اآلن لعمل ندوة شهرية بدءً ا من أكتوبر المقبل‬

‫عن موضوعات لغوية أو ثقافية سواء في اإلطار المصري أم‬ ‫بالتعاون مع جهات عربية مماثلة‪ .‬المجمع له دور قومي‬

‫قديم في تحقيق التراث العربي‪ ،‬وهذا موجه إلى جمهور‬ ‫الباحثين‪ ،‬كما أن له دورًا في صناعة المعاجم المتخصصة‬ ‫في األنثربولوجيا والهندسة والرياضيات‪ ،‬فضلاً عن معاجم‬ ‫اللغة التي تهم جمهور المثقفين‪ ،‬ومن بينها المعجم‬ ‫الوسيط الذي يعد أهم معجم ُ‬ ‫ص ِّنف في العصر الحديث‪،‬‬ ‫كما أن المعجم الوجيز كان ي َّ‬ ‫ُسلم لتالميذ المدارس في‬

‫دول عربية عدة من بينها مصر وتونس‪.‬‬

‫وأكبر المعوقات التي تواجه المجمع في أداء دوره‬

‫المنوط به أنه يعمل وحده‪ ،‬بوصفه مؤسسة‬

‫متخصصة ووحيدة في هذا المجال‪،‬‬ ‫في حين أن األكاديمية الفرنسية‪ ،‬أو‬ ‫ُ‬ ‫نشئ المجمع‬ ‫المجمع الفرنسي الذي أ ِ‬

‫العربي على غراره‪ ،‬تعمل إلى جانب كثير‬

‫من مراكز البحوث العلمية في الجانب‬ ‫اللغوي‪ ،‬وليس لدينا في بالدنا‬

‫مراكز حقيقية متخصصة في‬ ‫ذلك‪ ،‬حتى المركز القومي‬

‫للبحوث ال عالقة له باللغة‪،‬‬ ‫والجامعات بها أقسام لغة‬

‫عربية لكنها ليست متخصصة‬ ‫في دراسات وأبحاث وتاريخ‬

‫اللغة‪ ،‬وفي الوقت الذي‬ ‫توجد فيه ُد ور نشر متخصصة‬

‫‪69‬‬


‫قضايا‬

‫في نشر كتب لغوية وتوزيعها مثل دودن في ألمانيا‬ ‫والروس في فرنسا‪ ،‬مما يحقق عائد يمكن إنفاقه على‬

‫الباحثين وأبحاثهم‪ ،‬فإن هذا غير موجود في بالدنا‪ ،‬ومن‬

‫ثم فالتمويل أغلبه من الحكومة؛ إذ يتبع المركز وزارة‬ ‫التعليم العالي‪ ،‬وإن كان تدخل الوزارة هامشيًّا لدرجة‬ ‫يمكننا القول من خاللها‪ :‬إن المجمع جهة مستقلة‪ ،‬فوزير‬

‫التعليم العالي يفتتح المؤتمر السنوي‪ ،‬ويعتمد قرارات‬ ‫المجمع وانتخابات األعضاء الجدد‪ .‬ومن المعوقات عدم‬ ‫وجود سياسة لغوية في البلدان العربية‪ ،‬والمقصود‬ ‫هنا تحديد المجاالت التي تستخدم فيها لغتنا العربية‪،‬‬

‫وكيف يمكن إبرازها والتأكيد على هويتنا من خاللها‪ ،‬ومن‬

‫ثم فال بد من وجود قوانين تنظم وضع الالفتات واللغة‬ ‫المستخدمة فيها‪ ،‬وكذلك تنظم اللغة المستخدمة في‬ ‫اإلعالم والمدارس والتعليم بشكل عام‪ .‬وفيما يخص‬ ‫التمويل فهو أمر يحتاج إلى تأمل؛ إذ إنه ضئيل وال‬

‫يتناسب مع الطموحات الموجودة‪ ،‬ألننا في المجمع‬

‫نتبع القوانين المصرية‪ ،‬والقوانين تكبله في تعامله مع‬ ‫الجهات الخاصة أو تلقي تبرعات منها‪.‬‬

‫‪70‬‬

‫عضو المجمع المصري‬

‫منصف الوهايبي‪ :‬المجامع تنهض بترتيب‬ ‫العالقة بين اللغة وتراثها‬

‫ينبغي أن نقرّ‪ ،‬ونحن نمهّ د السبيل إلى جواب سائغ‬ ‫مقبول‪ّ ،‬‬ ‫أنه ليس من ّ‬ ‫حق أيّ م ّنا أن يستصدر‬ ‫حكم قيمة‪ ،‬على مجامع اللغة العربيّة‪،‬‬ ‫وبيوت الحكمة‪ ،‬في استجوابات خاطفة‬ ‫المؤسسات التي تؤ ّدي‬ ‫كهذه؛ وهي‬ ‫ّ‬ ‫عملها في ظروف ما ّدية صعبة‪ .‬على‬

‫المؤسسات تواجه‬ ‫أنّ ما يعنينا أنّ هذه‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫لعل‬ ‫علميًّا قضايا لغويّة شائكة‪،‬‬ ‫من أظهرها أنّ ضبط حقيقة‬ ‫الكلمة أو ماهيتــها أو غير هاتين‬ ‫المقولتين من مقوالت تنتسب‬

‫إلى نفس العائلة المفهوميّة‬ ‫ّ‬ ‫والحد‬ ‫الكبرى نظير المفهوم‬

‫والجوهر والهويّة‪ ...‬وما إلى ذلك‪ ،‬عمل ال يخلو من‬

‫صعوبة في ثقافة العرب المعاصرين؛ ألسباب‪ :‬من أبرزها‬ ‫أنّ المصطلح ما ّد ة لغوية باألساس‪ ،‬وليس بالميسور‬ ‫اإللمام بأطرافها والوقوف على نم ّوها ّ‬ ‫وتطورها في معاجم‬ ‫مثل معاجمنا تستدعي الداني والقاصي‪ ،‬وتجمع الشاذة‬ ‫ّ‬ ‫والفاذ ة؛ فإذا الكلمة تقفز من عصر إلى عصر‪ ،‬ومن معنى‬ ‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬

‫عدم وجود سياسة لغوية في البلدان‬ ‫كبيرا‪ ،‬والمقصود‬ ‫العربية‪ ،‬يمثل عائقً ا‬ ‫ً‬ ‫تحديد المجاالت التي تستخدم فيها‬ ‫لغتنا العربية‪ ،‬وكيف يمكن إبرازها‬ ‫والتأكيد على هويتنا من خاللها‪ ،‬ومن‬ ‫ثم فال بد من وجود قوانين تنظم وضع‬ ‫الالفتات واللغة المستخدمة فيها‪،‬‬ ‫وكذلك تنظم اللغة المستخدمة في‬ ‫اإلعالم والمدارس والتعليم بشكل عام‬ ‫إلى معنى‪ ،‬عبر فجوات فاغرة‪ ،‬ومتاهات لغويّة متشعّ بة‬

‫األصول والفروع‪ ،‬قد ال يقدر الباحث على تخطي عقباتها‬

‫ورياضة صعابها‪ .‬والكلمة شأنها شأن المصطلح‪ ،‬ال تنهض‬ ‫بوظيفتها‪ ،‬إلاّ إذا أ ّدت عن «المفهوم» الذي وضعت له‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫بدقة من جهة‪ ،‬واتصلت بأفهام القرّاء من جهة أخرى‪،‬‬ ‫ودخلت حيّز االستعمال‪ .‬وعلى أساس من هذه الوظيفة‬

‫المنوطة بها‪ ،‬نستطيع تقدير رجحان مصطلح على آخر‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫كلما كانت منزلته تكافئ منزلة مفهومه أو كان أوفر حياة‬ ‫وأوفى داللة‪.‬‬

‫إذن قد يكون مر ّد اإلشكال في مستوى أ ّول إلى أنّ‬

‫معاجمنا عامّ ة تنقلنا من عصر إلى عصر؛ دون أن يعبأ‬

‫كثيف حُ جُ ب‬ ‫صاحبها بما انسدل بين هذه العصور من‬ ‫ِ‬ ‫الزمان والمكان‪ .‬صحيح ّ‬ ‫أننا نكتب بلغة «واحدة» هي‬

‫الفصحى‪ .‬ولكنّ األمر في واقعنا العربي ليس بهذه‬ ‫ّ‬ ‫مؤثرات اللغات األجنبيّة واللهجات‬ ‫البساطة‪ ،‬فثمّ ة‬ ‫ّ‬ ‫ممّ‬ ‫المحليّة في كالمنا ونصوصنا‪ .‬وهذا ا ال تتفطن إليه‬

‫المؤسسات المذكورة‪ ،‬أو هي تتحاشاه‪ ،‬ألسباب قد‬ ‫ّ‬ ‫تكون دينيّة «قداسة» اللغة العربيّة‪ ،‬أو سياسيّة‪ .‬أليس‬

‫في هذا االستعمال اللغوي المختلف أو المتن ّوع؛ ما‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يؤكد أنّ الكلمة ال تمضي على ثبات وديمومة‬ ‫واطراد؛‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫تقييدا أو تحويلاً ؟‬ ‫وإنما تغيّر ما بنفسها توسيعً ا أو‬

‫فهذه «العربيّات» يجري أكثرها على أصول العربيّة‬ ‫وقوانينها في اشتقاق الصيغ وتصريفها؛ على نحو يتيح‬

‫لنا الرجوع إلى صورة الكلمة أو وزنها أو صيغتها أو بنائها‪،‬‬ ‫ولكنّ استعمالها «يختلف» من بلد إلى آخر‪.‬‬

‫المؤسسات هي التي تنهض بإعادة ترتيب‬ ‫وهذه‬ ‫ّ‬

‫العالقة بلغتنا وتراثها؛ بل إعادة وصفها دون تهيّب‪.‬‬

‫عضو المجمع التونسي للعلوم واآلداب والفنون‬ ‫(بيت الحكمة)‬


‫مجامع اللغة العربية‬

‫وفاء كامل‪ :‬ال يوجد قانون يلزم باألخذ‬ ‫بتوصيات المجمع‬

‫رسالة المجمع تكمن في الحفاظ على اللغة وسالمة‬

‫نطقها على ألسن الجميع‪ ،‬والوفاء بمتطلباتها من مستلزمات‬

‫الحضارة والعلم ومصطلحاتهما الحديثة‪ ،‬إضافة إلى دراسة‬ ‫تاريخ اللغة وتطورها عبر مراحلها المختلفة‪ .‬المشكالت‬ ‫التي يواجهها المجمع أنه ال يوجد قانون ملزم لبقية هيئات‬

‫المجتمع باألخذ بتوصيات المجمع‪ ،‬كان الدكتور فتحي‬

‫سرور قد شرع في إعداد قانون لمجلس الشعب بهذه‬

‫الصيغة لكن األمر توقف ولم يكتمل‪ .‬وضعف التواصل‬

‫بين المجمع وغيره من مؤسسات المجتمع يعد أكبر‬ ‫المعوقات‪ ،‬فكثير من المحاضرات واألبحاث التي ُت َ‬ ‫نشر‬

‫في مجلة المجمع ال تصل إلى الناس‪ ،‬وكم الترجمات‬

‫عن المنجزات العلمية أو غيرها كثير‪ ،‬وأي دراسة علمية تحتاج‬ ‫إلى وقت وجهد وتأني‪ ،‬وهنا تكمن المشكلة الكبرى‪ ،‬فالمجمع‬ ‫يبدو أداؤه بطي ًئا‪ ،‬ويضم مجموعة من كبار السن غير قادرين‬

‫على مالحقة ما يحدث‪ ،‬في حين الترجمات المتوالية ال يمكن‬

‫لغوية»‪ ،‬وكانت وقتها جامعة القاهرة قد قررت أن يقوم كل‬ ‫باحث ماجستير على دراسة شاعر أو أديب من القدماء‪ ،‬وقمت‬ ‫بدراسة داللية للمعاني واألضداد والمترادفات‪ ،‬وسجلت كل‬

‫المعجم اللغوي لكعب بن زهير في نحو ‪ 525‬صفحة من أصل‬

‫الرسالة المكونة من ‪ .725‬في مطلع األلفية الجديدة‪ ،‬بدأ تعاون‬ ‫بين مجمع اللغة العربية وجامعة القاهرة من خالل مشروع‬

‫توقيفها إلى حين االنتهاء من ترجمة المصطلحات‪ ،‬ومن ثم‬ ‫تنتج لدينا مصطلحات ُعرِّبت بمعرفة المترجمين على عجل‪،‬‬

‫المعجم التاريخي‪ ،‬هذا الذي تبرع حاكم الشارقة ببناء مبنى‬

‫تذيع وتنتشر إعالميًّا‪ ،‬ويصبح من الصعوبة تغييرها في أذهان‬

‫أبحاث المعجم التاريخي‪ ،‬التي تهدف إلى دراسة اللغة في‬

‫ورغم أنها ال تحمل الصواب الكافي لداللتها المعرفية إال أنها‬ ‫الناس‪ ،‬وال يتقبل أحد ما يقدمه المجمع من تصويبات أو‬

‫مصطلحات‪.‬‬

‫أعد المجمع قواميس في األنثربولوجيا والهندسة‬ ‫ً‬ ‫أحدا ال يعود إليها وال يلتزم‬ ‫والفيزياء والطب وغيرها‪ ،‬لكن‬

‫خاص به هو واتحاد المجامع العربية‪ ،‬وتعهد بأن ينفق على‬ ‫العصور األولى‪ ،‬ثم تطور صيغها في العصور التالية حتى وقتنا‬

‫الحالي‪ ،‬وهو أمر يحتاج إلى تمويل كبير ألنه بحاجة إلى تكاتف‬ ‫كثير من ال ِفرَق البحثية‪ ،‬وإذا كان األلمان والفرنسيون أنجزوا‬

‫المعجم التاريخي للغاتهم في أربعين عامً ا‪ ،‬فأنا متفائلة أننا‬

‫بها‪ ،‬وقد طالبت فور انضمامي للمجمع منذ ثماني سنوات‬

‫قادرون على إنجازه في زمن لن يتجاوز عشرين عامً ا‪ ،‬وعشرون‬

‫لجنة تجتمع بشكل يومي‪ ،‬وترد على األخطاء وتص ِّوبها‪ ،‬وال‬

‫أول عضو نسائي في المجمع المصري‬

‫بضرورة عمل لجنة لمراجعة ما ينشر في الصحف والمجالت؛‬

‫يكون موعد اجتماعها أسبوعيًّا مثل بقية لجان المجلس‪،‬‬ ‫لكن هذا االقتراح ذهب أدراج الرياح‪ ،‬ربما لمعوقات إدارية‬

‫أو بيروقراطية‪ .‬أكبر المشروعات التي يعمل عليها المجمع‬ ‫هو المعجم التاريخي للغة العربية‪ ،‬وهذا قام به األلمان‬

‫والفرنسيون في بالدهم في غضون أربعين سنة‪ ،‬شاركت فيه‬ ‫مجموعات كثيرة وكبيرة‪ ،‬بدءً ا من أساتذة الجامعات مرورًا‬ ‫بالباحثين في اللغة وصولاً إلى مدرسي اللغة في المدارس‪.‬‬

‫هذا المشروع بدأه األلماني فيشر حينما كان مقيمً ا في‬

‫مصر في األربعينيات‪ ،‬وكان يعمل بطريقة التسجيل على‬

‫عامً ا في عمر الشعوب رقم ليس بكثير‪.‬‬

‫علي السامرائي‪ :‬قضايا ال طائل‬ ‫منها‬ ‫من وظيفة المجامع اللغوية إنشاء‬

‫تواصل بين لغات العالم بهدف نقل‬

‫المنجزات الثقافية والفنية والحضارية‬

‫واإلفادة منها في تالقح اللغات وتعميق‬

‫أواصر المنجزات العلمية بين األمم‪ ،‬لكن‬ ‫يبدو أن المجامع العربية لم‬

‫تفلح إلى يومنا هذا في فهم‬

‫الجذاذات الورقية‪ ،‬وحين سافر إلى بلده قامت الحرب وفقدنا‬ ‫ً‬ ‫وأيضا‬ ‫الجذاذات التي جمعها‪ .‬أنا أول عضو نسائي بالمجمع‪،‬‬

‫واستيعاب هذا الهدف فبقيت‬

‫في الوقت من ‪ 1970‬إلى ‪1974‬م عن «كعب بن زهير‪ :‬دراسة‬

‫وال أهمية لها‪.‬‬

‫أول امرأة عملت على التاريخ اللغوي في رسالتي للماجستير‬

‫تجتر قضايا ال طائل منها‬

‫‪71‬‬


‫قضايا‬

‫ترقد اآلن على رفوف المجامع العربية مئات اآلالف من‬

‫المصطلحات في كل العلوم والفنون واآلداب والفلسفة‬

‫ومسميات علمية كثيرة لم يجدوا ما يقابلها في اللغة‬ ‫العربية‪ ،‬ما يعزز الرأي أن العربية قاصرة عن استيعاب‬

‫هذا الكم من المعارف والواقع أن عدم إيجاد ما يقابل ذلك‬ ‫في اللغة العربية ليس قصورًا بل إن ذلك ربما يضيف إلى‬

‫لغتنا ثراءً معرفيًّا في إدخال هذه المصطلحات بأسمائها‬ ‫أو األقرب إليها‪ ،‬لكن المجامع تعد ذلك خطرًا على اللغة‪،‬‬ ‫من هنا فدخول أسماء إلى لغتنا ليس لها عهد بها هو أمر‬

‫حتمي شئنا أم أبينا‪ ،‬والحاضر يقتضي من المجامع العربية‬

‫أن تنظر األمر بجدية للحاق بركب المنجزات العلمية التي‬ ‫تخطو سريعً ا‪.‬‬

‫ناقد ولغوي عراقي‬

‫أحمد فؤاد باشا‪ :‬التدريس‬ ‫في الجامعات «سمك لبن‬ ‫تمر هندي»‬ ‫المجمع كأي شيء في‬

‫المجتمع يقوى بتقوية إمكاناته‪،‬‬

‫‪72‬‬

‫شأنه شأن التعليم والمرافق‬

‫الثقافية وغيرها‪ ،‬لكن‬

‫مشكلته في أن توصياته‬ ‫اً‬ ‫وقوانيه ال تفعَّ ل‪ ،‬وهو ليس مسؤول عن تفعيلها؛‬

‫إذ إنه يخاطب على سبيل المثال التربية والتعليم‬ ‫لتصحيح المناهج وتعديلها‪ ،‬ويخاطب اإلعالم لمعالجة‬ ‫أخطاء المذيعين‪ ،‬ويخاطب الجهات القانونية لتعريب‬ ‫المصطلحات القانونية‪ ،‬وقد قام على تعريب مصطلحات‬

‫كل العلوم في مجلدات‪ ،‬لكن ال الجهات التنفيذية‬

‫تستجيب لتوصيات المجمع ومخاطباته‪ ،‬وال أحد يخرج‬ ‫المجلدات ليقرأها‪.‬‬

‫األمر يحتاج إلى قرار سيادي لجعل اللغة العربية‬

‫هي اللغة األولى بالفعل‪ ،‬ولك أن تنظر إلى حال التعليم‬

‫وتعدده‪ ،‬وهو ما يوضح أن األمر أكبر من إمكانيات‬ ‫المجمع‪ ،‬وأننا صرنا على األقل بحاجة ألن تكون خطابات‬ ‫المسؤولين باللغة العربية‪ ،‬وليس العامية‪ .‬المدهش‬

‫أن األساتذة في الجامعات ال يقومون بالتدريس باللغة‬

‫العربية‪ ،‬رغم أن اللغة قسمة أساسية في الهوية‪،‬‬

‫والتنازل عنها هو تنازل عن الهوية‪ ،‬وعلى الرغم من كثرة‬ ‫إثارة الموضوع إال أن أحدً ا ال يستجيب‪ ،‬حتى إن قاعات‬

‫الدرس صارت كما يقولون‪« :‬سمك لبن تمر هندي»‪،‬‬ ‫كلمة عربية وأخرى إفرنجية‪ ،‬وبينهما كلمات عامية‪،‬‬ ‫ومصطلحات علمية تارة‪ ،‬وشعبية تارة أخرى‪ .‬علينا أن‬

‫نستفيد من تجربة المأمون في إنشاء دار الحكمة‪ ،‬أليست‬

‫ترى ماذا قدمت المجامع العربية من‬ ‫برامج وخطط ومشاريع لالرتقاء بلغة‬ ‫التخاطب؟ ماذا قدمت من معاجم‬ ‫لتوحيد المصطلحات العربية المستخدمة‬ ‫في مجاالت اإلعالم والصحافة‬ ‫والسياسة والعلوم والتقنية؟‬ ‫أين دورها في ترجمة المصطلحات‬ ‫المستحدثة في عالمنا المعاصر؟‬

‫سيد الوكيل‪ :‬كيانات لم تعد صالحة للعمل‬ ‫آخر مرة سمع فيها اسم مجمع اللغة العربية كان منذ‬

‫خمسة عشر عامً ا‪ ،‬عندما أخبرني األديب محمد مستجاب‬

‫أنه يعمل هناك‪ .‬أنا ال أقصد إهانة أحد‪ ،‬لكني أشير إلى أن‬ ‫ثمة كيانات كثيرة فقدت وجودها بالتقادم‪ ،‬مثلاً لو سألت‬

‫مئة أديب عن دار األدباء‪ ،‬فإن تسعين منهم ال يعرفون‬ ‫عنها شي ًئا‪ .‬هذه الكيانات‪ :‬إصدارات قديمة‪ ،‬لم تعد صالحة‬ ‫للعمل وتحتاج «فرمتة» وإعادة «تسطيب»‪ .‬في الماضي‪،‬‬ ‫كان لمجمع اللغة العربية وظيفة ثقافية مهمة‪ ،‬مثلاً ‪ :‬عندما‬

‫دخلت الثالجة الكهربائية إلى مصر‪ ،‬كانت األسر األرستقراطية‬ ‫تسميها «فريجيدير» لكن جهود المجمع جعلت كل الناس‬

‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬


‫مجامع اللغة العربية‬

‫الدول العربية قادرة على إعادة إحياء هذه التجربة؟ فبيت‬

‫الطبيعي أال تجد لها أثرًا في حياة الناس‪ ،‬وربما ال يعلم كثير‬

‫حدة‪ ،‬نظ ًرا ألن المصطلحات العلمية في تزايد‪ ،‬واألمر‬

‫العربية على تعريبه منذ سنوات ال يزال الناس ال يعرفونه إال‬

‫الحكمة العصري هو المخرج من هذه األزمة التي تزداد‬ ‫يحتاج إلى قرار سيادي قوي‪.‬‬

‫لغوي وأكاديمي مصري‬

‫عبدالله مليطان‪ :‬مؤسسات منفصلة عن‬ ‫الواقع‬

‫من الناس بوجود مجمع للغة لديهم‪ .‬حتى ما اتفقت المجامع‬

‫بلغته األصلية‪ ،‬وال يتداولون ما اتفقت عليه تلك المجامع؛‬

‫ألن المجامع العربية لم تحسن الترويج له والتعريف به‪ .‬وهو‬

‫تقصير منها بالطبع للدور الذي كان عليها أن تقوم به إزاء دورها‬ ‫في خدمة لغتنا العظيمة‪.‬‬

‫يؤسفني القول‪ :‬إن مجامع اللغة أصبح شأنها شأن ما‬

‫كاتب ليبي‬

‫يجري في الواقع العربي على كل المستويات‪ ...‬بعيدة من الواقع‬

‫ممدوح فراج النابي‪ :‬ال يتردد اسم المجمع‬ ‫سوى عند الموت‬

‫بالشأن األكاديمي والعمل العلمي‪ ،‬فماذا قدمت في هذا‬

‫يتردد إال في مناسبات الموت‪ ،‬فال نسمع اسم المجمع ورئيسه‬

‫منفصلة عن حياة الناس على الرغم من طبيعة عالقتها بوسيلة‬

‫التخاطب‪ ،‬وهو اللسان العربي‪ ...‬وإن قال قائل‪ :‬إن أمرها يتصل‬ ‫الصدد؟ وفي تصوري أن أي مؤسسة ال تتصل مباشرة بالناس‬

‫ال جدوى من وجودها‪ .‬ترى ماذا قدمت المجامع العربية من‬

‫برامج وخطط ومشاريع لالرتقاء بلغة التخاطب؟ ماذا قدمت‬ ‫من معاجم لتوحيد المصطلحات العربية المستخدمة في‬ ‫مجاالت اإلعالم والصحافة والسياسة والعلوم والتقنية؟‬ ‫أين دورها في ترجمة المصطلحات المستحدثة‬ ‫في عالمنا المعاصر؟ بالطبع هناك من‬ ‫سيتعلل بعدم وجود اإلمكانات المادية‬

‫الداعمة لنشاطه وبالعراقيل التي تواجهه إداريًّا‬ ‫وفنيًّا‪ ...‬وهو أمر واقع لذلك فإن الدول التي‬

‫ال يعنيها أمر اللغة ومجامعها ما كان عليها‬ ‫أن تنشئ مجمعً ا لتتركه يعاني الدعم‬ ‫وقلة اإلمكانات ليكون عب ًئا عليها‬ ‫وثقلاً يضاف إلى أثقالها‪ .‬لذلك من‬

‫دور مجمع اللغة العربية في الواقع الثقافي مع األسف ال‬

‫إال إذا غيّب الموت أحد أعضائه أو استبدال آخر براحل‪ .‬هكذا‬ ‫اختفى الدور الفاعل لمجمع اللغة العربية على الرغم من الحاجة‬

‫الماسة له اآلن في ظل حالة الخلط اللغوي التي صارت دخيلة‬ ‫على اللغة‪ .‬لم يأخذ المجمع بالصيحات والدعوات المطالبة‬

‫بالحفاظ على اللغة العربية‪ ،‬ومقاومة القبح اللغوي‬

‫الماثل في استخدام الحروف الالتينية في‬ ‫اللوحات اإلعالنية‪ ،‬أو على األقل لم يسعَ لتنفيذ‬

‫قراراته‪ ،‬كما أن المجمع صار دائمً ا متأخ ًرا‬ ‫خطوة للخلف في مالحقة الطفرة التكنولوجية‬

‫والمتغيرات العالمية التي انتقل تأثيرها إلى‬

‫اللغة‪ .‬في ظل كثير من الكوادر‬ ‫العاملة في المجمع التي‬ ‫يعوّل عليها‪.‬‬

‫ناقد مصري‬

‫تقول «الثالجة»‪ .‬وأنا أعرف أن دوره كان كبي ًرا في مجال تعريب المصطلحات العلمية (الهندسية والطبية والفيزيائية‪)...‬‬ ‫ولوال هذا التعريب لما عرفنا شي ًئا عن هذه المصطلحات وظللنا جاهلين بها‪.‬‬ ‫ومع ذلك فليس كل ما أطلقه المجمع استخدمه الناس‪ ،‬فال أحد يقول عن التلفزيون «مرناء»‪ ،‬وال على التلفون‬

‫«مسرة»‪ .‬الناس تعلمت تصريف المصطلحات األجنبية‪ ،‬وهضمها في التكوين الثقافي الذي يلبي حاجاتهم اليومية مثل‪:‬‬ ‫تلفزة‪ ،‬تلفنة‪ ..‬وتدليت وتسطيب وفرمتة وهكذا‪ ،‬وشي ًئا فشي ًئا ّ‬ ‫حلت محل هذه الكيانات‪ ،‬وأصبحت تسيطر على الحراك‬ ‫اللغوي في الشارع‪ ،‬وهذا الدور اتسع بشكل كبير مع عصر التكنولوجيا‪ .‬مثلاً ‪ ،‬الناس تقول‪ :‬اديني ماسيج أو ميسد كول‪،‬‬ ‫وتقول فالن «بيشيّت» على طول‪ ،‬أي مدمن على الشات‪ ..‬أو «ن ّتاوي» أي مدمن على اإلنترنت أو «يدوّن» أي يحمّ ل أشياء‬

‫من على الشبكة‪ .‬وتنتقل هذه اللغة إلى السلوك والصفات‪ ،‬فنقول‪ :‬فالن «هاكر»‪ .‬أي يسرق أفكارك ويستخدمها لنفسه‪.‬‬

‫والتوسع في هذه الظاهرة‪ ،‬يشير إلى أمر من االثنين‪ :‬إما أن الناس فككت هذه الكيانات وحلت محلها وقامت بدورها‪،‬‬

‫وإما أن هذه الكيانات ماتت إكلينيكيًّا والناس مضطرة ألن تمأل ذلك الفراغ بطريقتها االرتجالية‪ .‬والسؤال اآلن‪ :‬إلى متى سنتلكأ‬

‫قبل إعادة النظر في هذه الكيانات‪ ،‬سواء بتحديث دورها أو بإحالتها للتقاعد مع الشكر‪ .‬لكن المؤكد أنها كثيرة ومعوقة ألي‬ ‫نهوض‪.‬‬

‫‪73‬‬


‫قضايا‬

‫كل اللهجات تمارس إزاحتها للغة الضاد‪،‬‬ ‫وهذا أمر يمكن أن يساهم في اضمحالل‬ ‫عدد الكلمات المستخدمة التي نجدها‬ ‫كثيرا حتى إننا نحتاج‬ ‫اآلن قد تقلصت‬ ‫ً‬ ‫إلى ترجمات للمعلقات وإلى الموروث‬ ‫جيدا‬ ‫األدبي العربي كي نفهمه‬ ‫ً‬ ‫محمد المغبوب‪ :‬يبدو أن أم ًرا قد حدث في‬ ‫غفلة منا ولم تدركه المجامع‬

‫لم يعد للدور المناط بمجامع اللغة العربية‬

‫في الوطن العربي من عمل نراه على الواقع‬ ‫المعيش‪ ،‬حيث نجد لغتنا في ظل لغة‬ ‫اآللة الغربية وقريبًا الصينية وهي تتوسع‬

‫على حساب لغة القرآن الكريم حيث تأتي‬

‫بمفردات جديدة تلصق على ألسنتنا وتتسرب‬

‫حتى إلى الديوان الرسمي وإلى القنوات اإلعالمية‬

‫ووسائل االتصال المباشر‪ ،‬ناهيك عن زحف اللغة‬

‫‪74‬‬

‫المحكية حيث كل اللهجات تمارس إزاحتها للغة‬ ‫الضاد‪ ،‬وهذا أمر يمكن أن يساهم في اضمحالل‬ ‫عدد الكلمات المستخدمة التي نجدها اآلن‬

‫قد تقلصت كثيرًا حتى إننا نحتاج إلى ترجمات‬ ‫ً‬ ‫جيدا‪.‬‬ ‫للمعلقات وإلى الموروث األدبي العربي كي نفهمه‬ ‫يبدو أن أمرًا قد حدث في غفلة منا ولم تدركه المجامع‬ ‫العربية وال قدر أصحاب اللغة من بحاث وأدباء وأساتذة‬

‫اللغة على اللحاق به ومعالجته لعدم الوقوف عليه‪.‬‬

‫إن أهم ما في األمر كله هو أن المصطلح صار يشكل لنا‬

‫ربكة في الفهم تفسيرًا وفهمً ا‪ ،‬وقد يتلون المصطلح الواحد‬

‫بعد إيحاءات تجعلنا في لبس وفي حيرة‪ .‬ويتجلى هذا حتى‬ ‫عند تفسير القرآن الكريم حيث نخلط بين النزول والهبوط‬ ‫والسقوط مثلاً ‪ ،‬وبين الكتاب واللوح والذكر والقرآن‪ ،‬وحين‬ ‫عقد المعاهدات الرسمية والعقود مع اآلخر على مستوى‬

‫الترجمة والتأويل‪.‬‬

‫هذا كله لم يكن وليد اللحظة بل هو تراكم عبر حقب‬

‫التاريخ‪ ،‬وبخاصة ما بعد القرن التاسع عشر بعد ثورات‬

‫عالمية في السياسة والحكم وفي العلوم كافة‪ ،‬إذ حين‬

‫هم يثورون ويغيرون كنا نحن العرب نمارس فعل الفرجة‬ ‫ونتلقى المنجزات وال نأتي بها‪ ،‬فصار العالم يتحدث بلغته‬

‫وكذلك نحن فاعلون‪.‬‬

‫كاتب ليبي‬

‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬

‫تضييق الخناق على العزلة‬ ‫التي تعانيها «العربية»‬ ‫ال يختلف اثنان على ما تشهده مجامع اللغة العربية‬

‫من عزلةٍ أو غرب ٍة عن محيطِ ها‬ ‫ألسباب متعلقة بها أو خارجةٍ‬ ‫ٍ‬ ‫عن إرادتها‪ ،‬وهي «أزمة» تستفحل أو ْ‬ ‫تخ ُفت‪ ،‬تبعً ا لطبيعة‬

‫المشروعات وفاعلية البرامج التي تتولى المجامع تنفيذها‪،‬‬ ‫أملاً في مدّ الجسور بين الواقع والمأمول في مجال الحفاظ‬ ‫على «العربية» وحمايتها‪.‬‬

‫«نعم‪ ،‬هناك عزلة تعانيها المجامع ال يمكن إنكارها»‪،‬‬

‫يقول األمين العام لمجمع اللغة العربية األردني‪ ،‬الدكتور‬

‫محمد السعودي‪ ،‬رادًّا ذلك إلى أسباب من أبرزها «غياب‬

‫التشريع» كما يرى‪ .‬ولهذا فإنه يؤكد أن مجمع اللغة العربية‬ ‫الذي فاز بجائزة الملك فيصل العالمية (فرع المؤسسة‬

‫العلمية الفائزة عن فرع اللغة العربية واألدب لعام ‪2016‬م)‪،‬‬ ‫َ‬ ‫نفض كثي ًرا من الغبار عن كاهله‪ ،‬وتجاوَز مرحلة «مراوحة‬ ‫مكانه» بعد إقرار تشريعَ ين مهمَّ ين مؤخ ًرا‪ ،‬هما قانون مجمع‬

‫اللغة العربي‪ ،‬وقانون حماية اللغة العربية‪.‬‬

‫ويوضح السعودي أن قانون المجمع أعاد تنظيم األدوار‬ ‫داخل المجمع ببني َتيه اإلدارية والفنية‪ ،‬أما قانون حماية‬ ‫َ‬ ‫محصلة‬ ‫العربية‪ ،‬فهو «إنجاز كبير» على حدّ تعبيره‪ ،‬جاء‬ ‫نضاالت طويلة تواصلت على مدى سنوات‪ .‬ومن البنود التي‬ ‫ٍ‬

‫تضمّ نها القانون ويعوّل عليها القائمون على المجمع وسدَ نة‬

‫«العربية»‪ ،‬عدم تعيين أيٍّ من المشتغلين في مجال اللغة‬ ‫من معلمين وصحافيين وسواهم‪ ،‬اّإل بعد اجتياز «امتحان‬ ‫الكفاية» الذي صدر نظامه مؤخ ًرا‪ ،‬وحُ وِّل إلى الحكومة‬ ‫َ‬ ‫ليوضع موضع التنفيذ‪.‬‬ ‫ويؤكد السعودي أنّ هذا االمتحان ُطب َِّق بنجاح في وزارة‬

‫التربية والتعليم سنة ‪2016‬م‪ ،‬وأن استمرار تطبيقه عند ملء‬ ‫الوظائف الشاغرة سيضيّق الخناق على العزلة التي تعانيها‬ ‫ّ‬ ‫وسيخلصها من «غربتها» إلى حدّ ما‪ .‬ويضيف‬ ‫«العربية»‪،‬‬ ‫َ‬ ‫بغية‬ ‫أن المجمع يعمل حاليًا على تبسيط امتحان الكفاية‬ ‫إخضاع الطلبة الجامعيين الجدد له‪ ،‬ومَ ن يجتازه بنجاح‬

‫سيسقط عنه مساقان دراسيان في اللغة العربية‪ .‬وبالتالي‬ ‫ً‬ ‫تخفيضا للنفقات وتوفي ًرا للوقت‪ ،‬إلى‬ ‫فإنّ في هذا التوجّ ه‬ ‫جانب تشجيع الشباب على إثراء مخزونهم اللغوي‪.‬‬

‫ويشير األمين العام للمجمع‪ ،‬إلى مكتبة األطفال التي‬

‫د ِّ‬ ‫ُشنت في أواخر يوليو عام ‪2017‬م‪ ،‬وهي «مشروع رائد» يغرس‬ ‫حب العربية في نفوس الطلبة‪ ،‬ويعمل على تنمية مهاراتهم‬ ‫َّ‬


‫مجامع اللغة العربية‬

‫الملك سلمان يسلم خالد الكركي جائزة الملك فيصل العالمية للغة العربية واألدب لعام ‪2017‬‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫واستماعا‪ ،‬وإثراء حصيلتهم اللغوية بمفردات جديدة ومتنوعة‪ ،‬وخلق روح اإلبداع اللغوي‬ ‫ومحادثة‬ ‫وقراءة‬ ‫كتابة‬ ‫اللغوية‬

‫فيهم‪ ،‬وحفزهم إلى إدراك مفاهيم اللغة هوية األمة ووعاء حضارتها وحاضنة تراثها‪.‬‬ ‫ً‬ ‫صيغا متنوعة تواكب المستجدات‪ ،‬جاءت فكرة إذاعة المجمع‬ ‫وألن التواصل مع الشرائح المستهدفة في المجتمع يتطلب‬ ‫ً‬ ‫حريصة على االرتقاء بالذائقة الفنية للمستمعين‪ ،‬وتحبيب الناس بالفصيحة‪ ،‬وتعريفهم بقدرات‬ ‫التي بدأت بثها التجريبي‬

‫اللغة وكنوزها ومرونتها وغناها اللفظي والتعبيري‪.‬‬

‫ومما يُحسب للمجمع‪ ،‬أنه بدأ يتصدّ ى لمهمة تعريب المصطلحات األجنبية ووضعها في السياق العربي‪ ،‬مثل‪:‬‬

‫مصطلحات الطاقة المتجددة‪ ،‬ومصطلحات السياقات السلوكية والطبية والصحية والبيئية والعمرانية‪ .‬وهذا يتم بالتعاون مع‬ ‫مجموعات طالبية مهتمّ ة تتفاعل على موقع التواصل االجتماعي (فيسبوك)‪.‬‬

‫من ناحية‪ ،‬للباحث واألكاديمي الدكتور غسان عبدالخالق‪ ،‬رأيٌ آخر في مسألة حضور مجامع اللغة العربية وتأثيرها‪،‬‬

‫وعجزها عن تطبيق مقترحاتها اللغوية؛ إذ يؤكد أن هذه المجامع «تمثل تجسيدً ا حقيقيًّا لمدى انفصال مستودعات اللغة عن‬

‫ٌ‬ ‫متفاوت من مجمع آلخر؛ فهناك مبادرات «جديرة باالحترام»‬ ‫إيقاع الشارع ومستجدات الحياة»‪ ،‬موضحً ا أن هذا االنفصال‬

‫مثل مبادرات مجمع اللغة األردني‪ ،‬لكن المشهد المجمعي العام «ال يدعو للتفاؤل»‪.‬‬

‫ً‬ ‫دعوة لرصد ألفاظ ومصطلحات «الربيع العربي» وتوثيقهما وإفرادهما بمعجم‬ ‫سنوات‬ ‫ويضيف عبدالخالق أنه أطلق قبل‬ ‫ٍ‬

‫خاص‪ ،‬لكن هذه الدعوة التي ال تحتاج أليّ تبرير فـ«الربيع العربي» يمثل أخطر ما مرت به األمة العربية في العصر الحديث‪ -‬ما‬ ‫يفضل االستغراق في مفردات القرون الهجرية األولى اً‬ ‫زالت تصطدم بذهنية «أمين المستودع اللغوي» الذي ّ‬ ‫بدل من االنخراط‬ ‫في مواكبة واستدخال مفردات القرنين العشرين والحادي والعشرين‪.‬‬

‫ويذ ّكر عبدالخالق بما ذهب إليه ّ‬ ‫كل من هشام شرابي ومحمد عابد الجابري وفهمي جدعان قبل عقود بخصوص «أبوية‬

‫مجامع اللغة وصنميتها»‪ ،‬وهو النهج الذي يرى أنه ما زال ساريَ المفعول‪ .‬وكان رئيس مجمع اللغة العربية األردني الدكتور‬ ‫خالد الكركي‪ ،‬أكد خالل ّ‬ ‫تسلمه جائزة الملك فيصل العالمية التي مُ نحت للمجمع في ‪ 4‬إبريل من العام الحالي‪ ،‬على أهمية‬

‫إقرار قانون حماية اللغة العربية الذي يركز على العربية السليمة ال الفصحى‪ ،‬ويُلزم المؤسسات الحكومية والخاصة باستخدام‬ ‫َ‬ ‫األمانة العامة للجائزة‪ ،‬إلى تبني مبادرة توحيد مجامع اللغة العربية‬ ‫اللغة العربية في جميع وثائقها وإعالناتها‪ .‬ودعا الكركي‬

‫تحت لواء مجمع عربي موحّ د‪ ،‬يكون مقره الرئيسي في مكة المكرمة‪ ،‬وذلك بهدف صياغة الرسائل اإلستراتيجية والعامة التي‬

‫تخدم لغة الضاد في محيطها وعمقها العربي‪.‬‬

‫‪75‬‬


‫قضايا‬

‫عبدالله الوشمي‪:‬‬ ‫اللغة التي ال يتحدثها األطفال‬ ‫تسير إلى الموت‬ ‫الرياض‬

‫يتطلع األمين العام لمركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز الدولي لخدمة اللغة العربية الدكتور عبدالله‬ ‫الوشمي إلى مجموعة من المبادرات في خدمة اللغة العربية‪ ،‬من خالل إستراتيجيات تنظر إلى الشباب‬ ‫رئيسا من الحل وليسوا جزءًا من المشكلة‪ ،‬وتوظيف خبراتهم وطاقاتهم لخدمة اللغة العربية‪.‬‬ ‫بوصفهم جزءًا ً‬ ‫الوشمي يلفت في حوار مع «الفيصل» إلى أن الرهان على حركة تعليم العربية مهم ويجب أن يتوافر من‬ ‫أجله األفراد والمؤسسات‪ ،‬وأن يتداخل فيه شرائح متنوعة‪ ،‬مشد ًدا على أن اللغة صانعة اإلبداع‪ ،‬وأن اإلنسان‬ ‫ال يفكر إال باللغة‪ ،‬وأن اللغة التي ال يتحدثها األطفال هي لغة تسير إلى الموت‪ .‬إلى نص الحوار‪:‬‬

‫‪76‬‬

‫● ماذا قدم مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز الدولي لخدمة‬

‫ً‬ ‫رابعا‪ :‬تأسيس ورعاية برامج لغوية متنوعة في آسيا وإفريقيا‬

‫■ يتأسس مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز الدولي لخدمة‬

‫وتأسيس معامل مثل‪ :‬معمل اللغة العربية في جامعة إسطنبول‪،‬‬

‫اللغة العربية حتى اآلن؟‬

‫اللغة العربية على مبادئ عامة أهمها أنه يجتهد في أن تكون اللغة‬

‫العربية مسؤولية الجميع‪ ،‬وليست مسؤولية فرد أو مؤسسة‪ ،‬وتبعً ا‬

‫لذلك يطلق برامجه في مختلف المجاالت‪ ،‬ويجتهد في أن يعمل مع‬ ‫الشركاء‪ ،‬وأن يفعِّ ل أدوارهم في خدمة اللغة العربية‪ ،‬بحيث ال‬ ‫يُظن أن العربية مسؤولية قسم النسخ والتحرير فقط! إنما هي رؤية‬ ‫وهوية‪ ،‬ويمكن أن نقول‪ :‬إن أبرز مجاالت العمل في المدة الماضية‬

‫تركزت على‪:‬‬ ‫اً‬ ‫أول‪ :‬تأسيس وإطالق مجموعة كبيرة من البحوث التي تعالج‬ ‫قضايا لغوية دقيقة يزيد عددها على ‪ ٤٠٠‬مشروع علمي شارك فيها‬

‫عدد كبير من المختصين‪.‬‬

‫ثانيًا‪ :‬إطالق برامج تبحث أحوال اللغة العربية في العالم؛ ألننا‬

‫نتكلم عن اللغة وال نملك إحصاءات دقيقة عنها‪ ،‬وتبعً ا لذلك‬

‫أطلقت قواعد البيانات (أكثر من ثالث قواعد موجودة‬

‫في موقع المركز) إضافة إلى مشروع اللغة‬ ‫العربية في العالم وسلسلة األدلة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ثالثا‪ :‬العمل على عقد الشراكات النوعية‬

‫مع مختلف الجهات ذات الحضور الدولي‬ ‫من المنظمات وغيرها‪.‬‬

‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬

‫وأوربا من خالل شهر اللغة العربية في الصين وفي الهند وفي تركيا‪،‬‬ ‫ودعم أقسام اللغة العربية‪ ،‬وإطالق المنح في السنغال وأوغندا‬

‫وجيبوتي‪ ،‬ودعم المكتبات في البالد غير العربية‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬


‫مجامع اللغة العربية‬

‫ً‬ ‫خامسا‪ :‬العمل على تهيئة المؤسسات‬

‫المتنوعة في بالدنا الغالية على إيجاد مسار‬

‫رئيس لخدمة اللغة العربية ضمن أعمالها‬

‫منطلقين من الرؤية األولى حول مسؤولية‬ ‫الجميع في خدمة اللغة العربية‪.‬‬ ‫● َ‬ ‫إالم يتطلع المركز؟‬

‫■ نتطلع إلى مجموعة من المبادرات في‬

‫خدمة اللغة العربية إستراتيجيًّا‪ ،‬وأتمنى أن‬

‫تتحقق قريبًا‪ ،‬وال أعتقد أنها صعبة المنال‪ ،‬وطمعً ا في التركيز فإني‬

‫إحدى فعاليات المركز‬

‫● ما رأيكم في مجامع اللغة العربية بشكل عام؟ وما‬

‫التحديات التي تعترضها؟ وكيف يمكن مواجهتها؟‬

‫أشير إلى ثالثة مسارات منها‪:‬‬ ‫اً‬ ‫أول‪ :‬التنسيق‪ :‬نحن نلحظ من خالل االستقراء العام وجود‬

‫■ مجامع اللغة العربية في البالد العربية تقوم بوظيفة مهمة‬

‫وفي البالد العربية‪ ،‬لكنها جهود متفرقة‪ ،‬ونتأسف حين نجد مشرو ًعا‬

‫تمثل دولها بشكل رئيس؛ فإننا يجب أن نشير إلى أنها تقوم بجهد‬

‫جهود لغوية متنوعة في بالدنا الغالية المملكة العربية السعودية‬ ‫واحدًا في بالدنا تتنازعه عدة جهات وكلها تستهدف خدمة اللغة‬ ‫نوعي بين الجهات‬ ‫العربية‪ ،‬ولذلك نطالب بأن يكون هناك تنسيق‬ ‫ّ‬

‫المعنية باللغة العربية‪ ،‬واألفكار في المشروعات التي تخدم اللغة‬ ‫العربية‪ ،‬وأن تتولى المؤسسات العامة أو المرجعية مثل مركز الملك‬ ‫عبدالله بن عبدالعزيز الدولي لخدمة اللغة العربية إطالق مبادرات‬ ‫للتعريف بالجهود المتنوعة‪.‬‬

‫ثانيًا‪ :‬مكانة الشباب‪ :‬يجب أن ننظر إلى الشباب بوصفهم جزءًا‬

‫رئيسا من الحل وليسوا جزءًا من المشكلة‪ ،‬وأن نوظف خبراتهم‬ ‫ً‬ ‫وطاقاتهم لخدمة اللغة العربية‪ ،‬ويمكنني أن أشير إلى أن تعريبًا‬

‫واحدًا ألحد تطبيقات الهاتف الذكي قام به شاب يعادل جهدًا متنو ًعا‬

‫يقوم به بعض األقسام أو الجهات اللغوية‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ثالثا‪ :‬نحن في زمن ُتشكلنا فيه التقنية‪ ،‬ويجب علينا جميعً ا أن‬ ‫نكثف حضور المؤسسات اللغوية والمبادرات اللغوية في هذا المجال‬

‫بهدف أن نصل إلى الصيغة األنسب‪.‬‬

‫● ما آلية العمل داخل المركز؟‬

‫في خدمة اللغة العربية؛ ولئن كانت مرتبطة بالجانب القطري إذ‬ ‫نوعي في مجال المعاجم والتصحيح اللغوي وغير ذلك‪ ،‬وهي تواجه‬ ‫تحديات عدة؛ أهمها الصورة النمطية التي حوصرت المجامع بها من‬ ‫خالل النظر إلى أنها ثانوية‪ ،‬وأنها تترك الجوانب الرئيسة‪ ،‬علمًا بأن‬ ‫أنظمتها التي س ّنتها لها الجهات التنظيمية في دولها هي التي حصرتها‬ ‫ضمن أُطر محددة‪ ،‬ولعل من أفضل السبل لمواجهة هذه التحديات‪:‬‬ ‫اً‬ ‫أول‪ :‬أن يهيأ لهذه المجامع إطار العمل الدولي وليس العمل‬

‫ُ‬ ‫الق ْطري فحسب‪.‬‬

‫ثانيًا‪ :‬استحداث أنظمة لدخول الشباب والنساء فيها من‬

‫المتخصصين والمتخصصات‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ثالثا‪ :‬إلزام هذه المجامع بأن يكون لها شق تقني مماثل لشقها‬

‫الواقعي؛ ألن الحياة تتجه نحو هذا االتجاه‪ ،‬ويجب أن تكون جميع‬ ‫الخدمات التي تقدمها موجودة على الشبكة‪.‬‬

‫● كيف ترون الوضع الذي تعيشه اللغة العربية الفصحى مع‬

‫أجيالها من الطلبة والمعلمين وغيرهم؟‬

‫■ هذا السؤال يحتاج إلى لقاءات حوارية متنوعة ودراسات‬

‫■ يقوم المركز بتحقيق أهدافه المنصوص عليها في تنظيمه‬

‫دقيقة للوصول إلى صيغة من صيغ اإلجابة‪ ،‬وهو مما تفتقده لغتنا‪،‬‬

‫الجهات المتنوعة‪ ،‬فيوجد في بالدنا أكثر من ستين قسمًا للغة‬

‫اإلشارة إلى أن الرهان على حركة تعليم العربية هو رهان مهم‪ ،‬ويجب‬

‫الصادر من مجلس الوزراء‪ ،‬في سياق خطط تتكامل مع عمل‬ ‫العربية مع كثير من الجهات المعنية باللغة العربية أو بثقافتها‪،‬‬

‫والمركز قد وضع خطة تكاملية للعمل مع الجهات المتنوعة في‬ ‫المملكة‪ .‬وتردنا طلبات لتعليم العربية للناطقين بها‪ ،‬لكن المركز ال‬ ‫يقوم بهذا العمل بشكل مباشر‪ ،‬إنما يتيح ذلك لشركائه في المعاهد‬

‫وفي الجامعات السعودية كيال ال تتكرر الجهود‪ ،‬على حين تصدى‬

‫المركز لعمل لقاءات التنسيق والشراكة بين الجهات واألقسام‬ ‫اللغوية ألول مرة َ‬ ‫ورشد هذا اللقاء حتى انعقد منه أربعة لقاءات‬ ‫بحثت فيها المشروعات المشتركة‪ ،‬وما إلى ذلك‪.‬‬

‫ولذلك نعمل اآلن على مشروع «مؤشر اللغة العربية»‪ ،‬ويتعين هنا‬ ‫أن يتوافر من أجله األفراد والمؤسسات‪ ،‬وأن تتداخل فيه شرائح‬

‫متنوعة منهم المختصون باللغة‪ ،‬ومنهم المختصون بالتربية‪،‬‬

‫ومنهم المعنيون في قطاعات التنمية والحضارة بشكل عام؛ إذ إن‬ ‫تعليم العربية في المدارس والجامعات ووسائل اإلعالم المتنوعة هو‬ ‫نافذة مهمة لكي نصنع جيلاً يعتز بلغته‪ ،‬وينظر إليها بوصفها تقع‬

‫في المنزلة العليا من اهتماماته‪ ،‬فاللغة صانعة اإلبداع‪ ،‬واإلنسان‬

‫ال يفكر إال باللغة‪ ،‬واللغة التي ال يتحدثها األطفال هي اللغة التي‬ ‫تسير إلى الموت‪.‬‬

‫‪77‬‬


‫مقال‬

‫محمد علي اليوسفي‬ ‫كاتب ومترجم تونسي‬

‫هل نعيش ًّ‬ ‫حقا أزمة في الشعر‬ ‫وازدها ًرا للرواية؟‬ ‫‪ ‬فيما يتحدث بعض عن «أزمة الشعر» في ح ّد ذاته‪،‬‬

‫يلجأ آخرون إلى ربط أزمته بازدهار فنّ الرواية‪ ،‬زاعمين أنّ‬

‫ينظر إليها عندنا‪ ،‬للوهلة األولى‪ ،‬كأنها هروب من ضيق الشعر‬

‫العصر هو عصر الرواية‪ ،‬من دون الذهاب إلى ما هو أبعد‪،‬‬ ‫والقول مثلاً ‪ :‬إن الرواية باتت «ديوان العرب» فال ب ّد للعرب‬

‫إلى رحابة الرواية‪ ،‬والواقع ليس كذلك‪ ،‬فليس «كل» من كتب‬ ‫الشعر قد «هرب» إلى الرواية اً‬ ‫أول‪ ،‬وثانيًا أراد الذي جمع بين‬

‫أزمة تطور‪ ،‬ومنطق عصر‪ ،‬وقد م ّرت بها البلدان المتقدمة‬

‫اليومي ربما تضيق بهما القصيدة‪ ،‬وارتأى أنه قادر على الخوض‬

‫ّ‬ ‫ولعل األزمة ليست أزمة شعر بل هي‬ ‫من ديوان كما يبدو!‬

‫‪78‬‬

‫بينهم‪ ،‬من يجمع بين كتابة الشعر وكتابة الرواية‪ ،‬في عملية‬

‫قبلنا‪.‬‬

‫‪ ‬وليس الشعر بقادر في عصرنا‪ ،‬على أن ينافس‬

‫«فرجوية» الفنون الجديدة بسالحه الجوّاني‪ ،‬البوحي‪،‬‬

‫الحميم‪ .‬وال شك أنّ العصور السابقة نفسها شهدت مثل‬

‫هذه الظاهرة‪ ،‬فكل عصر كان يتميز بـ«فحل» واحد أو‬ ‫«فحلين»‪ ،‬بينما ننظر نحن اليوم إلى الخلف ونظنّ أنّ كلّ‬ ‫ماض واحد أو مرحلة‬ ‫شعراء العرب الكبار قد وُجدوا في ٍ‬

‫واحدة بنظرة تجريدية واختزالية للماضي‪ ،‬مقابل فقر‬

‫الحاضر!‬ ‫‪ ‬وحتى الجمهور‪ ...‬فقد نحسب‪ ،‬أو نخال‪ ،‬أنّ كلّ‬ ‫الرعيّة‪ ،‬أيام اإلمبراطوريات‪ ،‬كانت تحب الشعر‪ ،‬أو‬

‫تتعاطاه‪ .‬فليكنْ ! لكنْ ‪ ،‬ال ب ّد أنهم كانوا «مضطرين» إلى‬ ‫ذلك‪ ،‬فلم تكن لديهم وسائل فرجوية متعددة‪ ،‬ولم‬

‫يكن الشعر الفصيح‪ ،‬بالتأكيد‪ ،‬في متناول الجميع‪،‬‬

‫(نظرة أخرى اختزالية)‪ ،‬وهذا ما يفسر نشأة الحكايات‬ ‫ّ‬ ‫ولعل حكايات ألف ليلة‬ ‫وازدهار‪ ‬فنون أخرى من القول‪،‬‬

‫وليلة تقدّم أبرز مثال على ذلك‪ً .‬‬ ‫ً‬ ‫وعطفا على‬ ‫إذا‪ ،‬فالرواية‪،‬‬

‫ما سبق‪ ،‬ليست السبب في أزمة الشعر‪ ،‬ولم تحتل ديوانه‪،‬‬

‫وال هي تطمح إلى ذلك‪ ،‬ما دامت «ضحية» عصرها‪،‬‬

‫بدورها‪ ،‬وبهذه الدرجة أو تلك‪ .‬وبالنـظر إلى حداثة عهدنا‬ ‫بفن الرواية‪ ،‬فقد سهلت اإلشارة إليها بأصابع االتهام‪.‬‬

‫ما زال عدد الشعراء أكبر من عدد الروائيين‪ ،‬بل هناك‪،‬‬ ‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬

‫الشعر والرواية أن يفتح سجلاًّ‬ ‫ً‬ ‫مختلفا للحياة النثرية واإليقاع‬ ‫فيه‪.‬‬

‫‪ ‬هذه الظاهرة موجودة بكثرة في الغرب‪ ،‬أي الجمع بين‬

‫الرواية والشعر (لورنس داريل‪ ،‬ولوي أراغون‪ ،‬وأستورياس‪،‬‬

‫وبورخيس‪ ...‬إلخ) وإنْ كانت الغلبة الفنية تتم لنوع على حساب‬

‫اآلخر‪ ،‬وال أحد حسبها تهديدًا للشعر‪ ،‬وذلك ل ِقدمهما معً ا‪ .‬فإذا‬ ‫كان ال ب ّد من حديث عن أزمة في الشعر‪ ،‬ال ب ّد ً‬ ‫أيضا من التأكيد‬

‫على أنها أزمة ال تتعلق بالشعر‪ ،‬وال بالشاعر وال‪ ..‬بالرواية!‬ ‫‪ ‬إنها معطيات عصر جديد‪.‬‬ ‫الحكاية هي الحكاية‬

‫‪ ‬احتاج اإلنسان منذ القدم‪ ،‬إلى سرد الحكايات‪ ،‬بدءً ا‬

‫باألسطورة التي لم تكن كذلك بالنسبة إليه‪ ،‬بل كانت طريقة‬

‫لفهم العالم ومحاولة التكيف معه‪ ،‬ثم تلتها الخرافات والمالحم‬ ‫والحكايات واألخبار‪.‬‬

‫‪ ‬ظل لنا من ّ‬ ‫ّ‬ ‫كل ذلك‪ ،‬في عصورنا الحديثة‪ ،‬تلك الحاجة‬

‫إلى سرد الحكايات‪ ،‬لكن طريقة السرد تطورت عبر أشكال‬

‫أسلوبية متعدّدة‪ ،‬ووسائط فنية مختلفة‪ .‬من السرد التقليدي‬

‫(وال سيما الخبر والحكاية والسيرة) تطوّر فن القصة والرواية‪،‬‬ ‫ليتوسع شاملاً اإلنتاج المرئي والمسموع‪ .‬غير أنّ السرد‪ -‬بالمعنى‬ ‫ً‬ ‫الدقيق للكلمة‪ّ -‬‬ ‫وبجنسي القصة القصيرة‬ ‫لصيقا بالكتابة‪،‬‬ ‫ظل‬ ‫ِ‬ ‫والرواية تحديدًا‪ .‬لقد تنوع السرد وفق المدارس الفنية التي‬

‫شهدتها اآلداب العالمية‪ ،‬من الكالسيكية‪ ،‬إلى الواقعية بأنواعها‪،‬‬


‫اً‬ ‫وصول إلى ما يسمى بالواقعية السحرية‪ ،‬ويمكن القول‪ :‬إن تلك‬ ‫َ‬ ‫تتالش كليًّا‪ ،‬في أيامنا‪ ،‬بل ظلت منها عناصر‬ ‫المذاهب الفنية لم‬

‫كثيرة‪ ،‬جمع بينها السرد الحديث حتى صارت الكتابة تفاجئنا‬ ‫بتنوّعها من كاتب إلى آخر‪ ،‬ومن قصة إلى رواية‪ .‬فإلى جانب‬

‫التقنيات التي باتت معتادة‪ ،‬مثل الوصف والحوار والمناجاة‬ ‫(المونولوغ) واالسترجاع (الفالش باك) وغيرها‪ ،‬عاد السرد‬

‫ليستفيد من المنجزات األحدث في الفنون األخرى‪ ،‬وبخاصة في‬

‫السينما‪ ،‬على غرار التقطيع والتركيب وما إلى ذلك‪ ،‬كما أسرع‬ ‫إلى محاولة االستفادة مما هو أحدث‪ :‬اإلنترنت‪.‬‬

‫‪ ‬ما زال عدد الشعراء أكبر من عدد الروائيين‪،‬‬ ‫بل هناك‪ ،‬بينهم‪ ،‬من يجمع بين كتابة‬ ‫الشعر وكتابة الرواية‪ ،‬في عملية ينظر‬ ‫إليها عندنا‪ ،‬للوهلة األولى‪ ،‬كأنها هروب‬ ‫من ضيق الشعر إلى رحابة الرواية‪،‬‬ ‫والواقع ليس كذلك‬

‫‪ ‬وفي هذا المجال ظهرت روايات كثيرة‪ ،‬أجنبية وعربية‬

‫تهتم بالمؤالفة بين السرد القديم وبين ظاهرة جديدة أكثر فتنة‬ ‫وشمولية وإثارة لالهتمام؛ ألنها تتكلم بلغة العصر‪.‬‬

‫ما يستفيد منه السرد في هذا المجال‪ ،‬هو محاولة ّ‬ ‫توخي ما‬

‫يميز اإلنترنت من إيجاز وسرعة وتواصل عبر العالم‪ ،‬سواء فيما‬ ‫يتعلق بنقل المعلومة أم بالتخاطب واالتصال بين األشخاص‪،‬‬ ‫بما في ذلك قصص الحب والتعارف والمؤامرات‪ ...‬إلخ‪ ،‬إال أن‬

‫الحكاية تظل هي الحكاية‪ ،‬والحاجة إليها استدعت المحافظة‬

‫الفرجة من حيث التقنية (السينما) وكذلك من حيث المحتوى‪.‬‬ ‫غير أنّ ما ينقصه‪ ،‬وهو ما ينقص الرواية تحديدًا‪ ،‬يتمثل في‬ ‫قراءة ما ي َْكمُن خلف الظاهرة؛ كي يكون الكاتب شاهدًا على‬

‫عصره ّ‬ ‫بحق‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ربما كان على الرواية أن تقول ببساطة مركبة كيف تحولت‬

‫السلطة إلى مشهد؟ فيما أصبح المشهد هو السلطة‪ .‬بهذا‬

‫عليها‪ .‬لذلك أعيد االعتبار لجوهر الحكاية‪ ،‬بما هي حكاية‪ .‬وبعد‬

‫المعنى‪ ،‬يُنفق كثير من أجل التلفازات العربية‪ ،‬وكذلك العروض‬ ‫الكبيرة والمهرجانات؛ ألنها باتت توجه الجماهير‪ ،‬مثلاً ‪ :‬عليك‬

‫وجود حكاية ُتحكى‪ ،‬بل يمكن القول‪ :‬إن هناك عودة إلى‬ ‫شكل األسطورة‪ ،‬فضلاً عن اللهاث الذي لم ينت ِه وراء محاوالت‬

‫إلى الواقع لتشاهدك الماليين‪ .‬بهذا المعنى‪ ،‬ال بد من محاربة‬

‫تجارب كثيرة لكتابة «الرواية الجديدة» ذات الطابع التجريبي‪،‬‬ ‫عاد ُ‬ ‫الك ّتاب إلى المنجزات التاريخية في فن السرد‪ ،‬وإلى ضرورة‬

‫االستفادة من أسلوب السرد المدهش في كتاب «ألف ليلة وليلة»‬ ‫مثلاً ‪ .‬وتكفي في هذا المجال اإلشارة إلى عشرات‪ ،‬بل مئات‬

‫الروايات التي صدرت في أوربا وأميركا الالتينية والبلدان العربية‪.‬‬ ‫‪ ‬وثمة ً‬ ‫أيضا ذلك االندفاع نحو إعادة االعتبار للخيال‬

‫ً‬ ‫خصوصا بعد الطفرة التي شكلتها رواية‬ ‫والمتخيّل الجمعي‪،‬‬

‫ً‬ ‫مليونا! لكن أمام الماليين! وعليك أن تتجاوز السينما‬ ‫أن تربح‬

‫سلطة الفرجة بفرجة مضادة‪ :‬هنا تكمن قوة الرد على العنف‬

‫المشهدي الهوليوديّ بعنف هوليوديّ ‪-‬لكنه أقوى ألنه واقعي!‬

‫(عودة إلى مقولة‪ :‬إنّ الواقع أشد تعقيدًا من الخيال‪ )...‬كما حدث‬

‫برجي مركز التجارة‬ ‫في هجمات ‪ 11‬سبتمبر ‪2001‬م التي استهدفت‬ ‫ْ‬

‫العالمية بمانهاتن ومقر وزارة الدفاع األميركية (البنتاغون) على‬

‫أميركا الالتينية‪ .‬بذلك اغتني سرد الحكايات‪ ،‬جامعً ا بين منجزاته‬

‫سبيل المثال‪ ،‬حيث تجاوز أثر الواقع‪ ،‬أي العنف الحي والمباشر‪،‬‬ ‫ما يُعرض في قاعات السينما‪ ،‬كما أنه تجاوز الخيال‪َ ،‬‬ ‫ب‬ ‫وقل َ‬

‫المعاصرة‪ ،‬كأنما السارد‪ ،‬وهو يحكي حكاياته‪ ،‬إنما يحكي حكاية‬

‫إخفاق مئات‪ ،‬وربما آالف األعمال األدبية التي حاولت االنضواء‬

‫السابقة عبر العصور‪ ،‬واإلمكانيات التي يوفرها تطور التقنيات‬

‫اإلنسان بما يعني أن السرد هو اإلنسان‪ ،‬ساردًا ومسرودًا‪ ،‬من‬

‫كهوفه البدائية األولى إلى عصرنا‪ ،‬عصر اإلنترنت‪.‬‬ ‫ً‬ ‫تعقيدا من الخيال‬ ‫الواقع أشد‬

‫اإلعالم المرئي الذي يشمل ألعاب األطفال‪ -‬ناهيك عن‬

‫اليومي‪ -‬استطاع‪ ،‬إلى أسباب أخرى‪،‬‬ ‫األفالم‪ ،‬وأخبار القتل‬ ‫ّ‬ ‫ومنذ أمد بعيد‪ ،‬أن يفترس القراءة والكتابة جزئيًّا‪ ،‬وبخاصة‬

‫معطيات عالمية‪ .‬هذه المعطيات الجديدة تفسر بعض أسباب‬

‫تحت شعار ما يمكن تسميته بـ«أدب الثورات والحروب»‪.‬‬

‫الواقع أشد تعقيدًا من الخيال وأغنى منه‪ ،‬نعم‪ .‬بل هو أشد‬

‫تعقيدًا من الرؤية «الواقعية» المسطحة لما يتراءى من جبل‬

‫الجليد العائم‪ ،‬أو من حمم البركان‪ .‬غير أن ما يبقى هو عالقة‬

‫اإلنسان بكل ذلك‪ ،‬في قوته كما في ضعفه‪ .‬وال شك أنّ الرواية‬

‫مطالبة بالرد على العنف المشهدي بتقنيات ال تقتصر على فضح‬

‫تدمير الشعوب واقتصادياتها وبناها التحتية فحسب‪ ،‬بل تفضح‬

‫في منطقتنا العربية‪ .‬والمؤسف أنّ الرقابة‪ ،‬في معظم البلدان‬

‫مؤامرة السلطة الكونية المعولمة‪ ،‬والمُمعنة في الهروب من‬

‫وهذا المكتوب‪ -‬إذا اقتصرنا هنا على الرواية التي شهدت أكثر من‬

‫ذلك أن الصورة كما ُ‬ ‫قلت ذات مرة‪ :‬هي التي هبطت من‬ ‫الكهوف‪ ،‬وهي القادرة ً‬ ‫أيضا على إعادتنا إليها‪.‬‬

‫العربية‪ ،‬ما زالت تحارب المكتوب‪ ،‬عاجزة عن المرئي الوافد‪.‬‬

‫فضيحة في مدة قياسية‪ -‬حاول‪ ،‬منذ عقود كثيرة‪ ،‬ولوج باب‬

‫الواقع والتخفي وراء الصورة‪ /‬المشهد‪ /‬الفرجة‪.‬‬

‫‪79‬‬


‫حوار‬

‫‪80‬‬

‫يعد نفسه الوريث الوحيد ألحمد أمين ووصف تفضيله‬ ‫«األيام» على «حياتي» بـ«الحماقة»‬

‫جالل أمين‪:‬‬ ‫الغرب لم يعد يحتاج االستشراق ألنه‬ ‫كسب المعركة‪ ..‬وألن العرب «استغربوا»‬ ‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬


‫حاوره في القاهرة‪ :‬محمد جازم كاتب يمني‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫وباحثا متأملاً في حراك المجتمع‪ ،‬ومفكرًا‬ ‫أستاذا لالقتصاد‬ ‫يجمع جالل أمين في شخصه‬ ‫مشغولاً بقراءة الخطابات في تنوعها وتشابكها مع أسئلة الراهن‪ ،‬آراؤه وكتاباته تعدت المدرسية‬ ‫واألكاديمية وذهبت لتلتحم بهموم الجماهير العريضة ومعاشهم‪ ،‬الجماهير بكل فئاتها وأعمارها‬ ‫وفروقها الفردية‪ ،‬وكل ذلك سمات ليست في متناول اليد دائمً ا‪ .‬يتبنى جالل أمين عد ًدا من القضايا‬ ‫التي يمكن وصفها بشديدة الحساسية‪ ،‬وألف ُك ُتبًا متنوعة في اهتماماتها‪ ،‬لكنها تتوحد عند سؤال‬ ‫اإلنسان والمجتمع والذات في مواجهة مصايرها‪ .‬من كتبه‪« :‬فلسفة علم االقتصاد» و«التنوير الزائف»‬ ‫و«خرافة التقدم والتخلف» و«ماذا حدث للمصريين؟» و«ماذا علمتني الحياة» و«عصر الجماهير‬ ‫الغفيرة» و«عولمة القهر» و«المكتوب على الجبين» و«مصر والمصريون في عهد مبارك» وغير ذلك‬ ‫من اإلصدارات التي حركت جمود المجتمع في مصر والعالم العربي‪.‬‬ ‫في حواره مع «الفيصل» وفي كل ما يطرحه من آراء‬

‫وتعليقات كان يتحرى دقة المعلومة وجمالية الحرف‪ ،‬ويرفق‬ ‫األحداث والوقائع بالتواريخ التي يربط بينها بإتقان‪ .‬في هذا‬

‫الحوار عبّر عن درجة من التفاؤل بالمستقبل‪ ،‬وثقة أكثر بالعقل‬ ‫العربي‪ .‬وقال‪ :‬إن مشروع النهوض في أي بلد في حاجة إلى‬

‫جهود ذاتية‪ ،‬وإلى وجود زعيم قادر على التصميم والمثابرة‬ ‫في انتشال بلده‪ .‬وأكد أن ما يحدث في مصر من إرهاب وراءه‬

‫قوى خارجية‪ ،‬موضحً ا أن الكالم عن اإلرهاب صار أكثر من‬

‫الالزم‪ .‬في الحوار‪ ،‬الذي شارك فيه الروائي والشاعر صبحي‬ ‫موسى‪ ،‬تحدث ً‬ ‫أيضا عن نفسه كابن للمفكر الراحل أحمد‬ ‫أمين‪ ،‬وعد نفسه الوريث الوحيد له‪ ،‬مشي ًرا إلى أن تفضيله‬

‫«األيام» لطه حسين على «حياتي» لوالده‪ ،‬كان حماقة‪ .‬ويلفت‬

‫إلى أن الغرب لم يعد في حاجة إلى االستشراق؛ ألنه كسب‬ ‫المعركة‪ ،‬وألن العرب استغربوا‪.‬‬

‫كتاب «حياتي» ألحمد أمين أكثر منه‪ ،‬كنت أراجع فيه قريبًا‬

‫وزعمت لنفسي أنني ورثت أحمد أمين في الكتابة وقد أكون‬ ‫مخط ًئا‪ ،‬لكن هذا ال يتأتى من التأثير البيئي وأرى أنه وراثة‪.‬‬ ‫نحن ثمانية إخوة‪ ،‬ومن ورث االتجاه األدبي شخصان فقط‪:‬‬

‫حسين أحمد أمين وأنا‪ ..‬أنا ورثت طريقة التعبير أكثر من‬ ‫حسين‪.‬‬

‫● لكنك أشرت في مذكراتك إلى أنك أفصحت لوالدك‬

‫ذات مرة‪ ،‬بأفضلية «أيام» طه حسين على سيرته الذاتية؟‬ ‫■ نعم‪ ،‬كانت حماقة مني‪ .‬أنا قلتها اآلن ً‬ ‫أيضا لكن بشكل‬

‫مختلف‪ ،‬كنت شابًّا ولم تكن لديّ الخبرة الكافية ألحكم‪.‬‬

‫● نعرف أن المذكرات تختلف عن السير‪ ،‬وقد بدأت‬

‫أنت كتابة المذكرات في الثانية عشرة من عمرك‪ ،‬ما يعني‬

‫أنك اتكأت في كتابة سيرتك على مذكراتك وربما مذكرات‬

‫● سيرتك الذاتية التي تضمنها كتاب «ماذا علمتني‬

‫أشقائك‪ ،‬أيهما يحتاج الجرأة والمناخ المتحرر لكتابته‬ ‫والستقباله ً‬ ‫أيضا‪ ،‬المذكرات أم السيرة الذاتية؟‬

‫القراء‪ ...‬في تقديرك ماذا ميز هذه المذكرات مما سبقها‬

‫سجّ لت فيها ما كان يحدث بشكل يومي‪ ،‬كنت أكتب عن‬

‫الحياة؟» وكتاب «المكتوب على الجبين» وما تلقيه هنا‬

‫وهناك داخل مؤلفاتك المتنوعة‪ ،‬بالتأكيد جذبت كثيرًا من‬ ‫مثل «األيام» لطه حسين و«حياتي» ألبيك أحمد أمين‬ ‫وسواهما من المذكرات؟‬

‫■ هذا تفضل منك أن تقارن عملي بعمل الكتاب الكبار‪ .‬أنا‬ ‫لست من عشاق طه حسين‪ ،‬أنا طبعً ا أُ ِج ُّله كشخصية وأجل‬

‫دوره في الحياة الثقافية المصرية إنما لست من عشاق أدبه‪،‬‬ ‫وهو كان يلقب بعميد األدب العربي في حقبة كان اللفظ فيها‬

‫أهم من المعنى‪ ،‬ومع مرور الوقت انعكست اآلية‪ .‬أنا أحب‬

‫■ ال‪ ،‬ال‪ ،‬ما كتبته أنا في مذكراتي كان عبارة عن يوميات‬

‫أحداث عامة وأحداث عائلية ولم أستفد منها؛ ألنها كانت‬ ‫ً‬ ‫ركيكا جدًّ ا ال يرقى إلى أي مستوى من مستويات الكتابة‬ ‫كالمً ا‬

‫ً‬ ‫إطالقا‪ .‬فعندما رجعت ألقرأ ما كتبته لم أستطع االستمرار في‬

‫القراءة؛ من فرط سخافته كنت ال أزال صغي ًرا وبدا األمر كما‬ ‫لو أنني كنت ألعب؛ فمثلاً ذهبت إلى القول‪ :‬وقد حدث في‬

‫هذا اليوم أن ألقى النقراشي باشا كلمة في األمم المتحدة‪...‬‬ ‫وما يشبه ذلك‪ ،‬مع العلم أنني لم أكن أفهم في السياسة شي ًئا‬

‫‪81‬‬


‫حوار‬

‫يومها وكان يبدو كثي ًرا أنني أكتب من دون خبرة‪.‬‬

‫● تنوع مشروعك الفكري ما بين األدب واالقتصاد‬

‫والسياسة وعلم االجتماع‪ ،‬فهل جالل أمين خبير اقتصادي‬ ‫أم مفكر ليبرالي في عصر ما بعد الحداثة؟‬

‫علي مفكر‪ ،‬وال أملك الحق في أن‬ ‫■ ال أحب أن يطلق‬ ‫ّ‬ ‫أقول عن نفسي ذلك‪ .‬نحن جميعً ا مفكرون ألننا نفكر طوال‬

‫الوقت‪ ،‬عندما تقول لفالن‪ :‬إنه مفكر أو يقول عن نفسه ذلك‬ ‫دعه يشرح ذلك‪ .‬أنا ال أستطيع أن أصف نفسي بذلك‪ ،‬وفي‬

‫● االقتصاد المصري يعاني اآلن حالة تضخم هائل‪،‬‬

‫فما الحلول األساسية للخروج منها؟‬

‫■ هناك تضخم لكن التضخم في كثير من البلدان‬ ‫يكون أكثر بكثير من هذا؛ أعني أن مصر ًّ‬ ‫حقا تعاني التضخم‬

‫ً‬ ‫أيضا‪ ،‬والسبب أن موارد أساسية كانت تجذب عملة صعبة‬

‫لمصر انخفضت بشدة منذ ثورة ‪ 11‬فبراير وأقصد السياحة‬ ‫واالستثمارات األجنبية الخاصة‪ ،‬وتحويالت المصريين‬

‫الحقيقة ال أحب ً‬ ‫أيضا مفردة «ليبرالي»؛ ألنها في أحد معانيها‬

‫العاملين في الخارج‪ ،‬هذه هي المصادر األساسية لدعم‬

‫يتفق وكاتب أميركي مشهور هو نعوم تشومسكي الذي يقول‪:‬‬

‫ترى‪ ،‬إضافة إلى الشعور بعدم االستقرار‪ ،‬األمر الذي لم يعد‬

‫تعني ترك األمور تجري بال تدخل من الدولة‪ .‬وكذلك لدي رأي‬ ‫«‪ 95‬في المئة من الذي يقوله هؤالء الحداثيون أنا ال أفهمه‪،‬‬ ‫ً‬ ‫موافقا عليه‪ .‬ال أدري ما الذي يريده ُكتاب ما‬ ‫وما أفهمه لست‬ ‫بعد الحداثة‪ ،‬وماذا يقصدون بما يذهبون إليه؟»‪.‬‬ ‫مشاكل مصر وراءها عوامل سياسية‬

‫● تخصصك في علم االقتصاد‪ ،‬إلى أي حد جعلك قريبًا‬

‫من قضايا المجتمع والتحديات التي تواجهه‪ .‬ما الذي أضافه‬

‫هذا التخصص إلى رؤيتك للواقع والعالم من حولك؟‬

‫‪82‬‬

‫االقتصاد مهم لكنه وحده ال يكفي‪.‬‬

‫■ معظم االقتصاديين المصريين الذين أعرفهم‪،‬‬

‫اهتماماتهم االقتصادية قليلة؛ فالمسألة ال عالقة لها باالقتصاد‬

‫العملة في مصر‪ ،‬وقد انخفضت بشدة ألسباب سياسية كما‬ ‫يشجع ال السائحين وال المستثمرين وال تحويالت المغتربين‪.‬‬

‫● وهذا يقودنا إلى سؤال‪ :‬ما الوصفة التي يمكن‬

‫لوضع مثل هذا؟‬ ‫إعطاؤها‬ ‫ٍ‬

‫■ الوصفة سياسية وليست اقتصادية‪ .‬المسألة في كيف‬

‫نشجع االستقرار‪ ،‬وكيف نقنع المستثمرين باالستثمار في‬ ‫مصر؟‬

‫● بصفتك األدبية والعلمية واألكاديمية‪ ،‬هل لديك‬ ‫منظومة لالنضباط‪ ،‬كأن تطرح على المعنيين خطة سير مثلاً ؟‬

‫يمكن أن تكون العالقة بالعكس‪ ،‬فبسبب اهتماماتي السياسية‬

‫■ هذا صعب جدًّ ا‪ ،‬لكن سأقول لك جملة بسيطة جدًّ ا‬

‫يومها االقتصاد يدرس إما في الحقوق أو في التجارة‪ ،‬ففضلت‬

‫«ليس هناك مشكلة اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية‪...‬‬

‫كنت أظن أن دراسة االقتصاد ستوضح لي بعض األمور‪ ،‬وقلت‬

‫قالها عالم سويدي مشهور‪ ،‬حاصل على جائزة نوبل‪ ،‬يقول‪:‬‬ ‫هناك فقط مشاكل وهي معقدة»‪ ،‬يقصد أنه ال يوجد مشكلة‬

‫الحقوق ألن سمعتها كانت أفضل يومها‪ ،‬وفي أول محاضرة‬ ‫ّ‬ ‫الغلة المتناقصة في القانون‪،‬‬ ‫وجدتهم يتحدثون عن قانون‬

‫تستطيع أن تقول أنها اقتصادية فقط‪ ،‬حتى التضخم تجد‬

‫أعرفه‪ ،‬ومنذ ذلك الوقت لم أجد في كتب االقتصاد ما يساعدني‬

‫مقارنة بالسلع الموجودة وراءه عوامل نفسية‪ ،‬وليس فقط‬

‫تناقص المنفعة الحدّ ية‪ ،‬أمور لم يكن لها عالقة بما أريد أن‬

‫على فهم الحياة‪ .‬وفي شكل عام‪ ،‬االقتصادي ال يحصل له هذا‪،‬‬

‫وأنا في الحقيقة لم أكن أحب علم االقتصاد‪ .‬ودخلته بسبب‬

‫صلته بالعوامل األخرى‪ ،‬قلت يمكن أن أعرف ما يدور في‬ ‫المجتمع لو درست اقتصادًا ومعه أشياء أخرى‪ ،‬وبالفعل‬

‫المتكلمون حول تجديد الفكر الديني‬ ‫تعال وغرور أكثر مما يلزم‬ ‫لديهم‬ ‫ٍ‬ ‫كنا نحب ميشيل عفلق؛ ألنه كان‬ ‫يؤمن إيما ًنا حقيق ًّيا بالوحدة‬ ‫العربية‪ ،‬كان متفائ ‪ ،‬ولم يفقد‬ ‫لاً‬ ‫تفاؤله حتى بعد انهيار المؤشرات‬

‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬

‫أن علم النفس داخل في الموضوع؛ ألن اإلقبال على اإلنفاق‬

‫عوامل اقتصادية‪ ،‬وهكذا أعود لسؤالك‪ ،‬أنا في عمري كله‬


‫جالل أمين‪ :‬الغرب لم يعد يحتاج االستشراق ألنه كسب المعركة‪ ..‬وألن العرب «استغربوا»‬

‫لم أفكر في مشكلة بوصفها اقتصادية‪.‬‬

‫عندي مشكلة كيف أفسرها؟ أنظر فأرى‬

‫توالي التفسيرات والعوامل السياسية‬

‫واالقتصادية‪ ،‬كل شيء مرتبط بعضه‬ ‫ببعض‪ .‬كما قلت لك‪ :‬إن مشاكل مصر‬

‫التي تبدو اقتصادية اليوم وراءها أسباب‬

‫سياسية‪.‬‬

‫● ما رأيك فيما تقوله الحكومة‬

‫المصرية عن اإلصالح االقتصادي‬

‫والبنك الدولي وكمية الديون‪ ،‬هل‬

‫طه حسين‬

‫أحمد أمين‬

‫يمكن لمصر أن تتحول إلى دولة على غرار دول النمور‬

‫مناسبة هنا وبخاصة لدى الشرائح الدنيا والطبقة المتوسطة‪،‬‬

‫■ لم يحدث للمعونات الخارجية أن نقلت دولة من دولة‬

‫‪ ،2011‬وال يزال اإلحباط مستم ًّرا واآلمال محبطة‪ ،‬يعني في‬

‫اآلسيوية؟‬

‫راكدة االقتصاد إلى دولة سريعة النمو‪ ،‬المعونات ممكن أن‬

‫تساعدك في تخطي أزمة مؤقتة كما حصل لتايلند وماليزيا‪،‬‬ ‫لكن النهضة االقتصادية الحقيقية تأتي بجهود ذاتية ووجود‬

‫زعيم‪ ،‬ال بد من وجود زعيم قادر على التصميم والمثابرة في‬ ‫انتشال بلده‪ ..‬زعيم له رؤية يقف على تنفيذها‪.‬‬

‫● لو َ‬ ‫كتبت اآلن جزءً ا ثانيًا من كتابك‪« :‬ما الذي حدث‬

‫للمصريين؟» فما أبرز عناوينه الداخلية؟‬

‫هناك حالة من اإلحباط الشديد وهو األمر الذي سبَّب ثورة‬

‫المرحلة السابقة من النصف الثاني من القرن الماضي لم يكن‬ ‫اً‬ ‫مثال‪ :‬العائلة التي يعولها‬ ‫األمر كذلك‪ ،‬وأحب هنا أن أضرب‬ ‫صنايعي وهي أسرة غير متعلمة تذهب إلى تدريس ابنها ثم‬ ‫ُتدخله الجامعة ولديها أمل في أنه سيحصل على وظيفة جيدة‬ ‫في الحكومة‪ ،‬هذه العائلة يتحقق حلمها بالفعل‪ .‬هذا لم يعد‬

‫موجودًا اليوم‪ ،‬لهذا أرى أن مفردة اإلحباط مهمة اآلن‪.‬‬ ‫اإلرهاب أخذ أكثر من الالزم‬

‫■ أنا كنت أعلق على أكبر قدر مما سميته «الحراك‬

‫● لننتقل إلى موضوع آخر‪ ،‬الخطاب الديني المتطرف‬

‫عاليًا جدًّ ا؛ إذ امتد من الخمسينيات إلى نهاية القرن‪ ،‬بمعنى‪:‬‬

‫هذا المنوال‪ ،‬ومنها النصوص التي تدعو إلى تقديس‬

‫االجتماعي»‪ ،‬الحقبة التي عالجتها كان فيها الحراك االجتماعي‬ ‫النصف الثاني من القرن العشرين‪ .‬الحراك االجتماعي في‬ ‫السنوات الـ‪ 17‬من القرن الحادي والعشرين أقل بكثير مما كان؛‬

‫أقصد أقل سرعة مما كان في الحقبة التي كتبت فيها كتابي‪.‬‬

‫الذي يؤمن بالظاهراتية في النص‪ ،‬ويفسر النصوص على‬

‫القتال‪ ،‬كيف ترى هذا الخطاب والعقل الذي ينتجه؟‬

‫■ أنا ثقتي بالعقل اإلنساني العربي قوية‪ ،‬ومن يقول‪:‬‬

‫إن الخطابات هي من تسبب هذه االعتداءات ثقته بالعقل‬ ‫اإلنساني ضعيفة‪ .‬ال أظن أن الناس حين يسمعون هذه‬

‫● على الرغم من الثورة التي قام بها الشعب؟‬ ‫■ ثورة ‪2011‬م لم ُتغيِّر شي ًئا‪ ،‬أما ثورة يوليو فقد غيَّرت‪:‬‬

‫صعوبة في تصور ذلك‪ .‬والكالم عن اإلرهاب أخذ أكثر من‬

‫أنا ال أقول‪ :‬إن الحراك االجتماعي توقف لكن لم يعد سريعً ا‬

‫● هل رفضك لمصطلح تجديد الخطاب الديني نابع من‬

‫هناك اإلصالح الزراعي ومجانية التعليم والصحة‪ ،‬لكن ‪2011‬م‬ ‫الذين قاموا بها لم يستلموا الحكم أصلاً ‪ ،‬ولم تتغير أشياء‬ ‫كثيرة في عمق المجتمع‪ ،‬لم ِّ‬ ‫تؤثر على الحراك االجتماعي‪.‬‬ ‫كما كان‪ ،‬وكثير من شرائح الطبقة المتوسطة بدأت تضعف‬

‫وتنحدر بسبب المصاعب االقتصادية‪ ،‬وهذا على العكس من‬

‫ُ‬ ‫تحدثت عنه في كتابي‪ .‬هذا حراك‬ ‫الحراك االجتماعي األول الذي‬ ‫اجتماعي سلبي بمعنى أنك تنزل وال تصعد‪ .‬كتابي ظهر إلى النور‬

‫سنة ‪2000‬م يعني مع نهاية القرن‪ .‬الذي يمكن أن أقوله اآلن‪ :‬إن‬ ‫ظاهرة الحراك االجتماعي ضعفت بشدة‪ .‬كلمة اإلحباط تبدو‬

‫الموعظة يتأثرون بهذه السهولة أو إلى هذه الدرجة‪ ،‬أنا أجد‬

‫الالزم‪ ،‬وأكثر من الحقيقة‪ .‬ليتنا نقلل من الكالم عن اإلرهاب‪،‬‬ ‫وليتنا ً‬ ‫أيضا ننجح في القضاء عليه بالفعل‪.‬‬

‫اإليمان بأن الخطابات الدينية ال تجدد‪ ،‬أم من كون البنية‬

‫االقتصادية والفكرية لمجتمعاتنا لن تسمح بهذا التجديد؟‬

‫■ ال هذا وال ذاك‪ .‬المتكلمون حول تجديد الفكر الديني‬

‫تعال وغرور أكثر مما يلزم‪ .‬ال أحد يجدد في الخطاب‬ ‫لديهم‬ ‫ٍ‬

‫الديني أو غير الديني‪ ،‬ال أحد‪ .‬أنت إذا كنت ال تحبذ طبيعة الفكر‬ ‫السائد انظر إلى الظروف االجتماعية والسياسية واالقتصادية‬

‫‪83‬‬


‫حوار‬

‫التي أنتجت هذا الفكر وغيرت فيه أو حاولت تغييره؛ ناهيك‬

‫عما يسمى بـ«إرهاب اإلرهاب» فهو صناعة خارجية‪.‬‬

‫● «إرهاب اإلرهاب»‪ ،‬ماذا تقصد من هذه التسمية؟‬

‫المستفيد من قلقلة المجتمع المصري ومنعه من التقدم‪.‬‬ ‫● من تعتقد في قائمة المستفيدين؟‬

‫ً‬ ‫شخصا إرهابيًّا يذهب‬ ‫■ أقصد أنه من المستحيل أن تنتج‬

‫■ إسرائيل في الدرجة األولى‪ ،‬أقول في الدرجة األولى‬ ‫واألخيرة ً‬ ‫أيضا‪ ،‬فأميركا ال أظن أن لها دورًا مثلما كانت في السابق‪.‬‬

‫الشيء الذي باإلمكان حدوثه هو أن يعطيك أحدهم المال‬

‫● لكن هناك من يرى أن إسرائيل شبه مختفية عما‬

‫القاتل يقع تحت تأثير إغراء المال‪ ،‬هذا ممكن‪ .‬أما أن يذهب‬

‫■ طبعً ا‪ ،‬وهذا ما يجعلنا نشك أكثر‪ ،‬أنت ال تسمع صوتها‬

‫إلى قتل مسيحيين مسالمين هكذا من أجل القتل‪ ،‬هذا ليس‬

‫ً‬ ‫شخصا إنما وحش‪ .‬من الصعب أن تحول اإلنسان إلى وحش‪.‬‬

‫ويقول لك‪ :‬اذهب لقتل فالن‪ .‬هذا سمعنا به وقد يحدث؛ ألن‬

‫إنسان من ذاته وبإرادته الخاصة لقتل شخص ما من دين آخر؛‬ ‫ما الذي سيكسبه؟ ولماذا؟ وبالطبع أنت لن تغير دينهم إن‬

‫كان هذا هو دافعك‪ ،‬فهل كانوا يضايقونك من خالل طريقة‬ ‫حياتهم إلى هذه الدرجة‪ ،‬مثل هذا ال أستطيع استيعابه‪ ،‬وهو‬

‫ما يقودني إلى القول‪ :‬إن هناك إرهابًا لإلرهاب‪.‬‬

‫● مع بدء اقتناع العالم بعدالة الموقف المصري في‬

‫مواجهة اإلرهاب المسلط على البلد‪ ،‬حدث تحول نوعي‬ ‫تمثل في الضغط على المسيحيين وليس الجيش أو‬

‫‪84‬‬

‫غرض في إحداث ذلك ليس مصريًّا‪ ،‬فابحث ً‬ ‫إذا عن المستفيد‪،‬‬

‫الشعب؛ لماذا؟‬ ‫ً‬ ‫■ ما حصل ‪-‬وطبقا لتفكيري‪ -‬أن هؤالء يريدون أن يشعلوا‬

‫البلد نارًا‪ ،‬يريدون إحداث توتر داخل مصر‪ ،‬وأنا أستبعد أن تكون‬ ‫العقول المدبِّرة مصرية‪ ،‬أستبعد ذلك بشدة؛ ألن الذي لديه‬

‫يحدث‪ ،‬فهي ال تمارس دورًا واضحً ا وظاهرًا؟‬

‫ً‬ ‫بتاتا؛ ألن المجرم الحقيقي دائمً ا يختفي‪ ...‬يختفي بشدة‪.‬‬ ‫● هل أنت مع فكرة أن المؤامرة خارجية؟‬

‫■ أنا في البداية ال أحب هذا التوصيف‪ :‬نظرية المؤامرة‪،‬‬

‫وذلك ألن سمعة هذه الكلمة سيئة‪ ،‬المؤامرة لها مالمح‬ ‫معينة‪ ،‬أعتقد أنها خطة خبيثة ال يعلن صاحبها عن نفسه‪.‬‬ ‫● تقصد خطة إلعادة تقسيم المنطقة كلها؟‬

‫■ ال‪ ،‬ليس التقسيم بالضبط‪ .‬أقصد زعزعة أمن البلد‬ ‫واستقالله‪ ،‬وخلق مشاكل تجعل التقدم صعبًا ومستحيلاً ‪.‬‬ ‫مزاعم داعش المضحكة‬

‫● داعش اآلن تسيطر على مناطق في الشرق والغرب؛‬

‫كيف ترى مستقبلها؟ وكيف ترى اقتصادياتها؟‬

‫■ إن أحد مزاعمهم مضحك‪ ،‬كيف يمكن أن نتصور أناسً ا‬

‫يريدون إعادة الخالفة اإلسالمية؛ هل الخالفة اإلسالمية يمكن‬

‫إعادتها؟ ال أدري!! لعلهم يرغبون أن يضحكوا علينا‪ ،‬وأرجح‬

‫أنهم في الحقيقة يضحكون على أنفسهم‪ .‬أنا أرجح أنهم‬ ‫يضحكون على أنفسهم ًّ‬ ‫حقا؛ ألننا نعرف جيدً ا كيف يفكرون؟‬ ‫● لكن ما يشغل كثيرين هو اقتصادياتهم‪ ،‬كيف تأتي‬

‫األموال إليهم؟‬

‫■ نعم‪ ،‬وهذا جزء من غموضها‪ ،‬ال نعرف من أين يأتون‬

‫باألموال؟ وعلى العكس من تصوراتهم فهذه األموال الغفيرة‬ ‫ً‬ ‫داعشا ال تقول الحقيقة‪ .‬هؤالء أناس استلموا‬ ‫تجعلك تشك بأن‬

‫نقودًا ليقولوا أشياء ال يعنونها‪ ،‬وبالتالي ليقوموا بارتكاب‬ ‫جرائم‪ .‬مثلاً ‪ ،‬داعش استلم نقودًا من أجل تخريب سوريا‪ ،‬هل‬ ‫هذه خطة نحو إقامة الخالفة اإلسالمية؟ تشريد السوريين على‬

‫هذا النحو أمر ال يرضي أحدً ا‪ .‬لعلها عصابات دولية‪.‬‬

‫● أليست داعش خارجة من الخطاب اإلخواني‬

‫والخطاب السلفي؟‬ ‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬


‫جالل أمين‪ :‬الغرب لم يعد يحتاج االستشراق ألنه كسب المعركة‪ ..‬وألن العرب «استغربوا»‬

‫■ أنت تعلق اً‬ ‫آمال كبيرة على الخطاب‪ .‬ال أدري ما هذا‬

‫الخطاب الذي عمل على تخريب دولة وشرد سكانها من أجل‬ ‫رفعة اإلسالم؟ من الذي سيقتنع بمثل هذه األمور ويأخذ‬ ‫اً‬ ‫أموال في الوقت نفسه؛ هل هو مدفوع بالمال أم باالقتناع؟‬ ‫األمر ليس واضحً ا وأنا لست مقتنعً ا‪ .‬كلمة اإلرهاب اختراع‬

‫أميركي‪ .‬قبل أيام توفي مسؤول أميركي اسمه «بريجنسكي»‬ ‫مستشار األمن األميركي في عهد كارتر‪ ،‬وقد ُكتب عنه أنه‬ ‫صاحب ملف اإلرهاب‪ ،‬وبمعنى أدق مح ِّرك ملف المجاهدين‬ ‫ضد االتحاد السوفييتي‪ ،‬ما يعني أنه هو من حرك هذا الفئة‬

‫ابتداءً من أفغانستان‪ -‬ضد االتحاد السوفييتي‪ ،‬هذا الحدث‬‫بدأ في السبعينيات‪ .‬وهنا أتذكر أن ما يسمى اإلرهاب اإلسالمي‬ ‫في هذه المرحلة بدأت صناعته‪ ،‬ثم إن الذين عادوا من‬

‫أفغانستان‪ ،‬هم الذين دمّ روا العراق‪ .‬الحظ أن هذه الكلمة‪:‬‬

‫اإلرهاب‪ ،‬انتشرت عقب سقوط االتحاد السوفييتي‪ ،‬وكانت قد‬ ‫ُنمِّ ْ‬ ‫يت ضد الخطر الشيوعي كما يقولون‪.‬‬

‫ما يحدث في مصر وراءه عوامل‬ ‫سياسية وقوى خارجية‬ ‫الفقراء منسيون في كل العصور وفي‬ ‫كل المجتمعات‪ ،‬ليس فقط عندنا‬ ‫نفسه ضاع‪ .‬التفاؤل بالمستقبل ضعف كثي ًرا‪ .‬وما نسميه‬ ‫الحركات النهضوية أصابتها ضربة قاصمة‪.‬‬ ‫الربيع العربي ليس عربيًّا‬

‫● كيف قيمت ثورات الربيع العربي؟‬

‫■ أنا ال أحب كلمة «الربيع العربي»؛ ألنه ليس ربيعً ا‪،‬‬

‫ويمكن أن أقول‪ :‬إنه ليس عربيًّا‪.‬‬

‫● أنت من الجيل الذي عاصر التحوالت الكبرى في‬

‫الوطن العربي‪ ،‬في رأيك هل كان العرب يقتربون من التحول‬

‫● لماذا فشلت مشاريع التنوير العربي في مواجهة‬

‫الجذري بعد ثورة سوريا ومصر والجزائر والعراق واليمن؟‬

‫■ ال أستطيع أن أقول‪ :‬إن هذه الحركات فشلت تمامً ا‪،‬‬

‫قامت ثورة يوليو في مصر ثم ثورات العراق ولبنان واليمن‬

‫شك هذا السؤال يطرح تحت ضغط التأثر بما حصل في‬

‫في الخمسينيات؛ لكنها ضعفت بشدة في الستينيات حينما‬

‫التيارات الراديكالية؟‬

‫هذا غير صحيح ألن هذه الحركات أحدثت تقدمً ا‪ .‬من دون‬ ‫األربعين والخمسين سنة الماضية‪ ،‬وظهور ما يسمى‬ ‫بالحركات التكفيرية والظالمية واإلرهابية‪ ،‬أو سَ مِّ ها كما‬

‫تريد‪ .‬فمن يسأل هذا السؤال هو متأثر بما حدث في العقود‬

‫الماضية كما أسلفت‪ ،‬يعني من أواخر الستينيات تحديدً ا‪ .‬أنا‬

‫أعلق عادة على ما حدث للعالم العربي من النواحي كافة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫انطالقا من هزيمة ‪ 67‬مثلاً ‪ .‬كل المشاريع التقدمية وبمعنى‬

‫أدق النهضوية أصيبت بخيبة أمل أو بنكسة أو بضربة‪ ،‬ولم‬ ‫نفق منها إلى اآلن‪ .‬الثقة بالنفس تضعضعت‪ .‬استقالل اإلرادة‬

‫■ نعم كانت آمالنا كبيرة جدًّ ا‪ .‬وكلنا تصورنا حين‬

‫وسوريا‪ ،‬أن التحول أصبح قريبًا‪ .‬المهم آمالنا كانت كبيرة‬

‫تحول ما كنا نسميه بالثورات إلى انقالبات عسكرية أو حكم‬

‫عسكر‪ ،‬أنا أتذكر تفاؤل المصريين بمحمد نجيب وعبدالناصر‬ ‫في الخمسينيات‪ ،‬ثم مع تأميم قناة السويس في ‪1956‬م‪،‬‬

‫ووحدة سوريا ومصر‪ .‬تفاؤلهم كان أكبر بكثير مما حدث في‬ ‫‪1965‬م حتى قبل الهزيمة‪ .‬لم تنجح هذه الثورات وتحولت إلى‬ ‫انقالبات‪ ،‬وهذه اآلمال ظلت اً‬ ‫آمال‪.‬‬ ‫● هل يتآمر الغرب على العرب ًّ‬ ‫حقا أم أن الخلل يكمن‬ ‫في عجز الفكر العربي الذي رافق تلك الثورات‪،‬‬ ‫نسألك هذا السؤال ونتذكر تجربتك الرفاقية مع‬ ‫ميشيل عفلق؟‬

‫علي أن أقول‪ :‬إنه حدث تضافر‬ ‫■ من السهل َّ‬

‫للعاملين الداخلي والخارجي‪ ،‬ولكن إذا قلت ذلك‬ ‫سأكون كأنني لم أقل شي ًئا‪ ،‬ودائمً ا أي شيء يأتي‬

‫جيدً ا يكون نتيجة تضافر داخلي وحدوث تطور‬

‫مهمّ ‪ ،‬لكن في بلدان مهمة ليس غريبًا أن يتضافر‬

‫العامالن‪ ،‬إنما أنا أعطي أهمية للعامل الخارجي أكثر‪.‬‬

‫هناك تصميم من القوى الخارجية‪ ،‬دعنا نقول‪ :‬قوى‬

‫خارجية‪ ،‬على عدم نهوض العرب وعدم اتحادهم‪،‬‬

‫مع ذلك فإن عوامل التوحد كثيرة وما زالت كثيرة‪،‬‬

‫‪85‬‬


‫حوار‬

‫ً‬ ‫دائما مسدود أمام هذه‬ ‫إلى أن األفق‬

‫لهذا كنا نحب ميشيل عفلق؛ ألنه كان‬ ‫ً‬ ‫إيمانا حقيقيًّا بالوحدة العربية‪،‬‬ ‫يؤمن‬ ‫لاً‬ ‫كان متفائ ولم يفقد تفاؤله حتى بعد‬

‫الشريحة؛ ما الحل إذن؟‬ ‫اً‬ ‫أول‪ ،‬ناضلت من أجلها هذه‬ ‫■‬

‫بطبعهم‪ ،‬هو كان من هذا النوع‪ .‬جمال‬

‫لم أعتقل في حياتي ولم يفكر أحد‬

‫انهيار المؤشرات‪ .‬هناك ناس متفائلون‬

‫كلمة كبيرة ومجاملة ال أستحقها‪ .‬أنا‬

‫عبدالناصر حاول أن يحتويه‪ ،‬وهو كان‬

‫بذلك‪ ،‬لم أكن مهمًّ ا إلى هذه الدرجة‪.‬‬

‫لديه ثقة بعبدالناصر أكثر مما يستحقها‪.‬‬

‫وإذا أتينا إلى سؤالك‪ ،‬لقلنا‪ :‬إن الفقراء‬ ‫منسيون ًّ‬ ‫حقا‪ ،‬في كل العصور وفي كل‬

‫وبعد ذلك صدام الذي لم يحاول احتواء‬

‫ميشيل عفلق فقط إنما احتواه بالفعل‪،‬‬ ‫ويقال‪ :‬إنه وضعه تحت اإلقامة الجبرية‪.‬‬

‫فالمفكر يمضي خلف أفكاره التي يؤمن‬ ‫بها وهذا ما يجعله متفائلاً ؛ ألن إيمانه يقول له بأن هذا‬

‫سيحدث بالفعل‪ ،‬بل ال بد أن يحدث‪ ،‬لكن الشر لألسف كان‬

‫قويًّا‪ .‬قوى الشر قوية جدًّ ا‪.‬‬ ‫حكم العسكر‬

‫ً‬ ‫متحمسا لتدريس‬ ‫● بعد عودتك من إنجلترا لم تكن‬

‫االشتراكية العربية في الجامعة؛ لماذا؟‬ ‫َ‬ ‫■ لو كنت جئت إلى مصر في ‪1957‬م أو ‪1959‬م لكان األمر‬

‫‪86‬‬

‫اختلف‪ ،‬لكني جئت في ‪1964‬م حكم العسكر فعل كثي ًرا مما‬ ‫أفقدنا الثقة فيه‪ :‬من تلك الدكتاتورية‪ ،‬واعتقال أناس كثيرين‬ ‫جدًّ ا‪ ،‬علماء كانوا يمثلون النخبة المصرية معظمهم دخل‬ ‫َ‬ ‫كنت ترى أعظم المفكرين‬ ‫السجون من ‪1954‬م إلى ‪1964‬م‪.‬‬

‫المصريين في السجون‪ ،‬وحين وصلنا إلى ‪1964‬م كانت ثقتنا‬

‫بالحكم العسكري قد تضعضعت؛ فكونهم يريدون تدريس‬ ‫االشتراكية العربية يعني ذلك تدريس أفكارهم فقط‪ ،‬وليس‬ ‫ما نعتقده نحن ونؤمن به‪.‬‬

‫َ‬ ‫ناضلت من أجلها‪ ،‬وقد‬ ‫● الفقراء هم الشريحة التي‬

‫ازداد األمر سوءً ا مع الحروب التي ظهرت أخيرًا‪ ،‬ما يشير‬

‫المجتمعات ليس فقط عندنا‪ ،‬حتى في‬

‫ميشيل عفلق‬

‫أميركا واالتحاد السوفييتي‪.‬‬

‫الذين كسبوا من الثورة الروسية هم‬

‫زعماء الحزب الشيوعي‪ ،‬إنما عامة الناس عاشت حياة قاسية‬ ‫ما يزيد عن ‪ 50‬أو ‪ 60‬سنة‪ .‬نعم الفقراء منسيون دائمً ا حتى في‬

‫الواليات المتحدة األميركية‪ ،‬يمكن الدول الوحيدة المستثناة‬ ‫من ذلك هي إسكندنافية‪.‬‬ ‫موقع العرب اليوم‬

‫● وأنت تقارن بين فتوة األمم وشيخوختها‪ ،‬قلت‪ :‬إن‬ ‫األمر يتعلق بالجانب النفسي‪ً ،‬‬ ‫إذا‪ّ ،‬‬ ‫مم تشكو نفوس العرب؟‬

‫■ الذي كتب في هذا الموضوع جيدً ا هو األمير شكيب‬

‫أرسالن في كتابه «لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟»‪ .‬ير ّد‬

‫ذلك للعامل النفسي‪ ،‬أما سؤالك عن سبب العامل النفسي‪،‬‬ ‫فإنه ال يزال قائمً ا‪ ،‬الذين قالوا‪ :‬إن العرب يمرون بمرحلة تاريخية‬ ‫تتسم بالتدهور واالنحطاط‪ ،‬لم يفسروا لماذا؟ وكانوا يعنون أننا‬

‫لسنا في أهم مراحل تاريخنا‪ ،‬هذا صحيح لكن ال يزال سؤالك‬ ‫قائمً ا ً‬ ‫أيضا‪ -‬أنا أقول‪ :‬إن كل أمة لها جوانب قوة وجوانب ضعف‪،‬‬

‫ثم تأتي ظروف تاريخية فتغلب شي ًئا على شيء‪ .‬في الخمسينيات‬

‫والستينيات الظروف كانت جيدة ومواتية إلى درجة أنها ساعدت‬ ‫على ظهور الحالة اإليجابية في الحالة المصرية مثلاً والعربية‬ ‫وفي العالم الثالث كله‪ .‬كان هناك نهرو في القارة الهندية‪،‬‬

‫وكوامي نكروما في دولة غانا‪ ،‬وبن بلة في دولة الجزائر‪،‬‬ ‫وسوكارنو في إندونيسيا‪ ،‬اآلن العالم ال يشجع على نهوض‬

‫العالم الثالث؛ بسبب عوامل خارجية بالنسبة للعرب وللعالم‬ ‫الثالث اً‬ ‫أول‪ .‬الشركات متعددة الجنسيات ً‬ ‫أيضا لم تكن بهذه‬

‫القوة في الخمسينيات والستينيات‪ .‬بالنسبة للعرب العامالن‬ ‫الخارجيان‪ :‬البترول وإسرائيل؛ البترول‪ ،‬أنا في تصوري كان‬

‫نقمة على نهضة العرب؛ ألنه جعل األنظار تتجه وتصمم على‬ ‫أن العرب ال ينهضون وال يتحدون‪ ،‬وإال سيضيع البترول منهم‪.‬‬

‫وإسرائيل كان لها الرأي نفسه‪ ،‬فعوامل التدهور قويت‪ ،‬ولم‬

‫يظهر زعماء مثلما في الخمسينيات والستينيات‪ ،‬أما عبدالناصر‬ ‫فمهما انتقدته ال تستطيع أن تنكر دوره‪.‬‬

‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬


‫جالل أمين‪ :‬الغرب لم يعد يحتاج االستشراق ألنه كسب المعركة‪ ..‬وألن العرب «استغربوا»‬

‫● أين يقف العرب اليوم من الحضارات العالمية؟‬

‫■ يقف العرب من الحضارات العالمية‪ ،‬موقف الناقد‬

‫والناقم والمقتبس‪ ،‬وليس موقف المساهم الذي يعطي‪.‬‬

‫● إلى أي حد أسهمت وسائل التواصل االجتماعي في‬

‫اقتراح واقع بديل عن الواقع الملموس والحقيقي؟‬

‫■ أنا في الحقيقة متفائل جدًّ ا بهذه الوسائل‪ ،‬وأثق كثي ًرا‬ ‫ً‬ ‫نمطا‬ ‫في أنها تمتلك من المؤشرات ومن الثراء ما يجعلها‬

‫جديدً ا في الحياة العلمية والثقافية‪ ،‬لكن أثرها الكبير لم‬ ‫يتضح بعد على الرغم من أنه كان لها دور طيب في ثورة ‪2011‬م؛‬

‫لكن مع مرور الوقت سيكون لها أثر طيب جدًّ ا‪.‬‬

‫● «صدام الحضارات»؛ أال ترى أن الغرب ال يزال‬

‫يشتغل على هذه النظرية؟‬

‫■ سأرد عليك بسؤال‪ :‬أال تالحظ أن هذا الكتاب ظهر مع‬

‫سقوط االتحاد السوفييتي ومع ظهور مصطلح اإلرهاب الذي‬ ‫أخذوا يخوفوننا منه؟ نعم ظهر في هذه الظروف والغرض‬

‫منه سواء كان األمر بوعي أو بغير ذلك‪ ،‬التحول العدائي من‬

‫عدو إلى عدو‪ .‬نعم ما داموا يشتغلون على اإلرهاب فهذا هو‬

‫التطور الذي ظهر مع صدام الحضارات‪ ،‬ثم أال ترى أن مفردة‬ ‫اإلرهاب بدأت تتشكل مع إرهاصات تلك الحقبة التي حرضت‬ ‫على الخطر الشيوعي‪ ،‬ثم خلقوا بعد ذلك هذه المفردة‬

‫وصوَّروها كما لو أنها البُعبُع الذي سيفترس العالم؟ واألمر‬ ‫ليس كذلك‪ ،‬نصف الحديث في الصحف اليوم عن اإلرهاب‪،‬‬

‫وهذه نقطة مهمة أريد توضيحها‪ ،‬وأتمنى أن يفهم الناس‬

‫أن ذلك ليس صحيحً ا‪ ،‬فنصف الجرائد اآلن يتحدث عن‬ ‫اإلرهاب‪ ،‬والنصف اآلخر ال يستحق القراءة‪ .‬والحقيقة أن كل‬ ‫دولة كبيرة كانت لديها ميزانية ضخمة‪ ،‬فلكي تصرف هذه‬ ‫األموال تذهب إلى تخويف الناس من خطر محيق‪ ،‬وهؤالء‬

‫كانوا يخوفوهم من الشيوعية‪ ،‬ولمّ ا زال الخطر الشيوعي‬ ‫اخترعوا فكرة اإلرهاب‪ .‬أتذكر مرة أن غورباتشوف قال في‬ ‫األمم المتحدة ونقلتها اليونايتد‪« :‬أيها الناس نحن ال نأكل‬

‫األطفال»‪ .‬بمعنى كان هناك تهويل من الخطر الشيوعي‪ ،‬كما‬ ‫هو اليوم اإلرهاب‪.‬‬

‫● االستشراق الجديد؛ هل لديك تصور عنه؟‬

‫■ أنا قليل االطالع على االستشراق الجديد؛ ألنه‬ ‫َّ‬ ‫قل كثي ًرا عن االستشراق القديم‪ ،‬والسبب أنهم كسبوا‬

‫المعركة‪ ،‬ولم يعودوا في حاجة لالستشراق‪ ،‬ويمكنني‬ ‫أن أقول ً‬ ‫أيضا‪ :‬إنهم كسبوا المعركة؛ ألن العرب من جهة‬ ‫أخرى استغربوا‪.‬‬

‫في «بوكر» كنت أعرف‬ ‫ركاكة الرواية من اإلهداء‬ ‫● أخي ًرا كانت لك تجربة في رئاسة تحكيم جائزة‬

‫البوكر؛ فمن واقع هذه التجربة هل يمكن أن تقول لنا‬

‫كيف تدار الجوائز الكبرى‪َ ،‬‬ ‫ولم تشتمل لجان التحكيم‬

‫على صحفيين ومحكمين ليس األدب مهنتهم األولى؟‬

‫■ أنا في الحقيقة كنت عملت في جائزة ساويرس‬

‫رئيسا مع مجموعة‬ ‫للرواية‪ ،‬وكنت فيها عضوًا وليس‬ ‫ً‬

‫من النقاد‪ ،‬والسبب أنني كنت أكتب في النقد كثي ًرا؛‬ ‫رئيسا في‬ ‫هذا ما جعلهم يختاروني‪ .‬وكونهم اختاروني‬ ‫ً‬ ‫جائزة البوكر؛ فهذا شرف عظيم رحَّ بت به‪ ،‬وكانت تجربة‬ ‫سررت بها‪ .‬أعتقد أن هذا التوجه جيد؛ ألن النقاد عادة‬

‫يكونون متخصصين أكثر من الالزم وكذلك كثي ًرا ما‬ ‫يكون لديهم تحيزات‪ ،‬وربما أسوأ من تحيزات‪ ،‬تكتالت‪.‬‬ ‫يعني‪ :‬اليساريون ينتصرون للكاتب اليساري‪ ،‬وغير ذلك‬

‫بصرف النظر عن مدى الجودة‪ .‬أنا أرى أن االستعانة بغير‬

‫النقاد إلى جانبهم ‪-‬أي النقاد‪ -‬يعد اتجاهً ا جيدً ا‪ .‬أما كيف‬ ‫ُتدار الجائزة أنا ال أعرف إال تجربتي‪ ،‬وكنت أديرها برويَّة‬ ‫وسعادة‪ ،‬وبديمقراطية عالية‪ ،‬وتوافق في اآلراء؛ إذ إنهم‬

‫لم يشتكوا من أدائي‪ ،‬كما لم نختلف في إدارتها‪ .‬تقدم‬ ‫ً‬ ‫رواية‬ ‫كثيرون للجائزة‪ ،‬فعُ رضت علينا من ‪ 130‬إلى ‪150‬‬

‫تقريبًا‪ ،‬شعرت بمسؤولية كبيرة‪ ،‬وتساءلت كيف سأقرأ‬

‫هذه الكمية الكبيرة من الروايات‪ .‬كانت الروايات قد ُو ِّزعت‬ ‫على كل األعضاء‪ ،‬وبدأنا نستبعد الروايات الضعيفة‪،‬‬

‫كنا نستطيع أن نعرف ذلك من الصفحات األولى للرواية‪.‬‬

‫في الحقيقة المواهب نادرة؛ فمن السهل على اإلنسان‬ ‫أن يحس أن لديه موهبة‪ ،‬لكن أن تكون لديه موهبة ًّ‬ ‫حقا‬ ‫فاألمر نادر‪ .‬لم نواجه صعوبة في تخفيض عدد الروايات؛‬ ‫ً‬ ‫أحيانا أعرف ركاكة الرواية من اإلهداء‪ ،‬وكنت‬ ‫ألنني كنت‬

‫أتوغل في الرواية فأبذل مجهودًا‪ ،‬لكن حين ال يساعدني‬ ‫ضعف الرواية على االستمرار أتركها ألخرى‪ .‬أتذكر في تلك‬

‫الدورة فاز روائي كويتي اسمه سعود السنوسي‪ ،‬بروايته‬

‫ِّ‬ ‫المحكمون جميعً ا عليها‪،‬‬ ‫«ساق البامبو»‪ ،‬فقد أجمع‬ ‫وهي رواية بديعة ما زلت إلى اليوم أعيد قراءتها‪.‬‬

‫‪87‬‬


‫نصوص‬

‫طيران‬ ‫دوريس ليسنغ‬ ‫ترجمة‪ :‬عمر أبو القاسم الككلي‬ ‫كاتب ليبي‬

‫‪88‬‬

‫دوريس ليسنغ‬

‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬


‫من فوق رأس العجوز كان ثمة برج حمام‪ ،‬رف طويل فوق‬

‫ً‬ ‫عميقا يف قلب الـ‪« .»...‬هراء»‪ .‬صاح‪« .‬هراء‪ .‬هراء به بعض الوقاحة»‪.‬‬

‫الشمس عىل صدورها الرمادية يف أقواس قزح صغرية‪ .‬أذناه كانتا‬

‫من البيت الذي يعيش فيه مع ابنته وزوجها وذريتهم‪ .‬لكن البيت‬ ‫ً‬ ‫فارغا‪ .‬كل البنات الشابات ذهنب بضحكهن وشجارهن‬ ‫سيصبح‬

‫ُطواالت محاط بشبكة سلكية‪ ،‬ميلء بطيور(‪ )1‬نظيفة متبخرتة‪ ،‬تتكسر‬

‫مفعمتني بهديلها‪ ،‬يداه ممدودتان تجاه حمامة زاجلة مفضلة‪ ،‬فتية‬ ‫مكتنزة‪ ،‬وقفت ثابتة حني رأته رامقة إياه بعني براقة ذكية‪.‬‬

‫«جميلة‪ .‬جميلة‪ .‬جميلة»‪ .‬قال وهو يمسك الطائر ويدنيه إىل‬

‫أسفل‪ ،‬شاع ًرا باملخالب املرجانية الباردة القابضة عىل إصبعه‪ .‬أراح‪،‬‬

‫برىض‪ ،‬الطائر عىل صدره‪ ،‬ومال ناحية شجرة ناظ ًرا إىل الخارج‬

‫فيما وراء برج الحمام يف خالء األصيل‪ .‬يف تتايل مساحات الشمس‬ ‫والظل تمددت الرتبة غامقة الحمرة‪ ،‬املتشققة عىل هيئة كتل كبرية‬ ‫مغربَّة‪ ،‬باتساع إىل األفق البعيد‪ .‬حاذت األشجا ُر مسرى الوادي‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫الطريق‪.‬‬ ‫وفيض من العشب ذي الخضرة الزاخرة‬

‫طافت عيناه جوار البيت بامتداد هذا الطريق إىل أن رأى حفيدته‬

‫تتأرجح بالبوابة تحت شجرة فراجيباين‪ .‬شعرها انسدل عىل ظهرها‬

‫يف موجة من ضوء الشمس‪ ،‬وساقاها العاريتان الطويلتان حاكتا‬ ‫زوايا فروع شجرة الفراجيباين‪ ،‬فروع عارية ذات لون بني متألق بني‬

‫تكوينات من األزهار الفاتحة‪ .‬كانت تنظر إىل ما وراء الزهور الوردية‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫وراء مقصورة سكة الحديد؛ حيث عاشوا‪ ،‬بامتداد الطريق حتى‬ ‫القرية‪ .‬تغري مزاجه‪ .‬عمد إىل بسط راحته لتطري الحمامة‪ ،‬وقبض‬

‫عليها من جديد يف اللحظة التي كانت تنشر فيها جناحيها‪ .‬شعر‬ ‫بالجسد املكتنز يكافح ويتوتر تحت أصابعه‪ ،‬ويف لحظة نكاية عاتية‬

‫وضع الحمامة داخل صندوق صغري وأغلق الرتاج‪« .‬ابقي هناك‬ ‫اآلن»‪ .‬تمتم‪ ،‬ثم أدار ظهره إىل رف الطيور‪ .‬تحرك بحذر بمحاذاة‬

‫الحاجز الشجري مراقبًا حفيدته التي استدارت اآلن حول البوابة‬ ‫رأسها مرتاح عىل ذراعيها تغني‪ .‬الصوت الجذالن السلس امتزج‬

‫بهديل الطيور وتصا َع َد غضبُه‪« .‬هي!»‪ .‬صاح‪ .‬رآها تقفز‪ ،‬تنظر‬

‫وراءها‪ ،‬وترتك البوابة‪ .‬عيناها تنغمضان وقالت يف صوت محايد‬ ‫رشيق‪« :‬أهلاً ‪ ،‬جدي»‪ .‬تحركت باتجاهه بعد نظرة متمهلة إىل‬ ‫الطريق وراءها‪.‬‬

‫«تنتظرين ستيفن‪ ،‬صح؟»‪ .‬قال وأصابعه تنثني كاملخالب يف‬

‫كفه‪« :‬لديك اعرتاض؟»‪ .‬سألت بال مباالة‪ ،‬مشيحة نظرها عنه‪.‬‬

‫واجهها‪ ،‬عيناه منكمشتان‪ ،‬كتفاه محدبتان‪ ،‬مربوطتان يف‬

‫عقدة ألم قوي شملت الطيور األنيقة‪ ،‬ضوء الشمس‪ ،‬األزهار‪.‬‬

‫قال‪« :‬تظنني أنك كربت إىل درجة إقامة عالقات؟»‪ .‬حركت الفتاة‬

‫رأسها يف إشارة مألوفة وقطبت قائلة‪« :‬أوه‪ ،‬يا جدي!»‪« .‬تظنني‬

‫مغمغمًا من بني أسنانه عاد باتجاه برج الحمام الذي كان ملجأه‬

‫ومناكفاتهن‪ .‬سيُرتك دونَ رعاية ووحيدًا‪ ،‬مع تلك املرأة جامدة‬

‫العينني مربعة الواجهة‪ ،‬ابنته‪.‬‬

‫ً‬ ‫ممتعضا من الطيور‬ ‫توقف‪ ،‬مغمغمًا‪ ،‬أمام برج الحمام‬

‫املستغرقة يف الهديل‪ .‬صاحت الفتاة من البوابة‪« :‬اذهب وأخرب!‬

‫اذهب‪ ،‬ما الذي تنتظره؟»‪.‬‬

‫اتخذ طريقه إىل البيت عازمً ا‪ ،‬ملتف ًتا إليها يف نظرة استغاثة‬

‫ثابتة حزينة‪ ،‬إال أنها لم تنظر حولها أبدً ا‪ .‬جسدها الفتي القلق‪،‬‬ ‫أعن‬ ‫لكن املتحدي‪ ،‬لذعه بالحب والندم‪ .‬توقف‪« ،‬لكنني لم‬ ‫ِ‬ ‫أعن‪.»...‬‬ ‫أبدً ا‪ »...‬تمتم‪ ،‬منتظ ًرا إياها أن تعود وتجري نحوه‪« .‬لم ِ‬

‫لم تلتفت‪ .‬لقد نسيته‪ .‬عىل الطريق جاء الرجل الشاب‪ ،‬ستيفن‪،‬‬ ‫حاملاً يف يده شي ًئا ما‪ .‬هدية لها؟ تصلب العجوز وهو يراقب‬ ‫البوابة تغلق‪ ،‬والثنايئ يعتنقان‪ .‬يف الظل الخفيف لشجرة‬ ‫الفرانجيباين حفيدته‪ ،‬عزيزته‪ ،‬تستكن بني ذراعي ابن ناظر‬

‫املحطة وشعرها ينسدل عىل كتفيه‪.‬‬ ‫لاً‬ ‫ً‬ ‫مغتاظا‪ .‬لم يتحركا‪ .‬خطا داخ البيت‬ ‫«أراك»‪ .‬صاح العجوز‬ ‫ِ‬ ‫املطيل باألبيض مستمعً ا يف غضب إىل صرير الشرفة الخشبية تحت‬ ‫ً‬ ‫خيطا يف إبرة‬ ‫قدميه‪ .‬كانت ابنته تخيط يف الغرفة األمامية تمرر‬ ‫معرضة للضوء‪.‬‬

‫توقف مجددًا‪ ،‬ناظ ًرا إىل الحديقة خلفه‪ .‬أخذ الثنايئ اآلن‬

‫يتمخطران بني الشجريات ضاحكني‪ .‬وهو يراقبهما رأى الفتاة تهرب‬ ‫فجأة من الفتى بحركة مشاكسة‪ ،‬وتركض خالل الزهور وهو‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫صراخا‪ ،‬صم ًتا‪.‬‬ ‫ضحكا‪،‬‬ ‫يالحقها‪ .‬سمع صيحات‪،‬‬ ‫ً‬ ‫«لكن األمر ليس هكذا إطالقا»‪ .‬تمتم بأىس‪« .‬ليس هكذا‪.‬‬ ‫ملاذا ال ترى؟‪ .‬ر ْكض وقهقهة‪ ،‬وتقبيل ثم تقبيل‪ .‬ستستنتج شي ًئا‬ ‫ً‬ ‫مختلفا تمامً ا»‪.‬‬

‫نظر إىل ابنته بكره متهكم‪ ،‬كارهً ا نفسه‪ .‬لقد ضبطا وانتهى‬

‫األمر‪ ،‬كالهما‪ ،‬لكن الفتاة ال زالت تركض بحرية»‪.‬‬ ‫َ‬ ‫«أال ترين؟»‪ .‬سأل حفيدته املختفية‪ ،‬التي كانت لحظتها‬ ‫مستلقية يف العشب األخضر الكثيف مع ابن ناظر املحطة‪.‬‬ ‫نظرت إليه ابنته وارتفع حاجباها يف صرب نافد‪.‬‬

‫«أنمت طيورك؟»‪ .‬مازحته‪.‬‬

‫«لويس»‪ .‬قال بإلحاح‪« .‬لويس‪.»...‬‬

‫أنك تستطيعني ترك البيت؟‪ .‬تظنني أنك تستطيعني الركض يف‬ ‫الحقول ليلاً ؟»‪ .‬ابتسامتها جعلته يراها‪ ،‬مثلما اعتاد كل مساء من‬

‫«نعم‪ .‬ما األمر؟»‪.‬‬

‫الهائج(‪ ،)2‬ابن ناظر املحطة‪ .‬غزت التعاسة رأسه وصرخ غاضبًا‪:‬‬

‫«اآلن‪ ،‬فقط اجلس وتناول شايك»‪.‬‬

‫هذا الشهر الدافئ يف نهاية الصيف‪ ،‬يدها يف يد ذلك الشاب الفحل‬

‫«سأخرب أمك!»‪« .‬أخربها!»‪ .‬قالت ضاحكة‪ .‬ثم عادت إىل البوابة‪.‬‬ ‫سمعها تغني متعمدة إسماعه‪« :‬احتويتك تحت جلدي‪ ،‬احتويتك‬

‫«إنها يف الحديقة مع ستيفن»‪.‬‬

‫داس بقدميه بالتناوب‪ ،‬تك‪ ،‬تك‪ ،‬عىل األرضية الخشبية‬

‫املجوفة وصرخ‪« :‬ستتزوجه‪ .‬أقولها لك‪ ،‬ستتزوجه قريبًا!»‪.‬‬

‫‪89‬‬


‫نصوص‬

‫ً‬ ‫فنجانا‪ ،‬أعطته صح ًنا‪« .‬ال‬ ‫نهضت ابنته بخفة‪ ،‬أحضرت إليه‬

‫أرغب يف الشاي‪ .‬ال أريده‪ .‬أقول لك»‪« .‬اآلن‪ .‬اآلن»‪ .‬غمغمت‪« .‬ما‬

‫الخطأ يف هذا؟‪ .‬لم ال؟‪« .‬إنها يف الثامنة عشرة‪ .‬الثامنة عشرة»‪.‬‬

‫حلقه وشفتاه ترتعشان‪ .‬قرب الحمامة الجديدة من وجهه ليداعب‬ ‫ريشها الحريري‪ .‬ثم وضعها يف الصندوق وأخرج حمامته املفضلة‪.‬‬

‫ُ‬ ‫تزوجت يف السابعة عشرة ولم أندم عىل ذلك»‪« .‬كاذبة»‪.‬‬ ‫«لقد‬

‫«يمكنك الذهاب اآلن»‪ .‬قال بصوت مرتفع‪ .‬أمسك بها يف وضع‬

‫يفعل ذلك‪ .‬ملاذا تفعلني ذلك؟ ملاذا؟»‪« .‬الثالث األخريات وضعهن‬

‫ثم‪ ،‬وباعتصارة من وجع الفقدان‪ ،‬رفع الحمامة عىل كفه وشاهدها‬

‫قال‪« .‬كاذبة‪ .‬إذن عليك أن تندمي‪ .‬ملاذا تزوجني بناتك؟ أنت من‬ ‫جيد‪ .‬لديهن ثالثة أزواج رائعني‪ .‬ملاذا ال تكون أليست مثلهن؟»‪.‬‬

‫«إنها األخرية»‪ .‬قال بحزن‪« .‬أال يمكننا إبقاؤها مدة قليلة أخرى؟»‪.‬‬ ‫«أرجوك‪ ،‬بابا‪ .‬ستسكن هنا قرب الطريق‪ ،‬هذا كل ما هنالك‪.‬‬ ‫ستكون هنا يوميًّا لرتاك»‪« .‬لكن هذا ليس نفس اليشء»‪ .‬فكر يف‬

‫البنات الثالث األخريات‪ ،‬الاليئ تغرين داخليًّا منذ بضعة أشهر‬

‫مضت من بنات مدلالت مناكفات جذابات إىل أمهات صغريات‬ ‫جادات‪« .‬لم تفعل هذا حني تزوجنا»‪ .‬قالت‪« .‬لم ال؟ دائمًا نفس‬

‫ُ‬ ‫تزوجت جعلتني أشعر كأنني ارتكبت خطأ‪ .‬ونفس‬ ‫اليشء‪ .‬عندما‬

‫متوازن مهيأ للطريان وهو ينظر إىل الحديقة ناحية الولد والبنت‪.‬‬

‫تعلو‪ .‬رفيف واصطفاق أجنحة‪ ،‬ثم علت سحابة من الطيور يف‬ ‫املساء من برج الحمام‪ .‬عند البوابة‪ ،‬أليس وستيفن نسيا حديثهما‬

‫وراقبا الطيور‪ .‬عىل الشرفة‪ ،‬تلك املرأة‪ ،‬ابنته‪ ،‬وقفت متأملة مظللة‬ ‫عينيها بيدها التي ما زالت ممسكة بما تخيطه‪ .‬بدا للعجوز أن‬ ‫األصيل بجملته سكن لرياقب إيماءته إىل سيطرته عىل نفسه‪ ،‬حتى‬

‫أوراق األشجار توقفت عن االهتزاز‪ .‬بعينني جافتني ويف هدوء‪ ،‬ترك‬ ‫ً‬ ‫محدقا إىل أعىل يف السماء‪.‬‬ ‫يديه تنسبالن إىل جانبيه ووقف منتصبًا‬ ‫ارتفعت سحابة الطيور الفضية الالمعة إىل أعىل مع صوت اصطفاق‬

‫اليشء بالنسبة إىل بنايت‪ .‬أبكيتهن كلهن وأحزنتهن بسبب سلوكك‪.‬‬

‫األجنحة الصاخب فوق األرض املحروثة الداكنة وأحزمة األشجار‬

‫الحديقة املشمسة‪« .‬ستتزوج الشهر القادم‪ .‬ما من داع للتأخري»‪.‬‬ ‫ً‬ ‫متشككا‪.‬‬ ‫«قلت‪ :‬إنه يمكنهما أن يتزوجا؟»‪ .‬قال‬ ‫ِ‬

‫الشمس مثل سحابة من ذرات الغبار‪ .‬طافت يف دائرة واسعة‪،‬‬

‫دع أليس وشأنها‪ .‬إنها سعيدة»‪ .‬تنهدت جاعلة عينيها تتلبثان عىل‬

‫«نعم‪ ،‬بابا‪ .‬لم ال؟»‪ .‬قالت يف برود‪ ،‬وعادت إىل خياطتها‪.‬‬

‫‪90‬‬

‫يفعال ذلك‪ ،‬أعاد العجوز تطمني نفسه‪ ،‬شاع ًرا بغصة الدمع يف‬

‫األشد دكنة ومساحات العشب املتألق‪ ،‬إىل أن حلقت عاليًا يف ضوء‬ ‫محركة أجنحتها بحيث تتكون ومضة إثر ومضة‪ ،‬وواحدة بعد‬ ‫(‪)4‬‬

‫األخرى‪ ،‬هبطن من الشمس املشرقة يف أعىل السماء إىل الظل‪،‬‬

‫وخزته عيناه وخرج إىل الشرفة‪ .‬تحدر البلل إىل ذقنه فأخرج‬

‫واحدة بعد األخرى‪ ،‬عائدات إىل األرض الظليلة من فوق األشجار‬

‫من حول املنعطف جاء الثنايئ الشاب‪ ،‬إال أن وجهيهما لم‬

‫صارت الحديقة كلها ضاجة بصخب واضطراب الطيور العائدة‪.‬‬

‫تسقط من ذقنه‪« .‬يل؟»‪« .‬هل تعجبك؟»‪ .‬أمسكت الفتاة بيده‬

‫نحو الحديقة لحفيدته‪ .‬كانت تحدق به‪ .‬لم تبتسم‪ .‬كانت عيناها‬

‫منديلاً ومسح كامل وجهه‪ .‬كانت الحديقة فارغة‪.‬‬

‫يتجها إليه أبدًا‪ .‬عىل كف ابن ناظر املحطة تقف حمامة صغرية‬ ‫يتألق الضوء عىل صدرها‪« .‬يل؟»‪ .‬قال العجوز‪ ،‬جاعلاً القطرات‬ ‫وتعلقت بها‪« .‬إنها لك يا جدي‪ .‬ستيفن أحضرها من أجلك»‪ .‬عانقاه‬ ‫بعاطفة واهتمام محاولني إبعاد الدموع واألىس من عينيه‪ .‬أحاطا‬ ‫به ٌّ‬ ‫كل من جانب وتناوال ذراعيه وسارا به إىل رف الطيور مالطفني‬

‫إياه قائلني‪ ،‬بدون كلمات‪ :‬إنه ال يشء سيتغري‪ ،‬ال يشء يمكنه أن‬ ‫يتغري‪ ،‬وأنهما سيكونان معه دومًا‪ .‬الحمامة كانت دليلاً عىل ذلك‪،‬‬ ‫قاال‪ ،‬من خالل عيونهما التي تصطنع البهجة وهما يركزانها عليه‪:‬‬ ‫«ها هي جدي‪ .‬إنها ملكك‪ .‬هي لك»‪ .‬راقباه وهو يمسك بها يف كفه‬

‫والعشب والحقل‪ ،‬عائدات إىل الوادي ومالذ الليل‪.‬‬

‫ٌ‬ ‫صمت‪ ،‬وصارت السماء خاوية‪.‬‬ ‫ثم‬ ‫لاً‬ ‫عاد العجوز ببطء‪ ،‬متمه ‪ ،‬رفع عينيه ليبتسم باعتزاز‬

‫متسعتني وشاحبتني يف الظل البارد ورأى الدموع تنزل مرتعشة‬ ‫عىل وجهها‪.‬‬

‫الهوامش‪:‬‬

‫٭ دوريس ليسنغ روائية وشاعرة إنجليزية‪ ،‬من مواليد ‪1919‬م في إيران‪.‬‬ ‫عاشت في روديسيا‪ ،‬زمبابوي الحالية‪ ،‬ثم في بريطانيا‪ .‬حصلت على‬ ‫َ‬ ‫المرأة الحادية عشرة التي‬ ‫جائزة نوبل لألدب سنة ‪2007‬م‪ ،‬وكانت‬

‫ممسدًا عىل ظهرها الناعم الذي دفأته الشمس ناظ ًرا إىل الجناحني‬ ‫يرتفعان ويتوازنان‪« .‬ينبغي اإلقفال عليها مؤق ًتا»‪ .‬قالت الفتاة‬

‫(‪ )1‬المقصود بـ «طيور» و«طائر» هنا حمام أو حمائم‪ ،‬وحمامة‪.‬‬

‫البيض»(‪ .)3‬دمدم العجوز‪ .‬متحررين بفعل غضبه شبه املتعمد‬

‫…‪that red-handed, red throated, violent-bodied youth‬‬

‫بحميمية‪« .‬إىل أن تعرف أن هذا محلها»‪« .‬علمي جدتك امتصاص‬

‫تراجعا ضاحكني‪« .‬نحن مسروران أنها أعجبتك»‪ .‬ابتعدا عنه‪ ،‬وقد‬ ‫صارا جادين ومليئني باألهداف‪ ،‬باتجاه البوابة؛ حيث توقفا موليني‬

‫إياه ظهريهما يتحدثان بخفوت‪ .‬جديتهما الناضجة أبعدته عنهما‬ ‫أكرث مما يستطيعه أي يشء آخر‪ .‬هذا ً‬ ‫أيضا هدأه‪ .‬انتابته لذعة من‬ ‫تمرغهما كجروين عىل العشب‪ .‬نسياه من جديد‪ .‬ليكن‪ .‬عليهما أن‬ ‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬

‫حصلت على هذه الجائزة وأكبرهن عم ًرا‪ ،‬توفيت سنة ‪2013‬م‪.‬‬

‫(‪ )2‬في األصل‪ :‬الشاب العنفواني‪ ،‬أحمر الحلق‪ ،‬أحمر اليد‪:‬‬ ‫ومجمل المقصود‪ :‬العنفوان الجنسي‪.‬‬

‫(‪ )3‬في األصل‪:‬‬

‫‪Teach your grandmother to suck eggs‬‬

‫وهو تعبير يقال لمن يوجه نصيحة لمن هو أكبر منه وأكثر خبرة‪.‬‬ ‫(‪ )4‬عاملنا الحمائم هنا معاملة المؤنث‪.‬‬


‫نصوص‬

‫في عيادة طبيب األحوال‬ ‫نبيل سبيع‬

‫شاعر يمني‬

‫أسناننا ُم َّ‬ ‫سوسة‬ ‫ٌ‬ ‫وكلماتنا ُم َّ‬ ‫سوسة أكثر‬ ‫لدرجة أنه لم يعد من الالئق‬ ‫ْ‬ ‫أن يبتسم أحدنا في وجه اآلخر‬ ‫أو يسأله عن حاله‪.‬‬ ‫ً‬ ‫رجاء!‬ ‫ال تبتسموا في وجهي‬ ‫ابتسامة تقدمونها لي‬ ‫فكل‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫تتطلب مني الرد بمثلها‬ ‫واالبتسام َ‬ ‫مؤلما ًّ‬ ‫ً‬ ‫جدا‬ ‫بات أمرًا‬ ‫هذه األيام‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫هممت بابتسامة‬ ‫كلما‬ ‫انفتح مكانها جرحٌ في وجهي‪.‬‬ ‫تظنونه ابتسامة!‬ ‫لكن الجرح العميق‬ ‫غالبًا ما يحدث‬ ‫على شكل ابتسامة‪.‬‬ ‫اتركوا فمي وشأنه!‬ ‫هذا الجرح القديم‬ ‫والمتجدد والمؤلم ًّ‬ ‫جدا‬ ‫مثل أيامي‬ ‫اتركوه في حاله!‬ ‫ً‬ ‫رجاء!‬ ‫وال تسألوني عن حالي‬ ‫فحالي مثل بقية األحوال‬ ‫ينخره السوس ً‬ ‫يوما بعد يوم‪:‬‬ ‫ال المهدئات عادت تنفع‬ ‫وال الحشو عاد يجدي!‬ ‫لهذا‪ ،‬سأذهب ً‬ ‫غدا‬ ‫إلى عيادة طبيب األحوال‬ ‫وأطلب منه أن يخلعه من جذوره‬

‫وأمضي ما تبقى من حياتي‬ ‫بدون حال‬ ‫ماذا في ذلك؟‬ ‫يمكنني أن أعيش حياتي‬ ‫حال على اإلطالق‬ ‫بدون أي‬ ‫ٍ‬ ‫لاً‬ ‫ُ‬ ‫صادفت متطف ودو ًدا‬ ‫وإذا‬ ‫وسألني‪:‬‬ ‫كيف حالك؟‬ ‫سأصرخ في وجهه بغضب‪:‬‬ ‫وما أدراني أنا يا أخي؟!‬ ‫َ‬ ‫ًّ‬ ‫مهتما بحالي لهذه الدرجة‪،‬‬ ‫كنت‬ ‫إذا‬ ‫يمكنك أن تبحث عنه‬ ‫وعندما تجده‪،‬‬ ‫ابتسم في وجهه‬ ‫واسأله هو!‬ ‫(حتى هو لن يجيبك)‬ ‫وقد يصرخ في وجهك أكثر مني‪:‬‬ ‫وما أدراني أنا يا غبي؟!‬

‫‪91‬‬


‫تقارير‬

‫الفيلسوف والعا ِلم‬ ‫برتراند راسل وآينشتاين يحشدان علماء دين وشخصيات‬ ‫عامة للعمل على التقليل من مخاطر النزاعات المسلحة‬ ‫توني سيمبسون‬

‫محرر كتاب «مناخ السالم»‬

‫ترجمة‪ :‬عبدالله بن محمد‬

‫مترجم تونسي‬

‫يكشف توني سيمبسون في هذا التقرير عن دور بيان كل من الفيلسوف برتراند راسل والعالم‬

‫آينشتاين في تأسيس مؤتمر بوغواش (للعلوم والشؤون الدولية)‪ ،‬أو المنظمة الدولية التي تسعى‬ ‫إلى حشد علماء الدين والشخصيات العامة من أجل العمل على التقليل من مخاطر النزاعات‬

‫المسلحة وإيجاد حلول للتهديدات والمخاطر المحدقة باألمن العالمي‪.‬‬ ‫«لم يكن عالمًا كبي ًرا فحسب بل رجلاً عظيمًا‪ ،‬رجلاً تسعد‬

‫بمعرفته وتتسلى بالتأمل في أفكاره»‪ ،‬بهذه الكلمات‪ ،‬اختتم برتراند‬

‫راسل مقدمته عن آينشتاين في كتابه «السالم» (‪1960‬م)‪ .‬على مر‬

‫‪92‬‬

‫السنين‪ ،‬كان راسل يلتقي ألبرت آينشتاين من وقت آلخر‪ ،‬لكنهما لم‬ ‫يجلسا معً ا كثي ًرا إال في عام ‪1943‬م‪ ،‬عندما عاشا معً ا في برينستون‪.‬‬

‫بعد ذلك قررا أن يجتمعا أسبوعيًّا في منزل آينشتاين لمناقشة‬

‫تجمعنا معً ا‪ .‬أعتقد أنه يتوجب على العلماء البارزين القيام بحركة‬

‫استثنائية للفت انتباه الشعوب والحكومات إلى الكوارث المحتملة‪.‬‬ ‫هل تعتقد أنه سيكون من الممكن أن نحصل على ستة علماء مثلاً من‬ ‫الذين يتمتعون بسمعة علمية مرموقة ُتشرف عليهم أنت بنفسك‪،‬‬

‫لصياغة بيان رسمي حول حتمية تجنب الحرب؟»‪.‬‬

‫متحمسا‪:‬‬ ‫ورغم حالته الصحية المتدهورة‪ ،‬استجاب آينشتاين‬ ‫ً‬

‫«مسائل مختلفة في فلسفة العلوم»‪ .‬كما حضر معهما كل من‬

‫«أتفق مع كل كلمة في رسالتكم ليوم ‪ 11‬فبراير‪ ...‬ويمكن تحقيق‬ ‫ذلك على أفضل وجه من خالل إعالن عام ّ‬ ‫توقعه مجموعة صغيرة‬

‫وبعد تجربة القنبلة الهيدروجينية األميركية في بيكيني أتول ‪Bikini‬‬

‫بإنجازاتهم العلمية (بمعناها الواسع) والذين لن تتأثر قوة شهادتهم‬

‫وولفغانغ باولي وكورت غودل‪ .‬وقال راسل‪« :‬وجدت هذه المناقشات‬ ‫غير الرسمية مثمرة للغاية وقيّمة إلى أبعد الحدود»‪ .‬في وقت الحق‪،‬‬

‫‪ Atoll‬بالمحيط الهادئ في مارس ‪1954‬م‪ ،‬انتشرت اإلشعاعات‬ ‫عبر مناطق واسعة‪ ،‬مما تسبب في تلوّث الصيادين اليابانيين‬ ‫ومحاصيلهم على متن قارب الصيد «الكي دراغون»‪ .‬في ذلك الوقت‬

‫تمكنت الواليات المتحدة واالتحاد السوفييتي من حيازة القنبلة‬

‫الهيدروجينية‪ .‬وفي فبراير عام ‪1955‬م‪ ،‬نتيجة لذلك‪ ،‬اقترح راسل على‬

‫آينشتاين‪« :‬كغيري من العقالء‪ ،‬أشعر بقلق بالغ جراء سباق التسلح‬ ‫النووي‪ .‬لقد عبّرت في مناسبات مختلفة عن المشاعر واآلراء التي‬

‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬

‫من األشخاص‪ ،‬اثنا عشر عالمًا مثلاً من الذين اكتسبوا صي ًتا عالميًّا‬

‫بانتماءاتهم السياسية»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وعلى الفور رد راسل وتبنى مقترح آينشتاين‪ ،‬وللتأكيد على‬ ‫«وجود ّ‬ ‫موقعين آخرين إلى جانب توقيعك وتوقيعي» قبل إرسال‬

‫مشروع المناشدة إلى األشخاص المختارين‪ .‬أراد راسل أن يترك‬ ‫الخيار آلينشتاين وشركائه «ألنك تعرف الدوائر العلمية أفضل بكثير‬

‫مما أعرف»‪ .‬وفي الحين كتب آينشتاين إلى الفيزيائي نيلز بوهر‪،‬‬ ‫مقترحً ا عليه أن يتصل ببرتراند راسل مباشرة‪« .‬ال ترفض ذلك!» هكذا‬


‫استهل آينشتاين رسالته إلى بوهر‪« :‬هذا ال‬

‫يتعلق بالجدل القديم بيننا حول الفيزياء‪،‬‬ ‫لكنها مسألة نتفق فيها جميعا»‪ ،‬موضحً ا أن‬ ‫راسل سعى إلى تكوين مجموعة صغيرة من‬

‫العلماء المشهورين للتحذير من «المخاطر‬

‫المحدقة نتيجة انتشار األسلحة الذرية وسباق‬ ‫التسلح»‪ .‬وأوضح ً‬ ‫أيضا «إال إذا أسأت فهم‬

‫قصد راسل‪ ،‬فإن هذا األخير يريد أن يذهب‬ ‫أبعد من مجرد التنبيه من الخطر؛ بل صياغة‬ ‫مقترح نطالب فيه الحكومات بأن تعترف عل ًنا​​‬

‫برتراند راسل‬

‫ألبرت آينشتاين‬

‫بضرورة التخلي عن حل المشاكل بالوسائل العسكرية»‪ .‬في الواقع‬

‫التقى بداية الفيزيائي البروفيسور جوزيف روتبالت في إبريل عام‬

‫باتصاالت أوسع‪ ،‬ألنه‪ ،‬كما قال لراسل‪« :‬أنا لست على دراية بالدور‬

‫الهيدروجينية‪ .‬أعجب راسل بشكل خاص بعمل روتبالت الذي كشف‬

‫«لتجنب أي لبس‪ ،‬يبدو لي أنه من األنسب أن تكون دكتاتورًا في هذه‬

‫بضعة أسابيع من إطالق مبادرة «راسل‪ -‬آينشتاين» بلندن في يوليو‬

‫فهم آينشتاين نية راسل جيدًا‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬تردد هذا األخير في القيام‬

‫الذي ترغب في أن يقوموا به»‪ ،‬وأضاف آينشتاين في رسالته لراسل‪،‬‬

‫المبادرة وتصدر األوامر»‪ .‬وختم حازمًا‪« :‬في انتظار األوامر»‪ .‬وفي ‪5‬‬

‫‪1954‬م في قناة بي بي سي‪ ،‬في برنامج حواري تلفزيوني حول القنبلة‬ ‫عن القنبلة القذرة التي اختبرها األميركيون في بيكيني أتول‪ .‬وبعد‬

‫عام ‪1955‬م‪ ،‬كتب راسل إلى روتبالت بكلية الطب التابعة لمستشفى‬

‫إبريل ‪1955‬م كتب راسل ‪-‬رسالته األخيرة إلى آينشتاين‪ -‬أكد فيها أن‬

‫سانت بارثولوميو ما يلي‪« :‬عندما شرعت في التواصل مع العلماء‪،‬‬

‫عن غير قصد في المخاطر الحالية»‪ .‬ولهذا السبب‪ ،‬رأى راسل أنه‬

‫مرضه وانتهى بوفاته‪ .‬أشعر بأنه كانت هناك المزيد من الخطوات‬

‫العلماء يشعرون بمسؤولية عظيمة وبخاصة أن عملهم «قد تسبب‬ ‫من األفضل التعامل مع العلماء فقط‪ ،‬وآثر عدم دعوة أولئك الذين‬

‫يعملون في مجاالت أخرى‪ ،‬مثل المؤرخ أرنولد توينبي‪ ،‬الذي ذكره‬ ‫آينشتاين‪ .‬فتوسيع نطاق هذه المبادرة كان سيجعل من الصعوبة‬

‫بمكان التخلص من النقاشات السياسية‪ .‬توفي آينشتاين في ‪ 18‬إبريل‬ ‫عام ‪1955‬م لكن ليس قبل أن يكتب إلى راسل ليخبره بأنه «مستعد‪،‬‬ ‫بكل سرور‪ ،‬للتوقيع على هذا البيان الممتاز»‪ .‬كما وافق آينشتاين على‬

‫اختيار راسل للموقعين المحتملين‪.‬‬

‫كانت لدي قناعة بتعاون آينشتاين‪ ،‬لكن ذلك قد تضاءل بسبب‬

‫التي يجب أن يقوم بها العلماء وبأن أي عمل آخر من جانبي يجب أن‬ ‫يكون في مجال السياسة» بعبارات راسل‪ ،‬أظهر روتبالت «شجاعة‬

‫كبيرة ليترأس» المؤتمر الصحافي وتالوة البيان‪ .‬وهكذا بدأ التعاون‬ ‫الدائم الذي ولد أول مرة في بوغواش‪ ،‬نوفا سكوتيا‪ ،‬في يوليو عام‬ ‫‪1957‬م‪ ،‬الساحة التي جمعت اثنين وعشرين مشار ًكا من عشر دول‪،‬‬

‫بما في ذلك الواليات المتحدة واالتحاد السوفييتي والصين‪ ،‬والتجمع‬

‫تحت مظلة الدعم المشترك ألهداف بيان راسل ‪ -‬آينشتاين‪ .‬كانت‬

‫لكن رسالة آينشتاين األخيرة لم تصل راسل إال بعد هبوطه في‬

‫بوغواش موطن سايروس آيتون‪ ،‬رجل األعمال الذي دفع تكاليف‬

‫وفاة آينشتاين‪ .‬شعر راسل باإلحباط‪ ،‬على األقل ألن خطته ستخفق‬

‫زالت مؤتمرات بوغواش المعنية بالعلوم والشؤون العالمية تنعقد‬

‫باريس قادمًا من روما‪ .‬وفي أثناء الرحلة‪ ،‬كان الطيار قد أعلن عن‬

‫من دون آينشتاين بوصفه عالمًا إلى جانب فيلسوف‪ .‬وأدرك راسل‪،‬‬

‫أن توقيع المناشدة كان آخر عمل يقوم به آينشتاين في حياته العامة‪.‬‬ ‫وبفراقه آينشتاين‪ ،‬أيقن راسل أنه بحاجة إلى تعاون وثيق مع أحد‬

‫العلماء اآلخرين‪.‬‬

‫في ‪ 5‬إبريل عام ‪1955‬م كتب راسل رسالته‬ ‫األخيرة إلى آينشتاين‪ ،‬أكد فيها أن العلماء‬ ‫يشعرون بمسؤولية عظيمة‪ ،‬وبخاصة‬ ‫أن عملهم «قد تسبب عن غير قصد في‬ ‫المخاطر الحالية»‪ ،‬ولهذا السبب‪ ،‬رأى راسل‬ ‫أنه من األفضل التعامل مع العلماء فقط‬

‫المؤتمر األول‪ ،‬وارتبط اسمه بالحدث‪ .‬وبعد مرور ستين عامًا‪ ،‬ما‬ ‫كمنارة لألمل‪ .‬رعى جوزيف روتبالت شخصيًّا الحركة طوال حياته‪،‬‬ ‫وتوّج بفضلها وكذلك المؤتمر بجائزة نوبل للسالم في عام ‪1995‬م‪.‬‬ ‫وفي عام ‪2003‬م‪ ،‬قبل عامين من وفاته في سن ‪ّ ،96‬‬ ‫حث روتبالت‬

‫بوغواش على «االنفتاح» والتعاون مع اآلخرين لتوعية الشعوب‬ ‫بمخاطر الحروب النووية إبان غزو العراق‪ .‬واليوم يواجه العالم‬ ‫مشكلة تغير المناخ فضلاً عن تزايد االنتشار النووي‪ ،‬في الوقت الذي‬

‫يمتد فيه خط الجفاف جنوبًا عبر منطقة الساحل في جنوب الصحراء‬ ‫الكبرى‪ ،‬ويدمر وسائل العيش األساسية هناك‪ .‬الناس يفرون من‬

‫البلدان المتضررة التي كثي ًرا ما يصاحبها الصراع والجفاف‪ ،‬وهناك‬

‫ضرورة علمية أخرى تفرض علينا العمل على نطاق عالمي‪ .‬ألم يحِ ِن‬ ‫الوقت لتذ ُّكر إنسانيتنا وتجاوز خالفاتنا؟‬

‫المصدر‪ :‬مجلة ‪ Philosophy Now‬عدد يونيو‪ -‬يوليو ‪2017‬م‪.‬‬

‫‪93‬‬


‫تحقيقات‬

‫المسرح العربي في مأزق‬ ‫فن البسطاء لم يعد قاد ًرا على التعبير‬ ‫عن همومهم أو مخاوفهم‬

‫‪94‬‬

‫أكاديمية الشرق األوسط لفنون المسرح‬ ‫‪2017‬م‬ ‫أكتوبر‪2017‬م‬ ‫سبتمبر‪- -‬أكتوبر‬ ‫‪1439‬هـ‪//‬سبتمبر‬ ‫محرم‪1439‬هـ‬ ‫‪1438‬هـ‪- -‬محرم‬ ‫الحجة‪1438‬هـ‬ ‫ذوالحجة‬ ‫‪492‬ذو‬ ‫‪492--491‬‬ ‫العددان ‪491‬‬


‫خاص‬

‫لم يكن المسرح العربي يعرف في زمن ما معنى «أزمة» مثلما يعرفها اآلن‪ ،‬على الرغم من كثرة‬ ‫ترديد المسرحيين لهذه الكلمة‪ .‬فعلى مدار تاريخه منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى وقتنا الراهن‬ ‫والمشتغلون في مجال المسرح يتحدثون عن وجود أزمة في المسرح‪ ،‬ربما تمثلت في قلة النفقات‪ ،‬وربما‬ ‫في ندرة خشبات العرض‪ ،‬أو حتى تفتت الفرق الكبرى ورحيل النجوم والمؤسسين‪ .‬لكن طيلة الوقت كان‬ ‫ثمة ورق جديد لكتاب جدد‪ ،‬وجمهور كبير يقبل على هذا الفن الذي يمكنه أن يستوعب مختلف الفنون‬ ‫األخرى‪ ،‬بدءًا من الغناء والموسيقا والرقص إلى اإللقاء والتأليف والوعظ واإللهاء والتثوير‪ ،‬حتى إنه في‬ ‫األربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي كان هو الفن الجماهيري األول‪ .‬واستطاع منافسة السينما‬ ‫والتلفزيون لسنوات طويلة‪ ،‬حتى إن مسرحية «الزعيم» لعادل إمام ظلت تعرض ألكثر من عشر سنوات‬ ‫على المسرح‪ ،‬وما زالت أعمال سعد الله ونوس ومحمد الماغوط ومحمود دياب وعلي سالم والرحبانية‬ ‫وغيرهم قادرة على إمتاع الناس حتى اآلن‪ ،‬لكن السنوات األخيرة كشفت أن المسرح العربي خرج من‬ ‫المنافسة‪ ،‬ولم يعد قادرًا على إمتاع الجماهير أو جذبهم‪ ،‬وأن تجارب مثل مسرح مصر أو غيرها لم تقدم‬ ‫ً‬ ‫مزيدا من التسطيح‪ ،‬وأن فن البسطاء لم يعد قادرًا على التعبير عن همومهم أو ثوراتهم أو مخاوفهم‪،‬‬ ‫إال‬ ‫فهل يعيش المسرح العربي اآلن في أزمة‪ ،‬وما أسبابها؟ وكيف يمكن الخروج منها؟‬ ‫زياد عيتاني‪ :‬اإلعالم يتعامل مع المسرح‬ ‫بطريقة خاطئة‬

‫الصعوبات التي تواجه العاملين بالمسرح أولها اإلعالم الذي‬

‫غيّب عن الناس الثقافة العامة‪ ،‬ونعني بالثقافة العامة أن نقدم‬ ‫مسرحً ا قائمًا على الروايات الكالسيكية الشهيرة‪ ،‬أو األعمال التي‬

‫أساس أنك ال تستطيع أن تقدم للعالم غير الاليت‪ ،‬بالطبع ال‪،‬‬

‫فأنا قدمت ثالث مسرحيات‪ ،‬إحداهن بلبنان‪ ،‬لبنان الذي تعداده‬ ‫أربعة ماليين نسمة‪ ،‬استمرت لمدة ثالث سنوات‪ ،‬حضرها ‪45‬‬ ‫ً‬ ‫ألفا‪ ،‬وهي نسبة كبيرة‪ ،‬كانت المسرحية بعنوان‪« :‬طريق جديد»‬ ‫وهي مقاربة تاريخية كوميدية لعدة نقاط في عالمنا العربي‪،‬‬

‫يقال عنها‪ :‬إنها نخبوية‪ ،‬وهي في حقيقة األمر غير ذلك‪ ،‬فما معنى‬

‫فماذا كان دور المنتج‪ ،‬المنتجون يفضلون دائمً ا الربح السريع‪،‬‬

‫بالمثقفين أو نخبة معينة من الناس‪ ،‬ألم يكن ما قدمه محمد‬

‫المسرح الشعبي‪.‬‬

‫ً‬ ‫انطباعا عن المسرح أنه أمر ثقافي كبير وخاص‬ ‫أن يعطي اإلعالم‬

‫الماغوط مع دريد لحام ثقافة شعبية؟!‪ ،‬ألم يالمسا كثي ًرا من األمور‬ ‫المهمة في عالمنا العربي؟ الشيء نفسه فعله لينين الراملي مع‬

‫محمد صبحي‪ .‬فلماذا الترويج للمسرح كأن إيقاعه بطيء ونخبوي‪،‬‬ ‫وال يمكنه أن يجاري ما هو سائد بالسوق؟ هل ما هو سائد بالسوق‬

‫هو كل ما نملك؟ ال أظن‪ .‬من المؤسف أن اإلعالم تعامل مع‬ ‫المسرح بطريقة خاطئة‪ ،‬فالمسرح أبو الفنون‪ ،‬وال بد أن يمنح‬ ‫الحيز األول‪ ،‬فلماذا تغيبت األعمال الروائية عن الدراما التلفزيونية‪،‬‬ ‫اً‬ ‫أعمال لتشيخوف‪ ،‬من‬ ‫ما زلنا نتذكر التلفزيون المصري وهو يقدم‬ ‫بينها سهرة تلفزيونية مدتها ساعة بعنون‪« :‬الرهان»‪ ،‬قام ببطولتها‬

‫يحيى الفخراني‪ ،‬هل كانت نخبوية؟ ال لم تكن نخبوية‪ ،‬فقد كتبت‬ ‫بأسلوب عصري سريع يناسب الشباب‪ ،‬وهكذا يمكننا أن نمثل كثي ًرا‬

‫من األعمال العالمية المهمة‪ ،‬لكن اإلعالم ال يساعد‪.‬‬

‫األمر الثاني هو اإلنتاج الذي يسعى للربح السريع دائمً ا‪،‬‬

‫فيطالب المسرحيين بشيء أقرب إلى ما يسمى بـ«الاليت»‪ ،‬على‬

‫يفضلون ما يعرف بـ«الكوميدي اليتس»‪ ،‬وهو ما أثر في مفهوم‬ ‫يمكن للنهوض أن يحدث من خالل ثالثة محاور أساسية‪ :‬أولها‬

‫هو اإلعالم‪ ،‬وثانيها هو السلطة أو الدولة التي ال بد أن تضع المسرح‬ ‫ضمن مناهج التالميذ في المدارس والطالب في الجامعات‪،‬‬

‫وتشركهم أكثر في الثقافة المسرحية المفقودة‪ ،‬فيجب أن ندعم‬

‫كل البرامج الثقافية‪ ،‬فالثقافة ليست ذلك المفهوم النخبوي‪،‬‬ ‫لكنها كل شيء في حياتنا‪ ،‬تاريخنا‪ ،‬حضارتنا‪ ،‬كل شيء‪ ،‬نحن‬ ‫يمكننا أن نتناول أي شيء في حدود ‪ 120‬كلمة على تويتر‪ ،‬فهل‬ ‫نستطيع عمل ذلك من خالل المسرح؟ بالطبع يمكننا أن نصنع‬

‫كثي ًرا‪ ،‬فقط أعطوا المسرح المجال المناسب‪ ،‬وليس بطريقة‬ ‫البحث عن نجم كبير كي نصنع له عملاً مسرحيًّا‪ ،‬هذا النهوض ال‬

‫بد أن يتعاون فيه كل من اإلعالم والسلطة والمسرحيين أنفسهم‪،‬‬ ‫أما أن يُترك المسرحيون وحدهم فذلك أمر صعب‪ ،‬والمسرحيون‬

‫كما يقال يعيشون من اللحم الحي‪ ،‬لكن هذا طريق صعب وال بد‬ ‫أن نسلكه حتى يستمر هذا الفن‪ ،‬فهذا الفن بناه مسرحيون كبار‬

‫‪95‬‬


‫تحقيقات‬

‫بداية من جورج أبيض إلى نجيب الريحاني إلى فؤاد المهندس‪،‬‬

‫من دون هذا التدخل الفج في تفاصيل العملية اإلبداعية‪ .‬كان‬

‫واجباعي بتونس والرحبانية بلبنان؛ لذلك ال بد أن يستمر ألنه جزء‬

‫كلمة تقال كما هو الوضع الحالي‪ .‬ومع إدراك هذه األنظمة أن‬

‫ودريد لحام‪ ،‬ومحمد الماغوط بالشام‪ ،‬وجابر مهموش باإلمارات‬ ‫مهم وأساس في حضارتنا العربية‪.‬‬

‫المسرح قد يهدد وجودها‪ ،‬ولو بشكل غير مباشر‪ ،‬بدأت برفع‬

‫كاتب وممثل مسرحي لبناني‬

‫الدعم عنه‪ ،‬مثلما امتنعت عن إقامة المعاهد المسرحية التي ترفد‬

‫ناصر ونوس‪ :‬الحكومات رفعت الدعم عن المسرح‬

‫المسرحية الجديدة التي تلبي حاجات المجتمع الثقافية والفنية‬

‫منذ والدة المسرح العربي أواخر القرن التاسع عشر وهو‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أحيانا‬ ‫أحيانا وتقصر‬ ‫يمر بمراحل متأزمة‪ ،‬يزدهر سنوات تطول‬

‫أخرى‪ ،‬ثم تأتي مرحلة الهبوط‪ ،‬تطول ً‬ ‫أيضا أو تقصر‪ .‬وآخر‬ ‫مراحل ازدهار المسرح العربي كانت في أواخر عقد الثمانينيات‪،‬‬ ‫ثم بدأ نجمه يأفل من جديد‪ .‬إلى أن وصلنا إلى الوضع الحالي‪،‬‬

‫حيث يمر بأسوأ مراحله –باعتقادي‪ -‬منذ تأسيسه‪ .‬وأسباب أزمة‬

‫المسرح العربي كثيرة‪ ،‬أولها عزوف الحكومات العربية عن‬ ‫دعم المسرح‪ ،‬طالما أن هذا المسرح يتناول قضايا تع ّدها هذه‬

‫الحكومات خطيرة عليها‪ .‬وهنا نأتي إلى النقطة المهمة وهي‬ ‫أن المسرح ال يمكن أن ينتعش إال في ظل الحالة الديمقراطية‬ ‫وتوافر المناخ لحرية التعبير‪.‬‬

‫ومن يراجع تاريخ المسرح العالمي والعربي والحقب التي‬

‫‪96‬‬

‫ثمة هامش لحرية التحرك بمعزل عن الرقابة المشددة على كل‬

‫ازدهر فيها يدرك ذلك‪ .‬ففي الستينيات والسبعينيات ازدهر المسرح‬ ‫قياسً ا بالوقت الحالي؛ ألن القبضة األمنية لألنظمة الحاكمة لم‬

‫تكن بعد قد أحكمت سيطرتها على قطاعات المجتمع كافة‪،‬‬

‫ومنها القطاعان الفني والثقافي‪ ،‬كما هو حاصل اآلن‪ .‬ما زال هناك‬ ‫فسحة للتعبير عن الرأي‪ ،‬وطرح القضايا الكبيرة منها والصغيرة‪،‬‬

‫الحركة المسرحية بأجيال جديدة‪ .‬كما امتنعت عن تشكيل الفرق‬

‫المتنامية‪ ،‬وحولت المهرجانات المسرحية إلى استعراضات‬ ‫إعالمية تهدف إلى تحسين سمعة الدولة أو النظام القائم‪.‬‬

‫ومع امتناع الدولة عن تقديم الدعم للمسرح‪ ،‬وصلنا إلى‬ ‫مرحلة نعاني فيها شحّ الكوادر المسرحية‪ ،‬من ُكتاب ومخرجين‬

‫وفنيين‪ ،‬بل ممثلين يعملون في المسرح‪ .‬ومن ثم فإن الخروج‬ ‫من هذه األزمة يجري بتأهيل كوادر جديدة‪ ،‬وتكوين فرق‬ ‫مسرحية جديدة في جميع المدن والبلدات حتى القرى‪ ،‬وإقامة‬

‫المهرجانات على المستوى المحلي والعربي‪ ،‬وهو ما يعزز‬ ‫روح المنافسة ومن ثم التطوير المستمر‪ .‬يجب علينا اّأل ننتظر‬ ‫الحكومات حتى تقدم الدعم للمسرح من تلقاء ذاتها‪ ،‬إنما علينا‬

‫مع إدراك األنظمة أن المسرح قد يهدد‬ ‫وجودها‪ ،‬ولو بشكل غير مباشر‪ ،‬بدأت‬ ‫برفع الدعم عنه‪ ،‬مثلما امتنعت عن‬ ‫إقامة المعاهد المسرحية التي ترفد‬ ‫الحركة المسرحية بأجيال جديدة‬

‫سميحة أيوب‪:‬‬ ‫المسرح تحول اسكتشات هزلية‬ ‫فقيرة وأحيانًا مهينة‬ ‫الحالة العامة في جميع البالد هي سبب اضطراب المسرح‪ ،‬وال يمكننا أن‬

‫نتحدث عن مسرح حقيقي ومزدهر في ظل ظروف غير مستقرة‪ ،‬فأغلب البلدان‬ ‫في العالم العربي تعاني عدم استقرار واضح‪ ،‬وأغلب البلدان غير مستقرة ماديًّا‬

‫أو سياسيًّا‪ ،‬وهذا ترك تأثيره في المسرح في العالم العربي كله‪ ،‬وال نملك اآلن‬ ‫إال المبدعين أنفسهم‪ ،‬سواء الكتاب أو الممثلون أو المخرجون أو العاملون‬

‫في اإلضاءة والمالبس والديكور وغيرها‪ ،‬ال نملك سوى البشر‪ ،‬وهم العنصر الوحيد الذي يمكن الرهان عليه‪ ،‬فال األدوات‬ ‫والميزانيات وال اإلمكانيات متوافرة‪ ،‬وكي يتوافر ذلك كله ال بد من توافر حالة من التوازن‪ .‬وفي ظل األحوال السياسية التي‬

‫تجوب العالم العربي اآلن فمن الصعب الرهان على شيء‪ ،‬فالعالم العربي منذ سنوات وهو يعيش حالة من االضطراب‬ ‫السياسي‪ ،‬والمسرح هو عمل ثقافي وسياسي ً‬ ‫أيضا‪ ،‬واضطراب الحالة السياسية يقضي باضطراب أحوال المسرح بشكل‬

‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬


‫المسرح العربي في مأزق‬

‫السعي الحثيث لتحقيق طموحاتنا المسرحية من خالل مطالبتها‬ ‫بالدعم المطلوب‪ .‬وينبغي لنا اّأل نكتفي بالمصادر الحكومية لمثل‬ ‫هذا الدعم‪ ،‬بل يجب البحث عن مصادر التمويل الخاص‪ ،‬من‬

‫خالل إقامة شركات إنتاج محلية‪ ،‬تنتج العروض المسرحية مثلما‬ ‫تقوم شركات اإلنتاج السينمائي بإنتاج األفالم‪.‬‬

‫كاتب ومترجم وناقد مسرحي سوري‬

‫سعيد حجاج‪ :‬ليس هناك أزمة في المسرح‬

‫من تاريخ قراءتي للمسرح وأنا أسمع أن هناك أزمة في‬

‫المسرح‪ ،‬على مر العقود واألزمان ثمة أصوات تتحدث عن وجود‬

‫أزمة في المسرح سواء المصري أو العربي‪ ،‬وعن نفسي ال أرى هذه‬ ‫األزمة‪ ،‬لكني أرى الدنيا تطور‪ ،‬وكل مسرح يشبه عصره‪ ،‬لكن أزمتنا‬ ‫نحن أن الدنيا تتطور ونحن نرى المسرح بعيون الستينيات‪ ،‬نتعامل‬ ‫معه طيلة العقود التي تلت الستينيات من منظور هذه الحقبة‪،‬‬

‫والحقيقة أن الستينيات كان بها إستراتيجية وتوجه‪ ،‬لكن بعد رحيل‬ ‫الرئيس عبد الناصر لم تعد هناك إستراتيجية وال توجه‪ ،‬من ثم‬

‫ظهرت فكرة أزمة المسرح‪ .‬الواقع يقول‪ :‬إن األزمة الحقيقية تكمن‬ ‫في عالقة الناس اآلن بالمسرح‪ ،‬فالميديا أخذت اهتمام الناس إليها‪،‬‬

‫وتركت المسرح يعاني ضعف االقبال وقلة الجمهور‪ ،‬وهو ما يشعر‬

‫وليد داغستاني‪ :‬األولوية لمسرح المدرسة‬

‫بين الستينيات واآلن‪ .‬كانت السينما في الستينيات هي المنافس‬

‫وتح ّد من قدراته اإلبداعية في ظل غياب تصور واضح لدور المسرح‬

‫الناس بأن ثمة أزمة‪ ،‬متناسين الفارق الزمني والتقني واإلعالمي‬

‫الوحيد‪ ،‬أما اآلن فهناك السينما والدراما التلفزيونية وبرامج التوك‬ ‫شو وغيرها‪ ،‬وكل هذا خصم من رصيد المسرح في اهتمام الناس‪.‬‬

‫كاتب مسرحي مصري‬

‫واضح‪ ،‬ومن ثم فإننا ال نملك إال مطالبة المبدعين أنفسهم‬ ‫بالتمسك بعملهم‪ ،‬وكل منهم يقدم عمله على أكمل‬

‫وجه؛ كي ال يخسر الجميع‪ ،‬المسرحيون أنفسهم قبل‬

‫الجمهور والمجتمع كله‪ .‬وال يمكن عد كل ما ينتج اآلن‬ ‫عملاً مسرحيًّا حقيقيًّا‪ ،‬فالمسرح أمر حضاري جدًّ ا‪ ،‬لكن‬ ‫هناك تجارب تقدم اآلن مسيئة إلى الذوق والفن‪ ،‬ألفاظ‬

‫خارجة‪ ،‬واسكتشات بذيئة‪ ،‬ورغبة في إهانة الممثلين‬ ‫ً‬ ‫بعضا كي يضحك الجمهور‪ .‬هذا ليس مسرحً ا‪،‬‬ ‫بعضهم‬

‫وال ثقافة وال قيمً ا‪ ،‬المسرح فعل حضاري يجب الحفاظ‬ ‫عليه‪ ،‬وال يجب االستسالم لموجات االنحطاط التي توالت‬

‫يشكو المسرح العربي اليوم من معضالت شتى تعيق الفنان‬

‫في المجتمع‪ .‬وقد يعود ذلك إلى جهل أغلبية الحكومات العربية‬

‫بقيمة المسرح‪ ،‬ومن ثم فإن ما يُرصد له من ميزانيات محتشمة‬ ‫تفرضه ضرورة دبلوماسية للظهور أمام الدول المتقدمة بمظهر‬

‫التحضر‪ ،‬ولهذا فقد آن األوان للتفكير جديًّا في تأهيل المسرحيين‬ ‫لالضطالع بدورهم الحساس‪ ،‬من خالل التكوين والدعم‪ ،‬وإعطاء‬ ‫أولوية مطلقة لمسرح المدرسة والجامعة‪ ،‬وإشعار الناس بقيمة‬ ‫اً‬ ‫هذا الفن‪ .‬ويظل ً‬ ‫مسؤول بشكل مباشر عن‬ ‫أيضا القطاع الخاص‬

‫نوعية ما يقدمه من أعمال مسرحية عادة ما تكون ذات طابع‬ ‫تجاري‪ .‬ولذلك فإن الفنانين عليهم حث الدولة على سن قوانين‬ ‫تحمي مهن الفنون الدرامية‪ ،‬وتشجع النقابات على الوقوف إلى‬

‫جانب حقوق المسرحي في العيش الكريم وتكافؤ الفرص‪.‬‬

‫مخرج وممثل مسرحي تونسي‬

‫محمد أبو العال السالموني‪ :‬سوء اإلدارة وراء‬ ‫أزمة المسرح‬

‫على المسارح العربية في األوقات األخيرة‪ ،‬وهذا ال يعني‬

‫المسرح بشكل عام في حالة أزمة كغيره من مؤسسات‬

‫الجمهور وإضحاكه حولت المسرح إلى اسكتشات هزلية‬ ‫ً‬ ‫وأحيانا مهينة‪.‬‬ ‫فقيرة‬

‫من ظروف عاصفة في أعقاب الربيع العربي‪ ،‬هذه الظروف التي‬

‫أن المسرح العربي كله ضعيف‪ ،‬لكن الرغبة في إرضاء‬

‫المجتمع العربي الراهن‪ ،‬نظ ًرا لما تمر به البلدان العربية جميعً ا‬ ‫أضعفت كل شيء بما في ذلك المسرح العربي‪ ،‬فقد شملت‬ ‫الفوضى كل شيء‪ ،‬وعمّ الدمار في كثير من بلدان المنطقة‪،‬‬

‫‪97‬‬


‫تحقيقات‬

‫وارتعد الجميع من تلك الموجة الشريرة للجماعات المتشددة‬

‫في مختلف بلدان العالم العربي‪ .‬والمسرح من المفترض أنه‬ ‫إحدى األذرع المهمة التي ينبغي لها مواجهة قوى اإلرهاب‪ ،‬هذا‬ ‫إذا فكر المسؤولون عن المسرح بشكل إيجابي في كيفية مواجهة‬ ‫اإلرهاب‪ ،‬فهي قضية ثقافية بامتياز‪ ،‬والمسرح في قلب العملية‬ ‫الثقافية‪ ،‬فالفكر ال يواجَ ه إال بالفكر‪ ،‬أما اعتماد مواجهة العنف‬

‫بالعنف‪ ،‬فذلك سيؤدي إلى دمار شامل‪ ،‬يمكننا معالجة القضية‬ ‫من جذورها بتغيير الفكر الحافز على اإلرهاب‪ ،‬لكن المشكلة تكمن‬

‫في سوء اإلدارة‪ ،‬وفي ظني أنها هي أساس أزمة المسرح الراهنة‪.‬‬ ‫فالعشوائية والشللية سيطرتا على هذا القطاع بشكل واضح‪،‬‬ ‫وليس هناك مسؤول لديه رؤية أو إستراتيجية واضحة للتعامل مع‬ ‫اإلرهاب من خالل المسرح‪ ،‬وال حتى للمسرح بشكل عام في هذه‬

‫المرحلة‪ ،‬ففي الستينيات كان مدير المسرح لديه خطة وبرنامج‬

‫وأفكار واضحة‪ ،‬وحين يتوقف عمل لظرف ما كان يسرع باالتصال‬ ‫بالكتاب كي يقدموا له عملاً يسد الفراغ الذي تركه العمل الذي‬ ‫توقف‪ ،‬اآلن األمور كلها تسير بالمصادفة والهوى‪ ،‬ومن ثم فال‬

‫أحد يعرف ما الذي ينبغي عمله وال ما الضرورة‪ ،‬مشكلة المسرح‬ ‫بالدرجة األولى هي مشكلة سوء إدارة‪ ،‬وانعدام خيال‪ ،‬وهيمنة‬

‫شللية‪ ،‬وانعدام الرؤية اإلستراتيجية لما ينبغي عمله‪.‬‬

‫كاتب مسرح ودراما تلفزيونية مصري‬

‫‪98‬‬

‫المتغيرات‬ ‫محمد المنجي بن إبراهيم‪ :‬بين أحكام‬ ‫ّ‬ ‫وفضاءات الحرية‬

‫العالقات ضمن الحياة المسرحية في تونس‪ ،‬وكذلك حسب‬

‫اطالعي‪ ،‬في كامل الوطن العربي يشوبها التأرجح والم ّد والجزر‬

‫المسرح إحدى األذرع المهمة في مواجهة‬ ‫قوى اإلرهاب‪ ،‬هذا إذا فكر المسؤولون عن‬ ‫المسرح بشكل إيجابي في كيفية مواجهة‬ ‫اإلرهاب‪ ،‬فهي قضية ثقافية بامتياز‪،‬‬ ‫والمسرح في قلب العملية الثقافية‪،‬‬ ‫فالفكر ال يواجه إال بالفكر‬ ‫أو الدينية أو االجتماعية تجذب ّ‬ ‫كل المحاوالت التقدمية إلى‬

‫بين مجموعات تنادي بالحداثة والتجديد على األصعدة الفكرية‬ ‫والف ّنية وكيفيات اإلنتاج والتقديم‪ ،‬وشؤون التوزيع والترويج‪،‬‬

‫الخلف وإلى األسفل‪ ،‬وأن الح ّريات المزعومة بمفهوم ‪«:‬اصنع‬

‫دون عناء أو شقاء التفكير‪ .‬وهناك ّ‬ ‫شق آخر يمسك بوسط العصا‪،‬‬ ‫ويسعى إلى أن يكون لمسرحه وجود ولو متواضع‪ ،‬في ُْقدِ مُ على‬

‫وال ُتعير اهتمامًا باحترام الهوية‪ ،‬بل هي عوامل ُتؤدّي إلى التيه‬

‫ومجموعات أخرى متشبّثة بنمطية مسرحية تد ّر الربحَ الوفير من‬

‫أنماط مسرحية ذات طابع تقليدي من حيث االختيار ومجهود‬ ‫إنجاز العرض سواء فيما ّ‬ ‫يتعلق بالكتابة المسرحية أو األطر الفنية‬ ‫لإلعداد والتقديم‪.‬‬

‫وفي هذا الشأن يكمن فسيفساء المسرح العربي‪ ،‬وقطاعاته‬

‫المحترفة‪ ،‬والهواة‪ ،‬والمسارح الجامعية والمدرسية‪ ،‬وذلك‬

‫ضمن عالقات مضطربة وفي أجواء ال تخلو من مطبّات هوائية‬ ‫غير مريحة‪ .‬خالصة هذا المعنى أن المضايقات السلطوية‬

‫لح ّريات التعبير هي أجهزة قمعية تح ّد من انتشار المقترحات‬ ‫الف ّنية الجريئة‪ ،‬وأنّ التسيّب والفوضى والتعاطي االعتباطي‬ ‫للنشاط المسرحي يُدخل المسرح في متاهات متداخلة كخيوط‬

‫العنكبوت يصعب الخروج منها‪ ،‬وأنّ أشكال التط ّرف السياسية‬ ‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬

‫ما شئت» و«العالم صغير» و«ال حاجة لهوية»‪ ...‬وغيرها هي‬ ‫عوامل ال تضمن استقرار الذات‪ُ ،‬‬ ‫وتهمل التعريف بالشخصية‪،‬‬ ‫والغربة‪ ،‬وإلى ضروب العدمية بانعدام الكيان‪ ،‬ومن ثم فعلى‬ ‫كل فنان مسرحي اختار عن طواعية واقتناع أن يجعل من حياته‬

‫المهنية والمجتمعية خدمة للتعبير المسرحي بمكوّنات وأدوات‬ ‫تسمح له ال أن يضاهي كبار القوم المتقدّم فقط ّإنما بالتنافس‬

‫المشروع معهم‪ ،‬وذلك بأن يعتمد على هويته وبَصماته المحلية‪،‬‬ ‫وثراء ثقافته ومراجعه التراثية والتاريخية‪ ،‬وبُعد النظر الحداثي‬ ‫والمعاصر‪ ،‬وال يكون في التفرقة والتش ّتت والضغينة واألحقاد‪،‬‬ ‫وال في الصراعات الداخلية والخارجية ورمي اآلخرين بالحجارة‬ ‫ّ‬ ‫بالتخلف والال‪-‬اعتبار‪ ،‬فالكبير يبقى صغي ًرا أمام شسوع‬ ‫ونعتهم‬

‫المعرفة‪ ،‬والفنان يبقى متواضعً ا أمام عظمة اإلبداع‪.‬‬

‫ناقد ومخرج مسرحي تونسي‬


‫المسرح العربي في مأزق‬

‫عبدالعزيز السماعيل‪ :‬أزمة وجودية في الصراع‬ ‫بين قيم المدنية‪ ،‬والقيم المتطرفة‬ ‫ً‬ ‫وحدثا اجتماعيًّا ثقافيًّا جا ًّدا حيًّا ومباشرًا‪،‬‬ ‫أعتقد أن المسرح بوصفه ف ًّنا‬ ‫أو هذا ما يجب أن يكون عليه أصلاً ‪ ،‬قادر على المساهمة بفاعلية في مواجهة‬

‫كل أشكال األزمات والقضايا التي تهم المجتمع العربي اآلن‪ ،‬ومن ضمنها‬ ‫تعزيز قيم التسامح والمحبة والمواطنة والمشاركة والحوار‪ ...‬إلخ‪ ،‬من قيم‬ ‫حضارية وإنسانية عالية هي أصلاً من صميم فضائل الدين اإلسالمي الحنيف‪،‬‬ ‫في مقابل كشف الزيف والتضليل الذي يدعيه دعاة الغلو والتطرف واالنغالق‬ ‫باسم اإلسالم‪ ،‬إال أن المسرح العربي ذاته واقع في أزمته الخاصة والمزمنة‬

‫منذ سنوات طويلة؛ بسبب ضعف الدعم وغياب التخطيط اإلستراتيجي للثقافة‬ ‫عمومً ا ومن ضمنها المسرح‪ ،‬إضافة إلى العنصر األهم وهو تشديد سلطة‬

‫الرقيب التي تعوق دوره في تناول القضايا المهمة في المجتمع بشكل واضح وصريح‪ ،‬وقد ضاعف اآلن االنفتاح‬ ‫الكامل على العولمة وقيم السوق واالستهالك الرأسمالي من أزمة المسرح العربي ليس فقط في الوطن العربي بل في‬

‫العالم ً‬ ‫ً‬ ‫تحديدا‪ ،‬يمكن مالحظة أحد مظاهر تلك األزمة في انقسام‬ ‫أيضا‪ ،‬وألن ما يعنينا هو المسرح في واقعنا العربي‬

‫المهتمين بالمسرح أنفسهم تيارين مختلفين‪.‬‬

‫فالذي ال يستطيع مجاراة عروض السوق االستهالكية للترفيه والتسلية انسحب إلى العزلة‪ ،‬أو إلى تغليب الشكل‬

‫المسرحي وألوان السينوغرافيا بدعوى التجريب الغارق في الترميز والدالالت اللغوية المنفلت من أي موضوع أو‬

‫مضمون جاد له قيمة فكرية مهمة في المجتمع‪ ،‬في حين بقي المسرحي الجاد المؤمن بدور المسرح وأهميته يصارع‬ ‫من أجل توفير احتياجاته المسرحية الملحّ ة‪ ،‬أملاً في أن يجد له مكانة اجتماعية مرموقة يتمناها منذ زمن بعيد وال‬ ‫ً‬ ‫أحيانا‪.‬‬ ‫يستطيع الحصول عليها إال مع النخبة المسرحية في عروض المسابقات والمهرجانات‬

‫إن المجتمع الذي يدعم وهم الخصوصية والمحافظة على التقاليد‪ ،‬رغم انفتاحه المفرط على أنماط السوق‬

‫وقيم االستهالك الرأسمالي المادي‪ ،‬لن يبحث عن قيمة حقيقية للفنون‪ ،‬وال عن مسرح جاد وحقيقي يناقش قضاياه‬ ‫وهمومه االجتماعية الحقيقية‪ ،‬ومن ضمنها قضايا التطرف والغلو واإلرهاب‪ ،‬بل عن مسرح استهالكي مُ ٍّ‬ ‫سل ساخر‬ ‫من مشاكل الناس واألشكال النمطية للشخصيات الشاذة فيه‪ ،‬مثل‪ :‬األسود والسمين واألعور والقصير والطويل‪...‬‬ ‫إلخ من موضوعات سطحية فجة تستجدي إضحاك المشاهدين وتسليتهم بأي شيء‪ ،‬ومن أي شيء غريب أو عجيب‬

‫في سلوكه أو هيئته‪.‬‬

‫ومن ثم فإن القيم التي تسطح المسرح وتتعامل معه كعلبة غازية فارغة سوف ترمى بعد االنتهاء منها‪ ،‬سوف‬

‫تنتج قيمً ا لصالحها‪ ،‬سطحية وتافهة ً‬ ‫أيضا‪ ،‬لكنها عميقة ومؤثرة في نفوس الناس وتسطيح تفكيرهم‪ ،‬ومن ضمنها‬

‫تدمير قيمة المسرح‪ ،‬حين يتحول إلى منصة تهريج ليس إال‪.‬‬

‫إن ازمة المسرح العربي كانت وال تزال أزمة في العمق‪ ،‬أزمة وجودية في الصراع بين قيم الثقافة والتحضر‬

‫والمدنية‪ ،‬والقيم الدينية المتطرفة والعادات والتقاليد المحافظة‪ ،‬على الرغم من مظاهر التمدن والمعاصرة الشكلية‬

‫في المدن وحياة الناس‪.‬‬

‫مسرحي سعودي‬

‫‪99‬‬


‫نصوص‬

‫عصفور الزيبرا‬ ‫٭‬

‫فنغ تـچي تساي‬

‫ترجمه عن الصينية‪ :‬مي عاشور‬

‫مترجمة مصرية‬

‫رائع ًّ‬ ‫حقا! أهداني صديق زوجين من طيور الزيبرا‪ .‬وضعهما بداخل قفص بسيط من أعواد البامبو المضفرة‪،‬‬ ‫بداخل القفص كانت توجد ً‬ ‫أيضا لفافة من العشب الجاف‪ ،‬التي كانت بمنزلة عش دافئ ومريح لهما‪.‬‬ ‫يقال‪ :‬إن هذا نوع من الطيور يهاب البشر‪.‬‬

‫َعلقت القفص أمام النافذة‪ ،‬حيث كانت هناك أصيصة لنبات الغيالن الفرنسي مزدهرة بشكل غير عادي‪.‬‬ ‫قمت بتغطية القفص بأوراق نبات الغيالن الخضراء والطويلة الممتدة‪ ،‬فشعر العصفوران بأمان كأنهما‬

‫توارا وسط غابة نائية هادئة‪ ،‬وباتا يطلقان من هناك تغريدات رقيقة رنانة أشبه بصوت المزمار‪ ،‬كما‬

‫بدا عليهما أنهما في منتهى االرتياح وهدوء البال‪ .‬كانت خيوط الشمس تتخلل النافذة‪ ،‬منسابة إلى‬ ‫الداخل؛ مما جعل أوراق الغيالن الصغيرة الكثيفة التي تشبه األظافر منقسمة إلى جزأين‪ :‬أحدهما‬

‫‪100‬‬

‫مظلل واآلخر مضيء‪ ،‬فغدت كحجر اليشم‪ ،‬مرقشة وخضارها يضفي حيوية ونضرة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫فأحيانا كان يصعب رؤيته‪ ،‬لكن‬ ‫كان ظل العصفورين يظهر ويختفي كوميض داخل القفص‪ .‬أما القفص‪،‬‬

‫كان يمكن رؤية منقار العصفورين اللطيفين الصغيرين الزاهيين في حمرتهما ممدودين من بين األوراق‬ ‫الخضراء‪ .‬قلما كنت أزيح أوراق النبات المنبسطة أللقي نظرة عليهما ‪-‬وهما ً‬ ‫أيضا‪ -‬أصبحا تدريجيًّا‬ ‫إلي‪ ،‬وبهذا الشكل أَ َ‬ ‫لف كل منا اآلخر إلى حد ما‪.‬‬ ‫يجرؤان على أن يطال برأسيهما الصغيرين وينظرا َّ‬

‫بعد مضي ثالثة أشهر‪ ،‬انبعث من بين النبات الكثيف المتمادي في النمو واالزدهار صوت تغريدة‬ ‫حادة‪ ،‬لكنها ناعمة ورقيقة‪ .‬خمنت أنه قد صار لديهما مولود صغير‪ .‬فماذا فعلت أنا حينذاك؟‬ ‫بالتأكيد لم أزح األوراق أللقي نظرة إلى الداخل‪ ،‬وظللت أفعل الشيء نفسه‪ ،‬حتى عندما كنت‬

‫يمض وقت‬ ‫أضع لهما الطعام وأزودهما بالماء‪ ،‬لم أزعجهما بنظرات يملؤها الفضول‪ .‬لم‬ ‫ِ‬ ‫طويل‪ ،‬حتى ظهر بغتة رأس صغير من بين النبات‪ .‬آه هذا عصفور أصغر‪ ،‬إنه المولود الصغير!‬

‫كان صغيرًا‪ ،‬وبوسعه أن يتسلل ويخرج من بين قضبان القفص بكل سهولة ويسر‪ .‬انظر‪ ،‬كم يشبه أمه‪،‬‬

‫له منقار وساقان حمراوان‪ ،‬وريش رمادي الزرقة‪ ،‬فقط لم تكن النقطة البيضاء المستديرة قد نمت بعد‬ ‫ً‬ ‫بدينا ًّ‬ ‫جدا‪ ،‬وجسده أشبه بكرة شعثاء‪ .‬في البداية‪ ،‬كان يتحرك‬ ‫على ظهره‪ ،‬كباقي عصافير الزيبرا؛ كان‬ ‫ً‬ ‫محلقا في الغرفة‬ ‫العصفور الصغير في إطار القفص فحسب‪ ،‬ولكنه بعد ذلك أصبح يضرب بجناحيه‬ ‫ً‬ ‫متألقا متباهيًا بنفسه‪ ،‬وتارة ينقر أكعبة‬ ‫رائحً ا غاد ًيا‪ ،‬تارة يهبط أعلى الخزانة‪ ،‬وتارة يقف فوق المكتبة‬ ‫الكتب المنقوش عليها أسماء فطاحل األدب‪ ،‬وأخرى يرتطم بسلك المصباح فيجعله يتأرجح ذها ًبا‬

‫وإيا ًبا‪ ،‬وفي الحال يقفز لينتقل إلى الوقوف على برواز اللوحة‪ ،‬لكنه سرعان ما كان يعود طائرًا في الحال‬ ‫إلى القفص‪ ،‬بمجرد أن يصدر العصفوران الكبيران تغريدات غاضبة‪.‬‬

‫تجاهلته‪ .‬وظللت أفعل هكذا لوقت طويل؛ كنت أفتح النافذة‪ ،‬وكان أقصى ما يفعله هو أن يقف على‬

‫ً‬ ‫مندفعا صوب الخارج مهما حدث‪.‬‬ ‫إطارها لبعض الوقت‪ ،‬دون أن يطير‬

‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬


‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫بعيدا مني‪،‬‬ ‫رويدا‪ ،‬وسرعان ما أصبح يهبط على مكتبي‪ .‬كان في البداية يقف‬ ‫رويدا‬ ‫استجمع جسارته‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫فشيئا‪ ،‬ثم بات يقفز فوق فنجاني‪ ،‬ويحني‬ ‫شيئا‬ ‫وعندما توسم أنني لن ألحق به أذى‪ ،‬أخذ يدنو مني‬ ‫رأسه إلى أسفل ليحتسي الشاي‪ ،‬ثم يرفع رأسه مرة أخرى ليرى ردة فعلي‪ .‬أما أنا فكنت أبتسم‬

‫له ابتسامة خفيفة‪ ،‬وأواصل الكتابة كما كنت أفعل‪ .‬لكنه سرعان ما أطلق لشجاعته العنان‪ ،‬أخذ‬ ‫ً‬ ‫متقافزا حول سن قلمي هنا وهناك‪ ،‬كانت مخالبه الصغيرة‬ ‫يتقافز حتى وصل فوق الورقة‪ ،‬وغدا يدور‬ ‫الحمراء المحتكة بالورق تحدث صريرًا‪.‬‬

‫ً‬ ‫ساكنا‪ ،‬وأخذت أستمتع بمودة الطائر الصغير في سكون‪ .‬وبهذا‬ ‫واصلت الكتابة من دون أن أحرك‬

‫ً‬ ‫تماما‪ .‬وسرعان ما أصبح ينقر قلمي المتحرك بمنقاره األحمر الصغير الذي يشبه‬ ‫الشكل‪ ،‬اطمأن قلبه‬ ‫حسست بيدي على ريشه األملس الرقيق‪ ،‬وهو ً‬ ‫شمعة مطلية‪َّ .‬‬ ‫أيضا لم يخف‪ ،‬بل على العكس‪ ،‬نقر‬

‫أصابعي مرتين برفق ورقة‪ .‬كان يرافقنى كظلي كل الصباح‪ ،‬وعندما يصبغ الشفق السماء بلونه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫الملتف‪،‬‬ ‫عائدا‪ ،‬إثر تغريدات ثالث متتالية من والديه‪ ،‬كان جسده المستدير‬ ‫كان يطير صوب القفص‬

‫يزيح أوراق النبات الخضراء ويخترقها إلى أن يدخل القفض‪ .‬ذات يوم‪ ،‬هبط على كتفي دون تمهيد‪،‬‬

‫بينما كنت منكبًا على الكتابة‪ ،‬فأوقفت حركة القلم الذي كنت أمسك به بشكل ال إرادي؛ حتى ال‬

‫أفزعه فيف ّر هار ًبا‪ .‬بقي لبرهة‪ ،‬وعندما استدرت ألراه‪ ،‬كان الصغير قد أمال رأسه إلى األسفل وغط‬ ‫في نوم عميق على كتفي‪ ،‬كان وجهه الفضي يحجب‬ ‫عينيه‪ ،‬أما قدماه الحمراوان الصغيرتان فكان قد‬

‫كساهما الريش الطويل الرفيع الذي يمأل صدره‪ .‬رفعت‬ ‫ً‬ ‫مستغرقا في‬ ‫كتفي بخفة‪ ،‬لكنه رغم ذلك لم يستفق‪ ،‬كان‬

‫ً‬ ‫صوتا من فمه‪ ،‬أكان يحلم؟‬ ‫النوم ‪ ،‬إضافة إلى أنه كان يصدر‬

‫أول ما تحرك سن قلمي‪ ،‬تدفقت منه المشاعر التي لمستني‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫عالما بهيجً ا‪.‬‬ ‫دائما‬ ‫حينذاك‪ :‬الثقة تخلق‬

‫٭ فنغ تـچي تساي ولد عام (‪1942‬م) كاتب وروائي ورسام صيني‬ ‫معاصر‪ ،‬ويُعَ دّ واحدً ا من أكبر الكتاب الصينيين المعاصرين‬ ‫وأهمهم‪ ،‬ولد في مدينة تيان تچن‪ ،‬هو اآلن عميد معهد‬

‫فنغ تـچي تساي لألدب والفنون بجامعة تيان‬ ‫تچين‪ .‬له اهتمامات أدبية؛ موسيقية وفنية‬

‫كثيرة‪ ،‬له إنتاج كبير من األعمال األدبية‬ ‫التي تعكس حياة المثقفين الصينيين‪،‬‬

‫ً‬ ‫قصصا تاريخية متعلقة‬ ‫وكذلك تروي‬ ‫بالمدينة التي يعيش فيها‪.‬‬

‫‪101‬‬


‫تراث‬

‫ألف ليلة وليلة‬ ‫أو صوت شهرزاد‬

‫‪102‬‬

‫بيترو تشيتاتي‬

‫ناقد وباحث إيطالي‬

‫ترجمة‪ :‬محمود عبدالغني‬

‫شاعر وكاتب مغربي‬

‫ال نستطيع ً‬ ‫أبدا فهم «ألف ليلة وليلة» والحضارة اإلسالمية من دون أن نتذكر‬ ‫ً‬ ‫جميعا‪ ،‬والثاني‪ ،‬األكثر غنى‬ ‫وجود نوعين من الخلق؛ األول هو خلق آدم‪ ،‬الذي ننحدر منه‬ ‫ً‬ ‫وغموضا‪ ،‬ويشمل كل عجيب وشيطاني وسحري‪ :‬إنها مملكة سليمان‪ .‬هذه المملكة تجاور‬ ‫ً‬ ‫أحيانا داخل وجودنا‪ .‬كما‬ ‫عالمنا؛ تحيا حياة موازية‪ ،‬وتمتلك قوانينها الخاصة‪ ،‬وتتسرّب‬ ‫أنها مباركة ومحمية من طرف اإلسالم (النبي محمد يعلن وحيه للجن)‪ ،‬في حين أن الوعي‬ ‫ً‬ ‫شيطانا وشريرًا‪.‬‬ ‫المسيحي يعده‬

‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬


‫الحاكم هو سليمان‪ ،‬الملك الساحر‪ ،‬الحكيم الكتوم‪ ،‬الذي‬ ‫يسيطر على المرئي والخفي‪ ،‬يسمع ّ‬ ‫كل الكلمات الملفوظة‬

‫له إمبراطورية الكون‪ .‬مات بعد ذلك‪ ،‬وبقي فوق عرش من‬

‫أحب‬ ‫أثناء كتابته الثانية لـ«فاوست»‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫غوته أكثر من الجميع األمكنة السرية‬ ‫في «ألف ليلة وليلة»‪ :‬القبور‪ ،‬واآلبار‪،‬‬ ‫واألدراج التي تغوص في الالنهائي‪،‬‬ ‫والكهوف المسكونة‪ ،‬والغرف‬ ‫المحجوبة‪ ،‬والقصور الواقعة تحت‬ ‫األرض حيث تحكم أميرات الجن‬

‫والشرير‪ ،‬المتوحش أو الرائع ذو الجسد المصنوع من الهواء‬

‫ُّ‬ ‫ٌّ‬ ‫«التلذذ بمتعة اللحظة»؛ وهذا الحشد‬ ‫كل يؤمن بضرورة‬

‫فوق األرض وفي السماوات‪ ،‬يعرف لغة الطيور الغريبة‪،‬‬ ‫ويضع في يده خاتمً ا ُنقش عليه االسم السري لله الذي يضمن‬

‫الذهب‪ ،‬وفي إصبعه ذلك الضوء الساطع من خاتمه‪ ،‬في‬

‫جزيرة الزم ُّرد البعيدة‪ .‬لكن تلك المخلوقات‪ ،‬على األقل في‬

‫ألف ليلة وليلة‪ ،‬بقيت خاضعة لقوانينه؛ ألنه في فضاء السرد‬ ‫سليمان رجل خالد‪ ،‬ومخلوقاته غير محدودة؛ الجنّ الطيب‬

‫والنار؛ الشعوب النصف بشرية في الهواء والبحر؛ الحيوانات‪،‬‬ ‫ً‬ ‫خصوصا األفاعي؛ األشياء السحرية (حصان اآلبنوس الذي‬

‫من النمل الصغير‪ ،‬الجشع‪ ،‬الشهواني‪ ،‬النشيط‪ ،‬الماكر‪،‬‬

‫يدب فوق مساحة األرض الغريبة!‬ ‫المنشغل‪ ،‬كم ُّ‬

‫ّ‬ ‫يحلق في السماوات‪ ،‬الطاووس المذهّ ب الذي يشير إلى‬ ‫ّ‬ ‫النظارة التي تساعد على رؤية مئات األميال)؛‬ ‫الساعات‪،‬‬

‫ليالي ألف ليلة وليلة طافحة بغنى المشاعر األرضية‪،‬‬ ‫ومُ ّ‬ ‫صفاة بغربال العقل‪ :‬عطر األزهار والبهارات‪ ،‬بمذاق الفواكه‬

‫الشرق؛ رُواة الحكايات والخرافات‪ ،‬ونحن‪ ،‬جمهورهم‪ ،‬الذي‬

‫في سرود دقيقة؛ الحمّ ام‪ ،‬رائحة أجساد النساء‪ ،‬الخشب‬

‫األحجار الكريمة في اليابسة والبحر‪ ،‬األضواء المبهرة‪،‬‬ ‫يتلقى بركة سليمان الغامضة‪.‬‬

‫ّ‬ ‫الجافة‪ ،‬باللحوم وبمعامل السكر‪ ،‬ملفوظات‬ ‫الطرية أو‬

‫المحروق‪ ،‬المسك والعنبر‪ ،‬إيروس‪ ،‬المحادثة‪ ،‬الموسيقا‪،‬‬

‫مملكة سليمان هوائية‪ ،‬خفيفة‪ ،‬تتجاهل الفضاء‬

‫ألعاب القمار‪ ،‬الخمر‪ ،‬النوم‪ .‬ها هي مرة أخرى المنازل الكبيرة‬

‫وسجاداتها الخارقة‪ ،‬وقصورها التي تظهر في وقت واحد‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫المفضل‪ .‬اليد‪ ،‬التي هي دومً ا يد امرأة‪،‬‬ ‫التحوّل هو سحرها‬

‫بالكامل‪ ،‬صورة عن عدن‪ ،‬حيث الماء يجري‪ ،‬والعصافير‬

‫والزمن وتتالعب بالحدود التي تفرضها‪ ،‬بواسطة أجنحتها‪،‬‬

‫ترسم إشارة وها هي األشكال تبدأ في التحوّل‪ :‬بسرعة مدوّخة‬ ‫يصبح الجني أسدً ا‪ُ ،‬عقابًا‪ ،‬أفعى‪ًّ ،‬‬ ‫قطا‪ ،‬عقربًا‪ ،‬ذئبًا‪ ،‬دودة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ديكا‪ ،‬رُمّ انة أو نارًا مستعرة؛ ويمكن للتحوّل‪ ،‬إلهيًّا كان أو‬

‫شري ًرا‪ ،‬أن يصبح إما سعادة (يتغير الشكل‪ ،‬هل يوجد ما هو‬ ‫أجمل؟) أو خط ًرا شيطانيًّا‪ ،‬ال نفلت منه إال عن طريق الموت‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫معقدة؛ ينبغي‬ ‫أما أبناء آدم فإن عالقتهم بمملكة سليمان‬ ‫ً‬ ‫وأيضا إبطال ِشراكها‪.‬‬ ‫لهم حبّها مثل الخوف منها‪ ،‬ومداهنتها‪،‬‬

‫عالم واحد مشرق‬

‫في بعض المحكيات الكبرى‪ ،‬يعترف بعض الرجال بأنهم‬ ‫ً‬ ‫مطلقا إال بنات الجن‪ :‬النساء‪ -‬السمكات‪،‬‬ ‫ال يحبون حبًّا‬

‫ُسط‪ ،‬والصوف‪ ،‬واألقمشة‬ ‫بغرفها المفروشة بالسجاد‪ ،‬والب ُ‬ ‫َ‬ ‫ْضرة تقريبًا‬ ‫المزخرفة‪ ،‬واألرائك الدمشقية‪ :‬الحدائق المُ خضو ِ‬

‫تغني؛ والجواري اللواتي تثرثرن‪ ،‬وتغنين‪ ،‬وتعزفن الموسيقا‪،‬‬

‫وتدبرن المؤامرات‪ ،‬وتمارسن الحب‪ .‬نحن داخل الفضاء غير‬

‫الواقعي للسرد‪ :‬ال نستغرب حين نرى الطبقات االجتماعية‬

‫واحدة جنب أخرى‪ ،‬والمهربين‪ ،‬صانعي المالبس‪ ،‬الملتحين‪،‬‬ ‫بائعي الجمال‪ ،‬الك ّناسين‪ ،‬أطفال اإلسطبالت الذين يتحولون‬ ‫بين ليلة وضحاها إلى وزراء باذخين‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫في مملكة آدم الجمال قيمة جوهرية‪ :‬الله يتجلى على‬

‫األرض‪ ،‬ربما أكثر من اإليمان بالله‪ .‬عندما يم ّر رجل أو امرأة‬ ‫بجمال باهر في شوارع بغداد‪ ،‬أو البصرة أو القاهرة‪ ،‬فإن‬

‫وجوههم تشعُّ بالضوء؛ فيفقد المارّة المعجبون الذاكرة‪،‬‬ ‫مثل صديقات زليخة أمام ظهور يوسف‪ .‬إن ّ‬ ‫كل ليالي ألف ليلة‬ ‫وليلة هي ُنصب لألُنثوي الخالد‪ :‬سواء ُكنّ متحدرات من آدم‬

‫النساء‪ -‬الطيور‪ ،‬اللواتي يبحثن عن الهروب من حضور اإلنسان‬ ‫ّ‬ ‫يتمكن الرجال‬ ‫والعودة إلى عالمهن الخفيف‪ .‬لكن في النهاية‬

‫في حين الرجال‪ ،‬هم تقريبًا مخنثون‪« ،‬بخطوات أنيقة‬

‫ليلة وليلة هو التقريب بين ممالك آدم وممالك سليمان‪ ،‬بين‬

‫يستسلمون برقة وهدوء‪ ،‬يتنازلون بدون مقاومة إلثارة النساء‬

‫من العيش معهن؛ ألن الحلم الكبير الذي يراود رواة ألف‬ ‫الناس والشياطين والحيوانات والنباتات‪ ،‬وصهرهم في عالم‬ ‫موحّ د ومشرق‪ .‬قرب مملكة سليمان يوجد عالمنا‪ :‬الحياة‬ ‫اليومية‪ ،‬الحياة الدُّ نيا‪ ،‬محبوبة في ّ‬ ‫كل تعددها وأشكالها‪.‬‬ ‫كل الشخصيات تفكر في أن «الحياة هي الخير األكثر نفاسة»‪،‬‬

‫أو سليمان‪ ،‬النساء حيويات‪ ،‬وملحّ ات‪ ،‬وعنيفات وشجاعات؛‬ ‫ومرنة‪ ،‬يتموّجون مثل أغصان الصفصاف أو قصب البامبو»‪،‬‬ ‫اإليروسية الجارفة‪ .‬يندلع الحب فجأة‪ ،‬مثل الصاعقة‪ .‬ليس‬ ‫ً‬ ‫أحيانا يكون انعكاسً ا‬ ‫من الضروري رؤية وجه المحبوب‪،‬‬

‫لوجهنا؛ االسم يكفي‪ ،‬أو صورة مرسومة على ورقة‪ .‬ومثلما‬ ‫يحدث في الروايات اإلغريقية والنصوص الصوفية‪ ،‬يوجد‬

‫‪103‬‬


‫تراث‬

‫فقط الحب‪ -‬الشهوة‪ ،‬والرغبة المثيرة‪ ،‬وقدر العشق‪ ،‬ومرض‬ ‫ً‬ ‫أحيانا إلى‬ ‫المعاني‪ ،‬واأللم الذي يرجُّ كل األعصاب ويقود‬

‫إدراك نشوة الطريق‪ ،‬يغوصون في الجغرافية العجيبة لهذا‬

‫كثيرة هي السفن‪ ،‬كثيرة هي الموانئ واألسواق التي تمأل‬

‫ً‬ ‫شسوعا‪ ،‬وتعقيدً ا وكثافة سكانية‬ ‫إلى مملكة سليمان‪ ،‬األكثر‬

‫الجنون والموت‪.‬‬

‫البلد الشاسع الذي يمتدّ إلى ما وراء بلدنا‪ ،‬أو جنبه‪ ،‬أو فوقه‪،‬‬

‫ألف ليلة وليلة‪ .‬ليس أم ًرا ذا أهمية أنه في الوقت الذي كان‬ ‫فيه ال ُّنساخ ينسخون مخطوطنا‪ ،‬كان المغول في الغالب قد‬

‫هو الجبل األسود‪ ،‬وجبل األعشاب‪ ،‬وجبل الزم ّرد‪ ،‬ومدينة‬

‫السلع المطلوبة من طرف‬ ‫ويبيعون بضاعتهم‪ ،‬ويشترون ّ‬

‫الجزر التي ال تنتهي أبدً ا‪ ،‬إما فردوسية أو مليئة باألخطار‬ ‫الرهيبة‪ ،‬التي تتر ّكز فيها كل عجائب الدنيا‪.‬‬

‫دمّ روا شبكة التجارة العربية‪ .‬ألن السفر هو الولع الحقيقي‪:‬‬ ‫ومتاهي مثل السرد‪ .‬كل يوم يبيع ال ُّتجّ ار سلعهم‪،‬‬ ‫ال يُقهر‬ ‫ّ‬

‫مثل البلدان المتخيلة من طرف األدب الغربي القروسطي‪ .‬ها‬

‫المرجان‪ ،‬ومملكة الطيور‪ ،‬وقصر األحجار الكريمة؛ والجزر‪،‬‬

‫ثم يقودنا السفر إلى المدن المهجورة‪ ،‬إرم ذات العماد‪،‬‬

‫البلدان البعيدة‪ ،‬ويجوبون األمكنة واألقطار‪ ،‬كما لو أن تراب‬ ‫ّ‬ ‫الملتف حول عصا‪.‬‬ ‫األرض عبارة عن قطعة من القماش الرقيق‬

‫ومدينة النحاس‪ ،‬والمدينة البيضاء‪ ،‬التي كانت مسكونة قديمً ا‬

‫سيرهم‪ .‬كم تأمّ لوا من ممالك‪ ،‬كم اجتازوا من طرق تحت‬

‫الذين أرادوا تقليد جنة األرض‪ .‬األبواب الضخمة ّ‬ ‫مرصعة باألحجار‬

‫وبقدر ما تلي الليالي النهارات والنهارات الليالي‪ ،‬يتابعون‬

‫المناخات السبعة‪ ،‬كم من خطوات حسبوا‪ ،‬وكم من بضاعة‬ ‫باعوا‪ ،‬واشتروا‪ ،‬وتبادلوا‪ ..‬البحر في انتظارهم‪ :‬الهدوء‪ ،‬حين‬ ‫ّ‬ ‫نتصفح كتابًا؛ حيث صراخ ورعب‬ ‫تمتدُّ األمواج ببطء مثلما‬ ‫العاصفة‪ ،‬حين يمتدُّ المحيط من دون نهاية إلى األفق‪ ،‬حين‬ ‫تختفي ّ‬ ‫كل أرض عن األنظار‪.‬‬

‫‪104‬‬

‫وتركستان‪ ،‬والهند‪ ،‬والصين‪ .‬بعد ذلك‪ ،‬ومن دون أن يتمّ‬

‫سفر ال محدود‬

‫السفر ال محدود‪ ،‬من بحر إلى بحر‪ ،‬ومن قارة إلى‬

‫قارة‪ ،‬ومن جزيرة إلى جزيرة‪ ،‬ومن ميناء إلى ميناء‪ .‬التجار‬ ‫ً‬ ‫بلدانا معروفة‪ :‬مصر‪ ،‬والعربية السعيدة‪ ،‬والعراق‪،‬‬ ‫يعبرون‬

‫من طرف الزرادشتيين‪ ،‬أو المشيّدة من طرف الملوك الملحدين‬

‫والسرادقات‬ ‫الكريمة‪ ،‬والقصور هي األخرى شاسعة مثل المدن‪ُّ ،‬‬

‫من الذهب والفضة‪ ،‬والحصى من الزبرجد‪ ،‬واأللماس والياقوت‪.‬‬

‫أبدا فهم «ألف ليلة وليلة»‬ ‫ال نستطيع ً‬ ‫والحضارة اإلسالمية من دون أن نتذكر‬ ‫وجود نوعين من الخلق؛ األول هو خلق‬ ‫جميعا‪ ،‬والثاني‬ ‫آدم‪ ،‬الذي ننحدر منه‬ ‫ً‬ ‫وغموضا‪ ،‬ويشمل كل عجيب‬ ‫األكثر غنى‬ ‫ً‬ ‫وشيطاني وسحري‪ :‬إنها مملكة سليمان‬

‫المتابعون السريون لشهرزاد‬ ‫والمهمة المزدوجة للسرد‬ ‫ّ‬ ‫أحب غوته أكثر من الجميع األمكنة السرية في «ألف ليلة وليلة»‪ :‬القبور‪ ،‬واآلبار‪،‬‬ ‫أثناء كتابته الثانية لـ«فاوست»‪،‬‬

‫واألدراج التي تغوص في الالنهائي‪ ،‬والكهوف المسكونة‪ ،‬والغرف المحجوبة‪ ،‬والقصور الواقعة تحت األرض حيث تحكم‬ ‫أميرات الجن‪ .‬هنا‪ ،‬في األعماق حيث تعيش ً‬ ‫أيضا األمهات‪ ،‬وتحرس العجائب والكنوز‪ .‬المتابعون السريون لشهرزاد يرددون‬

‫ً‬ ‫جيدا أن النزول إلى الكهوف المأهولة بالعجائب هي مهمة‬ ‫على مسامعنا أن مهمة السارد مزدوجة‪ .‬من جهة‪ ،‬هو يعرف‬

‫صعبة ًّ‬ ‫جدا‪ :‬ال طرق‪ ،‬ال مرشد‪ ،‬ال سيد‪ .‬ال شيء أكثر خطورة من محاولة البحث عن معرفة األسرار‪ :‬هناك قانون يمنع ذلك‪،‬‬

‫وال يمكن خرقه إال بالتضحية بحياته‪ .‬لكن من جانب آخر‪ ،‬ال يستطيع إال ركوب هذا الخطر‪ .‬وبكل حيلته وقوته‪ ،‬ينبغي أن‬

‫ينزل إلى القبور‪ ،‬واآلبار‪ ،‬والكهوف‪ ،‬والقصور تحت األرض؛ ليمتحن األلغاز‪ ،‬ويخرجهم إلى الضوء ويحكيها لجمهوره‪،‬‬ ‫بهذه الكلمة السعيدة والغامضة التي تخبئها وتكشفها في آن‪ .‬ربما لن يعاقبه القانون؛ ألنه في جزء من كيانه‪ ،‬الناجي من‬

‫الموت‪ ،‬لم يعد ينتمي إلى الجنس البشري‪.‬‬

‫ال أحد يقول لنا كيفية االلتحاق بالقلب السرّي لألرض‪ .‬كثيرون هم الحكماء في «ألف ليلة وليلة»‪ ،‬يوجدون حتى بين‬ ‫الع ّتالين‪ ،‬والحلاّ قين والجواري‪ :‬محترمون من طرف الجمهور وأغنياء بهذا العلم الكوني الذي يُؤخذ من الكتب‪ .‬هؤالء‬ ‫يرغبون تلقين السارد أن الحكمة توجد مختبئة بداخلها‪ :‬لكن السارد ال ينتمي لنمطهم‪ .‬فهو ال يستمع إلى األحاديث المبالغ‬

‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬


‫ألف ليلة وليلة أو صوت شهرزاد‬

‫خلف دائرة األسوار‪ ،‬يهيمن الفراغ والوحشة؛ ال وجود لصوت‬

‫لكن الرحلة ال تنتهي هنا‪ .‬أحدٌ ما‪ ،‬في األزمنة الغابرة‪،‬‬

‫باكية الذين هجروها‪ .‬حُ ّراس األبواب‪ ،‬والخدم‪ ،‬والخفر‪،‬‬

‫بعد‪ ،‬وال يمكن هزم الزمن‪ .‬شخص آخر يبحث عن امرأة‬

‫تنعب في الطرقات والبيوت‪،‬‬ ‫بشري؛ البومة تنعق‪ ،‬والغربان‬ ‫ُ‬ ‫والجنود‪ ،‬واألمراء تحوّلوا إلى حجر‪ ،‬أو ينامون على أفرشتهم‬ ‫الحريرية‪ ،‬وجلدهم ما زال حيًّا مثل األحياء‪ .‬في السوق‪ ،‬الفواكه‬

‫واألشياء المصنوعة من الجلد تبدو في حالة جيّدة‪ ،‬غير أنها‬ ‫تتف ّت ُ‬ ‫ت وتسقط غبارًا بين األيدي‪ُ .‬نصب تذكاري حزين وضخم‬

‫«أين الذين حكموا البلدان‪ ،‬وأخضعوا الرجال وقادوا الجيوش؟‬ ‫أين القياصرة بقصورهم التي ال ُتحصى؟ لقد غادروا األرض كما‬ ‫لو أنهم لم يوجدوا قط» يذ ّكرنا بأننا دخلنا مملكة الموت‪ .‬الموت‬

‫يهيمن على عالم عالء الدين مثلما على عالم سليمان؛ ال أحد‬ ‫يستطيع الهروب منه‪ ،‬حتى شهرزاد‪ ،‬التي هزمته طيلة مدة‬

‫زمنية بفضل قوتها السردية المقنعة‪.‬‬

‫يبحث عن النبي محمد‪ :‬بال جدوى‪ ،‬ما دام محمد لم يولد‬

‫مجهولة‪ ،‬امرأة‪ -‬طائر أو امرأة‪ -‬سمكة‪ ،‬تقيم في بلد عجيب‬

‫ومجهول هو اآلخر‪ .‬وكيفما كان الدافع فإن الرحلة تستمر‪.‬‬

‫يعبر كل الجزر‪ ،‬وكل البحار‪ ،‬وكل القارات‪ ،‬وكل الممالك؛‬ ‫ألن جوهر البحث هو أن يكون ال محدودًا‪ ،‬أن يتجاوز جبل‬ ‫قاف حيث ينتهي عالمنا‪ ،‬والذهب إلى ما وراءه‪ ،‬بين األكوان‬

‫األربعين‪ ،‬حيث كل واحد له لون مختلف‪ ،‬وال أحد يعرف آدم‬ ‫أو حواء‪ ،‬النهار أو الليل‪.‬‬

‫الفصل مترجم عن كتاب‪:‬‬

‫‪Pietro Citati ; La voix de Schéhérazade, éd. Fata‬‬ ‫‪Morgana.‬‬

‫‪105‬‬

‫في إنسانيتها‪ .‬وبالرغم من كونه يملك كل الكتب‪ ،‬وبكونه قرأها واطلع عليها بأمل أن يستوعبها‪ ،‬فإنه فهم أن الحكمة ال‬

‫توجد بين األوراق‪ .‬أين البحث عنها إذن؟ في حكاية شهيرة ًّ‬ ‫جدا‪ ،‬لم ينل حسيب كريم الدين الحكمة إال عندما ضحّ ت ملكة‬ ‫األفاعي بنفسها من أجله‪ ،‬فكان موتها بال ُّنسغ الموجود في جسدها هو هديتها له‪ .‬في هذه اللحظة‪ ،‬أصبح قلب حسيب‬ ‫هو «موطن الحكمة»‪ .‬ليس حسيب شي ًئا آخر سوى الوجه اآلخر للسارد الخفي في «ألف ليلة وليلة»‪ .‬وله ً‬ ‫أيضا تكشف ملكة‬

‫األفاعي‪ ،‬صديقة سليمان‪ ،‬أسرار الطبيعة الحية‪ ،‬واألرض العجيبة‪ ،‬والحيوانات الموجودة في السماء واألرض‪ ،‬هذه هي‬

‫الحكمة التي ال تنطوي عليها كتب اإلنسان‪ .‬غير أن ملكة األفاعي ليست في حاجة إلى التضحية من أجله؛ فكلما بدأ حكاية‬ ‫ما ّ‬ ‫يقدم السارد نفسه تضحية معينة‪ ،‬أو يريد التضحية من أجلنا‪ ،‬في اللحظة التي يلي فيها الفجر الليل‪ ،‬وعجائبيته هي‬

‫ً‬ ‫تحديدا ذلك النسغ الذي يحوّل قلبنا إلى «مق ّر للحكمة»‪.‬‬


‫تراث‬

‫سعاد الحكيم تستعيد الصوفية‬

‫سع ًيا إلى عالم أكثر انفتا ًحا‬

‫‪106‬‬

‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬


‫خالد محمد عبده‬

‫باحث مصري‬

‫خصص ميشيل شودكي ِفتش ‪ -‬الذي أطلق‬ ‫علي بعد أن دخل اإلسالم من بوابة‬ ‫على نفسه اسم ّ‬ ‫التصوف وخصص جزءًا كبيرًا من كتاباته لدرس‬ ‫الشيخ األكبر ابن عربي‪ -‬مقالاً علميًّا يتناول فيه‬ ‫جهود سعاد الحكيم في دراسة اللغة الصوفية‪.‬‬ ‫كان شودكي ِفتش قد نشر دراسته في عام ‪1984‬م في‬ ‫المجلد العشرين من «حولية العلوم اإلسالمية»‬ ‫التي تصدر في القاهرة باللغة الفرنسية‪ ،‬بعنوان‪:‬‬ ‫«سعاد الحكيم في المعجم الصوفي»‪ .‬وانطلقت‬ ‫خالدة سعيد من مقال شودكي ِفتش ل ُتعرِّف القرّاء‬ ‫بسعاد الحكيم المرأة والمشروع اإلبداعي‪ ،‬في‬ ‫كتابها‪« :‬المرأة التحرر اإلبداع» ضمن سلسلة‬ ‫نشرتها دار الفنك الدار البيضاء ‪1991‬م‪ ،‬بإشراف‬ ‫ً‬ ‫كاشفا‬ ‫فاطمة المرنيسي‪ .‬جاء عمل خالدة سعيد‬ ‫عن حياة ونضال وتجربة عدد من الروائيات‬ ‫والشاعرات والفنانات والباحثات ممن تحدين‬ ‫الموانع‪ ،‬وقدمن مساهمة قيمة من شأنها أن‬ ‫تساعد على احتالل المرأة مكانها الطبيعي في‬ ‫المجتمعات اإلنسانية‪ .‬ونظرًا لالهتمام العربي‬ ‫الحالي بقضية النسوية والنسوية اإلسالمية بشكل‬ ‫خاص‪ ،‬أعادت خالدة نشر دراساتها التي صدرت‬ ‫ً‬ ‫سابقا في دار الساقي ببيروت عام ‪2009‬م في كتاب‬ ‫بعنوان جديد يعبر عن اهتمامها بالكتابة النسائية‪،‬‬ ‫وهو‪« :‬في البدء كان المثنى»‪.‬‬ ‫«المعجم الصوفي» الكتاب األكثر‬ ‫شهرة لسعاد الحكيم‪ ،‬يعتمد عليه‬ ‫التعرف إلى‬ ‫وغربا في‬ ‫شرقا‬ ‫الباحثون‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫عالم ابن عربي‪ ،‬وفي اكتشاف اللغة‬ ‫الصوفية الخاصة‬

‫سعاد الحكيم‬

‫ر ّكزت دراسة خالدة على استعراض جهود سعاد الحكيم في‬

‫عملها الموسوعي «المعجم الصوفي» وهو الكتاب األكثر شهرة‬ ‫ً‬ ‫شرقا وغربًا‬ ‫من بين أعمال الحكيم‪ ،‬فقد اعتمد عليه الباحثون‬ ‫في التع ّرف إلى عالم ابن عربي‪ ،‬وفي اكتشاف اللغة الصوفية‬ ‫الخاصة‪ ،‬يستوي في ذلك الباحثون أو أهل الطرق الصوفية؛ إذ‬

‫نجد صدى واسعً ا للمعجم في عمل شيخ الطريقة الكسنزانية‬ ‫«موسوعة الكسنزان فيما اصطلح عليه أهل التصوف والعرفان»‬ ‫فما من مجلد من مجلدات الموسوعة العشرين إال ويعود لمواد‬

‫معجم سعاد الحكيم الذي اعتبره شودكي ِفتش أداة للبحث شامخة‬ ‫وثمينة‪ ،‬ومرجعً ا ال غنى عنه؛ إذ يتوافر فيه التحليل المنهجي‬ ‫ٌ‬ ‫عمل في منتهى الصعوبة نظ ًرا‬ ‫الدقيق لمصطحات ابن عربي‪ ،‬وهو‬

‫ّ‬ ‫ولتعقد هذه المادة‪ ،‬ولألهمية‬ ‫التساع المادة التي توجّ ب سبرها‬

‫التي تحظى بها إذا أخذنا في االعتبار تأثير ابن عربي في الصوفية‬

‫الذين جاؤوا من بعده‪.‬‬

‫عدَّت نايال طبّارة في كلمتها التي ألقيت في تكريم سعاد الحكيم‬ ‫َ‬ ‫مجمل‬ ‫في أنطلياس‪ ،‬التي ُنشرت بعد ذلك في مجلة المقاصد أن‬ ‫نتاج الدكتورة سعاد الحكيم حتى اليوم‪ ،‬يتمحو ُر حول اإلسالم في‬

‫بعديه األخالقي والصوفي‪ ،‬وتحدثت في إيجاز حول مسارها العلمي‬

‫‪107‬‬


‫تراث‬

‫ْف َض َر َب َّ‬ ‫ً‬ ‫مستعينة بالمثل القرآني‪﴿ :‬أَ َلمْ َت َر َكي َ‬ ‫الل ُه م َ​َثلاً َك ِلم ًَة َط ِّيب ًَة‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ين‬ ‫َك َشجَ َر ٍة َط ِّي َب ٍة أ ْص ُلهَا َثابِ ٌت و َ​َف ْر ُعهَا فِي َّ‬ ‫السمَاء * ُت ْؤتِي أ ُك َلهَا ُك َّل حِ ٍ‬

‫مقالة مطوّلة ُنشرت في الكتاب التذكاري عن ابن عربي قصته مع‬ ‫ً‬ ‫مغلقا حتى ّ‬ ‫مكنه أستاذه‬ ‫درس الشيخ األكبر‪ ،‬وكيف كان هذا العالم‬

‫أو ٍّ‬ ‫نص َك َتبَتهُ‪ ،‬سواء كان في الفلسفة أو التصوف أو الفكر اإلسالمي‪،‬‬

‫قليلة مصطفى لبيب عبدالغني‪ ،‬بعد أن ع ّرف في المجالت والدوريات‬

‫بِإِ ْذ ِن َر ِّبهَا﴾ (إبراهيم ‪ )25-24‬فتحدثت عن أصول الحكيم جغرافيًّا‬ ‫ودينيًّا‪ ،‬مشددة على ّ‬ ‫اختيار ِّ‬ ‫مقال‬ ‫كل كلم ٍة في أي‬ ‫دقتها العلمية في‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬

‫ومن يقترب من عالم سعاد الحكيم يرى ذلك جليًّا وبوضوح‪.‬‬ ‫رحلة مع النص «األكبري»‬

‫العربية بجهود عفيفي في درس التصوف اإلسالمي وع ّده من روّاد‬

‫الثورة الروحية في اإلسالم في العصر الحديث‪ .‬من أين استقى محيي‬ ‫الدين بن عربي فلسفته الصوفية؟ وما مكوّناته الفكرية؟ وكيف ّ‬ ‫تمكن‬

‫كيف نقرأ ابن عربي اليوم؟ وماذا قدّمت سعاد الحكيم في‬

‫من كتابة هذه األسفار العظيمة في التصوف؟ وما أثره في التصوف‬ ‫اً‬ ‫مجال لبحث دائم‬ ‫المشرقي والمغربي والفارسي؟ كانت هذه األسئلة‬

‫نحاول مقاربة ذلك في إطار حديثنا عن جهود الحكيم‪ ،‬الذي نرى أن‬ ‫ابن عربي ّ‬ ‫يمثل جزءًا كبي ًرا في مشروعها العلمي لكن ال يمكن اختزال‬

‫لكن التحقيق األبرز لنصوص ابن عربي كان من نصيب عثمان‬

‫مشروع القراءة الممتد على طول رحلتها مع ّ‬ ‫النص األكبري؟ ال تزعم‬ ‫بشكل واف‪ ،‬إنما‬ ‫هذه المقالة المختصرة اإلجابة عن هذين السؤالين‬ ‫ٍ‬

‫جهدها في هذا الموضوع وحده‪ ،‬وعدم الحديث عن بقية مشروعها‬ ‫العلمي‪ُ .‬ق ّدمت مع بدايات القرن الفائت قراءات كثيرة البن عربي‬ ‫ال يمكن إغفالها ونحن نتحدث عن جهود الحكيم‪ ،‬كان من أشهرها‬

‫في مصر قراءة أبي العال عفيفي الذي تتلمذ لنيكلسون‪ ،‬وروى في‬

‫‪108‬‬

‫المستشرق من مفاتيح قراءة النصوص الصوفية‪ّ ،‬‬ ‫ظل الكتاب األبرز‬ ‫اً‬ ‫مجهول عند القارئ العربي حتى نقله إلى العربية قبل أعوام‬ ‫لعفيفي‬

‫ترى الحكيم أننا اليوم في حاجة ماسة‬ ‫الستعادة العلوم الصوفية لما تحويه‬ ‫خزائنها من تسامح وقبول اآلخر‪ ،‬وانفتاح‬ ‫على الكون الكبير‪ ،‬وعلى التاريخ الجاري‬ ‫من األزل إلى األبد‬

‫عند عفيفي ظهر على أثرها عدة بحوث ودراسات وتحقيقات‪.‬‬

‫يحيى الذي دخل عالم الشيخ األكبر –بحسب الحكيم‪ -‬لمناسبة‬ ‫إنسانية بين الرجلين‪ ،‬أي لموافقة إنسان ابن عربي إلنسانه‪ .‬ع ّد‬

‫عثمانُ يحيى ابنَ عربي ترجمان الروحانية المحمدية والناطق بلسان‬

‫ميتافيزيقا اإلسالم‪ ،‬وحاول فهم ّ‬ ‫نصه من خالل ما كتبه هو وإن قرأه‬ ‫ً‬ ‫أحيانا على ضوء النظريات والتعاليم الشيعية واإلسماعيلية‪ .‬تختلف‬

‫القراءات الغربية البن عربي عن القراءات العربية في كونها تحاول‬ ‫تقديمه كوجه من وجوه اإلسالم الحضاري الذي يحمل رؤية للكون‬

‫والحياة واإلنسان تجعله يندمج في المشروع العالمي‪ ،‬كمحاولة‬

‫لتع ُّرف اإلسالم من خالل بوابة التصوف‪ ،‬وفي هذا السياق يمكن أن‬ ‫نذكر أسماء كثيرة أخلصت لهذه الفكرة‪ ،‬منها‪ :‬سيد حسين نصر‪،‬‬

‫ووليم تشيتك وشودكي ِفتش‪ ،‬وكلود عدّاس‪ ،‬وميشال فالسان‪.‬‬

‫المميز في سعاد الحكيم رغم مشاركتها في المؤتمرات الغربية‬ ‫بورقات بحثية عن ابن عربي أنها ليست مشغولة بالعالم الغربي بل‬

‫باآلخر المسلم‪ ،‬هي ال تطلب من قارئها أن يؤمن بأفكار ابن عربي‪،‬‬ ‫وليست مشغولة بالدفاع عنه كما فعل العلماء األقدمون‪ ،‬بل ينطق‬

‫كثير من أعمالها حوله أن ابن عربي ال يخالف أصول العقيدة وأنه‬ ‫ّ‬ ‫يشكل وجهًا من وجوه اإلسالم ال يمكن إلغاؤه؛ ألننا بذلك نصبح‬ ‫ٌ‬ ‫عمل حواري في المقام األول‪:‬‬ ‫ناقصين‪ ،‬وتصف الحكيم عملها بأنه‬

‫حوار مع اآلخر المسلم‪ ..‬حوار مع اآلخر اإلنسان‪.‬‬ ‫الحاجة إلى استعادة العلوم الصوفية‬

‫ترى الحكيم أننا اليوم في حاجة ماسة الستعادة العلوم‬

‫الصوفية؛ لما تحويه خزائنها من تسامح‪ ،‬وقبول اآلخر‪ ،‬وانفتاح‬

‫على الكون الكبير وعلى التاريخ الجاري من األزل إلى األبد‪ .‬فمنذ أكثر‬

‫من مئتي عام‪ ،‬حين بدأت النهضة العربية في القرن التاسع عشر‪،‬‬ ‫أقصى جملة مفكريها العلوم الصوفية من المشاركة في اإلصالح‪ ،‬بل‬ ‫عدوا التصوف ً‬ ‫عائقا أمام التقدم وحاض ًنا للتخلف والتخاذل‪ ،‬فجاءت‬

‫الصحوة اإلسالمية في القرن العشرين أحادية النزعة‪ ،‬وحيث إنّ اآلفة‬

‫الحتمية لكل أحادية إنسانية هي التطرف والغلو واالمتالء بالذات‬

‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬


‫انفتاحا‬ ‫سعيا إلى عالم أكثر‬ ‫سعاد الحكيم تستعيد الصوفية‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫فاطمة المرنيسي‬

‫خالدة سعيد‬

‫وإقصاء اآلخر‪ ..‬شهدنا ما حدث في العالم المعاصر‪ .‬ومن هنا حاولت‬

‫متحررة في اعتقادها بالله من الوسائط –كما يشير ابن عربي‪ -‬جعل‬ ‫الحكيم ُت ِّ‬ ‫خصص دراسة واسعة لهذه الشخصية بعنوان‪« :‬تجليات‬

‫أن تعيد تقديم التصوف برؤية ولغة تناسب العصر الراهن‪ ،‬فأعادت‬

‫كتابة موسوعة إحياء علوم الدين لتناسب القرن العشرين‪ ،‬ووصل‬ ‫عملها هذا الذي ُطبع عدة مرات إلى الجماهير المسلمة ً‬ ‫شرقا وغربًا‪،‬‬

‫وكما فعلت مع نصوص َ‬ ‫الغ َّزالي كان اهتمامها برسائل الجُ َنيْد شيخ‬

‫الطائفة –بحسب تعبير ابن تيمية‪ -‬فحققت أعماله ودققت في أقواله‬ ‫ّ‬ ‫ووثقتها‪ ،‬وجاءت نشرتها بشكل ال يختلف عن المعجم الصوفي في‬

‫ترتيبه وتنسيقه‪ ،‬فتبدأ أقوال الجُ َنيْد في الكتاب من األلف إلى الياء‪،‬‬

‫وتعود إلى عشرات المصادر لتوثق الكلمة المنسوبة إليه‪ ،‬ثم تراجع‬ ‫المطبوع والمخطوط وكل ما له صلة بالجُ َنيْد حتى تظهر صورة هذا‬ ‫العَ َل ِم الكبير الذي هُ ضم حقه في الكتابات العربية‪ .‬فتخرج للقارئ‬ ‫ثمرة تجتمع فيها أقواله وكتبه وأدعيته وعظاته‪.‬‬ ‫المرأة في التصوف‬

‫ملكة في القرآن الكريم» فإضافة إلى القراءة العقائدية قرأت فعلها‬

‫في التاريخ قراءة سياسية‪ ،‬فقد حافظت هذه الملكة القرآنية في‬ ‫عالقتها بسليمان على موقعها كأولى في شعبها فلم َت ْن َق ْد لسليمان‬ ‫بل أعلنت أنها معه‪ ،‬شأن ما يسمى اليوم باالتحادات السياسية‪،‬‬ ‫فتكون كل دولة من دول االتحاد صاحبة كيان منفرد ويشترك‬ ‫الجميع في نظم عامة‪ ،‬ويشكلون معً ا وحدة اجتماعية وبشرية‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫درس بدأت الدراسات االستشراقية‬ ‫المرأة في التصوف‬ ‫موضوع ٍ‬ ‫منذ وقت مبكر االهتمام به‪ ،‬ولعل أبرز الدراسات عنه ما كتبته‬

‫مارغريت سميث التي قدّمت رابعة العدوية وأخواتها‪ ،‬ال نعرف كثي ًرا‬

‫ّ‬ ‫النص الذي حققته سعاد الحكيم‬ ‫عن النسوة الصوفية؛ لذا فإن‬ ‫مع بكري عالء الدين ُ‬ ‫ونشر بالمعهد الفرنسي تحت عنوان‪« :‬شرح‬

‫وإذا روى ابن الجوزي كثي ًرا من حكايات العُ بّاد والزهاد‪ ،‬فإن‬

‫المشاهد القدسية لتكميل دائرة الختم الموصوف بالوالية المحمدية»‬ ‫ً‬ ‫تأليفا وشرحً ا ومناقشة‪ ،‬وينقلها‬ ‫يكشف عن دور المرأة في التصوف‬

‫لذلك ُتخصص سعاد الحكيم جزءًا من اهتمامها البحثي للكتابة‬

‫ً‬ ‫ّ‬ ‫دراسة له في كتابها «المرأة‬ ‫نص‬ ‫صوفي وفلسفي خصصت الحكيمُ‬ ‫ّ‬

‫نصيب النسوة في هذه الحكايات قليل ما يُلتفت إليه‪ ،‬فال نظفر‬ ‫بكتابات عربية تر ّكز على قراءة هذه الحكايات ودراساتها إال نادرًا؛‬

‫عن نساء في حياة ذي النون المصري‪ ،‬ونساء في حياة ابن عربي‪.‬‬ ‫ويظهر عملها الصادر مؤخ ًرا اهتمامها بالمرأة الصوفية‪ ،‬ورؤية‬ ‫ُ‬ ‫القارئ لزيارة حدائق‬ ‫أعالم التصوف للمرأة‪ ،‬فقبل أن يسافر معها‬ ‫الصوفية ُتح ِّدثنا عن حضور التصوف وأثره في حياتها‪ ،‬فنقرأ‬ ‫عن المرأة الراعية في العلم وتهدينا «باقة ورود صوفية» ّ‬ ‫بنصها‬

‫المكتوب عن ابن عربي في حياتها‪.‬‬ ‫نقرأ كثي ًرا عن بلقيس الملكة والمرأة التي حُ ّفت سيرتها‬ ‫وشخصيتها بكثير من المرويات واألساطير‪ ،‬لكن كتابة الحكيم عن‬

‫هذه المرأة تختلف عما اعتدنا مطالعته في استكناه أغوار شخصيات‬ ‫التراث‪ ،‬فااللتفاتة إلى إسالم بلقيس مع سليمان واعتبارها ّ‬ ‫ظلت‬

‫من كونها موضو ًعا إلى كونها مساهمة ومشاركة للرجل في هذا‬ ‫ً‬ ‫كاشفا عن مشاركة حقيقية في مناقشة‬ ‫الميدان‪ ،‬وألن هذا الكتاب كان‬ ‫والتصوف والحياة» أبرزت فيها ثقافة الست عجم اإلسالمية والصوفية‬

‫والفلسفية‪ ،‬وكشفت عن إبداعها الذي يختلف كثي ًرا عن النصوص‬

‫الصوفية المناقبية والعجائبية‪.‬‬ ‫وبما أن التصوّف هو ُخ ٌ‬ ‫لق فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك‬ ‫سنوات طوال تعمل الحكيم على اإلعداد‬ ‫في الدين والتصوف؛ فمنذ‬ ‫ٍ‬ ‫واإلشراف على موسوعة علمية تؤسس لعلم مكارم األخالق في‬

‫اإلسالم مع فريق من األساتذة واألكاديميين المختصين‪ ،‬قناعة‬ ‫منها أنه ال يزال لدى المسلمين ثروة من القيم األخالقية اإلنسانية‬

‫التي تنفع الناس اليوم –مسلمين وغير مسلمين‪ -‬وقد أوشكت هذه‬ ‫الموسوعة على الصدور‪ ،‬ونأمل أن تحقق أهدافها‪.‬‬

‫‪109‬‬


‫مخطوطات‬

‫‪110‬‬

‫در التتويج بتعريب مؤامرات الزيج‬ ‫مخطوط‪ّ :‬‬

‫المؤلف‪ :‬الفلكي حسن بن محمد المعروف بقاضي حسن (كان حيا سنة ‪ 1014‬هـ)‪.‬‬

‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬


‫‪111‬‬

‫نسخة اشتملت على رسوم فلكيّة هندسيّة دقيقة مع كتابة الرموز باألحمر واألزرق‪.‬‬

‫من مقتنيات مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية‪.‬‬


‫ثقافات‬

‫التسامح في النزاع‬

‫‪112‬‬

‫فضيلة تدعو‬ ‫إليها األخالق‬ ‫أم موقف‬ ‫متعجرف؟‬

‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬


‫راينر فورست‬

‫فيلسوف ألماني ‪ -‬من الجيل الثالث لمدرسة فرانكفورت‬

‫ترجمه عن األلمانية‪ :‬رشيد بوطيب‬

‫كاتب مغربي‬

‫يملك عنوان كتاب‪« :‬التسامح في النزاع» معنى رباعيًّا‪ .‬أولاً ‪ :‬إن مفهوم التسامح يرتبط صميميًّا‬ ‫بالنزاع؛ ألنه سلوك أو ممارسة‪ ،‬ال يصبح ضرور ًّيا إال عند اندالع نزاع ما‪ .‬لكن ما تجدر اإلشارة إليه‬ ‫ً‬ ‫خصوصا في هذا السياق‪ ،‬هو أن التسامح الذي يستوجبه النزاع‪ ،‬ال يحل هذا النزاع‪ ،‬بل يعمل فقط على‬ ‫تسييجه والتخفيف من حدته‪ ،‬أما تناقض القناعات والمصالح والممارسات فيظل قائمً ا‪ ،‬لكنه يفقد‪،‬‬ ‫نزولاً عند اعتبارات معينة‪ ،‬طاقته التدميرية‪ .‬ويعني «التسامح في النزاع» أن الفرقاء في نزاع ما‪ ،‬ينتهون‬ ‫إلى اتخاذ موقف متسامح؛ ألنهم يرون أن أسباب الرفض المتبادل تقف حيالها أسباب أخرى للقبول‬ ‫المتبادل‪ ،‬حتى إن كانت أسباب القبول المتبادل ال تسمح بتجاوز أسباب الرفض‪ ،‬لكنها تتحدث لصالح‬ ‫التسامح‪ ،‬بل تطالب به‪ .‬إن وعد التسامح يقول بإمكانية التعايش في ظل االختالف‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وانطالقا من هذه الخلفية تطرح سلسلة من األسئلة نفسها‪،‬‬

‫يجب اإلجابة عنها في هذا البحث‪ :‬ما طبيعة النزاعات التي تستوجب‬

‫التسامح أو تسمح به؟ ما موضوعات التسامح؟ ما طبيعة أسباب‬ ‫رفض المتسامح معهم‪ ،‬وكيف يمكن أن نفهم أسباب القبول بهم‬

‫التي تقف ضدها؟ وأين تقع الحدود الخاصة بالتسامح؟‬

‫كان االنشغال بمفهوم التسامح وال يزال أم ًرا ضروريًّا بالنسبة‬

‫ُرض‬ ‫الالتسامح الذي يبدو الظاهرة األصلية‪ ،‬التي تتطلب رد فعل م ٍ‬ ‫ومتوازن وأخالقي‪.‬‬ ‫ويعني «التسامح في النزاع» ثانيًا‪ ،‬أن مطلب التسامح ال يمكن‬ ‫أن يتحقق فيما وراء الصراعات التي يعرفها مجتمع ما‪ ،‬بل ي َ‬ ‫ُولد في‬

‫ً‬ ‫مرتبطا بالظروف‬ ‫رحمها‪ ،‬بشكل يجعل الشكل الواقعي للتسامح‬

‫لفلسفة تطمح إلى فهم الواقع االجتماعي‪ ،‬فالنزاعات‪ ،‬التي تبدو‬

‫التي تحيط به‪ .‬إن التسامح يوجد داخل النزاع‪ ،‬إنه تحزب‪ ،‬حتى‬ ‫لو وجب أن تقوم بنية التسامح‪ً ،‬‬ ‫وفقا ألسسها المعيارية‪ ،‬ضد كل‬

‫شأنها في ذلك شأن الرغبة في عدم وجودها‪ .‬حتى هناك‪ ،‬حيث‬

‫أن التسامح يطلب تحقيق التوازن‪ ،‬لكنه ال يعني «الحياد»‪ .‬بل هو‬

‫مستعصية على الحل‪ ،‬تنتمي‪ ،‬ال غرو‪ ،‬إلى الحياة البشرية‪،‬‬ ‫لم يكن مفهوم التسامح قد أخذ شكله المعاصر‪ ،‬الذي تشكل‬

‫بعد اإلصالح الديني‪ ،‬كانت اإلشكالية معروفة‪ ،‬ولنتذكر في هذا‬ ‫السياق هيرودوت ووصفه لتعدد الثقافات‪ .‬فالتسامح موضوع‬

‫عرفته اإلنسانية جمعاء‪ ،‬وال يمكن اختزاله في حقبة معينة أو ثقافة‬ ‫محددة‪ .‬فمنذ ظهور الدين مثلاً ومشكلة أتباع األديان األخرى وأهل‬

‫البدع وغير المؤمنين قائمة‪ .‬وعمومًا‪ ،‬فحيثما تكونت لدى البشر‬

‫قناعات قيمية‪ ،‬تأتي المواجهة مع اآلخرين لتمثل تح ِّديًا لها‪ .‬تح ٍّد ال‬

‫يمكن اإلجابة عنه انطالقا من تلك القيم المشكوك فيها‪ .‬لكن‪ ،‬حتى‬ ‫يؤدي هذا التحدي إلى تشكل موقف متسامح‪ ،‬يشترط القيام بعمل‬

‫معقد على القناعات الشخصية‪ .‬إذن‪ ،‬منذ زمن والكفاح قائم ضد ما‬ ‫ً‬ ‫انطالقا من مرحلة زمنية محددة بـ«الالتسامح»‪ .‬هذا‬ ‫يصطلح عليه‬

‫مطلوبا فقط في ظل‬ ‫التسامح ليس‬ ‫ً‬ ‫صراعات محددة‪ ،‬وال يمثل فقط في‬ ‫النزاعات االجتماعية دعوة خاصة إلى‬ ‫أطراف الصراع‪ ،‬بل إنه في حد ذاته‬ ‫موضوع لتلك النزاعات‬

‫شكل من أشكال التحزب ألجل أن يتحقق تسامح متبادل‪ .‬ورغم‬

‫دعوة عملية إلى أطراف الصراع‪ ،‬بشكل مختلف جدًّا‪ ،‬مرة إلى النأي‬

‫بأنفسهم عن التحيز‪ ،‬ومرة كمحاولة للحفاظ على عالقات القوى‬ ‫القائمة عبر ضمان للحرية‪ .‬وهكذا فإن تاريخ التسامح وحاضره‪ ،‬كما‬

‫سيظهر لنا ذلك‪ ،‬هو دائمًا تاريخ الصراعات االجتماعية وحاضرها‪.‬‬

‫إن مفهوم التسامح متجذر في هذا التاريخ‪ ،‬وكي نفهمه في كل‬ ‫تعقيده‪ ،‬يجب علينا استعادة هذا التاريخ‪ .‬وبذلك يرتبط المعنى‬

‫الثالث لعنوان الكتاب‪.‬‬ ‫التسامح إهانة‬

‫إن التسامح ليس مطلوبًا فقط في ظل صراعات محددة‪ ،‬وال‬

‫يمثل فقط في النزاعات االجتماعية دعوة خاصة إلى أطراف الصراع‪،‬‬ ‫بل إنه في حد ذاته موضوع لتلك النزاعات‪ .‬وفي تاريخ المفهوم‬

‫كما في حاضره‪ ،‬ال يظل معنى التسامح ضبابيًّا فقط‪ ،‬بل موضع‬ ‫خالف بشكل عميق‪ .‬إذ قد ي َ‬ ‫ُنظر مثلاً إلى السياسة نفسها أو السلوك‬

‫من جانب معين كتعبير عن التسامح‪ ،‬ومن جانب آخر كفعل‬

‫غير متسامح‪ .‬بل األفدح من هذا وذاك‪ ،‬يتمثل في النزاع حول ما‬ ‫إذا كان التسامح عمومًا أم ًرا خ ّي ًرا‪ .‬ففي الوقت الذي يع ّد بعض‬

‫التسامح فضيلة يدعو إليها الرب أو األخالق أو العقل أو على األقل‬

‫‪113‬‬


‫ثقافات‬

‫الفطنة‪ ،‬يرى آخرون أن التسامح موقف متعجرف وأبوي وقمعي‬ ‫بالقوة‪ .‬ويرى بعض آخر أن التسامح تعبير عن اليقين الذاتي وقوة‬

‫الشخصية‪ ،‬ولبعض آخر موقف‪ ،‬مصدره عدم الشعور باألمان‪ ،‬وهو‬ ‫ِّ‬ ‫ويمثل لبعض تعبي ًرا عن احترامهم لآلخرين أو‬ ‫اإلذعان والضعف‪،‬‬ ‫ً‬ ‫موقفا ينمّ عن‬ ‫تقديرهم لألجنبي‪ ،‬في حين يُعَ ّد التسامح آلخرين‬

‫الالمباالة والجهل واالنغالق على الذات‪ .‬وال نعدم أمثلة عن مثل هذه‬

‫في الوقت الذي يعد بعض التسامح‬ ‫فضيلة يدعو إليها الرب أو األخالق أو‬ ‫العقل‪ ،‬يرى آخرون أن التسامح موقف‬ ‫متعجرف وأبوي وقمعي بالقوة‬

‫اآلراء المتناقضة‪ ،‬فلنتذكر فولتير أو ليسينغ ومديحهما للتسامح‬ ‫ّ‬ ‫الحقة والثقافة السامية‪ ،‬في حين تحدث كانط عن‬ ‫كرمز لإلنسانية‬ ‫«االسم المتعجرف للتسامح» في حين نصادف عند غوته في النهاية‬

‫الجملة األكثر شهرة في سياق النقد الموجه للتسامح‪« :‬يجب على‬ ‫ً‬ ‫موقفا مؤق ًتا فقط‪ :‬عليه أن يقود إلى االعتراف‪.‬‬ ‫التسامح أن يكون‬ ‫فالتسامح إهانة»‪.‬‬

‫ويقول المعنى الرابع أخي ًرا إن االختالفات المتعلقة باستعمال‬

‫وتقييم مفهوم التسامح‪ ،‬تعود إلى التصورات المختلفة التي نشأت‬ ‫عبر التاريخ‪ ،‬وفي صراع بعضها مع بعض‪ ،‬حول هذا المفهوم‪.‬‬

‫وهكذا يوجد داخل مفهوم التسامح صراع‪ ،‬سوف أستعرضه تحت‬ ‫المفاهيم العامة «للسلطة» و«األخالق»‪ ،‬بل أكثر من ذلك‪ ،‬ليس‬ ‫هناك فقط تصورات مختلفة عن التسامح‪ ،‬بل ً‬ ‫أيضا سلسلة غنية‬ ‫من األسس المختلفة للتسامح؛ دينية‪ ،‬وسياسية ـ براغماتية‪،‬‬

‫‪114‬‬

‫ومعرفية‪ ،‬وأخالقية‪ ،‬حتى تلك المتعلقة بعلم الواجبات‪ .‬وهذه‬ ‫األسس‪ ،‬ولِمَ ال‪ ،‬تقف هي األخرى في صراع بعضها مع بعض‪ .‬وفيما‬

‫كتاب‪« :‬التسامح في النزاع» لـ«راينر فورست»‬

‫يلي عرض نسقي لهذه التصورات واألسس وللسؤال عن األقرب منها‬

‫الوعي بالتعقيد الذي يطبع تاريخ التسامح كفيل وحده بأن يعمق‬

‫في الصراع» منطلق التحليل الفلسفي الذي سأقوم به لهذا المفهوم‪.‬‬

‫الممكن فقط‪ ،‬بل من الضروري مراجعة القراءات األحادية البعد‬ ‫لهذا التاريخ واألحكام واألحكام المُسبَقة حول التسامح‪ ،‬مثلاً حول‬

‫إلى الصواب‪ .‬تشكل هذه المعاني األربعة لعنوان كتاب «التسامح‬ ‫إن حاضرنا مطبوع وإلى حد كبير بالصراعات‪ ،‬ويبدو أن التسامح‬

‫وحده قمين بتحقيق مخرج منها‪ .‬وليس فقط داخل المجتمعات‬ ‫التي تتميز بتعدد األديان وأشكال الحياة الثقافية والجماعات‬

‫المختلفة‪ ،‬يطرح مشكل التسامح‪ ،‬وبشكل متنوع‪ ،‬نفسه‪ .‬والحروب‬

‫األهلية‪ ،‬التي يعرف أطراف النزاع أنفسهم فيها بشكل إثني أو ديني‬ ‫تؤكد هذا األمر بشكل كبير‪ ،‬لكن حتى داخل المجتمعات المنظمة‬

‫بشكل ديمقراطي نقف على نزاعات عميقة حول قضية أين يجب أن‬ ‫يبدأ التسامح وأين ينتهي‪ .‬وعلى المستوى الدولي نشهد دعوة إلى‬ ‫التسامح؛ بسبب الصراعات المتعددة وإكراهات الفعل المشتركة‪،‬‬

‫ضد سيناريو صراع الحضارات‪ .‬وبالنظر إلى هذه الوضعية تعالت‬

‫الدعوة إلى التسامح سواء من جانب أحادي أو من جوانب متعددة‪،‬‬ ‫وأضحت عملية توضيح هذا المفهوم أم ًرا ملحًّ ا‪ ،‬سواء فيما يتعلق‬ ‫بمعنى هذا المفهوم أو بطريقة تقييمه‪.‬‬

‫الوعي بالتعقيد الذي يطبع حاضره‪ .‬وفي هذا السياق ليس من‬

‫التسامح لدى المسيحيين أو الحركة اإلنسانوية أو لدى المذهب‬

‫الشكي‪ ،‬وفي ظل الدول الحرة والليبرالية واألنوار‪ .‬وسيظهر للعيان‬ ‫غنى الحجج التي قام عليها التسامح‪ ،‬وفي أي سياقات نشأت هذه‬

‫الحجج وأية قوة نسقية‪ ،‬متجاوزة للسياق الذي نشأت فيه‪ ،‬تتمتع‬ ‫بها‪ .‬وأخي ًرا يجب أن تكون هذه النظرة إلى التاريخ نظرة جينالوجية‪،‬‬

‫تظهر كيف أنه في «تاريخ الحاضر» كان وال يزال للتسامح عالقة‬

‫ملتبسة مع السلطة‪.‬‬

‫ويجب على هذا البحث النظر ثانيًا في األبعاد الحاسمة التي‬

‫تميز المفهوم وبخاصة المعيارية منها واإلبستمولوجية‪ .‬والهدف‬ ‫ً‬ ‫انطالقا مما يمكن العثور عليه في‬ ‫من ذلك بناء نظرية للتسامح‬

‫التعددية من مسوغات له‪ ،‬من أجل تج ّنب مآزق المحاوالت البديلة‪.‬‬ ‫وبنا ًء عليه ً‬ ‫وضح بهذه الطريقة‪ ،‬في‬ ‫ثالثا‪ ،‬أن يضع المفهوم‪ ،‬وقد أُ ِ‬

‫وتظهر هذه األفكار األولية أن تحليلاً شاملاً لهذا المفهوم‬

‫سياق نزاعات الحاضر السياسية وفحص مضمونه بشكل ملموس‪،‬‬ ‫مما يتطلب اّأل نسأل فقط عما يجعل الشخص متسامحً ا‪ ،‬بل‬

‫الصراع حوله ومضامينه في السياق التاريخي الذي ظهرت فيه‪ .‬إذ‬

‫هذا البحث على عاتقه‪ ،‬وهذا يتطلب إبداء مالحظة محددة‪ ،‬وهي‬

‫يستدعي أخذ ثالثة عناصر جوهرية بعين االعتبار‪ .‬يجب على هذا‬ ‫التحليل اً‬ ‫أول أن يتأكد من تاريخ المفهوم من أجل معرفة أوجه‬

‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬

‫أيضا عما يصنع المجتمع المتسامح‪ .‬إنها المهمة التي يحملها‬


‫التسامح في النزاع‪ ..‬فضيلة تدعو إليها األخالق أم موقف متعجرف؟‬

‫أنه ال يمكن في هذا السياق إنجاز بحث «شامل» ًّ‬ ‫حقا‪ ،‬بمقدوره‬ ‫استعادة‪ ،‬وضمن المنظور التاريخي ً‬ ‫أيضا‪ ،‬طاقات التسامح الكامنة‬

‫في جميع األديان‪ .‬وألن فكرة نهائية العقل البشري تلعب دورًا مهمًّا‬ ‫في استداللي‪ ،‬فإنه من المرغوب فيه أن يكون المرء على وعي بها‬ ‫في هذا المكان ً‬ ‫أيضا‪.‬‬ ‫تصور مركب ومعياري‬

‫وبالنظر إلى ذلك‪ ،‬سيتمحور األمر فيما يلي حول فهم نسقين‬

‫ومناقشتهما‪ ،‬ينطلقان من السياق المعين لألدلة‪ ،‬التي طورها‬ ‫اً‬ ‫وصول إلى صياغة‬ ‫الخطاب األوربي لصالح التسامح منذ الرواقيين‪،‬‬ ‫اقتراح نسقي خاص‪ ،‬يستند إلى هذه الخلفية‪ ،‬يجب أن يتمكن‬

‫جميعها‪ ،‬يبقى الطريق مفتوحً ا إلى تصور مركب ومعياري للتسامح‪.‬‬

‫ومع ذلك‪ ،‬ال يسد بحث من هذا النمط وبهذا المعنى وحده ثغرة‬ ‫قائمة في أدبيات التسامح‪ ،‬بل هو حاجة منهجية ً‬ ‫أيضا‪ ،‬ما دامت‬ ‫معالجة التسامح تنقسم عادة إلى مجاالت خاصة بما هو تاريخي‪،‬‬ ‫معياري (غالبًا دون اإلبستمولوجيا والبعد النفسي)‪ ،‬أو «اإلثيقا‬ ‫التطبيقية» (أو السياسية التطبيقية والنظرية الحقوقية)‪ .‬وقد‬ ‫حاولت التأليف بين هذه المنظورات‪.‬‬

‫قد يكون أم ًرا مفيدًا أن أعرج باختصار في هذا الموضع على‬

‫األفكار األساسية الواردة في جزأي الكتاب‪ .‬لكنني‪ ،‬وبالنظر إلى‬ ‫وفرة طرائق فهم التسامح وتقويمه في التاريخ والحاضر‪ ،‬سأبدأ‬ ‫بمعارضة الشبهة التي تفرض نفسها‪ ،‬وهي أننا لن ننشغل بمفهوم‬

‫من إثبات صالحيته في سياقات أخرى‪ .‬تعكس األدبيات المتنوعة‬ ‫َ‬ ‫الغموض‪ ،‬الذي يعود إلى الصراع‬ ‫والواسعة حول هذه المسأل ِة ذلك‬

‫لي القول‪ ،‬من الضروري االنطالق من مفهوم (أو تصور) واحد‬

‫لذلك ثمة أسباب جيدة لع ِّده «مفهومًا من الصعب اإلمساك به‬

‫منها‪ .‬وترتبط هذه التصورات بمسوغات مختلفة للتسامح‪ ،‬علما‬

‫التحليلي والمعياري‪ ،‬الذي سبق ذكره‪ ،‬ويميز مفهوم التسامح؛‬

‫فلسفيًّا»‪ .‬وإنني ألتحدث عن مفهوم «مختلف عليه»‪ ،‬لكنني أعتقد‬ ‫ً‬ ‫أيضا أن أسباب هذا الشجار يمكن تفسيرها تاريخيًّا ونسقيًّا‪ .‬ففيما‬ ‫وراء االختيار بين دفاع أحادي البعد عن فهم معين للتسامح‪،‬‬

‫واحد للتسامح‪ ،‬بل بعدد كبير من مفاهيمه‪ .‬في رأيي‪ ،‬وكما سبق‬ ‫للتسامح‪ ،‬وكذلك من تنوع رؤاه (أو تصوراته) – التي أميز بين أربع‬ ‫بأنه ليس لكل تصور مسوغ واحد وحسب‪ .‬إن تطوير نسق خاص‬ ‫بمسوغات التسامح هو هدف الجزء األول من هذا البحث‪.‬‬

‫يتعامى عن الصور التكوينية األخرى والمجردة لهذه المعاني‬

‫النظر بأعين متسامحة إلى الذات والعالم‬ ‫أخي ًرا‪ ،‬سيكون علينا التساؤل عن طبيعة العالقة الذاتية‪ ،‬وأي صفات وقدرات انفعالية تسم الشخص المتسامح‪ .‬وسيظهر أن‬

‫فضيلة التسامح ال تقول بوجود مثال شخصي أخالقي معين‪ ،‬وإن كانت بعض القناعات «الثابتة» تستطيع أن تنتمي إليها‪ ،‬وقدرة‬

‫معينة على التنصل من الذات‪ ،‬ليكون باإلمكان التسامح معها‪ .‬سأقدم في الفصل األخير من هذه الدراسة شرحً ا سياسيًّا – عمليًّا للتصور‬

‫المقترح‪ ،‬يبيِّن أنه ليس فقط من الضروري أن ينتمي إليه تصور حول الديمقراطية‪ ،‬يضفي ماهية سياسية على مبدأ التسويغ‪ ،‬بل إن‬

‫ثمة‪ ،‬وفق أرضية المحاولة المقترحة‪ ،‬إمكانية لبلورة نظرية نقدية للتسامح‪ ،‬ال تستطيع تقديم تحليل نقدي ألشكال التسامح وحده‪،‬‬ ‫ً‬ ‫إنما بوسعها ً‬ ‫انطالقا من هذه الخلفية‪ ،‬سيُطرَح السؤال عن «المجتمع المتسامح»‪،‬‬ ‫أيضا نقد أشكال التسامح القمعية والضبطية‪.‬‬ ‫وسي َ‬ ‫ُناقش بمعونة أمثلة‪ ،‬على أن ُتختار صراعات من دول مختلفة‪ ،‬تتصل بمكانة أقليات دينية وثقافية ـ إثنية‪ ،‬وبمسائل التسامح‬

‫مع عالقات داخل الجنس الواحد‪ ،‬والعالقة مع مجموعات سياسية متطرفة‪ .‬سيتضح بجالء في هذه التحليالت أن مفهوم التسامح‬ ‫ً‬ ‫مختلفا عليه من قبل‪ ،‬ذلك أن ما نوقش هنا ال يقتصر على حدود التسامح‪ ،‬إنما يشمل بصورة‬ ‫مختلف عليه في الحاضر‪ ،‬مثلما كان‬ ‫عامة فهمه وتسويغه ً‬ ‫أيضا‪.‬‬

‫هذه مقالة في التسامح‪ .‬لكن تعقيد مفهومه يجعلها شي ًئا يتخطى ذلك ً‬ ‫أيضا‪ .‬إنها تعالج في آن واحد الدينامية المعقدة بين‬

‫السلطة واألخالق‪ ،‬والعالقة بين الدين واإلثيقا‪ ،‬وبين القدرة وحدود العقل العملي فيما يتصل بالصراعات اإلثيقية العميقة الغور‪،‬‬ ‫مستقل عن التقويمات المتنازع عليها (إن لم يكن منفصلاً‬ ‫ّ‬ ‫متعال على هذا الشجار‪،‬‬ ‫وأخيرًا بين حتمية وضرورة وجود تصور لألخالق‬ ‫ٍ‬ ‫عنها بصورة تامة)‪ .‬ربما تكون العبرة المركزية‪ ،‬التي يجب استخالصها من االشتغال بهذه القضية‪ ،‬هي التالية‪ :‬إن النظر بأعين متسامحة‬ ‫إلى الذات والعالم يعني القدرة على التمييز بين ما يستطيع البشر طلبه أخالقيًّا بعضهم من بعض‪ ،‬وما ربما يكون أكثر أهمية بكثير‬ ‫بالنسبة لهم‪ ،‬أال وهو أفكارهم حول ما يجعل الحياة خيرة وتستحق أن تعاش‪ .‬هذا يعني أن علينا رؤية الشجار الذي ال نهاية له‪،‬‬ ‫المتصل بالنقطة األخيرة‪ ،‬ويجب ألاّ يمس صالحية األخالق أو حقيقة القناعات الخاصة أو اندماج المجتمع‪ .‬هذه النظرة هي منجز‬

‫العقل‪ ،‬الذي يمثلها مفهوم التسامح‪ ،‬وهي تعني‪ ،‬إذا ما تحدثنا بلغة فلسفية مجردة‪ ،‬فهم هوية البشر واختالفها بصورة صحيحة‪.‬‬

‫‪115‬‬


‫ثقافات‬

‫ترسخت في ذاكرة مف ّكريه‬ ‫ثقافته ّ‬ ‫وكتّابه ومبدعيه‬

‫«ربيع الغرب»‬ ‫وتحوالته‬ ‫ّ‬

‫‪116‬‬

‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬


‫أحمد فرحات‬

‫كاتب لبناني‬

‫ليس للعرب وحدهم «ربيعهم» الدامي شبه المتمادي اليوم‪ ،‬بل للغرب المتقدم ً‬ ‫أيضا‪ .‬غير أن «ربيع‬ ‫ً‬ ‫الغرب» وإن ترجم نفسه في الساحات والميادين على نحو أقل ً‬ ‫وسخطا واعتقالاً تعسفيًّا ومدى‬ ‫عنفا ودمً ا‬ ‫َسخت أكثر في ذاكرة ّ‬ ‫مفكري هذا الغرب وأدبائه وشعرائه وف ّنانيه‪،‬‬ ‫زمانيًّا ومكانيًّا‪ ،‬إالّ أنّ ثقافة هذا «الربيع» ر َ‬

‫وبخاصة في الواليات المتحدة األميركية وبعض الدول األوربية‪ ،‬ممن تأثر في البداية «بالثورات العربية»‪،‬‬

‫ونقل تأثره إلى نيويورك‪ ،‬حيث اشتعلت هناك االحتجاجات الصاخبة منذرة‪ ،‬من خالل حركة «احتلوا وول‬ ‫ستريت» (عصب المركز المالي األميركي)‪ ،‬باألسوأ على الصعيد األميركي‪ ،‬ومنه على صعيد العالم بأسره‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫إذ تعاظمت االحتجاجات‬ ‫تتقدمها‬ ‫لتغطي ما تعداده ‪ 1564‬مدينة حول العالم‪ ،‬من بينها ‪ 103‬مدن أميركية‪،‬‬ ‫واشنطن بوصفها عاصمة سياسية ونيويورك بوصفها عاصمة للمال واالقتصاد‪ .‬كان ذلك بدءً ا من ‪ 15‬أكتوبر‬

‫‪2011‬م‪ ،‬حيث انتشرت ظاهرة االعتصامات والتخييم ليل نهار في الساحات المركزية وبعض الحدائق العامة‬ ‫مثل متنزه «زوكوني» الشهير في مانهاتن قبل أن تستأصلها الشرطة عن بكرة أبيها‪.‬‬ ‫المجرّة المتغيّرة العناصر‬

‫قبل أن نتط ّرق إلى أبرز الخطابات الفكرية واألدبية والفنية‬ ‫ً‬ ‫خصوصا في الواليات‬ ‫التي ن ّتجها حراك «الربيع الغربي»‪،‬‬ ‫المتحدة وبعض دول االتحاد األوربي‪ ،‬ال بدّ لنا وبإيجاز من سرد‬

‫ثـم إن «الساخطين» مـا لبثوا أن ألهمـوا بدورهم «احتالالت»‬ ‫كثيرة أُخرى‪ .‬وسرعان مـا امتدت حركتهم لتشمل مجمل‬

‫إسـبانيا والبرتغال؛ ثـمّ لتجـد صدً ى لها في اليونان‪ ،‬إذ جاءت‬ ‫تع ّزز وتكمّل التعبئات النقابية‪ .‬وهكذا فإن «احتالل» سـاحة‬

‫هذي الوقائع التاريخية لمزيد من التضوئة على الموضوع‪ .‬افتتح‬

‫«سينتاغما» في قلب أثينـا‪ ،‬كان يش ِـرك النقابات واألفـراد القريبين‬

‫واسعة من التعبئات واالسـتنفارات‪ .‬كان المتوقع لمثل هذه‬

‫وفي الخـريف كانت الحـركة تمتـد وتتجدّ د في الوقت عينه‪ ،‬مع‬

‫الحراكان الشعبيان‪ ،‬التونسي والمصري في عام ‪2011‬م‪ ،‬موجة‬ ‫«االنتفاضات الثورية» أن تنتشر‪ ،‬وإنْ بوتائر مختلفة‪ ،‬في بلدان‬

‫المشرق والمغرب العربيين؛ غير أن كثي ًرا منها أفضى إلى حروب‬ ‫أهلية دمويّة‪ ،‬كما حدث في سوريا وليبيا‪ ،‬اً‬ ‫مثال ال حص ًرا‪ ،‬ومن‬ ‫ثمّ صار له وظيفة تحريضيّة على مستوى القارات‪ .‬في السنغال‬ ‫اإلفريقية‪ ،‬مثلاً ‪ ،‬سـ ّرعت حركة «طفح الكيل» بسقوط نظام‬ ‫عبـدالله واد‪ .‬بعد ذلك بأسابيع‪ ،‬وتحديدً ا في منتصف شـهر مـايو‬

‫من دوائر «الساخطين»‪ ،‬في مجابهة غالبًا ما تكون متوترة‪.‬‬

‫احتالل متنزه «زوكوتي» في جنوب مانهاتن األميركية‪ ،‬وهـو‬ ‫«االحتالل» الذي حظي بتغطية إعالمية واسعة‪ .‬كانت الحركة‬

‫تمتـدّ عبر حركة «احتلوا وول سـتريت» بدءً ا من ‪ 17‬سبتمبر ‪2011‬م‪،‬‬ ‫ومنها إلى العالم األنغلو‪ -‬ساكسوني بشكل مر ّكز‪ .‬وهكـذا فإن‬ ‫عدد مخيمات «االحتالل» في خريف عام ‪2011‬م‪ ،‬كان يصل إلى‬ ‫ً‬ ‫مختلفا‪ .‬غير أن‬ ‫بضع مئات‪ ،‬مو ّزع ٍة على أكثر من ثمانين بلـدً ا‬

‫آالف من اإلسبان ضد سياسة «شدّ الحزام»‪،‬‬ ‫‪2011‬م‪ ،‬تظاهر بضعة ٍ‬

‫عمر الواحد من الغالبية العظمى من هذه التخييمات‪ ،‬لم يطل‬

‫بالدهم‪ ،‬وق ّرروا المـرابطة في إحدى سـاحات مدريد الرئيسة‪:‬‬

‫‪2011‬م‪ ،‬طـرد البوليس آالف األشـخاص الذين كانوا يخيّمون على‬

‫كما سمّ تها صحيفة «إلباييس» اإلسبانية التي اعتمدتها حكومة‬

‫«البويرتا دل سول»‪ .‬كان هؤالء اآلالف يسـتلهمون مباشرة تجـربة‬ ‫«ميدان التحـرير» في القاهرة‪ ،‬أي االحتالل المدني‪ ،‬ليلاً ونهـارًا‪،‬‬ ‫لحـي ٍِّز عمومي‪ ،‬كتعبير عن التصميم الجماعي على الخالص من‬

‫سياسات غير عادلة‪.‬‬

‫ممي ًزا في تاريخ‬ ‫سيظل عام ‪2011‬م عامـًا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الصراعات االجتمـاعية‪ :‬من تونس إلى‬

‫ـرورا بإسـبانيا والبرتغال‬ ‫الواليات المتحدة‪ ،‬م ً‬ ‫واليونان‪ ،‬وكذلك آيسـلندا والتشيلي‬

‫أكثر من بضعة أسابيع‪ .‬وفي ليلة باردة من ليالي أواسط نوفمبر‬ ‫بضع خطوات من بورصة نيويورك‪ .‬أما الساخطون فإنهم‪ ،‬من‬

‫جهتهم‪ ،‬كانوا قـد ق ّرروا وقف مخيّماتهم منـذ شهر يونيو‪ .‬وهكذا‬ ‫فإن ّ‬ ‫قل ًة من «االحتالالت» اسـتطاعت أن تتواصل إلى ما بعد عام‬

‫‪2011‬م‪ ،‬باستثناءٍ «احتالل» واحد مرموق‪ ،‬هـو الذي شهدته مدينة‬ ‫هونغ كونغ الكبرى واستمر متواصلاً حتى أغسطس من عام‬

‫‪2012‬م‪ .‬غـير أن نهـاية «االحتالالت» لم تكن تعني نهاية الدينامية‬ ‫الفكرية والسياسية عمومً ا التي َّ‬ ‫ولدتها سلسلة تلك الحراكات‪.‬‬

‫فلقـد واصلت هذه االنتفاضات التمرديّة توسّ ـعها عبـر العالم‪،‬‬

‫لتندلع في كيبيك (كندا)‪ ،‬وفي تركيـا‪ ،‬وفي البوسنة‪ ،‬وتجد‬

‫تعبئات ذات شكل مختلف في التشيلي‪،‬‬ ‫كذلك صداها يتردّد في‬ ‫ٍ‬

‫‪117‬‬


‫ثقافات‬

‫أو حتى في البرازيل‪ .‬ثم إن «حراك هونغ كونغ»‪ ،‬اسـتؤنف على‬

‫نعوم تشومسكي وتعاليمه‬ ‫ّ‬ ‫المفكرين والفالسفة األميركيين البارزين الذين آزروا‬ ‫أول‬ ‫لاً‬ ‫حراك «الربيع األميركي»‪ ،‬ممث بحركة «احتلوا وول ستريت»‪،‬‬

‫في اليونان‪ ،‬وبوليموس في إسـبانيا‪ ،‬سيضعان جملة الممارسات‬

‫أمر مشابه يمكن أن يخطر على بالي‪ .‬وإذا أمكن تعزيز الروابط‬

‫نح ٍـو أوسع وأكثف في عام ‪2014‬م‪ ،‬أي بعد ثالثة أعوام كاملة من‬

‫يوم انطالقة حركة «احتلوا وول ستريت»‪ ،‬بحيث إنهـا ال تتجاوزه‬ ‫بيوم وال تستبقه بيوم‪ .‬غير أن عام ‪2015‬م بدا ّ‬ ‫كأنه يسجّ ل تغ ّي ًرا‬ ‫مـا؛ ذلك أن االنتصارين االنتخابيين اللذين حققهما حـزبا سـيريزا‬

‫والمطالبات المنبثقة عن هـذه المجـ ّرة المتغايرة العناصر‪ ،‬تحت‬

‫امتحان السلطة واختبار السلطان؛ وينبغي القول‪ :‬إن قدرة هذه‬

‫الحركات على أن تزن بوزنها وتنيخ بثقلها على نح ٍـو مستديم‪،‬‬ ‫سياسيًّا واجتماعيًّا‪ ،‬هـو أمـ ٌر يبعث على التساؤل واالستفهام‪.‬‬

‫كان نعوم تشومسكي (مواليد ‪1928‬م) الذي رأى أن حركة‬ ‫ّ‬ ‫تشكل تطورًا مثي ًرا جدًّ ا‪« ،‬إذ لم يسبق أن حدث‬ ‫«احتلوا»‪،‬‬

‫واالتحادات الناتجة عن هذه األحداث المميزة‪ ،‬في سياق المدة‬ ‫الطويلة والقاسية أمامنا‪ ،‬فسيتبيّن أنها لحظة تاريخية ًّ‬ ‫حقا‪،‬‬

‫وذات داللة بالغة في التاريخ األميركي»‪ .‬وفيما يشبه النداء‬ ‫ّ‬ ‫الموشح بأسلوب أدبي‪ ،‬نقرأ على غالف الكتاب الذي‬ ‫السياسي‬

‫صدر لتشومسكي في بيروت تحت عنوان‪« :‬احتلوا‪ ..‬تأمالت‬

‫في الحرب الطبقية والتمرد والتضامن» (شركة المطبوعات‬ ‫الشرقية)‪« :‬استيقظوا َ‬ ‫وخ َرجوا إلى الشوارع‪ ..‬سدّ وا الجسور‬

‫وأقفلوا المرافئ‪ ..‬عسكروا في الريح والمطر والثلج‪ ..‬وواجهوا‬ ‫الغازات المسيّلة للدموع ورذاذ الفلفل والقنابل الصاعقة‬ ‫واألصفاد والسجون»‪ .‬وفي هذا الكتاب الذي نفدت ُن َس ُخه من‬ ‫المكتبات اللبنانية‪ ،‬ويجري طبعه حاليًّا للمرة الثانية‪ ،‬يجيب‬ ‫تشومسكي عن األسئلة الملحّ ة من خالل محادثات ومناقشات‬

‫مع أنصار حركة «احتلوا»‪ :‬لماذا يحتج الناس؟ كيف يؤثر واحد‬ ‫في المئة من المواطنين في ‪ 99‬في المئة؟ كيف يمكن فصل‬

‫‪118‬‬

‫المال عن السلطة؟ ما حقيقة االنتخابات الديمقراطية؟ كيف‬ ‫تتحقق المساواة؟ ومن ينقذ أميركا من حيتان االحتكار؟ مقطع‬

‫القول‪ ،‬يَعُ دّ تشومسكي «احتلوا» حركة عظيمة؛ لكونها امتدت‬

‫تشومسكي‬

‫نعوم تشومسكي كان أول المف ّكرين‬ ‫والفالسفة األميركيين الذين آزروا‬ ‫«الربيع األميركي» ممث بحركة وول‬ ‫لاً‬ ‫المنظر المنهجي آلليات‬ ‫ستريت‪ ،‬وكان‬ ‫ّ‬

‫في العمق األميركي‪ ،‬وحظيت بكثير من التعاطف مع أهدافها‬ ‫وغاياتها‪ .‬وهي تحتل‪ ،‬في الواقع‪ ،‬مراتب عليا في استطالعات‬

‫الرأي؛ لكن عليها –في رأيه– «أن تصبح أكثر فأكثر جزءً ا من‬ ‫حياة الناس اليومية‪ ،‬ال لشيء اّإل ألنها تحمل همومهم‬

‫وطموحاتهم المستقبلية في المزيد من العدالة والحقوق‬

‫المدنيّة على اختالفها»‪.‬‬

‫حراكها على األرض‬

‫من مظاهرات هامبورغ خالل قمة العشرين األخيرة‬

‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬


‫وتحوالته‬ ‫«ربيع الغرب»‬ ‫ّ‬

‫مايكل مور نجم حركة «احتلوا وول ستريت»‬

‫ويعتقد أن واحدً ا من اإلنجازات الحقيقية لحركة «احتلوا»‪،‬‬

‫هي في تنميتها لمظهر مجتمعي غيري‪ ،‬إيثاري بامتياز‪ .‬فالناس‬

‫المنخرطون في الحراك‪ ،‬ال يقومون بذلك من أجل أنفسهم‪،‬‬

‫بل من أجل بعضهم‪ ،‬ومن أجل المجتمع األكبر واألجيال‬ ‫المقبلة‪ .‬وتحوّل تشومسكي إلى ع ّراب رائد في نصح األجيال‬ ‫«الربيعية» األميركية الجديدة‪ ،‬يرشدهم‪ ،‬حتى في المسائل‬

‫األمنية واإلجرائية على األرض‪ .‬سأله أحد أفراد الحراك‪ :‬ماذا‬

‫«اكتب‬ ‫يسعني أن أفعل إذا ما تع ّرضت لعملية توقيف؟‪ ..‬أجابه‪:‬‬ ‫ْ‬ ‫رقم هاتف النقابة على معصمك أو على رسغ قدمك‪ ،‬واتصل به‬

‫إذا ما تعرضت للتوقيف‪ ،‬أو شاهدت عملية توقيف‪ .‬احمل في‬

‫وسوسيولوجيًّا داخل أميركا والغرب كله‪ ،‬وعلى علماء االجتماع‬

‫الثقاة تلقفه‪ ،‬وتحليل نتائجه في العمق‪.‬‬ ‫خطيب «الثورات» مايكل مور‬

‫أما الكاتب األميركي جاك هيلبور ستيم‪ ،‬فيرى أن حركة‬

‫االحتجاجات األميركية الكبرى في وول ستريت وواشنطن‬

‫ولوس أنجلس وبوسطن‪ ،‬كانت نتيجة تراكميّة لما سبقها من‬

‫انتفاضات في ضواحي لندن في الثمانينيات من القرن الفائت‪،‬‬ ‫التي تخللتها أعمال نهب وحرق وتخريب للممتلكات العامة‬

‫والخاصة؛ لكن التأثير الكبير لحركة «احتلوا» بانتفاضات تونس‬

‫ً‬ ‫أرباعا مالية معدنية إلجراء المكالمات‪ ،‬وبطاقة هاتفية‬ ‫جيبك‬ ‫لالتصاالت البعيدة»‪ .‬وعن سؤال‪« :‬ماذا أفعل إذا ما أُوق ُ‬ ‫ِفت‬ ‫فعلاً ؟» أجاب‪« :‬أنصحك بأن تعلن بوضوح‪ :‬سألتزم الصمت‪..‬‬

‫بحيث تحوّل المنتفضون األميركيون إلى ناشطين سلميين‪ ،‬ال‬ ‫ّ‬ ‫يتوخون اّإل العدالة االجتماعية‪ ،‬وتصحيح السياسات الضريبية‬

‫تصدّق كل ما تقوله الشرطة‪ ،‬فمن المشروع للشرطة أن تكذب‬ ‫عليك لدفعك إلى الكالم»‪ .‬ويسأله سائل‪« :‬ماذا لو لم أكن مواط ًنا‬

‫وخلص إلى أن الثورات الحقيقية‪ ،‬حتى لو لم تنجح‪ ،‬هي التي‬ ‫تعترف تلقائيًّا بغيرها‪ ،‬بوصفها حاف ًزا لها على التكامل‪ .‬وهذا‬

‫محام فقط‪ .‬ك ّرر األمر ألي ضابط يستجوبك‪ .‬ال‬ ‫أريد التحدث مع‬ ‫ٍ‬

‫أميركيًّا وأوقفتني الشرطة؟»‪ ،‬فير ّد تشومسكي‪« :‬يحمل األمر هنا‬ ‫مخاطر أكبر‪ .‬تحدّث مع المحامي قبل النزول إلى االحتجاج؛‬

‫ومصر كان أقوى‪ ،‬واكتسب أبعادًا أخالقية وثقافية مغايرة‪،‬‬

‫وبأساليب قانونية‪ ،‬جذبت عموم أنظار الجمهور األميركي‪.‬‬

‫ما حاولت فعله االنتفاضات األميركية محاكاة لميادين تونس‬ ‫ّ‬ ‫المفكر األميركي إلى أن االحتجاجات في‬ ‫ومصر‪ .‬ويخلص هذا‬

‫الواليات المتحدة والعالم على توحّ ش رأس المال‪ ،‬غيّرت من‬

‫واحمل معك دائمًا اسم أحد محامي الهجرة ورقم هاتفه‪ .‬واحمل‬ ‫معك ً‬ ‫أيضا أي أوراق هجرة قد تملكها‪ ،‬مثل البطاقة الخضراء‪،‬‬

‫ً‬ ‫وخصوصا السياسيين واالقتصاديين وعلماء‬ ‫أفكار الجميع‪،‬‬

‫حركة «احتلوا وول ستريت» ردًّا كبي ًرا على ثالثين عامً ا من إطباق‬

‫هذا التغيّر الحاصل‪ ،‬بات ال أحد في أميركا يجرؤ على مناهضة‬

‫أو تأشيرة «آي – ‪ »94‬أو إجازة العمل»‪ .‬وفيما يرى تشومسكي في‬

‫السوبر أغنياء على الفقراء‪ ،‬في حرب طبقية ال مثيل لها في‬ ‫التاريخ الحديث للواليات المتحدة‪ ،‬يخلص إلى أن هذه الحركة‬ ‫ّ‬ ‫ستظل هاجس الجميع في الواليات المتحدة‪،‬‬ ‫«لن تموت‪ ،‬بل‬

‫ّ‬ ‫ولعلها‬ ‫من سياسيين واقتصاديين ومفكرين وأدباء وفنانين‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫تشكل فاصلة زمنية ذات طاقة فلسفية إيحائية برعت في إحالل‬ ‫ّ‬ ‫شكلتها»‪ .‬كما يرى أنها ّ‬ ‫محل األداة التي ّ‬ ‫تشكل تحو اًّل فكريًّا‬ ‫الرؤية‬

‫االجتماع‪ ،‬إضافة إلى األدباء والشعراء والفنانين‪ .‬ومن فرط‬

‫المحتجّ ين الساخطين‪ ،‬بل تقاطر الجميع إلى تأييدهم‪ ،‬حتى‬

‫رجال الدين؛ فهناك‪ ،‬مثلاً ‪ ،‬أكثر من ‪ 350‬رجل دين أميركي‬

‫أعلنوا تأييدهم «للربيع» األميركي‪ ،‬واستطرادًا الغربي كله‪.‬‬

‫يع ّد مايكل مور نجم حركة «احتلوا وول ستريت» وخطيبها‬

‫الجريء في حديقة «زوكوني» النيويوركية؛ إذ أعلن انضمامه إلى‬ ‫صفوف المحتجّ ين و«المضي معً ا لصناعة التاريخ الجديد»‪ .‬فلقد‬

‫‪119‬‬


‫ثقافات‬

‫حان الوقت من وجهة نظر مايكل مور‪ ،‬المخرج السينمائي الكبير‪،‬‬

‫والحائز جائزة األوسكار‪« ،‬إلى ضرورة إحداث التغيير‪ ،‬ورفض‬

‫االحتكارات الكبرى‪ ،‬ممثلة ببنوك وول ستريت‪ ،‬وبعض الشركات‬

‫الكبرى‪ ،‬ممن لها التأثير الكبير في توجيه بعض السياسات‬ ‫الكبرى للـ«اإلستبلشمنت» األميركية»‪ .‬ومما قاله مايكل مور في‬ ‫مخيم االعتصام الشعبي لحركة «احتلوا أوكالند»‪« :‬الشعوب هي‬ ‫التي تنتفض اآلن‪ ،‬رافعة الفتات تشكر تونس ومصر‪ .‬فما يجري‬

‫في العالم اليوم‪ ،‬ليس ثورات متعدّدة‪ ،‬بل ثورة واحدة ممتدة‬ ‫عبر مختلف القارات‪ .‬ويجب اّأل نستهين بهذا الذي يجري‪ ،‬فهو‬ ‫أكبر مما نتصوّر‪ ،‬وأوسع مما ندرك‪ .‬إنه دعوة جادة لنسف ما هو‬ ‫قائم‪ ،‬ورفض كل سياسات العداء بين الشعوب التي تستغلها‬ ‫فئة قليلة‪ ،‬ال ترى اّإل مصالحها فقط»‪ .‬ويردف مشي ًرا إلى فضل‬

‫االنتفاضات العربية بعد‪« :‬أرى هنا ضرورة أن ندرك أننا في وسط‬

‫حراك عالمي ال عربي فقط‪ ،‬وإن كان للعرب فضل البدء به على‬ ‫هذا النحو غير المسبوق في التاريخ الحديث»‪.‬‬

‫أحد المارة من جانب الخيمة اإلعالمية في حديقة زوكوني‪،‬‬

‫سأل أحد الناطقين اإلعالميين من حركة «احتلوا وول ستريت»‪:‬‬ ‫ما أهدافكم؟ ماذا تريدون؟ فكان الجواب‪« :‬نحن ندافع عن أميركا‬

‫ومستقبل أميركا‪ .‬أميركا هي لمواطنيها جميعً ا»‪ .‬وأجاب ناطق‬

‫‪120‬‬

‫إعالمي آخر عن السؤال عينه‪« :‬أجل لن نتوقف عن «احتالل»‬ ‫اقتصادنا‪ .‬نحن الشعب‪ ،‬واالقتصاد الذي ّ‬ ‫ينظم حياة هذه البالد هو‬

‫جورج سوروس‬

‫سوروس الذي ص ّنفته مجلة «فوربس»‬ ‫في المرتبة ‪ 27‬من أغنى أغنياء العالم‪ ،‬هو‬ ‫من يقف وراء االحتجاجات الشعبية عشية‬ ‫فوز ترمب بكرسي البيت األبيض‪ ..‬كما كان‬ ‫تبرع من قبل بمبالغ مالية هائلة لمنع‬ ‫قد ّ‬ ‫إعادة انتخاب الرئيس جورج بوش االبن‬ ‫رئاسية ثانية في عام ‪2004‬م‬ ‫لوالية‬ ‫ّ‬

‫اقتصادنا‪ .‬هو اقتصادي واقتصادك واقتصاد الجميع‪ ،‬بمن فيهم‬

‫حتى من كبار المليارديريين األميركيين‪ ،‬من طراز رجل األعمال‬

‫يخ ِّربون‪ ،‬ليس اقتصاد أميركا فقط‪ ،‬إنما أميركا نفسها‪ .‬ليس من‬ ‫حق أحد أن ي ّتهمنا بالسعي لتخريب األمن واالستقرار في بالدنا‪.‬‬

‫دوالر‪ ،‬والممثلة سوزان ساراندون‪ ،‬التي تفوق ثروتها المئة‬

‫الذين يخ ّربونه من جماعة البنوك؛ ونحن نريد أن نردعهم؛ ألنهم‬

‫نحن من يدعم‪ ،‬بحراكنا هذا‪ ،‬استقرار أميركا وأمنها ورفاه شعبها»‪.‬‬ ‫الملياردير الفيلسوف و«ربيعه» المفتوح‬

‫الكبير جورج سوروس (يحمل شهادة دكتوراه في الفلسفة)‪،‬‬ ‫ومغ ّني الراب كانييه ويست‪ ،‬الذي تتجاوز ثروته الـ‪ 90‬مليون‬ ‫مليون دوالر‪ ،‬وقد زاروا جميعً ا جمهور حركة المعتصمين في‬ ‫نيويورك وواشنطن ولوس أنجلس ّ‬ ‫(كل على حدة طبعً ا) وأعلنوا‬

‫ّ‬ ‫وحذروا السلطة المركزية األميركية‪ ،‬على‬ ‫تضامنهم معهم‪،‬‬

‫بالتأكيد يختلف «ربيع الغرب» عن «ربيع العرب»‪ ،‬الذي‬

‫المديين القريب والبعيد‪ ،‬من عدم تلبيتهم لمطالبهم‪ ،‬وقال‬

‫الشعبية العربية‪ ،‬التي باتت تتم ّنى أن تتجاوز عتمته الراهنة‬

‫يشوّهها بعض مدّعيها من جماعة الكارتيالت المالية الضخمة‪،‬‬ ‫الذين ال ينشغل ذهنهم العام‪ ،‬ويدور‪ ،‬اّإل على هاجس المال‬

‫تحوّل (أي هذا األخير) إلى كابوس دموي في نظر كثرة كاثرة‬ ‫من النخب العربية‪ ،‬ومن بعض األحزاب والتيارات والتك ّتالت‬ ‫إلى غير ما رجعة؛ فيما «الغرب النيوليبرالي»‪ ،‬وبحسب المفكر‬ ‫والناشط األميركي المعروف كورنل وست (اعتقلته الشرطة‬ ‫األميركية ثم أطلقت سراحه) سيستفيد من دروس «ربيعه‬

‫الخصوصي»‪ ،‬وإن ببطء‪ ،‬حتى ال ينغلق زمن بدايات تصدّ عه‬ ‫عليه من الداخل‪ ،‬ويخنقه‪ ،‬حتى وهو في ع ّز قوته وجبروته‪.‬‬

‫غير أن هذا ال يعني‪ ،‬وفق استنتاج كورنل وست نفسه‪ ،‬أن‬ ‫أميركا ليست مهدّدة من داخلها‪ ،‬أو أن مستقبلها آمن في ّ‬ ‫ظل‬ ‫استمرار السيطرة المطلقة ألباطرة التروستات المالية الضخمة‬ ‫ّ‬ ‫ومنظريهم من الليبراليين الجدد‪ ،‬الذين هم موضع شكوى‪،‬‬ ‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬

‫جورج سوروس بالحرف الواحد‪« :‬أنقذوا الحرية في أميركا التي‬

‫والربح كيفما اتفق‪ ،‬حتى لو تهدّ م الهيكل عليهم هم قبل‬ ‫غيرهم‪ ..‬أميركا بحاجة الى رأسمالية متوازنة‪ ،‬منفتحة وعادلة‪،‬‬ ‫تعطي الحقوق لآلخرين قبل أن تأخذ هي حقها‪ ،‬وتحافظ‪،‬‬

‫بالتالي‪ ،‬على استمرارية هذا الحق»‪.‬‬

‫والطريف أن جورج سوروس‪ ،‬الذي ص ّنفته مجلة «فوربس»‬

‫األميركية في المرتبة الـ‪ 27‬ألغنى أغنياء العالم عن السنة ‪2014‬م‪،‬‬ ‫وتقدّ ر ثروته بـ‪ 26‬مليار دوالر‪ ،‬هو الذي تصدّ ى ويتصدّ ى لتوحّ ش‬

‫زمالئه األثرياء‪ ،‬ليس في الواليات المتحدة فقط‪ ،‬إنما في‬

‫العالم أجمع؛ ولقد أعطاهم‪ ،‬ويعطيهم كل يوم الدروس تلو‬


‫وتحوالته‬ ‫«ربيع الغرب»‬ ‫ّ‬

‫ً‬ ‫خصوصا لجهة إنفاق المال الوفير على أعمال الخير‬ ‫الدروس‪،‬‬ ‫المختلفة‪ ،‬ومنها‪ ،‬على سبيل المثال ال الحصر‪ ،‬تخصيص منح‬ ‫للطالب المعوزين داخل الواليات المتحدة وخارجها‪ .‬وتقدّ ر‬

‫شبكة التلفزة األميركية ‪ pbs‬مجموع ما أنفقه جورج سوروس‬

‫على أعمال الخير حتى اآلن‪ ،‬بحوالى الـ‪ 3‬مليارات دوالر‪ .‬من جهة‬ ‫أخرى‪ ،‬كان سوروس‪ ،‬وال يزال‪ ،‬يستخدم لعبة المال السياسي‪،‬‬ ‫وبشكل علني في الواليات المتحدة؛ فلقد أنفق‪ ،‬مثلاً ‪ ،‬وبحسب‬ ‫أكثر من وسيلة إعالمية أميركية‪ ،‬ماليين الدوالرات للحيلولة‬ ‫دون إعادة انتخاب جورج بوش االبن لوالية رئاسية ثانية في‬

‫عام ‪2004‬م (وقتها أمام المرشح الديمقراطي جون كيري)‪ ،‬وهو‬

‫اليوم يُعَ دّ أحد أبرز الذين وقفوا وراء االحتجاجات التي عمّ ت‬ ‫شوارع المدن األميركية الكبرى عشية فوز دونالد ترمب بكرسي‬

‫البيت األبيض‪ .‬وقد وجّ هت لسوروس التهم العلنيّة والمباشرة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫تخطيطا‬ ‫بأنه هو وراء هذا الحراك الشعبي األميركي الساخط‪..‬‬ ‫وتمويلاً‬ ‫ً‬ ‫وتحريضا‪ .‬أما لماذا؟ فألنه وجد ويجد في رئاسة ترمب‬

‫خط ًرا على حاضر الواليات المتحدة ومستقبلها‪ ،‬وبخاصة لجهة‬ ‫آخر ما تبقى لها من حيّز ريادي للعالم‪ ،‬الذي ال يزال ماثلاً على‬

‫المستويات االقتصادية والسياسية واألمنية حتى اليوم‪.‬‬

‫ولقد انطلق الملياردير الفيلسوف سوروس من أفكار‬ ‫وتحليالت شخصية ّ‬ ‫تلخص رؤيته لألمور السياسية واالقتصادية‬ ‫واالجتماعية حوله‪ ،‬و َد َمج‪ ،‬هكذا‪ ،‬خالصاتها في رؤية ذات أبعاد‬

‫فلسفية‪ ،‬تق ّر بأن المعرفة‪ ،‬واقتصاد المعرفة‪ ،‬هما وحدهما‬ ‫ّ‬ ‫يشكالن القوة الحقيقية لثبات األمم‪ ،‬وذلك إذا ما أرادت األمم‬ ‫القوية أن تستمر وتحيا بثبات مع الزمن‪ .‬وال غرو‪ ،‬فسوروس الذي‬ ‫وصف نفسه بـ«الفيلسوف» و«صانع السياسة العالمية»‪ ،‬كان قد‬ ‫ّألف العديد من الكتب‪ ،‬من أبرزها‪« :‬كيمياء المالية القديمة»‪-‬‬ ‫‪1988‬م‪ ،‬و«خرق النظام السوفييتي»‪1990 -‬م‪ ،‬و«المجتمع‬

‫المفتوح‪ :‬إصالح الرأسمالية العالمية»‪2000 -‬م‪ ،‬و«تصحيح إساءة‬ ‫استخدام القوة األميركية»‪2005 -‬م‪ ،‬و«عواقب الحرب على‬ ‫ّ‬ ‫والمفكر‬ ‫اإلرهاب»‪2006 -‬م ‪ ...‬إلخ‪ .‬وهو من المعجبين جدًّا بالباحث‬

‫األميركي بيتر فردناند دراكر‪ ،‬الذي يميل إلى تقطيع الصيرورة‬

‫التاريخية‪ ،‬حيث يشير في كتابه‪« :‬مجتمع ما بعد الرأسمالية»‬ ‫(صدر في عام ‪1993‬م) إلى أنه تقريبًا في كل خمسين أو ستين‬

‫سنة‪ ،‬يحدث في سياق التاريخ الغربي انفصال يصل إلى ح ّد تغيير‬ ‫النظرة إلى العالم‪ ،‬وتبديل القيم األساسية والنظم االجتماعية‬ ‫واآلداب والمؤسّ سات فيه‪ ،‬اّإل في الواليات المتحدة التي ال‬

‫تعرف‪ ،‬حتى اآلن بنظره‪ ،‬سوى أن تعيد إنتاج تغوّل رأسماليتها‬ ‫الجشعة على نحو م ِّ‬ ‫ُنفر وطارد للمشروعيات على اختالفها‪،‬‬ ‫وأنه آن األوان لواشنطن أن تحسن قراءة المنعطفات الكبرى في‬ ‫التاريخ وتستفيد من انهيارات األمم الكبرى التي سبقتها‪ ،‬اّ‬ ‫وإل فإن‬

‫السقوط الكبير ينتظرها وبأسرع مما يُتصوّر‪.‬‬

‫الثورات العربية والغرب‬ ‫ّ‬ ‫سيظل عام ‪2011‬م بطبيعة الحـال‪ ،‬عامـًا مم ّي ًزا‬ ‫هكذا‬

‫في تاريخ الصراعات االجتمـاعية‪ :‬من تونس إلى الواليات‬

‫المتحدة‪ ،‬مـرورًا بإسـبانيا والبرتغال واليونان‪ ،‬وكذلك‬

‫آيسـلندا والتشيلي‪ .‬فهو يسجّ ل في الواقع العودة الكاسـحة‬

‫للشقاق والتنـازع االجتماعي؛ غير أن العصف المنبعث‬

‫من التعبئات واالسـتنفارات التي سارعت بـ«فسطاطي» بن‬ ‫علي ومبارك‪ ،‬دام واستمر اً‬ ‫بدل من أن يخمد‪ .‬بعد ذلك‬ ‫بخمس سنوات‪ ،‬عرفت هذه التجارب مصاير مختلفة‪.‬‬

‫فبعد االنتصارات االنتخابية التي حققها حزبا سيريزا في‬

‫اليونان وبوديموس في إسبانيا‪ ،‬التي نتجت عن التعبئات‬ ‫واالستنفارات التي ظهرت بعد األزمة المالية األميركية‬ ‫– ‪2008‬م و«الثورات العربية»‪ ،‬فإن عام ‪2015‬م‪ ،‬كان عام‬

‫انتقال هذه الحركات إلى مراكز المسؤولية المؤسّ ساتية‪،‬‬

‫وقد مهّدت إلى ذلك كله‪ ،‬ورافقته خطابات فكرية وأدبية‬

‫وفنية ال تحصى‪ ،‬سمّ اها الناقد اإليطالي جوليانو دي بينو‬ ‫بـ«اإلبداع الفوري الحر والمتح ّرر من تقليد كل المرجعيات‬ ‫األدبية والنقدية التقويمية السائدة»‪.‬‬

‫وعلى الغرب‪ ،‬وبالتحديد الواليات المتحدة ً‬ ‫أيضا‪..‬‬

‫ً‬ ‫وأيضا ‪ -‬كما نستنتج من جورج سوروس‪ -‬أن يشكر في‬

‫المحصلة «الثورات العربية» في براءتها األولى في تونس‬ ‫ومصر؛ ألنها ّ‬ ‫شكلت جرس إنذار له؛ كي يراجع‪ ،‬وجذريًّا‪،‬‬ ‫سياساته االقتصادية (وبخاصة المحليّة منها) اآليلة إلى‬

‫ضربه هو من داخل‪ ،‬قبل أي عامل آخر‪ .‬وما األزمة المالية‬ ‫التي عصفت بأميركا في عام ‪2008‬م اّإل الشاهد األبلغ على‬

‫ذلك‪ ،‬ثم جاءت حركات االحتجاج الصاخبة في عام ‪2011‬م‬ ‫ّ‬ ‫المحك‬ ‫لتضع هذا البلد األول في الغرب والعالم على‬ ‫الخطير‪ ،‬ومن َثمَّ تدفعه للعودة إلى المنطق الديكارتي‬ ‫الذي أسّ س لسياسات الغرب العقالنية في حدودها‬ ‫الصارمة والقصوى‪.‬‬

‫‪121‬‬


‫ثقافات‬

‫روائي ياباني يجمع بين الكتابة األدبية‬ ‫والشراسة ضد االستخدامات النووية‬

‫كنزابورو أوي‪:‬‬ ‫من دواعي سروري أن ُأقرأ ُ‬ ‫وأترجم لكن هذا‬ ‫لن يجعلني أفكر أني سأموت مرتاح البال‬ ‫تقديم وترجمة‪ :‬سعيد بوكرامي‬

‫كاتب ومترجم مغربي‬

‫تقدم األعمال المترجمة للروائي الياباني كنزابورو أوي من‬

‫اليابانية إلى اللغة الفرنسية الصادرة مؤخرًا خدمة أدبية جليلة‬

‫‪122‬‬

‫للقارئ عمومً ا‪ .‬فترجماتها رصينة وانتقاؤها دقيق‪ ،‬ترصد‬ ‫حياته وأدبه على مدار عقود عدة‪ .‬وال ينحصر اهتمام دور‬ ‫النشر العالمية بنشر أعماله فحسب‪ ،‬بل يأتي االهتمام‬ ‫ً‬ ‫أيضا من كونه شخصية ثقافية مثيرة للجدل في اليابان‪.‬‬

‫فهو يحتل اليوم واجهة اإلعالم الياباني بحكم معارضته‬

‫الشرسة لالستخدامات النووية العسكرية والمدنية‪ .‬ولد‬

‫كنزابورو أوي في عام ‪1935‬م في قرية شيكوكو من مقاطعة‬

‫إيهايم باليابان‪ ،‬وحصل على جائزة نوبل في األدب عام ‪1994‬م‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وهو واحد من الشخصيات األكثر‬ ‫نشاطا ثقافيًّا وأدبيًّا وسياسيًّا‪.‬‬

‫ألف كتا ًبا مؤلمً ا عن هيروشيما‪ ،‬نشر في عام ‪1965‬م (أعيد‬

‫إصداره مؤخرًا ضمن سلسلة كتاب الجيب)‪ ،‬وقد منحته الكارثة‬

‫البيئية واإلنسانية في فوكوشيما الفرصة لتوسيع نطاق هذا االلتزام‬

‫برفض الطاقة النووية المدنية من دون التخلي عن إنعاش الذاكرة‬

‫الجماعية‪ ،‬من ِّبهًا إلى نتائج مأساة هيروشيما وناغازاكي‪ ،‬وفي هذا‬ ‫الصدد كتب كثيرًا من المقاالت وأجرى عد ًدا من المقابالت‪،‬‬ ‫كما التمس من رئيس الوزراء التخلي عن‬ ‫الطاقة النووية وجمع أكثر من سبعة‬ ‫ماليين توقيع تؤيد موقفه‪.‬‬

‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬


‫أعمال هذا الكاتب الكبير المترجمة إلى العربية‪ ،‬لألسف‬

‫قليلة‪ .‬ال تقدم الكاتب بصورة واضحة وشاملة للقارئ‬ ‫العربي‪ ،‬وال أعلم سبب تهرب المترجمين من أعماله على‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وعالمية من أعمال غيره من‬ ‫أدبية‬ ‫الرغم من أنها أكثر‬

‫ً‬ ‫خصوصا الشباب‪ .‬من رواياته التي‬ ‫الروائيين اليابانيين‪،‬‬

‫ترجمت إلى العربية‪« :‬علمنا أن نتجاوز جنوننا» (دار اآلداب)‬ ‫بترجمة كامل يوسف حسين‪ ،‬و«مسألة شخصية» (مؤسسة‬

‫األبحاث العربية) ترجمة وديع سعادة‪ ،‬و«الصرخة الصامتة»‬ ‫(دار المدى) ترجمة سعدي يوسف‪.‬‬

‫عشت على عدم االهتمام بما يمكن أن‬ ‫وأيا كان النظام‬ ‫يفكر فيه اإلمبراطور‪ًّ .‬‬ ‫اإلمبراطوري‪ ،‬ال بد من إزالته من‬ ‫الدستور‪ .‬أنا أنتقد بشدة حكومة شينزو‬ ‫آبي الذي ينوي تغيير الدستور‪ ،‬وأال‬ ‫مسالما ال يستخدم الحرب‬ ‫يبقى البلد‬ ‫ً‬ ‫كأداة ضد بلدان أجنبية‬

‫وفي أحد أيام هذا الصيف القائظ تلقى كنزابورو أوي‬

‫■ كنزابورو أوي‪ :‬فوجئت كثي ًرا عندما قيل لي‪ :‬إن ‪1300‬‬ ‫صفحة من أعمالي ُنشرت في دار غاليمار‪ ،‬وما زلت متأث ًرا‬

‫النشيط والكلمة اليقظة المتنقلة بين األدب وااللتزام‬

‫أن األمر يتعلق بكتاب وبصورة كاتب‪ ،‬لكن كنت أعتقد أنها‬ ‫تمثل ً‬ ‫ّ‬ ‫خاص جدًّ ا بي‪ .‬أنت تعلم أن في‬ ‫أيضا حياتي‪ .‬إنه شيء‬

‫وهو محاط بزوجته يوكاري وابنه هيكاري‪ ،‬عشرات الكتب‬

‫والصفحات المسودة وضعت فوق طاولة منخفضة وسط‬ ‫ً‬ ‫تاريخا من الفكر‬ ‫بهو منزله‪ .‬كانت تلك األوراق تجسد‬ ‫االجتماعي‪ .‬تأملها النوبلي كنزابورو أوي مبهورًا‪ ،‬فقد بلغ‬

‫عدد الصفحات أكثر من ‪ 1300‬صفحة قامت بترجمتها دار‬

‫ً‬ ‫خصوصا ضمن‬ ‫بذلك‪ .‬ولعل هذه هي أعظم هدية في حياتي‪،‬‬ ‫اً‬ ‫أعمال كالسيكية‪ .‬أشعر حقاًّ‬ ‫سلسلة «كوارتو»؛ ألنها تضم‬

‫اليابان‪ ،‬نحن نتحدث «الوتاكوتشي شوسيتسو»‪« ،‬الرواية‬

‫غاليمار الفرنسية عن أعماله‪ .‬منها القصة القصيرة والرواية‬

‫بضمير المتكلم» لكن هذا ال يعكس حياة الفرد‪ .‬هذه الرواية‪،‬‬

‫حلة تليق بهذا الكاتب الفريد‪.‬‬

‫الكاتب الذي يعيش عادة في طوكيو‪ ،‬ليست سيرة ذاتية‪ .‬في‬

‫والمقاالت األدبية‪ .‬كبداية لخطة نشر أعماله الكاملة في‬

‫التي تكتب بضمير المتكلم وشخصيتها األساسية هي تخص‬

‫يبلغ اليوم كنزابورو أوي ‪ 82‬عامً ا‪ ،‬وال يزال آخر عمالقة‬

‫هذا النوع من الرواية اليابانية‪ ،‬تروى باألحرى تفاصيل الحياة‬

‫الرواية في اليابان يعيد النظر بصبر وعمق في طفولته وحياته‬ ‫الفريدة ككاتب وأب لطفل معاق ومثقف ملتزم بقضايا‬

‫● أرنو فولران‪ :‬لكنك ال تنتمي إلى هذه المدرسة‪.‬‬

‫األدبي المهم أجرى مراسل صحيفة ليبراسيون الفرنسية في‬

‫المتكلم؛ ألن عملي يستند إلى نقد هذا النوع من الرواية‪ .‬على‬ ‫ً‬ ‫معروفا ونال‬ ‫سبيل المثال‪ ،‬ناويا شيغا [‪1971-1883‬م] أصبح‬

‫مصيرية تهم بالده ومستقبل العالم‪ .‬على هامش هذا الحدث‬

‫اليابان الكاتب والصحافي أرنو فولران مؤخ ًرا حوارًا مهمًّ ا مع‬

‫كنزابورو أوي‪ ،‬هنا ترجمة له من الفرنسية‪.‬‬ ‫الرواية بضمير المتكلم‬

‫● أرنو فولران‪ :‬ما رأيك في نشر مختارات من أعمالك‪،‬‬

‫تحاول رسم صورة اإلنسان والكاتب‪ ،‬إن لم نقل صورة‬ ‫الحياة؟‬

‫■ كنزابورو أوي‪ :‬لم أكن أنوي أن أكتب رواية بضمير‬

‫التقدير ألنه كتب بضمير المتكلم‪ .‬عندما نقرأ رواياته‪ ،‬نكتشف‬ ‫أخي ًرا الصورة الشخصية الحقيقية للكاتب‪ .‬إن الذين اشتغلوا على‬

‫ً‬ ‫انطباعا بأنهم يقومون بالتقاط صور‬ ‫هذا النوع من الرواية يعطوننا‬ ‫عن حياتهم وتحويلها إلى كلمات‪ .‬لكن في وقت ما بعد الحرب‬ ‫حاول ُ‬ ‫الكتاب أن يجدوا ويحللوا اإلنسان الذي يكتب للتمعن‬ ‫في أين يمكن أن نذهب بالتفكير في كيفية حياته وموته‪ ،‬وهذا‬ ‫ً‬ ‫انطالقا من قراءتي لألدب األوربي‪ ،‬بدا‬ ‫ما حاولت أن أقوم به‪.‬‬

‫من المهم تطوير الكتابة للنظر إلى العالم بطريقة أكثر شمولية‬ ‫ً‬ ‫واتساعا‪ .‬لقد بدأت بكتابة قصص قصيرة حول موضوعات أصيلة‪.‬‬

‫ثم ولد هيكاري بإعاقة [ولد الطفل األول لكنزابورو أوي في‬

‫‪1963‬م بإعاقة ذهنية] فغيرت تمامً ا مشروعي‪ .‬فقلت في نفسي‪:‬‬ ‫«ستكون حياتي معه هي موضوع كتابتي»‪ .‬هذا الوضع األصيل‬ ‫الذي بحثت عنه في قصصي وجدته في حياتي الخاصة‪ .‬وهذا ما‬

‫سمح لي حقيقة بأن أكتب عندما قررت صحبة زوجتي القبول‬ ‫والعيش رفقة هذا الطفل‪ .‬وهكذا ُق ِب ُ‬ ‫لت ككاتب وس َّرني كذلك أن‬ ‫المختارات من أعمالي اتخذت سمة التأريخ للكتاب واإلنسان‪.‬‬

‫‪123‬‬


‫ثقافات‬

‫● أرنو فولران‪ :‬لكن‪ ،‬على كل حال‪ ،‬هل أنت سعيد؟‬

‫■ كنزابورو أوي‪ :‬لو قيل لي‪ :‬إن هذا المصير جيد لي‪،‬‬

‫كنا نتحدث عن االلتزام تجاه المجتمع الذي نعيش فيه‪ ،‬فمن‬

‫سيمفونيته في ألمانيا منذ شهور ‪ -‬المترجم)‪ ،‬منذ ثالث‬

‫أكون ملتزمً ا‪ ،‬ثم شعرت أن األدب الذي كنت أكتبه ال يمكن أن‬

‫طوال اليوم كطائر‪ .‬وكان مثل الطفل يستمتع بأسرار اليقظة‪،‬‬ ‫وأعتقد أنه في يوم من األيام سيموت مبك ًرا أو عجو ًزا‪ ،‬لكنه‬

‫● أرنو فولران‪ :‬في هذه المختارات نجد المجموعة‬

‫رغم كل شيء‪ ،‬عشت حياتي مع تجارب صعبة‪ ،‬لحظات‬

‫تحكي قصة مراهق ممزق بين دوافعه الغريزية والسياسية‬

‫سأرغب دائمً ا في أن أقول‪ :‬ال‪ .‬أشعر ببعض األشياء‪ .‬اآلن‬ ‫ً‬ ‫مؤلفا للموسيقا‪ ،‬وقد ُعزفت‬ ‫عمر هيكاري ‪ 53‬عامً ا (يعمل‬

‫سنوات‪ ،‬وأنا أشعر أنه أصبح أكثر قتامة‪ .‬من قبل كان يتحدث‬

‫سيموت بروح طفل‪ .‬وأظن إلى جانب هذه الحياة السعيدة‬ ‫مفجعة؛ لذلك بدأت الكتابة عن هذه الحياة في رواياتي‪،‬‬

‫فمن الواضح أني أقدم تجارب حياة ليست دائمً ا مرحة‪.‬‬

‫هناك دائمً ا في معظم رواياتي شكل من أشكال الفكاهة وهي‬ ‫تأتي من هيكاري‪ ،‬ومن عالقتنا‪ .‬لقد عشت وأنا ال أفعل شي ًئا‬ ‫غير الكتابة‪ ،‬فتمكنت من أن أذهب إلى الجامعات‪ ،‬وتقديم‬

‫المحاضرات‪ .‬عشت حياة أخرى غير حياة المدرِّس‪ .‬من خالل‬ ‫كل ذلك‪ ،‬تحدثت ً‬ ‫أيضا عن قريتي وطفولتي‪ .‬أعتقد أن هذا هو‬ ‫ً‬ ‫أيضا السبب في أن بعض القراء يُبدون اهتمامً ا بكتاباتي‪.‬‬

‫‪124‬‬

‫كازو واتانابي‪ ،‬وهو مدرس‪ ،‬خبير ومترجم رصين لرابليه‪ .‬إذا‬

‫شأن العمل بالكتابة أن يدفعك بالضرورة إلى التساؤل عن‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫اليابان‪ ،‬والتساؤل ً‬ ‫عوضا عن أن‬ ‫عارضا‪،‬‬ ‫أيضا عما إذا كنت‬ ‫يكون محدودًا‪ ،‬وأنه يجب أن ينفتح على اليابان وآسيا‪.‬‬

‫القصصة «سبعة عشر» التي لم يسبق نشرها في فرنسا‪،‬‬

‫والوجودية‪ .‬كانت هذه المجموعة القصصية التي تتكون من ‪90‬‬ ‫صفحة مثيرة للجدل في الستينيات؛ ما مكانتها بين منجزك؟‬

‫■ كنزابورو أوي‪ :‬إنها عمل مهم لي؛ ألن األمر يتعلق‬

‫بشاب يعيش في المجتمع المدني الياباني‪ .‬احتلت هذه‬

‫الشخصية العادية التي قامت بعمل إرهابي مكانة مهمة في‬ ‫تفكيري‪ .‬بكتابة هذه القصة‪ ،‬بدأ شيء ما يتغير بداخلي‪ ،‬إنها‬ ‫نقطة البداية‪.‬‬

‫● أرنو فولران‪ :‬كنت في الثانية والعشرين عندما‬ ‫نشرت عملاً غريبًا؛ هل كنت تشعر أنك كاتب؟‬ ‫■ كنزابورو أوي‪ :‬ال‪ .‬كنت أقرأ كثي ًرا من الروايات‪ ،‬كنت‬ ‫قادمً ا من القرية أشبه شابًّا بين األطفال‪ُ .‬توفي والدي مبك ًرا‬

‫جدًّ ا [في عام ‪1944‬م‪ ،‬وربما بسبب نوبة قلبية]‪ ،‬لكني لم أكن‬ ‫على عالقة بكبار القرية‪ ،‬كما لم أشعر بأني أنتمي إلى دائرة‬ ‫األطفال‪ .‬كنت أقرأ فقط‪ .‬ثم جئت للدراسة في طوكيو‪ ،‬التقيت‬

‫كنزابورو أوي في مسيرة مناهضة للطاقة النووية‪ ،‬طوكيو ‪2011‬م‬

‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬


‫كنزابورو أوي‪ ..‬روائي ياباني يجمع بين الكتابة األدبية والشراسة‬

‫كنزابورو مع ابنه سنة ‪1935‬م‬

‫أب وحياته مع ابنه في طوكيو‬

‫● أرنو فولران‪ :‬في «نشيد الذكرى» القصيدة الجميلة‪،‬‬

‫تكتب «ما زلت ال أعرف ماذا سأقول للشاب الذي كنته»‬ ‫نشعر بكثير من الفشل في هذه الجملة‪.‬‬

‫■ كنزابورو أوي‪ :‬تحدثت للتو عن االنفتاح على العالم‪ ،‬لكن‬

‫كتابتي ال تزال في إطار محدود‪ ،‬عن أب وحياته مع ابنه في طوكيو‪.‬‬

‫ال أكتب وفي ذهني تصور كي أكون موضع تقدير أو فهم في الخارج‪.‬‬ ‫إنه لمن دواعي سروري أن أُقرأ وأُترجم‪ ،‬لكن هذا لن يمأل حياة أو‬

‫انطالقا من قراءتي لألدب األوربي‪ ،‬بدا‬ ‫ً‬ ‫المهم تطوير الكتابة للنظر إلى‬ ‫من‬ ‫ّ‬ ‫واتساعا‬ ‫العالم بطريقة أكثر شمولية‬ ‫ً‬ ‫يقوله اإلمبراطور‪ ،‬أو النظر فيما إذا كان جيدً ا أم ال‪ .‬اإلمبراطور‬

‫اإلله صاحب السلطة المطلقة تركناه خلفنا جميعً ا‪ ،‬لقد انتهى‬ ‫في عام ‪1945‬م‪ .‬وتوفي‪ ،‬ولم يعد إلهًا‪ .‬عشت على عدم االهتمام‬

‫يجعلني أفكر في أني سأموت مرتاح البال‪ .‬أعتقد أني سأعيش‬

‫بما يمكن أن يفكر فيه اإلمبراطور‪ .‬وأيًّا كان النظام اإلمبراطوري‪،‬‬

‫نشاطي الفكري طبيعي إلى حد ما‪ .‬من يومين أدركت أنني لم أمارس‬

‫الذي ينوي تغيير الدستور‪ ،‬وأال يبقى البلد مسالمً ا ال يستخدم‬

‫خمس سنوات أخرى ولمدة سنتين أو ثالث سنوات أخرى سيكون‬

‫رياضة الجري منذ عام‪ .‬لهذا ارتديت بذلة رياضية وركضت لمدة‬ ‫عشر دقائق‪ .‬عندما نركض‪ ،‬هناك لحظة نرتفع فيها‪ ،‬وأنا أحب هذه‬

‫اللحظة القصيرة جدًّا التي نرتفع فيها عن سطح األرض‪ .‬لقد أدركت‬ ‫أنه حتى في سن متقدمة‪ ،‬يمكن أن نركض‪ .‬وهذا منحني شعورًا‬

‫بالفرح والوضوح في حياتي‪ .‬اإلنسان هو ذلك الشخص الذي يسمو‬ ‫عن سطح األرض‪ .‬وبهذه الطريقة عدت مرة أخرى بشريًّا‪.‬‬

‫ال بد من إزالته من الدستور‪ .‬أنا أنتقد بشدة حكومة شينزو آبي‬ ‫الحرب كأداة ضد بلدان أجنبية‪.‬‬

‫● أرنو فولران‪ :‬هل ستصبح اليابان «دولة طبيعية»‬

‫ً‬ ‫وفقا للرغبة التي عبّر عنها شينزو آبي؟‬

‫ً‬ ‫جيشا يسمى قوات‬ ‫■ كنزابورو أوي‪ :‬بالفعل تملك اليابان‬

‫الدفاع الذاتي‪ ،‬وهناك جيش أميركي لديه قنبلة نووية مزروعة في‬

‫● أرنو فولران‪ :‬أنت معارض للنظام اإلمبراطوري منذ‬

‫اليابان‪ .‬ويبدو هذان األمران مخالفين للدستور‪ .‬إذا آبي‪ ،‬أو رئيس‬ ‫الوزراء المقبل‪َّ ،‬‬ ‫تمكن من تعديل الدستور بموافقة الشعب‪،‬‬

‫المعروضة من اإلمبراطور أكيهيتو‪ ،‬في ذكرى انتهاء الحرب‬

‫وأن يصبح لليابان سالح نووي على الفور‪ .‬في كوريا‪ ،‬هناك نقاش‬

‫وقت طويل‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬عبرت عن رضاك من دعوة السالم‬

‫سيكون من السهل جدًّا تحويل جيش قوات الدفاع الذاتي الحقيقي‬

‫العالمية الثانية؟‬ ‫لاً‬ ‫■ كنزابورو أوي‪ :‬عندما كنت طف ‪ ،‬كل صباح في المدرسة‪،‬‬

‫حول هذا الموضوع‪ ،‬وبطبيعة الحال‪ ،‬أنا أعارض‪ .‬يمكن أن تصبح‬ ‫ً‬ ‫مكانا لحرب نووية‪ .‬إذا تغير الدستور‪ ،‬لن نكون في‬ ‫المنطقة قريبًا‬

‫ال أعرف‪ .‬على كل حال‪ ،‬كان لديّ انطباع أني أعرف‪ ،‬أن هناك‬

‫كان هناك استفتاء‪ ،‬وقرر الشعب الياباني دعم مواقف «آبي»‪ .‬وأنا‬

‫كنا نسجد في الهيكل لإلله اإلمبراطور‪ .‬هل كنت أومن بذلك؟‬ ‫ً‬ ‫شخصا مقدسً ا فوق الجميع‪ .‬لم نفكر قط في أن نعطي قيمة لما‬

‫عالم يمكن أن نحقق فيه السالم‪ .‬ستكون هذه هي نهاية اليابان إذا‬

‫على استعداد للنزول كل يوم إلى الشوارع لمعارضة ذلك‪.‬‬

‫‪125‬‬


‫مقال‬

‫زكي الميالد‬ ‫كاتب سعودي‬

‫لم يعد ألوربا ما تقدمه للعرب‪..‬‬ ‫أطروحة بحاجة إلى التفات‬ ‫العالم العربي ليس خاليًا من األطروحات الجادة‬

‫والمهمة على أقسامها الفكرية واالجتماعية واالقتصادية‬

‫الدكتور زيادة أن أوربا قدمت ما عندها من األفكار الكبرى‬

‫تكمن في واحدة من ثالثة أمور تتصل وتنفصل‪ ،‬منها‬

‫والقومية واالشتراكية والليبرالية وحقوق اإلنسان‪ ،‬ولم تعد‬

‫والتربوية وغيرها‪ ،‬لكن المشكلة مع هذه األطروحات‬ ‫أننا ال نحسن طريقة التعبير عن هذه األطروحات‪،‬‬

‫فنقدمها بشكل باهت ال يلفت االنتباه لها‪ .‬ومنها أننا‬ ‫ال نظهر هذه األطروحات بثقة عالية‪ ،‬وال نتعامل‬

‫‪126‬‬

‫بأوربا‪ ،‬والثاني له عالقة بالعرب‪ ،‬بشأن األمر األول‪ ،‬يرى‬

‫معها بهذه الثقة العالية‪ ،‬متمسكين بهذا الوصف‪،‬‬

‫وصف األطروحة وجازمين به‪ ،‬ومنها أننا ال نتنبه لهذه‬

‫األطروحات حين تظهر‪ ،‬فتمر من دون أن تعرف بالقدر‬

‫الكافي‪ ،‬وتمضي وتنكمش من دون أن تحدث دهشة‬ ‫أو تأثي ًرا‪.‬‬

‫تحصل هذه الحال‪ ،‬في الوقت الذي يتساءل فيه‬

‫بعض‪ :‬هل توجد أطروحات جادة في المجال العربي؟‬ ‫وبطريقة أخرى من التساؤل المزدوج‪ :‬لماذا ال توجد‬

‫أطروحات جادة في المجال العربي؟ ولماذا تأتي‬

‫األطروحات الجادة من الخارج وال تأتي من الداخل‬

‫العربي؟ وفي إدراك بعض أننا بحاجة إلى أطروحات‬ ‫جادة تفتح لنا ً‬ ‫ً‬ ‫نقاشا‪،‬‬ ‫أفقا‪ ،‬وتحرك ساك ًنا‪ ،‬وتنشط‬

‫التي أثارت دهشة العالم‪ ،‬كالحداثة والديمقراطية والعقالنية‬ ‫أوربا كما كانت باألمس مصدر إشعاع وإلهام وتأثير‪.‬‬

‫وبشأن األمر الثاني‪ ،‬يرى الدكتور زيادة أن العرب قد‬

‫ربطتهم عالقات طويلة بأوربا‪ ،‬واعتمدوا عليها‪ ،‬وأخذوا منها‬ ‫كثي ًرا‪ ،‬وحان الوقت الذي يغيرون فيه المسلك والمسار‪،‬‬

‫واالتجاه نحو االعتماد على أنفسهم‪ ،‬والنظر إلى ذاتهم بعيدً ا‬ ‫من سحر أوربا واالرتهان والتبعية لها‪ ،‬وبات على العرب أن‬

‫ينشئوا أفكارهم وأال يعتمدوا على أوربا‪.‬‬ ‫خالد زيادة وأوربا‬

‫وما هو جدير باإلشارة أن هذه األطروحة قد اتصلت عند‬

‫الدكتور زيادة بسياق من البحث الفكري والتاريخي الممتد‬

‫لعقود عدة‪ ،‬تطورت فيه وتراكمت المعرفة والخبرة‪ ،‬ومثل‬

‫له حقل دراسة واختصاص علمي وأكاديمي‪ ،‬يرجع إلى سنة‬

‫‪1980‬م حين ناقش الدكتور زيادة رسالته للدكتوراه في جامعة‬

‫وتثير دهشة‪ ،‬لكن من دون االلتفات إلى األطروحات التي‬

‫السوربون الفرنسية‪ ،‬وكانت بعنوان‪« :‬المؤثرات الفرنسية‬ ‫ً‬ ‫الحقا‬ ‫على العثمانيين في القرن الثامن عشر»‪ ،‬وصدرت‬

‫المهمة التي بحاجة إلى التفات‪ ،‬أطروحة المؤرخ‬

‫وفي سنة ‪2010‬م صدر الكتاب في القاهرة بعنوان آخر هو‪:‬‬

‫تظهر أو حين تظهر عندنا وفي مجالنا‪ .‬ومن األطروحات‬

‫في كتاب سنة ‪1981‬م بعنوان‪« :‬اكتشاف التقدم األوربي»‪،‬‬

‫اللبناني الدكتور خالد زيادة التي حددها بقوله‪« :‬لم يعد‬ ‫ً‬ ‫عنوانا لكتابه الصادر‬ ‫ألوربا ما تقدمه للعرب»‪ ،‬وجاءت‬

‫الدكتور زيادة كتابًا له طابع الرصد والتتبع والتوثيق‪ ،‬حمل‬

‫‪2015‬م‪ ،‬وأراد منها في المنظور الكلي تغيير النظرة إلى‬

‫االهتمام ولم ينقطع‪ ،‬وتجدد مع هذه األطروحة‪.‬‬

‫في طبعته األولى سنة ‪2013‬م‪ ،‬وفي طبعته الثانية سنة‬

‫أوربا من جهة‪ ،‬وتغيير النظرة ألنفسنا من جهة أخرى‪.‬‬ ‫ً‬ ‫فحصا وتأملاً ‪ ،‬يمكن‬ ‫وعند النظر في هذه األطروحة‬

‫القول‪ :‬إنها ترتكز على أمرين أساسين‪ :‬األول له عالقة‬

‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬

‫«المسلمون والحداثة األوربية»‪ ،‬وفي سنة ‪1983‬م أصدر‬

‫عنوان‪« :‬تطور النظرة اإلسالمية إلى أوربا»‪ ،‬وتواصل عنده هذا‬ ‫وأظن أن هذه األطروحة لو جاءت من أحد الغربيين‬

‫لكان لها شأن آخر‪ ،‬ولجرى التعامل معها بطريقة مختلفة‪،‬‬ ‫وألخذت حي ًزا أكبر من االلتفات‪ ،‬ولبالغنا في االهتمام بها‬


‫اً‬ ‫ً‬ ‫وسجال‪ ،‬ولوجدنا فيها ما‬ ‫ونقاشا‪ ،‬ونقدً ا‬ ‫واالنشغال كتابة‬

‫ت الحال عندنا في العادة‪ ،‬فما يثير‬ ‫يثير الدهشة‪ ،‬هكذا ج َر ِ‬

‫اهتمام الغربيين يحرك االهتمام عندنا في الغالب‪ ،‬ولعً ا بتأثير‬

‫الغالب على المغلوب حسب المقولة الخلدونية القديمة‪.‬‬ ‫وكنت قد ناقشت هذه األطروحة من قبل‪ ،‬وتواصلت‬

‫في هذا النقاش مع الدكتور زيادة‪ ،‬وأعطيت هذه األطروحة‬

‫آنذاك صفة المقولة‪ ،‬لكني وجدت أنها تستحق صفة‬

‫األطروحة كذلك‪ ،‬وذلك لطبيعة السياق الفكري والتاريخي‬

‫الذي اتصلت به‪.‬‬

‫والجديد الذي أود لفت االنتباه إليه‪ ،‬هو أنني وجدت‬

‫تأكيدات مهمة على هذه األطروحة من األوربيين أنفسهم‪،‬‬

‫وهم يتحدثون عن حالهم الفكري والفلسفي والسياسي‬

‫سودير هازاريسنج‬

‫والحضاري‪ ،‬بشكل يشير إلى أن أوربا قد تغيرت صورتها في‬

‫الداخل‪ ،‬ولم تعد بذلك اإلشعاع الذي كانت عليه من قبل‪،‬‬

‫بل لم يعد لها ما ِّ‬ ‫تقدمه لغيرها من األمم والمجتمعات‬

‫يشر إليه الدكتور زيادة‪ ،‬ومثل ً‬ ‫نقصا‬ ‫األخرى‪ ،‬وهذا ما لم ِ‬ ‫واضحً ا في بنية أطروحته‪.‬‬

‫ومن أوضح هذه التأكيدات الفكرية والفلسفية‬

‫وأبلغها‪ ،‬ما ذكره عضو األكاديمية البريطانية الدكتور سودير‬

‫هازاريسنج في مقالته المهمة المنشورة باللغة اإلنجليزية في‬

‫يونيو ‪2015‬م‪ ،‬وفي ترجمتها العربية في مجلة الثقافة العالمية‬ ‫الكويتية يناير‪ -‬فبراير ‪2016‬م‪ ،‬بعنوان‪« :‬ما تبقى من الفكر‬

‫تغيرت صورة أوربا في الداخل‪ ،‬ولم تعد‬ ‫بذلك اإلشعاع الذي كانت عليه من قبل‪،‬‬ ‫بل لم يعد لها ما تقدمه لغيرها من‬ ‫األمم والمجتمعات األخرى‬

‫‪127‬‬ ‫صورة فرنسا‬

‫وباالنتقال إلى أوربا‪ ،‬يرى سودير أن هذا التراجع‬

‫المزدهر‪ ..‬إلى أين انتهى الفالسفة الفرنسيون العظام؟»‪.‬‬

‫الفكري ال يقتصر على فرنسا بمفردها؛ إذ على الرغم من‬

‫ترجمتها العربية‪ ،‬حاول الدكتور سودير الكشف عن حالة‬

‫حركة سيرنيرا اليونانية وبوديموس‪ ،‬فإن تأثير حركات آفاق‬

‫في هذه المقالة التي فاقت عشر صفحات حسب‬

‫التراجع الفكري لفرنسا بصورة خاصة‪ ،‬وتأثير ذلك في أوربا‬

‫نجاح الحركات الراديكالية الشعبية في االنتخابات مثل‬

‫اإلصالحيين والتقدميين تضاءل عبر أوربا كلها منذ نهايات‬

‫بصورة عامة‪ ،‬وحسب قوله‪« :‬يعاني الفكر الفرنسي المعاصر‬ ‫الركود الشديد فعلاً ‪ ،‬فالفلسفة الفرنسية التي قدمت‬

‫فرنسا؛ ألن صورة فرنسا ارتبطت وجوديًّا مع التفوق الفكري‪،‬‬

‫قبيل‪ :‬العقالنية‪ ،‬والنزعة الجمهورية‪ ،‬والفلسفة النسوية‪،‬‬

‫عالمية‪ ...‬ولكون الكيان الثقافي األهم لفرنسا يمثل حالة‬

‫يعد لديها إال أقل القليل لتقدمه في العقود األخيرة»‪.‬‬ ‫وتعزي ًزا لهذا الموقف‪ ،‬يرى الدكتور سودير أن الفكر‬

‫والف ًتا هو‪« :‬هل تخرج أوربا من التاريخ؟»‪.‬‬

‫تيارات فلسفية ومذاهب جسورة‪ ،‬اجتاحت العالم من‬

‫والمذهب الوضعي‪ ،‬والفلسفة الوجودية‪ ،‬والبنيوية‪ ،‬لم‬

‫الفرنسي لم يعد يمثل مرجعية مركزية للتقدميين حول‬

‫القرن العشرين‪ ،‬غير أن هذه الظاهرة تجلت بصورة حادة في‬ ‫ومع الفرض القائل‪ :‬إن األفكار الفرنسية تحظى بجاذبية‬

‫فريدة في الثقافة األوربية‪ .‬وليس بعيدً ا من هذا السياق كتاب‬ ‫ً‬ ‫عنوانا مثي ًرا‬ ‫السياسي الفرنسي جان شوفنمان الذي اختار له‬ ‫ويتصل بهذا السياق كذلك‪ ،‬صعود جماعات اليمين‬

‫العالم‪ ،‬فالثورات االجتماعية التي أدت إلى سقوط األنظمة‬

‫المتطرف في أوربا الذي قلب صورة أوربا في العالم‪ ،‬وكشف‬

‫العالم العربي‪ ،‬لم تستلهم التقاليد الفكرية الفرنسية‪ ،‬وهو‬ ‫ً‬ ‫فراغا فكريًّا‪ ...‬وقد قرعت مجلة األدب ‪Magazine‬‬ ‫ما يمثل‬

‫وصف العجوز على أوربا‪ ،‬هذه بعض الدالئل المهمة‪ ،‬وال‬

‫شك أن ما يعرفه األوربيون عن أنفسهم أكثر بكثير‪ ،‬وهناك‬

‫فرنسا تفكر؟»‪.‬‬

‫القول‪ :‬إن أوربا لم يعد لها ما تقدمه للعرب‪.‬‬

‫الشيوعية في شرق أوربا‪ ،‬وتحدي األنظمة السلطوية في‬

‫‪ litteraire‬أجراس الخطر بعنوان مفزع هو‪« :‬هل ال تزال‬

‫كيف أن أوربا تتغير من الداخل‪ ،‬وليس بعيدً ا من ذلك إطالق‬

‫دالئل أخرى ستتكشف مع توالي األيام‪ ،‬تجعل من الممكن‬


‫إصدارات‬

‫سبينوزا والكتاب المقدس‬ ‫المؤلف‪ :‬جالل الدين سعيد‬ ‫الناشر‪ :‬مؤمنون بال حدود‬

‫ّ‬ ‫الحق في بناء هويّة الجماعة سياسيًّا ودينيًّا‪.‬‬ ‫ال ينكر سبينوزا الدور الذي يلعبه الدين‬

‫فالعقل والدين يسعيان إلى الهدف نفسه؛ والمتمثل بتنظيم حياة الناس‪ .‬لكنّ هناك حدودًا‬

‫للعقل وحدودًا للدين‪ ،‬وهي حدود موضوعية‪ ،‬حيث توجد صعوبة في العمل بتعاليمهما‬ ‫الحل ً‬ ‫ّ‬ ‫إذا؟ وعالمَ يقوم‬ ‫ومبادئهما‪ ،‬صعوبة عمليّة يشهد بها التاريخ وتق ّرها التجربة‪ .‬فما‬ ‫تصوّر سبينوزا لنظام الحياة في الدين والمجتمع ونظام الحكم في الدولة؟‬

‫االتحاد الخليجي‪ ..‬وجهات نظر دولية‬ ‫المؤلف‪ :‬مجموعة باحثين‬ ‫الناشر‪ :‬مدارك‪ ،‬المسبار‬

‫تناولت وجهات النظر في الكتاب جملة التحديات السياسية واالقتصادية واالجتماعية‪.‬‬

‫شارك في الكتاب خبراء غربيون تخصصوا في دراسة المنطقة‪ ،‬وغطت دراساتهم مواقف‬ ‫دول الجوار‪ ،‬والمنظمات العالمية‪ ،‬وتصوراتهم لالتحاد‪ ،‬بدءً ا بموقف الواليات المتحدة‬

‫األميركية‪ ،‬واالتحاد األوربي مرورًا بإيران وإسرائيل‪ ،‬وتركيا‪ ،‬إضافة إلى روسيا والصين‪ ،‬كما‬

‫تناول دراسة نموذج تالفي اآلباء المؤسسين لالتحاد األوربي مشاكله‪ ،‬وختامً ا دور الشباب‬

‫‪128‬‬

‫الخليجي في دعم تأسيس االتحاد‪.‬‬

‫اإلخوان المسلمون وحركة النهضة‬ ‫المؤلف‪ :‬أليسون بارغيتر ‬

‫ترجمة‪ :‬إبتسام بن خضراء‬

‫الناشر‪ :‬دار الساقي‬

‫في الكتاب ِّ‬ ‫ّ‬ ‫متخصصة في سياسات‬ ‫تقدم بارغيتر المحللة السياسية البريطانية التي تعمل‬

‫الشرق األوسط وشمال إفريقيا وفي اإلسالم السياسي‪ ،‬باالعتماد على مقابالتها مع كبار‬ ‫أعضاء «اإلخوان المسلمون» و«حركة النهضة»‪ ،‬تحليلاً‬ ‫ً‬ ‫مقارنا لحركة «اإلخوان» في شمال‬

‫إفريقيا وتشرح عواقب سقوطها على المنطقة‪ ،‬وعلى المشروع السياسي اإلسالمي الكبير‪.‬‬

‫جدل اإلنسان والطبيعة‬ ‫المؤلف‪ :‬يوسف أشلحي‬ ‫الناشر‪ :‬دار ابن النديم‪ ،‬ودار الروافد‬

‫في كنف الطبيعة تبلورت قدرات اإلنسان وترعرعت طموحاته وتعدّدت نزوعاته‪ ،‬حينئذ‬

‫بسط اإلنسان سلطته على المجال‪ ،‬وسعى بشكل حثيث للبرهنة على أنه صاحب السيادة ومالك‬ ‫مفاتيح لتسخير عناصر الطبيعة‪ .‬بهذا االعتبار‪ ،‬ستمسي الطبيعة مج ّرد موضوع تابع‪ ،‬كأنها‬

‫وجدت في األصل لكي تشايع رغبات اإلنسان‪ ،‬ولم يعد األخير مج ّرد جزء ال يتجزأ من نسق‬

‫الطبيعة‪ ،‬بقدر ما صار عنص ًرا متعاليًا على النظام الطبيعي‪ ،‬وتضافرت أمامه السبل لكي يعيد‬ ‫ترتيب منزلته ضمن هذا النسق‪ ،‬ليك ّرس بفعل ذلك ضربًا من العالقة التراتبية أو قل الهرمية‪.‬‬

‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬


‫قوة الكلمات‪ :‬حوارات وأفكار‬ ‫ترجمة وتقديم‪ :‬لطفية الدليمي‬ ‫الناشر‪ :‬دار المدى‬

‫يضم الكتاب ترجمة مجموعة من الحوارات‪ ‬واألفكار لنخبة من المفكرين والفالسفة‪.‬‬

‫وتقول المترجمة في مقدمتها‪ :‬شكلت عالقة األدب بالفلسفة وتأريخ األفكار واالشتغاالت‪ ‬‬

‫هاجسا لم تخفت جذوته‬ ‫المعرفية األخرى – إلى جانب عالم الرواية والترجمة والسيرة –‬ ‫ً‬ ‫المتقدة في عقلي منذ أن بدأت تعاطي الكتابة اإلبداعية بأشكالها المعروفة كافة‪ ،‬وكان‬ ‫السياق الذي حرصت عليه دومً ا هو ترجمة مقاالت وحوارات وسير ذاتية ومذكرات وكتب‬ ‫تتوافر على رصانة بينة ممتزجة بطراوة في التناول وصلة حية بالحياة النابضة بعيدً ا من‬ ‫الصالبة والصرامة األكاديميتين لغرض جعل تلك الترجمات قادرة على طرق قلوب الق ّراء‬

‫ومالمسة عقولهم الشغوفة وإثراء حيواتهم الثمينة‪.‬‬

‫الكرنفال في الثقافة الشعبية‬ ‫المؤلف‪ :‬مجموعة مؤلفين ترجمة‪ :‬خالدة حامد تسكام‬ ‫الناشر‪ :‬منشورات المتوسط‬

‫يعنى هذا الكتاب بالبحث عن تأصيل مفهوم «الثقافة الشعبية» ودراسة تجلياتها‬

‫عبر دراسات اختارتها مُ ِعدّ ة الكتاب ومترجمته بعناية فائقة‪ ،‬ابتداء بسؤال‪ ‬جون ستوري‪:‬‬

‫ما الثقافة الشعبية؟ ومقال‪ ‬ميخائيل باختين‪ ‬عن تأثير الطقوس الرومانية‪ ،‬مرورًا‬ ‫بدراسة‪ ‬كليفورد غيرتز‪ ‬عن صراع الديكة في بالي‪ ،‬ثم األنثروبولوجيا الكولونيالية لعيد‬

‫مسلسل‬ ‫األضحى في مقالة‪ ‬عبدالله حمودي المهمة جدًّ ا‪ ،‬وانتهاء بالبحث عمّ ا يجعل من‬ ‫ٍ‬ ‫تلفزيوني مندرجً ا ضمن الثقافة الشعبية في بحث‪ ‬إين آنغ‪ ‬المبدع عن أيديولوجيا الثقافة‬ ‫ّ‬ ‫الجماهيرية في مسلسل داالس‪.‬‬

‫ضارة في الفردوس‬ ‫عشبة‬ ‫ّ‬ ‫المؤلف‪ :‬هيثم حسين‬ ‫الناشر‪ :‬دار مسكلياني‪ ،‬ودار ميارة‬

‫يتداخل الحب بالقهر في هذه الرواية بالضياع‪ ،‬وباألسى في عالم من التناقضات‬

‫والنقائض‪ ،‬يقع عدد من الشخصيات فرائس للخيبة والهزيمة والجنون‪ .‬يبحث القتلة عن‬

‫تبرير يتق ّنعون به‪ ،‬في حين يمضي الضحايا في رحلتهم إلى المجهول‪ .‬تقتفي الرواية أثر‬

‫األكراد الذين نزحوا من مدنهم وقراهم البعيدة في الشمال السوري إلى ضواحي العاصمة‬ ‫ً‬ ‫أحداثا دامية وقع ضحيتها عشرات الضحايا‪،‬‬ ‫دمشق بعد سنة ‪2004‬م‪ ،‬السنة التي شهدت‬ ‫وسُ ِجن األلوف‪ ،‬وقد ُعرفت في األدبيات الكردية بانتفاضة ‪ 12‬آذار‪ .‬هذه الرواية قطعة من‬ ‫الذاكرة الكرديّة ومن أحالم جيل تهافتت ّ‬ ‫كلها تحت سطوة االستبداد والتهميش‪ ،‬قطعة من‬ ‫الذاكرة يرفعها الكاتب في وجه النسيان‪ ،‬ح ّتى ال يتك ّرر ما حدث‪.‬‬

‫‪129‬‬


‫كتب‬

‫شاعر المتاهة وشاعر الراية‬ ‫عبدالوهاب أبو زيد‬

‫‪130‬‬

‫شاعر سعودي‬

‫فوزي كريم‪ ،‬الشاعر والناقد العراقي المعروف‪،‬‬ ‫من الشعراء والكتاب الذين أحرص دائمً ا على اقتناء‬ ‫كل كتاب له تقع عليه يداي‪ .‬وقد قرأت له عد ًدا من‬ ‫الكتب المهمة‪ ،‬من بينها مجموعته الشعرية الكاملة‬ ‫الصادرة عن دار المدى عام ‪2000‬م‪ ،‬وكتابه النقدي الذي‬ ‫كان مفصليًّا في تشكيل تجربتي الشعرية الشخصية‪،‬‬ ‫«ثياب اإلمبراطور»‪ ،‬الصادر في طبعته األولى في‬ ‫العام ذاته‪ ،‬و«تهافت الستينيين» (‪2006‬م) و«العودة‬ ‫إلى كاردينيا»(‪2004‬م)‪ .‬آخر ما قرأته له هو كتابه الصادر‬ ‫ً‬ ‫حديثا «شاعر المتاهة وشاعر الراية‪ :‬الشعر وجذور‬ ‫الكراهية»‪ ،‬الصادر عن منشورات المتوسط‪2017 ،‬م‪،‬‬ ‫الذي يشكل على نحو من األنحاء امتدا ًدا ألطروحته‬ ‫النقدية في كتابه «ثياب اإلمبراطور» بشكل أساس‪،‬‬ ‫ومن ثم كتابه اآلخر «تهافت الستينيين»‪.‬‬ ‫شاعر األسطورة وشاعر التاريخ‬

‫ووفيقة‪ .‬أما التاريخ‪ ،‬األقل التباسً ا‪ ،‬فهو التاريخ بقبضة أحداثه‬

‫كان من الممكن أن يختار المؤلف «شاعر األسطورة وشاعر‬ ‫ً‬ ‫عنوانا لكتابه‪ ،‬لكن ثنائية المتاهة والراية تبدو أكثر لف ًتا‬ ‫التاريخ»‬

‫الصارمة التي تناصب الخيال العداء‪ ،‬وتجنح للواقع المدبب‬ ‫والفظ الذي يجعل من القصيدة ً‬ ‫بوقا ينفخ فيه رسائله وإشاراته‪.‬‬

‫األسطورة والتاريخ‪ .‬يورد كريم في مطلع الفصل األول من كتابه‪،‬‬

‫قصيدته إلى معتركه الداخلي»‪ ،‬في حين أن شاعر التاريخ أو‬

‫للسمع‪ ،‬ودغدغة للحس‪ ،‬وأبعد من تقليدية ومألوفية ثنائية‬ ‫الذي جاء تحت عنوان‪« :‬الشعر والتاريخ»‪ ،‬عبارة أثيرة لديه وهي‬

‫أن «الشاعر ينتسب لألسطورة‪ ،‬ال للتاريخ»‪ .‬والشاعر المعني‬ ‫هنا هو الشاعر كما ينبغي أن يكون وليس كما هو كائن‪ ،‬أي أنه‬

‫الشاعر المثال الذي يتحقق به وفيه المعنى الحقيقي للشعر‪ .‬فما‬ ‫الذي يعنيه انتساب الشاعر لألسطورة في مقابل انتسابه للتاريخ‪.‬‬

‫األسطورة المعنية هنا ليست األسطورة بمعناها الظاهر والمألوف‬ ‫الذي نجده لدى شاعر مثل السياب الذي استحضر األساطير‬ ‫اليونانية وغيرها في شعره‪ ،‬على سبيل المثال‪ ،‬بل هي األسطورة‬

‫الشخصية التي يشكلها الشاعر في شعره بعيدً ا من الواقع‬

‫وحقائق التاريخ‪ ،‬وتحويله وارتقائه بمفردات وأماكن وشخوص‬

‫حياته إلى مقام األسطورة كما فعل السياب مع جيكور وبويب‬ ‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬

‫شاعر األسطورة أو المتاهة هو كائن «ينصرف في كتابة‬

‫ً‬ ‫شخصا كان هذا اآلخر‪،‬‬ ‫الراية «ينصرف إلى معتركه مع اآلخر؛‬ ‫ً‬ ‫تاريخا»‪ .‬وال يعني هذا بالطبع أن شاعر‬ ‫حزبًا‪ ،‬عقيدة‪ ،‬فكرة أو‬

‫المتاهة منفصل عن تاريخه وأحداث زمانه وهموم شعبه وأمته‪،‬‬ ‫وهو قد يعبر عنها في شعره‪ ،‬أو لنقل‪ :‬إنها تتسلل إلى شعره‪،‬‬

‫لكنها ال تفرض منطقها وأبجديتها عليه‪ ،‬بل هو من يطوعها‬

‫ويعيد تشكيلها وصوغها لتتالءم مع مزاجه الشعري الذي يتعالى‬ ‫على شروط الزمن وإمالءاته الضيقة‪ .‬وال يقتصر مفهوم شاعر‬

‫الراية على الشعراء الذين تطغى السياسة واأليدلوجيا أو الحزبية‬ ‫ً‬ ‫الحقا بااللتزام في شعرهم‪ ،‬بل إنه يمتد ً‬ ‫أيضا ليشمل‬ ‫أو ما عرف‬

‫شعراء رفعوا راية الحداثة الشكلية‪ ،‬المفتونة باللغة والمجاز‬ ‫والشكل الشعري أكثر من اهتمامها بالتجربة اإلنسانية والروحية‬


‫التي ال يصبح الشعر شع ًرا إذا تخفف منها وتخلى عنها‪ .‬والرائد‬ ‫األول أو ربما األبرز لهذا النوع من الشعر وهذا الضرب من الرايات‬

‫عربيًّا هو أدونيس‪ ،‬بحسب ما يرى فوزي كريم‪ ،‬والمثال األبرز‬ ‫عراقيًّا من شعراء الستينيات العراقية هو فاضل العزاوي‪.‬‬ ‫جذور الكراهية‬

‫فيما يخص الشعر العراقي تحديدًا‪ ،‬وفيما يرتبط بفكرة‬

‫«جذور الكراهية» التي ترد في العنوان الفرعي للكتاب‪ ،‬يطرح‬ ‫الكاتب ويناقش فكرة مثيرة للجدل حول طبيعة الشخصية‬ ‫العراقية والشعر العراقي في آخر فصول الكتاب تحت عنوان‪:‬‬

‫«الشعر والكراهية»؛ إذ يشير إلى أن الشخصية العراقية «تتصف‬ ‫بتعارضات داخلية محتدمة»‪ ،‬محيلاً إلى كتابات علي الوردي بهذا‬ ‫الشأن‪ .‬هذه التعارضات وجدت لها انعكاسً ا لدى أبرز الشعراء‬

‫العراقيين كالجواهري الذي يعجز الكاتب كما يقول عن إحصاء‬ ‫ً‬ ‫انطالقا من ونتيجة‬ ‫«قطرات الدماء‪ ،‬وفيض الكراهية» فيه‪ ،‬وذلك‬ ‫النغماس الجواهري في تعارضات «المعترك السياسي» الذي‬

‫طالما كان محتدمً ا في المشهد في التاريخ العراقي المعاصر‪.‬‬

‫موجة شعراء المتاهة األولى تمثلت في كل من نازك‬

‫المالئكة والسياب وبلند الحيدري وحسين مردان ومحمود‬

‫البريكان‪ ،‬الذين خص المؤلف كل واحد منهم بدراسة خاصة‬ ‫ووافية يبسط فيها األوجه التي تبرر إدراجهم ضمن هذه الفئة‬

‫من الشعراء‪ .‬أما «ستينيو المتاهة» فكان هو عنوان الفصل الذي‬ ‫تضمن أسماء الموجة الثانية من شعراء المتاهة‪( ،‬والشاعر فوزي‬

‫كريم واحد منهم بالتأكيد) وهم كل من حسب الشيخ جعفر‬

‫وياسين طه حافظ وسركون بولص‪ .‬أما شعراء الراية فتمثلوا في‬ ‫كل من عبدالوهاب البياتي‪ ،‬الشاعر األممي الذي كان رائدً ا في‬

‫هذا المجال‪ ،‬وسعدي يوسف‪ ،‬الشاعر الذي رفع الراية القومية‬ ‫زم ًنا طويلاً فعرف بها وعرفت به‪« .‬ستينيو المتاهة» بدورهم‬

‫تمثلوا بشاعرين هما سامي مهدي وفاضل العزاوي الذي سبق‬ ‫أن احتل فصلاً موسعً ا في كتاب «ثياب اإلمبراطور»‪ ،‬مما حدا‬

‫فوري كريم‬

‫على الرغم من أن الكاتب توخى‬ ‫الموضوعية ما استطاع في صفحات‬ ‫كتابه الشائق فإنه فيما بدا لي كان‬ ‫قاسيا على شعراء الراية إجماال‬ ‫ً‬ ‫فإن شاع ًرا كبي ًرا مثل محمود درويش‪ ،‬على سبيل المثال‪ ،‬كان‬

‫«شاعر راية» في مطلع تجربته الشعرية‪ ،‬وظل كذلك حتى مطلع‬ ‫التسعينيات أو قبلها بقليل‪ ،‬ليتحول إلى «شاعر متاهة» بامتياز‪.‬‬

‫وعلى الرغم من أن الكاتب قد توخى الموضوعية ما استطاع‬

‫في صفحات كتابه الشائق فإنه فيما بدا لي كان قاسيًا على شعراء‬ ‫اً‬ ‫إجمال‪ ،‬وبخاصة حين يقول‪ :‬إن «قداسة الفكرة لدى شاعر‬ ‫الراية‬

‫الراية يمكن االلتفاف حولها ومخاتلتها‪ ،‬ما دام اإلنسان عنده‬

‫رخيص الثمن‪ ،‬وال يتسم بقداسة»‪ ،‬ص ‪ .228‬ختامً ا‪ ،‬هناك بعض‬

‫الملحوظات المستغرب وقوعها في دراسة محكمة‪ ،‬وإن لم يكن‬ ‫ذلك بالمعنى األكاديمي‪ ،‬من كاتب وناقد قدير ذي تجربة طويلة‬

‫في الكتابة والنشر‪ ،‬ومن ذلك تكرار بعض الفقرات المطولة‬ ‫(صفحتان على وجه التحديد) في موضعين مختلفين من‬

‫بالمؤلف لالكتفاء بسامي مهدي كنموذج ممثل لهؤالء الشعراء‬

‫الكتاب‪ ،‬فما أورده الكاتب في مقدمة القسم المخصص للشاعر‬

‫وال يعني كونك «شاعر راية» أن تظل كذلك إلى األبد‪،‬‬

‫االشتراكية والجدانوفية (ص ‪ ،)121-120‬هو بعينه ما ورد في مطلع‬

‫وبعد انحسار موجة األممية التي سادت في خمسينيات القرن‬

‫المخصص لسعدي يوسف حين قال‪ :‬إنه أصدر ديوانه األول عام‬

‫في كتابه الجديد‪.‬‬

‫فالشاعر الحقيقي يمر بمراحل مختلفة من التحوالت والتقلبات‬ ‫وربما االنقالبات الجمالية‪ ،‬إن صح التعبير‪ .‬فالبياتي مثلاً ‪،‬‬

‫العشرين وأوائل الستينيات طغت على شعره مسحة صوفية‪،‬‬ ‫وأصبح أقرب إلى أن يكون «شاعر متاهة»‪ ،‬وكذلك األمر مع‬ ‫سعدي يوسف الذي خفت نبرة القومية العربية والنضال اليساري‬

‫في شعره في مراحل متأخرة من تجربته الشعرية الغنية بتنوعها‬ ‫وغزارة إنتاجها‪ .‬وإذا ما خرجنا قليلاً عن إطار الشعر العراقي‪،‬‬

‫عبدالوهاب البياتي من تقديم وعرض لمنشأ فكرة الواقعية‬

‫القسم الذي خصصه للحديث عن تجربة نازك المالئكة (ص ‪-37‬‬ ‫‪ .)38‬وهناك ً‬ ‫أيضا الخطأ في معلومة أوردها الكاتب في القسم‬

‫‪1952‬م بعد عامين من صدور ديوان البياتي الثاني‪ ،‬والصحيح هو‬

‫أنه األول؛ فالبياتي أصدر ديوانه األول «مالئكة وشياطين» عام‬ ‫‪1950‬م‪ .‬ثم إن هناك كثي ًرا من األخطاء الطباعية التي‪ ،‬لحسن‬

‫الحظ‪ ،‬لم تنغص علي متعة قراءة هذا الكتاب الجدير والمستحق‬ ‫للقراءة المتأنية والمتأملة‪.‬‬

‫‪131‬‬


‫كتب‬

‫من األمومة إلى النسوية والحجاب‬

‫«إليزابيث بادينتر» سيدة المواجهات‬ ‫أسماء مصطفى كمال‬

‫‪132‬‬

‫مترجمة وكاتبة مغربية‬

‫«السلطة المؤنثة» (‪ )Le pouvoir au féminin‬هو‬ ‫عنوان أحدث كتاب لـلفيلسوفة الفرنسية «إليزابيث بادينتر»‬ ‫الصادر عن دار «فالماريون»‪ ،‬ويتناول الحياة الشخصية‬ ‫والعائلية والسياسية لإلمبراطورة «ماريا تيريز» ملكة «المجر‬ ‫وبوهيميا» خالل القرن الثامن عشر‪ ،‬ويعد الكتاب ً‬ ‫بحثا تاريخيًّا‬ ‫عن حقبة حكمها‪ ،‬وتحليلاً لشخصيتها وطريقة إدارتها‪ ،‬تتجمع‬ ‫خيوط مباحثه‪ ،‬لتلتقي عند فكرة لطالما تناولتها بادينتر في‬ ‫كتاباتها‪ ،‬وهي قدرة المرأة على القيادة‪ ،‬ومساواتها بالرجل‪.‬‬ ‫كما أنها تعكس اهتمام الكاتبة بالبحث عن تاريخ النساء‪،‬‬ ‫والوثائق المتعلقة بهن‪ ،‬من رسائل‪ ،‬وغيرها‪ .‬ويأتي الكتاب في‬ ‫وقت تخوض فيه بادينتر معارك بدأت بآرائها‪ ،‬حول الحجاب‬ ‫في فرنسا‪ ،‬وتطورت إلى تراشق مع اليسار الذي اتهمته بالتنكر‬ ‫للعلمانية‪ ،‬وهو ما استتبع وصفها‪ ،‬بـ«اإلسالموفوبيا»‬ ‫ترى بادينتر أن النساء مظلومات من زاوية أن كثيرات منهن‬

‫كما يلقي الكتاب الضوء على الحياة العائلية‬

‫الغالب‪ ،‬حيث لم ينجُ من ذلك إال قليل‪ ،‬كما في حالة مدام دي‬

‫والبنات‪ ،‬إحداهن وأشهرهن ماري أنطوانيت التي صارت‬

‫قد قمن بأدوار مهمة‪ ،‬لكن الوثائق التي تخصهن مفقودة‪،‬‬ ‫حتى رسائلهن ُت َتجاهَ ل أو ي َّ‬ ‫ُتخلص منها العتبارات اجتماعية في‬ ‫شاتلي التي وصلتنا كتابتها‪ ،‬لمصادفة أنها كانت عشيقة فولتير‪،‬‬ ‫وبخالف هذه المصادفات تضيع الرسائل‪ .‬وهي تصف النساء‬

‫بأنهن قارة سوداء في التاريخ‪ ،‬وال يمكن العثور على كالمهن‬

‫إال في األدب‪ .‬ولهذا السبب فقد بذلت الكاتبة جهدً ا كبي ًرا في‬

‫لإلمبراطورة‪ ،‬التي كانت متزوجة من رجل طموح وطائش‬ ‫هو «فرانسيس األول»‪ ،‬وكانت أُمًّ ا لستة عشر من األبناء‬ ‫ملكة لفرنسا قبيل الثورة‪ .‬وتعرض بادينتر الوثائق التي تؤكد‬ ‫أنها «تمكنت أن توفق بين حيواتها الثالثة بوصفها زوجة‬ ‫وأُمًّ ا وملكة‪ ،‬تواجه صراعات مميتة‪ ،‬ال يمكن تصورها‪ .‬وهو‬ ‫ما يبرهن على أنه ال الطموح وال الذكاء وال الرؤية الثاقبة‬

‫تجميع وقراءة وتحليل ما يزيد عن اثنين وعشرين ألف وثيقة‬ ‫اً‬ ‫متداول‪ ،‬لتقدم‬ ‫تتعلق باإلمبراطورة ماري تريز معظمها لم يكن‬

‫وطريقة وضع القوانين هي التي تولد الفروقات»‪ .‬وتؤكد أنها‬

‫كان والدها تشارلز السادس آخر وريث ذكر لعائلة هابسبورج؛‬

‫إمبراطورية أوربية من دون أن تخضع مهاراتها للتشكيك‪.‬‬

‫لنا صورة المرأة ُعيِّنت على رأس الدولة في ظروف صعبة؛ إذ‬

‫لذلك اضطر إلى إصدار مرسوم األمر العالي بتعيينها قبل وفاته‪،‬‬ ‫واستطاع أن يحصل على ضمانات لبقائها في موقعها‪ ،‬وهي في‬ ‫المقابل ً‬ ‫وفقا للكاتبة قد أثبتت أنها «جديرة ببالدها‪ ،‬وبملكيتها‬

‫ألراض شاسعة»‪.‬‬

‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬

‫لها جنس‪ ،‬فالرجال والنساء لديهما أهداف في الحياة‪،‬‬

‫كانت سياسية حكيمة‪ ،‬حكمت على مدى أربعين عامً ا أكبر‬

‫كما كشفت الوثائق عن الطابع المتحضر لشخصية «ماريا‬

‫تيريز» وقد شكك بعض فيما توصلت إليه بادينتر من خالل‬ ‫رصد إخفاقات لشخصية كتابها‪ ،‬يتعلق معظمها‪ ،‬بخسارتها‬ ‫لمساحات من أرض بالدها‪.‬‬


‫آراء «بادينتر» المفجرة للنقاشات‪ ،‬واالنتقادات‪ ،‬بدأت منذ‬

‫كتابها األول «الحب أكثر» (‪ )L›amour en plus‬الصادر في‬ ‫اً‬ ‫تساؤل حول‬ ‫ثمانينيات القرن الماضي‪ ،‬الذي طرحت من خالله‬ ‫األمومة؛ هل هي غريزية لدى النساء‪ ،‬أم أنها جزء من السلوك‬

‫االجتماعي يخضع للزمن واألعراف السائدة‪ .‬وقد عادت لطرح‬ ‫السؤال نفسه بعد أكثر من ثالثين عامً ا‪ ،‬وبعد أن صارت أُمًّ ا‬

‫لثالثة أبناء‪ ،‬من خالل كتاب «الصراع» (‪ ،)le conflit‬الصادر‬ ‫عام ‪2011‬م‪ ،‬وتساءلت فيه عن حقيقة ما يقال من أن األم مدينة‬ ‫ألطفالها بكل شيء‪ :‬حليبها‪ ،‬ووقتها‪ ،‬وطاقتها‪ ،‬وأنه من‬

‫ترى بادينتر أن النساء مظلومات وأن‬ ‫كثيرا منهن قد قام بأدوار مهمة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫لكن الوثائق التي تخصهن مفقودة‪،‬‬ ‫َجاهل أو ُيتخ َّلص منها‬ ‫حتى رسائلهن ُتت َ‬ ‫العتبارات اجتماعية في الغالب‬ ‫بالنفي عادًّا إياهم مجموعة صاخبة‪ ،‬لكن غير مؤثرة‪ .‬وبالتالي‬

‫علينا معاملتهم كمواطنين وليس «كمجموعات مسلمة»‪.‬‬

‫ً‬ ‫وسادسا‪ :‬هل عدم موافقتنا لـبادينتر يعني دعمنا‬

‫المحتم أن تستسلم النساء لهذه العقبة‪ .‬يبدو مبدؤها السابق‬ ‫ً‬ ‫متسقا مع إعالنها الحرب على الحجاب منذ حادثة «كريل»‬

‫«اإلسالمويساريين»؟‬

‫في عام ‪1989‬م؛ األمر الذي أثار حفيظة اليساريين الذين كانوا‬

‫صف «اإلسالمويساريين»‪ ،‬لكن في الواقع يمكن أن نكون في‬

‫الشهيرة عندما منعت تلميذات محجبات من دخول المدرسة‬

‫يدعمونها بقوة‪ ،‬ثم انقلبوا عليها‪ ،‬بسبب موقفها‪ ،‬وهو ما‬ ‫لم تغفره بادينتر فاتهمتهم بالتخلي عن العلمانية‪ .‬ما وصف‬ ‫اً‬ ‫جدل بمناسبة القضايا اإلسالمية‪،‬‬ ‫بشمولية بادينتر أصبح أكثر‬

‫وهو ما خلق توترات قوية‪ ،‬وانقسامات حادة بين من يتبنون‬ ‫آراءها وبين اليساريين‪.‬‬ ‫األخطاء الستة‬

‫لم تسلم آراء بادينتر من انتقادات متوالية؛ إذ رد المحلل‬

‫ويجيب بأنه بالنسبة لـبادينتر إما أن تكون في صفها أو في‬

‫آن واحد معارضين للطائفية اإلسالمية‪ ،‬ولكل أشكال الطائفية‬ ‫ٍ‬

‫باسم الشمولية الجمهورية‪ ،‬ومعارضين لـ«بادينتر» بسبب‬ ‫أخطائها الفادحة فيما يخص اإلسالم والحجاب والعلمانية حتى‬

‫«اإلسالموفوبيا»‪.‬‬

‫كما علق المؤرخ وعالم االجتماع جان بوبيروت ومؤلف‬

‫كتب عدة حول العلمانية بأن بادينتر ادعت أن ماريان لوبان‬

‫هي الوحيدة التي تدافع عن مبادئ العلمانية‪ ،‬في حين أنه‬

‫في فرنسا هناك محاضرات حول العلمانية بشكل يومي‬

‫السياسي توماس غينولي بأنه لن يقبل بشيطنة الطائفة المسلمة‬ ‫من الفرنسيين‪ ،‬كما نشر اً‬ ‫مقال بعنوان‪« :‬األخطاء الستة إلليزابيث‬

‫بادينتر متهمة دائمً ا بالنخبوية المتشددة‪ ،‬لبقائها دائمً ا خارج‬

‫فيما يخص الكتابة عن اإلسالم دون دراسته بجدية‪ ،‬وفند غينولي‬

‫أرستقراطية القرن الثامن عشر‪ .‬وفي هذا اإلطار تربط السياسية‬

‫بادينتر» وشبهها بـإريك زمور وميشال أونفري قائلاً ‪ :‬إنها مثلهم‬ ‫مزاعم بادينتر من خالل أسئلة أولها‪ :‬هل يعدّ حجاب المرأة‬

‫ً‬ ‫خضوعا للرجل كما تزعم؟‬

‫إضافة إلى المقاالت الصحافية‪ .‬وهنا تجدر اإلشارة إلى أن‬

‫الحركات المنظمة‪ ،‬وأنها دائمً ا وحيدة ومترفعة‪ ،‬وتعيش داخل‬ ‫كليمنتين أوتان مواجهات بادينتر ببعد طبقي؛ إذ إن اإلسالم دين‬

‫ألغلبية فقيرة تتشدد بادينتر في قضاياهم‪ ،‬بينما دافعت عن‬

‫وأجاب بال‪ ،‬مستندً ا ألنه تنفيذ ألمر قرآني‪ ،‬ومن ثم تفعله‬

‫صديقها دومينيك ستروس كان المدير السابق لصندوق النقد‬

‫وثانيًا‪ :‬هل ارتداء الحجاب انتهاك لمبادئ العلمانية؟‬

‫لكن بادينتر نفت دفاعها عنه‪ ،‬وقالت‪ :‬إنها فقط انتقدت‬

‫المرأة كجزء من عقيدتها‪.‬‬

‫الدولي في قضيته الشهيرة‪.‬‬

‫وأجاب بأن العلمانية في الدستور الفرنسي ليست إجبارًا على‬

‫مهاجميه بأنهم استبقوا المحاكمة‪.‬‬

‫السلطة العامة‪ ،‬مع كل العقائد وأصحابها‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وثالثا‪ :‬هل المرأة في اإلسالم مطالبة بالمكوث في المنزل‪،‬‬

‫تدافع عن العلمانية في فرنسا‪ ،‬وتعيد طرح أفكار تتعلق بالتنوير‬

‫الحياد الروحي للمواطنين داخل الفضاء العام‪ ،‬بل حياد‬

‫كما تقول بادينتر؟ ويجيب بأن نسب النساء العامالت في الدول‬ ‫ذات األغلبية المسلمة ال تقول ذلك‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ورابعا‪ :‬هل «اإلسالموفوبيا» تستخدم لشيطنة من ينتقد‬ ‫اإلسالم كما تقول بادينتر؟ ويجيب ً‬ ‫أيضا بالنفي استنادًا لظهور‬ ‫المصطلح أوائل القرن العشرين‪ ،‬وهو يعادل في معناه على‬

‫سبيل المثال معاداة السامية مع اليهودية‪.‬‬

‫وخامسا‪ :‬هل «اإلسالمويساريون» أقلية مؤثرة؟ ويجيب ً‬ ‫ً‬ ‫أيضا‬

‫وفي الحقيقة ترى بادينتر نفسها واحدة من القلة التي‬

‫وسيادة العقل‪ ،‬وعندما يعلو صوتها بمناسبة قضايا تتعلق‬ ‫بوضع المسلمين في فرنسا‪ ،‬فإنها تبدو مناقضة ألطروحات‬

‫شبابها حول الحق المطلق في االختالف‪ .‬وهي ال تنكر ذلك‬

‫وتعترف بأنها أساءت فهم هذا الحق في خضم ثورية جيلها‬ ‫الذي عاش جموح نهاية الستينيات‪ .‬وتظل بادينتر واحدة من‬ ‫أكثر الشخصيات اشتبا ًكا‪ ،‬وإثارة للجدل‪ ،‬والدخول في معارك‬

‫فكرية‪ ،‬في بلد تعيد طرح أسئلة‪ ،‬كنا نعتقد أنها تمتلك إجابات‬ ‫ً‬ ‫خصوصا في الغرب‪.‬‬ ‫متماسكة‪،‬‬

‫‪133‬‬


‫كتب‬

‫«حافة الكوثر» لعلي عطا‪..‬‬

‫أحزان ليست عابرة‬ ‫شاكر عبدالحميد‬

‫‪134‬‬

‫ناقد مصري‬

‫تحتوي رواية «حافة الكوثر» لـعلي عطا‬ ‫على تمثيل مناسب للضغوط النفسية واالجتماعية‬ ‫واألسرية والمادية أو اجتماعها ً‬ ‫معا داخل إنسان‬ ‫واحد وعبر حياته‪ ،‬فالسارد الرئيس ُي َ‬ ‫دعى حسي ًنا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ضغوطا اجتماعية شتى مصدرها‬ ‫وهو يعاني هنا‬ ‫األساس عالقاته بزوجته األولى (دعاء) ثم زوجته‬ ‫الثانية (سلمى) ثم بنته (حنان) كما أنه بعد‬ ‫أن انتابته نوبة االكتئاب األولى‪ ،‬ألسباب عدة‪،‬‬ ‫شعر بأن اآلخرين يراقبونه ويتحدثون عنه‪ ،‬عبر‬ ‫الفيسبوك وفي الحياة‪.‬‬ ‫الزوجة األولى‪ ،‬كما جاء وصفها في الرواية زوجة مسيطرة‬ ‫جدًّا‪ ،‬باردة جدًّا‪ ،‬مستحوذة جدًّا‪ ،‬وفي الرواية ً‬ ‫أيضا وصف‬

‫لحالة دعاء (زوجته األولى) بعد أن أخبرها بزواجه الثاني‪ ،‬فقد‬

‫كانت تظل مستيقظة وال تنام حتى يستغرق في النوم وذلك كي‬

‫كان يحتاج ككاتب للحرية‪ ،‬لكنه كان محاص ًرا في كل وقت‪ ،‬بل‬ ‫في كل لحظة‪ ،‬في بيته‪ ،‬وفي عمله‪ ،‬حتى في عالمه االفتراضي‪،‬‬

‫تراقبه وتمنعه من االتصال بسلمى زوجته الثانية‪ .‬وهناك إشارات‬ ‫ً‬ ‫أيضا لذلك السأم الذي أصابه من الحياة بشكل عام‪ ،‬سياسيًّا‬

‫وكذلك في عدم قدرته على كتابة ما يريد‪ ،‬فهو في األصل مبدع‪،‬‬

‫الشغف بشكل عام كلية وشغفه في عالقته بزوجته األولى دعاء‬

‫الحياة‪ ،‬ومن ثم فقد كان ينتابه شعور دائم بأن روحه ضائعة‬

‫ويتجلى فقدانه للشغف ً‬ ‫أيضا في أحالمه‪ ،‬ومنها ذلك الحلم‬

‫حنين إلى الماضي‬ ‫هكذا انتابه ً‬ ‫أيضا نوع من الحنين إلى الماضي‪ ،‬تجلى في‬ ‫صحوه وتجلى ً‬ ‫أيضا في أحالمه‪ ،‬ازداد شوقه لبيتهم القديم‪،‬‬

‫واجتماعيًّا وثقافيًّا وإنسانيًّا‪ ،‬وإشارات كذلك إلى أنه قد فقد‬

‫بشكل خاص «ذلك الشغف لم يعد له وجود يا دعاء‪ ،‬ولذلك‬ ‫ً‬ ‫شغفا يالزمك على مدار‬ ‫أستثقل إجباري على تصنعه ليجاري‬ ‫الساعة‪ ،‬ما دمنا غير متخاصمين»‪.‬‬

‫الذي رأى نفسه فيه‪ ،‬بينما كانت دعاء تنام بجواره‪ ،‬إنه غير قادر‬ ‫على الوصول إليها‪ ،‬كي يفي بوعد ما‪ ،‬على الرغم من أنه يحفظ‬

‫رقم هاتفها وبيتها الذي جاء في الحلم‪ ،‬إنها تنتظره فيه منذ‬

‫سنوات بعيدة‪ ،‬وهو حلم تزداد حيرته في تفسيره‪ .‬لكنه في رأي‬

‫حلم يدل على رغبته الخاصة في الحرية والتحرر‪ ،‬وهي رغبة‬

‫كانت كامنة في أعماق ال شعوره‪ ،‬عبَّر عنها في أحالمه هكذا‬ ‫كان يشعر بضغوط متواصلة تالحقه من كل صوب وحدب‪ ،‬وقد‬ ‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬

‫لكنه ضاع أو استنفد جهده في عمله الصحافي وفي متاهات‬ ‫وهائمة‪ ،‬وأنه قد تأخر كثي ًرا في العثور عليها‪.‬‬

‫لعالم طفولته‪ ،‬وشارع شمس الدين وكذلك حنينه لألشياء‬

‫واألماكن والبشر وكل ما لم يعد له وجود اآلن‪ ،‬وقد تزايدت‬

‫مشاعره هذه مع زيادة االضطرابات في المجتمع‪ ،‬حرق الكنائس‬

‫وقتل المتظاهرين ومشاعر الخوف العام وعدم األمن‪ ،‬هكذا‬ ‫يزداد حنينه لمظاهر الريف التي تتالشى شي ًئا فشي ًئا‪ ،‬للشوارع‬ ‫والمدارس واألسواق والطواحين والساحات الشعبية والمحالت‬


‫وتمثال أم كلثوم‪ ،‬ولرموز مدينة المنصورة (بديع خيري ‪-‬‬

‫السنباطي‪ -‬علي محمود طه‪ -‬أنيس منصور‪ -‬كامل الشناوي‪...‬‬ ‫إلخ) وبقايا عبق ذلك الماضي الذي لم يزل موجودًا هكذا يقول‪:‬‬

‫«أماكن الطفولة تناديني وال تكف عن اقتحام ذاكرتي»‪.‬‬

‫لقد أسهمت المدينة‪ ،‬بكل ما عاناه فيها من تزايد شعوره‬

‫بالغربة واالغتراب‪ ،‬ومن ثم كان يزداد شوقه واشتياقه لتلك‬

‫اللحظات التي كانت األشياء فيها شبه مؤكدة وشبه يقينية‪ ،‬في‬ ‫حين أنه فقد اآلن الثقة وفقد اليقين‪ ،‬بالنسبة لذاته وبالنسبة‬

‫لآلخرين وبالنسبة للحياة بشكل عام‪ .‬هكذا وقع في براثن ما‬ ‫يمكن تسميته باالكتئاب المديني‪ ،‬فاالكتئاب بطبيعته مرتبط‬

‫بالضغوط‪ ،‬والضغوط تفاقمت مع الحداثة‪ ،‬ومع زيادة المطالب‬ ‫االستهالكية للبشر‪ ،‬مع المظاهر والسطح والبريق واالستعراض‪.‬‬

‫ويتفاقم شعوره بالغربة هذا حتى بعد أن دخل إلى‬

‫المصحة‪ ،‬يشعر بأنه غريب في مكان غريب بين أناس غرباء‪.‬‬ ‫ويزداد شعوره بالغربة واالغتراب مع تذكره لتاريخ عائلته ألبيه‬

‫الذي دفن في مقابر الصدقة بالمنصورة‪ ،‬وكذلك جدته وأمه‬ ‫على الرغم من وجود مقابر لهم في المنصورة‪ ،‬ولتصوره أنه‬ ‫سيدفن ً‬ ‫أيضا غريبًا في مقبرة خاصة به على طريق الواحات‬ ‫بمدينة ‪ 6‬أكتوبر‪.‬‬

‫علي عطا‬

‫تحتوي «حافة الكوثر» على تمثيل‬ ‫مناسب للضغوط النفسية واالجتماعية‬ ‫معا‬ ‫واألسرية والمادية أو اجتماعها ً‬ ‫داخل إنسان واحد وعبر حياته‬ ‫غياب عن الوجود‬

‫يصف حسين في هذه الرواية نوبات االكتئاب العنيفة التي‬

‫يصف حسين حالته في الكوثر فيقول‪« :‬األيام هنا مملة‪،‬‬

‫مع صدور تأوهات عالية يسمعها من يحيط به‪ ،‬وكذلك كيف‬

‫يومً ا‪ ،‬وإنني حتمً ا سأعود إلى الكوثر‪ ،‬وقد يطول بي المقام‬

‫البشر كتلك النوبة التي هاجمته حينما كان موجودًا في المسرح‬

‫أحالمه في حاالت اليقظة‪ ،‬وأحالمه في حاالت النوم يقول‪:‬‬

‫تهاجمه‪ ،‬وغالبًا ما تبدأ معه مصحوبة بشعور متزايد بالضجر‬

‫أنها تأتي إليه فجأة حتى لو كان موجودًا وسط جمهور غفير من‬

‫ومع ذلك أحن إليها‪ ،‬وعندي ما يشبه اليقين أنني سأستعيدها‬ ‫فيها‪ ،‬مقارنة بالمرات السابقة»‪ .‬في الرواية سرد ألحالم حسين‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ومستيقظا» ويقول ً‬ ‫أيضا‪« :‬الحلم هو بداية كل شيء‬ ‫«أحلم نائمً ا‬

‫الكبير في األوبرا في مؤتمر ملتقى الرواية ذات عام‪ .‬أما ما بعد‬ ‫النوبات‪ ،‬فهناك شعور عام بالضجر ً‬ ‫أيضا واإلحباط والعجز إلى‬

‫عندي» وتصوير لالكتئاب على أنه نوع من الغياب‪ ،‬غياب عن‬

‫وفي الرواية وصف لطقوس االستيقاظ والنوم وتناول الطعام‬

‫النت االفتراضي‪ ،‬أو بالهجرة خارج الوطن وإشارات إلى االكتئاب‬

‫حد االقتراب من االنتحار‪ ،‬مع فقدان للشهية الخاصة بالطعام‬ ‫والحب وكل شيء‪.‬‬

‫والدواء ومشاهدة التلفزيون والزيارات في مصحة الكوثر‪،‬‬

‫ووصف كذلك لتحول الناس الراشدين الناضجين إلى حالة‬ ‫تشبه األطفال في كالمهم وسلوكهم واستسالمهم لقدرهم‪ ،‬في‬

‫الكوثر هناك صغار وكبار‪ ،‬رجال ونساء‪ ،‬مسلمون ومسيحيون‪،‬‬ ‫أدباء ومحامون وضباط شرطة ومستشارون‪ ،‬وأساتذة جامعات‬

‫ومديرو شركات وموظفون‪ ،‬الفئات واألعمار والمستويات كافة‪،‬‬ ‫وكأن الكوثر هنا مجتمع صغير فيه انطوى المجتمع األكبر‪ ،‬أو‬

‫كأنها مرآة ينعكس فيها حالة مجتمع يقف كله على حافة الكوثر‬

‫أو حافة المرض واالكتئاب واالنهيار‪ ،‬في المستشفى ذهانيون‬ ‫ً‬ ‫أيضا‬ ‫فصاميون وعصابيون وسواسيون واكتئابيون‪ ،‬وهناك‬

‫ضحايا حاالت جرائم غامضة يشار إليها عبر الرواية على نحو‬ ‫ً‬ ‫أحيانا أخرى‪.‬‬ ‫صريح حي ًنا‪ ،‬وعلى نحو غامض خفي سريع‬

‫الوجود وعن الوطن وعن اإلحساس‪ ،‬بل عن الواقع االفتراضي‬ ‫ً‬ ‫أيضا‪ ،‬غياب باألدوية‪ ،‬أو بالوجود في مستشفى‪ ،‬أو في عالم‬ ‫بأنه «لئيم ال تعرف متى يهاجمك‪ ،‬وعلى أي درجة من الضراوة‬ ‫سيكون‪ ،‬وإلى أي مصير يمكن أن يدفعك»‪ .‬وإشارات ً‬ ‫أيضا إلى‬

‫حاالت المبدعين والفنانين الذين أصابهم االكتئاب وانتحروا؛‬

‫صالح جاهين‪ ،‬وسعاد حسني‪ ،‬وداليدا‪ ...‬إلخ‪.‬‬

‫في الرواية رصد لألحداث الكبرى في مصر منذ عام ‪1963‬م‬

‫(تاريخ ميالد السارد والكاتب) حتى تفجيرات المنصورة وثورة‬ ‫‪ 30‬يونيو ‪2014‬م‪ ،‬وهزيمة ‪1967‬م‪ ،‬وحرب أكتوبر ‪1973‬م‪ ،‬واغتيال‬

‫السادات ‪1980‬م‪ ،‬وثورة ‪ 25‬يناير ‪2011‬م‪ .‬هكذا حتى اآلن في الرواية‬ ‫تأكيد على قيمة الصداقة والتواصل حتى لو كان ذلك مع صديق‬ ‫واحد غائب أو افتراضي‪ ،‬وتأكيد كذلك على قيمة الكتابة واإلبداع‬

‫كوسيلة وأداة مواجهة للكآبة واالكتئاب والحزن بمصادرهم‬ ‫الخاصة والعامة ً‬ ‫أيضا‪.‬‬

‫‪135‬‬


‫كتب‬

‫«ال‪ ،‬السعودية ليست دبي»‪..‬‬ ‫شغف بازدهار الحياة المدنية في صورة فن وفلم وحب‬ ‫أوليفر وساندرا ستيلر‬

‫ألمانيان يقيمان في السعودية‬

‫ترجمة وتقديم‪ :‬الهنوف الدغيشم‬

‫كاتبة سعودية‬

‫حينما سمعت عن كتاب أصدره زوجان‬

‫ألمانيان يحكيان تجربة حياتهما في السعودية‪،‬‬

‫شعرت برغبة عارمة في قراءته‪ ،‬ومحاولة فهم كيف‬ ‫ً‬ ‫وبعيدا من سطوة اإلعالم‪ ،‬إن‬ ‫يرانا اآلخر من داخلنا‬

‫ً‬ ‫وخصوصا أنني أمضيت أكثر من‬ ‫أمكنه التحرر منه‪،‬‬

‫ست سنوات في ألمانيا‪ ،‬وكنت أشعر في مواقف‬

‫‪136‬‬

‫علي فهم العقلية األلمانية‪ .‬ربما‬ ‫كثيرة أنه يصعب َّ‬ ‫يبدو العنوان «ال‪ ،‬السعودية ليست دبي!» للقارئ‪،‬‬

‫هي حالة مقارنة اجتماعية ما بين السعودية ودبي‪،‬‬ ‫لكن من خالل تجربة حياتي في ألمانيا‪ ،‬لطالما مررت‬

‫بمواقف كثيرة وقلت نافية‪ ..‬ال‪ ،‬السعودية ليست‬

‫دبي! األلماني البسيط‪ ،‬يعتقد أن دبي إحدى واليات‬ ‫السعودية‪ ،‬وليس ذلك فقط‪ ،‬بل قطر وكل مدن‬ ‫اإلمارات هي مدن وواليات تابعة للسعودية‪ ،‬لفظ‬ ‫الخليج في عقلية األلماني البسيط تعني السعودية‬

‫فقط‪ ،‬وربما هذا ألسباب تاريخية قبل تبلور دول‬

‫الخليج واستقاللها‪.‬‬

‫يكتب الزوجان أوليفر وساندرا كتابهما عن‬

‫تجربتهما خالل خمس سنوات أمضياها في الرياض‪،‬‬

‫التي ما زالت مستمرة‪ .‬يفرقان بين كتابتهما بنوع‬ ‫الخط‪ ،‬ففي أثناء القراءة لنفس الموضوع‪ ،‬يتغير‬

‫نوع الخط حسب الكاتب ‪ -‬الكاتبة‪ ،‬فحينما نقرأ‬

‫لساندرا فنحن نقرأ بالخط المائل‪ .‬وهذا يعكس‬ ‫الشخصية األلمانية التي تؤمن بالفردية واالستقالل‪.‬‬

‫سأحاول في هذا المقال أن أسلط الضوء‬ ‫على بعض الفقرات التي ُذكرت في الكتاب‪.‬‬ ‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬

‫في مقدمة الكتاب يصف أوليفر بداية التفكير في الذهاب إلى‬

‫السعودية‪ ،‬ويعنون هذا الفصل بـ«طريقنا إلى دولة مجهولة»‪،‬‬ ‫فيصف مشاعره وأفكاره التي تعكس القصور في معلوماتهما عن‬

‫السعودية‪ :‬السعودية‪ ،‬االسم يرنّ في أذني كأنه يذكرني بحكايات‬

‫ألف ليلة وليلة‪ .‬أتخيل الصحراء والحرارة الشديدة‪ ،‬وطعم الرمال‬ ‫بين أسناني‪ ،‬ال أملك صورة واضحة عن السعودية‪ ،‬كل ما في‬

‫علي‬ ‫ذهني عنها فراغ وغير قابل للتخيل‪ .‬لذلك‪ ،‬حينما عرض َّ‬ ‫العمل في السعودية‪ ،‬كان صعبًا علي‪ ،‬أنا وشريكتي ساندرا‪،‬‬ ‫(التي أصبحت زوجتي فيما بعد) أن نتخذ القرار ون ّتجه للسعودية‪.‬‬ ‫كانت ليلة صعبة لم َأنمْ فيها؛ ألن غدً ا هو تسليم قراري بقبول‬

‫العرض أو رفضه‪ .‬اتخذنا القرار بقبول العرض‪ ،‬لكننا اتخذناه‬ ‫بوصفه مغامرة في حياتنا‪.‬‬


‫تساءلت‪ :‬هل يوجد ستاربكس هناك؟‬

‫السعوديون ال يلقون أهمية للدقة في المواعيد‪ ،‬مواعيد‬

‫فتحت اإلنترنت وبحثت في خرائط غوغل‪ ،‬وكتبت‬

‫االجتماعات ذات مدى واسع‪ ،‬وطبيعة العمل مختلفة عن ألمانيا‪،‬‬

‫أبحث عن أسماء المطاعم التي أعرفها‪ ،‬كلها موجودة وبفروع‬

‫بوصفي مستشارًا يقولون‪ :‬إن شاء الله‪ ،‬لكنهم ال يعملون عليه؛‬

‫ستاربكس‪ ..‬تفاجأت بعدد الفروع الكثيرة في الرياض‪ ،‬بدأت‬

‫كثيرة‪ .‬كانت المعلومات في اإلنترنت عن طبيعة الحياة فيها‬ ‫شحيحة‪ .‬لهذا قررنا كتابة الكتاب؛ ألنه بعد خمس سنوات من‬ ‫الحياة في السعودية‪ ،‬لم نعش الحياة التي توقعناها وخفنا‬ ‫ً‬ ‫إطالقا الصورة النمطية التي كان اإلعالم الغربي‬ ‫منها‪ ،‬ولم نر‬ ‫يصورها لنا‪ .‬كتبنا هذا الكتاب عن تجربتنا الشخصية واحتكاكنا‬ ‫مع ثقافة مختلفة‪ ،‬إننا ال نهدف ألي نقد سياسي أو اجتماعي‪.‬‬

‫ال يوجد إستراتيجية وال خطة واضحة‪ ،‬وحينما يأخذون رأيي‬ ‫لذلك ال أفضل المناقشة بل العمل مباشرة من دون اجتماعات‬

‫وال مناقشة خطتي مع أحد‪ ،‬وبعد التنفيذ حينما يرون النتائج‬

‫تقول لهم هكذا! السعودي ال يقول‪ :‬ال‪ ،‬لمديره‪ ،‬وال يناقشه‪،‬‬

‫لكن هذا ال يعني أنه سينفذ ما يقول! بيئة العمل ليس فيها نقد‬

‫مباشر‪ ،‬أو وضوح في تحديد الخطأ‪ ،‬بل تطفو المجامالت ويذوب‬

‫الموضوع‪ .‬لدى القرارات الملكية ميزة وهي سرعة تنفيذها من‬ ‫دون بيروقراطية‪ ،‬مثلاً ‪ :‬تغيير إجازة نهاية األسبوع من الخميس‬

‫حينما وافقت على العمل كمستشار في إحدى الشركات في‬ ‫ً‬ ‫ضابطا‬ ‫السعودية‪ ،‬فهذا يعني أن تترك ساندرا عملها بصفتها‬

‫والجمعة إلى الجمعة والسبت تم خالل ستة أيام‪ .‬لو كان هذا‬

‫أن السعودية ليست حكاية من ألف ليلة وليلة‪ ،‬وليست لورنس‬

‫كثيرة‪ ،‬وبرلمان‪ ،‬ونقاشات في التلفاز قبل اتخاذ القرار‪ .‬الشركات‬

‫وتأتي بصفتها مرافقة‪ .‬بعد ستة أشهر في السعودية‪ ،‬أدركت‬

‫العرب‪ ،‬أو مجرد مخزن كبير للبترول‪ .‬قررت البقاء في هذا‬ ‫البلد‪ .‬فلقد سحرتني صحاريه الالمتناهية‪ ،‬ونزعته المأسورة‬

‫باالستهالك‪ ،‬وأهله الفخورون والمتفردون‪ .‬لقد قررت البقاء في‬

‫التغيير في ألمانيا الستغرق أشه ًرا‪ ،‬ولم َّرت اإلجازة على لجان‬ ‫الغربية في السعودية لم تستطع تطبيقه إال بعد أسبوعين‪.‬‬ ‫قيادة السيارة في السعودية‬

‫هذا البلد‪ ،‬رغم فهمي وإدراكي لصعوبة عملي مع مجتمع هو‬

‫من أكثر الموضوعات التي تطرق لها الزوجان في كتابهما هو‬

‫أن على ساندرا أن تترك عملها‪ ،‬وأنه علينا أن نتزوج لتستطيع‬

‫فيشرح أوليفر بتعجب كيف أنه يموت في السعودية يوميًّا‬

‫األكثر مقاومة للتغيير والتحسين في العالم‪ .‬هذا القرار يعني‬ ‫الحصول على فيزا‪.‬‬

‫العمل مع السعوديين‬

‫سلوك قيادة السيارة لدى السعوديين‪:‬‬

‫ً‬ ‫شخصا؛ بسبب حوادث السيارات‪ ،‬من بين ‪ ٢٩‬مليون ساكن‪،‬‬ ‫‪١٩‬‬ ‫منذ ‪٢٠٠٣‬م وعدد الحوادث تتضاعف‪ .‬في كل بيت يوجد أكثر‬ ‫من سيارة‪ ،‬وبسبب عدم السماح للمرأة بقيادة السيارة‪ ،‬فهي‬

‫يتطرق أوليفر في الكتاب في أكثر من موضع إلى الكرم‬

‫تعتمد على أوالدها األطفال الذكور في مواصالتها مما يزيد نسبة‬

‫المفطح أحد أهم الوجبات التي تعبر عن الكرم والضيافة‪ ،‬لحم‬

‫لم يجرب قيادتها من قبل في بلدته الفقيرة‪ .‬يوجد قواعد مرورية‬

‫السعودي فيقول‪ :‬الشعب السعودي شعب مضياف جدًّا‪،‬‬ ‫الخروف يوضع بأكمله على األرز‪ ،‬ويكون األكل في األرض وبال‬

‫مالعق‪ ،‬وال حتى سكين للتقطيع‪ ،‬وفي اللحظة التي أفكر فيها‬

‫كيف سأقطع بيدي اليمنى فقط‪ ،‬من دون استخدام اليسرى‪،‬‬ ‫قطعة لحم حارة‪ ،‬إذ إن استخدام اليد اليسرى غير مرغوب‬

‫فيه‪ ،‬أجد قطع لحم تتهاوى في صحني معبرين عن حفاوتهم‬ ‫واهتمامهم‪ ،‬غالبًا ما تكون القطعة الممنوحة للضيف هي أفضل‬

‫قطعة لحم‪ ،‬وحينما أقترب من انتهاء صحني‪ ..‬تتهاوى قطع‬ ‫أخرى من كل جهة‪ ،‬إنهم يخدمونك قبل أن تسألهم‪.‬‬

‫أوليفر ستيلر‪ :‬السعودي ال يقول‪ :‬ال‪،‬‬ ‫لمديره‪ ،‬وال يناقشه‪ ،‬لكن هذا ال يعني أنه‬ ‫سينفذ ما يقول! بيئة العمل ليس فيها‬ ‫نقد مباشر‪ ،‬أو وضوح في تحديد الخطأ‪،‬‬ ‫بل تطفو المجامالت ويذوب الموضوع‬

‫الحوادث‪ ،‬أو تعتمد على سائق أجنبي لقيادة سيارة كبيرة وفاخرة‬ ‫في السعودية لكنها أشبه باإلرشادات وليس القوانين‪ ،‬يمكن‬

‫وصف القيادة في السعودية بالخطرة على الحياة‪ .‬لذلك ال أفضل‬ ‫أن أقود سيارتي وحيدً ا‪ ،‬وأفضل أن يكون معي مرافق حتى يكون‬

‫معنا أربع أعين‪ ،‬حتى إنني اتفقت مع أحد زمالئي في العمل أن‬

‫نذهب دائمً ا معً ا في سيارة واحدة‪ ،‬لذلك ساندرا ال تفتقد قيادة‬ ‫ً‬ ‫إطالقا‪.‬‬ ‫السيارة‬

‫المكالمات وتبادل الرسائل ممنوعة في أثناء قيادة السيارة‪،‬‬

‫ومع ذلك كل يجريها‪ .‬بعضهم يكون معه أكثر من جوال‪،‬‬ ‫فيتحدث بجوال من خلف المقعد‪ ،‬ويرسل رسائل بالجوال‬ ‫ً‬ ‫أحيانا نلعب أنا وساندرا لعبة اكتشاف كم سائق حولنا‬ ‫اآلخر‪.‬‬ ‫ليس بيده جوال؟‬

‫اإلعالم الغربي‪ ..‬والواقع المعيش‬

‫يوجد في السعودية كثير من الخدم‪ ،‬من جنسيات مختلفة‪،‬‬

‫يعيشون مع العائلة السعودية‪ :‬خادمة أو مربية أو ممرضة‬

‫‪137‬‬


‫كتب‬

‫للنساء‪ ،‬أو سائق أو حارس للرجل‪ .‬حياتهم متواضعة وربما في‬

‫الخرز الملون حتى ال يفقدن هوية مظهرهن الخاصة‪.‬‬

‫شاكرين للفرصة التي جعلتهم يعملون في السعودية‪ .‬دائمً ا‬

‫على معصمهن ساعات فاخرة‪ ،‬وعلى أكتافهن يحملن حقائب‬

‫أعيننا حتى بائسة‪ ،‬لكن‪ ،‬كل الخدم الذين تواصلنا معهم كانوا‬ ‫ما طرح موضوع تعامل العرب مع العمالة للنقاش في أوربا‪،‬‬ ‫ولطالما سمعنا عن التعامل السيئ معهم‪ .‬خالل السنوات‬ ‫الخمس لم نشاهد أو نسمع عن حالة إساءة للعمالة‪ ،‬صحيح‬

‫أنهم يتقاضون رواتب منخفضة حسب مفهومنا األوربي‪ ،‬لكننا‬ ‫حينما نشاهد أنه هناك مئات األلوف من العمالة من شرق آسيا‬ ‫وإفريقيا يسعون للدخول إلى السعودية سواء بطريقة نظامية أو‬

‫مخالفة‪ ،‬فهذا يعني أنهم يجدون في هذا البلد فرصة معيشة‬ ‫جيدة وآمنة أكثر من بلدانهم‪ .‬في السعودية لم نسمع عن جرائم‬

‫عنف أو سرقات‪ ،‬حتى إننا ال نقفل باب بيتنا وال سيارتنا‪.‬‬ ‫المرأة السعودية‬

‫تتحدث ساندرا في الكتاب كثي ًرا عن المرأة السعودية‪:‬‬

‫علي في البداية أن أتكيف على مظهر النساء الموحَّ د في‬ ‫كان َّ‬

‫السعودية‪ ،‬كل النساء مغطيات بالسواد‪ .‬عالم النساء يبدو لي‬ ‫اً‬ ‫ومجهول‪ .‬ومع هذا الحظت أن النساء يحاولن‬ ‫بعيدً ا‪ ،‬وغريبًا‪،‬‬

‫أن يتخلصن من مظهر اللبس الموحد بإضافة بعض األلوان أو‬

‫‪138‬‬

‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬

‫تحت العباءة تلمع األحذية األنيقة‪ ،‬وكثير من األحيان أرى‬

‫جلدية ثمينة تحمل توقيع دور األزياء الراقية‪ .‬في البداية كان في‬ ‫ّلي على الحجاب‪ ،‬بتأثير من اإلعالم الغربي الذي‬ ‫ذهني حُ كم أو ّ‬

‫دائمًا ما يربط حجاب المرأة بكلمات مثل‪( :‬القمع ‪ -‬اإلجبار)‪،‬‬

‫و(التخلف)‪ ،‬و(األصولية)‪ .‬هذا الحكم األولي على اآلخرين مع‬ ‫الوقت واالحتكاك بالنساء هنا سرعان ما تالشى؛ ألني عرفت‬ ‫أن كثي ًرا من النساء يتحجبن برغبتهن التامة تعبي ًرا عن هويتهن‬

‫الدينية‪ .‬حتى إنني التقيت أختين إحداهما تتحجب واألخرى ال‬ ‫تفعل‪ ،‬والعائلة منحت كلاًّ منهما حق االختيار‪ .‬مع الوقت‪ ،‬بدأت‬

‫أرى اإلعالم الغربي بعيون أخرى؛ إذ يحاول تصوير األمور بطريقة‬

‫ساندرا ستيلر‪ :‬لماذا يؤمن كثير في‬ ‫الغرب بأن المرأة المتحجبة تعني أنها‬ ‫مقموعة؟ هل يصنفون عقل المرأة بشكل‬ ‫انطالقا مما ترتديه إلى مؤمنة وغير‬ ‫عام‬ ‫ً‬ ‫مؤمنة‪ ،‬ومحافظة أو متحررة؟‬


‫«ال‪ ،‬السعودية ليست دبي»‪ ..‬شغف بازدهار الحياة المدنية في صورة فن وفلم وحب‬

‫سلبية ومن وجهة نظر واحدة؛ إنها أحكام أولية وغير متفهمة‬ ‫للثقافات األخرى‪ .‬هذا ما يجعلني أتساءل‪ :‬لماذا يؤمن كثير‬

‫في الغرب بأن المرأة المتحجبة تعني أنها مقموعة؟ هل يمكن‬

‫لهم الحكم على المرأة خارج إطار مالبسها؟ هل يصنفون عقل‬ ‫ً‬ ‫انطالقا مما ترتديه إلى مؤمنة وغير مؤمنة‪،‬‬ ‫المرأة بشكل عام‬

‫محاولة تغيير الصورة‬ ‫المرئية عن اآلخر‬ ‫خالل السنوات الخمس الماضية التي أمضيناها في‬

‫ومحافظة أو متح ِّررة؟ ولماذا تخاف الدول الغربية من األجانب‬

‫السعودية‪ ،‬يبدو جليًّا التغير في الفصل الحاد بين الرجل‬

‫يهمهم ماذا يوجد في رأس المرأة‪ ،‬لكن ماذا تضع على رأسها؟‬

‫بائعات‪ ،‬صحيح أنها ال تخدم إال النساء أو العائالت‪ .‬رغم‬

‫المختلفين عنهم؟ أال يبهجهم التنوع الثقافي المصاحب؟ ال‬

‫والمرأة‪ .‬فاليوم يعمل كثير من النساء في السوبر ماركت‬

‫تحت العباءة والغطاء تحدثت مع نساء واثقات ولهن طريقتهن‬ ‫إنسانا أن ي َ‬ ‫ً‬ ‫ُنظر لما تفكر به ال‬ ‫في التفكير‪ ،‬ومن حقها بوصفها‬

‫الفصل الحاد بين الشباب والشابات في المقاهي والمطاعم‪،‬‬

‫بما ترتديه‪.‬‬

‫مجلس الشورى‬

‫منذ ‪٢٠١١‬م سُ مح للنساء بأن يكنّ عضوات في مجلس‬

‫لكن يبدو واضحً ا كيف يتواصل بعضهم مع بعض بتبادل‬ ‫رسائل الجوال‪ .‬إن التقدم والتنوع التكنولوجي في التواصل‬

‫يذ ِّوب حدة التراث وصرامته‪ .‬حينما قدمنا هنا‪ ،‬فكرنا في‬ ‫أننا سنبقى سنتين‪ ،‬مضى اآلن أكثر من خمس سنوات‪ ،‬وال‬

‫يوجد لدينا خطة للعودة قريبًا‪ .‬األشياء واألحداث التي كانت‬

‫الشورى‪ .‬لقد جاءتني الفرصة مع نساء غربيات لزيارة مجلس‬

‫توترنا في البداية‪ ،‬اعتدنا عليها‪ ،‬بدأنا نتأقلم على العقلية‬

‫العالي لنساء مجلس الشورى‪ ،‬لقد كنّ يدركن تأثيرهن‪ ،‬وكنّ‬

‫إننا نندهش بكمية اعتزازهم بتراثهم‪ ،‬رغم كل التطورات‬

‫الشورى‪ ،‬والتحدث مع النساء‪ .‬لقد تفاجأت بمستوى التعليم‬

‫السعودية‪ ،‬حتى لو أنه ال يمكن أن نفكر مثلهم‪.‬‬

‫واقعيات جدًّا ومدركات للواقع السعودي‪ .‬كنّ متحمسات‬

‫السريعة التي مروا بها‪.‬‬

‫واقعي‪ ،‬بما يتناسب مع متطلبات المجتمع‪ .‬ويرغبن في القيام‬

‫ويصعب المقارنة بينهما‪.‬‬

‫بشكل بطيء بما يتناسب مع رغبة المجتمع‪.‬‬

‫بساطة القانون فيها‪ ،‬فال يوجد قوانين بالتفصيل‪ ،‬مجرد‬

‫ومنفتحات على العالم‪ ،‬ويرغبن في تحدي الظروف بشكل‬

‫المجتمع السعودي مختلف تمامً ا عن المجتمع األلماني‪،‬‬

‫بإصالحات مثل السماح بقيادة المرأة للسيارة‪ ،‬لكن يفضلن‬

‫كنا نتصور أن السعودية دولة منغلقة‪ ،‬لكن بسبب‬

‫صحة المرأة السعودية واالستهالك‬

‫يوجد في السعودية جميع الماركات الغالية‪ ،‬واالستهالك‬

‫عناوين رئيسة‪ ،‬هذا الجانب يمنح مدى واسعً ا من الحرية‪،‬‬

‫فيمكنك في الشركة عمل كثير من التطوير من دون أن يحدك‬ ‫كثير من القوانين المفصلة كما في ألمانيا التي تسبب كثيرًا‬

‫عال جدًّا؛ بسبب سهولة الحصول على المال‪ ،‬ووفرته بيد‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫محل ذهب‬ ‫المرأة السعودية‪ .‬النساء السعوديات تنتقل من‬

‫ونتحمس لتطور النقاشات فيها في ألمانيا‪ ،‬لم تعد تعنينا‪،‬‬

‫المفاجئة عن السعودية هو مستواها وخدماتها الطبية العالية‪.‬‬

‫والنقاشات في البرلمان‪ ،‬واالجتماعات والقرارات‪ ،‬اآلن أصبح‬

‫كلمة غريبة‪ ،‬فبسهولة يمكنك الدخول للطبيب المختص‪ .‬في‬

‫تغيير الصورة المرئية عن اآلخر‪ ،‬وال يعني ذلك تقبله بشكله‬ ‫الجديد‪ .‬فاأللمان ليسوا أكثر تقبلاً لآلخر من السعوديين‪.‬‬

‫من البيروقراطية واإلعاقة‪ .‬كثير من األشياء التي كنا نتابعها‬

‫لمحل ذهب آخر وزوجها يسير خلفها‪ .‬من أكثر األمور اإليجابية‬

‫مثل‪ :‬حجاب المسلمات في ألمانيا‪ ،‬وكثير من المقاالت‪،‬‬

‫األجهزة الطبية المتقدمة متوافرة‪ ،‬والخدمات الطبية ذات‬ ‫ً‬ ‫مجانا لكل السعوديين‪ .‬االنتظار‬ ‫جودة عالية‪ .‬الخدمات الصحية‬

‫هذا الموضوع ال معنى له لدينا؛ ألنه في الحقيقة هو محاولة‬

‫كل قسم طبي أجهزة أشعة وفحص خاصة به‪ .‬مرت ساندرا‬

‫يوجد في السعودية زيادة عدد الشباب المتعلمين‬

‫أنه تلقى تعليمه في الخارج كان يتحدث معي‪ ،‬ويشرح أسباب‬

‫بالتطور العالمي‪ .‬لدينا فضول لنرى السعودية بعد سنوات‪،‬‬

‫وبسبب الخدمات الجيدة تفضل النساء الغربيات‬

‫وبالوقت الذي سنمضيه في هذا البلد الذي أحببناه‪ ،‬ولدينا‬

‫بحالة مرضية وحينما توجهنا للمستشفى تلقينا عناية عالية‬ ‫ً‬ ‫ولطفا من األطباء والممرضات‪ .‬لكن الطبيب السعودي رغم‬

‫بشكل جيد‪ ،‬ولديهم أفكار وطموح لعمل شركات‪ .‬والدولة‬ ‫ٍّ‬ ‫تحد كبير في الموازنة بين اإلسالم التراثي واللحاق‬ ‫لديها‬

‫المرض‪ ،‬وليس مع ساندرا المريضة‪.‬‬

‫ال نعرف كم سنبقى‪ ،‬لكننا مسرورون بالوقت الذي أمضيناه‪،‬‬

‫الوالدة في الرياض‪ .‬المستشفيات تقدم األدوية بالمجان‪،‬‬

‫والصيدليات تعرض جميع األدوية حتى المضادات الحيوية‬ ‫من دون وصفة طبية‪.‬‬

‫شغف برؤية ازدهار الحياة المدنية في صورة فن وفلم‬ ‫وحب‪ ،‬ومزيد من الحرية للمرأة‪ ،‬الذي بدأنا نراه‪.‬‬

‫‪139‬‬


‫كتب‬

‫«العربية هذه اللغة الشريفة»‬ ‫دراسات في اللغة والنحو والمعجم والساميات‬ ‫محمد ضياء الدين األسود‬

‫كاتب سوري‬

‫مقاالت كتبها الدكتور رمزي‬ ‫هذا الكتاب هو مجموع‬ ‫ٍ‬

‫مقالة‬ ‫البعلبكي خالل مسيرته العلمية الحافلة باإلنتاج‪ .‬كل‬ ‫ٍ‬ ‫موضوعا مستقلاًّ ‪ُ ،‬‬ ‫ً‬ ‫ونشرت في مكان وزمان منفصلين‪،‬‬ ‫ُتعالج‬

‫وكان الدكتور بالل األرفه لي رئيس قسم اللغة العربية في‬ ‫الجامعة األميركية ببيروت‪ ،‬قد جمعها في سفر واحد‪،‬‬ ‫وتعاهدها بالتحرير والتنقيح‪ ،‬ثم نشرها في مركز الملك‬

‫فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية‪ .‬ومن خالل عنوان‬

‫‪140‬‬

‫الكتاب ومطالعته يتبين أنها مقاالت متنوعة بين اللغة‬ ‫والمعجم والنظرية النحوية والساميات‪ .‬تشهد هذه المقاالت‬ ‫بغزارة معرفة الباحث‪ ،‬وعلو كعبه‪ ،‬وطول باعه فيما كتب‪.‬‬ ‫ولعل عنوان الكتاب الذي أُدرجت تحته هذه المقاالت وهو‬

‫عليها من دون أخواتها الساميات‪ ،‬ثم نزل بها كالم الله‪ ،‬فازدادت‬ ‫ً‬ ‫شرفا على شرف؟!‬

‫«العربية هذه اللغة الشريفة» يستحق أن نقف عنده هنيهة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫اللغة وهي‬ ‫الباحث هذه‬ ‫وخصوصا عند الصفة التي ألبسها‬

‫أقول‪ :‬لعل االحتمال الثاني هو األقرب لمقصد الرجلين؛‬

‫جني هو من أطلق هذه الصفة على العربية‪ ،‬ثم أخذها الباحث‬

‫أوضح في المقالة نفسها أنّ مميز العربية هو النظام اللغوي‬

‫«الشريفة»‪ .‬يذكر الباحث في مقالته عن نظرية الشدياق أنّ ابن‬ ‫عن استلهام من عبارة ابن جني؛ يقول ابن جني‪« :‬وذلك أنني إذا‬

‫تأملت حال هذه اللغة الشريفة‪ ،‬الكريمة اللطيفة‪ ،‬وجدت فيها من‬ ‫علي جانب الفكر‪.»...‬‬ ‫الحكمة والدقة‪ ،‬واإلرهاف والرقة‪ ،‬ما يملك َّ‬

‫ومن الواضح أنّ ابن جني خلع على هذه اللغة صفات كثيرة‪ ،‬بيد‬ ‫ّ‬ ‫«حاق‬ ‫أن الباحث وقع اختياره على هذه الصفة‪ ،‬التي جاءت في‬

‫ألنّ كليهما ألمح إلى نظرته حول هذه القضية؛ أما ابن جني فقد‬

‫الدقيق‪ ،‬والحكمة الكامنة في استعمال كل تركيب بعينه‪ ،‬وأما‬

‫الدكتور البعلبكي فيذكر في مقالته التي يتحدث فيها عن منزلة‬ ‫العربية بين الساميات‪ ،‬أنّ المنهج المرتضى في الحكم على تميز‬

‫لغة في أي جانب إنما هو المنهج اللغوي الذي يستند إلى ثوابت‬

‫من ُصلب اللغة‪ ،‬ال من شيء خارج عنها‪ ،‬ثم يذكر بعد ذلك أنّ‬ ‫العربية تف َّردت بين أخواتها الساميات بكثير من المزايا التي ُتنسب‬

‫موضعها» كما يقول عبدالقاهر الجرجاني‪ ،‬ولو أنك أخذت صفة‬ ‫الكريمة مثلاً أو اللطيفة‪ ،‬لما وقعت موقع «الشريفة» ولبقيت‬

‫للغة السامية األم‪.‬‬

‫التشريف الديني؟ بحيث أنّ الله ش َّرفها وأنزل كالمه بها‪ ،‬وجعلها‬

‫وإتقانها على مستوى جيد‪ ،‬وال سيما علم النحو‪ ،‬فهو أكثر علوم‬

‫ِّ‬ ‫متمكنة في موضعها‪ .‬ولنا أن نتساءل بعد‬ ‫َقلِقة مضطربة‪ ،‬وغير‬ ‫ُ‬ ‫الباحث‪ -‬بهذه الصفة؟ أهو‬ ‫ذلك‪ :‬ماذا يقصدان ‪-‬ابن جني ومِن ورائِه‬ ‫لغة الدين الخاتم‪ ،‬ثم تحدَّى بها العرب أولي الفصاحة والبيان‬ ‫َّ‬ ‫والل َسن‪ ،‬أم أنها تتميز بخصائص لغوية‪ ،‬ومزايا صرفية‪ ،‬حافظت‬ ‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬

‫ِّ‬ ‫المتعثر لتعليم العربية في‬ ‫يسلط الباحث الضوء على الواقع‬ ‫المؤسسات األكاديمية‪ ،‬وإعراض الطالب عن ُّ‬ ‫تعلم لغتهم األم‪،‬‬ ‫العربية تجريدًا‪ ،‬فلذا كانت الجفوة بينه وبين متعلمي العربية كبيرة‪.‬‬ ‫ويعزو الباحث هذه الجفوة إلى تركيز النحويين على مسألة التعليل‬


‫في إطالق أحكامهم النحوية‪ ،‬في حين أنّ التعليل يغير المنهج من‬ ‫الوصفية إلى المعيارية‪ ،‬الذي كان على النحاة أن يتجنبوه‪ ،‬ويكتفوا‬

‫توصيات للتحسين من واقع‬ ‫بوصف الظواهر‪ .‬وفي ختام المقالة يذكر‬ ‫ٍ‬

‫العربية المتردي في أوساط المتعلمين‪ ،‬فيدعو إلى تخليص النحو‬ ‫من شائبة «التعليل»؛ ألنها ِّ‬ ‫تنفر الطلبة من لغتهم‪ ،‬والتوجه نحو‬ ‫اعتماد المعنى بديلاً عن التعليل‪ ،‬كما فعل البالغيون؛ ألن الغرض‬ ‫الذي وضع من أجله علم النحو هو دراسة المعنى من جوانبه كافة‪،‬‬

‫هذا باإلضافة إلى التخفف من وطأة القيود التي وضعها النحاة‪،‬‬

‫كـ«عصور االستشهاد» أو «الوجه الضعيف»‪ .‬ومما يُستحسن لدارس‬ ‫العربية ً‬ ‫أيضا أن يتعلم لغة سامية إلى جانب العربية؛ إلدراك‬ ‫الظواهر اللغوية بشكل أعمق وفي إطار تاريخي مقارن‪.‬‬

‫رمزي بعلبكي‬

‫العربية في جمعية األمم‬

‫ويُعالج الباحث أهم االعتراضات التي وُجِّ هت إلى اللغة‬

‫العربية إبّان الجدال الدائر في جمعية األمم المتحدة حول قبول‬

‫اللغة العربية في الجمعية وجعلها لغة رسمية‪ ،‬وكان االعتراض‬

‫آنذاك هو أن العربية تنتمي إلى القرون الوسطى‪ ،‬وال تصلح أن تكون‬ ‫لغة حداثة‪ ،‬أو تواصل في المنتديات الدولية‪ .‬فرأى أن العربية فيها‬

‫من المرونة ما يسمح أن يُطوع أساليب جديدة تستجيب لمقتضيات‬

‫التخاطب السياسي والدبلوماسي‪ ،‬ففي معظم الوثائق الدبلوماسية‬ ‫العربية قد ال يعرف القارئ إن كان النص ُكتب بالعربية من أصله‬

‫أو ُترجم إليها‪ ،‬بل إن العربية قد استخدمت من المصطلحات‬ ‫الدبلوماسية ما يصعب ترجمته بكامل داللته إلى لغة أجنبية؛ مثل‪:‬‬

‫جاللة ودولة ورفعة وغبطة وسعادة وسمو ومعالي وعزة وعصمة‪.‬‬

‫يسلط الكتاب الضوء على الواقع‬ ‫المتع ِّثر لتعليم العربية في المؤسسات‬ ‫األكاديمية‪ ،‬وإعراض الطالب عن تعلم‬ ‫لغتهم األم‪ ،‬وإتقانها على مستوى‬ ‫جيد‪ ،‬وال سيما علم النحو‪ ،‬فهو أكثر‬ ‫تجريدا‪ ،‬فلذا كانت الجفوة‬ ‫علوم العربية‬ ‫ً‬ ‫بينه وبين متعلمي العربية كبيرة‬ ‫القسم الثالث من الكتاب يضم مقاالت في التأليف‬ ‫ّ‬ ‫يستهله الباحث بمقالة عن نظرية الشدياق االشتقاقية‪،‬‬ ‫المعجمي‪،‬‬

‫ولقد كان الباحث موضوعيًّا عندما رأى في ختام مقالته أنه ال بد‬ ‫الذ ِّب عن لغتنا‪ ،‬فهل َّ‬ ‫من نقد ذواتنا العربية‪ ،‬عالوة عن َّ‬ ‫ذللنا سُ بُل‬

‫المعجمية الثالثية السابقة‪ ،‬التي بنى عليها المعجميون العرب‬

‫لخطر اللغات األجنبية؟ فنحن نقدم للعالم ومنظماته صورة غير‬

‫مارون عبود على نظرية الشدياق الذي جعل كفة معاجم اللغة‬

‫االنطالق للغتنا حتى في مجتمعاتنا‪ ،‬وهل َّ‬ ‫وفرنا لها وسائل التصدي‬ ‫موحدة عن لغتنا‪ .‬وهل لدينا واقع مصطلحي موحَّ د؟‬

‫يجزم الباحث في مقالته عن التقعيد النحوي بأنّ نشأة النحو‬ ‫ً‬ ‫عربية خالصة‪ ،‬وهو ابن بيئته‪ ،‬وذلك لسببين‪:‬‬ ‫العربي كانت نشأة‬

‫وهي نظرية جديدة‪ ،‬تقوم على الثنائية اللغوية‪ ،‬مُغايرة للنظرية‬

‫معجماتهم‪ .‬لقد كان الباحث موضوعيًّا حين سرد في البداية إطراء‬

‫كلها تشول إذا ما وُزنت بسر الليال للشدياق‪ .‬ثم بعد ذلك وضعها‬

‫على ميزان النقد ليرى هل يمكن عدها نظرية ثابتة‪ ،‬وخطوة جديدة‬ ‫في مجال المعجم‪ ،‬ليتبيَّن له في نهاية المطاف «أن نظرية الشدياق‬

‫أولهما‪ -‬أنَّ المصطلحات في كتاب سيبويه كانت في طور‬

‫االشتقاقية قائمة في جوهرها على االفتراض‪ ،‬وفي تطبيقها على‬ ‫التعسف‪ ،‬وإن كان فيها ومضات خلاَّ قة‪ ،‬ومالحظ صائبة‪ ،‬وجهد‬

‫ً‬ ‫ترابطا منهجيًّا‪ ،‬يجعله‬ ‫ثانيهما‪ -‬أنّ المُتأمل كتاب سيبويه يرى‬

‫العامة الكبيرة» ومما يوجهه إلى تلك النظرية من سهام النقد هي‬

‫النحوية العربية بشكل دقيق‪ ،‬وال يستقيم في المنطق أن يكون‬

‫أن تقوم عليها لغة متكاملة‪ ،‬وأن معظم التأويالت التي يذكرها‬

‫الوالدة‪ ،‬فقد يُعبِّر سيبويه عن المصطلح بجملة كاملة‪ ،‬وهذا دليل‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫مقتبسة من نحو أمة أخرى‪.‬‬ ‫وليست‬ ‫على أنها محلية النشأة‪،‬‬ ‫ي ِّ‬ ‫ُسلم بوجود خطة في ذهن سيبويه تقوم على تحليل التراكيب‬

‫ذلك كله لنظام مُقترض من لغة أخرى‪ ،‬وطبقه على العربية‪ .‬وال‬ ‫ينكر الباحث ظهور األثر اليوناني في دراسة النحو العربي وغيره‬

‫من العلوم العربية‪ ،‬من حيث تناول األشياء وتحليلها‪ ،‬وهذا أمر‬ ‫ّ‬ ‫مستقل تمامًا عن مرحلة النشأة‪.‬‬

‫دائب في التقصي والمقارنة والنفاذ من الجزئيات إلى الخطوط‬

‫أن المعاني التي يُرجع إليها األصول الثنائية قليلة جدًّا‪ ،‬وال يمكن‬

‫الشدياق ال تخلو من التكلف أو التمحل‪ .‬ثم إن الباحث في نقده‬ ‫لنظرية الشدياق ال يبخسه ًّ‬ ‫حقا‪ ،‬وال يغمطه فضلاً ‪ ،‬بل يُشيد‬ ‫بجهده‪ ،‬ويُق ّر بنصيبها من الصحة في بعض الجوانب‪ ،‬بيد أنه يرى‬

‫أنها ال يمكن أن تكون نظرية راسخة ثابتة‪.‬‬

‫‪141‬‬


‫نصوص‬

‫حين تتوقف ساعة العقل‬ ‫عائشة البصري‬

‫روائية وشاعرة مغربية‬

‫رفع رأسه إلى شاشة اإلعالن عن مواعيد الحافالت‪ ،‬تفحصها مليًّا‪ ،‬ثم تأفف بصوت مرتفع‪ :‬أُ ّف‪ !..‬يبدو أن الحافلة تأخرت مرة‬

‫أخرى‪.‬‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ترين إعالنا يخص الحافلة القادمة من الجزيرة‬ ‫التفت إلى السيدة المنتظرة بجانبي وسألها‪ :‬من فضلك‪ ،‬ال أرتدي نظاراتي‪ ،‬هل‬ ‫الخضراء؟‬

‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫وأجابت بصوت حزين‪ :‬ال أرى‬ ‫اقتربت منه‬ ‫ابتسمت المرأة الستينية بمودة في وجه الرجل السبعيني‪ ،‬وكما لو أنها تعرفه‪،‬‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫حافلتك‪ .‬اسأل الجابي هناك وراء الكونتوار‪.‬‬ ‫إعالنا يخص‬ ‫مع أنه في تلك اللحظة بالذات أُعلن عن الوقت المحدد لوصول الحافلة نفسها‪.‬‬

‫ما َه َّمني‪ُ ،‬‬ ‫قلت لنفسي‪.‬‬

‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫توقفت عند الرصيف رقم ‪ 12‬كما هو مكتوب‬ ‫واتجهت أنا إلى محطة اإلركاب‪.‬‬ ‫كالما لم أفقهه‪،‬‬ ‫متمتما‬ ‫تركته يتجه نحو الكونتوار‬

‫ُ‬ ‫انتبهت‪ ،‬ما زال على وقت السفر أكثر من ثالثين دقيقة‪ ،‬وقت كاف لتناول فنجان‬ ‫على بطاقة سفري‪ .‬وقفت أنتظر قدوم الحافلة‪.‬‬ ‫قهوة وقطع من‏« ْ‬ ‫ُّ‬ ‫تخصص مقصف محطة غرناطة‪ .‬في الوقت المحدد دخلت الحافلة‪ ،‬نزل المسافرون‪ ،‬وترجل السائق‪.‬‬ ‫‏التشو ُّرو‏»‏‏‪،‬‬

‫‪142‬‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫واحدا‪:‬‬ ‫واحدا‬ ‫من خالل زجاج المقصف‪ ،‬رأيت الرجل يتوجه إلى السائق ويسأله وهو يتفحص وجوه المسافرين القادمين‬ ‫هل هذه الحافلة قادمة من الجزيرة الخضراء؟‬

‫أجاب السائق بتعاطف غير مبرر‪:‬‬ ‫ال‪ ،‬إنها قادمة من طريفة‪.‬‬

‫لكن الالفتة تحمل اسم الجزيرة الخضراء‪.‬‬

‫احتجَّ الرجل بإصرار‪.‬‬

‫أجاب السائق بهدوء‪:‬‬

‫أخبرتنا الشركة أن ال مسافرين في محطة الجزيرة الخضراء‪ ،‬فألغيناها من خط السفر هذا اليوم‪.‬‬ ‫ازداد احتجاج الرجل‪:‬‬

‫كيف تلغون رحلة دون إخبار سابق‪ ،‬ابنتي َن َوت السفر على هذا الخط‪.‬‬

‫ِّ‬ ‫ثم حك رأسه‬ ‫مخم ًنا‪:‬‬

‫تأت ابنتي هذا الصباح‪ ،‬الحمد لله‪ ،‬اعتقدت أن الحافلة تعرضت لحادثة في الطريق‪ ،‬ال يهم ألاّ تأتي ابنتي في هذه‬ ‫لهذا لم ِ‬

‫الرحلة‪ ،‬المهم أنها بخير‪ .‬ثم استدار نحو منظفة كانت منهمكة في جمع بقايا طعام على مقعد عريض‪:‬‬

‫ها أنت ترين يا بيبا‪ ،‬لم تكن حادثة سير ما َّ‬ ‫أخر ابنتي‪ ،‬إنما سوء تدبير شركة النقل‪ .‬في المرة القادمة سأنصحها بأن تأخذ‬ ‫حافلة من شركة ْ‬ ‫َاريس‪ ،‬شركة ميغا ُب ْ‬ ‫بالي ْ‬ ‫وس ال تحترم المسافرين‪.‬‬

‫َّ‬ ‫صدقت المنظفة على كالمه بحركة من رأسها وتابعت عملها‪ .‬اختفى الرجل في الممر المؤدي إلى باب الخروج‪ .‬في الحافلة‬

‫يجر بيننا‪ ،‬قالت‪:‬‬ ‫كانت جارتي هي نفس المرأة الستينية التي سألها الرجل أول األمر‪ .‬دون مناسبة‪ ،‬وكتكملة لحديث لم ِ‬

‫أتعرفين أن العديد من الناس يفقدون الذاكرة من األلم والصدمة؟ عقل هذا الرجل أصابه التلف لكن ذاكرته ترفض النسيان‪.‬‬

‫النسيان يساعد الذاكرة على تنظيف مشاعر الحب أو الكراهية المفرطة؛ كي ال يجن العقل‪ .‬كل جمعة يأتي الرجل المسكين إلى‬

‫هذه المحطة للسؤال‪ ،‬بنفس اللهجة واإليقاع‪ ،‬وفي نفس التوقيت‪ ،‬عن الحافلة القادمة من الجزيرة الخضراء‪ ،‬التي كان من‬ ‫المفروض أن تحمل ابنته إلى غرناطة‪ ،‬منذ خمس سنوات‪ .‬لم يكن لديه في هذا العالم غير تلك االبنة‪ ،‬التي كانت تعيش مع أمها‬ ‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬


‫المطلقة‪ .‬وكانت نهاية األسبوع حصة الوالد من ابنته‪ .‬منذ ذلك الحين توقفت ذاكرته عند هذه اللحظة‪ ،‬لحظة أعلنوا عن تعرض‬

‫الحافلة لحادثة وعن وفاة ابنته‪ .‬سوء األقدار جعل الجميع ينجو إال ابنته البالغة من العمر تسع عشرة سنة‪.‬‬ ‫رسمت عالمة صليب على صدرها‪ ،‬وتمتمت بأدعية قبل أن تواصل‪:‬‬

‫رفض حتى أن يتسلم تعويض التأمين وهو مبلغ مالي ال يستهان به‪ .‬فالمذنب كان السائق الذي غفا أثناء السياقة‪ .‬الكل في‬

‫محطة غرناطة يجاريه ألنهم يعرفونه ويعرفون مصابه‪ ،‬لم يتأخر عن موعده كل جمعة إال مرة واحدة‪ ،‬يوم نفقت القطة‪ .‬وحسب‬ ‫ما حكت لي بيبَّا منظفة المحطة فإن القطة كانت البنته‪ .‬بعد شهور‪ ،‬قنطت القطة من انتظار عودة صاحبتها‪ ،‬فر َ​َم ْ‬ ‫ت نفسها من‬ ‫النافذة إلى حاوية األزبال‪.‬‬

‫صمت‪ .‬فجأة‪ ،‬التفتت إلي‪:‬‬

‫أال توافقينني على أن انتحار القطة فيه ما ُيريب؟ كثيرًا ما تتماهى أرواح القطط بأرواح البشر‪ ..‬أن يقتلها الرجل أمر وارد‪ ،‬انتظار‬

‫القطة يذكره بانتظاره المؤلم‪.‬‬ ‫‪ ..‬أعرف ً‬ ‫شيئا عن هذا االرتباك بين التذكر والنسيان‪ .‬فقد سبق وعانيت في فترة من حياتي من نسيان النسيان‪ ،‬وتلك حكاية‬

‫طويلة ال تكفيها مسافة هذه الرحلة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫سلسا ومتناسقا جاهزا للتدوين إذا ما فكرت ً‬ ‫ً‬ ‫يوما في سرقة قصتها‪.‬‬ ‫دون كلمة‪ ،‬حركت رأسي بتعجب‪ .‬في الواقع كان سردها‬

‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫عيني‬ ‫الحظت‬ ‫حاولت أن أجد تفسيرًا لذلك‪ ،‬كأن تكون قد‬ ‫غير أنني لم أعتد هذا االقتحام المفاجئ‪ ،‬وبخاصة في بلد أوربي‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ظننت أن السيدة أفرغت ما في جوفها من مرارة وحسرة‪ ،‬وأشبعت تلك‬ ‫الفضوليتيْن وهما تتبعان الرجل في كل مراحل السؤال‪.‬‬

‫الرغبة في القص التي تصاب بها العجائز عادة‪ ،‬لكنها حولت بصرها إلى الحقول الممتدة على جنبات الطريق‪ ،‬لم تنتبه حتى إلى‬ ‫أنني لست إسبانية وال أفهم بعض ما تنطق به حين تسرع في إيقاع الكالم‪ .‬ودون أن تنظر إلي تابعت‪:‬‬

‫أصبح هذا الرجل جزءًا من رحلتي؛ ألنني أستعمل هذا الخط مرة في الشهر‪ ،‬ألزور ابنتي في الجزيرة الخضراء في مأوى‬ ‫ً‬ ‫مكانا لها في مأوى‪،‬‬ ‫لالحتياجات الخاصة‪ .‬قضيت عشر سنوات وأنا أعتني بها وحدي عن طواعية‪ ،‬وأربع سنوات أخرى وأنا أنتظر‬

‫بعد أن أبدت ميولاً للعنف‪ ..‬منذ أكثر من عشر سنوات وأنا أطالب المسؤولين بنقلها إلى مأوى في غرناطة لتكون قريبة مني‪،‬‬ ‫ً‬ ‫دائما برسائل اعتذار مبرر بأنه ال مكان في مأوى غرناطة‪ ،‬وحين يشغر مكان سيعملون على تلبية طلبي‪ .‬عادة تغويني‬ ‫وأتوصل‬

‫حكايات األكبر مني ًّ‬ ‫سنا‪ ،‬وقد أطعمها بأسئلة حافزة‪ ،‬لكنني لم أنم ً‬ ‫جيدا ليلة أمس في اإلقامة الجامعية‪ ،‬وأحس بخمول ذهني‬

‫وجسدي‪ ،‬لهذا لم أسألها عن الحلقة المفقودة‪ :‬أين والد االبنة؟ التفتت نحوي‪ ،‬فأطل دمع الزوردي من عينين هما آخر مسحة‬ ‫جمال فضلت عن الشباب‪ .‬وجه مع ِّبر لكنها مالمح ال تصلح ألن تكون لشخصية من الشخصيات الروائية المستقبلية‪،‬‬

‫ً‬ ‫تماما‪.‬‬ ‫وذلك ما أخمد فضولي‬

‫مرة ذهبت أشتكي في المصلحة الشؤون االجتماعية‪ ،‬فواجهتني الموظفة العانس بسؤال اتهامي‪:‬‬ ‫ألم تكوني تعلمين أن الحمل بعد األربعين ينتج عنه ولد معاق؟‬

‫مجاملة أللم إنساني رسمت على وجهي مالمح تعاطف واهتمام بقصة‬

‫المرأة ما شجعها على االستمرار في البوح‪:‬‬

‫ُ‬ ‫كنت سأواظب على هذه الزيارات مع تقدمي‬ ‫ال أدري إن‬

‫في السن‪ ،‬أو سأصبح مثل هذا الرجل أتردد على المحطة‬ ‫ّ‬ ‫وتحل محلي امرأة أخرى لتحكي‬ ‫للسؤال فقط‪.‬‬ ‫لجارتها قصتي‪.‬‬

‫أما أنا فال أعرف إن كانت تلك المرأة ستنزعج‬ ‫أو تتألم إذا عرفت أنني سرقت حكايتها‪ ،‬فعلاً ‪،‬‬ ‫ألحكيها لكم‪.‬‬

‫‪143‬‬


‫فضاءات‬

‫‪144‬‬

‫ِليلي بريك‪..‬‬ ‫من عشيقة ماياكوفسكي‬ ‫إلى عميلة في الشرطة السرية!‬ ‫السوفييتية‬ ‫من أكثر النساء تأثي ًرا في الثقافة‬ ‫ّ‬ ‫الروسية»‬ ‫ـ«ملهمة الطليعة‬ ‫وصفها نيرودا ب ُ‬ ‫ّ‬ ‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬


‫عماد أبو صالح‬

‫شاعر وكاتب مصري‬

‫عاشت لِيلي بريك بالطول والعرض‪ .‬عاشت ح ّتى شبعت من العيش‪ ،‬فأنهت حياتها بكامل رغبتها‬ ‫في السابعة والثمانين من عمرها‪ .‬كأنّ ليلي ال يليق بها أن تموت دون إرادتها‪ ،‬ميتة عاد ّية مثل ّ‬ ‫كل الناس‪.‬‬ ‫كأنها أرادت أن ّ‬ ‫تحدد وقت موتها بنفسها‪ ،‬ح ّتى وهي في أرذل العمر‪ ،‬وأن تختم تاريخها الطويل في التمرّد‪،‬‬ ‫بمقاومة سلطة مالك الموت‪ ،‬وهي جلد على عظام‪ .‬كانت ليلي قاتلة‪ .‬ال القتل الكالسيكي بالرصاص الحي‪،‬‬

‫إنما باللحم الحي‪ .‬بحرارتها وحريّتها‪ ،‬بجبروتها وجرأتها‪ .‬كانت أينما تسير‪ ،‬يتبعها طوابير من المعجبين‬ ‫ّ‬ ‫والعشاق والمجانين‪ .‬حين تراها لن يكفي أن تقول‪« :‬جميلة»‪ ،‬ال ّ‬ ‫بد أن تصرخ عاليًا‪« :‬منتهى الجمال»!‬ ‫ما الذي ّ‬ ‫يتبقي لي ألكتبه عن ليلي بريك؟‬

‫ال شيء تقريبًا‪ ،‬ال كبيرة وال صغيرة‪ ،‬إذ إنها حين كانت تعطس‪،‬‬

‫يكون هناك من يحتفي في قصيدة أو لوحة أو قطعة موسيقيّة‪،‬‬

‫بروعة عطستها‪ .‬واحدة من أكثر النساء تأثي ًرا في الثقافة السوفييتيّة‪،‬‬

‫ال يصعد شاب ساللم الشهرة‪ ،‬مهما كانت موهبته‪ ،‬إال إذا منحته‬ ‫تأشيرة الدخول‪ ،‬ووصفها بابلو نيرودا ّ‬ ‫بأنها «مُلهمة الطليعة‬ ‫الروسيّة»‪ ،‬وهو إعجاب ّ‬ ‫ملطف‪ ،‬إذ ال بد أنه كان يريد أن يمدحها‬ ‫أكثر‪ ،‬لكنه خاف على مشاعر «ماتيلدا»‪ ،‬أو خاف من عقاب «ماتيلدا»!‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫وُلدت ليلي يوريفنا كاجان يوم ‪ 11‬نوفمبر ‪1891‬م لعائلة يهودية‬ ‫ّ‬ ‫معلمة موسيقا‪ ،‬أما أختها‬ ‫محام وأمّها‬ ‫ثريّة في موسكو‪ .‬أبوها‬ ‫ٍ‬ ‫األصغر منها‪ ،‬فهي إلزا تريولية‪ ،‬التي س ُتعرف فيما بعد باسم إلزا‬ ‫أراغون‪ ،‬نسبة إلى الشاعر الفرنسي لويس أراغون الذي ّ‬ ‫خلد عيونها‬ ‫في ديوان كامل‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫تلقت ليلي تعليمًا راقيًا‪ ،‬وأتقنت األلمانية والفرنسية‪ ،‬ورقص‬

‫الباليه‪ ،‬والعزف على البيانو‪ ،‬وتخ ّرجت من معهد موسكو للهندسة‬

‫المعماريّة‪ .‬في سنّ الثالثة عشرة أدركت قدرتها الباكرة على «سحر‬ ‫الرجال»‪ .‬جلبت كثي ًرا من المتاعب لوالديها‪ ،‬تقول‪« :‬أمي لم تعرف‬

‫الراحة بسببي‪ ،‬كان ال يغمض لها جفن»‪ .‬كانت دائمًا «تقع في الحب‬

‫«حب حتى الموت»‪ ،‬مع ليلي دائمًا هناك‬ ‫بسهولة»‪ ،‬وهو في كل م ّرة‬ ‫ّ‬ ‫حب جديد‪.‬‬ ‫ّ‬

‫ما إن بلغت السابعة عشرة‪ ،‬ح ّتى تكوّر بطنها الجميل‪ .‬ممّن؟‬

‫‪145‬‬ ‫ليلي وماياكوفسكي‬

‫ذات ليلة من ليالي يوليو عام ‪1915‬م جاءت إلزا التي كانت في‬

‫التاسعة عشرة من عمرها‪ ،‬ومعها عمالق فارع الطول‪ ،‬قويّ البنية‪،‬‬

‫وعيناه تقدحان شررًا‪ .‬ما الذي ستفعله «ماكينة بشريّة» كهذه في‬

‫صالون أدبي؟ ستفعل كثي ًرا‪ ،‬ستغيّر حياة ليلي بريك برمّتها‪ ،‬وتغيّر‬ ‫الروسي ّ‬ ‫كله‪ .‬كانت الغرفة معبّأة بدخان السجائر‪،‬‬ ‫وجه الشعر‬ ‫ّ‬ ‫ومليئة عن آخرها بضيوف جاؤوا إللقاء أشعارهم‪ .‬كسر فالديمير‬ ‫ً‬ ‫واقفا قصيدته الطويلة‬ ‫ماياكوفسكي آداب صالون آل بريك‪ ،‬وألقى‬

‫«غيمة في بنطلون»‪ ،‬التي تشتبك فيها اللغة الثوريّة باللغة الدينيّة‪،‬‬

‫كأنه شجار عنيف بين امرأتين‪ ،‬وحين انتهى‪ ،‬كان يمكنك أن تسمع‬ ‫ّرنة إبرة على البالط لدقائق طويلة‪ .‬الكتاب الصغير الذي كتبته إلزا عن‬ ‫ماياكوفسكي‪ ،‬وصدر في باريس بعد تسع سنوات من وفاته‪ ،‬يتضمّن‬

‫الحب الطويلة‪ ،‬ليلي‬ ‫ال تذكر المراجع اسم ذلك الحبيب في سلسلة‬ ‫ّ‬ ‫نفسها ال تذكره‪ ،‬أو ربّما ال تتذ ّكره‪ .‬أجرت عملية إجهاض في قرية‬

‫إلي أنني ما زلت أراه يمشي‬ ‫«تشريحً ا» لجسده بعيون أنثويّة‪« :‬يخيّل ّ‬

‫في ‪ 26‬فبراير ‪1912‬م تزوّجت الشاعر والناقد أوسيب بريك‪،‬‬

‫تلك الرأس المذهلة ذات الجمجمة الضخمة المستديرة‪ ،‬والوجنتين‬ ‫ّ‬ ‫والفكين القوييّن‪ ،‬والعينين الكستنائيتين‬ ‫المستطيلتين الغائرتين‪،‬‬

‫نائية‪ ،‬وكان الثمن عدم قدرتها على إنجاب أطفال بقيّة عمرها‪ .‬ال بأس‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫المدللة‪ ،‬فما حاجتها لطفلة أو طفل؟!‬ ‫أيضا‪ ،‬ليليشكا طفلة الجميع‬ ‫وانتقلت للعيش معه في سانت بطرسبرغ‪ ،‬وبعد أشهر عدة ق ّررا‬ ‫ّ‬ ‫الشقة ّ‬ ‫كل أحد إلى صالون أدبي للك ّتاب والشعراء والرسّ امين‬ ‫تحويل‬ ‫وص ّناع األفالم والثوريّين من الجيل الجديد‪.‬‬

‫في شوارع موسكو‪ ،‬برأسه العالية مقارنة برؤوس غيره من المارّة‪،‬‬

‫العميقتين الذاهلتين‪ ،‬برموشهما التي ال ّ‬ ‫تكف عن الرفيف‪ ،‬وجبهته‬ ‫ّ‬ ‫المتغضنة‪ .‬كان يمشي على قدمين قويّتين‪،‬‬ ‫بأخاديدها القصيرة‬ ‫ونصفه العلوي‪ ،‬بمنكبيه العريضين‪ ،‬كأنه تمثال نصفي»‪.‬‬


‫فضاءات‬

‫كانت ليلي قد سمعت عن هذه «القنبلة» أنه منبوذ من‬ ‫ّ‬ ‫وتخلى عن‬ ‫المجتمع‪ ،‬وسُ جن ثالث م ّرات في سنّ المراهقة‪،‬‬ ‫السياسة الحزبيّة‪ ،‬ويبادل المؤسسات البرجوازية ريبة بريبة‪،‬‬

‫وانتقل إلى موسكو لدراسة الفن‪ ،‬ويحظى بمحبّة طاغية في أوساط‬

‫الشباب الراديكالي‪ ،‬ويقرأ قصائده في الشوارع‪ .‬ماكينة بشريّة وطاقة‬ ‫كاف ليجذب ليلي‪ ،‬ولتبدأ واحدة من أهم قصص‬ ‫شعريّة‪ ،‬هذا ٍ‬ ‫الدراما والحب في التاريخ الروسي‪ .‬ماذا عن زوجها؟ ال يهمّ ‪ ،‬ليلي‬ ‫حل ّ‬ ‫سترتب األمر‪ ،‬ليلي عندها ّ‬ ‫ّ‬ ‫لكل مشكلة‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫في عام ‪1918‬م‪ ،‬كتبت ليلي‪« :‬بعد التأ ّكد من مشاعري تجاه‬

‫ماياكوفسكي‪ ،‬كنت قادرة على إخبار بريك بكل ثقة عن حبّي‪ ،‬وق ّررنا‬ ‫نحن الثالثة‪ ،‬أن نواصل عالقتنا الحميمة»‪ .‬بوضوح أكثر‪ :‬احتفظت‬

‫ليلي بالرجلين‪ ،‬واقتسمها الرجالن‪ ،‬بالعدل‪ ،‬وسط صدمة وقتها‬

‫في المجتمع الروسي‪ .‬انتقل ماياكوفسكي لإلقامة في شقة سانت‬ ‫بطرسبرغ بعد طول تش ّرد في الشوارع‪ ،‬وهناك صورة من هذه‬ ‫الحقبة ُتظهر ليلي واقفة بين «رجُ ليها» وابتسامة عريضة تكسو‬

‫وجهها‪ .‬ماذا عن إلزا؟ ليست مشكلة‪ .‬يبدو أن إلزا شبعت أو ّ‬ ‫ملت‬

‫من ماياكوفسكي‪ ،‬وتنازلت عنه بطيب خاطر ألختها الكبيرة‪ ،‬وستجد‬

‫بكل تأكيد واحدًا غيره‪ .‬بال ميلودراما‪ ،‬الحكاية بسيطة‪ :‬ليلي خطفت‬ ‫ُلعبتها‪ ،‬وستقتني ُلعبة غيرها‪.‬‬

‫كتبت ليلي في مذكراتها‪« :‬ماياكوفسكي وقع في حبّي م ّرة‬

‫واحدة إلى األبد‪ .‬أقول‪ :‬إلى األبد؛ ألنه سيبقى لقرون عدة‪ ،‬ولن يولد‬

‫من يمحو هذا الحب من وجه األرض»‪ .‬ماذا عنها هي؟ أحبّته؟ ها هي‬ ‫إجابة‪ :‬دائمًا تحكي ليلي هذه الحكاية وال ّ‬ ‫ُ‬ ‫«ذهبت‬ ‫تمل من تكرارها‪:‬‬

‫مع ماياكوفسكي إلى مقهى بتروغراد الشهير‪ .‬قبل مغادرتنا‪ ،‬نسيت‬ ‫حقيبتي‪ ،‬وعاد ً‬ ‫الهثا لجلبها‪ .‬على الطاولة المقابلة كانت تجلس‬

‫سيدة مذهلة‪ ،‬الصحافيّة المعروفة الريسا ريسنر‪ ،‬نظرت بحزن إلى‬

‫ماياكوفسكي وقالت‪ :‬يبدو أنك ستحمل هذه الحقيبة مدى الحياة»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫تعلق ليلي بفخر على حكايتها قائلة‪« :‬أنا ليليشكا! عليه أن يحمل‬

‫الحب»‪ .‬ستصبح ليلي ملهمة‬ ‫هذه الحقيبة في فمه‪ ،‬ال كرامة في‬ ‫ّ‬ ‫ماياكوفسكي لمدة عشرين عامًا‪ .‬ك ّرس لها وعنها القسط الوافر‬

‫من قصائده الغنائيّة‪ ،‬وكتب سيناريو فلم «السلسلة» وقاسمها‬ ‫بطولته‪ ،‬كما نشر بالتعاون معها ومع أوسيب بريك والمصوّر‬ ‫ألكسندر رودتشينكو‪ّ ،‬‬ ‫مجلة الفنون اليساريّة التي فتحت صفحاتها‬ ‫للمبدعين الجدد‪.‬‬

‫في أواخر سنة ‪1920‬م‪ ،‬كاد الشرخ يضرب جدار العالقة الثالثيّة؛‬ ‫ّ‬ ‫المتقلبة‪ .‬تع ّرف خالل‬ ‫بسبب شخصيّة ماياكوفسكي الدراماتيكيّة‬

‫‪146‬‬

‫رحلة في باريس على روسيّة شابّة‪ ،‬هي تاتيانا ياكوفليفا‪ ،‬وبدأ معها‬

‫ّ‬ ‫قصة غراميّة‪ .‬امرأة تأخذ ماياكوفسكي من ليلي؟ مستحيل‪ .‬ها هي‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫تستعيده‪« :‬أقنعته بأن يعود من باريس بسيّارة رينو‪ ،‬وأن يتعلم‬

‫القيادة‪ .‬أنا كنت دائمًا وراء عجلة القيادة‪ .‬عندما كان هناك تهديد‬ ‫بالفراق بيني وبينه بسبب عالقته مع تاتيانا ياكوفليفا؛ طلبت من‬

‫ليلي مع زوجها وماياكوفسكي‬

‫أختي إلزا‪ ،‬التي تعيش في باريس‪ ،‬كتابة رسالة تزعم فيها تاتيانا بأنها‬ ‫ستتزوّج من نبيل ثري‪ ،‬وقراءتها بصوت عال في إحدى األمسيات‪.‬‬

‫ليلي بريك تتعاون مع الشرطة السرية‬ ‫تجربة مؤلمة؟ ليس كثيرًا‪ .‬واصلت ليلي تعاونها مع الشرطة السريّة (‪ ،)OGPU‬ووزارة الداخلية (‪ ،)NKVD‬وجهاز أمن الدولة‬ ‫(‪ ،)CHEKA‬وغيرها من وكاالت االستخبارات السوفييتيّة‪ ،‬كما كانت «زائرة» دائمة التحاد الك ّتاب في بيريدلكينو‪ ،‬وهو ما أثار تساؤالت‬

‫عن دورها في القبض على عدد من المبدعين خالل تلك الحقبة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫كثيرون أعربوا عن شكوكهم في تعاون ليلي وأوسيب مع السلطات منذ وقت طويل‪ .‬بوريس باسترناك كان يصف شقتهما بأنها‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫الشقة‪« :‬هل تظن أن بريك‪ ،‬الناقد األدبي‪ ،‬يعيش هنا؟ مخبر أمن‬ ‫«قسم شرطة موسكو»‪ .‬سيرجي يسينين‪ ،‬كتب بالطباشير على باب‬ ‫ّ‬ ‫الشقة نفسها اسم‪« :‬ملتقى الك ّتاب مع أمن الدولة»‪.‬‬ ‫الدولة يعيش هنا»‪ .‬آنا أخماتوفا أطلقت على‬

‫ً‬ ‫تحقيقا في‬ ‫في عام ‪1990‬م‪ ،‬بعد اإلفراج عن المحفوظات السريّة لوزارة الداخلية السوفييتيّة‪ ،‬نشر الصحافي فالنتين سكورياتين‬

‫ّ‬ ‫وحصة‬ ‫العدد الخامس من مجلة (‪ )ru‬بعنوان‪« :‬من‪ ،‬أنا‪ ،‬أطلقت النار على نفسي؟ ال تقل ذلك!»‪ ،‬يتناول فيه موت ماياكوفسكي الغامض‬ ‫ً‬ ‫مؤكدا‬ ‫ليلي من الميراث بعد وفاته‪ .‬تضمّ ن التحقيق األرقام التسلسليّة في أمن الدولة لكل من أوسيب وليلي (‪ 15073 - 24541‬على التوالي)‪،‬‬ ‫تجنيد أوسيب عام ‪1920‬م‪ ،‬في حين لحقت به زوجته في عام ‪1922‬م‪.‬‬ ‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬


‫لِيلي بريك‪ ..‬من عشيقة ماياكوفسكي إلى عميلة في الشرطة السرية!‬

‫الحب مع تاتيانا‪ ،‬التي‬ ‫بُهت ماياكوفسكي وق ّرر على الفور إنهاء عالقة‬ ‫ّ‬ ‫لم تكن على علم بهذه المؤامرة»‪.‬‬ ‫*‬

‫*‬

‫كثيرون أعربوا عن شكوكهم في تعاون‬ ‫ليلي وأوسيب مع السلطات‪ .‬باسترناك‬ ‫شقتهما بأنها‪« :‬قسم شرطة‬ ‫كان يصف ّ‬ ‫موسكو»‪ .‬يسينين كتب بالطباشير على باب‬ ‫الشقة‪« :‬هل تظن أن بريك‪ ،‬الناقد األدبي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫يعيش هنا؟ مخبر أمن الدولة يعيش هنا»‪.‬‬ ‫الشقة‪« :‬ملتقى‬ ‫آنا أخماتوفا أطلقت على‬ ‫ّ‬ ‫الكتّاب مع أمن الدولة»‬

‫*‬

‫عام ‪1928‬م تبدّلت موسكو‪ .‬ازداد قمع الشعراء والفنانين‪،‬‬

‫كرسي الحكم‪ ،‬مما ينذر بحمّام دم في‬ ‫واستق ّرت الستالينيّة على‬ ‫ّ‬ ‫العقد القادم‪ ،‬وبدأت التم ّزقات الروحيّة ته ّز بدن ماياكوفسكي‬

‫العفي‪ .‬في ‪ 14‬إبريل ‪1930‬م‪ ،‬أطلق رصاصة على قلبه بدون سابق‬ ‫ّ‬ ‫إنذار‪ .‬خيبة أمل في الثورة أم في ليلي؟ ربّما االثنان معً ا‪ .‬ترك رسالة‬

‫ّ‬ ‫بخط يده‪« :‬إليكم جميعً ا‪ ،‬أموت‪ ،‬وال ت ّتهموا أحدًا في موتي‪ ،‬أرجو‬ ‫تج ّنب القيل والقال‪ ،‬هذه األشياء أكرهها‪ .‬أمي‪ ،‬وأخواتي‪ ،‬ورفاقي‪،‬‬ ‫سامحوني‪ .‬هذه ليست الطريقة الصحيحة (ال أوصي بها اآلخرين)‪،‬‬

‫ولكن ليس هناك طريقة أخرى للخالص‪ .‬ليلي أحبّيني‪ .‬الرفاق‪،‬‬ ‫الحكومة‪ ،‬عائلتي تتكوّن من ليلي بريك‪ ،‬ماما‪ ،‬أخواتي‪ ،‬فيرونيكا‬ ‫فيتولدوفنا بولونسكايا‪ ،‬إذا كان يمكنكم أن ّ‬ ‫توفروا حياة كريمة لهنّ ‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫سيدققونها»‪.‬‬ ‫أشكركم‪ .‬أعطوا هذه القصيدة غير المكتملة آلل بريك‪،‬‬ ‫أما القصيدة التي لم يكملها فهي‪:‬‬ ‫«ما يجب أن يحدث حدث‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تحطم‬ ‫الحب‬ ‫قارب‬

‫واسعتين وسط الجموع‪ ،‬فشلت الفجيعة في تخفيف ح ّدة جوعهما‬ ‫للحياة‪ ،‬عينا ليلي‪.‬‬

‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫الحياة تستمر‪ .‬مع ليلي‪ ،‬يجب أن تستمر‪ .‬مَن القادم؟ ال بد أن‬ ‫يكون رجلاً مناسبًا للمرحلة‪ .‬حصلت على الطالق من أوسيب‪ ،‬وبعد‬ ‫شهور قليلة من انتحار ماياكوفسكي‪ ،‬تزوّجت القائد العسكري فيتالي‬ ‫بريماكوف‪ .‬من حبيبة شاعر‪ ،‬إلى زوجة جنرال‪ ،‬يا للهول! «خطوة‬

‫تكتيكية ذكية لضمان فتح خط ساخن مع ستالين إلقرار الدولة بمكانة‬ ‫ٌ‬ ‫بعض أسباب انحدار‬ ‫ماياكوفسكي في التاريخ الروسي»‪ ،‬هكذا يب ّرر‬ ‫لاً‬ ‫ليلي من المستقبليّة إلى الستالينيّة‪ .‬عام ‪1935‬م اشتكت فع في رسالة‬

‫على الروتين الكئيب‬ ‫ُ‬ ‫اختبرت الحياة‬ ‫ّ‬ ‫نتخلى‬ ‫ويجب أن‬

‫إلى ستالين مباشرة من تجاهل الدولة ألشعار ماياكوفسكي‪ .‬غسيل‬

‫واآلالم والضغائن»‪.‬‬

‫نفسه إلى نيكوالي يزوف‪« :‬الرفيق يزوف‪ ،‬يرجى االهتمام بشكوى بريك‪.‬‬

‫عن تبادل األذى‬

‫استقبلت ليلي خبر االنتحار بهدوء‪ .‬قالت‪« :‬كان عصبيًّا دائمًا‪.‬‬ ‫أنقذته منه قبل مرتيّن»‪ .‬فعلاً ‪ ،‬متعب يا ليلي أن تنقذيه في الثالثة‪.‬‬

‫ُشيّعت جنازة ماياكوفسكي بعد أربعة أيام‪ .‬سار ‪ 150‬ألف‬

‫شخص وراء تابوته في شوارع موسكو‪ .‬حشود لم تجتمع من قبل‬ ‫إال في جنازتين‪ :‬لينين وستالين‪ .‬لو ّ‬ ‫دققت في الصور‪ ،‬ستجد عينين‬

‫سمعة‪ ،‬أم شكوى حقيقية؟ ال يمكن الجزم‪ .‬صدر أمر فوري من ستالين‬ ‫ماياكوفسكي كان وال يزال األفضل‪ ،‬الشاعر األكثر موهبة في عصرنا‬

‫السوفييتي‪ .‬تجاهل ذكراه وأعماله اإلبداعية جريمة‪ .‬شكوى بريك‬ ‫مب ّررة في رأيي»‪ .‬لكن هذا القرب الحميم من ستالين‪ ،‬لم يمنع اعتقال‬ ‫بريماكوف سنة ‪1936‬م بتهمة الخيانة وإعدامه رميًا بالرصاص مع عدد‬ ‫من التروتسكيين‪ ،‬على رغم تبرئته بعد وفاته بـ‪ 21‬عامًا‪.‬‬

‫االتهامات بالعمالة‪ ،‬لم توقف ليلي عن مواصلة الحياة‪« .‬موهوبة في فنّ العيش» كما يقول ماياكوفسكي‪ .‬في عام ‪1938‬م تزوّجت من‬ ‫الناقد األدبي الشاب‪ ،‬فاسيلي كاتانيان‪ ،‬وبقيت معه حتى وفاتها‪ .‬حاولت في السنين الالحقة استعادة الماضي‪ ،‬بتحويل ّ‬ ‫شقة موسكو إلى‬ ‫صالون أدبي‪ ،‬لكنها أخفقت في إعادة تدوير الزمن‪ .‬حاولت تكرار العالقة الثالثيّة مع زوجها وحبيب جديد هو المخرج سيرجي باراجانوفا‪،‬‬

‫لكن الجسد كان قد ّ‬ ‫ترهل‪ ،‬ولم تعد تجدي صعقات كهذه في لفت األنظار‪ .‬سعى الشيوعيون «األرثوذكسيون» منذ أوائل السبعينيّات‪،‬‬ ‫لطي صفحة أوسيب وليلي بكل ما تستدعيه ذكراهما من مستقبليّة‪ ،‬بوهيميّة‪ ،‬ومغامرة أخالقية تشوّه سمعة ماياكوفسكي‪.‬‬ ‫ّ‬

‫عاشت ليلي على بقايا مجدها الغابر‪ .‬ال احتفاءات تقريبًا وال تكريمات‪ ،‬باستثناء دعوات متناثرة في باريس للمشاركة في معارض‬

‫استعاديّة‪ ،‬و«فستان رائع» أهداه لها مصمم األزياء الفرنسي الشهير إيف سان لوران في عيد ميالدها الخامس والثمانين‪ .‬يوم ‪ 4‬أغسطس‬

‫‪1978‬م‪ ،‬في منطقة بيريدلكينو‪ ،‬بلعت ليلي جرعة هائلة من أقراص «نيمبوتال»‪ ،‬ونامت نومها األبدي‪ ،‬بعد أن كتبت رسالتها األخيرة‪« :‬ال‬ ‫تلوموني‪ .‬فاسيك‪ ،‬أنا أعشقك‪ ،‬سامحني‪ .‬واألصدقاء‪ ،‬سامحوني‪ .‬ليلي»‪.‬‬ ‫«ال» حرف نهي‬

‫ليلي تأمر وتنهي من الموت‬ ‫إياكم أن يلومها أحد‪ّ ،‬‬ ‫نفذوا‪.‬‬

‫‪147‬‬


‫فضاءات‬

‫جالل الدين الرومي األميركي‬ ‫مبيعا مع بزوغ نجم ترمب‬ ‫قصائده األكثر‬ ‫ً‬ ‫محمد الحجيري‬

‫كاتب لبناني‬

‫جالل الدين الرومي‪ ،‬الشاعر األفغاني المولد‪ ،‬الفارسي اللغة‪ ،‬الصوفي الهوى‪ ،‬والتركي الضريح‪،‬‬

‫اليوم من بين الشعراء األكثر شعبية في الواليات المتحدة والغرب‪ ،‬برغم أنه لم يكن مشهورًا فيها قبل‬

‫ً‬ ‫خصوصا المستشرقة األلمانية‬ ‫عشرين عامً ا‪ .‬لقد تحدثت كثير من الدراسات عن تأثيره في الشرق والغرب‪،‬‬

‫آنا ماري شيميل في كتابها «الشمس المنتصرة»‪ ،‬وهذا التأثير كان نخبويًّا بين المستشرقين والمهتمين‪،‬‬ ‫رئيسا‬ ‫واالهتمام بشعر الرومي اآلن‪ ،‬يتجاوز القيمة األدبية إلى أشكال مختلفة‪ ،‬فمع مجيء دونالد ترمب‬ ‫ً‬

‫الذي صعد في خطابه الشعبوي ضد المسلمين المهاجرين‪ ،‬حينها كتبت صحيفة «واشنطن بوست»‪« :‬أليس‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مبيعا «في‬ ‫مدهشا أن تصير قصائد الرومي‪ ،‬فيلسوف القرن الثالث عشر المسلم المتسالم» أكثر القصائد‬ ‫الواليات المتحدة مع ظهور نجم ترمب؟ إذا عاد الرومي حيًّا‪ ،‬سيرى أن األميركيين ال يكادون يتوقفون عن‬

‫‪148‬‬

‫قراءة قصائده ونشرها‪ ،‬رغم أن ترمب يتحدث عن ترحيل المسلمين من أميركا‪ ،‬ومنعهم من دخولها»‪.‬‬

‫قالت صحيفة «لوس أنجلس تايمز»‪« :‬مثل قصائد عمر الخيام‪ ،‬صارت قصائد الرومي‬ ‫الروحية مفضلة في األعراس‪ ،‬واحتفاالت البلوغ‪ ،‬ودفن الموتى‪ .‬ها هو ضباب أمام‬ ‫أعيننا يعيدنا إلى عصر اإلسالم الذهبي»‪ .‬وافتتحت الجريدة ملفها الخاص بالرومي‬ ‫«لم تحتل أية مجموعة لمشاهير األميركيين من الكتاب أمثال روبير فروست‬ ‫أو واالس ستيفنز أو الشاعرة سيلفيا بالث واألوربيين على غرار هوميروس‪،‬‬ ‫ودانتي‪ ،‬وشكسبير‪ ،‬رأس قائمة الكتب األكثر مبيعً ا في الواليات المتحدة‬ ‫األميركية على امتداد العقد الماضي مثل قصائد الرومي»‪.‬‬

‫توجد ترجمات قديمة لمؤلفات الرومي إلى اللغة اإلنجليزية ولغات‬

‫أوربية أخرى في إيطاليا وألمانيا وفرنسا وإنجلترا‪ .‬وقبل نصف قرن‪،‬‬

‫صدرت ترجمات حديثة له أنجزها آرثر آرباري‪ ،‬وهو أستاذ جامعي بريطاني‬ ‫(كان قد ترجم القرآن الكريم ترجمة حديثة)‪ .‬لكن‪ ،‬لم يهتم األميركيون‬ ‫بالرومي إال مؤخ ًرا‪ .‬فقد ترجم كولمان باركس‪ ،‬وهو شاعر أميركي‪،‬‬

‫ميدالية باسم الرومي أصدرتها اليونسكو بمناسبة مرور ‪ 800‬عام على ميالده‬ ‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬


‫بعض قصائده‪ ،‬ومنها‪« :‬ضروريات الرومي» (عام ‪1995‬م)‪ ،‬و«كتاب‬

‫الحب» (عام ‪2003‬م)‪ .‬ومنذ هجمات ‪ 11‬سبتمبر ‪2001‬م‪ ،‬أصبح الرومي‬ ‫بمنزلة المعبر الذي وصل بين األميركيين واإلسالم‪ .‬وشكلت‬

‫قصائده «جس ًرا بين الشرق والغرب» كما يقول ويليام دالريمبل‬

‫الناقد واألديب في «الغارديان»‪.‬‬

‫جزء من الرحلة الروحية لمشاهير هوليود‬

‫وبلغ اهتمام األميركيين بالرومي قمته عام ‪2007‬م‪ ،‬بمناسبة‬

‫مرور ‪ 800‬عام على ميالده‪ ،‬ووزعت ميداليات باسمه من جانب‬

‫منظمة اليونسكو‪ ،‬التي جاء في إعالنها آنذاك «أفكار وآمال الرومي‬ ‫يمكن أن تكون جزءًا من أفكار وآمال اليونسكو»‪ .‬وجد أكثر من ‪28‬‬

‫موقعً ا إلكترونيًّا على موقع ماي سبيس وحده تحمل مراجع حول‬ ‫أعمال الرومي‪ .‬كما ُنشر أكثر من ‪ 2200‬تسجيل فيديو حول الرومي‪.‬‬

‫وعندما قرر كريس مارتن‪ ،‬مغني فرقة «كولدبالي» االنفصال عن‬

‫زوجته الممثلة األميركية جوينيث بالترو‪ ،‬وحينما انتابته حالة من‬ ‫القنوط‪ ،‬أهداه صديق له كتابًا لرفع معنوياته‪ ،‬وقد كان ذلك الكتاب‬ ‫مجموعة من قصائد الرومي‪ ،‬من ترجمة كولمان باركس‪ .‬قال مارتن‬

‫بعد ذلك عن أشعار الرومي‪ :‬إنها غيَّرت حياته‪ ،‬بل تضمن آخر‬ ‫ألبومات كولدبالي مقطعً ا بصوت باركس من إحدى قصائد الرومي‬ ‫يقول فيه‪« :‬هذا اإلنسان بيت للضيافة‪ /‬في كل صباح يصله زائر‬

‫جديد ‪ /‬الفرح‪ ،‬الحزن‪ ،‬الدناءة ‪ /‬إنها لحظات وعي خاطفة‪ /‬تأتي كما‬ ‫لو كانت ً‬ ‫ضيفا غير متوقع»‪ .‬وكان الرومي جزءًا من الرحلة الروحية‬ ‫لمشاهير آخرين‪ ،‬مثل مادونا التي غنت من كلماته‪« :‬تعلم كيف‬

‫تقول ودا ًعا»‪ ،‬وتنافست كل من نجمة هوليود ديمي مور‪ ،‬وزميلتها‬

‫غولدي هاون وسارة جيسكا باركر على شراء حقوق قراءة هذه‬ ‫األشعار على أسطوانات مدمجة‪( ،‬ألن الرومي كان‪ً ،‬‬ ‫أيضا‪ ،‬موسيقيًّا‬ ‫مشهورًا‪ ،‬واستعمل كثي ًرا آلة الناي‪ ،‬غنت األميركيات بعض قصائده‬

‫على أنغام هذه اآللة)‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫وتنشر كلمات الرومي يوميًّا على مواقع التواصل االجتماعي‪،‬‬ ‫بهدف حفز من يقرؤها على األغلب‪ .‬إضافة إلى عروض األزياء‬ ‫األميركية التي استضافت شعر الرومي كأسلوب تسويقي لمالبس‬

‫السهرات الرومانسية‪ ،‬وأصبحت عباراته تزين ستائر الحمامات‪،‬‬ ‫والحلي وأشجار عيد الميالد وشركات اآلالت الموسيقية التي قررت‬ ‫حفر أبيات من شعره على منتجاتها‪ .‬كذلك تنشر األبواب الثقافية‬ ‫في الصحف الصادرة في المدن األميركية الكبرى كلها تقريبًا أماكن‬

‫قراءة أشعاره ومواعيدها وإلقاء محاضرات عنه وعن أعماله‪.‬‬

‫أعلن «فرانزوني» عن ترشيح الممثل ليوناردو دي كابريو‬ ‫للقيام بدور شخصية الرومي في فلم سينمائي‬

‫مفخخا ببعض‬ ‫انتشار القصائد الرومية كان‬ ‫ً‬ ‫الشوائب‪ ،‬ففي مقالة لروزينا علي في‬ ‫مجلة «ذي نيويوركر»‪ ،‬تناولت عملية محو‬ ‫األفكار والمعاني اإلسالمية والقرآنية‬ ‫في التراجم األميركية لشعر الرومي‬ ‫والمعاني اإلسالمية والقرآنية في التراجم األميركية لشعر الرومي‪،‬‬ ‫وناقشت ما إذا كان ذلك الحذف متعمدًا‪ ،‬أم أنه جاء بهدف تقريب‬

‫الصورة‪ ،‬وإذا ما كان يشوه النص األصلي أم يحافظ عليه‪ .‬تقول‬ ‫الكاتبة‪« :‬إن أستاذة الدراسات الفارسية بجامعة ماريالند‪ ،‬فاطمة‬

‫كيشاورز‪ ،‬أخبرتها أن الرومي كان على األغلب يحفظ القرآن الكريم؛‬ ‫نظ ًرا لتكرار استشهاده به في أشعاره‪ ،‬وهو ما قاله الرومي نفسه‬ ‫ً‬ ‫سابقا‪ ،‬إذ قال عن «المثنوي» بأنه يشرح القرآن الكريم»‪ .‬يقول‬

‫أوميد صافي‪ ،‬أستاذ دراسات الشرق األوسط والدراسات اإلسالمية‬

‫في جامعة ديوك‪ :‬إن ذلك حدث خالل العصر الفيكتوري‪ ،‬حينما‬

‫بدأ القراء في الغرب فك ارتباط الشعر الصوفي بجذوره اإلسالمية‪،‬‬ ‫إذ لم يتمكن المترجمون ورجال الدين في ذلك الوقت التوفيق بين‬

‫أفكارهم ورؤيتهم لإلسالم‪ ،‬وبين هذه األفكار األخالقية السامية‬ ‫غير التقليدية التي وردت في شعر الرومي‪ ،‬تدلل الكاتبة على فصل‬

‫تحولت قصائد الرومي ودواوينه‪ ،‬على يد باركس‪ ،‬إلى نجاح‬

‫الغرب الرومي عن اإلسالم بمقدمة ترجمة «المثنوي» للسير جيمس‬

‫الحديث إلى جانب أسماء نعرفها وهي شديدة المعاصرة‪ ،‬لكن‬ ‫ً‬ ‫مفخخا ببعض الشوائب‪ ،‬ففي مقالة‬ ‫انتشار القصائد الرومية كان‬

‫هؤالء الذين يرغبون في ترك العالم‪ ،‬ويحاولون معرفة الله والقرب‬

‫قياسي تجاري يتربع مؤلفه على عرش إمبراطورية الشعر الغربي‬

‫لروزينا علي في مجلة «ذي نيويوركر»‪ ،‬تناولت عملية محو األفكار‬

‫ريدهاوس الصادرة عام ‪1898‬م‪ ،‬التي قال فيها‪« :‬يخاطب المثنوي‬

‫منه‪ ،‬أولئك الذين يريدون محو الذات وتكريس أنفسهم للتفكر‬ ‫والتأمل الروحاني»‪.‬‬

‫‪149‬‬


‫فضاءات‬

‫وساهم مترجمون عدة خالل القرن العشرين في تعزيز‬

‫حضور الرومي في النصوص اإلنجليزية‪ ،‬إال أن باركس هو من‬ ‫كان أكبر المساهمين في توسيع قاعدة القراء للرومي‪ ،‬هو‬

‫ليس مترجمًا بقدر كونه مفس ًرا‪ ،‬فهو ال يعرف قراءة الفارسية‬

‫أو كتابتها‪ ،‬إال أن ما قام به كان تحويل تراجم القرن التاسع‬ ‫عشر إلى نظم أميركي‪ .‬يقول باركس‪ :‬إن شعر الرومي هو‬

‫أشبه بالسر الذي يفتح القلب‪ ،‬وإنه من الصعب التعبير عنه‬ ‫بالكلمات‪ ،‬ومن أجل أن يتمكن فهم بعض األشياء التي كان‬ ‫صعبًا عليه إيضاحها‪ ،‬أعطى باركس نفسه شي ًئا من حرية‬ ‫التصرف في التعامل مع النص‪ ،‬وبخاصة في بعض الكلمات‬

‫المستوحاة من النصوص اإلسالمية التي كان صعبًا عليه كتابتها‬

‫بلغة أخرى‪.‬‬

‫الرومي وتحدي الصورة النمطية للمسلم‬

‫ولم يقتصر أمر االهتمام على شعر الرومي‪ ،‬فانتشاره واالهتمام‬

‫بنصوصه‪ ،‬دفع بعض المنتجين إلى الحماسة لتصوير فلم عنه‪،‬‬

‫مثل‪ :‬السيناريست ديفيد فرانزوني‪ ،‬مؤلف فلم ‪،The Gladiator‬‬

‫والمنتج ستيفين جويل براون‪ ،‬قاال قبل مدة‪ :‬إنهما يريدان تحدي‬

‫«الصورة النمطية» عن الشخصيات المسلمة في السينما الهوليودية‪،‬‬

‫‪150‬‬

‫وذلك من خالل تسليط الضوء على حياة جالل الدين الرومي‪.‬‬

‫ويَعُ ّد فرانزوني «الرومي مثل شكسبير‪ ...‬ومن الواضح أنه ال يزال‬ ‫يتمتع بصدى واسع حتى اليوم‪ ،‬وهؤالء هم دائمًا ممن يستحقون‬

‫االكتشاف»‪ .‬لكن فرانزوني واجه موجة واسعة من االنتقادات؛ بعد‬

‫إعالنه عن رغبته في أن يؤدي ليوناردو دي كابريو شخصية الرومي‪،‬‬ ‫ال ضير في أن هوليود تبحث عن الجمهور واالستهالك‪ ،‬واختارت‬ ‫ً‬ ‫شخصا يحمل هوية كونية أو عابرة للهويات‪ ،‬فهو األفغاني والفارسي‬ ‫والتركي والصوفي واألميركي والغربي والعربي واإلسالمي‪...‬‬

‫بالطبع اندفاع ديفيد فرانزوني لكتابة فلم عن الرومي ليس‬

‫ناتجً ا عن حب في الثقافة المشرقية بقدر ما هو ثمرة تفكير تجاري‬

‫قبل كل شيء؛ ألن الرومي ماركة شعبية بامتياز‪ ،‬ندرك ذلك من‬

‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬

‫مادونا‬

‫ديمي مور‬

‫خالل اندفاع القراء لشراء رواية «قواعد العشق األربعون» للروائية‬

‫التركية إليف شافاق التي ترجمت إلى كثير من اللغات‪ ،‬وتتناول‬

‫موضوعات الحب بين الشرق والغرب‪ ،‬والروحي والدنيوي‪ ،‬كل ذلك‬ ‫من خالل قصة جالل الدين الرومي‪ .‬وشمس التبريزي المتصوف‬

‫(ولد سنة ‪1185‬م في تبريز في مقاطعة أذربيجان واستهوته الطرق‬

‫الصوفية)‪ .‬و«عشق» شافاق ذات نسيج مركب‪ ،‬وأبطالها هم إيلال‬ ‫ربة بيت أميركية ذات أصل يهودي تعشق رجلاً أسكتلندي الجنسية‬

‫يقيم في هولندا‪ ،‬ثم يسلم فيما بعد ويتسمى باسم عزيز زهارا‪،‬‬ ‫ومن جانب آخر هنالك شمس التبريزي وجالل الدين الرومي وكيررا‬

‫التي تقترن بجالل الدين الرومي‪ ،‬وتتحول من الديانة األرثوذكسية‬ ‫الرومية إلى اإلسالم‪ .‬بدأ ولع شافاق بالصوفية حينما كانت طالبة‪،‬‬ ‫وقرأت لكثير من الباحثين في مجال التصوف‪ ،‬منهم‪ :‬آنا ماري‬

‫شيميل‪ ،‬وإدريس شاه‪ ،‬وكارين أرمسترونغ‪ ...،‬وفي روايتها ال تدخل‬

‫شافاق الصوفية كتعليم نظري‪ ،‬وتجريدي‪ .‬بل هي شغوفة بما‬ ‫تعنيه الصوفية بالنسبة لها في العالم المعاصر‪ .‬وقد اتهم كثير من‬

‫المثقفين المسلمين شافاق بتصوير مترف مشابه للمذهب الصوفي‪.‬‬ ‫ساعدت رواية شافاق‪ ،‬التي صدرت في أميركا عام ‪2010‬م‪ ،‬على‬

‫فهم بعض مناحي االهتمام الغربي بالمتصوف الرومي‪ .‬فشعبية‬ ‫الرواية إلى اليوم ال ّ‬ ‫تقل عن شعبية أبطالها‪ :‬الرومي وشمس‬ ‫التبريزي‪ ،‬وهي ً‬ ‫أيضا مثار استغراب‪ .‬وصار الرومي ثيمة للرواية فإلى‬


‫مبيعا مع بزوغ نجم ترمب‬ ‫جالل الدين الرومي األميركي قصائده األكثر‬ ‫ً‬

‫جانب رواية شافاق هناك رواية «الرومي نار العشق» لإليرانية األصل‬ ‫الفرنسية الجنسية نهال تجدد‪ ،‬واستندت المؤلفة إلى مقاالت شمس‬ ‫ً‬ ‫مستخدمة معلومات مستمدة من السيرة الذاتية للرومي‬ ‫التبريزي‬

‫وحاشيته «مناقب العارفين» بقلم األفالكي شمس الدين أحمد‪،‬‬ ‫بنا ًء على طلب حفيد الرومي‪ .‬يرى قراء كثيرون على مواقع التواصل‬

‫االجتماعي أن المؤلفة تقدّم صورة ملفقة للرومي في محاولة لجذب‬ ‫القارئ الغربي‪ ،‬كذلك صدرت عن دار «نينوى»‪ ،‬ترجمة رواية «بنت‬

‫موالنا»‪ ،‬للكاتبة اإلنجليزية موريل مفروي‪ ،‬وهي ترسم في ج ّو الفت‬

‫شخصية «كيميا»‪ ،‬تلك الفتاة التي ف ّرت من أهلها والتحقت بجالل‬ ‫الرومي‪ ،‬إذ عاشت حياتها المشتعلة والمرتبكة في بيته ّ‬ ‫بكل‬ ‫الدين‬ ‫ّ‬ ‫ما فيه من تباينات‪ ...‬ويتنازع األفغان واألتراك واإليرانيون جالل الدين‬ ‫الرومي‪ ،‬فقد وُلد في ب َْلخ‪ ،‬وعاش في إيران وتركيا‪ ،‬وهو على نحو‬ ‫ما يوحد بينهم‪ ،‬كما أن الغربيين يستنتجون من تسميته «الرومي»‬

‫هناك مبالغة في تقدير تأثير الرومي‬ ‫في القراء األميركيين‪ ،‬فبالرغم من أنه‬ ‫مبيعا‪ ،‬لكنه ليس األكثر‬ ‫قد يكون األكثر‬ ‫ً‬ ‫تأثيرا‪ ،‬وشعبيته مرتبطة بالحرب على‬ ‫ً‬ ‫اإلرهاب‬ ‫بأنه منهم‪ ،‬ولكنه يقول كأنه يرد على هؤالء جميعً ا‪« :‬أنا لست من‬ ‫الشرق وال من الغرب‪ ،‬ولست من األرض وال من البحر‪.‬‬ ‫أنا لست عطر النعناع‪ ،‬ولست من الكون الدوار‪.‬‬

‫أنا لست من األرض وال من الماء‪ ،‬وال من الهواء وال من النار‪.‬‬

‫مكاني هو الالمكان‪ ،‬وأثري ال أثر له‪ ،‬ليس لي جسد وال روح؛‬ ‫ألنني أنا هو المحبوب‪.»...‬‬

‫بحر يمشي خلف بحيرة‬ ‫ُولد الرومي في ‪ 30‬سبتمبر ‪1207‬م في ب َْلخ (ما يعرف بأفغانستان حاليًّا) التي ُن ِس َب إليها كبا ُر العلماء والفالسفة والفقهاء؛ مثل‪:‬‬ ‫الفردوسي وابن سينا والغزالي‪ ،‬وقد غادرها أبوه بهاء الدين و َ​َلد سنة ‪1219‬م هربًا من الغزو المغولي الذي دمَّ ر المدينة بعد عام وأتى‬

‫عليها‪ .‬تروي المستشرقة الفرنسية إيڤا دو ڤيتراي مئيروڤتش أن بهاء الدين توجّ ه إلى مكة ألداء فريضة الحج‪ .‬وفي نيسابور (إيران)‪،‬‬

‫التقى الشاعر الصوفي فريد الدين العطار‪ ،‬الذي أهدى إلى الرومي كتابه «أسرار نامه»‪ .‬ولقد ظل الرومي معجبًا بالشاعر الصوفي طوال‬ ‫عمره‪ ،‬وكان ير ِّدد القول‪:‬‬ ‫ِّ‬ ‫الحب السبع‪ ،‬بينما ال أزال أنا في الزاوية من دهليز ضيق‪.‬‬ ‫لقد اجتاز العطار مدن‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫بعد العودة من مكة‪ ،‬استقرت عائلة الرومي في أ ْرزنجان‪ ،‬وهي مدينة في أرمينيا‪ ،‬احتلها عالء الدين السلجوقي‪ ،‬ومنها دعا بهاء‬ ‫ِّ‬ ‫محقق‬ ‫الدين و َ​َلد‪ ،‬والد جالل الدين‪ ،‬إلى قونية‪ ،‬عاصمة الدولة السلجوقية في تركيا اليوم‪ ،‬تتلمذ جالل الدين على يد برهان الدين‬

‫الترمذي‪ ،‬ثم توجَّ ه إلى حلب للدراسة‪ ،‬ومنها انتقل إلى دمشق‪ ،‬وكان الشيخ محيي الدين بن عربي يمضي بها السنوات األخيرة من‬ ‫عمره‪ .‬ويُروى أن ابن عربي رأى الرومي من ُ‬ ‫قبل يمشي خلف والده بهاء الدين‪ ،‬فقال‪« :‬يا سبحان الله! بحر يمشي خلف بحيرة!‪.‬‬

‫عاد جالل الدين إلى قونية‪ ،‬فاستق َّر في مدرسته َّ‬ ‫ٌ‬ ‫حادث غيَّر مجرى حياته‬ ‫وتولى فيها تعليم الشريعة ومبادئ الدين‪ ،‬حتى عرض له‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫شمس‬ ‫نضجت‪ ،‬واآلن أنا محترق‪ .‬ترجع بداية ذلك عندما التقى الرومي‬ ‫محترقا‪ ،‬كما عبَّر عن حاله بالقول‪ :‬كنت ني ًئا‪ ،‬ثم أ‬ ‫وجعله صوفيًّا‬ ‫َ‬

‫الدين التبريزيَّ ‪ ،‬الذي وصل قونية سنة ‪1244‬م وأقام في أحد خاناتها منقطعً ا إلى نفسه‪ ..‬يتفق الجميع على أن التبريزي أثر بشكل كبير‬ ‫في شعر الرومي وفي ممارساته الدينية‪ .‬في سيرة ذاتية جديدة كتبت عن الرومي بعنوان‪« :‬سر الرومي»‪ ،‬تناول الكاتب األميركي براد‬ ‫غوش في كتاب «أسرار الرومي‪ :‬عن حياة وعشق الشاعر الصوفي» فكرة تأثير التبريزي في الرومي دينيًّا وفكريًّا‪ ،‬وأنه كان عاملاً أساسً ا‬

‫السني والفكر الباطني الذي تعلمه‬ ‫حدد االتجاه الذي سار فيه الرومي‪ ،‬وهو مزج حب اإلله الذي وجده في الصوفية‪ ،‬مع قواعد اإلسالم ُّ‬

‫من التبريزي‪ .‬وكتب الباحث األفغاني عناية الله إبالغ األفغاني في كتابه «جالل الدين الرومي بين الصوفية وعلماء الكالم»‪« :‬فقد ألهاه‬ ‫(شمس التبريزي) هذا الصوفي عن مسيرته كفقيه‪ ،‬وجعل منه صوفيًّا ً‬ ‫غارقا في التصوف حتى أذنيه!»‪.‬‬

‫باختصار‪ ،‬الرومي خرج عن سياق أنه شاعر التصوف والحب‪ ،‬هي لعبة الثيمة‪ ،‬سواء في الروايات أو في األفالم السينمائية أو‬ ‫الثقافة الشعبية حتى الغناء واالستهالك وتأليف الشعر‪ .‬يرى بعض ّ‬ ‫النقاد أن هناك مبالغة في تقدير تأثير الرومي في القراء األميركيين‪،‬‬

‫فبالرغم من أنه قد يكون األكثر مبيعً ا‪ ،‬لكنه ليس األكثر تأثيرًا‪ ،‬إذ يرون أن شعبيته ظرفية‪ ،‬مرتبطة بالحرب ضد اإلرهاب‪ ،‬وهواجس‬

‫البحث عن إجابات روحانية لمشكالت شديدة المادية‪ .‬وهناك مبالغات في الحديث عنه وعن تصوفه ودوره‪ ،‬المبالغة تأتي من الشهرة‬ ‫ً‬ ‫وحيدا في هذا المجال‪،‬‬ ‫واالنتشار‪ ،‬فعندما يتحول أحد الشعراء إلى ماركة أدبية ال ب ّد أن نسمع العجائب الوهمية عنه‪ ،‬والرومي ليس‬ ‫فجبران خليل جبران سبقه‪ ،‬وكذلك رامبو وعمر الخيام‪.‬‬

‫‪151‬‬


‫فضاءات‬

‫الخريطة الروائية‬

‫للمدينة العربية‬ ‫العجيلي‬ ‫شهال ُ‬

‫روائية وناقدة سورية‬

‫التركي أورهان باموق‪ ،‬عن عالقته بالمدينة التي ولد فيها وعاش‪ ،‬وكتب عنها‪،‬‬ ‫الروائي‬ ‫يقول‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫وذلك في كتابه الذي حمل اسمها‪« :‬إسطنبول‪ -‬الذكريات والمدينة»‪« :‬كانت إسطنبول دائمً ا بالنسبة‬

‫لي‪ ،‬مدينة الخراب وسوداو ّية نهاية اإلمبراطور ّية‪ .‬وقد قضيت حياتي أحارب هذه السوداو ّية أو‬ ‫ً‬ ‫جميعا‪ ،‬سوداو ّيتي»‪( .‬أورهان باموق‪ .‬ترجمة‪ :‬أماني توما وعبدالمقصود‬ ‫أجعلها مثل أهل إسطنبول‬

‫‪152‬‬

‫الروائي‬ ‫عبدالكريم‪ ،‬الهيئة المصريّة العامّ ة للكتاب)‪ .‬في هذا الكتاب الفريد‪ ،‬من وجهة نظري‪ ،‬يشرّح‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ولعل‬ ‫عالقته بالمدينة‪ ،‬والتشريح في نهاية األمر فنّ ‪ ،‬مهما استند إلى الوقائع‪ ،‬والوثائق‪ ،‬والمعرفة‪،‬‬

‫ً‬ ‫الروائي‪ ،‬وتبقى عالقة أساسيّة‬ ‫تحديدا‪ ،‬هي أساس اإلبداع‬ ‫الروائي والمدينة‪ ،‬مدينته‬ ‫هذه العالقة بين‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الروائي مدينته فيزيائيًّا أو كتابيًّا؛ إذ هي المقياس والمرجعيّة في كتابته عن‬ ‫ال تنفصم‪ ،‬ح ّتى لو هجر‬ ‫ّ‬

‫المكان‪ ،‬أيّ مكان‪ ،‬سواء أكان وط ًنا أم منفى‪ً ،‬‬ ‫بائدا أم حاضرًا‪.‬‬

‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬


‫ّ‬ ‫رئيسا من مكوّنات‬ ‫يشكل هذا التشريح مكو ًّنا معرفيًّا‬ ‫ً‬

‫األدبي هو الذي يجعلنا نفهم‬ ‫الروائي‪ ،‬وأداة بيده‪ ،‬وإنّ العمل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫تفسر العمل‪ ،‬فخطوات‬ ‫المدينة‪ ،‬وليست المدينة هي التي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الروائي في المدينة ليست كخطوات اآلخرين‪ ،‬إنها تصنع‬ ‫ّ‬

‫خريطة مغايرة‪ ،‬ال تاريخيّة‪ ،‬وال قومية‪ ،‬وال كولونيالية‪ّ ،‬إنها‬ ‫خريطة روائيّة تشير إلى ذلك ّ‬ ‫كله‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫متلقين‪ ،‬عمليّة تشريح عالقة‬ ‫يجب اّأل تظهر لنا‪ ،‬بوصفنا‬

‫ّ‬ ‫الروائي واعيًا‬ ‫النص‪ ،‬لكن ال ب ّد من أن يكون‬ ‫الروائي بالمدينة في‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫لهذه العالقة‪ ،‬ومن هنا انطلقت نظرية لوكاتش في التأكيد‬ ‫الروائي‪،‬‬ ‫على أنّ الرواية نتاج المجتمع البورجوازيّ ‪ ،‬وأنّ البطل‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫تاريخي (جورج لوكاتش‪ ،‬معنى‬ ‫خالفا لهيدغر‪ ،‬هو كائن‬ ‫ّ‬ ‫الواقعيّة المعاصرة‪ ،‬ترجمة‪ :‬أمين العيوطي‪ ،‬دار المعارف‪،‬‬ ‫مصر)‪ .‬وكذلك فكرة التعدد أو البوليفونيّة الباختينيّة‪ ،‬التي‬ ‫ّ‬ ‫الروائي (ميخائيل‬ ‫تحقق اجتماعيّة الرواية وهي شرطها‬ ‫ّ‬

‫باختين‪1988 ،‬م‪ ،‬الكلمة في الرواية‪ ،‬ترجمة‪ :‬يوسف حلاّ ق‪،‬‬ ‫منشورات وزارة الثقافة‪ ،‬دمشق‪ .‬ص ‪ .)61‬التي قد نسمع كثي ًرا‬ ‫من الروائيين يتح ّدثون عنها بثقة‪ ،‬لك ّنها ال تعني الحوارية التي‬ ‫يقصدونها‪ّ ،‬إنها حضور الطبقات التاريخيّة الثقافيّة في الرقعة‬

‫الجغرافيّة‪ ،‬وتبيان تمايزاتها بعضها من بعضها اآلخر‪ ،‬حيث‬

‫االجتماعي‬ ‫يكشف الض ّد عن ض ّده‪ ،‬وتتكوّن الدراميّة والحراك‬ ‫ّ‬ ‫في الرواية‪ .‬يحكي غونتر غراس في «تقشير البصلة» عن عالقته‬ ‫بمدينته األمّ دانتسيغ‪ ،‬وهي ميناء بولنديّ على بحر البلطيق‪،‬‬

‫ثمّ بالمدن التي رحل إليها‪ ( .‬غونتر غراس‪ ،‬ترجمة‪ :‬عدنان‬

‫نعد الفكرة الرئيسة في تصميم‬ ‫يمكن أن‬ ‫ّ‬ ‫أتحدث‬ ‫المديني‪ ،‬وأنا‬ ‫الرواية هي الوعي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الروائي بالمدينة‪ ،‬ال عن‬ ‫هنا عن عالقة‬ ‫ّ‬ ‫بد‬ ‫عالقة الراوي أو‬ ‫الشخصيات بها‪ ،‬فال ّ‬ ‫ّ‬ ‫للروائي بعد أن‬ ‫دائما من أن أعيد االعتبار‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫التلقي‬ ‫ونظرية‬ ‫ة‬ ‫البنيوي‬ ‫المناهج‬ ‫شته‬ ‫هم‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫مثل دانتسيغ عن إسطنبول‪ ،‬عن عمّان‪ .‬إذن يمكن أن نع ّد‬

‫المديني‪ ،‬وأنا‬ ‫الفكرة الرئيسة في تصميم الرواية هي الوعي‬ ‫ّ‬ ‫الروائي بالمدينة‪ ،‬ال عن عالقة الراوي‬ ‫أتح ّدث هنا عن عالقة‬ ‫ّ‬

‫للروائي‬ ‫أو الشخصيّات بها‪ ،‬فال ب ّد دائمً ا من أن أعيد االعتبار‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫فالروائي هو‬ ‫التلقي‪،‬‬ ‫بعد أن ه ّمشته المناهج البنيويّة ونظريّة‬ ‫ّ‬ ‫الذي يو ّزع عالقته بالمدينة على ّ‬ ‫كل من الراوي‪ ،‬والشخصيّات‪،‬‬ ‫لاً‬ ‫ً‬ ‫أحيانا‪ ،‬جاع إحدى الشخصيّات‬ ‫فيحوّل المدينة إلى موضوع‬ ‫تراها بعين ناقدة‪ ،‬ثمّ سيستعير عالقته العاطفيّة بها لشخصيّة‬

‫أخرى‪ ،‬وسيستفيد من تجربته معها ومن تجارب اآلخرين‪ ،‬ومن‬ ‫ّ‬ ‫التدفق‬ ‫الوثيقة ومن الوثيقة المضا ّدة‪ ،‬من غير أن يسيء إلى‬

‫ّ‬ ‫الخاصة بها‬ ‫الزمني للمدينة؛ إذ سيكون وفيًّا للمورفولوجيا‬ ‫ّ‬ ‫الحس‬ ‫بحيث ال تتناقض المالبس والعمائر ونبض الشارع مع‬ ‫ّ‬

‫جمالي في النهاية‪،‬‬ ‫المعرفي هو إخفاق‬ ‫التاريخي؛ ألنّ اإلخفاق‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وتلك هي الصنعة التي تنتجها المعرفة بالتشريح‪ ،‬ويمكن‬ ‫أن نقول مع آالن روب غرييه‪« :‬ليس لدى الكاتب الحقيقي‬

‫ما يقوله‪ ،‬بل لديه طريقة لقوله فحسب»‪( .‬ألبير ليونار‪ ،‬أزمة‬

‫الروائي بالمدينة‬ ‫حسن‪ ،‬دال للنشر‪ ،‬سورية)‪ .‬وتتخذ عالقة‬ ‫ّ‬ ‫عالقة سيريّة‪ ،‬تشمل العالقة مع التحوّالت‪ ،‬منذ انطالق شرارة‬

‫مفهوم األدب في فرنسا في القرن العشرين‪ ،‬تر‪ :‬زياد العودة‪،‬‬

‫ويحيل عنوانه‪« :‬تقشير البصلة» إلى عمليّة التشريح هذه‪،‬‬ ‫حيث ُت َ‬ ‫فصل قشور البصلة المتع ّددة‪ ،‬الرقيقة منها والسميكة‪،‬‬

‫إذا تتبّعنا حضور المدينة في الرواية العربيّة بشكل عام‪،‬‬ ‫العربي بمدينته‪ ،‬سنجد ّ‬ ‫خطين‬ ‫الروائي‬ ‫التي تنمّ على عالقة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫الحرب العالميّة الثانية‪ ،‬التي كان مبدؤها ميناء مدينته‪،‬‬

‫اللب‪.‬‬ ‫ح ّتى نصل إلى ّ‬

‫تحوالت الفرد وتحوالت المدينة‬

‫منشورات وزارة الثقافة‪ ،‬دمشق)‪.‬‬

‫واضحين‪ :‬رثاء المدينة الكوزموبوليتانيّة‪ ،‬والحنين إلى المدينة‬

‫المحليّة الضائعة في المنفى‪ .‬نشأ روائيّون محظوظون في‬ ‫مدن عربيّة يمكن وسمها بالـكوزموبوليتانيّة‪،‬‬

‫ق ّدم عبدالرحمن منيف عالقته بمدينة‬

‫أو الكبيرة‪ ،‬أو الحيويّة‪ ،‬عواصم كانت‬ ‫ً‬ ‫مدنا مركزيّة‪ ،‬فارتبطت القاهرة روائيًّا‬ ‫أو‬

‫المؤسّ سة العربيّة للدراسات والنشر‪ ،‬بيروت)‪،‬‬

‫عبدالمجيد‪ ،‬وحلب بوليد إخالصي ونهاد‬ ‫سيريس‪ ...‬وثمّة مدن عظيمة لك ّنها أقل ًّ‬ ‫حظا‬

‫عمّان في كتابه‪« :‬سيرة مدينة‪ -‬عمّان في‬

‫األربعينات»‪( .‬عبدالرحمن منيف‪1994 ،‬م‪،‬‬

‫لقد منح منيف تلك العالقة طابعً ا سيريًّا‪،‬‬ ‫إذ لم يفصل تحوّالت المدينة عن تحوّالته‬

‫الفرديّة‪ .‬سنجد تشابهًا في طبيعة الرواية التي‬

‫كتبها هؤالء الروائيّون جميعً ا‪ ،‬على الرغم من‬ ‫اختالف هويّاتهم‪ ،‬ولغاتهم‪ّ ،‬إنهم امتلكوا هذا‬

‫المديني‪ ،‬رغم تباين إمكانيّات مدينة‬ ‫الوعي‬ ‫ّ‬

‫بنجيب محفوظ‪ ،‬واإلسكندريّة بإبراهيم‬

‫الروائي من مثل دمشق‪ ،‬التي‬ ‫على الصعيد‬ ‫ّ‬ ‫قاربها ّ‬ ‫كل من خيري الذهبي وفوّاز ح ّداد‪،‬‬

‫وكذلك بغداد التي انتعشت روائيًّا مع إنعام‬ ‫ّ‬ ‫ولعل الظروف‬ ‫كجه جي وسنان أنطون‪،‬‬ ‫السياسية واأليديولوجية هي التي لعبت دورًا‬

‫‪153‬‬


‫فضاءات‬

‫ّ‬ ‫الحظ‪ ،‬فحصل‬ ‫في توجيه هذا‬

‫طمس للتع ّدد المشوب برؤية‬

‫استعماريّة لم تجد فيها الدعوة‬ ‫القوميّة الراديكاليّة سوى مصدر‬

‫للخطر والعداء األيديولوجية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫مؤخ ًرا عالقات روائيّة‬ ‫ونشأت‬

‫مع مدن من مثل‪ :‬الرياض‬ ‫ّ‬ ‫ومكة ورجاء‬ ‫وبدرية البشر‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫المتلقي لمعرفة مثل تلك العالقات‬ ‫شغفا لدى‬ ‫عالم‪ ،‬ونجد‬ ‫ً‬ ‫الطبقي‬ ‫أحيانا بالمعاناة في الحفر‬ ‫المغيّبة‪ ،‬لك ّننا نشعر‬ ‫ّ‬

‫الروائي‪ ،‬وقد عنون روايته ً‬ ‫أيضا باسم‬ ‫مدينة عدن إلى قلب العالم‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ولعل صفة الميناء تفصح عن نفسها‬ ‫ميناء «ستيمر بوينت»‪،‬‬

‫يسيء إلى المعالجة الفنيّة‪.‬‬

‫نقطة االنطالق ستينيّات القرن العشرين‪ ،‬حيث حرب اليمن‬

‫أورهان باموق‬

‫ّ‬ ‫النص مما قد‬ ‫والوصول إلى الخريطة الروائيّة للمدينة عبر‬

‫تدمير واحدية النسق االستعماري‬

‫تظهر عالقة الكاتب مع المدينة العربيّة في الكتابات‬ ‫ّ‬ ‫المتأخرة أكثر نضجً ا م ّما كانت عليه قبل تسعينيّات‬ ‫الروائيّة‬

‫من خالل حركة القادمين والمسافرين‪ ،‬والعابرين‪ ،‬وكانت‬

‫التاريخي باتجاه الماضي‪:‬‬ ‫األهليّة التي ننطلق منها إلى الحفر‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تتوقف ليومين أو ثالثة ثمّ تمضي مثل‬ ‫«سفينة سيّاح هائلة‬ ‫مدينة عائمة‪ ،‬في الليل ستبدو مثل مركبة فضائيّة عمالقة‬

‫خرافي»‪( .‬ستيمر بوينت‪ .‬دار التنوير ـ بيروت)‪.‬‬ ‫تبحر في سديم‬ ‫ّ‬

‫القرن العشرين‪ّ ،‬إنها تقاطعات بين رؤية قومية أو وطنيّة‬

‫يفرض حضور التع ّدديّة الثقافيّة التي صنعتها الكولونياليّة‬

‫اآلخر‪ ،‬تلك التي تتسم بالموضوعية الظاهرية‪ ،‬على الرغم ممّا‬ ‫ً‬ ‫أحيانا من جهل‪ ،‬أو مبالغة‪ ،‬أو أيديولوجيا‪ .‬تو ّكد تلك‬ ‫فيها‬

‫(فارسي‪ ،‬هندي‪ ،‬أميركي‪ ،‬إنجليزي‪ ،‬فرنسي‪ ،)...‬المقارنة مع‬

‫تنتمي إلى الصفاء أو الذات‪ ،‬ورؤية كولونيالية تنتمي إلى‬

‫‪154‬‬

‫عبدالرحمن منيف‬

‫غونتر غراس‬

‫النصوص على التعددية الثقافيّة للمدينة في مجتمعات ما‬

‫بعد االستعمار‪ ،‬م ّما يشير إلى الرغبة في تدمير واحديّة النسق‬

‫االستعماريّ المسيطر‪ ،‬فالتع ّدد هنا قوّة اجتماعيّة وثقافيّة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫تتمسك به الكولونياليّات في‬ ‫تاريخي‪،‬‬ ‫يدل على غنى حضاريّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫صراعها مع الق ّوة المسيطرة‪ ،‬التي غالبًا ما تجيء من منطلق‬

‫الثقافي‪ ،‬سواء كان دينيًّا أو عرقيًّا‪،‬‬ ‫األنثروبولوجي‬ ‫تفوّقها‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫فيظهر التأكيد على مدينية المدينة العربيّة بوصفه جزءً ا من‬ ‫إستراتيجية تفكيكية لالستعمار‪.‬‬

‫روائي مصدره‬ ‫تحظى المدن المفتوحة على البحر بامتياز‬ ‫ّ‬ ‫دراميّة الحركة عبر الماء‪ ،‬تمامً ا كما يصف باموق إسطنبول‪،‬‬

‫والسفن في البوسفور‪« :‬إنّ القدرة على رؤية‬ ‫البوسفور بالنسبة ألهل إسطنبول‪ ،‬ولو عن‬

‫بعيد‪ ،‬مسألة ذات أهميّة روحانيّة‪ ،‬وربّما‬ ‫ّ‬ ‫المطلة على البحر تشبه‬ ‫يفسر هذا أنّ النوافذ‬ ‫ّ‬ ‫المحراب في المسجد‪ ،‬والمذبح في الكنيسة‪،‬‬

‫والهيكل في الكنس»‪( .‬أورهان باموق‪،‬‬

‫إسطنبول‪ -‬الذكريات والمدينة)‪ .‬وتزداد أهميّة‬ ‫البوسفور وقت الحرب طبعً ا‪ ،‬وتحيلنا هذه‬

‫العالقة بينهما إلى العالقة العضويّة بين طنجة‬ ‫ومحمد شكري‪.‬‬

‫يعيد أحمد زين بمقاربة مشابهة لباموق‪،‬‬

‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬

‫في عدن من جذور القاطنين فيها نتيجة للحراك االستعماريّ‬

‫مدينة الحُ ديدة التي جاءت منها إحدى الشخصيات الرئيسة في‬ ‫قومي أحاديّ ‪« :‬مثل الميت‪،‬‬ ‫الرواية‪ ،‬والمصبوغة بلون صراع‬ ‫ّ‬ ‫مدينة ال مالمح لها مدفونة اآلن في ركام من الصمت والتاريخ‬

‫وجثث الجنود المصريين واليمنيين‪ ،‬ملكيين وجمهوريين»‪.‬‬ ‫(ستيمر بوينت)‪ .‬وتصير تشبه إسطنبول التي تق ّزمت‪ ،‬وتحوّلت‬ ‫الحزبي منذ ستينيّات القرن‬ ‫التركي‪ ،‬والصراع‬ ‫القومي‬ ‫مع الم ّد‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫العشرين إلى قرية‪ ،‬كما يقول باموق‪ ،‬بلونين فقط‪ ،‬أبيض‬ ‫وأسود‪.‬‬

‫تتيح المدن الكوزموبوليتانيّة إمكانيّة اختيار الهويّة‪ ،‬التي‬

‫تكون غنيّة ومتجددة‪ ،‬غير تلك الجامدة التي تفرض علينا‬ ‫عدني‪ ...‬ال أريد االنتماء سوى‬ ‫بالمولد وبالقبيلة وبالدين‪« :‬أنا‬ ‫ّ‬ ‫لهذه المدينة» (ستيمر بوينت)‪ ،‬وتفاصيل هذه‬ ‫الهويّة هي تفاصيل المدنيّة ذاتها‪ :‬السينما‪،‬‬ ‫والمسرح‪ ،‬والبنايات الشاهقة‪ ،‬والمكتبات‪،‬‬ ‫والبنوك‪ ،‬والشركات‪ ،‬وقضايا الحداثة‪ ،‬من‬

‫المنتديات‪ ،‬التي تناقش قضايا الدعوة إلى تحرير‬ ‫المرأة وإلغاء الحجاب‪ ،‬وال نستثني أمراض‬ ‫ّ‬ ‫كالسل والتيفوئيد‬ ‫المدينة والحرب والبحر‪،‬‬

‫التي ال تكون في القرى واألماكن القصيّة غالبًا‬

‫(ستيمر بوينت)‪ .‬تعيد إنعام كجه جي عبر عالقتها‬ ‫ّ‬ ‫كل من بغداد‪ ،‬والديوانيّة‪،‬‬ ‫بالمدينة إنتاج‬

‫ّ‬ ‫«طشاري» (دار الجديد ‪-‬‬ ‫والموصل في روايتها‬


‫الخريطة الروائية للمدينة العربية‬

‫التاريخي‪ ،‬تتساوى‬ ‫بيروت)‪ ،‬هذه المدن المتفاوتة في حضورها‬ ‫ّ‬

‫الموضوعي مقبرة‬ ‫الفرنسي‪ ،‬ويصبح معادلها‬ ‫في المنفى‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫إلكترونيّة يصمّمها الحفيد ذو الهويّة المزدوجة (العراقية‬ ‫الفرنسيّة)‪ ،‬ويجمع فيها جثث األقرباء التي تف ّرقت‬

‫ّ‬ ‫النص التاريخ‬ ‫بسبب نزيف الحروب‪ .‬يتتبّع‬ ‫السياسي والحزبي للعراق ودور النساء فيه‪ ،‬عن‬

‫طريق الدكتورة وردية التي تحكي حياة أسرتها‬ ‫المسيحية‪ّ ،‬‬ ‫باالتساق مع تحوّالت المدن الثالث‪،‬‬

‫الثقافي في‬ ‫وحركة البشر‪ ،‬والكفاءات‪ ،‬والتع ّدد‬ ‫ّ‬

‫مربوطة بشريط فضي‪ ،‬ثمّ رحلت مع زوجها صاحب معمل‬ ‫ً‬ ‫خوفا من التنكيل باليهود في بغداد‪ ،‬فهاجروا إلى‬ ‫الطابوق‬ ‫لندن‪ ،‬وبعدها إلى إسرائيل‪( .‬طشاري)‪.‬‬

‫الروائي والمدينة‬ ‫إنّ حضور العالقة بين‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫عبثا أو رغبة إكزوتيكيّة‪،‬‬ ‫النص ليس‬ ‫في‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يتعلق‬ ‫لعلها رغبة بتفسير شيء ما غالبًا ما‬ ‫باإلنسان‪ ،‬من مثل «الرغبة في معرفة‬

‫مصيرنا‪ ،‬أو إرجاع المعنى العميق إلى المأساة‬

‫اإلنسانيّة‪ ،‬من خالل المالحظة الدقيقة‪ ،‬أو‬

‫فيال الدكتور اللبناني فرنجيّة رئيس الصحة في‬

‫إبداع حقائق إنسانيّة خياليّة‪ ،‬أو البحث عن‬

‫اليهودية التي عقدت على مرآة سيارة الدكتورة‬

‫األدب في فرنسا في القرن العشرين‪ .‬ص‪.)138‬‬

‫الديوانية‪ ،‬وفي العالقة مع أم يعقوب الصديقة‬

‫ورديّة الجديدة في عام ‪1959‬م أم سبع عيون‬

‫تظهر عالقة الكاتب مع المدينة‬ ‫المتأخرة‬ ‫الروائية‬ ‫العربية في الكتابات‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تسعينيات‬ ‫مما كانت عليه قبل‬ ‫أكثر‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫نضجا ّ‬ ‫القرن العشرين‪ ،‬إ ّنها تقاطعات بين رؤية‬ ‫وطنية تنتمي إلى الصفاء أو‬ ‫قومية أو‬ ‫ّ‬ ‫الذات‪ ،‬ورؤية كولونيالية تنتمي إلى اآلخر‬

‫حقائق خفيّة»‪ (.‬ألبير ليونار‪ ،‬أزمة مفهوم‬ ‫لذا يصل باموق بعد تشريحه عالقته‬

‫بإسطنبول إلى تفسير الحزن الذي يقيم فيها‬

‫وال يفارقها‪ ،‬ويطبع الشخصيّة التي تنتمي‬

‫إليها‪ ،‬كذلك يمكن تفسير االضطراب واإلحباط‬

‫الذي يعتري الشخصيّة العربيّة‪ ،‬والتردّي الذي ينتاب عالقتنا‬

‫رومانسي غالبًا عبر‬ ‫بمدننا‪ ،‬الذي تعكسه الروايات‪ ،‬بشكل‬ ‫ّ‬ ‫النوستالجيا إلى المكان من موقع المنفى‪ ،‬أو النوستالجيا‬ ‫إلى التع ّدد الذي حملته المرحلة الكولونياليّة‪ ،‬ويعيدنا هذا‬ ‫التفسير إلى عدم تقبّل العالقة الملتبسة مع الجذور‪.‬‬

‫نماذج مهمة لكتابة ما بعد االستعمار‬

‫ّ‬ ‫تشكل التجلي األكثر فداحة لتوحّ ش‬ ‫انطلقت من الحرب العالميّة الثانية‪ ،‬التي‬ ‫ّ‬ ‫تشكل نماذج مهمة لكتابة ما بعد االستعمار‪ ،‬فهي‬ ‫اإلمبرياليّة‪ ،‬نصوص روائيّة عربيّة‪،‬‬

‫نصوص تجمع الواقعيّة‪ ،‬بوصفها مدرسة فنيّة في التصوير‪ ،‬إلى الرومانتيكيّة بوصفها‬ ‫مزاجً ا عامًّ ا لمراحل الحروب وما بعدها‪ ،‬فضلاً عن الوثائقيّة‪ ،‬التي تنتج عن ضغط الحوادث‬ ‫والنوعي‪ ،‬ويجتمع ذلك ّ‬ ‫كله تحت عنوان‪« :‬كتابة ما بعد االستعمار»‪ ،‬أو‬ ‫الكمي‬ ‫التاريخيّة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫والخيالي‪.‬‬ ‫التاريخي‬ ‫الر ّد على اإلمبراطورية بصورة روائيّة‪ ،‬تحضر فيها جدليّة السياقين‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫القومي الواحدي‪ ،‬حين كشف‬ ‫التسلط األيديولوجي‬ ‫استطاع فوّاز حدّاد أن يكون من أوائل الذين أخرجوا دمشق روائيًّا من‬ ‫ّ‬ ‫فواز حداد‬

‫عن هجنتها؛ إذ أشار إلى تلك الهجنة منذ عنوان روايته‪« :‬موزاييك‪ -‬دمشق ‪( »39‬األهالي للطباعة والنشر ‪ -‬دمشق)‪ .‬لقد حرمت‬ ‫الروائي للتعدّ د؛ ألنّ األيديولوجيا شغلت الرواية السوريّة بشكل مباشر بمفهوم المقاومة‪ ،‬مقاومة‬ ‫دمشق طويلاً ذلك الضوء‬ ‫ّ‬ ‫الشعب واألبطال الفردانيين ّ‬ ‫الفرنسي‪ ،‬من غير إبراز حياة المدينة األنثروبولوجيّة‪ ،‬التي‬ ‫العثماني‪ ،‬واالستعمار‬ ‫لكل من االحتالل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫يشير إليها فوّاز حدّ اد عند تصويره بانسيون مدام كورينا‪ ،‬الذي يرتاده الدكتور يوسف الذي درس في باريز‪ ،‬فيقرن العاصمتين‬ ‫ّ‬ ‫والموظفين والتجّ ار السوريين‪،‬‬ ‫الثريّتين‪« :‬لم تكن هذه غرفة الجلوس التي عهدها تعجّ بفتيات الفرق الليليّة والضبّاط الفرنسيين‬ ‫ّ‬ ‫وتغص بالمأكوالت والمشروبات المتنوّعة والمازة اللبنانيّة واليونانيّة‪ ...‬مدام كورينا هذه‪ ،‬لم يستطع أحد أن يعرف هويّتها‬ ‫الحقيقيّة‪ ،‬زعمت م ّرة ّأنها من منكوبي األرمن‪ ،‬وم ّرة أخرى ّأنها سائحة تجمع الذكريات والتذكارات‪ ،‬ثمّ متعهّدة أرتيستات‪،‬‬

‫ّ‬ ‫مصغرة‪ ،‬يدّ عي الفرنسيّون ّأنها تعمل لحساب اإلنكليز‪ ،‬واإلنكليز‬ ‫لك ّنها لم تكن واحدة من هؤالء‪ّ ،‬إنها في حقيقتها عصبة أمم‬ ‫يزعمون ّأنها عميلة ألمانيّة‪ ،‬واألصحّ ّأنها جاسوسة عالميّة‪(.»...‬موزاييك‪ -‬دمشق ‪.)39‬‬

‫‪155‬‬


‫مقال‬

‫شايع الوقيان‬ ‫كاتب سعودي‬

‫صورة المرأة في عصر النهضة‬ ‫عصر النهضة العربية ابتدأ باللحظة التي التقى فيها‬

‫الشرق بالغرب‪ .‬صحيح أنه كانت هناك لقاءات بين الشرق‬

‫فريد وجدي يؤلف «المرأة المسلمة» ردًّا على كتاب أمين‪ .‬وها‬

‫الصليبية لكنه كان لقاءً بين ندّين تقريبًا‪ .‬أما في العصور‬

‫حقيقته وحكمة حكمه فتجاوزوه إلى أذى وضرار‪ .‬و«أما الخصوم‬

‫والغرب إبان الوجود اإلسالمي في األندلس وإبان الحروب‬

‫الحديثة فالشرق هذه المرة يلتقي غربًا جديدًا عليه وأقوى‬ ‫منه؛ غرب الثورة الصناعية والتقدم العلمي والتطور‬

‫الجيوسياسي والعسكري‪ .‬ويمكن التأريخ له بغزو نابليون‬ ‫مصر في آخر القرن الثامن عشر‪ .‬وكان هناك مفكرون‬

‫‪156‬‬

‫المرأة‪ ،‬ومعارضوه هم معارضو حرية المرأة‪ .‬فها هو ذا محمد‬

‫هو ذا أحمد شوقي يرثي أمي ًنا مؤيدًا له وألفكاره‪ .‬يقول‪ :‬جهلوا‬ ‫فرفعوا عقائرهم صادحين‪ :‬كتب الحرب والقتال علينا وعلى‬

‫الذيول»!‬ ‫الغانيات جر‬ ‫ِ‬ ‫أعداء المرأة‬

‫وأدباء واكبوا هذا اللقاء الحضاري وعبروا عنه أبلغ تعبير‪،‬‬

‫لنلق نظرة على خصوم المرأة أو أعدائها! وأشهرهم هو عباس‬ ‫ً‬ ‫أحيانا بأنه «ليبرالي!» وهذا‬ ‫محمود العقاد‪ .‬هذا الرجل يوصف‬

‫وقاسم أمين‪ ،‬وينتهي هذا العصر برأيي مع النصف األول‬

‫دعاة الفردانية عند العرب‪ .‬والفردانية هي إحدى ركائز الليبرالية‪.‬‬

‫جمال عبدالناصر باالنقالب على العصر النيابي الليبرالي‬

‫يقول في «ساعات بين الكتب»‪« :‬ليس للمرأة في قرارة نفسها‬

‫هناك مسائل كثيرة ناقشها رواد عصر النهضة وكلها‬

‫الذي تطيعه‪ ،‬وتلقي بنفسها لكل ما فيها من ذخر حالوتها بين‬

‫ونذكر منهم‪ :‬رفاعة الطهطاوي‪ ،‬وخير الدين التونسي‪،‬‬

‫وجمال الدين األفغاني‪ ،‬وفرح أنطون‪ ،‬ومحمد عبده‪،‬‬

‫من القرن العشرين عندما قام الضباط في مصر بقيادة‬

‫عام ‪١٩٥٢‬م‪.‬‬

‫يمكن أن تجمع تحت سؤال واحد‪ :‬لماذا تأخر العرب‬

‫والمسلمون وتقدم الغرب؟! ومن األسئلة الفرعية سؤال‬

‫المرأة‪ .‬فقد كان وضع المرأة االجتماعي والقانوني حاض ًرا‬

‫لدى أغلبية ‪-‬بل كل‪ -‬رواد النهضة‪ .‬وتنوعت أساليب الطرح‬

‫صحيح جزئيًّا‪ .‬فهو مؤمن أشد اإليمان بحرية الفرد وهو من أبرز‬

‫لكن موقفه من النساء يجعلنا نحذر من إطالق النعوت واأللقاب‪.‬‬ ‫سعادة أكبر من سعادة الطاعة‪ ،‬وال أمل أرفع من حب الرجل‬

‫وليقس الرجل عليها أو يرحمها ويعذبها‪ ..‬فإنها لسعيدة‬ ‫يديه‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫بالطاعة»(األعمال الكاملة‪ ،‬مجلد ‪ ،٢٦‬ص ‪ .)٣٣‬وال أدري كيف‬

‫عرف العقاد ما في قرارة المرأة؟! وال أدري كيف جرؤ على التحدث‬

‫وطرائق التحليل بينهم ً‬ ‫تنوعا كبي ًرا‪ .‬ويمكن أن نميز في آرائهم‬

‫باسمها في شيء من أخص خصائصها وهو خلجات النفس‬ ‫واعتماالت العقل! ويبدو أن العقاد يتصور المرأة كائ ًنا «مازوخيًّا»‬

‫تابعة للرجل‪ ،‬وبين مجددين يرون أن المرأة مساوية للرجل‬

‫تحب فإنها سوف تكفر بالحقوق والمطالبات‪ ،‬ولما قام للحركة‬

‫بين محافظين يرون أن المرأة يجب أن تكون حبيسة المنزل‬ ‫في الحقوق وفي الممارسة االجتماعية وأنها حرة كالرجل‪.‬‬ ‫يعد قاسم أمين أبرز من دعا لحرية المرأة وكتابه «تحرير‬

‫يتلذذ بالعذاب والمهانة‪ .‬ويقول‪« :‬لو أن المرأة وجدت الرجل الذي‬ ‫النسوية قائمة»‪ .‬وكل كالم العقاد عن المرأة هو أمر لها بالطاعة‬ ‫العمياء للرجل «فالمرأة ُخلقت لتعطي والرجل خلق ليأخذ منها‬

‫المرأة» أشهر من أن نعرف به‪ .‬وقد أردفه كتابًا آخر بعنوان‪:‬‬

‫كل ما تعطيه‪ ،‬خلقت المرأة للطاعة وخلق الرجل للسيادة»‪.‬‬

‫وأحمد فارس الشدياق سبقوا قاسم أمين في الدعوة إلى‬

‫مفك ًرا ح ًّرا وأديبًا قاد ثورة من أعظم الثورات األدبية يعد سقطة‬

‫«المرأة الجديدة»‪ .‬ويرى مارون عبود أن الكتاب األتراك‬

‫حرية المرأة (مارون عبود‪ ،‬األعمال الكاملة‪ :‬ج‪ ٢‬ص ‪.)٢٦٦‬‬

‫وقد تحول النقاش حول المرأة إلى نقاش طويل حول كتاب‬ ‫قاسم أمين؛ فصار مؤيدو الكتاب هم ذاتهم مؤيدو حرية‬

‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬

‫(ص‪ .)٣٤‬هذا الكالم المشين الصادر من رجل يفترض أن يكون‬

‫مدوية‪ ،‬وال أظن أن العقاد كان له بعد نظر واستشراف للمستقبل‬ ‫وإال لعرف أنه سيأتي يوم يلفظ الناس فيه كالمه هذا كما يلفظون‬

‫الطعام الفاسد‪.‬‬


‫في كتاب «فتاوى األدباء» يقرر جميل صدقي الزهاوي‪ -‬وهو‬

‫معروف بتأييده للسفور‪« :‬قلت‪ :‬هل في السفور خير يرجّ ى؟ ‪ -‬قال‬ ‫خير من الحجاب السفورُ‪ -‬إن الرجل والمرأة كجناحي الطائر وال‬ ‫يمكن للطائر أن يطير بحناج واحد» (ص‪ .)١٢٢‬يتفق معه أحمد‬

‫أمين فيقول‪ :‬الرجل لوحده ناقص والمرأة لوحدها ناقصة وهما‬ ‫معً ا إنسان كامل‪(.‬فيض الخاطر‪ ،‬ج ‪ ،١‬ص‪ .)٢٦١‬لكن أحمد أمين‬

‫ال يلبث أن يعود فيتحيز للرجل إذ يؤكد أن الرجل أكثر سعة‬

‫في العقل وفي الخيال من المرأة‪ ،‬وأنه لم يكن هناك نساء في‬

‫الفلسفة وال في النبوة! لكن مارون عبود يؤكد أنه كان هناك نساء‬

‫مسائل كثيرة ناقشها رواد عصر النهضة‬ ‫وكلها يمكن أن تجمع تحت سؤال واحد‪:‬‬ ‫لماذا تأخر العرب والمسلمون وتقدم‬ ‫الغرب؟! ومن األسئلة الفرعية سؤال‬ ‫المرأة‪ .‬فقد كان وضع المرأة االجتماعي‬ ‫حاضرا لدى أغلبية رواد النهضة‬ ‫والقانوني‬ ‫ً‬

‫«نبيات» في عهد بني إسرائيل‪ .‬فهناك «حنة» و«دبورة» وغيرهما‪،‬‬ ‫وأن األديان تساوي المرأة بالرجل!(عبود‪ ،‬األعمال الكاملة‪ ،‬ج‪،٣‬‬ ‫ص‪ ،١٢٤-١٢٣‬وانظر ً‬ ‫أيضا ج ‪ ،٨‬ص ‪ .)٨٠٣‬أحمد أمين في موقفه‬

‫من المرأة مضطرب ومتناقض‪ .‬فرغم أنه يؤكد أن المرأة لم تتح‬

‫لها الفرص التي أتيحت للرجل وإال فإنها كانت ستتفوق في الشعر‬ ‫والفكر والسياسة‪ ..‬فإنه يعود فيقرر أن الخصائص التي للمرأة هي‬

‫خصائص طبيعية فطرية ال تقبل التغير‪ ..‬ويقصد بهذه الخصائص‪:‬‬

‫ضعف المرأة مقابل قوة الرجل في العقل والخيال والتمرد‬ ‫ويستشهد بأن رجلاً قاد ثورة تحرير المرأة وهو قاسم أمين ثم‬

‫تبعته المرأة (هدى شعراوي)‪( .‬فيض الخاطر‪،‬ص ‪.)٢٦٣‬‬ ‫ومن أسف أن أحمد أمين كالعقاد يعد مفك ًرا ليبراليًّا مؤمناً‬

‫بالحرية‪ .‬لكن تحيزه الذكوري خذله‪ ،‬في حين غرور العقاد هو من‬ ‫خذله‪ .‬وأما رفيق العقاد‪ ،‬عبدالقادر المازني فليس أفضل ًّ‬ ‫حظا من‬

‫سلبي‪ .‬فهي ثرثارة والرجل صموت‪.‬‬ ‫صاحبه؛ فموقفه من المرأة‬ ‫ّ‬ ‫و«ال تصمت المرأة إال إذا عجز لسانها عن الجري وانقطعت‬

‫ص‪ .)١٣٩‬ويتفق معه أمين واصف الذي يعد تحرر المرأة ومساواتها‬ ‫بالرجل في الحقوق ً‬ ‫مرضا من األمراض االجتماعية المعضلة‬ ‫(نفسه‪ ،‬ص ‪ .)١١١‬وأما عبدالوهاب عزام فهو محافظ ويرفض حرية‬ ‫المرأة ويردد األسطوانة المشروخة وهي أن المرأة مصونة مكرمة‬ ‫وأنها ليست في حاجة للمشاركة االجتماعية والسياسية‪( .‬نقلاً‬

‫عن‪ :‬عبداللطيف شرارة‪ ،‬معارك أدبية‪ ،‬ص‪.)٣٨٣‬‬

‫المحافظة المقنعة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫لكن هناك مفكرين وأدباء وقفوا موقفا وسطا‪ .‬وبرأيي أن‬ ‫الوسطية في مسائل كهذه هي ضرب من المحافظة المق ّنعة!‬ ‫فأسعد داغر مثلاً يدعو لالعتدال ونبذ تقليد المرأة الغربية‬

‫(نفسه‪ ،‬ص‪ .)٣٧١‬والغريب أن شبلي شميل صاحب مذهب النشوء‬

‫واالرتقاء وقف هذا الموقف المتخاذل فيرى أن الرجل ‪-‬فسيولوجيًّا‬

‫أنفاسها ألن الكالم ال يكلفها نصبًا عقليًّا!»‪(.‬قبض الريح‪ ،‬ص‪.)١٢٧‬‬

‫ونفسيًّا‪ -‬أفضل من المرأة ويدعو لوسطية مهلهلة‪ :‬فليس علينا‬

‫وجلي‬ ‫وطه حسين وولي الدين يكن وغيرهم فموقفهم واضح‬ ‫ّ‬ ‫وال تذبذب فيه‪ .‬فولي الدين يكن في «الصحائف السوداء» يؤيد‬

‫فعل ديدرو! ويرى أن المرأة «تابعة للرجل في ارتقائه» ( شميل‪،‬‬

‫أما زعماء الليبرالية األصالء كأحمد لطفي السيد وقاسم أمين‬

‫موقف قاسم أمين‪ ،‬وكذلك سعد زغلول‪ ،‬وهناك مفكر لم يشتهر‬

‫ويدعى محمد عمر وله كتاب «حاضر المصريين أو سر تأخرهم»‪.‬‬ ‫أُ ِّلف سنة ‪١٩٠٢‬م‪ .‬وفيه دفاع قوي عن المرأة وحقوقها وحريتها‪.‬‬

‫يرى أن إبعاد النساء من المشاركة االجتماعية يفضي إلى انحطاط‬ ‫المجتمع‪ ،‬ويأسف هذا المفكر على أن من عارض قاسم أمين‬

‫«ليس من فئة األميين وسطحيي المعارف بل من الفئة الممتازة؛‬

‫فئة العلماء»(ص ‪ .)١٦٤‬ويرى أن المعارضين هم «عراقيل وقتية ال‬ ‫تستطيع مقاومة قوة الحقائق»‪( .‬ص‪.)١٦٥‬‬

‫هؤالء المعارضون لحقوق المرأة هم ممن غلبت عليهم‬

‫أن نحتقر المرأة كما فعل شوبنهاور وال أن نبالغ في تعظيمها كما‬

‫المقاالت‪ ،‬ص ‪.)١٠٤‬‬

‫ً‬ ‫ملخصا سريعً ا ألبرز اآلراء التي طرحها مفكرو‬ ‫ما سبق كان‬

‫النهضة وأدباؤها‪ .‬وقد اقتصرت على آراء الرجال لتخصيص‬

‫الموضوع وإال فإن هناك نساء مفكرات وأديبات ممن دعا لحرية‬

‫المرأة مثل هدى شعراوي وصديقتها سيزا نبراوي وسهير القلماوي‬

‫وصفية زغلول (زوجة سعد زغلول) وأمينة السعيد وغيرهن‪.‬‬ ‫فالمقام ال يسمح بذلك وسوف أخصص لهن اً‬ ‫مقال منفردًا في قابل‬ ‫األيام‪ .‬لقد شهد تاريخ العالم الحديث أن كل البلدان المتقدمة في‬ ‫كل المجاالت هي البلدان التي أعطت المرأة الحقوق كافة‪ ،‬ولم‬

‫تنتقص منها ومن دورها‪ ،‬ولم تجعلها حبيسة المنزل وحبيسة‬

‫المحافظة في كل شيء‪ :‬في الفقه واألدب والفكر والسياسة‪ .‬فها‬

‫العادات والتقاليد‪ .‬فهوية المرأة تكمن في أن تتحرر من األصفاد‪،‬‬ ‫وأن تكسر القيود وأن تصبح عضوًا فاعلاً في المجتمع‪ ،‬ولن يتحقق‬

‫«فساد األنوثة» الذي تدعو له حركات التحرر (فتاوى األدباء‪،‬‬

‫والتأويالت الدينية المتحجرة‪.‬‬

‫هو ذا مصطفى صادق الرافعي‪ ،‬أبرز المحافظين‪ ،‬يرى أن المرأة‬ ‫كائن مغاير للرجل‪ ،‬وأن لكل جنس دوره الخاص به ويحذر من‬

‫هذا وهي مطمورة تحت ركام من التقاليد البالية والعادات الظالمة‬

‫‪157‬‬


‫نصوص‬

‫يا طفلي‬ ‫نصوص قصيرة ج ًّدا‬ ‫عبدالله السفر‬

‫شاعر سعودي‬

‫ُ‬ ‫سيجارة َخ ْل ٍق ضجران‪.‬‬ ‫يا طفلي! إنما أنت‬

‫* * *‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫يا طفلي! إياك إياك‪ .‬ال تنخدع‪ .‬جرّة الرماد ثقيلة ثقيلة‪.‬‬

‫* * *‬ ‫يا طفلي! كر ْ‬ ‫ّس حنجرتك للغزل وسوف تنبت للرصيف أجنحة‪.‬‬

‫‪158‬‬

‫* * *‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫يا طفلي! ا ّدخ ْر شربة الماء‪ .‬الظل قصي ٌر والهاجرة مقبلة‪.‬‬

‫* * *‬ ‫ّ‬ ‫أم َ‬ ‫ْ‬ ‫قتلت َّ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ك‪.‬‬ ‫العيون المصفحة‬ ‫وجها‪.‬‬ ‫يا طفلي! ُش َّق لالبتسامة‬ ‫* * *‬ ‫يا طفلي! كو ُب َ‬ ‫ك غي ُر فارغ‪ .‬لمه الدمدمة؟‬

‫* * *‬ ‫َ‬ ‫ولكن جمال َ‬ ‫ّ‬ ‫ك شديد‪.‬‬ ‫يا طفلي! ستراهم سكارى وما هم بسكارى‪،‬‬ ‫* * *‬ ‫ً‬ ‫تلتفت‪ُّ .‬‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫كل ُه ُم ّد َخر وستتذكرُه؛ فاصلة فاصلة‪.‬‬ ‫امض‪ .‬ال‬ ‫يا طفلي!‬ ‫ِ‬ ‫* * *‬ ‫سيرك منصوب‪ .‬هذا ً‬ ‫ٌ‬ ‫أيضا‪ ،‬سراب‪.‬‬ ‫يا طفلي! انظ ْر إليه‪.‬‬ ‫* * *‬

‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬


‫يا طفلي! ّ‬ ‫فاخترعت َ‬ ‫ُ‬ ‫تفن ُنوا في َ‬ ‫لك الدهاليز‪.‬‬ ‫ب؛‬ ‫الحجْ ِ‬ ‫* * *‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫حتما‪ ،‬سيُصا ُبون بك‪.‬‬ ‫تتعجل‪.‬‬ ‫يا طفلي! ال‬

‫* * *‬ ‫انتبه ُّ‬ ‫للعبة‪ّ .‬‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫تيق ْظ إلى أنك في اللعبة‪.‬‬ ‫يا طفلي!‬ ‫* * *‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫وشمع َ‬ ‫ُ‬ ‫قليل وهيّن‪.‬‬ ‫ك‬ ‫عاتية‬ ‫الظلمة‬ ‫يا طفلي!‬

‫* * *‬ ‫يا طفلي! ْاتبَع َ‬ ‫ُ‬ ‫البلل؛ وسيبلِغ َ‬ ‫ك عن العطش‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫* * *‬ ‫بإسراف‪ ،‬وال تهتم‪.‬‬ ‫يا طفلي! أن ِف ْق من األغنية‬ ‫ٍ‬

‫* * *‬ ‫يا طفلي! المالعين جاؤوا بأثوابهم السابغة‪ .‬افضحْ هم‪ .‬اخرجْ عليهم ُ‬ ‫بعريِك‪.‬‬ ‫* * *‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫تصد ْق ّ‬ ‫ُ‬ ‫لعبة نرد‪.‬‬ ‫الجزاء‬ ‫أن الجزا َء من جنس العمل‪.‬‬ ‫يا طفلي! ال‬ ‫* * *‬ ‫يا طفلي! َّ‬ ‫َ‬ ‫الطر ُْق يتعالى ّ‬ ‫الشاطئ مقفر‪.‬‬ ‫لكن‬

‫* * *‬ ‫ْ‬ ‫يا طفلي! َّ‬ ‫فازحف وستصل‪.‬‬ ‫ك‬ ‫الس ْي ُر المدهون ال‬ ‫تمش عليه‪ .‬على بط ِن ِ‬ ‫ِ‬ ‫* * *‬ ‫ُ‬ ‫ضحكتك‪.‬‬ ‫يا طفلي! السوق مزدحم؛ فلتشرق‬ ‫* * *‬ ‫ُ‬ ‫يا طفلي! َ‬ ‫هج َم ُّ‬ ‫السعاة وال بريد‪.‬‬

‫* * *‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫القصاب‪.‬‬ ‫يا طفلي! ِمن هرهرة الكالب وذلها ستعرف‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫قرقعة عظام‪.‬‬ ‫تتبع ُه‬ ‫دم‬ ‫آيت ُه بقعة ٍ‬

‫‪159‬‬


‫إعالم‬

‫السيلفي‪:‬‬

‫غياب للديمومة في مقابل اللحظة‬ ‫تواضعت أحالم البشر وتبدد مطلب السعادة األبدية‬

‫‪160‬‬

‫هند السليمان‬

‫كاتبة سعودية‬

‫في الهواتف الذكية الحديثة وُضع ألبوم‬ ‫خاص بصور السيلفي‪ ،‬فما الذي يعنيه هذا؟‪ ‬أهو‬ ‫داللة‪ ‬ال على استخدامنا المكثف للسيلفي فقط‪ ،‬بل‬ ‫إلحاحه ً‬ ‫أيضا؟ أم هو معنى جديد للتصوير يحتاج‬ ‫ً‬ ‫وتصنيفا وحده؟‪ ‬وبناءً عليه‪ ،‬ما القراءات‬ ‫اسمً ا‬ ‫المحتملة لوجود السيلفي في محيطنا وكثافة‬ ‫انتشاره؟ فبشكل يومي وجدنا أنفسنا محاطين‬ ‫بأشخاص مهمومين بالتقاط السيلفي‪ ،‬إن لم نكن‬ ‫نحن ً‬ ‫أيضا أحد هؤالء‪.‬‬

‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬


‫السيلفي فعل ال تستطيع حصره بمكان أو بنمط أفراد‬ ‫بمواصفات محددة‪ ،‬فمع ‪ 24‬بليون سيلفي ُنشرت فقط السنة‬

‫الماضية‪ ،‬فإن األمر أكثر انتشارًا من إمكانية حصره بفئة محددة‪.‬‬ ‫تقول النسب‪ :‬إنه وإن كان الرجال والنساء يلتقطون السيلفي‬ ‫بمعدالت متقاربة‪ ،‬قد تتفاوت باختالف الدول‪ ،‬إال أن ‪ %13‬من‬ ‫النساء ُتجري تعديال ً على صورها قبل نشرها‪ ،‬مقابل ‪ %34‬من‬

‫الرجال يفعلون ذلك‪ ،‬هذه النسب ال تتماشى مع تصوراتنا عن‬ ‫أولويات االهتمام بالشكل لكليهما‪ ،‬لكن يظهر أن هناك عوامل‬ ‫أخرى صنعت هذا الفارق‪ ،‬فهل وجد الرجل في السيلفي مرآته‬

‫ومكياجه اللذين استهجن عليه استخدامهما لقرون؟‬

‫السيلفي ليس بالضرورة صورة لشاب في رحلة ترفيهية‬ ‫عابثة‪ .‬فمثالً‪ ،‬في شارع وول ستريت بنيويورك قد تصادف رجلاً‬

‫أربعينيًّا ببدلة رسمية يمشي بعزيمة وصرامة كأغلب عابري‬

‫هذا الشارع‪ ،‬ليتوقف فجأة‪ ،‬لثانيتين‪ ،‬يلتقط فيها سيلفي‪،‬‬

‫ثم يستكمل طريقه بعد ذلك‪ .‬شخصيًّا الفعل كان صادمً ا‪،‬‬ ‫لكن استطاعت هذه الثانيتان كسر حاجز الوقار المتخيل لرجل‬

‫أربعيني ببدلة رسمية‪ ،‬وكذلك كسر حاجز رتابة موظفي وول‬ ‫ستريت وجمودهم كما تشكل في مُخيلتنا! ً‬ ‫أيضا‪ ،‬في الجامعة‪،‬‬

‫استخدام السيلفي المكثف أحد العالمات‬ ‫الضطراب نفسي قد يتداخل فيه عدد‬ ‫من اضطرابات الشخصية كالنرجسية‬ ‫أو الحدية أو الهستيرية أو الوسواس‬ ‫وتحديدا األفعال القهرية‬ ‫القهري‬ ‫ً‬ ‫اإلضاءة الطبيعية‪ ،‬وبخاصة مع حساسية المواد المستخدمة‬ ‫في التصوير وبدائيتها‪ .‬الصورة كانت لمنظر طبيعي‪ ،‬فحينها‬ ‫من كان سيجد من يقبل الوقوف أمام آلة غريبة ومجهولة لمدة‬

‫ثماني ساعات بشكل منتصب‪ ،‬مع عدم معرفة ماذا سيحدث من‬

‫هذه اآللة العجيبة بعد ضغط الزر‪ .‬لعله كان هناك خوف وتردد‬

‫مشترك من جانب من سيُصوَّر‪ ،‬ومن المصوَّر كذلك‪ .‬على أي‬ ‫حال‪ ،‬هذا األمر‪ ،‬كما كل ما يخص التقنية‪ ،‬لم يستمر طويلاً ‪،‬‬ ‫ففي نهاية القرن التاسع عشر‪ ،‬ومع تطور التقنيات أصبح التقاط‬ ‫ً‬ ‫وأحيانا قد‬ ‫الصورة يستغرق بين عشر دقائق إلى دقيقتين‪،‬‬ ‫يمتد إلى ساعة‪ .‬هذا االختالف الزمني‪ ،‬الذي يكشف عن سيطرة‬

‫أفضل على تقنية ما زالت في طور االكتشاف‪ ،‬أسهم في وجود‬

‫وفي أثناء إلقاء محاضرة تفاجأت بطالبة تخرج جوالها لتلتقط‬

‫األفراد في الصور‪ ،‬وبدأنا نرى صورًا شخصية‪ ،‬لكن ألن الزمن‬

‫الجامعة للحرمان من فصل دراسي وربما الطرد من الجامعة‪،‬‬

‫فمن يستطيع االحتفاظ بذات تعابير الوجه‪ ،‬كاالبتسام‪ ،‬لمدة‬

‫سيلفي داخل قاعة المحاضرة! هذا األمر قد يُعرضها‪ ،‬وفق لوائح‬ ‫لكن من الواضح‪ ،‬انتماء الطالبة لثقافة عصرها‪ ،‬لدرجة أن يصبح‬

‫هذا االنتماء أهم من مستقبلها األكاديمي في مؤسسة أكاديمية‬

‫عجزت أن تواكب وتتناسب قوانينها ومعاييرها مع متطلبات‬ ‫العصر الذي يعيشه طلب ُتها‪.‬‬ ‫بداية لنتفحص التعريف المعتمد للسيلفي‪ ،‬في عام‬

‫‪2013‬م عرف قاموس‪ ‬أوكسفورد السيلفي بأنه «صورة‪ ‬ملتقطة‪ ‬‬ ‫ُ‬ ‫ويبكام‪ ‬تنشر‪ ‬على مواقع للتواصل‬ ‫ذاتيًّا‪ ‬بواسطة‪ ‬هاتف‪ ‬ذكي‪ ‬أو‬ ‫االجتماعي»‪ .‬ول ُتطرح كلمة سيلفي‪ ‬بوصفها «كلمة‪ ‬العام»‬

‫لكثرة تداولها‪ .‬هذا التعريف يتضمن ثالثة عناصر أساسية تحدد‬ ‫وتميزه من بقية الصور‪ ،‬اً‬ ‫السيلفي ُ‬ ‫أول‪ :‬إنها صورة ذاتية‪ ،‬ثانيًا‬

‫المستغرق طويل فنجد صور األفراد‪ ،‬كأنها صور لتماثيل خشبية‪.‬‬

‫عشر دقائق أمام الكاميرا‪ .‬لذا كان الجمود هو الحل المالئم أمام‬ ‫جمود الوقت الذي يتطلبه التصوير آنذاك‪ .‬وقتها كان التقاط‬ ‫ً‬ ‫حدثا ال يتحقق إال للمحظوظين‪ ،‬وقد يحدث مرة‬ ‫صورة عائلية‬ ‫واحدة في العمر‪ ،‬وال نعرف دوافع األفراد لتجربة ذلك وكيف‬ ‫كانت تصوراتهم ومشاعرهم حول تجربتهم تلك‪ .‬وإن كان هناك‬

‫كتاب لمصور أميركي جمع قصص أفراد تناولوا تجارب مواجهة‬ ‫الكاميرا للمرة األولى‪ ،‬وكيف أن بعضهم كان برحلة سفر لهذا‬ ‫الغرض‪ ،‬ولهذا الغرض فقط‪ ،‬كأنها إحدى رحالت العالج التي‬

‫يقوم بها أحدنا اآلن!‬

‫بعد ذلك بدأت الصور تستخدم كإثبات لهوية الفرد في‬ ‫ً‬ ‫خوفا‬ ‫الوثائق الرسمية‪ ،‬وهذا يتطلب وضعية للجسد ثابتة‪ ،‬ال‬

‫ً‬ ‫وثالثا‪ :‬النشر يتم عبر وسائل التواصل‬ ‫إن األداة‪ :‬هاتف ذكي‪،‬‬ ‫ً‬ ‫أركانا ثالثة للسيلفي‪:‬‬ ‫االجتماعي‪ .‬إذن هذا التعريف يحدد‬

‫من اآللة‪ ،‬بل اللتقاط صورة بجدية تكشف مالمح الوجة بأفضل‬

‫األركان الثالثة‪ ،‬وأي فارق تصنع؟ لتحليل هذه األركان الثالثة‪،‬‬

‫بالسالسة المتوقعة‪ ،‬فما زال التصوير في بطاقة الهوية موضعً ا‬

‫الذات‪ ،‬والتقنية الحديثة‪ ،‬تواصل عبر مواقع النت‪ .‬ما داللة هذه‬

‫ربما يحسن بنا تأمل سريع في تاريخ التصوير‪.‬‬ ‫٭٭٭‬

‫يقارب عمر التصوير الفوتوغرافي مئتي عام‪ .‬ظهرت أول‬

‫صورة ما زالت متداولة عام ‪1826‬م‪ .‬تلك الصورة استغرق زمن‬

‫تصويرها ثماني ساعات! كل هذا الوقت لتثبيت الكاميرا وضبط‬

‫وضوح ممكن‪ ،‬ألسباب أمنية‪ .‬علمًا أن صور الهوية لم تمر‬

‫للجدل‪ ،‬وبخاصة حين يتعلق األمر بصور النساء‪ ،‬وإن كان‬ ‫هذا الجدل شمل صورة الرجال لكن بنبرة أقل تشددًا‪ .‬ألم يكن‬ ‫«عكسا»‪ ،‬مع ما‬ ‫مجتمعنا إلى زمن ليس ببعيد يسمي التصوير‬ ‫ً‬

‫تحمله هذه الكلمة من داللة لالستهجان والرفض الخائف؟‬

‫وألن التقنية ال تتوقف‪ ،‬فالتحديثات في صناعة الكاميرا‬ ‫ً‬ ‫ضيفا أساسً ا لتسجيل المناسبات‬ ‫جعلتها تقتحم البيوت وتصبح‬

‫‪161‬‬


‫إعالم‬

‫االجتماعية المهمة‪ .‬أال يشغل كل عروس هم إيجاد مصورة‬

‫أعرفها‪ ،‬ألجعل الصورة تقارب ما أحلم به من أنف أدق وبشرة‬ ‫ً‬ ‫إشراقا وإثارة‪.‬‬ ‫أكثر صفاء‪ ،‬ومكان كخلفية للصورة أكثر‬

‫ذاتي‪ .‬بل كاميرا معدة للتصوير وشخص آخر يقوم بذلك‪ ،‬إما‬

‫ُتظهر الوجه بشكل أقل جاذبية من حقيقته‪ ،‬إال أننا أصبحنا‬

‫أعراس مناسبة‪ .‬وأصبح كل من يسافر عليه حمل كاميراه لتوثيق‬ ‫اللحظات التاريخية المميزة في رحلته‪ .‬كل هذا‪ ،‬كان تصوي ًرا غير‬

‫متخصص أو أحد الحضور‪ ،‬وبتبرع أحدهم بالتصوير يفقد امتياز‬

‫وجوده في الصورة‪ .‬لننتهي بعد هذه المراحل إلى ما وصلنا إليه‬ ‫ً‬ ‫حديثا‪ ،‬أي السيلفي‪.‬‬ ‫٭٭٭‬

‫الشاشة األمامية لكاميرا الجوال وبمقاييس فيزيائية‪ ،‬غالبًا‪،‬‬

‫نفضل أن نصور ذواتنا على أن يفعل اآلخرون ذلك‪ .‬هم ال يعرفوننا‬ ‫كما نعرف أنفسنا‪ ،‬ال يعلمون أي زاوية ُتظهرنا أجمل‪ ،‬وأي نظرة‬

‫والتفاتة تعمق سحرنا‪ .‬فكما قالت صديقة لتفسر تفضيلها السيلفي‬

‫«ال‪ ‬أثق‪ ‬بتصوير اآلخرين‪ ،‬أنا لست جميلة‪ ،‬لكن أعرف الزاوية التي‬ ‫تظهرني كجميلة»‪ .‬كأننا باالرتكان إلى السيلفي نقول لآلخر‪ :‬إنك‬

‫من جهة أخرى‪ ،‬أليس في السيلفي تواضع في البحث‬

‫ال تستطيع التقاط جمالنا المخبوء‪ ،‬ال‪ ‬ترى‪ ‬الجمال‪ ‬بداخلنا‪ ،‬لكننا‬

‫كل ما نسعى له هو لحظتنا الخاصة‪ ،‬البعيدة من صخب‬

‫هذا فالعالقة ليست بهذا التبسيط‪ ،‬ففي الوقت ذاته وبعد التقاط‬

‫عن لحظة للفرح ال ديمومة لها‪ .‬فهل تواضعت أحالمنا وأصبح‬ ‫وتدخالت اآلخرين لنصورها‪ .‬هل توقفنا عن اإليمان بخاتمة‬

‫القصص التقليدية‪« :‬وعاشوا بسعادة أبدية» ليصبح؛ عشت‬

‫لحظة جميلة‪ ،‬هي المبتغى‪ .‬أهذا بؤس أم واقعية في الطموح؟‬ ‫لو تأملنا صور السيلفي‪ ،‬أغلبها صور ألفراد يظهرون وحدهم‬

‫وعليهم أمارات السعادة‪ ،‬أو العبث‪ ،‬أو «الدلع»‪ ،‬فالسيلفي‬

‫احتفال الذات بالذات دون اشتراط وجود اآلخرين إلقامة الحفلة‪،‬‬

‫نستطيع ذلك بأنفسنا‪ .‬أنا ال أثق بعينك ولكن أثق بعيني أنا‪ .‬ومع‬ ‫الصورة‪ ،‬ينشرها الفرد ليراها اآلخرون‪ ،‬كأنه عدم ثقة باآلخرين‪،‬‬

‫وفي الوقت نفسه التماس لتأكيد يأتي من جانبهم‪ .‬أليست هذه‬ ‫هي طبيعة إشكالية عالقتنا مع اآلخرين؟ بين عدم الثقة باآلخرين‬

‫والحاجة للثقة فيهم؟ فسيرورة خلقنا لهويتنا الذاتية المستقلة‬ ‫والمتمايزة من اآلخرين‪ ،‬تتطلب في الوقت ذاته اآلخرين‪ ،‬فمن‬

‫لكن بإمكان اآلخرين رؤية آثار الحفلة‪ ،‬ما تبقى منها‪ ،‬بعد نشر‬

‫‪162‬‬

‫الصورة‪ .‬فالفرح ال يرتبط بوجود اآلخرين‪ .‬في السيلفي‪ ،‬الفرد‬

‫يعلنها‪ :‬ال أحتاج أحدً ا ليصورني‪ ،‬وال أحتاج كاميرا متخصصة‪ ،‬أو‬ ‫محل تحميض ووق ًتا للحصول على صورة‪ ،‬إنها لحظتي أصنعها‬ ‫بوقتي الذي أختاره وبجهازي الخاص‪ ،‬وبمساعدة تطبيقات‬

‫الشعور بامتالك اللحظة قد ينفخ خيالنا‬ ‫حد التصور أننا ربما نمتلك حياتنا‪ ،‬ليغذي‬ ‫هذا من نهمنا لمزيد من السيلفي‪.‬‬ ‫فهل هذا ما يمنحه لنا السلفي‪ ،‬شعور‬ ‫مفخم بالقوة والسطوة حد امتالك‬ ‫تقرير لحظتنا ـ حياتنا؟‬

‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬


‫السيلفي‪ :‬غياب للديمومة في ُمقابل اللحظة‬

‫خاللهم نتعرف إلى هويتنا‪ ،‬نتلمسها‪ ،‬نختبرها‪ ،‬لنصدقها بعد‬ ‫ً‬ ‫وفقا لهيدغر هم «الحقيقة‪ ‬الذين‪ ‬ال‪ ‬يميّز‪ ‬المر‬ ‫ذلك‪ .‬فاآلخرون‬

‫ء‪ ‬نفسه‪ ‬عنه‪ .‬إنهم استكمال لهوية الذات وتشكلها‪ .‬إنها «هويّة‬ ‫تستوعب اآلخر في اللحظة التي تلغي‪ ‬فيها‪ ‬آخريّته‪ ‬ع ّنا»‪ ،‬كما‬ ‫يشرحها فتحي المسكيني‪ .‬ولعلنا ننهي هذه الفقرة ببقية اقتباسنا‬ ‫من المسكيني‪ ،‬لنرى كيف يمكن إسقاط طبيعة عالقتنا مع اآلخر‬

‫على رؤيتنا وتناولنا للسيلفي‪ ،‬وذلك من خالل هويتنا المنفصلة‬ ‫المتصلة عن اآلخر‪ .‬يناقش المسكيني كيف يشكل التعايش‬ ‫مع اآلخر مدخلاً لسبر الذاتية‪« :‬ها هنا يمكن للتعايش أن يأخذ‬ ‫اً‬ ‫أشكال غير مسبوقة فلسفيًّا‪ :‬من قبيل «وجهيّة» الوجه البشري‪،‬‬

‫التي تسبق معرفتنا له كموضوع‪ ،‬إذ نفهم أن «حضور اآلخر هو‬

‫تعبير» محض؛ الوجه البشري ال «يظهر» بل «يعبر»‪ ،‬وهكذا‬

‫يجد «التعايش» مقامه المناسب‪ :‬هو «أن نتلقى الغير فيما أبعد‬ ‫من قدرة األنا» من منطلق أن حضور اآلخر ال يدمر حريتي بل‬ ‫«يستثمرها»‪ .‬إن التعايش في جوهره هو نوع من «األخوّة» بين‬ ‫البشر‪ :‬أي هو محض عالقة مع «وجه الغير» ليس بوصفه شي ًئا‬ ‫ّ‬ ‫«تشكلنا» من الداخل‪.‬‬ ‫ينضاف إلينا من خارج‪ ،‬بل بوصفه عالقة‬

‫إنّ معنى التعايُش غير ممكن من دون اإلقرار بنوع ما من «أوّلية‬ ‫اآلخر» علينا»‪.‬‬

‫فن عابر سريع الزوال‬ ‫جانب آخر ال بد من تناوله في معرض النقاش عن السيلفي‪ ،‬وهو هل السيلفي فن؟ لإلجابة‪ ،‬علينا مقارنة السيلفي بفن مشابه‪:‬‬

‫البورتريه الذاتي‪ .‬فال شيء يظهر من العدم‪ ،‬ومن هنا ال مناص من التاريخ للعودة إلى جذور ما قد تسهم في إلقاء ضوء إضافي لفهم‬

‫السيلفي‪ .‬فهل السيلفي هو امتداد لفن البورتريه الذاتي؟ كالهما عبارة عن عمل يقوم أحدهما بتقديم صورته الذاتية على اآلخرين‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫حديثا فالهواتف الذكية‪ .‬فهل كثافة السيلفي مقابل ندرة‬ ‫سابقا كانت التقنية‪ :‬األلوان والقماش والمرآة‪ ،‬أما‬ ‫وعرضها باستخدام التقنية‪.‬‬ ‫البورتريه بما يتطلبه األخير من مهارة عالية للتمكن من اإلجادة؛ ما يجعل البورتريه ف ًّنا والسيلفي محض استعراض نرجسي للذات؟‬ ‫فنسنت فان غوخ وفريدا كاهلو‪ ،‬أشهر من قدم البورتريه الذاتي بصور متعددة تتجاوز العشرات‪ ،‬ولم تقرأ أعمالهما تحديدًا بوصفهما‬

‫تجسيدًا لنرجسية ورغبة في التحكم‪ ،‬لماذا؟ هل ألن فان غوخ في كل تلك األعمال يستعرض حزنه ووحدته‪ ،‬في حين فريدا كاهلو‬

‫تستعرض إشكالية الجسد والمرض لديها‪ .‬أيعني هذا أننا نتسامح إن كان استعراض الذات يتم عبر استعراض للحزن واأللم‪ ،‬ولكن نرفض‬ ‫استعراض الفرح والتباهي الذي يغلب وجوده مع السيلفي؟ هل ُنعلي من قيمة التراجيديا في حياتنا مقابل بخس مشاعر الفرح والعبث‪.‬‬ ‫بالعودة إلى حديث الدكتور أبتر‪ ،‬يرى أن كليهما‪ ،‬البورتريه الذاتي والسيلفي‪ ،‬يقومان على االستعراض والمبالغة‪ ،‬لكن ما يفرقهما‬

‫بشكل أساس أن البورتريه يتطلب أن تكون مشهورًا لتفعل ذلك‪ ،‬أما السيلفي فحتى المجهولون يستطيعون عرض ذواتهم لآلخرين‪ .‬فهل‬

‫البورتريه فن نخبوي والسيلفي فن شعبوي؟ وهل عبر السيلفي تمت دمقرطة البورتريه الذاتي‪ ،‬أم حُ وِّل لمنتج استهالكي كما كل شيء‬ ‫من حولنا اآلن؟ قبل اإلجابة عن هذه التساؤالت علينا تذكر إجابة فريدا كاهلو حين سُ ئلت‪ :‬لماذا البورتريه الذاتي؟ فقالت‪« :‬أريد أن أظهر‬ ‫نفسي بشكل جيد»‪ .‬أال يشابه هذا قول الصديقة التي فضلت السيلفي على تصوير اآلخرين لها؟‬

‫لعل شعبوية السيلفي مقابل نخبوية البورتريه الذاتي هي ما جعلت بعض الباحثين يفرق بينهما‪ ،‬بكون البورتريه وإن كان يقدم‬

‫صورة للذات لكنه يطرحه ضمن محتوى يتضمن تساؤالت عميقة حول الهوية والذات والوجود‪ ،‬في حين السيلفي كل ما يريده الفرد من‬

‫خالله‪ ،‬أن يظهر لآلخرين بشكل جميل‪ .‬في السيلفي الصورة واضحة بأبعاد محددة ال تسمح بتعدد القراءات والتفسيرات‪ ،‬أما البورتريه‬ ‫فهو فن تأويلي يطرح نفسه كسؤال‪ ،‬على المشاهد أن يتداخل معه ليجد بعض اإلجابات التي تناسبه‪ .‬في السيلفي على المشاهد فقط‬ ‫أن يحدد إن كانت الصورة جميلة أم ال‪ ،‬من دون تأويل تتداخل فيه الذات مع العمل المشاهد‪ .‬وبهذا فإن البورتريه ُخلق ليبقى‪ ،‬ليكون‬

‫شاهدًا على مرحلة وعلى وجود لذات الفنان وتساؤالته‪ ،‬وتساؤالت عصره ً‬ ‫أيضا‪ ،‬في حين السيلفي فن عابر سريع الزوال‪ .‬لكن أليس في‬ ‫هذا انتقال من الزمن الديمومي إلى زمن اللحظة‪ .‬ومن ثم يصبح السؤال؛ هل يقلل هذا من احتمالية أن يكون السيلفي ف ًّنا؟ فإن كان‬ ‫اً‬ ‫أعمال تختزل العصر الذي يعيشه الفنان وتطرح تساؤالته وإشكالياته‪ ،‬فبهذا يكون السيلفي ف ًّنا يعبر‬ ‫أحد تعاريف الفن‪ ،‬هو تقديم الفنان‬ ‫عن واقعنا‪ ،‬الواقع الذي ُتمَجَّ د فيه اللحظة‪ٌّ .‬‬ ‫فكل مطالب بأن يعيش لحظته‪ ،‬لذا وُجد في السيلفي تثبيت لهذه اللحظة‪ ،‬اللحظة فقط‪.‬‬

‫وأخي ًرا‪ ،‬كل ما عرضناه وما غفلنا عن عرضه يظل احتماالت لتفسير تولعنا بالسيلفي‪ .‬لكن لعل من المالئم االستعانة ختامًا بالشعر‬

‫إلضاءة زاوية أخرى في معرض قراءة دالالت السيلفي‪ .‬تقول فيرونيكا فوريست تومسون‪:‬‏«الحب هو آلة التصوير األكثر قدمًا‪ ..‬خذ لي‬ ‫لقطة بعينيك»‪ .‬فهل السيلفي في جوهره فعل نقوم به ً‬ ‫بحثا عن الحب؟ فإن لم نكن محظوظين بمصادفة الحب في طريقنا‪ ،‬فيكفي أن‬

‫نحب نحن أنفسنا‪ ،‬ولنأخذ بأعيننا صورة لنا‪ُ ،‬نعلن بها هذا الحب‪ .‬فلنلتقط مزيدًا من السيلفي‪.‬‬

‫‪163‬‬


‫إعالم‬

‫الوقف في وسائل اإلعالم‪..‬‬ ‫تجارب من بريطانيا‬ ‫حبيب بن عبدالله الشمري‬

‫‪164‬‬

‫صحافي سعودي‬

‫تعد القناة التلفزيونية الرابعة وصحيفة الغارديان اليومية وأختها صحيفة األوبزرفر األسبوعية‬ ‫من الوسائل اإلعالمية العمومية والوقفية في بريطانيا‪ ،‬بمعنى أنها مستقلة تمامً ا في تمويل نفسها‬ ‫وإدارة تحريرها وتوظيف كوادرها‪ ،‬وعدم وجود مساهمين أو مالك أو سياسيين يؤثرون في إيراداتها‬ ‫ومحتواها وتوجهاتها‪ ،‬رغم أن التوجهات التي تسير وفقها هاتان المؤسستان قائمة على المحافظة‬ ‫على القيم الليبرالية‪ ،‬والتحديث‪ ،‬واالبتكار‪ ،‬ومواكبة التغير التقني في عالم رأسمالي جشع تسيطر‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أحيانا أخرى‪ ،‬وتقترب‬ ‫أحيانا‪ ،‬ويختفي الصوت اآلخر‬ ‫عليه النزعة الربحية التي تغيب معها الحقيقة‬ ‫من طبيعتهما التشغيلية قنوات البي بي سي إال أن دافعي الضرائب شركاء في سياسة الـ‪BBC‬‬ ‫ويرفضون تمويلها من اإلعالنات التجارية‪ .‬الحديث عن التنوع في ملكيات وإدارات وسائل اإلعالم‬ ‫في بريطانيا مهم وال سيما في إعالم اليوم الذي تدور رحى صراع الملكية فيه بين الحكومات العربية‬ ‫ورجال األعمال في تغييب تام للمُ شاهد العربي الذي ال يحدد ما يرغب في مشاهدته‪ ،‬بل ُي َّ‬ ‫حدد له‬ ‫ذلك رغمً ا عنه‪ ،‬سواء بتوجهات سياسية أو بضغوطات مُ علِنين‪.‬‬

‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬


‫مؤسسات اإلعالم البريطاني‬

‫تنقسم مؤسسات اإلعالم في بريطانيا إلى ثالثة أنواع رئيسية‪:‬‬

‫أولها تمثله صاحبة الحصة الجماهيرية األولى واألكبر هيئة اإلذاعة‬

‫البريطانية (‪ )BBC‬بوصفها مؤسسة إعالمية حكومية عامة‪ ،‬لكنها‬ ‫ال تتلقى أي دعم من الحكومة البريطانية‪ ،‬بل إن تمويلها وبشكل‬

‫مباشر من المواطنين البريطانيين عبر ضريبة سنوية مفروضة على‬ ‫كل مواطن يمتلك جها ًزا تلفزيونيًّا بما يقارب من ‪ 190‬دوالرًا‪ ،‬في‬

‫الحديث عن التنوع في ملكيات وإدارات‬ ‫وسائل اإلعالم مهم‪ ،‬وال سيما في إعالم‬ ‫اليوم الذي تدور رحى صراع الملكية فيه‬ ‫بين الحكومات العربية ورجال األعمال في‬ ‫تغييب تام للمشاهد العربي‬

‫حين يقتصر تدخل الحكومة على تحصيل الضرائب وتحويلها للبي‬

‫من برامجها مُنتجة بالتعاون مع شركات من خارج حدود العاصمة‬

‫وإخفاقاتها‪ .‬وبذلك تتحرر البي بي سي من أي تبعية مادية من‬

‫بعيدًا من عاصمة المال واالقتصاد‪.‬‬

‫بي سي‪ ،‬وكذلك مساءلتها في البرلمان عن خططها وسياساتها‬

‫الحكومة البريطانية؛ األمر الذي يعفيها من االنحياز للحكومة وأي‬

‫حزب سياسي‪ ،‬وتضمن االستقاللية وعدم تدخل الحكومة في‬

‫لندن؛ من أجل دعم مؤسسات اإلنتاج الصغيرة والمتوسطة التي تقع‬

‫وال يمكن أن يكون االلتزام بمثل هذه األهداف إال من طريق إدارة‬ ‫مستقلة وتمويل مستمر ومستقل ً‬ ‫أيضا ال يؤثر فيها وفي طريقتها‬

‫سياستها التحريرية‪ ،‬وكذلك تحمي نفسها من سطوة المعلنين؛ إذ‬

‫ورؤية القائمين عليها بتنفيذ هذه االلتزامات‪ ،‬ويأتي تمويلها من‬

‫تامة من الجشع الرأسمالي‪ ،‬وتحصل على حرية تامة مريحة في‬

‫العالم‪ .‬في حين تعد صحيفة الغارديان من أكثر الصحف الناطقة‬

‫إنها ال تبث إعالنات تجارية في قنواتها‪ ،‬ومن ثم تتمتع باستقاللية‬

‫تناول القضايا‪ ،‬وأهمها ما يمس حياة المواطن المستهلك‪ ،‬وهو‬

‫دافع الضرائب البريطاني؛ األمر الذي جعل منها مؤسسة تحظى بثقة‬ ‫واحترام المشاهدين ليس فقط في بريطانيا بل حول العالم‪.‬‬

‫والنوع الثاني تمثله القناة الرابعة ذات المركز الثالث في نسبة‬

‫اإلعالنات التجارية‪ ،‬والخدمات اإللكترونية‪ ،‬وبيع المحتوى حول‬

‫باإلنجليزية قراءة عبر اإلنترنت حول العالم‪ ،‬وراوَحَ مركزها خالل‬ ‫السنوات الماضية بين الثاني والخامس عالميًّا‪ ،‬وتتنافس معها‬ ‫باستمرار مواطنتها صحيفة الديلي ميل‪ ،‬ونيويورك تايمز األميركية‪،‬‬

‫اللتان تتبعان القطاع الخاص بشكل كامل‪ ،‬فهل أثر الوقف في‬ ‫صحيفة الغارديان؟ تأثرت الصحيفة مثل غيرها؛ بسبب األزمات‬

‫الجماهيرية التلفزيونية وصحيفة الغارديان وأختها األوبزرفر‪ ،‬إال أن‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫بسيطا بينهما‪ ،‬وهو أن القناة الرابعة ال تزال مملوكة‬ ‫اختالفا‬ ‫هناك‬

‫المالية‪ ،‬وتراجع نسب التوزيع‪ ،‬وهي مشاكل عصفت بجميع الصحف‬

‫خاصة مستقلة تمامًا عن الحكومة في تمويلها وإدارتها وتحريرها‪،‬‬

‫برأيي إلى أنها مؤسسة وقفية احتفظت بجميع أرباحها وأصولها‬

‫من مكتب االتصاالت البريطاني‪ ،‬لكنها هيئة عمومية تديرها شركة‬ ‫في حين تنفرد الغارديان بأنها وقف خالص يعيد استثمار األرباح‬

‫في صناعة صحافة حرة ومستقلة‪ ،‬ومواكبة التطور في المحتوى‬ ‫والتقنية‪ ،‬وتأهيل الشباب البريطانيين في مجال اإلعالم‪.‬‬

‫الهدف األساس من القناة الرابعة هو تقديم خدمة عامة‬

‫مفيدة للبريطانيين تقوم على التنوع وقيادة االبتكار في المحتوى‬ ‫والتقنية‪ ،‬وقد أُلزمت هذه القناة منذ تأسيسها بتنفيذ هذا االلتزام‬

‫حول العالم‪ ،‬إال أنها استطاعت النهوض مرة أخرى‪ ،‬ويرجع السبب‬ ‫واستثماراتها‪ ،‬ولم يقتسم أرباحها مساهمون أو مالك‪ ،‬وساعد‬

‫ذلك القائمين عليها باستقاللية القرارات التي ساهمت في تنويع‬

‫االستثمار‪ ،‬وتطوير المحتوى‪ ،‬وبناء بنية تحتية تقنية متطورة جدًّا‪.‬‬

‫في حين يقود النوع الثالث شبكة قنوات (‪ )itv‬ذات الحصة‬

‫الجماهيرية الثانية في بريطانيا‪ ،‬إضافة إلى بقية القنوات والصحف‬ ‫والشركات اإلعالمية البريطانية‪ ،‬وهو القطاع التجاري الخاص القائم‬

‫تجاه البريطانيين‪ ،‬وتخضع للمساءلة الحكومية فقط في حال‬

‫على مبدأ تحقيق األرباح للمساهمين بأي صورة وعبر أي توجه‪ ،‬حتى‬ ‫ً‬ ‫هابطا أو عنصريًّا قبيحً ا أو إباحيًّا‪ ،‬وهو ليس موضع‬ ‫لو كان محتوى‬

‫من مكتب االتصاالت البريطاني‪ ،‬وذلك من أجل تنظيم عرض البرامج‬

‫كل من النوع األول والثاني على سياسة الوسائل اإلعالمية أن تهتم‬

‫إخفاقها في تنفيذ خططها وتحقيق أهدافها‪ ،‬أو شكوى ضدها‪،‬‬ ‫وتتغير التزامات القناة بين الحين واآلخر بحسب القوانين التي تصدر‬

‫التفزيونية‪ ،‬وتحديد األهداف التي يجب تحقيقها‪ ،‬وتلتزم القناة‬ ‫الرابعة «بتقديم خدمة عامة تتمثل بتوفير طائفة واسعة من البرامج‬

‫المتنوعة عالية الجودة التي تضم بشكل أساس‪ :‬برامج تحث على‬ ‫االبتكار والتجربة واإلبداع؛ تتناسب مع أذواق واهتمامات مجتمع‬ ‫متنوع ثقافيًّا؛ ُ‬ ‫وتساهم بشكل رئيس في مقابلة الحاجة إلى قنوات‬ ‫إعالمية مُرخصة تعرض برامج ذات طبيعية تعليمية وأخرى تثقيفية؛‬ ‫وأن تتخذ طابعً ا ممي ًزا لها»‪ .‬وتلتزم القناة الرابعة ً‬ ‫أيضا بتأمين برامج‬

‫خاصة بالمدارس‪ ،‬إضافة إلى أن تكون نسبة معينة ليست قليلة‬

‫النقاش في هذا المقال‪ ،‬فاألمثلة كثيرة في الوطن العربي‪ .‬ويحتم‬ ‫بكل بريطاني يتحدر من أي أصول وأعراق وخلفيات أو حتى دين‬ ‫مختلف؛ ألنه في حالة البي بي سي فإن الجميع يدفع لها وشريك‬

‫في سياستها‪ ،‬وفي حالة القناة الرابعة وصحيفة الغارديان فإن نوعية‬

‫ملكيتهما وأهدافهما تحتم عليهما العمل وفق مصالح المشاهد‬

‫البريطاني‪ ،‬وسماع وبث كل اآلراء من جميع التوجهات والتيارات‪،‬‬ ‫إضافة إلى األقليات في المجتمع البريطاني‪ ،‬سواء التي تمثل العرق‬

‫واألصل والدين مثل المسلمين والسود والهنود أو التي تمثل فئات‬ ‫خاصة مثل المرأة والمعاقين‪.‬‬

‫‪165‬‬


‫إعالم‬

‫اإلعالم العربي‪ :‬أبيض وأسود‬

‫وفي الوطن العربي يبرز وبشكل رئيس اللونان األسود‬

‫واألبيض‪ ،‬فهناك مجموعة قنوات وإذاعات حكومية تعاني وبشكل‬ ‫َ‬ ‫الضعف وعدم القدرة على التطور واستقطاب الجمهور رغم‬ ‫حاد‬

‫وجود التمويل‪ ،‬وهناك قنوات وإذاعات تجارية خاصة لها جمهورها‬ ‫ومحتواها الجيد لكن بعضها يعاني الخلل وسوء اإلدارة وغياب‬ ‫الرؤية وضعف التمويل‪ ،‬وبعضها اآلخر ‪-‬وبخاصة الثرية منها‪-‬‬ ‫يعاني توجهات أصحابها أو بسبب النزعة الربحية الشرسة القائمة‬ ‫على جلب المعلن وإرضائه‪ .‬في حين هناك نوع ثالث ال يكاد ُي َميَّز‬

‫لضعفه‪ ،‬وهو الوسائل اإلعالمية التابعة لألحزاب السياسية‪ ،‬لكنها‬

‫في غالبيتها صحف مطبوعة أو مواقع إلكترونية ليس لها ذلك التأثير‬

‫الذي تملكه القنوات الفضائية أو الصحف األكثر شعبية؛ لذلك تبقى‬ ‫وسائل ضعيفة ال تحمل سوى صوت ولون واحد ممل وهو الحزب‪.‬‬ ‫ً‬ ‫أيضا يوجد قنوات أنشأها ويمولها بعض رجال األعمال أخذت على‬ ‫عاتقها الهدف األسمى‪ ،‬وهو تقديم عمل إعالمي محترم يتوافق مع‬

‫قيم ومبادئ المجتمعات العربية اإلسالمية‪ ،‬لكنها تعاني بصورة‬

‫شديدة إما بسبب غياب اإلدارة اإلعالمية المحترفة‪ ،‬أو بسبب نقص‬

‫‪166‬‬

‫سببا في معالجة‬ ‫الوقف اإلعالمي سيكون‬ ‫ً‬ ‫المشكالت االقتصادية واالجتماعية‪،‬‬ ‫وصيانة األمن الفكري والثقافي في‬ ‫المجتمع‪ ،‬بل تكريس مفهوم الوطنية‬ ‫الذي يتجسد في تمثيل جميع أطياف‬ ‫المجتمع في أي بلد عربي‬ ‫ولكن كان تمويلها يف البداية يأيت من الشركاء ورجال األعمال‪ ،‬وتربز‬

‫املجموعة بوصفها نموذجً ا لحالة اإلعالم الوقفي بمعناها الصحيح‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ودوره يف املجتمع‪ ،‬لكنها هي ً‬ ‫ضعفا شديدًا يف املحتوى‪،‬‬ ‫أيضا تعاين‬

‫وغيابًا لإلدارة الفعلية‪ ،‬والتخطيط الصحيح‪ ،‬وبغض النظر عن‬

‫املحتوى الذي تقدمه والجمهور الذي تستهدفه تبقى قنوات املجد‬ ‫ً‬ ‫رائدة يف صناعة إعالم وقفي مستقل‪ ،‬ويمول ذاته بذاته‪ ،‬وال‬

‫يخضع لرغبات املعلنني‪ ،‬لكنه ال ينفك عن تأثري مؤسيس الوقف‪،‬‬

‫وهو ما سيجعل من هذا النموذج بعيدًا كل البعد من هدف الوقف‬ ‫املستقل ومفهومه‪ ،‬وربما مع الخطط املستقبلية للمجموعة يف‬

‫صناعة املحتوى الشائق ويف توسيع أعمالها لتشمل اإلنتاج ستكون‬

‫وعدم ثبات واستمرار التمويل‪ ،‬ومثل هذه القنوات غالبًا ما تتبع‬ ‫مال ًكا متحمسين يقومون بإنشائها‪ ،‬ثم سريعً ا ما يتالشى الحماس‬

‫أكرث جاذبية وأكرث نجاحً ا مما هي عليه اآلن مع استقاللية تامة من‬

‫ولعل أفضل نموذج إعالمي واضح قائم عىل الوقف يف الوطن‬

‫يف جميع الحاالت تعاين‪ ،‬مثل هذه املؤسسات‪ ،‬عدم وجود إدارة‬

‫ويتركونها بال تمويل وال وقف يساعدها على النهوض في كل مرة‪.‬‬

‫العربي يمكن الحديث عنه يف هذا السياق‪ ،‬هو مجموعة قنوات املجد‬ ‫التي بدأت تعمل ُ‬ ‫وتموَّل منذ عام ‪2012‬م من خالل وقف مخصص‬

‫لها قادر ً‬ ‫نوعا ما عىل تغطية نسبة كبرية من تكاليفها بعجز بسيط‬

‫ّ‬ ‫يغطيه املؤسسون وفاعلو الخري‪ ،‬واملجموعة قد تأسست عام ‪2002‬م‬

‫مؤسيس الوقف‪ .‬هناك نماذج أخرى صغرية ال تذكر‪ ،‬لكن يبدو أنه‬ ‫إعالمية جيدة‪ ،‬ناهيك عن الرؤية‪ ،‬وتقوم غالبًا عىل اجتهادات‬

‫شخصية يعرتيها الضعف‪ ،‬وكذلك هناك ضعف يف املوارد البشرية‪،‬‬ ‫واستقطاب العاملني فيها وتأهيلهم‪ ،‬فاإلعالم قضية شائكة وخطرية‬

‫عىل من ال يحسن اإلدارة‪.‬‬

‫الحل لحاالت التراجع واالنكماش‬

‫بعد عرض نماذج امللكية يف وسائل اإلعالم يف بريطانيا وغريها من املتوافر يف الوطن العربي‪ ،‬أستطيع أن أصل لنتيجة تدل عىل‬

‫أن الوقف يف مجال اإلعالم أو املؤسسات العمومية هو الحل األمثل لحاالت الرتاجع واالنكماش واملشكالت االقتصادية‪ ،‬وهو الحل‬ ‫األمثل ملعالجة غياب التنوع الثقايف والفكري‪ ،‬وهو بمنزلة ضمان استدامة دخل ثابت ومستمر لوسائل اإلعالم للمحافظة عليها‬

‫وعىل القيم املجتمعية التي يقتلها املعلنون‪ ،‬الوقف اإلعالمي سيكون سببًا يف معالجة بعض املشكالت االقتصادية واالجتماعية من‬ ‫خالل استقاللية الطرح واملناقشة وتقديم اآلراء والحلول‪ ،‬وكذلك صيانة األمن الفكري والثقايف يف املجتمع‪ ،‬بل تكريس مفهوم‬

‫الوطنية الذي يتجسد يف تمثيل جميع أطياف املجتمع يف أي بلد عربي‪.‬‬

‫مؤسسات ووزارات األوقاف أو (الحبوس) يف الوطن العربي تعد من أغنى املؤسسات والوزارات ماليًّا وعقاريًّا‪ ،‬لكن يغيب تمامً ا‬

‫عن أدبياتها ومفاهيمها قضية الوقف اإلعالمي والتحبيس للعلم واملعرفة والتوعية؛ ألسباب كثرية نعرف بعضها‪ ،‬ونجهل بعضها‬

‫اآلخر‪ ،‬ولعل أهم سبب ظاهر هو التصاق الوقف بمفهوم الحسيات مثل‪ :‬املال‪ ،‬والطعام‪ ،‬والبناء مثل املساجد والعمارات‪ ،‬حتى‬ ‫عندما يتصدق رجال األعمال بأموالهم فإنهم غالبًا ما يبحثون عن مثل هذه الحسيات ً‬ ‫أيضا مثل‪ :‬الطعام والكسوة‪ ،‬رغبة منهم‬

‫يف رؤية أثر عاجل وملموس‪ .‬ويبقى السؤال يف هذا املقال‪ :‬ما أفضل طريقة وأنسبها إلدارة املؤسسات اإلعالمية وتشغيلها بمعنى‬

‫ملكيتها؟ حتى يستمر تمويلها وتتمتع باستقاللية فكرية وتحريرية‪ ،‬وتبقى قوية قادرة عىل أداء رسالتها وتطوير مجتمعها وصيانة‬ ‫ثقافته!! نظام الضرائب أم الشركة العمومية أم الوقف؟ أم امللكية التجارية التي تخضع كليًّا لنظريات السوق املتوحش واملتقلب!!‬

‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬


167


‫مقال‬

‫سعيد يقطين‬ ‫ناقد مغربي‬

‫ثقافة المصلحة‬ ‫وضرورات المصالحة‬ ‫لم يعرف العرب في تاريخهم الحديث وضعً ا‬

‫ً‬ ‫اتساعا بشكل‬ ‫كالذي يعيشونه اليوم‪ .‬فالخرق ازداد‬

‫تحقيق الرفاه لشعوبها واستقرار نظمها‪ ،‬واستمرار قوتها‪.‬‬

‫يدعو إلى التساؤل عن كيفية الخروج من المأزق الذي‬

‫تكرس هذا التصور مع االستعمار الذي صاحب تشكل أوربا‬

‫الحيرة وانسداد األفق والترقب الحذر عناوين المرحلة‬

‫الحضارة الغربية وقيمها‪ .‬فكان نهب الخيرات واستغالل‬

‫مما جعلها تلقي بظاللها على مختلف التحليالت‬ ‫والتوقعات‪ .‬تتعدد التصورات حول ما يجري‪ ،‬وكلٌّ‬ ‫َلغو َ‬ ‫ي ُ‬ ‫بل ْغ ِوه في واقع يقوم على التأزم والتشنج‪ .‬ويبدو‬

‫أي فرصة للسؤال عن مصلحتها الخاصة التي ظلت مرتبطة‬

‫دخل فيه العرب نتيجة تكالب المصالح وتضاربها‪ .‬إن‬

‫الحالية التي تجتازها األمة العربية واإلسالمية‪،‬‬

‫‪168‬‬

‫دول وشعوب خارجة عنها‪ .‬إن هذا الخارج هو الذي يتيح لها‬

‫أن الخوض في التفاصيل والجزئيات ال يسهم إال في‬ ‫انعدام أي مقاربة ترمي إلى النظر في عمق األشياء‬ ‫وجذورها القائمة على تضارب المصالح وتجاذب‬

‫المطامح في المنطقة العربية‪.‬‬

‫تحرك الدول مصالح معينة وملموسة تحدد‬

‫توجهاتها وإستراتيجياتها المختلفة‪ .‬فهل يمكننا‬

‫الحديث عن مصلحة خاصة تعين مواقف الدول‬

‫العربية وتصوراتها لمستقبل أوطانها وشعوبها؟ وأين‬

‫هي المصلحة العربية في عالقتها بالمصلحة األجنبية‬

‫التي تدخلت في شؤون الدول المستعمرة بذريعة نشر‬

‫الثروات الخارجية لفائدتها‪ ،‬ولم تترك للشعوب المستعمرة‬ ‫بمصالح المحتلين‪ .‬وبعد االستقالالت السياسية‪ ،‬ظلت‬

‫ً‬ ‫تحقيقا لألغراض‬ ‫التبعية تحكم العالقة التقليدية بينهما‬ ‫عينها‪.‬‬

‫ضياع مصلحة المواطن‬

‫يمكننا أن نتحدث‪ ،‬مع الدول المتقدمة والديمقراطية‪،‬‬

‫عن ثقافة المصلحة التي تبرز في كون الحكومات‬

‫المتعاقبة في تاريخها الحديث والمعاصر يحكمها في‬

‫عالقتها بمواطنيها وأوطانها ميثاق محدد يتمثل في ضمان‬

‫االستقرار واألمن والرفاهية‪ .‬تولدت هذه الثقافة ذات الجذور‬ ‫الفكرية واالجتماعية والسياسية واالقتصادية عبر تاريخ‬

‫التي تتدخل في الشؤون العربية‪ ،‬وتسعى من وراء ذلك‬

‫من الصراعات بين مختلف المكونات‪ .‬وانتهى هذا التاريخ‬

‫طرحه لتشخيص تأزم الواقع العربي حاليًّا بالصورة‬

‫المصلحة العامة‪ ،‬وضمان استمرارها‪ .‬فكانت االستفتاءات‪،‬‬ ‫واالنتخابات في مختلف االستحقاقات دليلاً بار ًزا على كون‬

‫إلى رسم خارطة لما ينبغي أن يكون عليه الوضع العربي‬ ‫اً‬ ‫اً‬ ‫واستقبال؟ أرى أن هذا هو السؤال الذي يمكننا‬ ‫حال‬

‫باالحتكام إلى الشعب في مختلف المنعطفات الكبرى لتقرير‬

‫التي لم يُشهَد لها مثيل في كل تاريخه الحديث‪ .‬كما‬

‫الشعب يسهم بإعطاء صوته لمن يسهر على تأكيد تلك‬

‫المصلحة العربية ما تستدعيه من اهتمام وممارسة‬

‫هذه الثقافة وتقاليدها في الحياة العامة‪ ،‬تضيع مصلحة‬

‫أن الجواب عنه هو الذي يمكن أن يسهم في إعطاء‬ ‫لتجنب الكوارث الواقعة والممكنة والمحتملة‪.‬‬

‫إن الدول الغربية‪ ،‬وعلى رأسها أميركا تربط‬

‫مصلحتها الحيوية لفائدة دولها وشعوبها بالعمل على‬

‫تثبيتها وضمانها ولو خارج حدودها‪ ،‬بل على حساب‬

‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬

‫المصلحة ويضمن استمرارها‪ .‬في الوطن العربي‪ ،‬لغياب‬

‫الوطن والمواطنين بين التحكم السياسي من جهة‪ ،‬والتدخل‬

‫الخارجي الذي ال يمكن تحقيق مصلحته الخاصة إال على‬ ‫حساب التفريط فيما يمس مصالح الدول المتدخل فيها‬

‫من جهة أخرى‪ .‬يتم هذا التدخل الخارجي‪ ،‬أوربيًّا كان أو‬


‫أميركيًّا عبر التهديد بالعقوبات حي ًنا‪ ،‬والتدخل العسكري‬ ‫حي ًنا آخر‪ .‬وينتج عن هذا عجز الدول المتدخل في شؤونها‬ ‫عن االحتكام إلى شعوبها لضمان مصالحها‪ ،‬والتخطيط‬

‫لما ينبغي أن يكون عليه واقع هذه الدول الستمرار تحقق‬ ‫المصالح الخارجية‪.‬‬

‫منذ االستقالالت العربية ظلت مصالح الوطن العربي‬

‫مرهونة بمصالح اآلخرين‪ ،‬فلم تتحقق المصالح الخاصة به‬

‫أبدً ا‪ .‬وفي مختلف المحطات التاريخية الكبرى كان التفريط‬

‫متى يمكن أن يعرف العرب مصلحتهم‬ ‫تماس مع مصالح اآلخرين‪،‬‬ ‫الخاصة في‬ ‫ّ‬

‫وبشكل متوازن ومتكافئ؟ كيف يمكن‬ ‫لثقافة المصلحة العربية أن تكون جزءًا‬ ‫من تفكير الدول والشعوب العربية؟‬

‫العصر‪ ،‬وأن ال وجود للمؤامرة إال في أذهان العاجزين عن‬

‫في المصالح الداخلية لحساب الخارجية‪ .‬ويكفي أن نضرب‬ ‫اً‬ ‫مثال من القضية الفلسطينية ليتبين لنا لذلك‪ .‬فمنذ االحتالل‬

‫فهم األمور كما ينبغي أن ترى بالعين المجردة‪ .‬وما الرجوع‬

‫العرب ضدها‪ ،‬لم ينتج عن تداعيات صراع المصالح في‬

‫كونها وليدة الستينيات‪ ،‬سوى دعم لنفي المؤامرة‪ ،‬بالقول‬

‫البريطاني حتى زرع إسرائيل والحروب المختلفة التي خاضها‬

‫إلى «مقولة ما بعد االستعمار» في أواخر التسعينيات‪ ،‬رغم‬ ‫بأن االستعمار انتهى‪ ،‬وأن العالقات بين الدول في العالم‬

‫المنطقة سوى تأكيد المصلحة اإلسرائيلية وأميركا التي ترى‬ ‫ً‬ ‫ضمانا للمصلحة األميركية والغربية‬ ‫في استمرار وجودها‬

‫أجمع متكافئة‪ ،‬ومبنية على أساس القانون الدولي الذي‬

‫من خالل التدخل في العراق باسم امتالكه أسلحة الدمار‬

‫العالقات بينها‪ ،‬وليست هناك تبعية‪ ،‬أو تفريط في مصالح‬

‫في المنطقة على حساب الشعب الفلسطيني‪ .‬كما يمكننا‬

‫الشامل‪ ،‬وبروز اإلرهاب‪ ،‬والحرب عليه في العراق وسوريا‬

‫ومختلف الدول التي يوجد فيها‪ ،‬وفي إمالء السياسات‬

‫االقتصادية على الدول العربية المختلفة؛ تقديم أمثلة‬

‫دالة على استهداف المصالح العربية بمختلف المبررات‬

‫والمسوغات‪ ،‬وتأكيد أن تحقيق المصلحة الغربية واألميركية‬

‫في منطقة الشرق األوسط ال يمكنها أن تتحقق إال في غياب‬ ‫أي تفكير في المصلحة العربية‪.‬‬

‫وفي ظل هذا الواقع ال يمكن سوى التخطيط إلدامة‬

‫تغييب المصلحة العربية عن طريق إضعاف الدول العربية‬ ‫باستنزاف خيرات أراضيها ومواطنيها‪ ،‬من جهة‪ ،‬وتعريض‬

‫هذه األرض لتكون بؤرة مشتعلة بالصراعات المفتعلة‪،‬‬

‫بموجب االتفاقات والتعاقدات بين الدول تتحدد مختلف‬

‫دول أو شعوب على حساب أخريات‪ .‬لكن الواقع الحقيقي‬ ‫يبيِّن أن هناك صراع مصالح‪ ،‬وهو غير متوازن‪ ،‬وال يقضي‬ ‫سوى بالتفريط في مصالح دول وشعوب لحساب شعوب‬

‫ودول أخرى‪ .‬وبذلك فالمؤامرة مستمرة‪ ،‬واالستعمار اتخذ‬ ‫وجهًا جديدً ا‪.‬‬

‫حين نتأمل ما يجري في الوطن العربي حاليًّا من‬

‫صراعات وحروب‪ ،‬وما يعرفه من انقسامات وشقاقات‪،‬‬

‫وما يعانيه من تدخل بعضه في شؤون بعض بتالؤم مع‬

‫ما يدبره اآلخر‪ ،‬ومباركته‪ ،‬واتهامات متبادلة بين مختلف‬

‫مكوناته‪ ،‬وانسداد أي آفاق لتحقيق مصالح الشعوب‬

‫العربية في الحرية والعيش الكريم‪ ،‬ال يمكننا سوى معاينة‬

‫بشكل دائم ومتواصل‪ ،‬من جهة ثانية‪ ،‬وأخي ًرا العمل على‬

‫أن المؤامرة واالستعمار الجديد يرميان إلى ضمان مصالح‬

‫العمل على تقسيم البالد‪ ،‬وخلق كيانات ضعيفة‪ ،‬وقابلة‬

‫نرى كيف تتحرك إيران وتركيا‪ ،‬من جهة‪ ،‬وأميركا وروسيا‬

‫تفريق وجهات النظر‪ ،‬والتخطيط لوضع خرائط ترمي إلى‬

‫خاصة تتصل باآلخر على مصالح العرب العامة‪ .‬وحين‬

‫للحماية‪ ،‬عن طريق التمهيد لزرع بذور الشقاق والخالف ليس‬

‫والغرب‪ ،‬من جهة ثانية‪ ،‬في الوطن العربي‪ ،‬وكيف تسير‬

‫منها‪ ،‬لتثمر‪ ،‬مع الزمن دويالت ال مصلحة لها غير ما يمكن‬

‫هذا الطرف أو ذاك‪ ،‬من جهة ثالثة‪ ،‬يسلمنا هذا إلى النظر‬

‫فقط بين الدول العربية‪ ،‬لكن بين الشعوب التي تتشكل‬ ‫أن تخدم به مصلحة اآلخرين‪.‬‬ ‫ذهنية المؤامرة‬

‫يبدو لنا ذلك بشكل واضح في بروز مقولة «المؤامرة»‪،‬‬

‫من جهة‪ ،‬ومقولة «ما بعد االستعمار» من جهة ثانية‪ .‬لقد‬ ‫صارت مقولة «ذهنية المؤامرة» في مختلف التحليالت‬

‫السياسوية ترمي إلى اتهام من يقول بها بأنه متخلف عن‬

‫الدول العربية متخبطة وسط تضارب المصالح‪ ،‬منحازة إلى‬ ‫إلى أسباب ضياع المصلحة العربية‪ ،‬سواء اتصلت بالدول‬

‫أو الشعوب‪ .‬متى يمكن أن يعرف العرب مصلحتهم الخاصة‬ ‫تماس مع مصالح اآلخرين‪ ،‬وبشكل متوازن ومتكافئ؟‬ ‫في‬ ‫ّ‬

‫كيف يمكن لثقافة المصلحة العربية أن تكون جزءً ا من تفكير‬

‫الدول والشعوب العربية؟ أرى أن السؤالين يختزالن الواقع‬ ‫السياسي ‪ -‬الثقافي العربي‪ .‬وال يمكن الجواب عنهما إال‬ ‫بالتفكير في ضرورات المصالحة العربية‪.‬‬

‫‪169‬‬


‫سينما‬

‫جديد كريستوفر نوالن‬ ‫‪170‬‬

‫«دنكرك»‪..‬‬

‫أسبوع ويوم وساعة‬ ‫لنجاة ‪ 300‬ألف جندي‬ ‫فلم ينجح في دفع المتفرج إلى «التوحد األولي»‬

‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬


‫«دنكرك»‪ ..‬فلم ينجح في دفع المتفرج إلى «التوحد األولي»‬

‫زياد عبدالله‬

‫روائي وسينمائي سوري‬

‫ال حاجة لكريستوفر نوالن في جديده «دنكرك»‪ ،‬الذي بدأ عرضه في الصاالت األميركية من‬ ‫شهر تقريبًا‪ ،‬إلى أجهزة معقدة تجعل الحلم مواز ًيا للواقع ومسرحً ا للصراعات كما في «استهالل»‬ ‫‪2010 Inception‬م‪ ،‬وال إلى خيال علمي وثقب أسود ليتسرب منه أحد خارج الزمان والمكان كما‬ ‫فعل في «بين النجوم» ‪2014 Interstellar‬م‪ ،‬فما حدث في «دنكرك ‪ »Dunkirk‬حدث بحق إبان‬ ‫ً‬ ‫وتحديدا في شهر مايو ‪1940‬م حين أُجل َِي ما يزيد عن ‪ 300‬ألف جندي معظمهم‬ ‫الحرب العالمية الثانية‬ ‫من البريطانيين‪ ،‬كانوا محاصرين من جانب القوات األلمانية في ميناء «دنكرك» الذي تفصله أميال‬ ‫ّ‬ ‫ينقض نوالن على هذه القصة الملحمية ويلتقط منها كابوسيتها‪،‬‬ ‫قليلة عن الشواطئ البريطانية‪.‬‬ ‫فنشاهدها كما لو أننا حيال منام مهلك‪ ،‬سواء حمل صفة تاريخية أم لم يحمل!‬ ‫وتبدو المعجزة التي وقعت بحق أكثر إعجا ًزا في السينما‬

‫جراء ضغط الزمن واختزال أسبوع اآلمال واآلالم الذي استغرقته‬ ‫عملية اإلجالء إلى ما ال يزيد على مئة دقيقة‪ ،‬وليبتعد فعل‬ ‫ً‬ ‫«وسيطا‬ ‫مشاهدة «دنكرك» من «التلصص» بوصف السينما‬

‫للتلصص بطبيعتها» ليكون أقرب إلى المنام وعلى شيء من‬

‫استدعاء كل ما يحقق أعلى درجات «التماهي»‪ ،‬وهكذا فإنه‬ ‫لن يكون هناك من محيد عن مقاربته باالستعانة بنظرية الفلم‬ ‫وهي تعاين الصلة الوثيقة بين األفالم واألحالم التي «تتسم‬

‫بتالحم الحس والعاطفة‪ ،‬أي الطريقة التي ينساب فيها‬ ‫المضمون العاطفي من خالل تجسيدات بصرية‪ .‬وهي ً‬ ‫أيضا‬ ‫‪-‬مثل األحالم‪ -‬تتسم باالنقطاعات المكانية والتثبيت الزماني‪:‬‬

‫إن المتفرج السينمائي –مثل الشخص الحالم– مثبت في تتابع‬ ‫من الصور وهي تتكشف في الزمن‪ .‬واألفالم –مثل األحالم–‬

‫تعتمد على االنتباه والحضور في التجربة‪ ،‬إنك ال تحلم حلمً ا ال‬

‫تعبر قصة «دنكرك» عن نفسها‬ ‫ّ‬ ‫بطرائق مختلفة؛ بعضها أناني‪،‬‬ ‫وبعضها شجاع‪ ،‬ومنها ما هو جبان‪،‬‬ ‫لكنها إنسانية في النهاية‬ ‫تكون موجودًا فيه‪ ،‬أو غير منتبه له‪ .‬وكذلك األفالم تميل إلى أن‬

‫تتحكم بانتباهك»‪( .‬بيزلي لفينغستون وكارل بالتينيا‪ ،‬ترجمة‪:‬‬

‫أحمد يوسف‪ .‬دليل روتليدج للسينما والفلسفة‪ .‬القاهرة‪ :‬المركز‬ ‫ّ‬ ‫يشكل آلية‬ ‫القومي للترجمة‪2013 ،‬م) يصلح هذا االقتباس ألن‬ ‫التلقي التي سيعايشها المشاهد مع «دنكرك» أو ما عايشته‬

‫أنا على األقل‪ ،‬وللتدليل على ذلك فإن الفلم يبدأ مع جندي‬

‫بعينه ربما اسمه طوني‪ ،‬ولست متأكدً ا ما إذا كان الممثل فيون‬ ‫وايتهيد من يجسد شخصيته‪ ،‬فقد كان رفقة حفنة من الجنود‬

‫نوالن يوجه الممثلين أثناء التصوير‬

‫‪171‬‬


‫سينما‬

‫يتجولون في «دنكرك» وهم يبحثون عما يأكلونه أو يدخنونه‪،‬‬

‫يشرف على عملية اإلجالء ويبقى في نهاية الفلم ليتولى عملية‬

‫ينجو‪ ،‬وبعد أن يجتاز استحكامات الجنود الفرنسيين ينفتح‬

‫ينقسم «دنكرك» إلى ثالثة خطوط درامية‪ ،‬منفصلة ومن‬

‫ثم فجأة يلعلع الرصاص‪ ،‬ويُقتل كل من كانوا معه‪ ،‬إال أنه‬ ‫أمامه البحر‪ ،‬حيث ستكون هناك أرتال مترامية لجنود على‬

‫شاطئ رملي ال وجود لشجرة أو شيء يستظلون به أو يقفون‬

‫ثم متصلة‪ ،‬لكل منها زمنه االفتراضي وهي‪« :‬المرسى» وهنا‬ ‫سنكون حيال المعضلة الكبرى التي يتأسس عليها الفلم‪ ،‬أي‪:‬‬

‫تحته ليوهمهم بأن هناك ما يفصل بينهم وبين الحمم التي‬

‫الجنود اإلنجليز العالقون على شاطئ البحر بانتظار السفن‬

‫إال الموت‪ .‬البحر من أمامهم والعدو من خلفهم‪ ،‬ال بل العدو‬

‫لهذا الخط هو أسبوع‪ ،‬في حين يكون الخط الثاني في البحر أو‬

‫عار وما من كساء‬ ‫تمطرهم بها الطائرات األلمانية‪ ،‬كل شيء ٍ‬ ‫في السماء والغمام وليس أمامهم إال الهرب‪ ،‬الذي سيكون‬

‫متعذرًا‪ ،‬يحتاج معجزات وليس معجزة واحدة‪.‬‬ ‫الفلم ‪ -‬الكابوس‬

‫والبوارج التي عليها أن تعود بهم إلى الوطن‪ ،‬والزمن االفتراضي‬

‫ما يطلق عليه في الفلم «المرساة» الذي يتأسس بتلبية السيد‬ ‫داوسون (مارك ريالنس) وابنه وفتى يص ّر على مرافقتهم نداء‬

‫الحكومة البريطانية لمواطنيها بالمساعدة في إجالء الجنود‬

‫فيما تقدّ م مفتتح الفلم ‪ -‬الكابوس‪ ،‬وكل عنصر من عناصر‬

‫البريطانيين بقواربهم غير الحربية سواء كانت قوارب صيد أو‬ ‫ً‬ ‫يخوتا أو أي نوع من القوارب‪ ،‬والزمن االفتراضي لهذا الخط‬

‫غفيرة من البشر‪ ،‬والشخصيات بالكاد نعرف أسماءها كأن نميز‬ ‫توماس هاردي بصعوبة وهو يرتدي ثياب طيار مُ ق ِّنعً ا وجهه‪ ،‬في‬

‫سرب طائرات «سبيتفيلد» الذي سعى لحماية الجنود ومجابهة‬ ‫الطائرات األلمانية وهي ُتغرق البوارج وتفني المشاة على‬

‫ً‬ ‫جموعا‬ ‫ما نراه مهم ومؤثر‪ ،‬وهي عناصر كثيرة ومتداخلة تخص‬

‫حين ينطق كينيث براناه بضع عبارات وهو قائد البحرية الذي‬

‫‪172‬‬

‫إجالء الفرنسيين كما يقول‪.‬‬

‫ال حاجة لكريستوفر نوالن في «دنكرك»‬ ‫موازيا‬ ‫إلى أجهزة معقدة تجعل الحلم‬ ‫ً‬ ‫ومسرحا للصراعات كما في‬ ‫للواقع‬ ‫ً‬ ‫«استهالل»‪ ،‬وال إلى خيال علمي وثقب‬ ‫أسود ليتسرب منه أحد خارج الزمان‬ ‫والمكان كما فعل في «بين النجوم»‬

‫هو يوم واحد‪ ،‬في حين يكون الخط الثالث في األجواء عبر‬

‫الشاطئ‪ ،‬وزمن هذا الخط هو ساعة واحدة‪.‬‬

‫ذلك هو الهيكل العام لبنية الفلم‪ ،‬الذي تهيمن عليه‬

‫فكرة «النجاة» بوصفها كلمة مفتاحية لكل ما سنشاهده في‬ ‫الفلم‪ ،‬ولعل خلفيته التاريخية تقول ذلك ً‬ ‫أيضا‪ ،‬والسؤال الذي‬

‫يجيب عنه الفلم كامن بالكيفية التي سينجو بها هؤالء الجنود‬ ‫والسفن الحربية ال تستطيع الرس ّو قريبًا من الشاطئ‪ ،‬ومعادل‬ ‫ذلك سينمائيًّا سيكون في تعقب مصير طوني وجندي آخر يقع‬

‫عليه يقوم بدفن جندي آخر‪ ،‬كذلك األمر بالنسبة للطيارين‬ ‫وهم يحاولون توفير نجاة من هم على األرض في اشتباكهم‬

‫ليوناردو دي كابريو في «استهالل»‬

‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬


‫«دنكرك»‪ ..‬فلم ينجح في دفع المتفرج إلى «التوحد األولي»‬

‫مع الطائرات األلمانية‪ ،‬إال أنهم يسعون لتحقيق نجاتهم ً‬ ‫أيضا‪،‬‬ ‫اً‬ ‫وصول إلى السيد داوسون الذي يضع نصب عينيه المساهمة‬ ‫في نجاة أكبر عدد ممكن من الجنود‪.‬‬ ‫التشويق آلية الفلم السردية‬

‫ستلتقي في النجاة الخطوط الدرامية في الفلم لكن‬

‫بعد أن نكون شهودًا على فناء أعداد كبيرة من الجنود وفي‬ ‫تنويعات تحرص على حفز الترقب لدى المشاهد‪ ،‬وهنا‬

‫يحضر «التشويق» الكلمة المفتاحية الموازية لـ«النجاة»‪،‬‬ ‫فإن كان موضوع الفلم هو «النجاة» فإن «التشويق» بنيته‬

‫وآليته السردية‪ ،‬ولتحقيق هذه النجاة فإن أنبل وأحط ما‬

‫في اإلنسان قد يتجاوران من دون التطرق إلى مفاهيم مثل‬

‫الشجاعة والبطولة إال إذا اعتبرنا «المصادفة» تنطبق عليها هذه‬ ‫الصفات‪ ،‬وإن كان ال بد من بطولة فإنها «بطولة مجتمعية»‬ ‫كما يورد نوالن نفسه في لقائه مع الناقد اإلنجليزي نك جيمس‬

‫في مجلة «سايت آند ساوند»‪ ،‬يقول نوالن‪« :‬تعبّر قصة دنكرك‬

‫عن نفسها بطرائق مختلفة بعضها أناني‪ ،‬وبعضها شجاع‪،‬‬ ‫ومنها ما هو جبان‪ ،‬لكنها إنسانية في النهاية‪ .‬إن ما حدث مع‬

‫هذه المجاميع من البشر ماثل برغبتهم اليائسة في النجاة في‬ ‫تلك األيام التي جرى فيها االنسحاب‪ ،‬وما حصل هو نوع من‬

‫البطولة المجتمعية‪ .‬كان هناك كثير من األبطال في دنكرك‪ ،‬إال‬

‫أن البطولة الجماعية جعلتها تحمل هذا الصدى الذي سيبقى‬

‫مترددًا لطبيعتها المجتمعية‪ ،‬وفرادتها تأتي من طبيعة البشر‬ ‫الذين أنجزوها‪ ،‬وال يمكن لفرد بحال من األحوال إنجاز ذلك»‬ ‫(‪.)Sight & Sound. August 2017, volume 37, Issue 8.‬‬

‫ماثيو ماكونهي في «بين النجوم»‬

‫إن هذا االقتباس طبعً ا يشير إلى أهم ما حصل في‬

‫«دنكرك» أال وهو قيام البشر العاديين في النهاية بإنقاذ الجنود‬ ‫وهم يتوجهون بقواربهم لنجدتهم‪ ،‬إال أنه يضيء على شيء‬

‫رئيس للمشاهد أن يلحظه في الفلم أال وهو غياب البطولة عن‬ ‫الفلم بمعنى الشخصيات الرئيسة‪ ،‬وفي الوقت نفسه خلو‬ ‫الشخصيات من العمق أو الخلفية‪ ،‬فهي تتحرك فقط في‬

‫ماض أو دوافع‬ ‫سياق الحدث الرئيس أي في الحاضر من دون‬ ‫ٍ‬ ‫عدا دافع النجاة‪ ،‬ال بل إنها تتلفظ ببعض العبارات هنا أو‬

‫هناك‪ ،‬وهذا انعكاس لما قاله نوالن عن «البطولة المجتمعية»‬ ‫ومسعى مجاميع كبيرة من البشر إلى النجاة‪.‬‬

‫فلم يكاد يكون صام ًتا‬ ‫يولد «دنكرك» شعورًا استثنائيًّا بالتماهي مع ما نشاهده بما يدفع للقول بأننا «نتوحد» معه‪ ،‬وهو ناجح ًّ‬ ‫جدا بدفع‬

‫المتفرج إلى ما يعرف في أدبيات مقاربة التحليل النفسي للسينما بـ«التوحد األولي» المرتبط لديه باإلحساس الوهمي‬ ‫لدى المشاهد بأن يتوحد مع مكان الكاميرا وهو بذلك «يمتلك المجال البصري للفلم»‪ ،‬وليكون «التوحد الثانوي» الذي‬

‫يحدث مع الشخصية شبه معدوم إن صح الوصف‪ ،‬فنحن بوصفنا مشاهدين غير معنيين بها‪ ،‬ولم نمنح األدوات التي‬ ‫تؤسس لعالقة معها‪ ،‬ربما ما يهمنا هو مصيرها‪ :‬هل ستتمكن من الهرب؟ هل ستنجو؟ و« ِتـمبو» الفلم ونقالته المونتاجية‬ ‫والمواقف الصعبة والمدهشة التي تعيشها كفيلة بذلك‪.‬‬

‫ولعل الخوض في أمور تقنية مثل كاميرا ‪ 65‬ميلمتر آي ماكس التي استخدمها نوالن في تصوير الفلم (مدير تصوير‬

‫الفلم هويتي فان هويتيما مص ِّور معظم أفالم نوالن) وطباعته في صيغة الـ ‪ 70‬ميلمتر – كما يورد في لقاء «سايت آن‬

‫ساوند» سابق الذكر ‪ -‬يشير إلى جمالية خاصة تظهر على الشاشة ونحن نتكلم عن عملية معالجة استثنائية للمادة‬ ‫المصوّرة إلحداث هذا «التوحد» سابق الذكر‪ ،‬ومواصلة نوالن نأيه عن التصوير الرقمي‪ ،‬ولتأتي الموسيقا التصويرية‬

‫(تأليف هانس زيمر سبق أن صنع موسيقا كثير من أفالم نوالن)‪ ،‬التي لعبت دورًا دراميًّا أساسيًّا في الحفز والترقب والجو‬ ‫القيامي للفلم‪ ،‬ونحن نتكلم عن فلم يكاد يكون صام ًتا‪.‬‬

‫‪173‬‬


‫فنون‬

‫فنانة سعودية شاركت في معارض دولية‪،‬‬ ‫ومتاحف عالمية تقتني أعمالها‬

‫منال الضويان‪:‬‬ ‫‪174‬‬

‫بسيطا للتعبير عن قضية‬ ‫أستعمل رمزًا‬ ‫ً‬ ‫كبيرة‪...‬والقول بالحضور الواضح‬ ‫للفنانة السعودية‬ ‫س َّيس»‬ ‫«م َ‬ ‫ُ‬

‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬


‫الفيصل‬

‫خاص‬

‫ترى الفنانة السعودية منال الضويان‬

‫الفن ً‬ ‫نوعا من الحوار المتطور‪ ،‬وتؤكد في حوار‬ ‫لـ«الفيصل» أن القول بالحضور الواضح للفنانة‬

‫السعودية «مُ َسيَّس»‪ .‬وتشدد على الحاجة إلى نقد‬

‫الذات سعيًا للتطور‪ .‬الضويان في تجربتها المتنوعة‬ ‫تستعمل الرمز البسيط من أجل التعبير عن قضية‬

‫كبيرة‪ ،‬بدأت مشوارها الفني من خالل التصوير‬ ‫الفوتوغرافي‪ ،‬ثم طوَّرت هذا الفن إلى ما يعرف‬

‫بفن الـ ‪ installation‬وصممت أفكارًا فنية ثالثية‬ ‫ّ‬ ‫تحتل مساحات تعبر عن‬ ‫األبعاد كبيرة الحجم‬

‫الفكرة بأشكال متعددة‪ .‬وقد شاركت الضويان في‬

‫معارض دولية واقتنى عدد من المتاحف العالمية‬ ‫أعمالها مثل‪ :‬المتحف البريطاني‪ ،‬ومتحف ال‬

‫كونتي‪ ،‬والمتحف الوطني األردني للفنون الجميلة‪،‬‬ ‫وهيئة أبو ظبي للثقافة والتراث وغيرها‪َّ .‬‬ ‫وثقت منال‬ ‫الضويان مجموعات اجتماعية مثل‪« :‬رجال ونساء‬

‫النفط في المملكة العربية السعودية» في مشروع‬ ‫ً‬ ‫عنوانا‪« :‬إذا نسيتك فال تنساني»‪ ،‬وفي‬ ‫فني حمل‬ ‫مشروعها «صدمة» تناولت تأثير وسائل اإلعالم في‬

‫ممارسة المحو المتعمد للهويات‪ .‬إلى نص الحوار‪:‬‬

‫«مغطى»‬

‫بدأت عملك مبرمجة نظم معلوماتية بناء على‬ ‫ِ‬

‫تخصصك في البكالوريوس بعلوم الحاسوب‪ ،‬ثم حصلت‬

‫على درجة الماجستير في تحليل النظم وتصميمها‪ ،‬إذن‪،‬‬ ‫كيف تبلور اهتمامك بالفن والتصوير؟‬

‫‪ -‬منذ الطفولة وأنا أرسم وكنت مهووسة بالتصوير‪،‬‬

‫وقد عدت من الجامعة وأنا في سن صغيرة أحمل بمعيتي‬ ‫ً‬ ‫صندوقا مليئة بالصور‪ .‬كانت رغبتي في دراسة‬ ‫ثالثة عشر‬ ‫الفن قديمة‪ ،‬لكن كانت دراسة الفن آنذاك في المنطقة غير‬

‫متاحة‪ ،‬ولم تكن هناك أية حركة فنية على الرغم من وجود‬ ‫فنانين‪ ،‬ومع ذلك قررت دراسة الماجستير في تحليل النظم‬ ‫المعلوماتية نهارًا‪ ،‬أما في المساء فقد كنت أدرس فن الطباعة‬ ‫وأحصل على كورسات في جامعات فنية في لندن‪ .‬عندما‬

‫عدت من الدراسة التحقت بأرامكو‪ .‬أول معرض لي أقيم في‬

‫شمال إسبانيا‪ ،‬ثم صار الفن شغلي الشاغل‪ ،‬وبعد خمس‬ ‫سنوات من هذا التغيير في حياتي تركت عملي‪ ،‬وتفرغت للفن‬

‫في أعمالي أحاول التأكيد على أن‬ ‫المجموعات الكبيرة تساعد على محو‬ ‫هوية الشخص وفردانيته‪ ،‬وهذا شكل‬ ‫من التجاهل لذات المرأة وهويتها‬

‫وتخصصت فيه‪.‬‬

‫النظر إلى القضايا بطريقة مختلفة‬ ‫َّ‬ ‫قت مجموعات اجتماعية‪ ،‬مثل «رجال ونساء‬ ‫وث ِ‬

‫النفط في السعودية» في مشروعك الفني «إذا نسيتك‬ ‫وتناولت تأثير وسائل اإلعالم في نشر محو‬ ‫فال تنساني»‪،‬‬ ‫ِ‬

‫‪175‬‬


‫فنون‬

‫متعمد للهويات في مشروع «صدمة»؛ هل تعتقدين أن‬

‫تقحمه في مثلبة التكرار التي تدخل حس أفراده في نوع من‬

‫وبخاصة المرأة؟‬

‫«حالة من االختفاء»‪ .‬ولقد جمعت صورًا من تلك الحوادث عن‬ ‫النساء ُنشرت خالل ثالثة أعوام في جريدة واحدة‪ ،‬ووجدت‬

‫رسالة اإلعالم العربي كانت سلبية تجاه قضايا مجتمعه‬ ‫‪ -‬بالنسبة لي أحاول االبتعاد من عالج المشكلة‪ ،‬وأعتقد‬

‫أن دور الفن جعل المشاهد ينظر إلى مشهد أو قضية أو صورة‬ ‫بطريقة مختلفة‪ ،‬فإذا اعتادت عيناك على النظر إلى المشهد‬ ‫من اليمين فأنا أجعلك تنظر إليه من اليسار‪ ،‬وهذه الحالة في‬

‫تغيير الرؤية من شأنها أن تنتشل المتلقي من الخمول وربما‬ ‫تجعله يغير من طريقة طرحه األسئلة‪ .‬وأما اإلعالم العربي‬ ‫فلن ِّ‬ ‫أعلق على موقفه‪ ،‬لكن سأحيل إلى خطورة تكرار الصورة‬

‫خمسا‬ ‫في اإلعالم بما لها من قوة‪ ،‬فتكرارها في الصحافة‬ ‫ً‬ ‫ِّ‬ ‫المعلمات مثلاً أعده خط ًرا‬ ‫وعشرين عامً ا في حوادث سيارات‬ ‫أو ً‬ ‫نوعا من تثبيت قصة وإهمال القصص األخرى‪ ،‬فنشر صور‬ ‫سيارات مدمرة من دون أي جثث أو توضيح‬ ‫أسماء النساء الالئي توفين في هذه‬ ‫الحوادث هو نمط من المحو لإلنسان‬ ‫الذي ذهبت روحه‪ .‬وأعلم أن النية هي‬ ‫الحفاظ على الخصوصية لكن التكرار‬ ‫بهذا الشكل محو إلنسانية النساء‬

‫‪176‬‬

‫الالئي ذهبت أرواحهن سدى في تلك‬

‫الحوادث من دون فجيعة من المجتمع‬

‫الذي ينتمين إليه‪ .‬فمسؤولية اإلعالم‬

‫الخمول والغفوة‪ .‬وأحاول معالجة هذه القضية في مشروعي‬

‫أنهم ال يقومون بنشر صور جديدة عن تلك الحوادث بل‬

‫يستعملون الصور ذاتها‪ ،‬ولقد استعملت في بضعة شهور‪،‬‬ ‫تقدر بأربعة أشهر‪ ،‬الصور ذاتها ثماني مرات‪ ،‬وهي صور‬

‫تشمل عددًا وفي ًرا من النسوة‪ ،‬وال تنشر صورة امرأة بمفردها‪،‬‬

‫مخفيات الشكل والوجه والتكوين‪ ،‬األمر الذي يشعر معه‬

‫المرء بأن المرأة ليس لها تكوين وليس لها شكل محدد‪ .‬لذلك‬ ‫أحاول في أعمالي التأكيد على أن المجموعات الكبيرة تساعد‬

‫على محو هوية الشخص وفردانيته‪ ،‬وهذا شكل من التجاهل‬

‫لذات المرأة وهويتها‪.‬‬

‫َّ‬ ‫تضمن بعض مشاريعك الفنية تساؤلاً عن‪ :‬ماذا‬

‫اضطررت إلى‬ ‫يحدث لذاكرة ال يوجد لها قصة؟ وربما‬ ‫ِ‬

‫استخدام أرشيف صورك الشخصية إلعادة نشر قصتك‬

‫من خالل ذكريات شخص آخر لبناء اتصال متخيَّل‪.‬‬ ‫استطعت تكوين هذا التصور القصصي واإلنساني‬ ‫كيف‬ ‫ِ‬

‫وتجميعه وتضمينه من خالل أرشيف من الصور؟ وما‬ ‫الذي دفعك إلى االستعانة بأرشيفك الشخصي لهذه‬ ‫الغاية الفنية البحتة؟‬

‫«من معرض صدمة»‬

‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬


‫بسيطا للتعبير عن قضية كبيرة‬ ‫منال الضويان‪ :‬أستعمل رمزًا‬ ‫ً‬

‫‪ -‬منذ مدة وأعمالي تعالج قضية الذاكرة‬

‫وبخاصة أن والدي كان متأث ًرا بسبب مرض الزهايمر‬

‫أواخر سبع سنوات من عمره قبيل وفاته‪ .‬وبصفتي‬

‫ْ‬ ‫وجدت والدها ال يتذكر اسمها وال وجهها وال‬ ‫شابة‬

‫يتذكر ما حوله‪ ،‬كانت تجربة صعبة جدًّ ا‪ ،‬ولقد‬ ‫عالجت هذه التجربة من خالل عملي في الفن‪.‬‬

‫فكثير من أعمالي تدور حول والدي وتجربته مع‬

‫هذا المرض‪ ،‬ففي هذا المشروع الذي سميته «أنا‬

‫هل أنسى؟»‪ .‬كنت في عمر اثني عشر عامً ا أعطاني‬ ‫ً‬ ‫صندوقا فيه ثالث مئة نيغاتيف‪ ،‬وكنت ألعب‬ ‫والدي‬ ‫بها وأتسلى وأضع عليها تكوينات‪ ،‬وصنفتها في‬ ‫صور عن الماء‪ ،‬وأخرى عن الجبال‪ ،‬وصور في أوربا‬

‫وأميركا وهكذا‪ ،‬لكنني حينما كبرت وبعد وفاة والدي‬ ‫نظرت إلى تلك الصور بنظرة مختلفة ألن جميع من‬ ‫فيها توفي واألماكن الموجودة في تلك الصور ليس‬ ‫لها قصة‪ ،‬فبدأت أطرح فكرة‪ :‬ماذا يحدث للذاكرة أو‬

‫للقصة حينما ال تكون لها ذاكرة؟ ولقد أخذت صوري‬ ‫إلى فلوريدا في مكان إقامة فنية في جزيرة كابتيفا‬

‫التي تتبع الفنان روشان بيرغ فاونديشن‪ ،‬وهذا الفنان‬

‫معروف في أميركا‪ ،‬ولقد كنت أول عربية تشارك في‬ ‫تلك اإلقامة الفنية‪ ،‬وبدأت إنتاج أعمال وأفكر في أن‬

‫تلك الصور إذا فقدت قصتها وذاكرتها فسوف أصنع لها ذاكرة‬ ‫ً‬ ‫وتاريخا هي قصتي‪ ،‬وبتلك التجربة أكون قد بعثت فيها‬ ‫وقصة‬

‫روحً ا جديدة برؤية وفكر جديدين وأحييتها‪ ،‬وهذه تجربتي التي‬ ‫قمت فيها بإحياء الذاكرة بعد المحو‪.‬‬

‫خطابات الملك عبدالله الملهمة‬

‫استمددت إلهامك في مجموعة «أنا» من الخطاب‬ ‫ِ‬ ‫الذي ألقاه الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز يوم ّ‬ ‫توليه‬

‫«اسمي»‬

‫إحباط الفنانة والفنان يأتي من عدم‬ ‫القدرة على إنتاج الفن أو عدم القدرة‬ ‫على التعبير‬ ‫وعلى مستوى إعالمي كذلك‪ ،‬عن الوظائف التي يمكن‬

‫للمرأة شغرها‪ ،‬وقيل يومها‪ :‬إن المرأة ستعمل في الوظائف‬

‫المناسبة لطبيعتها بصفتها امرأة‪ ،‬وكنت أتساءل بحيرة‪ :‬ما‬

‫العرش‪ ،‬ودعا فيه يومها السعود ّيين ّ‬ ‫كلهم ليتعاونوا على‬ ‫بناء وطننا‪ .‬كما ّ‬ ‫شدد على أهمية مشاركة المرأة‪ .‬وفي الصور‬

‫الذي يتناسب وطبيعتها؟ ومن خالل طرح هذين السؤالين على‬

‫تفاصيل توحي بوظائف عدة‪ ،‬ما الذي دفعك إلى إعداد هذه‬

‫قبل ثالثة عشر عامً ا‪ .‬فلقد طلبت من عدد من النساء الالئي‬

‫الفوتوغرافية من مجموعة «أنا» نساء صورتهن وهن يرتدين‬ ‫المجموعة؟‬

‫‪ -‬كان للملك عبدالله ‪-‬يرحمه الله‪ -‬خالل حكمه خطابات‬

‫عدة وأهمها عند توليه الحكم‪ ،‬والثاني لما عيّن المرأة في‬

‫مجلس الشورى‪ .‬وتحدث عن النساء البارزات وتأثير النساء في‬ ‫حياته‪ ،‬وتكلم عن أم سلمة وبعض نساء النبي صلى الله عليه‬

‫وسلم‪ .‬ولكوني موظفة في أرامكو آنذاك كنت محاطة بنساء‬ ‫ناجحات في مجاالت عملهن‪ ،‬وحين ألقى الملك عبدالله‬

‫ذلك الخطاب وغيره جرى حوار شديد في المجتمع السعودي‬

‫الذي يناسب طبيعة المرأة من الوظائف؟ ومن سيحدد ما‬ ‫نفسي انطلقت بعمل هو من أوائل أعمالي في هذا المجال‬

‫يعملن أن يحضرن إلى األستوديو الخاص بي لتصويرهن بزي‬ ‫المهن التي يعملن فيها‪ :‬أنا معلمة‪ ،‬أنا مهندسة بترول‪ ،‬أنا‬ ‫كاتبة‪ ،‬أنا سفيرة في األمم المتحدة‪ ،‬وما إلى ذلك‪ .‬فكان لكل‬ ‫ُ‬ ‫عددت ذلك العمل عملاً تشاركيًّا‪.‬‬ ‫صورة نقاش وحوار ألنني‬ ‫تميز عملك «في الهوا سوا» ببساطته التعبيرية‬

‫الفنية‪ ،‬فهو عبارة عن سرب من الحمام األبيض بعدد‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫يحد من‬ ‫معلقة بحبال شفافة مالصقة لسقف‬ ‫‪ 200‬حمامة‬

‫‪177‬‬


‫فنون‬

‫حريتها‪ .‬وعبر بعمق عن رسالته المجتمعية‬

‫الرافضة للحد من حرية حركة المرأة السعودية‬

‫والقيود المفروضة عليها‪ .‬ترى أين تكمن‬

‫مسؤولية الفن في المجتمع؟ وكيف يمكن للفنان‬ ‫اجتماعي صحّ ّي على الصعيدين‬ ‫إنشاء حوار‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫والعالمي؟‬ ‫المحل ّي‬ ‫ّ‬ ‫ أعدّ الفن ً‬‫نوعا من الحوار‪ ،‬وأعتقد أن النقد‬

‫الذاتي مهمّ في كل المجتمعات‪ ،‬وال بد أن ننتقد‬ ‫أنفسنا كمجتمع لنتطور بدل التقبل على مضض‬

‫أو االبتعاد وترك المساحة للعابثين في األرض‬

‫فسادًا‪ ،‬فقضية الحمام تالمس قضية الوالية على‬ ‫ً‬ ‫بسيطا ليعبِّر‬ ‫المرأة وأنا بصفتي فنانة أستخدم رم ًزا‬

‫عن قضية كبيرة‪ ،‬ففي عملي «الصدمة» وفلم‬

‫«لم يكن لدي أجنحة» كان الطرح يناقش قضية‬

‫السياقة ومسؤولية المجتمع في الحفاظ على‬

‫سالمة المرأة‪ ،‬و«في الهوا سوا» تكلمت عن الوالية‬ ‫وخطورة ظلم المرأة على المجتمع برمته‪.‬‬

‫المالحظ أنه على الرغم من الوضع الذي‬

‫‪178‬‬

‫تعيشه المرأة السعودية في مجتمعها فإن‬

‫الفنانات السعوديات حاضرات وبقوة في ساحة‬ ‫الفن السعودي المعاصر؛ في رأيك ما الذي‬

‫يدفع الفنانة السعودية إلى تجاوز إحباط الداخل‬ ‫من خالل الفن الذي يحمل رسالة التغيير؟‬

‫«هي المدينة»‬

‫‪ -‬نعم هناك حضور واضح للفنانة السعودية لكنني‬

‫عرضت بعض أعمالك بشكل دائم في مجموعات‬ ‫ِ‬

‫المرأة بصفتها فنانة لم تظلم أو أخذت حقها من االنتشار‬

‫الجميلة‪ ،‬ومؤسسة عبداللطيف جميل‪ ،‬ومؤسسة دلفينا‬

‫أعتقد أن هذا الكالم مُ َسيَّس من ناحية دفعنا إلى القول بأن‬ ‫والوجود‪ .‬أنا أعتقد أن الحركة الفنية في السعودية فيها‬

‫توازن بين الرجل والمرأة غير موجود في أي مجال آخر في‬ ‫التجربة االجتماعية السعودية‪ ،‬ولذلك تبرز المرأة التي تكاد‬ ‫تكون أث ًرا مختفيًا فيغير ذلك من المجاالت األخرى‪ ،‬فهما في‬

‫حال مساواة تقريبًا؛ إذ إن مجال الفن خاص جدًّ ا يتكلم عن‬ ‫قصة الفنان الخاصة والحوار يحترم الرأي اآلخر‪ .‬أما اإلحباط‬

‫للفنانة والفنان فهو يأتي من عدم القدرة على إنتاج الفن أو‬

‫عدم القدرة على التعبير‪.‬‬

‫الفن يجعل المشاهد ينظر إلى القضية‬ ‫بطريقة مختلفة‪ ،‬وهذه الحالة في تغيير‬ ‫الرؤية من شأنها أن تنتشل المتلقي‬ ‫من الخمول‬

‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬

‫المتحف البريطاني‪ ،‬والمتحف الوطني األردني للفنون‬ ‫في لندن‪ ،‬وهيئة أبو ظبي للثقافة والتراث‪ ،‬ومؤسسة‬

‫الناظور في ألمانيا ومؤسسة بارجيل في الشارقة؛ فهل لك‬ ‫أعمال معروضة في السعودية؟‬

‫‪ -‬عرضت كثي ًرا من أعمالي في السعودية منها صالة أثر‬

‫وكان اسم المعرض «رحلة االنتماء»‪ .‬وشاركت في مهرجان‬

‫جدة الفني قبل أربع سنوات‪ .‬وفي كل عام يختار المنسقون لي‬ ‫عملاً للمشاركة به‪ ،‬ولقد شاركت هذا العام بعملي «الصدمة»‬ ‫في المتحف الوطني بالرياض‪ ،‬وفي معرض بالسفارة‬ ‫الفرنسية‪ ،‬وفي أرامكو أقمت معرضين‪ .‬وفي البحرين كثير من‬ ‫السعوديين يحضرون هناك لتلقي أعمالي‪ ،‬بل إن أغلب من‬ ‫يقتني أعمالي سعوديون‪ ،‬وكثير منها في البيوت السعودية‪.‬‬ ‫ومن المتاحف التي أتواصل معها في المنطقة متحف‬

‫الدوحة‪ ،‬والمتاحف الموجودة في أبو ظبي‪ ،‬ومتحف البرجيل‬ ‫في الشارقة‪ ،‬وكذلك متحف باألردن‪.‬‬


‫نصوص‬

‫ابتهال‬ ‫فاطمة عبدالحميد‬

‫قاصة سعودية‬

‫ابتعدنا عن بعضنا‪ ،‬بنفس السرعة التي اجتمعنا بها لنلتقط صورة لحفل التخرج‪...‬‬

‫ك��ان��ت ه��ي م��م��ن جلسن ف��ي ال��ص��ف األول‪ ،‬ليظهر ال��ص��ف ال��خ��ل��ف��ي م��ن ال��خ��ري��ج��ات واض���حً ���ا ف��ي ال��ل��ق��ط��ة‪ .‬ال‬

‫أعرف إن كانت لم تسمع صوت المصورة حين رفعت يدها وقالت‪:‬‬

‫« ان��ت��ه��ي��ن��ا‪ ...‬ش���ك���رًا ح��ب��ي��ب��ات��ي»‪ ،‬أم أن���ه���ا ل���م ت��ف��ه��م أن ال��م��ق��ص��ود م���ن ك�لام��ه��ا ه���و «ت���ف���رق���ن ع���ن ال���م���س���رح» أم‬

‫���ررت المكوث هنا‪ ،‬على هذا‬ ‫أن��ه لسبب آخ��ر‪ ،‬ك��أن ال تكون لديها وجهة لتذهب إليها بعد ذل��ك ال��ي��وم؛ ل��ذا ق ِ‬ ‫المسرح وفي تلك الصورة ً‬ ‫أيضا‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫عدت إلى الجامعة بعد عشرة أعوام‪ ،‬وكانت ال تزال في مكانها‪ ،‬وبروب التخرج الوردي الذي لم تخلعه‬

‫منذ ذلك اليوم‪ .‬لم تكن تمثل في فلم رعب‪ ...‬لم يكن العفن قد تسلقها كما توقعت قبل أن أقترب منها‪ .‬ال‪...‬‬

‫كانت طازجة أكثر من كونها فتاة تم استثناؤها من مغادرة المسرح في ذلك اليوم المشؤوم ألهلها‪ ،‬والذي‬ ‫سعيدا ًّ‬ ‫ً‬ ‫بالنظر البتسامتها الواسعة وروجها الالمع‪ ،‬يبدو أنه كان ً‬ ‫جدا بالنسبة لها‪ .‬‬ ‫يوما‬ ‫كم عدد الذين عرفوا أن آخر ابتساماتهم هي آخر ابتساماتهم بالفعل؟‬

‫ْ‬ ‫بللت إصبعها بلعابها لتضبط شعر غرتي المتطاير وأنا أتكئ على ركبتها‪ ،‬حدثتني بانهماك عن طالبات‬

‫لم يعرفهن أحد ألنهن خارج مرتبة األفضل واألس��وأ في الدفعة‪ ،‬فنسيهن الجميع‪ ،‬وكنت في غنى عن أن‬ ‫تصمت إذا اب��ت��ع ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫��دت قليلاً عنها‪ ،‬وتعاود‬ ‫اسمي‪ .‬الحظت أنها‬ ‫أع��رف أنني واح���دة منهن‪ ،‬لكنها بأسف ذك��رت‬

‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ذهبت‬ ‫مكثت قربها حتى وقت أذان الظهر‪ ،‬ثم حين انشغل الجميع بالصالة‬ ‫اقتربت منها‪.‬‬ ‫الكالم بلهفة إذا‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫وعدت بها إلى المسرح‪ .‬كانت «ابتهال» صامتة حتى‬ ‫وسحبت مرآة تقاربني طولاً ‪،‬‬ ‫لغرفة أعمال الطالبات‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫وضعت المرآة أمامها كما كان يفعل والدي حين يموت‬ ‫توقفت قبل قليل‪.‬‬ ‫وعادت تكمل من حيث‬ ‫اقتربت‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وحيدا‪.‬‬ ‫أحد أزواج الطيور في القفص‪ ،‬ليقنعه بأنه ليس‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫نزلت عن‬ ‫تراجعت للخلف خطوة خطوة‪ ،‬حتى‬

‫المسرح دون أن تلحظ ذلك‪ ...‬كانت ال تزال‬ ‫تتحدث إلى الصورة في المرآة بحماسة‪،‬‬

‫وكأنها أخرى تخبرها عن إنجازات كل طالبة‬ ‫منا بحسب الترتيب في الصورة الجماعية‪ .‬‬ ‫حين تصل إلى مكاني في ُّ‬ ‫الدفعة‪،‬‬

‫أتمنى أال تعرف أن هذه الخدعة التي‬ ‫ُ‬ ‫قمت بها هنا ألجلها‪ ،‬هي إنجازي‬

‫ُ‬ ‫نزلت عن المسرح قبل‬ ‫الوحيد منذ‬

‫عشر سنوات‪.‬‬

‫‪179‬‬


‫فنون‬

‫نجيب محفوظ قال له‪« :‬ال تستبدل شهوة العمل بشهوة الكالم»‬

‫هاني شنودة‪:‬‬ ‫موسيقاي تحققت وارتبطت بالناس‪..‬‬ ‫علوما موسيقية جديدة‬ ‫و«المصريين» أدخلت‬ ‫ً‬ ‫القاهرة‬

‫‪180‬‬

‫ّ‬ ‫يعد واحدة من الظواهر الفنية التي عرفتها مصر منذ مطلع السبعينيات حتى اآلن‪ ،‬وُلد‬ ‫عام ‪1943‬م بمدينة طنطا في وسط الدلتا‪ ،‬وتخرج عام ‪1966‬م من معهد الكونسرفتوار‪ ،‬أدخل على‬ ‫الموسيقا المصرية توزيع األلحان‪ ،‬واعتمد األدوات الموسيقية الكهربائية‪ ،‬نال كثيرًا من الهجوم‪،‬‬ ‫وقدم كثيرًا من النجوم في مقدمتهم محمد منير وعمرو دياب الذي التقاه في حفلة ببورسعيد‪،‬‬ ‫فنصحه بنزول القاهرة وتعلم الموسيقا‪ ،‬وقدم له ألبومه األول «يا طريق»‪ .‬هو الموسيقار هاني‬ ‫شنودة صاحب فرقة المصريين التي قدمت تراثا مهمًّ ا للموسيقا المصرية والعربية‬ ‫(بحبك ال‪ .‬ماشية السنيورة‪ .‬حرية‪ .‬كتير‪ .‬بنات كتير‪ً .‬‬ ‫أبدا من جديد‪ ،‬حظ‬ ‫العدالة)‪ ،‬لحَّ ن الموسيقا التصويرية ألكثر من خمسين عملاً سينمائيًّا‪،‬‬ ‫من بينها‪( :‬اللومنجي‪ ،‬ونسيت أني امرأة‪ ،‬ومصيدة الذئاب تعالب وأرانب‪،‬‬ ‫وصعيدي في الجيش‪ ،‬وصراع الحسناوات‪ ،‬ومسجل خطر‪ ،‬والعذراء‬ ‫والعقرب‪ ،‬وصديقي الوفي‪ ،‬والمشبوه‪ ،‬والمطربون في األرض)‪.‬‬ ‫«الفيصل» التقته وحاورته حول الموسيقا والفن وقضايا أخرى‪:‬‬

‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬


‫هاني شنودة‪ :‬موسيقاي تحققت وارتبطت بالناس‪..‬‬

‫نجيب محفوظ‬

‫● ما الذي حققته فرقة المصريين للموسيقا العربية‬

‫وللغناء في مصر؟‬ ‫■ فرقة المصريين غيرت «المزيكا» في مصر ودول‬ ‫أخرى كثيرة‪ ،‬وحين تذهب إلى أي فرح تجد الناس يغنون‬

‫أغانيها‪ ،‬وهذا يعني نجاحها وتحققها وارتباط الناس بها‪،‬‬ ‫فضلاً عن أنه لم يكن في الموسيقا المصرية هارموني أو باص‬

‫نجاة الصغيرة‬

‫هجوما ال أستطيع وصفه‪،‬‬ ‫هوجمنا‬ ‫ً‬ ‫سواء من الصحافة أو التلفزيون أو‬ ‫غيرهما‪ ،‬لكن أمام النجاح الكاسح‬ ‫يهون أي هجوم‬

‫غيتار أو كونتر بوينت‪« .‬المصريين» هي التي أدخلت العلوم‬

‫■ كنا فرقة غربي‪ ،‬نغني أغاني غربية تتميز باإليقاعات‬

‫فالجزء الذي يجيء فيه ربع تون كان يُت َرك بال توزيع‪ .‬وفي‬

‫باإلسكندرية‪ ،‬وكان يجيئنا نحو ثالثة آالف شاب وفتاة‬

‫الموسيقية‪ ،‬لم يكن هناك توزيع أو هارموني في الكورال‪،‬‬

‫السريعة والمدد القصيرة‪ ،‬وكنا نقدم موسيقانا في المنتزه‬

‫«المصريين» عملنا أول شريط كاسيت لمحمد منير‪ ،‬وعملنا‬ ‫له الموسيقا التي ما زال يغني ً‬ ‫وفقا إليقاعاتها حتى اآلن‪.‬‬

‫إلجراء حوار معنا لـ«آخر ساعة» أو «المصور»‪ ،‬وكان ذلك‬

‫● هاني شنودة من أكثر الموسيقيين الذين احتكوا‬

‫عاملين زوبعة في فنجان‪ ،‬أنتم ما بتعملوش أغاني عربي‬

‫وتعاملوا مع كتاب وشعراء‪ ،‬فما الذي جعلك قريبًا من‬ ‫الوسط الثقافي هكذا؟‬

‫يرقصون على موسيقانا وأغنياتنا‪ ،‬فجاءنا نجيب محفوظ‬

‫قبل أن يحصل على نوبل بسنوات طويلة‪ ،‬فقال لي‪« :‬أنتم‬

‫ليه؟»‪ ،‬فقلت له‪ :‬إن األغنية العربية تأخذ وقت ثالثة‬ ‫أو أربعة أغاني مما نغنيه‪ ،‬كما أنها تبدأ بتانغو وتنتهي‬

‫■ أول شيء أنا مدين بكل ما أنا فيه ألستاذ اللغة العربية‬

‫بمقسوم «على واحدة ونص»‪ ،‬والشباب يرون أنه من‬

‫مؤكدً ا أن كل موضوع له مقدمة ثم قمة ثم تذييل‪ ،‬سواء‬

‫مالحظاتي على األغنية العربية‪ ،‬فقال لي‪« :‬ال تستبدل‬

‫في مدرستي اإلعدادية الذي علمني موضوعات اإلنشاء‪،‬‬ ‫ببيت شعر أو آية قرآنية‪ ،‬كان يكلمنا في كل شيء‪ ،‬وعن كل‬ ‫شيء‪ ،‬فأثار خيالنا وأرواحنا نحو كل ما هو جديد‪ ،‬إضافة‬

‫إلى ذلك فأنا من بيت جمع بين الثقافة والفن‪ ،‬فوالدي كان‬

‫صيدالنيًّا لكن كانت لديه مكتبة كبيرة‪ ،‬وكان محبًّا للقراءة‬

‫واالطالع‪ ،‬وأمي كانت تجيد العزف على العود‪ ،‬ومن ثم فقد‬ ‫نشأت في بيت جمع بين الثقافة والفن‪.‬‬ ‫نجيب محفوظ وحليم‬

‫● ما الذي غيرك لتنتقل من األغاني الغربية إلى‬

‫األغاني المصرية؟‬

‫العيب الرقص على إيقاعات شرقية‪ ،‬وظللت أسترسل في‬ ‫شهوة العمل بشهوة الكالم»‪ .‬وبدا على مالمحي أنني لم‬ ‫أستوعب ما قال‪ ،‬فأوضح قائلاً ‪« :‬اللي أنت مؤمن أنه صح‬

‫اعمله»‪ ،‬ومشى نجيب‪ ،‬لكن البذرة التي بذرها في رأسي‬ ‫تمش‪ ،‬ظلت باقية‪ّ ،‬‬ ‫في حين طلبني عبدالحليم‬ ‫لم‬ ‫ِ‬ ‫وأثرت ّ‬ ‫حافظ وقال لي‪« :‬عايزك تعملي فرقة صغيرة»‪ ،‬وكان‬ ‫عبدالحليم يعمل مع الفرقة الماسية‪ ،‬وهي فرقة كبيرة‬

‫وشهيرة‪ ،‬فوافقت وأحضرت درامز‪ ،‬وبيست بالرمر‪ ،‬لكن‬ ‫عبدالحليم عاد وقال لي‪ :‬إن قائد الفرقة الماسية وهو‬

‫الموسيقار الشهير أحمد فؤاد حسن غاضب‪ ،‬ويردد أن‬

‫عبدالحليم سيترك الماسية وسينضم إلى فرقة صغيرة‪،‬‬

‫‪181‬‬


‫فنون‬

‫واقترح علي أن نضم ثالثة عازفين من الماسية إلى فرقتنا‪،‬‬

‫صوت جيد‪ ،‬فأضفت إليهما إيمان يونس أخت الممثلة‬

‫مختار السيد‪ ،‬وحسين نور «رق»‪ .‬وبدأنا البروفات‪ ،‬فعملنا‬

‫حليفنا في كثير من األغاني‪ ،‬وعملنا لمنير شريطه األول‬

‫فانضم إلينا عازف الغيتار هاني مهنى‪ ،‬وعازف األوكرديون‬ ‫حفلة في نادي الجزيرة‪ ،‬كان الجزء األول بقيادة أحمد‬

‫فؤاد حسن‪ ،‬والجزء الثاني منها بفرقتي‪ ،‬وبعد الحفلة‬

‫قال لي عبدالحليم‪« :‬إحنا القينا نفسنا؛ ألن حجز األوتيالت‬ ‫هيبقى أقل‪ ،‬وحجز الطيران هيبقى أقل»‪ .‬وحين فكرت‬

‫في الكالم علمت أن عبدالحليم فهم ما يفهمه كثيرون‪،‬‬ ‫فهو بما لديه من قدرة على االستبصار علم أن المستقبل‬ ‫لآلالت العالمية الجديدة‪ ،‬سواء البيست غيتار أو غيره‪،‬‬

‫وبخاصة حين رأى هذا العدد من الشباب الذين يرقصون‬

‫على الهارموني والعلوم الموسيقية الجديدة التي مكنتنا‬ ‫من تفجير طاقاتهم‪ ،‬حينها قلت‪ :‬إنه حان الوقت كي أكوِّن‬

‫فرقة خاصة‪.‬‬ ‫لاً‬ ‫ولما جاءني عبدالرحيم منصور قائ ‪ :‬إن عنده مغنيًا‬

‫شابًّا صوته مميز لكن حظه يعانده‪ ،‬وإنه يريده أن يغني‬

‫معي‪ ،‬كان هذا الشاب هو محمد منير الذي وزعت له ألبومه‬ ‫األول‪ ،‬ولحَّ نت له فيه أربع أغنيات‪ ،‬وفي أثناء تسجيلنا‬

‫شريط منير وجدت أن من يلعب الدرامز والغيتار لديهما‬

‫‪182‬‬

‫الناس يرحبون باألغنية الرومانسية‬ ‫والدينية والفكاهية‪ ،‬حتى أغنية الكالم‬ ‫الفارغ أو التي بال رسالة‪ ،‬المهم أن تكون‬ ‫أغنية وليس إساءة لهم‬

‫إسعاد يونس‪ ،‬وكوَّنت منهم فرقة المصريين‪ ،‬وكان النجاح‬ ‫والثاني‪ ،‬ولنجاة «باعشق البحر»‪ ،‬ولعدوية «زحمة يا دنيا‬ ‫زحمة»‪ ،‬وآخرين من بينهم‪ :‬فايزة أحمد‪ ،‬وعلي الحجار‪،‬‬ ‫ومحمد الحلو‪ ،‬لكن باألسلوب الجديد‪.‬‬ ‫هجوم كاسح‬

‫● ُّاتهمت بأنك أدخلت الموسيقا الغربية إلى الغناء‬

‫المصري؟‬ ‫■ هوجمنا هجومً ا ال أستطيع وصفه‪ ،‬سواء من‬

‫الصحافة أو التلفزيون أو غيرهما‪ ،‬لكن «بيني وبينك» أمام‬ ‫النجاح الكاسح يهون أي هجوم‪ ،‬فضلاً عن أن الكاسيت‬ ‫ً‬ ‫هامشا كبي ًرا من الحرية في السماع‪ ،‬فقبله كان ذوق‬ ‫أعطى‬ ‫لجنة اإلذاعة المصرية هو الذي يتحكم في ذوق الناس‪ ،‬ثم‬ ‫جاء الكاسيت الذي خلق الحرية‪ ،‬فكل من لديه (‪ً 135‬‬ ‫قرشا)‬

‫يستطيع أن يشتري ما يحب‪ ،‬فلما شعروا أن السجادة‬ ‫تنسحب من تحت أقدامهم توقفوا عن مهاجمتنا‪ .‬في هذا‬

‫الوقت قدمنا ألبومات «بنات كتير» و«بتتولد» لمحمد منير‪،‬‬ ‫وغيرهما‪ ،‬اآلن تقلصت مساحة الحرية‪ ،‬وعاد كل شيء‬ ‫إلى ما كان عليه‪ ،‬فأنت تسمع ما هو متاح على اليوتيوب‪،‬‬

‫فلألسف السوشيال ميديا ضيقت حرية السماع‪ ،‬ربما تكون‬ ‫وسعت الحرية في إبداء الرأي أو غيره‪ ،‬لكن في األغنية األمر‬ ‫مختلف‪ ،‬فاألغنية كلفتها مثلاً نحو مئة ألف جنيه‪ ،‬ثم ُتصوَّر‬ ‫بنحو مئة ألف أخرى‪ ،‬ثم تعرضها على اليوتيوب من دون‬

‫عبدالحليم حافظ‬

‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬


‫هاني شنودة‪ :‬موسيقاي تحققت وارتبطت بالناس‪..‬‬

‫فرقة المصريين وهاني شنودة‬

‫مقابل‪ ،‬ومن ثم فال أحد سيقدم على إهدار نحو مئتي ألف‬ ‫جنيه في أغنية كي يسمعها الناس على اليوتيوب‪ ،‬فعدنا‬ ‫من جديد إلى ذوق لجنة اإلذاعة‪.‬‬

‫● ما االتجاهات السائدة في الموسيقا بمصر اآلن؟‬ ‫■‬

‫فرقة المصريين غيرت «المزيكا» في‬ ‫مصر ودول أخرى كثيرة‬ ‫ابن هرمس‪ ،‬أنا مولود مميز‪ ،‬وال أستطيع أن أكون أقل من‬

‫الطاغي اآلن هو أغاني المهرجانات‪ ،‬وأنا لست‬

‫أجدادي الذين عملوا بالعلم‪ ،‬وأن أقول‪ :‬إن الموهبة وحدها‬

‫ليس لدينا نوت مؤدبة أو «قبيحة»‪ ،‬مؤمنة أو كافرة‪،‬‬

‫● ماذا تقول للموسيقيين الشباب؟‬ ‫■ أسمع موسيقا تصويرية في المسلسالت‪ ،‬مستوى‬

‫ضدها‪ ،‬لكني سأقول لك قبل أن تسأل‪ :‬نحن في الموسيقا‬ ‫لكن هناك توليفة من اإليقاعات‪ ،‬أما الكالم فله طريقتان‪،‬‬

‫وكلمات أغاني المهرجانات «لمؤخذة سيئة ورديئة»‪ ،‬ولو‬

‫كانوا عرضوها على المصنفات الفنية وسمحت لهم بغنائها‬ ‫فال بد من جزاء الموظف الذي وافق عليها‪ ،‬أما إن كانوا‬ ‫غنوها من دون تصريح من المصنفات التي عليها أن تعطي‬

‫تكفي‪.‬‬

‫الصوت بها أعلى وأفضل مما كان متاحً ا في الماضي لدينا‪،‬‬

‫وهي موسيقا جميلة‪ ،‬لكن ينقصها الشخصية‪ ،‬ففي الماضي‬ ‫لو أخذت موسيقا فلم «شمس الزناتي» ووضعتها لفلم‬

‫«المشبوه» فإنك ال تستطيع‪ ،‬وال تستطيع أن تضع موسيقا‬

‫أي منهما لفلم «ال عزاء للسيدات» أو العكس‪ ،‬لكن اآلن‬

‫تصريحً ا لكل ما ينشر‪ :‬رواية أو ديوان شعري أو أغنية‪ ،‬ومن‬ ‫ينشر شي ًئا بال تصريح منها يواجه عقوبات كبيرة‪ ،‬وإذا كانوا‬

‫يمكنك أن تضع موسيقا أي مسلسل لمسلسل آخر من‬

‫فهناك مشكلة وتساؤل كبير‪.‬‬

‫المسلسالت وغيرها لم تعد موجودة‪ ،‬رغم أنها موسيقا‬

‫غنوها من دون تصريح ولم تقم المصنفات بمحاسبتهم‬

‫● هل يدين هاني شنودة بالفضل لعصر شريط‬

‫الكاسيت؟‬ ‫■ أدين بالفضل لعنادي‪ ،‬فقد كنت أعرف أن هذا هو‬ ‫االتجاه الصحيح؛ ألن بلدي والبالد المجاورة تأخرت‪ ،‬وأنا‬

‫دون أن تشعر بأدني خلل‪ ،‬ففكرة الشخصية في موسيقا‬ ‫حلوة‪ ،‬وأصحابها موسيقيون محترفون وموهوبون‪ .‬ومن‬

‫ناحية األغنية فأريد أن أقول‪ :‬إن الناس يرحِّ بون باألغنية‬

‫الرومانسية والدينية والفكاهية‪ ،‬حتى أغنية الكالم الفارغ أو‬ ‫حال اً‬ ‫التي بال رسالة كـ«يال اً‬ ‫بال حيُّوا أبو الفصاد»‪ ،‬المهم أن‬ ‫تكون أغنية وليس إساءة للناس‪.‬‬

‫‪183‬‬


‫مقال‬

‫فيصل دراج‬ ‫ناقد فلسطيني‬

‫هل للنقد األدبي العربي الحديث ذاكرة؟‬ ‫اجتهد النقد األدبي العربي‪ ،‬في العقد األخير‪ ،‬في توسيع حقله‬ ‫ً‬ ‫أحيانا‪ ،‬أن بإمكان النقد األدبي أن يكون علمًا‪ .‬فبعد‬ ‫النظري متص ِّورًا‪،‬‬

‫سيطرة مذاهب نقدية ضيقة‪ ،‬دارت بين الواقعية واالنطباعية‪ ،‬جاء‬ ‫السياق الثقافي في سبعينيات القرن الماضي وما تالها‪ ،‬باتجاهات‬ ‫وافدة‪ ،‬اطمأن لها بعض ّ‬ ‫النقاد العرب‪ ،‬وسعوا إلى تطبيقها على‬

‫باعتراف األحياء بجهود األموات‪ ،‬وأخرى معرفية ترى في المعرفة‬

‫المنقضية جزءًا من معارف الحاضر‪ ،‬التي ال تستطيع االكتفاء بذاتها‪،‬‬ ‫وإال سقطت في الجمود واالنغالق‪.‬‬

‫نقاد أعطوا في حدود زمنهم‬

‫روايات حديثة‪ ،‬وعلى شعر عربي قديم‪ ،‬احتضن البحتري وأبا تمّام‪.‬‬ ‫تع ّرف النقد العربي‪ ،‬أو بعض ّ‬ ‫النقاد بشكل أدق‪ ،‬على‬

‫ّ‬ ‫فالنقاد العرب‪ ،‬الذين كانوا أحياء ورحلوا‪ ،‬سايروا القرن‬

‫وحملت معها أفكار روالن بارت وجيرار جونيت‪ ،‬وتطبيقات لوسيان‬

‫ال فرق إن عرفوا «مشاهير نقاد الغرب»‪ ،‬أم اكتفوا بالجاحظ وابن‬

‫البنيوية الفرنسية‪ ،‬التي صعدت في ستينيات القرن العشرين‪،‬‬

‫غولدمان‪ ،‬الماركسي الذي اعتنق بنيوية تكوينية‪ ،‬كما يقال‪ ،‬في‬

‫انتظار المنهج التفكيكي‪ ،‬الذي ارتبط بالفيلسوف الشهير جاك‬

‫دريدا‪ ،‬الذي تحدّث عن «اآلخر»‪ ،‬و«األخروية»‪ .‬بل إن بعض ّ‬ ‫النقاد‬

‫‪184‬‬

‫تقف إلى جانب التجسير الثقافي بداهة‪ ،‬أخالقية‪ ،‬تقضي‬

‫الذي أخذه الشغف‪ ،‬أضاف إلى الجهد الفرنسي مقوالت اإلنجليزي‬ ‫جوناثان كولر‪ ،‬وتمدّد إلى الروسي يوري لوتمان‪ ،‬الذي قال بعلم‬

‫السميولوجيا‪ ،‬أو «اإلشارات»‪.‬‬ ‫تطبيق منقوص‬

‫لم يكن في انفتاح النقد العربي على غيره ما يضير‪ ،‬فالفكر الذي‬

‫ال يتع ّرف على غيره يقع في السبات‪ .‬بيد أن االندفاع المطمئن إلى‬

‫«األفكار الوافدة» يستدعي‪ ،‬بمشروعية كاملة أو منقوصة‪ ،‬بعض‬

‫العشرين إلى منتصفه‪ ،‬وأعطوا في حدود زمنهم‪ ،‬مساهمات المعة‪،‬‬ ‫قتيبة‪ .‬واألمثلة في هذا المجال كثيرة‪ :‬أعطى الفلسطيني‪ ،‬روحي‬

‫ما الحصاد النقدي الذي «راكمته»‪،‬‬ ‫االتجاهات النقدية المنفتحة على «اآلخر»‪،‬‬ ‫وهل استطاعت أن تصير جزءًا من الثقافة‬ ‫العربية‪ ،‬أم اختصرت في نخبة‪ ،‬ترحب‬ ‫بالوافد‪ ،‬وال تخضعه إلى مساءلة نقدية؟‬ ‫الخالدي‪ ،‬في مطلع القرن العشرين‪ ،‬كتابه الرائد‪« :‬تاريخ علم األدب‬

‫األسئلة‪ :‬ما الحصاد النقدي الذي «راكمته»‪ ،‬بعد عقود‪ ،‬االتجاهات‬

‫عند اإلفرنج والعرب وفيكتور هوغو»‪ ،‬الذي قرأ فيه حياة األدب في‬

‫«نظرية» (تطور أفكارها األولى)‪ ،‬أم أنها أخذت بشيء من التطبيق‬

‫منه في كتابه الالمع‪« :‬مقدمة لدراسة بالغة العرب»‪ ،‬الصادر عام‬

‫النقدية المنفتحة على «اآلخر» الغربي‪ ،‬وهل عرفت استمرارية‬

‫حياة المجتمع‪ .‬وما كان المصري أحمد ضيف (‪1947 -1880‬م) بعيدًا‬

‫المنقوص واكتفت به؟ وهل استطاعت هذه االتجاهات أن تصير جزءًا‬

‫‪1921‬م‪ .‬ومن العبث نسيان كتاب «الديوان»‪1921 ،‬م‪ ،‬لمؤلفيه عباس‬ ‫محمود ّ‬ ‫العقاد وإبراهيم عبدالقادر المازني‪ .‬الذي حاول‪« ،‬إقامة‬

‫يأتي به سياق ثقافي ناقص الوضوح يتبدّد‪ ،‬سريعً ا‪ ،‬مع رحيل السياق‪.‬‬

‫اإلنصاف نسيان «غربال» ميخائيل نعيمة‪ ،‬و«الميزان الجديد» لمحمد‬

‫من الثقافة العربية‪ ،‬أم اختصرت في نخبة‪ ،‬ترحب بالوافد‪ ،‬وال‬

‫تخضعه إلى مساءلة نقدية؟ تستعيد هذه األسئلة قاعدة تقول‪ :‬ما‬ ‫تنطوي األسئلة‪ ،‬مهما تكن دقتها‪ ،‬على مفهومين يتعامل‬

‫معهما الفالسفة‪ :‬كونية المعرفة‪ ،‬التي تقضي بانفتاح كل معرفة‬ ‫«ضيقة» على أخرى أكثر اتسا ًعا وجدة‪ ،‬والتميّز المعرفي الذي‬

‫يتحقق إذا اعترف ببيئته وموروثه الثقافي‪ ،‬قريبًا كان أم قديمًا‪ .‬فجديد‬

‫األفكار‪ ،‬ال يقاس بالحاضر وبمعطياته‪ .‬هناك‪ ،‬في الحالين‪ ،‬التجسير‬ ‫الثقافي‪ ،‬الذي يقيم بين المعارف‪ ،‬في أزمنتها المختلفة؛ تفاعلاً يضع‬

‫القديم في الحاضر‪ ،‬ويضيء المعرفة الحاضرة بمعرفة قديمة‪.‬‬

‫حد بين عهدين»‪ ،‬وإرساء النقد األدبي على قواعد جديدة‪ .‬وال من‬

‫مندور‪ ،‬وذلك النقد اللغوي الرهيف الذي مارسه أديب يدعى‪ :‬يحيى‬ ‫حقي‪ .‬وعلى هذا فإن االعتراف بكونية المعرفة ٌ‬ ‫شرط لتطور المعارف‪،‬‬

‫الذي يقضي بتأمل الخصوصية الثقافية‪.‬‬ ‫يقال‪ُ :‬ت ِّ‬ ‫شكل معارف الماضي‪ ،‬بعد نقدها‪ ،‬جزءًا من معارف‬

‫الحاضر‪ ،‬األمر الذي يجعل من الذاكرة الثقافية العربية‪ ،‬في أزمنتها‬

‫المختلفة‪ ،‬بُعدًا يحايث النقد األدبي العربي‪ ،‬الذي ال يرتاح إلى‬ ‫االغتراب‪ .‬فهل انتصر ّ‬ ‫النقاد العرب‪ ،‬دائمًا‪ ،‬لذاكرتهم الثقافية؟‬

‫العددان ‪ 492 - 491‬ذو الحجة ‪1438‬هـ ‪ -‬محرم ‪1439‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2017‬م‬



King Faisal Foundation

(+ 96611)4656524 :¢ù``cÉa (+96611)4652255 :∞JÉ``g á`` ` ` ` jOƒ`©` `°ù`dG á`` ` ` «Hô`` ©` dG á`` ` ` ` µ` ∏ª`ŸG 11411 :¢VÉ`` `jô``dG 352 :Ü .¢U

P.O.Box 352 Riyadh 11411 Kingdom of Saudi Arabia Tel: (+966 11) 4652255 Fax: (+966 11) 4656524

www.kff.com


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.