العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ سبتمبر -أكتوبر 2017م
الصراع العربي حول العلمانية
بين الدولة والدين
عشيقة ماياكوفسكي عميلة سرية جالل أمين :الغرب لم يعد يحتاج
هل كان بورخيس ُيــعيد
االستشراق والعرب «استغربوا»
كتابة فرويد؟ www.alfaisalmag.com
مبان «مجامع العربية» ٍ مهجورة وسط المدن
www.kfcris.com
اﻟﺒﺤﻮث واﻟﺪراﺳﺎت
اﻟﻤﺤﺎﺿﺮات واﻟﻨﺪوات
kfcris@kfcris.com
@kfcris_sa
اﻟﻤﻜﺘﺒﺔ
اﻟﻤﺘﺎﺣﻒ
kfcris_sa
KFCRISKSA
اﻟﺘﺪرﻳﺐ
KFCRIS
اﻟﻜﺘﺐ واﻹﺻﺪارات
ص ب ٥١٠٤٩ :اﻟﺮﻳﺎض ١١٥٤٣اﳌﻤﻠﻜﺔ اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ اﻟﺴﻌﻮدﻳﺔ ﻫﺎﺗﻒ ٠٠٩٦٦ ١١ ٤٦٥٢٢٥٥ :ﻓﺎﻛﺲ٠٠٩٦٦ ١١ ٤٦٥٩٩٩٣ : Fax: 00966 11 4659993
Tel: 00966 11 4652255
P.O. Box 51049 Riyadh 11543 Kingdom of Saudi Arabia
اﻟﺸﺆون اﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ
« ﺗﺠﻮل ﻓﻲ ﻣﻮﻗﻊ » ﻣﻘﺎﻻت ﻟﻨﺨﺒﺔ ﻣﻦ أﻫﻢ اﻟﻜﺘﺎب ﻣﻠﻔﺎت وﺗﺤﻘﻴﻘﺎت وﻗﻀﺎﻳﺎ ﻋﻦ اﻟﺮاﻫﻦ اﻟﺜﻘﺎﻓﻲ واﻟﺴﻴﺎﺳﻲ ﻣﻊ إﻃﻼﻟﺔ ﻋﻠﻰ اﻹﺑﺪاع ﻓﻲ ﻣﺨﺘﻠﻒ اﻟﻔﻨﻮن
@alfaisalmag alfaisalmag alfaisalmag ﻣﺠﻠﺔ اﻟﻔﻴﺼﻞ
alfaisalmag.com
editorial@alfaisalmag.com
+966 11 4647851 :¢ùcÉa +966 11 4653027 :∞JÉg ájOƒ©°ùdG á«Hô©dG áµ∏ªŸG 11411 ¢VÉjôdG 3 Ü ¢U
يصدرها
أسسها عام 1397هـ1977/م
األمير خالد الفيصل
العددان
492-491
كتاب الفيصل 18
العلمانية والدين 41 14
الملف
حسـن حنفــي أسسها في القرآن الكريم العلمانية ُ وجذورها في التراث القديم
2
جلبير األشقر العلمانية شرط الحداثة وال تق ُّدم بدونها محمد بن علي المحمود الدين والعلمانية ..المعنى وفضاء التأويل سامية بن عكوش اإلسالمي وضد الدين العلمانية ..مع ّ ّ موسى برهومة هل العالم العربي قادر على جعل «العلمانية هي الحل»؟ قادري أحمد حيدر العلمانية في مقابل غياب خطاب نقد االستبداد محمد شوقي الزين الدين والرؤيةالعلمانية للعالم في ضوء النماذج التنظيمية الكبرى الحمامي نادر ّ العلمانية وخصومها تعبر عن وجهة نظر كتَّابها ،وال تم ِّثل رأي مجلة الفيصل. اآلراء المنشورة ّ تكفل المجلة حرية التعليق على موضوعاتها المنشورة شريطة االلتزام بالموضوعية. تحتفظ المجلة بحقوق ملكيتها للمواد المنشورة فيها ،ويتطلب إعادة نشر أي مادة ورقيا الحصول على موافقة المجلة مع اإلشارة إلى المصدر. إلكترونيا أو ً ً ترسل المواد إلى بريد المجلة اإللكترونيeditorial@alfaisalmag.com :
العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
ردمد ٠٢٥٨ - ١١٤٠ رقم اإليداع مكتبة الملك فهد الوطنية 14/0542
رئيس التحرير
الناشر
رئيس مجلس اإلدارة
األمير تركي الفيصل
الثقافية
دار
editorinchief@alfaisalmag.com
فضاءات
ثقافات
الخريطة الروائية للمدينة العربية
وتحوالته «ربيع الغرب» ّ (أحمد فرحات)
116
ليس للعرب وحدهم «ربيعهم» الدامي شبه المتمادي اليوم ،بل للغرب المتقدم ً أيضا .غير أن «ربيع الغرب» وإن ترجم نفسه في وسخطا واعتقالاً ً الساحات والميادين على نحو أقل ً عنفا ودمً ا تعسفيًّا ومدى زمانيًّا ومكانيًّا ،إالّ أنّ ثقافة هذا «الربيع» رَسَ خت ّ مفكري هذا الغرب وأدبائه وشعرائه وف ّنانيه، أكثر في ذاكرة وبخاصة في الواليات المتحدة األميركية وبعض الدول األوربية، ممن تأثر في البداية «بالثورات العربية».
152
العجيلي) (شهال ُ
التركي أورهان باموق ،عن عالقته بالمدينة الروائي يقول ّ ّ التي ولد فيها وعاش ،وكتب عنها ،وذلك في كتابه الذي حمل اسمها« :إسطنبول -الذكريات والمدينة»: «كانت إسطنبول دائمً ا بالنسبة لي ،مدينة الخراب وسوداويّة نهاية اإلمبراطوريّة .وقد قضيت حياتي أحارب هذه السوداويّة أو أجعلها مثل أهل إسطنبول جميعً ا، سوداويّتي».
فنون
قضايا
مجامع اللغة العربية ..تعيش في غربة
بسيطا منال الضويان :أستعمل رمزًا ً للتعبير عن قضية كبيرة
ماجد الحجيالن
(الفيصل -خاص)
174
ترى الفنانة السعودية منال الضويان الفن ً نوعا من الحوار المتطور ،وتؤكد في حوار لـ«الفيصل» أن القول بالحضور الواضح للفنانة السعودية «مُ َسيَّس» .وتشدد على الحاجة إلى نقد الذات سعيًا للتطور .الضويان في تجربتها المتنوعة تستعمل الرمز البسيط من أجل التعبير عن قضية كبيرة ،بدأت مشوارها الفني من خالل التصوير الفوتوغرافي ،ثم طوَّرت هذا الفن إلى ما يعرف بفن الـ installationوصممت أفكارًا فنية ثالثية األبعاد ّ تحتل مساحات تعبر عن الفكرة بأشكال متعددة. كبيرة الحجم
68
على هامش العصر (الفيصل خاص)
هل من حضور اليوم فاعل وفعلي لمجامع اللغة في الوطن العربي؟ سؤال تستدرجه القطيعة بين هذه الكيانات المعنية بحراسة اللغة ،والواقع الذي يتجدد في كل لحظة ،القطيعة التي يستشعرها على نحو واضح ،المثقف والمختص والرجل العادي؟ فعلى كثرة انتشار مجامع اللغة في الوطن العربي، بدءً ا من مجمع دمشق ،ومجمع القاهرة ،مرورًا بالمجمع العلمي العراقي ،والمجمع األردني ،والمجمع التونسي، والمجمع السوداني ،وأخي ًرا مجمع اللغة بالشارقة.
3
بورتريه
سينما
مِ ركل..من «فتاة كول» إلى «قائدة العالم الحر»
جديد كريستوفر نوالن «دنكرك»..
170
(زياد عبدالله)
ال حاجة لكريستوفر نوالن في جديده «دنكرك» ،الذي بدأ عرضه في الصاالت األميركية من شهر تقريبًا ،إلى أجهزة معقدة تجعل الحلم موازيًا للواقع ومسرحً ا للصراعات كما في «استهالل» 2010 Inceptionم ،وال إلى خيال علمي وثقب أسود ليتسرب منه أحد خارج الزمان والمكان كما فعل في «بين النجوم» 2014 Interstellarم.
كتب
130
64
(سمير جريس)
حكت مركل للصحافيين أنها اعتادت الذهاب إلى «السوبرماركت» بنفسها ،وشراء ما تحتاج إليه .لكن ذلك أصبح صعبًا بعد أن َّ تولت منصب المستشارية .فما تكاد تدخل محلاًّ حتى يلتف العاملون حولها« .لم يكن يحدث هذا من قبل» ،تقول مركل بنبرة جافة .ثم تسمع في المحل السؤال التقليدي« :عن أي شيء تبحثين؟»..
141
4
44
مقاالت
حاتم الص َكر
في غياب الموهبة: مصنع لتفريخ األدباء!
78
محمد علي اليوسفي هل نعيش ًّ حقا أزمة في الشعر وازدهارا للرواية؟ ً
126
زكي الميالد
لم يعد ألوربا ما تقدمه للعرب..
156
شايع الوقيان صورة المرأة في عصر النهضة
168
سعيد يقطين
ثقافة المصلحة وضرورات المصالحة
184
فيصل دراج
هل للنقد األدبي العربي الحديث ذاكرة؟
العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
80
نصوص
91
نبيل سبيع في عيادة طبيب األحوال مي عاشور عصفور الزيبرا
42
عاشور الطويبي صامتة كعتبات حجرية منهكة ّ
100
62
أحمد الخميسي اسم في الليل
142
عائشة البصري حين تتوقف ساعة العقل
67
سلمان الجربوع ظل النظرات المتعبة ُّ
158
عبدالله السفر يا طفلي نصوص
88
عمر الككلي طيران
179
فاطمة عبدالحميد ابتهال
سوسيولوجيا الخطاب الشعري (آمال موسى)................ المرجعية الشعرية عند خالد جمعة (يوسف القدرة)........ حوار مع جالل أمين (محمد جازم)......................................... الفيلسوف والعالِم (توني سيمبسون)............................. المسرح العربي في مأزق (الفيصل خاص)......................... ألف ليلة وليلة أو صوت شهرزاد (بيترو تشيتاتي)............ سعاد الحكيم تستعيد الصوفية (خالد محمد عبده)......... مخطوطات .............................................................................. التسامح في النزاع (راينر فورست)....................................... كنزابورو أوي (أرنو فولران)................................................... لِيلي بريك( ..عماد أبو صالح)................................................. جالل الدين الرومي األميركي (محمد الحجيري)................ السيلفي (هند السليمان)..................................................... الوقف في وسائل اإلعالم( ..حبيب الشمري).................... هاني شنودة (الفيصل خاص)................................................
ينال إسحق التنفيذ
46 52 58 80 92 94 102 106 110 112 122 144 148 160 164 180
االشتراك السنوي 100 :ريال �سعودي للأفراد 250 ،اً ريال �سعود ًّيا للم�ؤ�س�سات� ،أو ما يعادلهما بالدوالر ا ألمـريكي خارج اململكة العربية ال�سعودية. السعر اإلفرادي :ال�سعــودي ــة 10رياالت ،الإمارات 10دراهم ،قطر 10رياالت ،البحرين دينار واحد ،الأردن ديناران ،م�صر 10جنيهات ،املغرب 10دراهم ،لبنان 5000لرية. الموزعون :م�صر ،م�ؤ�س�سة توزيع الأهرام ،القاهرة �شارع اجلالء ،هاتف ،27703195 :فاك�س: ،27704293قطـر ،دار ال�شرق للطباعة والن�شر والتوزيع� ،ص.ب ،3488هاتف ،44557810 فاك�س ،44557819 :الأردن� ،شركة وكالة التوزيع الأردنية� ،ص.ب ،3371هاتف،65358855 : فاك�س ،65337733 :الإمارات العربية املتحدة� ،أبو ظبي املتحدة للطباعة والن�شر والتوزيع ، �ص.ب ،39955هاتف ،25010967 :املغرب ،ال�شركة ال�شريفية لتوزيع ال�صحف� ،ص.ب ،13683 هاتف ،2400223 :فاك�س ،2246249 :لبنان ،بريوت� ،شركة �شرق الأو�سط لتوزيع املطبوعات، �ص .ب ،11-6400هاتف ،009611697310 :فاك�س009611697320 : التوزيع داخل المملكة
ال�شركة الوطنية املوحدة للتوزيع هاتف )011( 4871414 :فاك�س)011( 4871460 :
أحمد زين اإلخراج
في هذا العدد هل كان بورخيس يعيد كتابة فرويد؟ (حسن المودن)......
مدير التحرير
رياض دفدوف مبارك علي الموقع اإللكتروني
معتز عبدالماجد التدقيق والمراجعة اللغوية
عبدالله الدوسري محمد نصير سيد االشتراكات والتوزيع
جعفر عبدالرحمن -)+966(11٤٦٥٢٢٥٥تحويلة6640 : subscriptions@alfaisalmag.com
مراسالت التحرير editorial@alfaisalmag.com مراسالت اإلدارة ص.ب ( )3الرياض 11411 المملكة العربية السعودية هاتف المجلة )+966( 11٤٦٥3027: فاكس)+966( 11٤٦٤٧٨٥١ : contact@alfaisalmag.com اإلعالنات هاتف)+966( 11٤٦٤٧٨٥١ : advertising@alfaisalmag.com
5
المركز
السرحان :مبادرة السالم العربية هي الحل في الصراع مع إسرائيل
سعود السرحان (الثاني من اليمين) في الجلسة النقاشية
6
أكد الدكتور سعود السرحان األمين العام لمركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية أن الصراع العربي -اإلسرائيلي
يعد من أهم المشكالت الرئيسة التي تواجهها منطقة الشرق األوسط ،مشي ًرا إلى أنه لن يكون هناك سالم كامل في المنطقة من دون التوصل لحل شامل لهذا الصراع يتمثل في مبادرة السالم العربية في الشرق األوسط التي ُطرحت عام 2002م في القمة
العربية في بيروت ،ونالت تأييدً ا عربيًّا ،وتهدف إلى إنشاء دولة فلسطينية ذات سيادة على األراضي الفلسطينية ومعترف بها دوليًّا على حدود 1967م ،وعودة الالجئين واالنسحاب من هضبة الجوالن المحتلة ،مقابل اعتراف وتطبيع العالقات بين الدول العربية وإسرائيل.
وتطرق السرحان ،خالل مشاركته في جلسة نقاشية حول صنع السالم في الشرق األوسط ضمن فعاليات الدورة
السادسة من منتدى السالم العالمي التي نظمتها أواخر يونيو الماضي جامعة تسينغهوا الصينية ومعهد الشعب الصيني للشؤون الخارجية ،إلى مشكالت رئيسة مهمة تواجهها منطقة الشرق األوسط ،يتمثل أُ اَ ولها في الصراع العربي -اإلسرائيلي،
مشددًا على أن الوقت قد حان إليجاد حل لهذه المشكلة التي طال أمَ دها .ولفت السرحان إلى مرور نحو 15عامً ا على طرح هذه المبادرة الشاملة والعادلة من دون ِّ تلقي أي رد عليها من إسرائيل ،سواء بالقبول أو الرفض ،محمِّ لاً المجتمع الدولي
مسؤولية ممارسة مزيد من الضغوط على إسرائيل لحملها على الجلوس إلى الطاولة لمناقشة المبادرة؛ ألنها تمثل أفضل سبيل إلى حل هذا الصراع الطويل .وأضاف السرحان في الحلقة التي انطلقت بعنوان« :مواجهة تحديات األمن العالمي :تكاتف
الجهود ،تحمل المسؤولية ،تحقيق اإلصالح» ،أن المشكلة الثانية التي تواجهها منطقة الشرق األوسط تتمثل في ضعف الدولة القومية وفي الوقت نفسه وجود كثير من الالعبين الذين يقومون بأداء أدوار مختلفة يفترض من الدولة القومية القيام
بها ،وهم أطراف مختلفة مثل الحوثيين في اليمن ،والميليشيات في العراق ،مشي ًرا إلى أن هؤالء الالعبين يملكون جناحً ا عسكريًّا وأحزابًا سياسية في البرلمان ،ولهذا فإنه من األهمية بمكان تدعيم دور الدول القومية في المنطقة وتقويته؛ ألن ذلك
من شأنه وقف كثير من الصراعات الحاصلة اآلن .وضمت الجلسة النقاشية السيد وو سي كه المبعوث الصيني الخاص السابق
لمنطقة الشرق األوسط ونائب رئيس جمعية الصداقة الصينية العربية ،وباسكال بونيفاس مدير المعهد الفرنسي للعالقات الدولية واإلستراتيجية ،وكورتونوف أندري مدير عام المجلس الروسي للشؤون الدولية.
العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
اتفاقية تعاون مع جامعة كينغز لندن وقع مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات
اإلسالمية مؤخ ًرا اتفاقية تعاون مع جامعة كينغز لندن في بريطانيا إلطالق مشروع بحثي مشترك،
يهدف إلى دراسة الجهات المؤثرة غير الحكومية
على المستوى السياسي في العالم العربي، جماعات وتنظيمات ما دون الدولة (non-state
ّ .)actors وقع االتفاقية من جانب المركز األمين
العام الدكتور سعود السرحان ومن جانب الجامعة عميد كلية دراسات الدفاع في الجامعة وين باوين، وحضر التوقيع عدد من مسؤولي الجامعة من
بينهم الدكتور بيتر نيومان مدير المعهد الدولي لدراسات التطرف ونائب مدير المعهد الدكتور شيراز ماهر .وتضمنت
االتفاقية قيام الجانبين بعمل بحوث ودراسات مشتركة تركز على القضايا السياسية في منطقة الشرق األوسط والعالم
العربي ،إضافة إلى إقامة عدد من األنشطة الفكرية مثل الندوات وورش العمل ،وكذلك تبادل الخبرات والباحثين بين
الجهتين .وتأتي هذه االتفاقية ضمن جهود المركز في التعاون مع مؤسسات البحث العلمي المرموقة في مختلف دول
العالم؛ إذ إن للمركز دورًا مهمًّ ا في تحليل قضايا الفكر السياسي والتطرف ،فهو ينجز البحوث والدراسات والتقارير
والتحليالت المتخصصة التي تسهم في زيادة الوعي والفكر المجتمعي بمثل هذه القضايا.
منحة بحثية من جامعة هارفارد حصل المركز مؤخ ًرا على منحة بحثية من جامعة هارفارد،
مقدمة من كلية جون كينيدي الحكومية ،عبارة عن تمويل مشروع بحثي في مجال االقتصاد بقيادة الباحث الرئيس في
مجال االقتصاد السياسي في وحدة البحوث بالمركز الدكتور
فهد الشريف .وقد اختير مقترح البحث األساسي بعنوان« :تنمية
المهارات وخلق فرص للعمل في المملكة العربية السعودية: تقييم برنامج خادم الحرمين الشريفين لالبتعاث الخارجي
في ضوء برنامج التحول الوطني السعودي» ،من بين عشرات
العناوين المقدمة من الجامعات ومراكز البحوث حول العالم .وتأتي المنحة البحثية ضمن برنامج «أدلة تصميم السياسات» في جامعة هارفارد ،الذي يهدف إلى تصميم السياسات التي تساعد الحكومات على االستفادة من الموارد المتاحة ،وتنمية سوق العمل ،وتحديد المشاكل ،وبناء السياسات الفعّ الة القائمة على األدلة.
وأعربت لجنة المراجعة في جامعة هارفارد عن إعجابها بمقترح البحث المقدم من المركز ،وال سيما أهميته المتعلقة
بالسياسة العامة ،وإمكانية إيجاد رؤى ذات أهمية بشأن آثار البرامج الدراسية في الخارج على نتائج سوق العمل .وذكر الدكتور فهد الشريف أن البحث سوف يقدم تحليلاً لمخرجات برنامج االبتعاث وتقييمً ا لسياسات سوق العمل ،من أجل بناء سياسات
فاعلة تساهم في االستفادة من البرامج الدراسية وتنويع االقتصاد والحدّ من آثار البرامج غير الفاعلة.
7
المركز
المركز يحذر من استخدام العمالت اإللكترونية في تمويل اإلرهاب حذرت دراسة جديدة من خطورة استخدام العملة
اإللكترونية «بيتكوين» ،في ظل لجوء التنظيمات المتطرفة إلى استخدامها ،إضافة إلى جماعات الجريمة المنظمة، وعمليات غسيل األموال ،مبينة أن التنظيمات اإلرهابية توظف
الـ«بيتكوين» لديها ،وتستخدمها في التمويالت المحظورة، وشراء األسلحة والمعدات ،في حين هناك جهود دولية كبيرة
لتجفيف منابع اإلرهاب.
وكشفت الدراسة التي نشرها المركز حول عملة «بيتكوين»،
ودورها في تمويل الحركات اإلرهابية للباحث حسن محمد ،أن
هناك توجهًا من التنظيمات المتطرفة نحو توظيف تلك العمالت
واالستفادة من ميزاتها المتنوعة والكبيرة؛ إذ تلجأ إلى «بيتكوين»
في حال عدم كفاية الموارد التقليدية كوسيلة للتمويل والتخفي ً وأيضا مع التقدم التكنولوجي للجماعات عن أعين السلطات، اإلرهابية ،وكذلك استمرار عدم خضوع الـ«بيتكوين» لسلطة
8
مركزية أو أي قيود.
وحدة منها حتى اآلن ،ومن المنتظر الوصول لإلصدار الكامل عام 2025إلى 2030م؛ إذ يُن َتج 25عملة «بيتكوين» حول العالم كل 10دقائق ،تتقلص هذه الكمية إلى النصف كل أربع سنوات ،فيما سيجري إنتاج آخر «بيتكوين» عام 2140م.
وأوضحت الدراسة التي صدرت ضمن دورية (تعليقات)
وأشارت الدراسة إلى أن من أهم مميزات الـ«بيتكوين» التي
بناء وهيكلة الجماعات والتنظيمات المتطرفة ،وأنه قد ظهرت
المالية حول العالم ،سهولة إخفاء المستخدمين ،واتساع
التي يصدرها المركز ،أن التمويل يمثل أحد األعمدة الرئيسة في عمالت إلكترونية افتراضية ال يوجد لها رصيد فيزيائي أو وجود
مادي ملموس ،وانتشرت بين مختلف دول العالم ،وقبلت بها ً وسيلة للدفع والشراء ،واتسع نطاق االستخدام شركات كبرى واالنتشار السريع لعمالت افتراضية ،وظهرت مؤشرات مهمة
على استخدام الجماعات اإلرهابية تلك العمالت ،وخطورة التوظيف السيئ للـ«بيتكوين» بوصفها أبرز العمالت االفتراضية وأكثرها انتشارًا.
تعد إحدى صور العمالت االفتراضية الناجحة في المعامالت
النطاق ،والسرعة الفائقة في نقل األموال ،والتحكم وحماية الهوية واألموال ،وانخفاض تكلفة االستخدام وسهولته مع
صعوبة التعقب ،والتحصين األمني .وتعد ألمانيا الدولة
الوحيدة التي اعترفت رسميًّا بالـ«بيتكوين» ً نوعا من النقود اإللكترونية ،وعربيًّا ُتس َتخدم الـ«بيتكوين» بشكل طفيف ،فيما تدرس بعض البنوك العالمية استخدامها.
وتبرز أهمية الدراسة في كونها تطرقت إلى مجال خفي
وبيَّنت الدراسة أن الـ«بيتكوين» عملة إلكترونية بشكل كامل
في تمويل العنف وجماعاته المتعددة ،وتناولت مدى إمكانية
جهة إصدار ،وال تخضع لرقابة ،وال يمكن تعقبها ،وهي سريعة
لمواجهة تلك الظاهرة ،والحد من آثارها السلبية ،ودعت
ُتتداول عبر اإلنترنت فقط ،وال تخضع لهيئة تنظيمية مركزية أو
توظيف جماعات العنف لهذه العمالت ،ووضعت التوصيات
التداول ،ويمكن الحصول عليها عبر شبكة اإلنترنت باستخدام
لضرورة إيجاد عدد من الضوابط التي تحافظ على الميزات
وإصدارها عبر عملية تعدين الـ«بيتكوين» ،ويحتاج المستخدم
إضافة إلى تحديد هويات المتعاملين والمتداولين لتلك العملة.
برامج مجانية تجري عمليات حسابية معقدة وموثقة، فيها إلى حل مجموعة من الخطوات الرياضية والمتسلسلة «الخوارزمات» باستخدام أسماء مستعارة .وال يمكن أن تصل القيمة الكلية لعمالت الـ«بيتكوين» التي طرحت للتداول ألول
مرة عام 2009م بهدف تغيير االقتصاد العالمي ،والموجودة في
السوق ألكثر من 21مليون بيتكوين ،وجرى إنتاج 14مليون العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
النسبية للعمالت االفتراضية ،وتضمن قدرًا من األمن والسالمة، وتقتصر الدراسة على الجماعات والتنظيمات التي تنتهج
العنف؛ مثل :القاعدة ،وتنظيم داعش ،والفرق والجماعات التابعة لهما والمنضوية تحت لوائهماُ ، وتلقي الضوء على مدى إدراك تلك التنظيمات أو بعضها ألهمية العمالت االفتراضية
الجديدة عامة ،وعملة «بيتكوين» خاصة.
كاريكاتير
فعاليات
«الفيصل ..شاهد وشهيد» يشهد محطة جديدة في كازاخستان محطة ثانية شهدها معرض «الفيصل..
شاهد وشهيد» في كازاخستان؛ إذ انتقل اً إقبال المعرض من أستانا إلى آلماتي بعد أن لقي ّ ودشن واسعً ا على محتوياته من الجمهور هناك.
المعرض في محطته الثانية بالمتحف المركزي
الحكومي بحضور رئيس مجلس إدارة المركز األمير تركي الفيصل ووزير الثقافة والرياضة في كازاخستان أريستانبك محمد أولي ،إضافة إلى
السفير السعودي في كازاخستان الدكتور ظاهر العنزي وأرمان كيريكباييف أورازبايفتش نائب
حاكم مدينة آلماتي ،وعالم جان وكيل إدارة الثقافة بحاكمية آلماتي ،ولفيف من المسؤولين
10
واألكاديميين والمثقفين في كازاخستان.
وقدم األمير تركي الفيصل الشكر لدولة
كازاخستان وحكومتها على استضافة معرض الفيصل ،كما شكر سفارة كازاخستان في الرياض
على اهتمامها باستضافة المعرض ومتابعة ترتيباته ،وكذلك سكرتيرة دولة كازاخستان ووزير الثقافة والرياضة على رعايته المعرض وتشريفه
ً أيضا الشكر حفل االفتتاح ،ووجّ ه الفيصل
والتقدير للشعب الكازاخي على حفاوة االستقبال
واالهتمام بزيارة المعرض ،مثمِّ ًنا العالقة األخوية
التي تجمع فخامة الرئيس الكازاخي نور سلطان
نزارباييف وملوك المملكة وقياداتها السياسية ورؤيتهم
الذي ينظمه المركز على مدار شهر ،وهو يرصد جوانب وصورًا
بداية انطالق معرض «الفيصل ..شاهد وشهيد» في أولى
سبيل نهضة بالده.
المشتركة نحو تطلعهم للمستقبل وللتطور .وعدّ الفيصل محطاته خارج المملكة من أستانا بمنزلة تقدير لما يجمع بين
الشعب الكازاخي والشعب السعودي ليس فقط على المستوى
الدبلوماسي أو التجاري إنما للروابط التاريخية والثقافية التي تجمع الشعبين ،موضحً ا أن استمرار إقامة المعرض ونقله إلى مدينة آلماتي دليل على نجاح المعرض بالعاصمة وتفاعل
الشعب الكازاخي معه بصورة كبيرة .وتستمر فعاليات المعرض العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
مختلفة من حياة الملك فيصل وقصة كفاحه ومواقفه في وتأتي إقامة هذا المعرض ونقله إلى مدينة آلماتي
الكازاخية بعد اإلقبال الكبير عليه في المتحف الوطني بمدينة
أستانا العاصمة ،وبناء على طلب من وزارة الثقافة والرياضة بكازاخستان؛ إذ كان المعرض بأستانا أول معرض عربي يقام ً وأيضا في بلدان رابطة الدول المستقلة عن في كازاخستان،
ً سابقا. االتحاد السوفييتي
المركز يشارك في مؤتمر الجمعية الوطنية البريطانية لدراسات الشرق األوسط في جامعة أدنبرة شارك المركز في المؤتمر السنوي الذي
تعقده الجمعية الوطنية البريطانية لدراسات
الشرق األوسط ( ،)BRISMESفي جامعة أدنبرة ،أسكوتلندا ،وجاء المؤتمر هذا العام
تحت عنوان« :الحركة والهجرة في الشرق األوسط :الناس واألفكار في تغير مستمر».
وحظيت مشاركة المركز بحلقة نقاش
كاملة بعنوان« :الهجرة في الشرق األوسط:
وجهات نظر من المملكة العربية السعودية»،
تحدث فيها وأدارها باحثون من المركز ،وهم: الباحث في مجال العالقات الدولية الدكتور
جوزيف كشيشيان ،والباحث في االقتصاد السياسي الدكتور فهد الشريف ،والباحثان في
الفكر السياسي المعاصر فيصل أبو الحسن، وسمية فطاني.
حيث تحدث الدكتور جوزيف كشيشيان عن الالجئين السوريين في السعودية ،مشيرًا إلى أن المملكة استقبلت
مليوني سوري ونصف المليون تقريبًا منذ مطلع عام 2011م ،من دون وصف أي منهم «بالالجئين» .وقامت الرياض
بتحويلهم إلى «مقيمين قانونيين» ،وهو وضع يسمح لهم بالتحرك في السعودية أو السفر إلى وجهات أخرى كما يرغبون ،حيث تتوافر لهم الرعاية الطبية والتعليم المجانيان ،وأكد كشيشيان أن استقبال الالجئين السوريين في السعودية جعل من اللجوء اندماجً ا وتكاملاً بدلاً من االحتجاز والعزلة.
في حين قدم الدكتور فهد الشريف ورقة عمل عن المهاجرين األفارقة ،وهي دراسة حالة ل ِتسع جاليات هاجرت من بلدان إفريقية مختلفة ،إذ قدم الباحث تحليلاً للمهاجرين والمجتمعات التي يعيشون فيها ،وأسباب هجرتهم وحياتهم.
وتستكشف ورقة فيصل أبو الحسن الهجرة من فرنسا إلى السعودية ،مع التركيز على فهم العالقات االجتماعية واالقتصادية .وتقدم تحليلاً لعدد من المواقع التي تقدم المساعدة والتشجيع للمسلمين الفرنسيين من الرجال
والنساء بخصوص الهجرة إلى السعودية ،إضافة إلى مقابلة بعض هؤالء المهاجرين ،ومحاولة فهم طبيعة هذا النوع من الهجرة.
وتأتي هذه المشاركة للباحثين ضمن جهود المركز في التعاون مع المؤسسات العلمية واألكاديمية في مختلف
ً وتأكيدا للجهود األكاديمية التي يبذلها المركز في مختلف المجاالت البحثية. دول العالم،
وتأسست الجمعية البريطانية لدراسات الشرق األوسط في عام 1973م؛ لتشجيع دراسات الشرق األوسط بالمملكة
المتحدة وتعزيزها ودعمها .وهي منبر يجمع المعلمين والباحثين والطلبة والدبلوماسيين والصحافيين وغيرهم ممن
يتعاملون مهنيًّا مع الشرق األوسط ،والعضوية مفتوحة للجميع من جميع البلدان ،وتعقد الجمعية مؤتمرًا سنويًّا
في المجال المعرفي حول دراسات الشرق األوسط ،وتستضيفه بدورها إحدى الجامعات البريطانية التي تضم قسمً ا
لدراسات الشرق األوسط ،وتصدر الجمعية عد ًدا من المنشورات األكاديمية البحثية أهمها المجلة البريطانية لدراسات الشرق األوسط.
11
مقال
ماجد الحجيالن رئيس التحرير
السياسة بين الخاصة والعامة
12
ينسب إلى اإليرلندي الساخر برنارد شو قوله: «أي رجل ال يكون شيوعيًّا في العشرين فهو أحمق، ً حمقا» فإن استمر شيوعيًّا بعد الثالثين فهو أكثر وتعود هذه المقولة الشهيرة إلى النصف األول من القرن العشرين حين سرت األفكار الشيوعية في أوربا مسرى الهشيم ،وهي ً أيضا ال تبتعد من انشغاالت شو نفسه أيام شبابه ،وهو الذي عاش عم ًرا مديدً ا حتى تجاوز التسعين ،ما أتاح له فرصة التأمل في األفكار وطبائع البشر والعقائد السياسية ومآالتها ،إنها فرصة ال تتاح لكثير من المفكرين والفالسفة ،فحين تقرأ في ِسيَر عظماء التاريخ تفاجأ بأن بعضهم لم يعمّ ر أكثر من أربعين عامً ا، ولك أن تتأمل ماذا كان سيقول لو امتدّ به العمر عقدين أو ثالثة؟ وماذا لو أننا م ّررنا هذه المقولة على أيامنا هذه لنفحص األفكار السياسية السائدة في عالمنا العربي واإلسالمي؟ سنجد أن عقائد اإلسالم السياسي بصيغها المختلفة من المغرب العربي إلى أفغانستان هي األكثر رواجً ا وشعبية ،وليس ّ أدل على ذلك من مآالت ما عرفناه بالربيع العربي، سواء عبر صناديق االنتخاب أو عبر صراع الجماعات المتناحرة والخطاب الديني السائد في النزاعات العربية .هكذا نكتشف لو ُقدّ ر لنا أن نراجع المشهد بعد عقود أن أفكارًا محددة أتيح لها لظروف تاريخية ما أن تتسيّد المشهد ،وتبدو كأنها الخيار الناجز الوحيد أمام الجماهير وعامة الناس ،وأن الخروج عليها والتفكير خارجها يبدو خيانة وانتحارًا صريحً ا .وعليه ،فلك أن تتساءل مجددًا :ترى ما األفكار التي هي في طريقها لالضمحالل ،وتلك العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
التي ستنتعش في العقد القادم والعقود القريبة التي تتليه؟ وما الضريبة التي دُفعت في الماضي وستدفع في المستقبل بسبب االحتراب على أفكار سياسية آلت للسقوط والتالشي؟ إن المتأمل في ِسيَر جيل كامل من المثقفين العرب الذين ناضلوا من أجل الشيوعية في الخمسينيات وما بعدها حتى أنهكت السجون أعمارهم، وبدّ دتهم المنافي في أطراف األرض ،ثم أعلنوا تحوّالتهم
درسا يستحق التعلم. الجذرية؛ سيجد فيها ً والفرق الذي ال تخطئه العين بين تلك األزمان توسع االشتغال بالسياسة وما نعيشه اليوم ،هو في ّ وشؤونها ليضاهي فيها بسطاء الناس خاصتهم، واالنتشار المذهل للعقائد السياسية بين جميع طبقات المجتمع العربي .فبعد أن كان الهوى السياسي والتح ّزب مقتص ًرا على رجال السلطة والمثقفين والمتعلمين؛ صار اليوم لكل فرد مهما تواضعت معرفته رأيه السياسي وجماعته المفضلة ،وصار لدى الجميع االستعداد للقتال والموت من أجل فكرة قد ال يعي معتنقها بالضرورة خلفياتها وعواقبها. وبفضل من الثورة االتصالية ال شك صار لدينا مجتمعات مسيّسة بالكامل ،وعبر وسائل اإلعالم التقليدية والجديدة أصبح لكل فرد منصته التي يعبر فيها عن رأيه بلغته وإمكاناته المعرفية ،وهو ما أنتج مستوى غير مسبوق من الشقاق والتناحر والكراهية واألحقاد الدينية والطائفية والسياسية واالجتماعية، وإذا أضفت لدور التقنيات الجديدة عوامل أخرى تعانيها المنطقة مثل :الغزو ،واالحتالل ،واالضطهاد، والحروب األهلية الصغيرة والكبيرة ،واإلرهاب ،واالنهيار االقتصادي ،وتفكك الدولة؛ أضحى لكل فرد حقه الطبيعي في التعبير عن يومياته وانشغاالته ،ورواية
األحداث وفق شهادته. ً غليانا وتعتمل كل هذه العناصر سيكولوجيًّا لتنتج مستم ًّرا قابلاً للتمدّ د واالنفجار في أي لحظة ،سواء كان ً حدثا ما ،أو مجرد حوار إعالمي أو خاص، باعث االنفجار ويعيش الواحد منا أبرز مظاهر هذا التسييس الشامل في مجتمعه القريب ،سيراها عبر خالفات في المستوى العائلي ،وجداالت في محيط األصدقاء ،ونزاعات في بيئة العمل ،وسيراها بوضوح في وسائل اإلعالم المموّلة وعبر التدوينات اإللكترونية المختلفة .صحيح أن األيديولوجيا السياسية كانت دومً ا مبعث تباين وخالف، لكنها لم تكن أكثر انتشارًا والتزامً ا منها اليوم لدى شرائح لم تكن مهجوسة بما وراء مصدر الرزق وسبل المعاش اليومي. إن هذه الهواجس حول التسيُّس الشامل تحيلنا إلى مبحث فلسفي قديم قِدم التاريخ ،يتعلق بمعنى الخاصة والعامة ،ومن يحق له االشتغال بالسياسة أو وغني عن القول أن الديمقراطية الغربية االمتناع عنها، ّ السائدة اليوم أعطت جوابها مبك ًرا ،ومنحت كل فرد حقه في التعبير والتصويت والترشح واالشتغال بكل ما هو عام وخاص ،وأن هذه الديمقراطية المباشرة ُترجمت بشكل مثير للذهول عبر ثورة االتصال ،وأنها استخلصت العبر من انهيار األنظمة الشمولية والدكتاتورية التي ِ قمعت األفراد وحقوقهم بما فيها حق التعبير وحق العمل السياسي؛ غير أن المشكلة الفلسفية القديمة حول اشتغال «العامة» بشأن «الخاصة» ال تلبث أن تظهر بين حين وآخر في خطابات السياسيين والمثقفين على حد سواء ،وبرزت غربيًّا كر ّد فعل على صعود الشعبوية ،ووصول متطرفين يمينيين إلى الفوز ً ُ عامة ،وهي الخاصة باالنتخابات على قاعد ٍة ممن يراهم برزت عربيًّا في دعوات سياسية لتقنين من يحق لهم االنتخاب في بعض الدول العربية خشية صعود الدعاة والشيوخ وزعماء الحركات اإلسالمية. ويعثر الباحث على بدايات هذا التمييز النوعي بين الخاصة والعامة في المدينة اليونانية القديمة لدى أرسطو ،ثم تتجدد بمكيافيلي في كتابه (األمير) وصولاً إلى غوستاف لوبون في (سيكولوجية الجماهير) ،ومن المفروغ منه أن أوصاف العامة تباينت من تسمية طبقات العبيد والرعاع وغير النبالء والدهماء والجموع والجمهور والشعب ..وكلها تؤدي إلى معنى قريب من فكرة «العامة» المعروف عربيًّا وغايته الداللية التي كثي ًرا
هكذا نكتشف لو ُق ّدر لنا أن نراجع المشهد بعد أفكارا محددة أتيح لها لظروف تاريخية عقود أن ً تتسيد المشهد ،وتبدو كأنها الخيار ما أن ّ الناجز الوحيد أمام الجماهير وعامة الناس، وأن الخروج عليها والتفكير خارجها يبدو خيانة صريحا. وانتحارا ً ً
ما تعلقت بالتحقير واالزدراء. ومن الجدير باالنتباه أن مفهوم «العامة» و«الجماهير» يكاد يكون نادرًا في النصوص العربية اإلسالمية المبكرة ،حيث يؤكد الدكتور معجب العدواني في دراسته الثمينة (مفهوم العامة في الحضارة العربية اإلسالمية) أن هاتين المفردتين طارئتان على الثقافة العربية ،على أنك تجد في عصور إسالمية الحقة على يدي الجاحظ وسواه من أدباء ومؤرخين استخدامً ا واسعً ا لمفردة العامة في معرض التجهيل والذمّ
والتهميش ،وال يبتعد ابن خلدون في مقدمته من ّ يخص الحكم واألمر والسياسة بمن هذا التوجه حين أسماهم ذوي العصبية. ومهما يكن األمر؛ فإننا أمام حقيقة جديدة يختلط فيها الثقافي واالجتماعي بالسياسي ،ويتساوى فيها الجاهل مع المتعلم ،فلكل منهما صوت ولكل منهما حق ولكل منهما رأي ،ولم يعد خيارًا متاحً ا أمام النخب أن تنفرد بتحديد توجّ هات الناس عامتهم وخاصتهم، وصار من المنبوذ ثقافيًّا أن تعيّن طبقات نبالء لها دم أزرق ،وطبقات ُسفلى من العامة المهمشين ،وال ً ً ونفاقا ،وال بسبب ثورة تحفظا يجيء هذا االمتناع والنبذ المهمشين على اإلقطاعيين؛ بل ألن التجارب أكدت أن البشر سواسية ،وأن تمايزهم مرتبط بمهاراتهم الفردية، فأستاذ جامعي تعطيه صوتك سيخيّب ظنك ،وبائع خضار ازدريته قد يغير كل قناعاتك عن النخبة ،وال يبقى أمام المنشغل بأمر العامة والخاصة إال الرهان على ما ق ّرره مفكرو السياسة الحديثة من أن الديمقراطية متجددة ،وأن الحرية سرعان ما تصلح أخطاءها وتنبعث في فجر جديد.
13
الملف
الصراع العربي حول العلمانية
بين الدولة والدين تبرز في النقاشات حول الدولة العربية مفردتا «العلمانية والدين» وبقدر ما تمثالن إحدى الثنائيات التي طبعت المشهد الفكري والفكري السياسي عقو ًدا طويلة ،ظل دور الدين في الدولة
قضية جوهرية لم تحسم ،ولعل من أسباب االرتباك والضبابية في السجاالت الدينية والسياسية ً سريعا ما تنزلق لسوء فهم يتحول إلى حملة تشويه غير مسبوقة ،لكن القضية ال تلبث أن أنها
تتعاظم ويزداد االهتمام بها والدفع بها إلى واجهة السجال عند كل منعطف أو مأزق تاريخي يعيشه العرب.
ً طرفا في ثنائية فكرية مكانها الكتب واألبحاث وقاعات الندوات ،إنما صار لم تعد العلمانية ً عالجا ألزمات الدولة يقدمها عدد كبير من المفكرين بوصفها
14
ّ ملحة أكثر من أي وقت العربية ،وحاجة مجتمعية باتت مضى ،إذا ما رام العرب العيش في كنف دولة مدنية ً بعيدا من االحتراب الطائفي والعنف المذهبي
والعنصرية االجتماعية ،على خلفية التنوع اإلثني
والديني الهائل في المنطقة العربية.
والالفت أن من المفكرين والباحثين من يرى
العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
وجود أساسات للعلمانية في اإلسالم والتراث القديم ،ويؤكد أن هناك «علمانيات» وليست «علمانية» واحدة ،وأنه يمكن األخذ بإحداها وتكييفها مع احتياجات العربي المسلم ،وذلك على النقيض من رؤية
مقابلة ،لها جمهورها الواسع ،ترى في العلمانية خطرًا وتغريبًا ،وترى أن قسر المجتمع المتدين على أنظمة مدنية هو تضييع لهوية األمة.
في اللحظة الراهنة التي يميزها الدم نرى انحسارًا لكل األيديولوجيات في العالم العربي ،في مقابل
صعود اإلسالم السياسي ،وما يتبعه من تصاعد لدور الخطب والفتاوى في الحياة السياسية ،وما
يرافقه من أدوار عسكرية وثورية وانتخابية ألحزاب وميليشيات يعتمد معظمها على الخطاب الديني،
فهل يستمر تديين السياسة والمجتمع في الحياة العربية؟ ما أضرار لعبة الدين والسياسة على مجتمعات مليئة بالطوائف واألقليات الدينية؟ هل أخفقت فعلاً كل العقائد السياسية أم أنها لم تختبر ًّ ً ً تماما من يمينا ويسارًا قومية وليبرالية ،وكيف اختفت حقا؟ أين ذهبت العقائد السياسية المختلفة
الساحة لصالح اإلسالميين؟
هل الدين هو الحل لمجتمعات ثقافتها دينية؟ وكيف ينظر المفكرون إلى هذا
الواقع الذي وصلت له الحياة السياسية والفكرية العربية بعد عقود من
التجديف في المعسكرات الشرقية والغربية ،والرهان على المدارس
الفلسفية المستوردة؟
استفهامات كثيرة تطرحها «الفيصل» على نخبة من
المفكرين والباحثين العرب ،في ملف يتفاعل مع أكثر ً إلحاحا في الراهن العربي. القضايا
15
الملف
أسسها في القرآن الكريم العلمانية ُ
وجذورها في التراث القديم
16
العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
حسـن حنفــي
مفكر مصري
انتقل إلينا هذا الموضوع «الدين والعلمانية» من الثقافة الغربية بعد انتشارها في الثقافة
ثان للفكر اإلسالمي المعاصر .فالموضوع غربي .نشأ في سياق الثقافة الغربية العربية وكمصدر ٍ الحديثة ،نشأة وتطورًا .فقد تسلطت الكنيسة على الفكر الغربي .واضطهدت المفكرين األحرار منذ
مارتن لوثر وحركة اإلصالح الديني في القرن الخامس عشر حتى إسبينوزا وفولتير في القرنين السابع عشر والثامن عشر .وكان الدين كما تعرضه الكنيسة دي ًنا عقائد ًّيا .يصعب فهمه بالعقل الصريح الذي اعتمد عليه الغرب في بداية عصوره الحديثة منذ ديكارت في القرن السابع عشر. فماذا يعنى التثليث والتجسد ،وابن الله ،وأم اإلله؟ وهل
العالم Mundusوليس االتجاه إىل خارج العالم يف الغيبيات واألساطري والخرافات التي ّ مثلتها املسيحية واليهودية يف العصور
سلطة الكنيسة واملعبد وهما مؤسستان تاريخيتان من صنع البشر
فيه العلمانية يف صراعها ضد الدين .ثم أسقط املتغربون ،أنصار
يجوز صلب األنبياء يف التوراة واإلنجيل؟ وماذا تعني الطقوس الكنسية السبعة من أول طقس العماد حتى طقس الزواج؟ وملاذا
بحثا عن السلطة الدينية يف مقابل السلطة السياسية ،سلطة األباطرة وامللوك ،وكالهما يتسلط عىل رقاب الناس ،ويتحكم
يف عقولهم ،ويدخل يف قلوبهم لتحديد من املؤمن ومن الكافر وكأنهما قد ّ شقا قلوب الناس؟ وهي معصومة من الخطأ .وهو
الوسطى الكنسية .هذا هو السياق التاريخي الغربي الذي نشأت
الثقافة الغربية ،هذا السياق عىل التاريخ اإلسالمي وقرؤوه من
منظور السياق الغربي .فأخفقوا مرتني :األوىل ،إخراج املوضوع من سياقه الغربي .والثانية ،إسقاط السياق الغربي عىل السياق
اإلسالمي املختلف تمامً ا عن السياق الغربي.
الدين الغيبي األسطوري ،دين الخطيئة والخالص ،وحصار
عب عن ذلك القرآن أما اإلسالم فإنه منذ البداية وكما رّ
لم يسع إليه ،واإليمان باملسيح أو بشعب الله املختار .فاليهود هم
عب عنه القرآن صراحة يف مئات ضد الخرافة والجهل .وهو ما رّ من اآليات مثل﴿ :أَفَلاَ َتعْ ِق ُلونَ ﴾ .وهو ما ظهر يف الرتاث اإلسالمي
اإلنسان العاقل الحر بني ذنب لم يرتكبه؛ خطيئة آدم ،وخالص
أبناء الله وأحباؤه ،والعودة إىل أرض امليعاد.
حركة املفكرين األحرار
فكان من الطبيعي أن تنشأ حركة املفكرين األحرار يف كل
مكان يف فرنسا وأملانيا وإنجلرتا وإيطاليا وإسبانيا وهولندا وأمريكا
ً دفاعا عن العقل والربهان وعن مركزية اإلنسان يف الكون .فنشأ
الصراع بني الدين والعلمانية .وتعني العلمانية ،االتجاه نحو
لما كان اإلسالم آخر األديان فقد احتوى كل القيم العلمانية فيه :العقل، والعلم ،وحقوق اإلنسان ،وديمقراطية الحكم .المصلحة مصدر للتشريع طبقً ا لمبدأ «ال ضرر وال ضرار»« ،وما رآه المسلمون حس ًنا فهو عند الله حسن». والكافر العادل خير عند الله من المسلم الظالم .واإلنسان بعمله .هكذا نادى الفقهاء القدماء والمصلحون المحدثون
الكريم مرات عدة فإنه دين العقل الذي دافعت عنه العلمانية
وبخاصة عند املعتزلة وبعض الفقهاء يف صيغة العقل أساس النقل .ومن قدح يف العقل فقد قدح يف النقل .وهو ما ظهر ً أيضا عند الفقهاء ،وبخاصة عند ابن تيمية يف «موافقة صريح املنقول
لصريح املعقول» ،ووضع مبادئ للمنطق اإلسالمي الذي يعتمد عىل العقل والربهان مثل «ما ال دليل عليه يجب نفيه» .والدليل
ً راسخا يف القلوب كما سأل الله العقيل هو الذي يجعل اإليمان تعاىل إبراهيم عليه السالم﴿ :أَو ََلمْ ُت ْؤمِنْ َق َ ال َبلىَ و ََلكِنْ ِلي َْطم نِ َّ َئ
َق ْل ِبي﴾ .بل إن الفالسفة أطلقوا عىل الله اسم «العقل والعاقل
واملعقول» .واالجتهاد وهو املصدر الرابع من مصادر التشريع يقوم الع ّلة من األصل قبل أن يجدها عىل العقل الذي يقوم باستنباط ِ يف الفرع .والعقل هو مناط التكليف .فاملجنون ال يُكلف.
واإلسالم دين العلم .يقوم عىل النظر واملشاهدة والتجربة؛ ﴿ف ْان ُظ ُروا﴾﴿ ،أَفَلاَ لذلك تتكرر آيات النظر يف األرض مثلَ : َي ْن ُظ ُرونَ ﴾ .وملا طلب إبراهيم عليه السالم الدليل عىل قدرة الله أعطاه الله دليلاً تجريبيًّا وهو قطع الطري أربع قطع .ونرث كل
قطعة يف اتجاه ثم يأتينه ويعدن طريًا بإذن الله .وملا أراد أن يعطي إبراهيم عليه السالم قومه دليلاً عىل أن األصنام ليست آلهة قام بتكسريها ،وعلق الفأس يف رقبة كبري األصنام .وملا سأله قومه
17
الملف
مركز اإلنسان يف الكون
َ ت هَ َذا بِآ ِل َه ِت َنا يَا إِ ْبرَاهِ يمُ َ .ق َ ت َفعَ ْل َ ﴿ق ُالوا أَأَ ْن َ ال ب َْل َفعَ َل ُه َ َ ُ َ ُ ُ اسألوهُ مْ إِنْ َكانوا َي ْنطِ قون﴾ .يعتمد اإلسالم َك ِب ُ ريهُ مْ هَ ذا ف ْ
عىل النظر يف ظواهر الطبيعة مثل :الشمس والقمر والنجوم والكواكب بل يُقسم بها .وال يعتمد عىل املعجزات بمعنى ً ثعبانا أو إنزال مائدة خرق قوانني الطبيعة مثل قلب العصا من السماء كما طلبت بنو إسرائيل من عيىس .فاملعجزة
عن حرية إرادته ،وتأسيس املجتمع الديمقراطي االشرتايك الحر،
فإن هذه األهداف تنبع من اإلسالم .فاإلنسان هو خليفة الله يف َ ْض َخل َ األرض ﴿ َوإِ ْذ َق َ ِيف ًة﴾﴿ ،يَا ال َرب َُّك ل ِْلمَالئ َِك ِة إِ يِّن جَ ِ اع ٌل فيِ األر ِ َ اك َخل َ دَا ُو ُد إِ َّنا جَ عَ ْل َن َ اس بِ ْالحَ ِّق﴾ .وقد ْض َفاحْ ُكمْ َبينْ َ ال َّن ِ ِيف ًة فيِ الأْ ر ِ خمسا وستني مرة يف القرآن الكريم مما يدل عىل ُذكر اإلنسان ً أهميته .كما يركز القرآن عىل مجتمع املساواة والعدالة ﴿أَرَأَي َ ْت
َّ ِك َّالذِ ي َيد ُُّع ْال َيتِيمَ .و اََل يَحُ ُّ لىَ َ ينَ .ف َذل َ ام الذِ ي ي َُك ِّذ ُب بِال ِّد ِ ض َع طعَ ِ َ المْ ِْسكِني﴾َ ﴿ ،وي ُْط ِعمُونَ َّ ِسكِي ًنا َو َيتِيمً ا وَأ ِسريًا﴾. الطعَ امَ َعلىَ حُ ِّب ِه م ْ
لإلبهار والدهشة. واإلسالم دين العقل والتجربة ﴿ َومَا َم َنعَ َنا أَنْ ُن ْر ِس َل َات إ اَّل أَنْ َك َّذ َب بهَا َ األو َُّلونَ ﴾ .ويعتمد املصدر الرابع بِالآْ ي ِ ِ ِ
طاو» .وهذه هي ويف الحديث «ليس منا من بات شبعان وجاره ٍ
يف الفرع ،ومعرفة علة الفرع بالتجربة .فالخمر مسكر يف
وقد نادى الصحابي أبو ذر الغفاري بمجتمع املساواة
يف أصول الفقه عىل التعليل .وهو وجود العلة من األصل األصل .ومعرفة هذا الشراب مسكر أم ال يتم بالتجربة.
فإذا ثبتت علة السكر يف الفرع أخذت حكم األصل .وعندما ادعت امرأة أن رجلاً ضاجعها بدليل وجود منيه عىل ثوبها فركه عيل بن أبي طالب ريض الله عنه بيديه واكتشف أنه
زالل بيض .لذلك ازدهر العلم التجريبي يف الرتاث القديم
18
وإذا كانت العلمانية تعني مركزية اإلنسان يف الكون والدفاع
والريايض مثل: مثل :الطب والصيدلة والنبات والحيوان، ّ الهندسة والجرب ،واملوسيقا والفلك .فإذا كانت العلمانية
تقوم عىل العلم كما قامت عىل العقل فإن اإلسالم كذلك. والعلماء ورثة األنبياء.
داللة الصيام والزكاة ،اإلحساس باآلخر.
عندما رأى البون الشاسع بدأ يظهر بني األغنياء والفقراء .وعند ً حفاظا عىل الحياة ﴿و ََل ُكمْ األصوليني لقد وضعت الشريعة ابتداءً ْالق َصاص حَ ي ٌ ُ َ َاب َلعَ َّل ُكمْ َت َّت ُقونَ ﴾٭َ ﴿ ،وإِ َذا المَْوْءُ ودَةُ فيِ ِ َاة يَا أ يِ ول األ ْلب ِ ِ ت .بأيَِّ َ ْ ب ُق ِت َل ْ ْ ت﴾ والحفاظ عىل العقل بالرغم من النسبة ن ذ سُ ِئ َل ِ ٍ العالية لألمية يف بالدنا ،والحفاظ عىل الدين أي الحقيقة املطلقة
ضد الحقائق النسبية واألهواء البشرية واملصالح الشخصية، والحفاظ عىل العرض أي عىل الشرف والكرامة والحياء ،والحفاظ عىل املال ضد تبديد الرثوات وبخاصة تلك التي يف باطن األرض
يف مظاهر االستهالك الذي ال يفيد ،وليس يف بناء املستشفيات
واملدارس .واملجتمع اإلسالمي مجتمع ديمقراطي حر .األمر شورى َ َ األم ِْر﴾. او ْرهُ مْ فيِ بني املسلمني ﴿وَأ ْم ُرهُ مْ ُشورَى َب ْي َنهُمْ ﴾﴿ ،و ََش ِ وهو مجتمع حر يقبل املعارضة والرقابة عىل الحكام ً طبقا ملبدأ األمر باملعروف والنهي عن املنكر ،املبدأ الخامس من مبادئ التوحيد عند املعتزلة مثل العدل ،واالستحقاق ،والحسن والقبح
العقليني .وقد قال عمر بن الخطاب ريض الله عنه من فوق املنرب:
«رحم الله من أرشدين إىل عيوبي» ،فأجاب أحد املصلني« :والله لو رأينا فيك عيبًا لقومناه بسيوفنا» .ونذكر ذلك دائمً ا واملعارضة
ضعيفة عندنا ،يف السجون واملعتقالت أو هاربة إىل الخارج.
لذلك ملا كان اإلسالم آخر األديان فقد احتوى كل القيم
العلمانية فيه :العقل ،والعلم ،وحقوق اإلنسان ،وديمقراطية الحكم .املصلحة مصدر للتشريع ً طبقا ملبدأ «ال ضرر وال ضرار»« ،وما
رآه املسلمون حس ًنا فهو عند الله حسن» .والكافر العادل خري عند
الله من املسلم الظالم .واإلنسان بعمله .هكذا نادى الفقهاء القدماء واملصلحون املحدثون .فأي إيهام بتعارض الدين والعلمانية هو نسيان
لجذور العلمانية يف الرتاث القديم وأسسها يف القرآن الكريم أو التبعية للثقافة الغربية وإخراجها من سياقها ،وإسقاطها عىل سياق آخر ً طبقا لعقلية التعارض بني الصوري واملادي ،العقيل والتجريبي،
األنا واآلخر ،الدنيا واآلخرة ،من دون الجمع بني الحسنيني. العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
الملف
19
العلمانية شرط الحداثة وال تق ُّدم بدونها جلبير األشقر
أكاديمي وباحث لبناني
قبل الخوض في موضوع العلمانية ،ال ّ بد من توضيح ما المقصود بهذا التعبير لما يكتنفه
في منطقتنا من غموض والتباس ،إن لم يكن تشويه متعمّ د .فالعلمانية ليست عداءً للدين كما
يحلو ألعدائها تصويرها لتأليب المؤمنين عليها ،وليس هناك من تناقض بين اإليمان الديني وتأييد العلمانية بمفهومها الصحيح .بل تقوم العلمانية بمعناها الضيّق على فصل الدين عن الدولة،
وتقوم بمعناها األوسع على تجريد رجال الدين من السلطة في الشؤون غير الدينية كافة.
الملف ويستند املعنيان الضيق واألوسع إىل منطق واحد. اً مثال يف تطبيق هذا املنطق (وهو فلو أخذنا اإلسالم
ينطبق عىل جميع األديان) النطلقنا من أن االختالف العظيم بني ظروفنا وعلومنا املعاصرة وبني الظروف والعلوم التي كانت سائدة يف الجزيرة العربية يف عصر
اإلسالم األول ،يقتيض ممن يريد يف عصرنا تسيري جميع
الشؤون االجتماعية والعلمية باسم الدين يعنيان بالضرورة أن بعض مخو فرض ِب َدعه الرجال يرى نفسه ّ لاً وتفسيراته االعتباطية على المجتمع؛
األمور باسم الدين أن يُبدع ،مهما حاول سرت إبداعه
يهدد بأسوأ العواقب األمر الذي ّ
السياسية وتقرير الشؤون االجتماعية والعلمية باسم
مجال علوم الطبيعة هي شرط بديهي لتقدّ م تلك العلوم
وراء قناع االجتهاد والتفسري .لذا فإن ممارسة السلطة الدين يعنيان بالضرورة أن بعض الرجال يرى نفسه مخو اًّل فرض بِدَ عه وتفسرياته االعتباطية عىل املجتمع، األمر الذي يهدّ د بأسوأ العواقب .وبما أن عصر النبوّة قد
انتهى وال يجوز ألحد أن يدّ عي تمثيل اإلرادة اإللهية ،فإن
خري أشكال السلطة بالتأكيد ذلك الذي يحول من دون
20
ممارسة السلطة السياسية وتقرير
استبداد بعض األفراد باملجتمع بحجة ادّعائهم احتكار ّ ويتحقق هذا الشرط املعرفة الدينية ،أو بأي حجة أخرى.
من خالل حيازة عامة الشعب عىل السيادة واستناد القرار السيايس إىل األغلبية الشعبية ،أي من خالل الحكم املدين الديمقراطي .وهذا ما ّ لخصه الشعار الشهري لثورة عام
1919م يف مصر« :الدين لله والوطن للجميع». العلمانية والظالمية اإللحادية
أما مرادف العلمانية السياسية يف مجال علوم
الطبيعة فقد بات سائدً ا يف معظم البلدان .صحيح أن ثمة اً دول أو واليات قليلة ال تزال تمنع تدريس تطوّر األجناس
بحجة تعارض هذه املقولة مع الدين ،غري أنه لم يعد
هناك من حكم سيايس يص ّر عىل أن الشمس تدور حول
األرض بحجة أن هذا ما ّ نص عليه الرتاث الديني .والحقيقة أن الظالمية يف مجال علوم الطبيعة لم تقتصر يف القرن
العشرين عىل تلك التي تحجّ جت بالديانات السماوية ،بل شملت ً أيضا ظالمية إلحادية يف االتحاد السوفييتي حيث
التي يعود تأسيسها بوصفها علومً ا باملعنى الحديث إىل ّ تسلط األفكار الدينية املصدر. زمن تح ّررها من
واألمر نفسه ينطبق عىل العلوم االجتماعية ،وهي ٌ ّ ملفكر عربي أسبقية يف تأسيسه عىل أسس حقل كان
ّ يحق لنا أن نفتخر بأن علمية باملعنى الحديث .وإذا كان أسس علم عبدالرحمن بن محمد بن خلدون هو أول من ّ
التاريخ وعلم االجتماع الحديثني ،علينا أن نفهم طبيعة ما كان سب ً ّاقا إليه وما أتاح له تحقيق إنجازه العظيم .وابن خلدون خري مثال عىل إمكانية التوفيق بني اإليمان الديني
ّ يشك أحد يف وفصل املعرفة الوضعية عن الدين؛ إذ ال
إيمانه واعتناقه اإلسالم .بيد أن إيمانه هذا لم يمنعه من
التح ّرر من تفسري التاريخ باإلرادة اإللهية ،وكيف به يعزو إىل تلك اإلرادة ما شهده يف عصره من ّ تغلب للمسيحيني ّ وتغلب للمغول عىل الخالفة عىل املسلمني يف األندلس،
العبّاسية يف العراق مع قيام هؤالء بقيادة هوالكو باجتياح
همجي لعاصمة الخالفة بغداد ،وبعد ذلك تع ّرض دار اإلسالم أسوة بأوربا وغريهما من مناطق العالم لكارثة الطاعون التي أودت بما يناهز ثلث مسلمي ذلك العصر
ّ تعرض بغداد (بمن فيهم والدي ابن خلدون) ،وأخريًا الجتياح مغويل همجي جديد بقيادة تيمور لنك.
فكيف بمسلم صادق يقبل عقله أن يعزي إىل اإلرادة
اإللهية كل هذه الكوارث والنكبات البشعة التي لحقت بعامة املسلمني يف عصره؟ هو ذا س ّر بحث ابن خلدون
كانت ُتفرض يف عهد ستالني نظريات «علمية» مستوحاة ّ تشكل أيديولوجيا من فلسفة «ماركسية» مح ّنطة كانت
عن تفسري للتاريخ متح ّرر من التفسري الديني ،وقد حداه
لوجود العلوم الحديثة .بكالم آخر ،فإن العلمانية يف
واالجتماعية (العمرانية) يف تحديد مجرى التاريخ البشري. ومن هذه العوامل «العصبية» التي رأى فيها عاملاً
الحكم الرسمية ،أي ديانته «املادية» .فإن ممارسة النقد ٌ شرط ال بدّ منه العقالين الذي ال يتقيّد بأي أفكار سابقة
األمر عىل اكتشاف دور العوامل الطبيعية واالقتصادية
العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
ُّ تغلب مفس ًرا أساسيًّا يف تأمني صالبة القوة العسكرية، ِّ
الجماعات القبَلية اآلتية من البادية عىل الجماعات الحضرية
بكون عصبية األوىل أقوى من عصبية الثانية (وينسحب هذا التفسري نفسه عىل ّ تغلب املغول عىل الحضارة العبّاسية). وبينما رأى ابن خلدون يف الدين عصبية تتميّز بنطاقها
األوسع بكثري من نطاق العصبية القبَلية ،عصبية قادرة عىل
صهر قبائل كثرية ومختلفة يف بوتقة قوة قتالية واحدة، لم يفته أن شتى األديان لعبت مثل هذا الدور الذي لم يكن
حك ًرا لإلسالم أو حتى لديانات أهل الكتاب ،وقد لحظ ذلك يف مقدمته الشهرية.
العلمنة وتحرر الدين
يف أوربا ،استكمل الفكر العلمي الحديث سيادته يف
مختلف املجاالت ،سواء أكان يف علوم الطبيعة أم يف العلوم
االجتماعية ،بالرتافق مع ما أسمي بعصر التنوير الذي قام عىل التح ّرر من سلطة الدين وتغليب العقل عىل اإليمان
خالد فياض
تقدّ مت الثورة العلمية لدى األوربيني بدءً ا من عصر النهضة
العظمى قد فرض هيمنته عىل املؤسسة الدينية (الكنيسة)
يف املجال السيايس كما يف مجال املعرفة الوضعية .وقد
لديهم ،أي بدءً ا من القرن السادس عشر امليالدي ،بالتوازي مع النقد الديمقراطي للحكم َ املليك املطلق الذي كان يدّ عي
االستناد إىل ّ حق إلهي .ومع أن العَ لمَ نة انتصرت عىل امتداد
وحوَّلها إىل أداة سياسية من أدوات سلطته.
ويف هذا الصدد نذكر أن جماعات تستخدم راية اإلسالم
استخدامً ا سياسيًّا كانت قد رفعت صوتها يف مصر ،خالل
يختف الدين القارة األوربية ومستعمراتها االستيطانية ،لم ِ يف تلك املناطق ،بل استم ّر يف شكل إيمان ح ّر طوعي حلّ
باستقالل مؤسسة األزهر عن الدولة .وقد قرأنا حينها
فحسب ،بل إن تح ّرر املجتمع والدولة والعلوم والتعليم من
لنقابة العاملني باألوقاف وإمام وخطيب املسجد الفاريس
ّ محل التديّن القسري الذي كان سائدً ا من قبل .ليس هذا
هيمنة الدين قد وجد نظريًا له يف تح ّرر الدين ذاته من هيمنة الدولة ،بعد أن كان الحكم َ املليك يف كل دولة من دول أوربا
تحرر المجتمع والدولة والعلوم ّ
انتفاضة «الربيع العربي» التح ّررية يف عام 2011م ،تطالب
أخبارًا كالتايل« :أكد الشيخ خالد فياض – األمني العام باألنفويش – أنه ال بد من استقالل األزهر ماليًّا وإداريًّا ليؤدي
دوره الحقيقي يف املجتمع املصري والعربي والعاملي» («أمل األمة» 25 ،يونيو 2011م) .واملفارقة أن الذين رفعوا هذا املطلب هم أعداء للعلمانية بالرغم من أنه ،من حيث ال يدركون،
نظيرا والتعليم من هيمنة الدين وجد ً
جزءٌ ال يتج ّزأ من مبادئ العلمانية؛ إذ يندرج يف فصل الدين
الدولة ،بعد أن كان الحكم الملَكي
سوى أن يثني عىل كالم الشيخ املقتبس أعاله ،ويؤيد مطلبه.
تحرر الدين ذاته من هيمنة له في ّ
عن الدولة .وال يسع أي نصري للعلمانية بمعناها الصحيح
في كل دولة من دول أوربا العظمى
أما الذين يريدون أن يجمعوا بني تحرير الدين من الدولة
وحولها إلى أداة الدينية (الكنيسة) ّ
يسيرّ ها رجال الدين حتى لو ادّعى بعضهم أنه من أنصار
قد فرض هيمنته على المؤسسة سياسية من أدوات سلطته
وتقييد الدولة بالدين ،فهم يدافعون يف الحقيقة عن دولة الدولة املدنية ،والحال أن ال دولة مدنية وال ديمقراطية حقيقيتني بال علمانية.
21
الملف
الدين والعلمانية.. المعنى وفضاء التأويل
22
العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
محمد بن علي المحمود
كاتب سعودي
الدين والعلمانية ،وجدل العالقة بينهما ،من أهم محاور التجاذبات الفكرية المعاصرة، وبخاصة بعد صعود األصوليات في الشرق والغرب ،ودخولها على خط المواجهة -صراحة أو ضم ًنا- مع الزمن الحداثي الذي كانت العلمانية جوهر رؤيته ومصدر تصوراته ،بل هي -في الغالب -الوسيلة آن .وال يعني ارتفاع وتيرة الجدل حول هذه العالقة بالتزامن مع صعود األصوليات أن صراع والغاية في ٍ الدين والعلمانية الذي احتدم في القرون الثالثة األخيرة سيعود من نقطة البداية ،إنما يعني -في أهم ما يعنيه -أن ثمة انتفاضة دينية على النسخة السائدة من العلمانية؛ بغية تصحيحها بدرجة ما؛ ألنها ً تهميشا غير منطقي وغير واقعي (االنتفاضة الدينية /عودة األصوليات) ترى في هذه النسخة إقصاء أو للديني؛ على الرغم من حضوره الفاعل والمؤثر ،في السياق الفردي وفي السياق المجتمعي. مع هذا ،فاملسألة أعمق وأشمل؛ إذ عىل الرغم من أن
مصطلح« :العلمانية» جديد نسبيًّا؛ فإن إشكالية الدين والعلمانية هي إشكالية قديمة قِدم الحضور اإلنساين يف
التاريخ ،ذلك الحضور الذي استلزم تشكل الظاهرة الدينية (أي دين ،وبأي درجة) يف املجال الدنيوي ،الذي هو -ابتداء- ّ وتجذر هذه اإلشكالية يف التاريخ التمظهر العلماين يف الواقع. ال يعني أنها كانت -يف كل املراحل التاريخية -موجودة عىل
هذا النحو الذي بدت -وتبدو -فيه اآلن ،إنما املقصود أن هناك توجّ ًها ملعنى متجاوز للوجود املادي /الواقعي /الدنيوي ،يصدر
معان أو أفكار ،تتماس -بالضرورة ،وبشكل عنه تصورات أو ٍ أو بآخر -مع هذا الوجود املادي ،الذي ستؤثر هذه األفكار والتصورات -أو تحاول التأثري -فيه ،وسيتأثر بها ال محالة؛
بصرف النظر عن درجة هذا التأثري.
تحوالت املعنى تاريخيًّا وجغرافيًّا
ال يتسع املجال هنا لبحث «ماهية الدين» من حيث
كل الذين انخرطوا في الصراع الديني- العلماني ،إنما يعتقدون بـ«نوع من الدين» ضد «نوع من العلمانية»، أو العكس .وال يمكن بحال أن يكون صراع «كل أنماط التدين» مع الصراع َ ُ
«كل أنماط التعلمن»
املاورايئ .ويف السياق نفسه ،كان هناك من يرى الدنيا /الوجود
املادي مجرد محطة عابرة يف سفر طويل يتغيا «مقصدً ا نهائيًّا» هو أسمى وأبقى ،ويف املقابل ،هناك من يراها هي املقصد ًّ وهشا؛ سرعان ما النهايئ املشهود ،حتى لو كانت وجودًا عاب ًرا
يضمحل ويتالىش. لمَ َ ال يعني وضعنا هذه الثنائيات التي ترتد إىل عا ني مُ َتمايزين ،أو شبه متمايزين يف حالة َت َقابل اختاليف ،أنها كانت
هو «دين» ،وال بحث أصل التصور «العلماين» ،وتحوالت
-بالضرورة -محكومة بعالقات صراعية .بل عىل العكس ،كان
-كما تتجىل يف أطوارها التاريخية -بواسطة هذه اإلشارات
سيد املوقف؛ حتى إن كان الجدل النظري ربما أخذ كل طرف
املعنى فيه تاريخيًّا وجغرافيًّا .لكن ،نأمل أن تتضح الصورة املقتضبة إىل تمظهرات الديني ،يف مقابل الحضور املادي/
التداخل والتعاضد ،بل تبادل األدوار يف بعض األحيان ،هو من أطراف هذه الثنائية إىل مداه األقىص يف االنفصال والتمايز، بل التضاد واالحرتاب ،ولو ِس ْلميًّا عىل مستوى :فضول الكالم.
الواقعي /الدنيوي .فمنذ ال ِقدم كانت هناك ثنائية :السماء واألرض ،اآلخرة والدنيا ،الله واإلنسان ،النقل والعقل،
عمومً ا ،وأيًّا كان األمر ،فال بد من إيضاح أن هذا التقابل
ثنائيات حاضرة منذ فجر التاريخ ،متقابلة منذ فجر التاريخ،
العامة لظاهرة الدين من ناحية ،واملالمح العامة للعلمانية من
الغيب والشهادة ،رجال الدين ،ورجال السياسة...إلخ ،وهذه حاضرة عىل مستوى التصورات النظرية ،كما هي حاضرة عىل مستوى املمارسات العملية ،فدائمً ا ،ويف كل مكان تقريبًا،
كان هناك من ينظر إىل السماء ليتجاوز عالم األرض ،أو من يرتبط باألرض ،بالوجود الطبيعي املباشر ،متجاهلاً الالمريئ/
يكشف عن «نسبية التمايز»؛ بقدر ما يكشف عن املالمح ناحية أخرى .وبالتايل ،يتضح أن مناقشة حالة« :التدين» ،ال تنفصل -فهمً ا -عن مناقشة حالة« :ال َّتعَ ْلمن» ،وأن استحضار أحدهما؛ يستلزم استحضار اآلخر بداهة .وهذا ي ّ َدُل -أول داللة -عىل أن العلمانية بمجرد وعيها بذاتها /بهويتها ،فإنما
23
الملف
تمارس االعرتاف بحضور «الديني» يف الواقع ،كما أن الدين بمجرد وعيه بذاته /هويته إنما يعرتف بحضور
«العلماين» يف الواقع ،فهو دين ،مقابل ما ليس بدين،
أو ما ال يحكمه الدين .فال يمكن -والحال كذلك -أن ً معرتفا بالطرف يعرتف أحدهما بنفسه؛ إال يف حال كونه
24
اآلخر /املقابل.
لكن ،يف هذا السياق يجب التأكيد عىل حقيقة
أن «العلمانية» وما يلحق بها من أطراف تلك الثنائية،
ليست فكرة قارّة /مُ ستقرة؛ حتى يمكن ربطها بمعنى قارّ /مُ ستقر .وكذلك «الدين» من حيث هو دين .واملقصود أن العلمانية كفكرة /كتصور /ك َتوجّ ه ،ليست هي ذاتها
يف كل مراحل التاريخ ،ويف كل فضاءات الجغرافيا .هي وأيضا ،متنوعة؛ ً ً وفقا للثقافة التي متطورة ،ومتغرية،
تتموضع فيها .حتى العلمانية يف صورتها املتأخرة (يف القرنني )20/19 :ليست يف سياق واحد ينتظمها ،كما أن
التدين» مع «كل أنماط ال َّتعلمن»؛ ليس فقط ألن تصور هذا الديني أو ذاك العلماين يختلف يف الدرجة ،ويف النوع ،وإنما ً أيضا -لحتمية التفاعل بني نمطني من التصور ،كل منها يريداالستيالء عىل أكرب قدر من الهيمنة املشروعة عىل الشأن العام. يؤكد «التوجه العلماين» بكل تنويعاته عىل مركزية العقل
اإلنساين يف تدبري املجال الدنيوي .ويف املقابل ،يؤكد «التوجه الديني» عىل دور النقل (كمرجعية ُكلية شمولية مستقلة ،أو نسبية؛ باعتماد «املنقول» مصدر إلهام وتوجيه عام) يف تدبري املجال الدنيوي؛ عىل اعتبار أن هذا املجال ليس مجرد َف ْ ص ٍل يف مسرحية أكرب ،ليس مجرد رقم يف معادلة أشمل ،يؤثر فيها،
التشكل السياسي ومهمة إدارة الشأن العام إن أي تشكل سياسي مؤسساتي إنما يأخذ على نفسه
العلمانية الفرنسية ،ليست هي -طبق األصل -العلمانية األمريكية أو الربيطانية ،فضلاً عن العلمانية الشيوعية
مهمة إدارة الشأن العام ،أو اإلسهام في ذلك .وال ريب أن
ً موقفا موحدً ا من الدين؛ إذ العلمانيات ال تتخذ
حيث تجليه في ممارسات المؤسسة الدينية ،هو جزء من
التي كانت سائدة يف االتحاد السوفييتي.
الدين ،من حيث تجليه في الممارسات الفردية ،أو من
بقدر اختالفها يف تصور العلمانية ،يختلف موقفها من
هذا الشأن العام .وال يمكن ألي فعالية سياسية أن تتجاهل
فهمه /تصوّره ،هو ما يحدد املوقف من العلمانية ،أو من
وتزداد صعوبة التجاهل؛ كلما كان الدين أكثر تأثيرًا وأبلغ
الدين أو عالقتها بالدين .كذلك طبيعة الدين ،من حيث
الديني؛ من حيث هي مَ عنيّة بتدبير فضاء يتضمن الديني.
العلمانيات (فـ«دين ما» ،قد يتصالح مع «علمانية ما»،
حضورًا ،سواء من حيث عدد األتباع ،أو من حيث نوعية ال ّتدين .حتى تلك الممارسات السياسية المتعلمنة التي
بـ«نوع من الدين» ضد «نوع من العلمانية» ،أو العكس. َ ُ صراع «كل أنماط الصراع وال يمكن بحال أن يكون
أضراره الفضاء المدني العام ،هي تتداخل مع الفضاء
ويخاصم أخرى يف الوقت نفسه) .وال ريب أن كل الذين انخرطوا يف الصراع الديني - العلماين ،إنما يعتقدون
تحاول كبح جماح السلوك الديني المتطرف الذي تطال
العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
بقدر ما تؤثر فيه .ومن هنا ،ال يستطيع الديني /النقيل تصوّر اً معزول عن تنظيم /تدبري هذا املجال الدنيوي؛ إال بأن نفسه
يفصل الخالص األخروي عن كل صور املمارسات الدنيوية، وهذا -يف بدهيات التصور الديني -من ضروب املُحال. العقل اإلنساين منتج واقعي
ليست مشكلة االتصال /التداخل بني هذين العاملني:
الديني والدنيوي محصورة يف تصور املتدين التقليدي عن حدود
الفاعلية الدينية ،فـ«العقل اإلنساين» الذي يُراد له -يف التصور العلماين -االستقالل بتدبري الشأن العام ،هو منتج واقعي بصورة ما ،هو أداة محدودة بحدود العالقة بني الطبيعة
واإلنسان .وهنا ال يجوز لنا أن ننىس أن الدين جزء من مكونات
هذا الواقع الذي يصنعه اإلنسان من خالل الطبيعة ،أو تصنعه
الطبيعة من خالل اإلنسان .ومن حيث هو كذلك ،فحتمً ا ،يف العقل من الديني؛ بمقدار ما فيه من الطبيعي /املادي ،ومن اإلنساين /الفطري.
إن تصور العالقة -يف تفاعلها ،ويف تمايزها -عىل هذا النحو النسبي /امللتبس /املتداخل من شأنه أن ي ّ ُخفف من حدة املوقف الديني من العلمانية التي تتغيا تحييد االختالف
الديني يف املؤسسات العمومية ،كما من شأنه أن يخفف من حدة املوقف العلماين من الدين .فحتى أولئك الذين يريدون
التخفيف من الصرامة العلمانية بجعلها محددة يف« :فصل الدين عن الدولة» ،وليس «فصل الدين عن الحياة /عن الفضاء العمومي» ،ال يستطيعون تحقيق ذلك بصورة قاطعةُ ،تنهي
يؤكد «التوجه العلماني» -بكل تنويعاته -على مركزية العقل اإلنساني في تدبير المجال الدنيوي. وفي المقابل ،يؤكد «التوجه الديني» على دور النقل (كمرجعية ُكلية شمولية مستقلة ،أو نسبية؛ باعتماد «المنقول» مصدر إلهام وتوجيه عام) في تدبير المجال الدنيوي الجدل حول املحاور التفاعلية ،عىل الرغم من أن ما قدموه يُعَ دّ من أفضل ما يقال يف هذا السياق.
هل يمكن فصل الدين عن الدولة بصورة قاطعة؟ بل هل
يمكن فصل املؤسسات العمومية الدنيوية عن الدين بصورة قاطعة ً أيضا؟ نعم ،الفصل -من حيث املبدأ العلماين املجرد نظريًّا -هدف منشود .فاملراد تحييد املؤسسات العمومية؛ إن لم يكن من املمكن تحييد الدولة كلها ككيان .لكن صعوبة هذا
الهدف ال تعني التخيل عنه ،كما ال تعني أن تحققه -بمستوى
ما -ليس يف صالح املجال الديني أو الدنيوي .صحيح أن بعض ّ محل التفاصيل ستبقى -بحكم التداخل /التفاعل بني املجالني- ّ وتوتر وشدّ وجذب ال ينتهي .لكن كل العلمانيات تجتهد جدل
يف تحقيق الفصل بني الخطوط العريضة للديني والخطوط اً مجال العريضة للمدين ،وتبقى التفاصيل -وستبقى أبدً ا- لتجاذب الرؤى وصراع اإلرادات.
الديني الخاص؛ بحكم اضطرارها لفهم الحالة الدينية -بكل ما يستلزمه الفهم من تواصل واشتباك -وتوجيهها بما يكفل تراجع خطرها عن المجتمع ككل -بكل ما يستلزمه التوجيه من تفاعل وتعاضد -حتى يتحقق الحد األدنى من السالمً . أيضا، ّ ّ تشكل سياسي بالضرورة ،سواء َعمِ َل بالسياسة على تشكل ديني مؤسساتي ،أو حتى شبه مؤسساتي هو في المقابل ،أي
نحو مباشر ،أو اكتفى بالتأثير في خيارات الناخبين ،أو عمل كقوة ضغط على الجماهير ولو من بعيد .الدين لم يكن -ولن يكون -خارج سياق الفاعلية السياسية؛ ألن الدين له فاعلية -تختلف ً نوعا أو َكمّ ا -في الشأن المدني العام .حتى عندما يكون
ً خالصا؛ فله -حتمً ا -تمظهرات عامة /غير فرديةُ ،تمليها الواجبات الدينية ،وال يمكن تجاهلها؛ ألن للدين الدين روحانيًّا حُ كمً ا ً نافذا على أتباعه ،يفعلون -طواعية ،وإن بإكراه ديني -ما يمليه عليهم ،وإال أصبحوا غير مؤمنين أو غير كاملي اإليمان. وفي األخير ،نؤكد على أهم محاور التواصل الديني -العلماني ،وهو أن االتجاه /التوجه العلماني ذاته -كحراك فكري
وعملي -يُعيد بالضرورة تأويل الدين ،ومن ثم صياغته ،في الفضاء الذي يشتغل عليه ،كما أن «التعلمن» في بيئة ما ،ال
يستطيع االستقالل بهويته العلمانية عن الحالة الدينية السائدة ،التي تفرض تأثيرها (ولو بردة الفعل المضادة) تبعً ا لدرجة
نفوذها .والمحصلة من وراء كل ذلك ،أن العلمانية من حيث هي ضرورة لتحقيق العدالة في تصورها الحديث ،مرتبطة بالدين الذي تقابله ،وتتفاعل مع مُ تعيّناته في الواقع .وكما أن لكل مجتمع دي ًنا أو مجموعة أديان ُت ّ ؤطره ثقافيًّا ،فكذلك لكل مجتمع علمانيته أو علمانياته الخاصة التي ُتقابل دينه /أديانه .ما يعني أن العلمانية ُتصنع تفاعليًّا ،وأن «علمانية ناجزة» ال محل لها من اإلعراب في الزمن الليبرالي الذي يحتضن المتنوع ،وينبذ -في الوقت نفسه -كل الشموليات التي تحاول إلغاء
كل األصوات لصالح الصوت الواحد الذي يدعي امتالك الحقيقة في كل مجال ،وفي كل األحوال.
25
الملف
العلمانية اإلسالمي وضد الدين مع ّ ّ سامية بن عكوش
باحثة جزائرية
لنعلنها من دون مواربة منذ البداية :باتت العلمانية خيارًا ملحًّ ا لوضع حد للصراعات واإلسالميّ . وإننا بهذه المصارحة سنقف الطائفية والمذهبية التي يشهدها العالمان العربي ّ في مواجهة خطرة لمخاوف ومغالطات من قبيل :من ُ يدع إلى تطبيق العلمانية فهو ملحد،
26
اإلسالمي ،اإلسالم دين ودولة ،والعلمانية إذ تفصل الدين عن العلمانية اعتداء على الدين ّ الدولة فهي تعتدي على حدودهّ .. بعض في وجه ّ ٌ كل من يرى في كلها ُتهم جاهزة يقذفها ّ الحل إلخماد نيران الحروب الطائفية والدينية التي يشهدها الوطن العربي. العلمانية
العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
إنّ هذه املخاوف غذتها تجربة العلمانية يف الساحة العربية
التي كانت أيديولوجية حسب برهان غليون ،أي وقفت يف عداء
دائم للدين فتحولت إىل عقيدة ثابتة ،أو لنقل :تحوّلت إىل دين ً اإلسالمي األقرب إىل الحقا .وملا كان التيار يف االتجاه املعاكس ّ عامة الناس يف املجتمعات العربية؛ فإنّ الصورة املخيفة حول العلمانية قد ترسّ خت يف الالوعي الجمعي ،فأنتجت سلو ًكا ً نابذا العلماين .إذن وضعية العلمانية يف الوطن ملجرد مناقشة الطرح ّ العربي هي صورة مشوّهة ،وكليشيهات جاهزة ،ومغالطات ّ العلماين الطرفني، كال من التفكري يف التطرف أنتجها فكرية، ّ
يفسر عنونة مقالنا بـ« العلمانية مع وضدّ واإلسالمي ،وهو ما ّ ّ ّ اإلسالمي» .فمع تدل عىل املمكن املشرتك بني العلمانية الدين ّ ّ اإلسالمي .وضدّ تدل عىل سلب املمكن ،وإرساء جدار والدين ّ
اإلسالمي /العلمانية. املعارضة :الدين ّ
أفضل طريقة لتبديد المخاوف ،هي يم مواجهتها ،بأن نلقي عقولنا في ّ المخاوف التي ترسخت في عقول عموم الشعوب العربية ،بل حتى في أوساط المثقفين المحسوبين على اإلسالمي حول تعارض العلمانية التيار ّ اإلسالمي ،بل خطورة مع الدين ّ
العلمانية على اإلسالم والمسلمين مفاهيم حية
إنّ املفاهيم الفكرية مثلها مثل الكائنات الحية كما يقول
إنّ أفضل طريقة لتبديد املخاوف ،هي مواجهتها ،بأن
الفيلسوف الفرنيس جيل دولوز .فقد ترتحل من مكان إىل آخر. وقد تنمو يف األماكن الجديدة التي ترتحل إليها ،أو تموت؛ ً وفقا
اإلسالمي، اإلسالمي حول :تعارض العلمانية مع الدين التيار ّ ّ بل خطورة العلمانية عىل اإلسالم واملسلمني .فما صحة هذه
العربي العلمانية ،كتنظري بني املفاهيم التي ارتحلت إىل الفكر ّ وممارسة سياسية .أما التنظري فنجد كثريًا من املفكرين العرب
نلقي عقولنا يف يمّ املخاوف التي ترسخت يف عقول عموم
الشعوب العربية ،بل حتى يف أوساط املثقفني املحسوبني عىل
املخاوف؟ وإذا كانت العلمانية تنبني عىل مبدأ حرية املعتقد
األسايس؟ تعدّ وحرية الفرد ،فهل اإلسالم يعارض هذا املبدأ ّ العلمانية من أهمّ املفاهيم التي أنتجتها الحداثة الغربية الغربي .وتعني يف معناها املتداول فصل الدين وحركة التنوير ّ عن الدولة .كما تعني ً أيضا عدم إجبار الدولة أو الحكومة
ديني .فالفرد حر يف ديني أو غري أليّ أحد عىل معتقد معينّ ، ّ ّ اعتناق أيّ دين .أما الدولة فال دين لها .لك ّنها تحمي يف الوقت دينيّ . نفسه حرية ّ حلت إذن فلسفي أو ال كل معتقد ديني أو ّ ّ
ّ محل صكوك الغفران الكنسية. التشريعات القانونية الوضعية
فأصبحت الشرعية دنيوية يف هذا الشكل الجديد من االجتماع البشريّ ،بدل الشرعية السماوية السابقة .فانبثقت العلمانية الالهويت .وقد ملّح فيورباخ إىل للديني أو أو الدنيوية كمقابل ّ ّ هذا املعنى يف قوله« :علينا أن نو ّزع الكنوز السماوية يف األرض». وقد ارتبطت العلمانية وظيفيًّا بشبكة مفاهيم ،انبثقت من
العلماين؛ أال شكل االجتماع الجديد للغرب الحدايث التنويريّ ّ ّ وهي :الديمقراطية ،واملجتمع املدين ،واملساواة بني الجنسني، وتعب هذه الشبكة املفهومية السلمي للسلطة ...إلخ. والتداول رّ ّ
عن انتقال الغرب من وضعية الدول الدينية إىل وضعية دول مواطنيها .ومع أنّ الدول الغربية علمانية؛ إال ّأنها أكرث الدول
التي تنشط فيها الجمعيات الدينية يف مجال العمل الخرييّ ، وبخاصة املسيحية .فالدول الغربية ال دينية داخل مؤسسات
الدولة وأجهزتها املختلفة؛ لكنها تفتح مساحات واسعة لحرية ممارسة الشعائر الدينية واملعتقدات.
لتوافر الشروط املوضوعية لنموها وتكاثرها أو عدم توافرها .ومن
منذ العصر الحديث ،كتبوا عن العلمانية ،وعدّ وها الشكل
السيايس األنسب للدول العربية للدخول يف طور الحداثة ّ الفكرية والسياسية. أما عىل مستوى املمارسة السياسية ،فقد ارتبط معظم
العلمانيني العرب بالسلطة السياسية .ومن ثم حرصوا عىل
مصالحهم أكرث من حرصهم عىل تثقيف الشعوب العربية وزيادة اإلسالمي، وعيها والدفاع عن الحريات .وأبان هؤالء عداوة للتيار ّ
وكثريًا ما يبطن موقفهم عداوة للدين .وعىل الطرف النقيض
اإلسالمي لعقود عىل مستوى الطبقات الفقرية اشتغل التيار ّ ّ اإلسالمي يف املجتمع العربي ،مثلما كان األمر بالنسبة للتيار ّ
يف مصر الذي قدّم املساعدات الغذائية والصحية للفقراء. ّ سيايس كحل الشعبي .وقدّ م نفسه فاستطاع كسب التعاطف ّ ّ ّ وإلهي يف الوقت نفسه ،لكل أزمات مصر .وهي اإلسرتاتيجية ّ ذاتها التي ّاتبعتها التيارات اإلسالمية يف ّ كل البلدان العربية.
اإلسالمي يف االنتخابات العربية بعد موجة والنتيجة :فوز التيار ّ
العربي .وعىل الطرف النقيض نشأت هوة كبرية ما يسمى الربيع ّ
بني العلمانيني وعامة الناس يف املجتمعات العربية .فاألغلبية الساحقة من الشعوب العربية ترفض العلمانية ،وتعدها ويفسر الدكتور برهان غليون اإلسالمي. اعتداءً عىل حرمة الدين ّ ّ سبب نشوء الهوة بني العلمانيني العرب والشعوب العربية،
أنّ العلمانيني العرب لم ينشغلوا بتحديث الشعوب العربية السيايس؛ بل الدين ً أيضا. وتطويرها .واكتفوا بمعاداة اإلسالم ّ وقد تحوّلت العلمانية حسبه بثبات هؤالء عىل آرائهم املتصلبة
27
الملف إزاء الدين ،إىل أيديولوجيا وعقيدة ثابتة .وقد حرص هؤالء
عىل الدفاع عن مصالحهم املرتبطة بالسلطة السياسية.
فصادروا واجب التحديث والتحرير للشعوب يف مقابل الحفاظ عىل امتيازاتهم ومصالحهم الفئوية .ويصدق ما قاله برهان غليون عىل التيار العلماين الجزائريّ الذي رحّ ب
بتوقيف مسار االنتخابات يف تسعينيات القرن املايض بعد فوز الجبهة اإلسالمية لإلنقاذ .كما يصدق ً أيضا عىل معظم العلمانيني املصريني الذين وقفوا يف ّ صف املطالبني بتنحية
الرئيس محمد مريس.
إنّ معظم الكليشيهات السلبية عن العلمانية،
ناجمة عن مواقف هؤالء أمام األحداث السياسية املهمة
العربي .وإنّ هذه املمارسات ناجمة التي م ّر بها العالم ّ ً أو اًّل عن استرياد مفهوم العلمانية مجتزأ ومشوَّهً ا عما هو
عليه عند الغرب .كما ّأنه ناجم عن تغليبهم للمصلحة
املجتمعي التوعويّ .فبدل أن الفئوية عىل حساب املشروع ّ يتبنوا مشروع حرية األديان واألفراد واملجتمعات كما هي
العلمانية يف نسختها األصلية لدى الغرب؛ فإن العلمانية
28
يف نسختها العربية املشوّهة اختزلت إىل علمانية ملحدة يف كثري من األحيان .وهذا التشويه الالحق بها هو جزء من تشويه شامل ّ لكل ما نستورده من منظومات مفهومية من
الغرب .ويحتاج األمر إىل دراسات وافية عن أشكال التشويه
أو غري املسلم .وما تفعله داعش يف العراق وسوريا مثال لإلكراه ّ ٌ الحل اإلسالمي .فما بعض خطأً ّأنه جوهر الدين الذي يعتقد ّ
ّ لكل هذه املعضالت التي أغرقت املجتمعات العربية يف النفاق الطائفي؟ الديني والعنف ّ ّ
يقول املفكر محمد شحرور :إن اإليمان مسألة غيبية ،ال تستطيع الدولة ّ بكل أجهزتها قياسها أو إثباتها أو نقضها .ومن
ثم يقرتح رفع رقابة أجهزة الدولة عن املسلم .فتكون العلمانية حسب املفكر محمد شحرور حلاًّ لألوضاع العربية .ويرى أنّ
األسايس لإلسالم هو تحقيق القيم اإلنسانية .وهي قيم املقصد ّ
واالختزال التي تلحق املفاهيم التي نستوردها من الغرب. فهل يقودنا هذا التشويه إىل حتمية التخليّ عن
دولة علمانية تجيز شهادة الزور ،أو السرقة ،أو االعتداء عىل
العربي؟ إنّ التشويه الالحق بالعلمانية يف نسختها العالم ّ العربية ،يجعل بناء األحكام حول عالقة العلمانية بالدين
تلتقي العلمانية املمجدة لقيم األمانة والعدالة واالحرتام املتبادل ّ اإلسالمي وكل األديان .ويؤ ّكد الداعية واملفكر مع قيم اإلسالم ّ
حقيقي. هو ّ
العربي ،وبخاصة إخماد فتيل الحرب الطائفية يف الشرق ّ األوسط؛ لك ّنه يف الوقت نفسه يعارض العلمانية امللحدة التي
العلماين بوصفه حلاًّ للحروب الدينية والطائفية يف الطرح ّ
ً نوعا من التشويه املضاعف .فما هو واقع ال يعني دومً ا ما
إكراه املسلم
إنّ إكراه املسلم عىل أداء العبادات يؤدي إىل نتيجتني: ً ً منافقا يف كثري من األحيان. شخصا أوالهما يخلق اإلكراه فقد يؤدي ّ كل الشعائر للتظاهر أمام اآلخرين ،وإلبعاد
عليا ال تخلو منها دساتري حتى الدول العلمانية :فال نجد حسبه الغري .فهذه األفعال مح ّرمة دينيًّا وأخالقيًّا وقانونيًّا .ومن ثم
ّ الحل األنسب ملعضالت العالم عدنان إبراهيم أنّ العلمانية هي
تتحوّل إىل فلسفة ورؤية إلحادية للوجود.
نتوصل مما سبق أنّ العلمانية يف نسختها األصلية غري
اإلسالمي كما ورد يف القرآن املشوّهة ،ال تتنافى مع جوهر الدين ّ الكريمّ . وأنها تتقاطع مع كثري من املبادئ اإلسالمية الواردة يف
عبء النبذ االجتماعي؛ لكن الشخص نفسه قد يسرق
القرآن الكريم ،من حرية الفرد ،وحرية املعتقد ،وحرية ممارسة وحق الوجود ّ ّ لكل األديان واملعتقدات .وإنّ هذا الشعائر الدينية،
الدينية كوسيلة ال غاية يف حدّ ذاتها .ثانيتهما :يخلق
العربي ،شريطة أن تكون لعالج املعضالت الدينية يف العالم ّ حامية لألديان وراعية للقيم اإلنسانية .أو لنقل :تكون علمانية
ويكذب ويحقد وينمّ ،ويقذف املحصنات ،ويهدر الوقت، ّ وجل فرض الشعائر وال يتقن العمل .مع أن الله عز
اإلكراه ما يسمى بوصاية املسلم عىل باقي البشر ،فما
ديني ،يعيد إنتاجه مع اآلخر املسلم يمارس عليه من إكراه ّ
اإلنساين املشرتك يقودنا إىل عدّ العلمانية هي أنجع الحلول األفق ّ
الديني ومع القيم الدينية اإلنسانية. ضدّ اإلكراه ّ
العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
الملف
هل العالم العربي قادر على جعل «العلمانية هي الحل»؟ موسى برهومة
كاتب وأكاديمي أردني
يستعيد سؤال لماذا نجحت العلمانية في أوربا والعالم المتقدم ،وأخفقت عربيًّا،
أصداءَ السؤال الذي حاول اإلجابة عنه المفكر اإلصالحي العروبي شكيب أرسالن في كتابه« :لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟»؛ إذ يطرح أرسالن في كتابه الذي
صدر عام 1939م مجموعة أسباب لتأخر المسلمين تتمثل في «الجهل ،والعلم الناقص، وفساد األخالق ،والجُ بن ،ونسيان ماضيهم المجيد» ،وكذلك «اليأس والقنوط من التقدم
والنهوض واالنتصار».
29
الملف ويتطرق أرسالن امللقب بـ«أمري البيان» إىل عدم تعارض
البوذية مع نهضة اليابان ،وعدم تناقض املسيحية مع تطور أوربا ،الف ًتا إىل أنّ املعضلة ليست يف األديان ،إنما يف «عقول الناس» مؤكدًا قدرة اإلسالم عىل إنشاء «مدنيّة متطورة» .وما بني سؤال أرسالن ،الذي سبقه مفكرون
كثريون إىل معاينة أسباب تقهقر املسلمني ،وبني اللحظة الراهنة امللتبسة التي اشتجر فيها الدين مع السياسة
فتفجّ رت التناقضات حتى تحولت إىل حروب مذهبية،
ثمة أسئلة ال تزال تنهض ولو من تحت رماد الحرائق :هل
هناك أفق لنهضة عربية إسالمية بشروط مدنيّة تحرتم العقل ،وتنهض عىل تأسيساته ،وتعمل ً وفقا لرهاناته؟ ٌ سؤال آخر :هل العقل العربي مهيّأ الستقبال ويستتبع ذلك ّ التفكري العقالين واحتضانه ،أم أنه ،وحسب ،عقل «بياين»
و«عرفاين» بتعبري محمد عابد الجابري ،وبالتايل غري قادر عىل إنتاج املعرفة العقالنية ،كما يفعل العقل «الربهاين»، الذي يعمل يف ضوء الديناميات الثقافية والفكرية ،ويستمد
معرفته من االستدالل االستنتاجي ،وعالم املعرفة الفلسفية
30
العلمية ،حيث التعويل عىل طرائق التفكري ،وليس عىل
التفكري نفسه؟
ويُفيض هذا التشخيص آلليات عمل العقل العربي
متعسفة، إىل مجموعة من االستنتاجات التي قد تبدو، ّ للوهلة األوىل؛ ألنّ العقل ال يعرتف ،بالضرورة ،بشروط
الجغرافيا ،وال يمتثل إلكراهات العوامل الجينية .هذا عىل ً متوافقا مع شروط التحليل ،لكن املستوى املنطقي يبدو يتعني عدم إغفال ما يقرتحه علم االجتماع الذي يرى أنّ
العملية املعرفية تنشأ بالتعلم ال بالوراثة ،إذ إنّ للثقافة
لعل الدرب إلى توطين العلمانية في بيئة النظام السياسي العربي ليس مهمة مستحيلة، لكنها تحتاج إلى تضحيات كبيرة، متقدم وإلى فهم سياسي ّ لدى السلطات العربية يقضي بتقديم «تنازالت» لمصلحة سريان أفكار العلمانية وشق الدروب والقنوات لسيالنها من دون أية عوائق
جانبني أحدهما مضمر؛ وهو املعتقدات والقيم والعادات التي ّ تشكل املضمون الجوهري للثقافة ،واآلخر هو األشياء والرموز
تجسد ذلك املضمون .وبصفتنا أعضاء يف وأشكال التقانة التي ّ
مجمع الثقافة العربية اإلسالمية ،ننهل من معينه ،فإنّ ممارسة االختالف يف التفكري ال تحظى بـ«مباركة» من السلطات السياسية والدينية واالجتماعية ،ما أنتج يف العموم جملة من اليقينيات التي
تواطأ فيها العقل الجمعي مع تلك السلطات من أجل «التوافق» عىل رواية عامة ملختلف التصوّرات واألسئلة املتصلة بالحكم وإدارة الدولة واالقتصاد وحركية األفراد ،وكذلك ما له صلة بامليتافيزيقا
من حيث محاولة االقرتاب من فكرة اإلله وديناميات عمله. كائنات دينية
العلمانية انبثقت كخالص يف لحظة انسداد اآلفاق ،ويف
غمرة هيمنة التصوّرات الدينية املتطرفة التي ال صلة لها باإلسالم
الحقيقي ،التي غمرت األرجاء ،وحوّلت الناس إىل «كائنات دينية»، يف ظل تواطؤات مع السلطة السياسية التي منحت هيئة الفتوى صفة
«املقدّس» فأغلقت باب التفكري النقدي .االنسداد وصل اآلن إىل ذروته، وتضاءل األمل بعد أن غمرت األفكار السلفية املتطرفة كل يشء،
وبعد أن أدركت السلطات السياسية العربية أنّ التصورات الدينية التي اعتمدتها بصفتها ملجأً ً ومالذا قد ورّطتها يف أزمات ال حصر لها، وأضحت أحد أكرب مصادر التهديد لكياناتها ،وصار االنفكاك من تلك
الهيمنة املستشرية هو املشتهى ،ولكن كيف ،وبأية أدوات؟
هل نذهب مع املتحمسني ،ونقول :إنّ «العلمانية هي الحل»
بعد سقوط خطاب الجماعات الدينية التي أفرزت الحلول الجهادية وقدمت املسلمني بوصفهم غزاة جددًا للحضارة والتمدن وللعلم
والحداثة؟ وإذا كانت «العلمانية هي الحل» فأية علمانية ستكون، وكيف يمكن «تبْيئة» خطابها يف تربة األرض العربية التي لطاملا جاهرت بالعداء لها ،وقلبت لها ظهر املجنّ ؟ ينبغي اإلقرار بأنّ
العلمانية لم تخترب عربيًّا يف أيّ من األقطار املمتدة من املاء إىل
الصحراء .جرى اختبارها يف بلدان إسالمية (تركيا ،وإندونيسيا،
وماليزيا) وشهدت نجاحات الفتة ،وكانت عالمة عىل نهضة سياسية واقتصادية ،ولم ُترق أية قطرة دم يف النزاع بني الدين
والسياسة ،وجرت املؤاخاة بينهما ،ولم ي َ ُفصل األول عن فضاء الدولة وروحها ،لكن جرى وضع ترسيمات لضمان عدم فيضان أحد الركنني عىل اآلخر .ولعل الدرب إىل توطني العلمانية يف بيئة
النظام السيايس العربي ليس مهمة مستحيلة ،لكنها تحتاج إىل تضحيات كبرية ،وإىل فهم سيايس متقدّم لدى السلطات العربية
يقيض بتقديم «تنازالت» ملصلحة سريان أفكار العلمانية وشق
الدروب والقنوات لسيالنها من دون أية عوائق ،إذا كانت تلك السلطات ترتجي التم ّدن الحقيقي والنهضة الحقيقية واالستقرار
الحقيقي واالستقالل الحقيقي واملزاحمة الحقيقية يف عالم السياسة العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
واالقتصاد والرفاه االجتماعي والتقدم العلمي. فك االشتباك مع املقدس
ولنئ كانت التصورات القديمة تعطف العلمانية عىل اإللحاد
والكفر والزندقة ،وتراها بمنظار السوء وتهديم املجتمعات وشقائها وانحاللها األخالقي ،فإنّ ذلك يستدعي كشف هزاله
ال يتعني القبول بأن تدار الدولة املدنية بمرجعيات دينية شمولية،
بما يحولها إىل دولة «ثيوقراطية» يسيطر عليها الكهنوت .وتحفظ
العلمانية حق األفراد يف التعبري عن آرائهم ومعتقداتهم من دون تهديد أو فرض وصاية ،وهذا القانون مشتمل يف النص القرآين﴿ :الَ ين﴾؛ ألنّ التدخل يف معتقدات اآلخرين ،وعدم إفساح إِ ْك َرا َه فيِ ال ِّد ِ املجال أمامهم ملمارسة الحقوق السياسية واملدنية بعيدًا من تدخل
وتهافته ،فالعلمانية األوربية كانت محرك النهضة األول ،وقادح
الدولة ،يسفر عن استبداد وطغيان وانهدام الحرية .لقد نشأت يف
استطرادًا ،ليست كلها «علمانية صلبة» تدعو إىل تحرير الفرد
الحروب التي عصفت وال تزال ببلداننا بني املسلمني واملسيحيني،
شعلة التمدن وانفجارات العقل يف مختلف امليادين .والعلمانية، من أغالل امليتافيزيقا ،وإىل إقصاء الدين ،ومنعه من التدخل يف
أوربا حروب طائفية ومذهبية بني الربوتستانت والكاثوليك ،تشبه
واآلن بني السنة والشيعة ،وكل طرف يزعم أنه يملك الحقيقة
الشؤون املدنية للدولة واألفراد ،فثمة «علمانية مرنة» أو «علمانية مؤمنة» ترنو إىل ّ فك االشتباك مع إشكالية املقدّس ،وترسم للدين
املطلق .وكما تعافت أوربا من هذا الوباء بعد آالم مربّحة ،فاختارت
ميدانه الحيوي ،بما يضمن حياد الدولة إزاء األديان .العلمانية،
أمام العرب واملسلمني يك يسلكوا الدرب ذاته ،فيجربوا الوصفة
والسياسة مسارات تحول من دون التداخل ،وتحفظ لكل حقل حتى تتنفس يف مجال حيوي نقي ومريح ،ويك تنمو وتزهر،
تحتاج إىل الديمقراطية والعدالة واملساواة وضمان الحريات
العامة .وبجوار هذه املقومات يمكن الحديث عن استقالل املؤسسة السياسية عن املؤسسة الدينية ،وبالتايل إضعاف (باملعنى اإليجابي) هيمنة الدين عىل املجتمع ،واإلقرار بضرورة الفصل بني السلطتني
الدينية املقدسة ،ويريد فرضها بالقوة عىل املجتمع ،بوصفه ممثل
الحل العلماين ومضت عقودًا وهي تشيّد بنيانه ،فإنّ املجال مفتوح
املدنية يف الحكم وإدارة الصراع ،وجعل الدين هاديًا للروح ،ومنقيًا
للنفس من الدرن والفساد ،وممارسة الشعائر املقدسة يف أماكنها التي يحفظها القانون ،ويؤمّن لكل املختلفني فضاءً للتعبري من دون ً ً مختلفا. مخالفا أو إقصاء أو دعوات الستئصال اآلخر بوصفه لقد كانت الدعوات املستمرة لتمدين الدين ،ودفعه نحو
الزمنية والروحية ،فما كان صالحً ا قبل ألف عام ال يصلح اآلن، وهذا ما ّ سلم به النبي الكريم صىل الله عليه وسلم« :أنتم أعلم
خيار الحكم الحصري بما قالت به الشريعة ،فإذا لم يتم التوافق
وثمة من يرى أنّ التشريعات املدنيّة تتعني أن تكون مستقاة ً افرتاضا بأنّ الشريعة ،أية شريعة ،تشتمل من الشريعة ،ألنّ هناك
الوسطى .ال بدً ، إذا ،من خلق ثقافة علمانية تبني سفينة النجاة من
بأمور دنياكم».
عىل الكماالت األخالقية املطلقة ،يف حني يرى إسبينوزا ،عىل سبيل
املثال ،أنّ قوانني العدل الطبيعية واإلخاء والحرية هي وحدها مصدر التشريع .وقد تتوافق قوانني العدل هذه مع قوانني الشريعة ،لكن
معركة بناء النموذج الحضاري للدولة ،تلقى صدودًا من قبل أنصار
عىل تمدين الدين ،والحيلولة دون طغيان النزعات املحمومة لتديني املدينة ،فإن التزمّت سيبقى سائدًا ،وسي َ ُحكم البشر بعقلية القرون
أمواج الجماعات اإلقصائية التي تسعى بحد السيف «املسلول» إىل أن تديّن املدينة ،وتحجّ بها ،وتربقعها ،اً نزول عىل مقتضيات األحكام السلطانية!
31
الملف
العلمانية في مقابل غياب خطاب نقد االستبداد
32
العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
قادري أحمد حيدر
باحث يمني
سؤال الدين والعلمانية يعكس أزمة بناء الدولة وتطور المجتمع في منطقتنا من أواخر
األربعينيات ،وبداية الخمسينيات والستينيات حتى اليوم ،ويتعلق بأزمة الفكر (األيديولوجية) وأزمة النظام /الدولة ،والعالقة فيما بينهما دالة على وحدتهما ،وتكاملهما في سياق الممارسة الواقعية،
كل منهما يشير إلى اآلخر ويقود إليه ،ويكمل تعريفه .العلمانية في الممارسة السياسية نجد لها بذورًا أولية مادية ،حاضرة وقائمة في العديد من تجارب الدول السياسية التاريخية الدينية (اليهودية والمسيحية واإلسالم) أي العلمانية كمجال للنشاط االقتصادي واإلنتاجي ،والعلمي ،والتنظيمي
واإلداري والمالي ،قبل أن تتخذ العلمانية تجلياتها المفهومية االصطالحية السائدة اليوم ،وهو ما ً اتفاقا مع الدكتور عبدالوهاب المسيري بالعلمانية الجزئية. يمكننا تسميته كانت الثورة الفرنسية عام 1789م هي النموذج السيايس
الصارخ والعنيف يف تعبري العلمانية السياسية عن نفسها كثورة
عنيفة يف مواجهة سلطة الكنيسة التي اشتبكت مع الثورة، ً طرفا فاعلاً وقويًّا يف الصراع ملواجهة قوى الثورة حني دخلت الفرنسية وضدها ،وهو ما وسم التحول السيايس واالجتماعي
للثورة بطابع ،الصراع الدموي والعنيف بعضهما ضد بعض...
ومن هنا الدعوة الصريحة والحادة لفصل السياسة عن الدين، ارتد ممارسة سلبية ليس فحسب ضد الكنيسة ،بل ضد الدين نفسه ،وهو ما ارتسم يف املخيال األيديولوجي والسيايس بأنه عداء العلمانية (الدين الجديد) ضد األديان ،وجرى تعميمه
عىل كل املسار السيايس للتجربة السياسية العلمانية يف بناء الدولة ،والعالقة بالدين ،مع أن هناك تجارب سياسية
إن جذر األزمة في عجز وفشل الفكرة العلمانية سواء على صعيد األحزاب واألفكار أو على مستوى بناء الدول هو غياب خطاب نقد االستبداد وتعميم حالة الفساد ،وعدم االعتراف باآلخر والقبول بحقه في أن يكون ما يريد ال ما نحن نريده له الحمولة السلبية للعلمانية
ويف تقديرنا لم تظهر الحمولة األيديولوجية والسياسية
السلبية يف منطقتنا تجاه العلمانية إال مع سقوط دولة
الخالفة العثمانية ،وتحديات الدولة الرتكية العلمانية القومية
للعلمانية يف سياق بناء الدولة الربجوازية (الرأسمالية) التي اً أشكال سلمية للعالقة بني الدولة والدين ويف صدارتها اعتمدت
العسكرية إلرث الدولة العثمانية يف بعدها الديني بصورة
الكنيسة ،ورم ًزا لها ،ولم يتجسد فيها البعد الصراعي العنيف
وقومية) وكان لنشأة وحضور الخطاب السيايس اإلسالمي عىل
التجربة الربيطانية التي تقف املؤسسة امللكية (امللك) عىل رأس يف العالقة بني املشروع السيايس لبناء الدولة والدين ،بل إن
مجلس اللوردات فيه مجموعة من القساوسة ،كما هناك
التجربة السياسية األمريكية التي تحمل عملتها الدوالر عبارة (نحن نثق باإلله) كرمز للحضور الديني يف أدق تفاصيل وجود
الدولة ،ويف أهم أشكال رمزيتها تعبريًا عن القوة والسيادة والسلطة (املال) ،ويف التجربة األملانية نشهد أحزابًا دينية
مسيحية تمارس حضورها الشرعي والتشريعي والسيايس،
حتى وصولها إىل قمة السلطة ،عىل قاعدة اعرتافها بالدستور واملساواة ،والقيم واملبادئ العليا للدولة.
اجتثاثية (تصفوية) ويف موقفها العدايئ ضد العروبة (لغة/ يد محمد رشيد رضا ،ومن بعده حسن البنا (اإلخوان املسلمون)
كحركة سياسية عام 1928م ،دور مركزي يف االشتغال عىل هذا البعد واملعنى ،وبخاصة بعد إسقاط محاولة تولية امللك
فؤاد خليفة للمسلمني ،وبعد الحرب العاملية الثانية وصعود الصراع األيديولوجي كعنوان للحرب الباردة ،تمظهر البعد
السيايس للعلمانية بوصفها شيوعية /وماركسية ،معادية للدين ،حيث جرى تهريب مصطلح العلمانية من حقله الداليل املعريف والواقعي ليدخل ً طرفا يف معادلة الصراع السيايس بني
الرأسمالية واالشرتاكية ،وساعدت خطايا التجربة االشرتاكية
33
الملف
(عرقي /قومي(إثني) ،االنتماء والوالء هما حصر لفكرة وقضية
(الستالينية) يف موقفها العدايئ من الدين يف الرتويج
الروابط الوطنية الداخلية ،أممية عاملية دينية مقابلة لجماعات
والسلبي للعلمانية.
األزمة السياسية التاريخية اليوم يف عالقة العديد من حركات
لتعميم هذا املعنى واملفهوم السيايس االستنكاري
التطرف اليساري املاركيس (األممية االشرتاكية) ،وهنا تكمن
لقد انعكست سلبًا تجربة العلمانية يف املمارسة
اإلسالم السيايس بالدولة ،والوطن والشعب ،ولم يتحرر من
عقيدة وضد الدين /األديان؛ مما أوجد حالة وعي
أعلنه حزب النهضة يف تونس وبعض الكتابات املحدودة لبعض
السياسية عىل تعريف وتأطري مفهوم العلمانية بوصفها مشوشة ومضطربة يف العقل السيايس اإلسالمي –أو لدى قطاع واسع منهم– بعد اختزالها واختصارها يف
تعريفات سياسية سالبة ال صلة حقيقية لها بجوهر مفهوم العلمانية .تحول مصطلح العلمانية يف خطاب حركات اإلسالم السيايس وحتى الرسمي العربي إىل تهمة تعادل الكفر ،واإللحاد ،واإلباحية ،والتحريض
عىل الخروج من األديان ،علمً ا أن التجربة الواقعية (املعاصرة) لنا كعرب أظهرت حالة من التداخل والتماهي
فوق العادة بني الدين والدولة وبني السياسة والسلطة والدين ،وهو ما يعني أن العلمانية كممارسة وتجربة
34
الجماعة الدينية اإلسالمية ،وهي أقوى وأعمق من جميع
سياسية اقتصادية اجتماعية وحياتية هي (تنظيم سيايس لإلدارة واملجتمع والدولة) حاضرة بأشكال مختلفة يف جميع التجارب السياسية لبناء الدولة ،والتجربة العملية يف منطقتنا العربية (مَ َلكية أو جمهورية) تقول
هذا الوعي والخطاب فيما هو كتابة وبيانٌ منشور سوى ما
هنا أو هناك.
الدولة الوطنية العربية املعاصرة
إن مشكلتنا يف املنطقة العربية مع مشروع بناء الدولة
يف إطارها العلماين العام هو تدثريها للعلمانية بالروح
والصيغة االستبدادية يف بداية صعودها ،ثم بالفساد املعمم
يف املسار السيايس الالحق للتجربة ،وهو ما تبدى يف معظم تجليات ممارسة بناء الدولة عىل أسس وقواعد مدنية علمانية عسكرية وال ديمقراطية ،واألمر ذاته –بدرجات
متفاوتة– ينطبق عىل أشكال الحكم العربية (جمهورية، مَ َلكية) يف رؤيتها وموقفها من العلمانية ،فقد ناصبت
أشكال الحكم امللكية الفكرة العلمانية العداء يف الخطاب
بتعايش العلمانية والدين من دون تعارض ،فقط الشأن
السيايس هو من أنتج ذلك التعارض الحدي فيما بينهما. إن حركات اإلسالم السيايس يف نشأتها النظرية
والسياسية العملية التاريخية إنما وجدت كحالة رد
فعل لتفكك وسقوط الدولة العثمانية (دولة الخالفة)، ً مناقضا لفكرة وقضية الدولة الوطنية وجذر نشأتها العربية املعاصرة ولفكرة الجماعة الوطنية (الشعب)
حيث دولة الجماعة ووطنهم هو االمتداد الجغرايف، والديمغرايف يف حدوده (املكانية) اإلسالمية كلها ،دولة
خالفة عاملية جديدة يف إطار تنظيمي سيايس «االتحاد العاملي لعلماء املسلمني» دولة مصغرة استمرار
لدولة الخالفة ،ولذلك فإن فكرة دولة الخالفة هي
عنوان تنظيمي أيديولوجي سيايس محوري يف أدبيات
جميع تنظيمات وحركات وجماعات اإلسالم السيايس
بمختلف عناوينها ،وتسمياتها (سنة /شيعة) (خليفة/
إمام معصوم /الويل الفقيه) حيث الشعب هو كتلة/ جماعة افرتاضية مفتوحة موحدة ال تنتظمها حدود
جغرافية وطنية (قومية) وال يجمعها انتماء وطني العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
يف واقع الصراع األيديولوجي العاملي الدائر يف قلب الحرب الباردة مع حضور تجليات العلمانية :كقوة مادية ،وإنتاجية
وتقنية وصناعية وعلمية وقانونية ،وتنظيمية إدارية ومالية (البورصة) يف جميع صور وأشكال تعاملها ،مع مكونات بناء الدولة والنظام السيايس ،يف تكويناته املختلفة (البنية
تحويل العلمانية إلى احتكار للسياسي إن جذر األزمة في عجز وفشل الفكرة العلمانية سواء
التحتية الرأسمالية والبنية الفوقية بدرجة أقل) ،لقد دمغت ووصمت دولة االستقالل والدولة الوطنية ُ القطرية
غياب خطاب نقد االستبداد وتعميم حالة الفساد ،وعدم
باالستبدادين :السيايس والعسكري ،حيث الحزب الواحد
نريده له ،وتحول الفكرة والممارسة العلمانية (المدنية)
العربية الحديثة ،السياسة واملجتمع والثقافة ونظام الحكم
على صعيد األحزاب واألفكار أو على مستوى بناء الدول هو
االعتراف باآلخر والقبول بحقه في أن يكون ما يريد ال ما نحن
الثوري( ،صانع االستقالل) والجيش (مجلس قيادة الثورة)
في تجربة األحزاب الواحدية (الشمولية) والمعارضة أو
فالحزب هو قائد الدولة واملجتمع (جنوب اليمن /سوريا،
ليبرالية) إلى أحادية محتكرة للسياسة ،وللحقيقة في ذاتها (توليتارية) بعد تحويلها العلمانية إلى استبداد .لقد ّ علقت
يف أحسن األحوال بمنجزات الديمقراطية االجتماعية ،التي
األيديولوجية القومية واليسارية االشتراكية والليبرالية َّ حل المسألة الديمقراطية على مشجب حل المسألة
هما رمزا السلطة والسيادة.
العراق والجزائر) وجميعها من دون استثناء نماذج ناصبت
السياسة الديمقراطية العداء وواجهت الديمقراطية السياسية امتصها الفساد وقىض عليها تدريجيًّا االستبداد ،ويف هذا املسار
الصعب واملناخ الطارد للسياسة املدنية ،تحولت العلمانية يف
صورة عقيدة الحزب (أيديولوجيته) إىل طوطم ،وسوط وكتاب مقدس استحالت معه العلمانية كشكل للتنظيم االقتصادي واإلداري واملايل والثقايف إىل استبداد وفساد.
الواقعة في قمة هرم صحن الحكم (قومية اشتراكية
أنظمة الحكم الوطنية االستقاللية (العلمانية) في صيغها
االجتماعية ،تحت شعار وغطاء «ال صوت يعلو فوق صوت
المعركة» و«ال صوت يعلو فوق صوت الحزب الواحد» والنتيجة السياسية والعملية التي تفقأ العين أننا ال أنجزنا
حل المسألة الديمقراطية ،وال خلقنا قواعد راسخة متينة للتنمية على طريق إذابة أو إزالة الفوارق بين الطبقات ،كما رفعتها أدبيات وبيانات هذه األحزاب واألنظمة /الدول وال
في المقابل دخلنا المعركة وانتصرنا ،بل إننا حولنا بعض انتصاراتنا الجزئية العسكرية إلى هزائم وخسائر سياسية.
ويبلغ الفشل ذروته في الممارسة االجتماعية
والثقافية والتعليمية (تعليم ماضوي)؛ إذ نشهد اليوم ً انبعاثا للهويات القاتلة -حسب تعبير الروائي أمين معلوف–
الهويات ما قبل الوطنية ،وما قبل الدولة :المذهبية والطائفية والقبلية والمناطقية ،ومحاوالت حرف الصراع السياسي من جانب بعض (ميليشيات/ودول إقليمية) إلى عنوان لصراع مذهبي /طائفي (ديني) (سني /شيعي)
وحضور الخارج اإلقليمي والدولي في داخلنا؛ بسبب ما تركناه من فراغ في السياسة وفي حالة األمن القومي
العربي ،األمر الذي جعل الفضاء والمدى الجيو /سياسي ً منتهكا ،حضر بعض أطراف الخارج اإلقليمي القومي لنا ً عوضا عنا (إيران /تركيا /إسرائيل) وهو قمة تعبير ليمأله
الفشل عن نفسه ،فشلنا كأحزاب ومشاريع وأفكار ودول وهنا تكمن األزمة .والمشكلة متى نبدأ الفعل باتجاه رحلة
األلف ميل نحو اإلصالح واالستنارة؟ ذلكم هو السؤال.
35
الملف
الدين والرؤية العلمانية للعالم في ضوء النماذج التنظيمية الكبرى
36
العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
محمد شوقي الزين
باحث جزائري
الدين اليوم بمنزلة اإلحاطة التي ُت ّ غلف نظام التصوّرات والسلوكيات .يمكن القول بأنه «النموذج» أو «البرادايم» ( )paradigmالذي تنصاع إليه هذه التصوّرات والسلوكيات .إنه لها ّ يشدها إليه .أتكلم بطبيعة الحال عن برادايم الدين في السياق الجغرافي بمنزلة الثقاف الوثيق الذي والتداولي للثقافة العربية اإلسالمية؛ ألن الدين في الغرب ّ توقف عن كونه الدليل والمرشد ،أي ّ توقف عن كونه برادايم الوعي الغربي بعد أن حل محله برادايم جديد في منعطف القرنين السابع عشر والثامن عشر بظهور الدولة الحديثة ،ويمكن تسمية هذا البرادايم بالقالب السياسي األخالقي الذي قولب التصوّرات والسلوكيات في نظام جديد هو نظام العقل الذي حوَّل ()conversion المضامين الدينية إلى أشكال علمانية من القول والفعل. ملحة تاريخية مختصرة ُتربز لنا طريقة هذا التحوّل وموقعنا
مفهوم الدولة الحديثة الذي وجد اكتماله النظري مع الفيلسوف
األملاين فريدريش هيغل ،فإن املساحة السياسية واالجتماعية
نحن يف خريطة هذا االنتقال التدريجي للوعي؛ ألن هذه اللمحة مفيدة وحاسمة يف تبيان ملاذا وبأي معنى لم ُتفلح املشاريع
لم تعُ د من اختصاص املؤسسة الدينية ،الراعية عىل الضمري
وباملقارنة مع التجربة الغربية التي هي لنا بمنزلة املرآة نرى ذواتنا
نتحدث عن األخالق الدينية بعد تراجع املرجعية العُ ليا وأفولها،
العلمانية يف الرتسّ خ يف الثقافة العربية اإلسالمية .أقول باختصار،
فيها ،أقول بأن هذه التجربة انتظمت وفق ثالثة برادايمات تأسيسية وحاسمة:
اً أول -الربادايم الديني الالهويت الذي قولب الوعي الغربي
طيلة 1700سنة بهيمنة املسيحية منذ تبنيها من طرف اإلمرباطورية ً وخصوصا هيمنة املذهب الكاثولييك عرب الكنيسة، الرومانية،
الجمعي ،إنما من قيام املؤسسة السياسية املنتخبة .لم نعد إنما عن األخالق املدنية بعلمنة هذه املرجعية وتحويل املضامني الدينية إىل املحتويات االجتماعية :مثلاً ،ال نتحدث عن الزكاة أو الصدقة إنما عن الضرائب والتضامن االجتماعي ،إلخ.
انهيار مفهوم الدولة ً ثالثا -مثله مثل الربادايم الديني األخالقي ،وصل الربادايم
لسان حال العقيدة وظل اليسوع يف األرض .غري أن اختالالت بنيوية ً وأيضا إىل حصلت يف هذا الربادايم جعلته يصل إىل منتهى عطائه
السيايس األخالقي ،الذي دام قرابة 200سنة ،إىل منتهى عطائه
يف إصالح املنظومة الدينية ،فوقع الشرخ املعروف الذي انتهى
االشرتاكية والشيوعية مفهوم الدولة نفسه ،فأصبح هيكل هذه
ثانيًا -وسط اهتزاز النواة الصلبة لهذا الربادايم وبروز شقوق
الرمزي .بانهيار مفهوم الدولة املركزية ذات الحزب الواحد بعد
ذروة قسوته مع محاكم التفتيش والحروب الدينية والنداء امللحّ
بانشقاق اإلصالحيني لوثر وكالفن عن الكنيسة الكاثوليكية.
وذروة تشدده ،بعد أن ابتلع الحزب الواحد يف عز األيديولوجيات الدولة عىل الصعيد التنظيمي ،والراعي عىل األمة عىل املستوى
وانهيارات بظهور مذاهب وطوائف وأفول املرجعية العامة التي
الحرب العاملية الثانية ،توجه الوعي الغربي نحو برادايم جديد،
نظريًّا عرب التأمالت الفلسفية حول نظام الحكم (روسو ،هوبس،
والتواصل والتنافس ،فكان أن تعزز الربادايم االقتصادي املايل
كانت تضمن باألمس كل هذه الوشائج ،حصل أن تعززت الدولة
مونتيسكيو) وعمليًّا بسقوط امللكية يف أوربا (الثورة الفرنسية) وظهور الديمقراطية التشاركية يف أمريكا (الثورة األمريكية) .بظهور
من شأن الرؤية العلمانية أن تنتشل الفعل من دائرة التقليد وسجن المحاكاة، شرع لذاته من تحرره وتدفعه ألن ُي ّ بأن ّ بادِ هِ اللحظة التي تتولّد عنها أشكال من التصور وأنظمة من السلوك ّ
قائم عىل القيم الليربالية والفردانية ،ويواكب مفاهيم التقدم بمنطق خاص ،يقوم عىل املبادالت الحرة عىل املستوى التجاري
والسيولة املالية والوفرة اإلنتاجية .أصبحت املؤسسات املالية
(صندوق النقد الدويل ،ومؤسسات املراقبة يف ميزانيات الدول،
إلخ) هي الحاكم والفيصل .يقع الغرب اليوم يف هذا الربادايم الذي ُتبنى عليه كل سياسة أو قرار .ال ندري ما الربادايم املقبل
عندما يصل الربادايم االقتصادي املايل إىل منتهى عطائه وذروة تشدده ب ُندرة العمل وتسريح العمال ،مع كل املخاطر الناتجة عن البطالة واألزمات االقتصادية واالجتماعية وصعود الفقر
والجريمة املنظمة.
37
الملف
معركة الفعل
عندما نفقه هذه املسألة ،أي عندما ُندرك أن الفعل الحر
والعفوي واملش ّرع لذاته من وحي اللحظة الراهنة ،فإن تشكيل
نظرية سياسية أمر ممكن ،وعقلنة نظام الحكم وصناعة القرار يشء حاسم .ال بد من تخطي هذه العتبة ومجاوزة هذه العقبة،
أقصد أن الثقافة العربية اإلسالمية عىل عاتقها قيادة «معركة
الفعل» ،بعدما ظفرت «بمعركة القول» .كان القول محظورًا يف التعسف عىل املستوى السيايس .باندالع الفضاء العمومي بسبب ّ بعض االنتفاضات العربية ،ظفر املجتمع العربي اإلسالمي بمعركة
القول وساعدته يف ذلك التكنولوجيات الحديثة مثل مواقع التواصل االجتماعي؛ لكن معركة الفعل لم يظفر بها؛ ألن األفعال ال تزال يف دائرة املحاكاة والتقليد باحتذاء نماذج خالية أو السري وفق نظام ّ متشخص من السلوك :اتباع داهية أو داعية أو صفوة أو نخبة .مع أن الفعل هو فعل متف ّرد ،فعل كل فرد (أنا ،أنت ،نحن) قابل
للتشارُك من أجل التناغم االجتماعي والعيش املشرتك. السؤال املطروح اآلن :ما موقعنا يف هذه الخريطة؟ يمكن
أعتقد أن فهم استقاللية الفعل من شأنه أن يساعد عىل بلورة رؤية علمانية لألشياء .هذه الرؤية متعثرّ ة اليوم يف السياق العربي
بقدر ما يحيا هذا السياق الربادايم نفسه كالذي يعيشه
عرب مساحة التديّن (اآليل وامليكانييك الذي يخلو من الروح) ،ألن
أن نلمس ً نوعا من الشرخ يف السياق العربي اإلسالمي؛ ألن
38
اإلسالمي؛ ألن مجال الفعل ينتمي يف معظمه إىل الفضاء الديني
والسيولة املالية ووسائل املواصالت املتطورة ،بقدر ما يزال
الفعل يف هذه املساحة هو محاكاة األوائل ،باحتذاء نظام تصوّرهم وسلوكهم .إذا كانت الرؤية العلمانية متعثرّ ة اليوم ،فألن نظام
تنظيم الحياة االجتماعية واألخالقية للعرب واملسلمني .هل
ألن كل طائفة تع ّد نظام التصوّر والسلوك الذي تحتكم إليه بمنزلة
الغرب عرب أنظمة التواصل واالتصال والتحديث التقني
يقبع يف روح الربادايم الديني الالهويت ،الذي لم ينفك عن
ن ّدعي أننا نراوح بني الديني الالهويت واالقتصادي املايل دون وسيط السيايس األخالقي؟
ليست األمور بهذه السهولة املبتذلة .اً أول -نحيا بال
املحاكاة يف الفعل يُشجّ ع املذهبية والطائفية ،وقود كل حرب أهلية؛
اليقني الذي ال يشوبه شك أو ارتياب؛ وكل نظام مختلف عبارة عن نظام مخالف ،وينخرط يف شكل من أشكال الصراع والصدام .من
شأن الرؤية العلمانية أن تنتشل الفعل من دائرة التقليد وسجن
يعيشه الغرب نفسه عرب الوحدات الكربى مثل العوملة،
املحاكاة ،بأن تح ّرره وتدفعه ألن يُش ّرع لذاته من با ِد ِه اللحظة التي ّ تتولد عنها أشكال من التصوّر وأنظمة من السلوك.
لكن ،ثانيًا -ال نزال نقبع تحت إمرة الربادايم الديني الالهويت
اليوم يف طبعة عريقة ،تحمل أثقالها املهرتئة ،فهي العائق وليست
شك آثار أو مفاعيل الربادايم االقتصادي املايل الليربايل الذي
والوحدات الصغرى مثل األنظمة التجارية العابرة للقارات؛
الخاص باإلسالم .هل هذا عائق أم حتمية؟ إنه عائق بحكم عدم امتثالنا بع ُد إىل برادايم سيايس أخالقي ي رِّ ُعب عن
هذا ال يعني أن األشكال الدينية ملفوظة ،لكن كما تتبدّى
الالئق لبا ِد ِه العصر .من شأن الرؤية العلمانية أن تعمل عىل عقلنة
هذه األشكال يف طبعة جديدة ومنقحة ومزيدة ،بأن تقوم بتحويل
نمط وجودنا يف العالم .املمارسات السياسية األخالقية يف
هذه األشكال الدينية إىل مضامني مدنية ،إىل أخالق فردية وجمعية
لم نصنع بع ُد لذواتنا نظامً ا سياسيًّا وأخالقيًّا يقول عفوية
من أشكال سياسية وأخالقية ،وما يرتقبه من إمكانات يف الزمن
السياق العربي اإلسالمي مختوم عليها بخاتم األمر والنهي.
الفعل يف ابتكاره للقواعد والصيغ السلوكية ،وحرية املبادرة واملساهمة .ال نزال يف مجال االمتثال إىل األوامر والنواهي
واتباع نظام ميكانييك أو آيل هو مج ّرد االحتذاء واإلذعان.
يف حني الفعل السيايس األخالقي هو فعل من وحي ً تطبيقا الزمن الحاضر وعفوية األشكال السلوكية ،وليس ملخططات سالفة أو محاكاة ألفعال ماضية.
تقول أصالة الفعل يف انبثاقه اآلين وسبقه اآليت ،أي ما يُنتجه اآلن
املقبل .الرؤية العلمانية نقطة حاضرة وخط نحو املستقبل؛ لذا ّ وتتطلع إىل اآليت، ُتعوّل عىل ابتكار الفعل يف الحياة اليومية والراهنة بعد أن تسعى إىل تحرير هذا الفعل من بداهة التقليد التي تسجنه
يف املايض .هل العالم العربي اإلسالمي عىل استعداد لخوض معركة ّ والتطلع إىل املستقبل؟ هذا ما ينبغي الفعل من أجل بناء الحاضر االنتباه له ومصاحبته بالبحث الحثيث والعمل الجاد.
العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
الملف
العلمانية وخصومها
الحمامي نادر ّ
باحث تونسي
انطلق النقاش حول العلمانية
في المجتمعات اإلسالمية منذ نهاية
القرن التاسع عشر؛ ليأخذ أبعا ًدا أعمق بعد إلغاء نظام الخالفة خاصة،
وظهور تيارات فكرية متعارضة
ومتجادلة فيما بينها من داخل
المنظومة اإلسالمية الدينية يمكن التمثيل عليها بكتاب محمّ د رشيد رضا
«الخالفة أو اإلمامة العظمى» ،وقد
سبق قيام تركيا الكمالية بسنتين،
علي عبدالرازق في مقابل كتاب ّ «اإلسالم وأصول الحكم» ،وليس علينا هنا اإلطناب في بيان أن الكتاب
األول يمثل تيّارًا سيحوّل نقاشات مصلحي القرن التاسع عشر في
قضية الحكم من المجال السياسي إلى المجال الديني ،في حين سيكون
الكتاب الثاني من أهمّ مستندات ّ مجذري العلمانية ودعاة الفصل بين
السياسي والديني في التراث والتاريخ اإلسالميين ،ور ّبما يكون ذلك بغاية جعلها مقبولة اجتماعيًّا ومستساغة
ّ خاصة إلى الضمير اإلسالمي الجمعي بعد حمالت تشويه العلمانية وربطها بالتغريب أو ح ّتى بالكفر.
39
الملف
ً نشأة وتط ّورًا وإجراءً ،وال يمكن بأي حال من العلمانية غربية
ولكن هذا الصراع لم يكن يف أغلب األحيان لصالح
العلمانيني ،ونحسب أنّ محاولة الوقوف عىل األسباب ّ الكامنة وراء ذلك بجدية وعمق تشكل اليوم أكرث من أيّ
وقت مىض حاجة ملحّ ة وضرورية ملستقبل املجتمعات
اإلسالمية .وما نروم بيانه يف هذا املقام هو محاولة
نشره مثل يوسف القرضاوي سنة 1987م «اإلسالم والعلمانية ً منطلقا من الر ّد عىل ما نشره فؤاد زكريا يف وجهًا لوجه»
األهرام املصرية سنة 1985م .ومن الالفت للنظر أنّ كالم زكريا
الذي سري ّد عليه القرضاوي بكتاب كامل كان دائ ًرا حول مسألة الشريعة ومفهومها ،فكان مدخلاً إىل مهاجمة العلمانية.
اإللحاح عىل أنّ العلمانية تواجه هجومً ا من طرف دعاة
ًّ حقا يستبطنها دعاة اإلسالم ّإننا إزاء معادلة رهيبة ً ً وثيقا ربطا السيايس يف مجمل خطاباتهم ،تربط اإلسالم ً أحيانا تقع املماهاة بني اإلسالم والشريعة ،وبما بالشريعة ،بل
وصوب لسبب أساس ،وهو أنها وضعت موضع صراع أيديولوجي ،وقدّ مت عىل ّأنها أيديولوجيا سواء من ّ
أنّ الالفت للنظر ًّ حقا أنّ ما تذهب إليه مثل هذه املعارضة األيديولوجية التي يتب ّناها دعاة اإلسالم السيايس تتقاطع مع ً شرقا وغربًا؛ ّ ألنهم بدورهم حوّلوا كثري من دعاة العلمانية
اإلسالم السيايس بكل تلويناته وأشكاله من ناحية، لكن ال بدّ من اإلقرار ً أيضا أنّ العلمانية قد ُطعنت من طرف املنتسبني إليها يف كثري من األحيان .ويف تقديرنا كل هذا الهجوم من ّ فإنّ العلمانية تواجه ّ كل حدب
معارضيها أو حتى من كثري من الدعاة إليها وهو ما
سنحاول بيانه.
خصوصيات ثقافية
يحشد معارضو العلمانية من التيارات اإلسالمية ً أحيانا لدى الحجج لبيان أمرين أساسني قد يجتمعان
40
األحوال تطبيقها يف البلدان اإلسالمية .ويمكن هنا النظر فيما
ّ ويتمثل بعض ُكتاب تلك التيارات ،وقد ال يجتمعان. ّ األمر األوّل يف بيان أنّ العلمانية هي معاداة لكل األديان
ّ ديني .أمّ ا األمر لكل انتظام وأشكال التديّن ومحاربة ّ ّ فيتلخص يف السعي إىل محاولة بيان الخصوصيات الثاين
الثقافية والتاريخية للمجتمعات اإلسالمية ،وأنّ
العلمانية والعلمنة تغزو كل المجتمعات باستثناء المجتمعات اإلسالمية فيجري الحديث عن استثناء إسالمي ،وهذا أمر خطير ج ًّدا ،فهو يمثل نقطة التقاء أساسية بين خصوم العلمانية ّ ودعاة اإلسالم السياسي
وشق من من ناحية أولى، ّ العلمانيين ودعاتها من ناحية ثانية في المجتمعات اإلسالمية، وشق من المستشرقين ّ المعادين لإلسالم والمنظرين لالستعمار من ناحية ثالثة
أنّ العلمانية تتضمّ ن تشريعات ال تستند إىل املوروث الديني، ّ فإنها بالتايل معادية لإلسالم ،بل هي ضرب من اإللحاد غري
العلمانية إىل أيديولوجيا ،فخدموا خصومهم من حيث ال يحتسبون ،وخسروا عىل املستوى االجتماعي .ومن اإلشكاليات
التي يحدث الوقوع فيها يف األغلب يمكننا الرتكيز عىل أمرين أساسني ينبغي يف تقديرنا للعلمانيني تجاوزهما تنظرييًّا
وعمليًّا:
ّ يتمثل األمر األوّل يف تحديد أنموذج للعلمانية؛ إذ إنّ وضع
أنموذج معينّ لها يؤدّي إىل تحنيط املفهوم ،وتخلق بالتايل ً عائقا أمام فهمه يف تاريخيّته وتطوّره ،وبالتايل إمكانية توافقه
مع مختلف الخصوصيات والهويات واالنتماءات الثقافية، فيكون كل ذلك مدخلاً مناسبًا ملعاريض العلمانية للقول ّ بأنها
خاصة باملجتمعات الغربية ،وال يمكن أن تكون مطبقة يف املجتمعات اإلسالمية .إنّ العلمانية ينبغي أن تقدَّ م عىل ّأنها
صريورة وهي متحوّلة باستمرار ومتعدّ دة تمامً ا كالديمقراطية مثلاً ،فهي مثلها طريقة إجرائية لتنظيم الحياة االجتماعية
املتحوّلة ،وبالتايل فهي ليست أيديولوجيا ثابتة ،وليست دي ًنا، وهي لم توضع لتعويض الدين ،وهي ً أيضا ليست معادية
لقناعات الناس الدينية ولعقائدهم ،هي فقط طريقة تضمن ّ بغض النظر معاملة املواطنني معاملة متساوية أمام القانون
عن اعتقاداتهم ومذاهبهم وطوائفهم ،فتغدو العلمانية ً شرطا أساسً ا من شروط تحقيق العدل بني املواطنني بذلك
عىل أساس املواطنة .ومن هذا املنطلق ينبغي معارضة اآلراء َّ املؤصلة للعلمانية يف فرنسا وعدّ ها خصوصية من خصوصيات النظام الجمهوري الفرنيس ،وكذلك معارضة اآلراء القائلة بأنّ
العلمانية خصوصية غربية منبثقة من التحوّالت التاريخية
والسياسية واالجتماعية يف الغرب .إنّ العلمانية ينبغي أن تقدَّ م
كما الحداثة وما ارتبط بها من قيم الحرية واملساواة والعقالنية
العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
عىل ّأنها كونية وإنسانية وإن كانت غربيّة املنشأ؛ إذ ال يمكن خاصة بالغربّ ، ّ وإنها القول :إنّ الحرية يف مفهومها الحديث
ّ وشق من املستشرقني املعادين لإلسالم واملنظرين اإلسالمية، ّ ّ لالستعمار من ناحية ثالثة .صحيح أننا نجد لدى بعض مفكري عصر النهضة يف كتاباتهم السياسية ما يؤ ّكد أنهم يميزون بني
ال تصلح للمجتمعات اإلسالمية ،واألمر كذلك للمساواة أو العقالنية أو ّ كل منظومة حقوق اإلنسان بصورة عامّ ة .كما
اإلسالم واملسيحيّة عىل أساس أنّ اإلسالم يشمل املعاش واملعاد
باستمرار ،فهي يف تحوّل ّ مطرد يساير تطوّر البشريّة ،وهذا يف
ظهور اإلسالم السيايس الذي يمثل ردّة فعل عىل مدّ ديمقراطي، ّ إصالحي بدأ يف الظهور يف األقل :نفس تح ّرري أو لنقل عىل ّ
ال يمكن القول ّ بأننا سنكف عن املطالبة بالحرية أو املساواة أو العدالة؛ ّ ألننا بلغنا الغاية فيها ،فهذه القيم نسعى إليها الحقيقة مبدأ أساس من مبادئ الحداثة :التقدّ م باستمرار. ومن هنا نعدّ أن وضع أنموذج للعلمانية يهدّ د العلمانية أو اًّل وهو مخالف للحداثة نفسها. استثناء إسالمي
أو الدنيا واآلخرة ،ولكن نحسب أنّ هذه الفكرة تعمّ قت مع
بعض املجتمعات اإلسالمية ،وهذا نظري املسيحية السياسية يف أوربا التي ظهرت ردّة فعل عىل النظريات القائمة عىل القطع مع التصوّرات القديمة فيما يتعلق بالشرعية السياسية ،حيث
لم تعد السلطة مقدّ سة؛ ألنّ شرعيتها مستمدّ ة من الله كما ّ يتمكنوا من بسط هيمنتهم، يريد أن يقول رجال الدين ح ّتى
ّ املتعلق باألنموذج إىل األمر الثاين وهو يحيل هذا األمر األوّل
بل أصبحت الشرعية مرتبطة بإرادة الشعب ومصالح املواطنني.
الغربيّة ،وبالتايل فإنّ ما يعدّ أنموذجً ا غربيًّا ال يصلح للمجتمع
حك ًرا عىل العالم املسيحي ،ولكن من الالفت للنظر أن دعاة ّ وشق من العلمانيني يف املجتمعات اإلسالمية اإلسالم السيايس
اإلسالمية ،فيجري الحديث عن استثناء إسالمي ،وهذا يف
خاصيات الغرب ،وقالوا بمسألة االستثناء اإلسالمي يف هذا
القول بأنّ املجتمعات اإلسالمية متمايزة تمامً ا عن املجتمعات
اإلسالمي ،وحني ينظر إىل العالم بأسره يمكن مالحظة أن العلمانية والعلمنة تغزو كل املجتمعات باستثناء املجتمعات تقديرنا أمر خطري جدًّ ا ،فهو يمثل نقطة التقاء أساسيّة بني
خصوم العلمانية ودعاة اإلسالم السيايس من ناحية أوىل، ّ وشق من العلمانيني ودعاتها من ناحية ثانية يف املجتمعات
ومثل هذا التحوّل يف مصدر السلطة ال يمكن بأيّ حال أن يُعَ دّ
واملعادين لإلسالم من الغربيني اتفقوا عىل عدّ هذا األمر من املجال ،سواء استعملوا املصطلح أو لم يستعملوه ،فتابعوا من حيث شاؤوا أو أبوا املقوالت ّ املنظرة لالستعمار أو لصراع
الحضارات أو ح ّتى لإلسالموفوبيا.
41
نصوص
حجرية منهكة صامتة كعتبات ّ ترجمة :عاشور الطويبي
شاعر ومترجم ليبي
تضرب الريح صدري
42
الشعر
الشاعر التشيلي :بابلو نيرودا 1973 -1903م
الشاعر اليوناني :أناستاسيس فيستونايتس1952 :م.
الظل والفضاء ،بين ُّ ّ اللجم والعذارى، بين ُ ٌ وأحالم قاتلة ،متهور وحيد قلب ٍ عطية ٍ ّ مغضن الجبهة شاحب، غاضب ّ ٌ ٌ كل أيام حياتي، أرمل وفي الحِ داد
ً أوراقا القصيدة ال تشبه
آه ،مع ّ كل جرعة ماء ال مرئي أشربها نعسان ومع ّ كل صوت آخذه ،أرتعش، أُ ُّ حس ذات العطش المفقود وذات الحمى
الباردة، ُ أُ ٌ خفي، تولد ،قلق ذن ّ ً ً أشباحا، لصوصا على وصول ،أو كأن ّ مجوفة، داخل محارة طويلة عميقة كنادل ذليل ،كجرس بحّ قليلاً ،
كمرآة قديمة ،كرائحة بيت مهجور يرجع إليه الضيوف ليلاً مخمورين،
كنستها الريح في الشوارع. ً ساكنا، ليست بحرًا ً مربوطا. قار ًبا
ً سماء زرقاء ليست ً وطقسا صافيًا.
ٌ شوكة القصيدة
في قلب العالم. ٌ ٌ المع سكين
ً ٌ مباشرة في المدن. مغروس القصيدة َكر ٌ ْب،
قطعة معدن المعة، ٌ ٌ جليد ،جرحٌ غامق. ٌ صلبة، القصيدة
ّ ثمة روائح مالبس ملقاة على األرض،
ّ ٌ متعدد األسطح. ماس
الحقيقة ،فجأة ،تضرب الريح صدري،
ً صوتا، القصيدة ليست
وأزهار غائبة أو ربما ّأقل كآبة-
الليالي الكالحة تغمر غرفة نومي،
ٌ ٌ رخام منحوت. متين – سي ٌ ّال – نهر آسيوي.
جلبة نهار يحترق لقربان يبحث عن العرّاف
طائر. عبور ٍ ٌ طلقة إنها
قرع أشياء تنادي بال ر ّد ٌ واسم َعكر. حركة ال تهدأ،
القصيدة ليست وردة تذبل. ّ أنها ٌ محنط. ألم
بداخلي ،كآبة حاضرة
العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
في األفق والتاريخ.
فن الشعر
الشاعر األميركي :أرشيبالد ماكليش 1982 -1917م
ّ وصماء على القصيدة أن تكون محسوسة
على القصيدة أن تكون مساوية لـ:
بكماء
كاألنواط القديمة إلصبع اإلبهام،
ّ لكل تاريخ األسى ٌ ُ وورقة شجر ِة قيقب. فارغ مم ٌّر ّ للحب
لنافذة نمت عليها األشنات.
ُ كاءة عشب وفناران فوق البحر. ّات
كفاكهة ّ مكورة، ٍ
صامتة كعتبات حجريّة منهكة
على القصيدة أن تكون بال كلمات كتحليق الطيور
غير حقيقي.
ليس على القصيدة أن تعني بل أن تكون.
٭
على القصيدة أن تكون ساكنة في وقتها
كما يصعد القمر،
ُ يطلق القم ُر طارحة ،كما
األشجار حبيسة الليل عو ًدا عو ًدا،
طارحة ،كما يختبئ القمر خلف أوراق الشتاء ذكرى وراء ذكرى -العقل
على القصيدة أن تكون ساكنة في وقتها
كما يصعد القمر ٭
43
مقال
حاتم الص َكر ناقد عراقي
في غياب الموهبة: مصنع لتفريخ األدباء! يتزايد في الغرب تيار انفتاح أبواب الفنون واآلداب
للكتابة دون شروط أو قواعد أو مؤهالت محددة ،ما
فيصفون قوالب وأط ًرا معينة توقع مقلديها في البساطة
يتيح ألفراد يتخذون قرارًا أو يرغبون -بحسب كليشهات
والهشاشة ،ويصبحون مستنسخين للنماذج المتصورة،
أو معاهد أشبه بمصانع لتفريخ األدباء وفق نصائح
المراهقون وأنصاف األميين للتعبير عن مشاعرهم من خالل
الدعاية -في أن يصبحوا كتابًا ،أن ينتظموا في دورات
وتطبيقات ساذجة ،كالوصفات السريعة لتعلم اللغات
في سبعة أيام من دون معلم.
يتزامن ذلك مع صعود موجات ما بعد الحداثة
44
زمني ،وعبر مواد يتصور واضعوها أنها كافية للخلق واإلبداع،
أو بسببها في األحرى ،وبتأثير النزعة الشعبوية التي
تستهدف تسطيح الفن والثقافة عمومً ا ،بدعوى جعلها
جماهيرية وانتزاعها من نخبويتها وانغالقها ،واالعتقاد بإمكان توليد المهارات والمواهب من دون استعداد نفسي سابق أو تهيئة ذاتية؛ لذا انتشرت في الغرب
مدارس ومواقع لتعليم الشعر والفن خارج األهداف أو
البرامج البيداغوجية التي تعتمد تعليمً ا منظمً ا ،يساعد
في تمكين الموهوبين وتقوية قدراتهم بدراسات منظمة
شاملة ،وتزويدهم بعدة الفن واألدب التي ال تعني بالضرورة أن يكونوا أدباء أو فنانين.
والمفارقة الكبرى تكمن في اختالط تلك المقترحات
يذكروننا بكتب الرسائل الجاهزة للمناسبات ،التي يقتدي بها تلك الوسائط الجاهزة .واألخطر هو ما تبع ذلك من ازدراء الموهبة ،والحديث عنها كما لو كانت تهمة أو ً نقصا في المبدع ،أو كأنها المقابل العدائي للثقافة.
جابر عصفور والترويج لبضائع متنافرة
أذكر استطرادًا أن الدكتور جابر عصفور كان يناديني
بالناقد الموهوب كلما جمعنا لقاء .وكتب ذلك بخطه وهو
يهديني أحد كتبه .كنت أعلم أن ذلك الوصف -في المسكوت عنه من خطاب الدكتور عصفور -هو أنني ال أعبأ بالجانب
النظري مثله وبعض الزمالء اآلخرين .وذلك يعني أنه يربط
جهدي النقدي بدافع واحد هو الموهبة التي تقف من وجهة
نظره بمقابل أو بمعاداة النظرية التي يضمر تقسيمه هذا
انتماءه إليها .والحق أن صلة الدكتور عصفور بالنظرية هو دور
تعريفي .أي أنه يقدم خالصاتها للقراء ويع ّرف بروادها وكتبهم
الشعبوية مع الدعوة النظرية لمناهج ما بعد الحداثة ً فنونا كتابية إلعالء الهوامش والمهمشين :سواء أكانت ً صنفا من الك ّتاب -النساء مثلاً كجنس ،والسيرة أو
لذا لم ينعكس ذلك في دراساته ومقاالته التي تقوم على حرية
ونشارك في االهتمام المستحق ألدب الهوامش المقصاة
أو النقد .أما كتبه ذات الحمولة النظرية وأكثرها ترجمة فهي
الذاتية كنوع أدبي -وإذ نق ّر بضرورة نبذ التهميش
اجتماعيًّا بسبب الهيمنة التقليدية ،ونؤمن بتنشيط
الفنون المقصاة ألسباب معروفة كالكتابة السيرية،
وما تقوم عليه نظرياتهم من منطلقات فكرية وممارسات
نقدية في لغاتهم وبأدب بلدانهم نموذجً ا للتطبيق أو اإلجراء؛
منهجية كافية لتقديم مقاربة للموضوع أو النص قيد الدرس
والقليل المؤلف في التنظير ليست إال انحباسً ا تامًّ ا فيما تقوله تلك النظريات دون حوار ندّ ي معها ،يرفض ويقبل أو يقوم
فنحن ال نق ّر بأن يغدو ذلك مبررًا إللغاء شرط الموهبة
بتكييفها لتالئم مادة الدرس النقدي العربي .وهذا جانب
والفنون عامة .وال تقنعنا بجدوى تلك المصانع التي
إسقاطها على النصوص أو الموضوعات والظواهر؛ لتجربتها
الفردية ،أو التقليل من شأنها في الكتابة اإلبداعية
يراد لها أن تفرخ الكتاب والفنانين بإخضاعهم لبرنامج
العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
تشكو منه بعض كتابات الزمالء المع َّرفين بالنظرية دون عبر إجراءات منهجية تفضي إلى تحليل مدروس وتأويل
مقنع .كنت أجد لهؤالء شبهًا بمن يصف عمل آلة كهربائية أو أجزاءها بدقة ،استنادًا إلى تعليماتها المصاحبة لها .ثم
يتركها دون تشغيل؛ لذا نجد في كتبهم تناقضات منهجية
كأنهم مروِّجو بضائع متنافرة ،فيكتبون عن البنيوية والواقعية واألسلوبية في كتب متتالية من تأليفهم .وهذا الهوس النظري يرادف النظر للنقد والشعر بكونهما حرفة ُتعَ َّلم ،أو (صنعة)
بتعبير المصطلح النقدي العربي القديم الذي وضع وصايا وقواعد لصناعة الشعر وكتابته مثلاً ،لكنها تنتج ّ نظامين في الواقع يسبكون أشعارهم بطرائق تقليدية متشابهة ،حين ال
األخطر هو ازدراء الموهبة ،والحديث نقصا في عنها كما لو كانت تهمة أو ً المبدع ،أو كأنها المقابل العدائي للثقافة
يمتلكون موهبة تمييز المفردة وتركيب العبارة ،وال يمتلكون
بقراءته وتحديثه ،باالستعانة بالموهبة الفردية للشاعر. حتى حين يدعو مسترسلاً إلى قراءة القصائد الخالدة منذ
ً وحديثا مدى من الشعر خاصة ،إذ ناقش النقاد العرب قديمً ا
المتحصلة من القراءة أن تتوفر لدى الشاعر الموهبة .ويذكرنا
طلب توفر األمرين .فالموهبة تتمثل في قدرة الناقد على
مما تعلمه من الشعر اإلنجليزي» رغم ما قيل عن ثقافته
الخيال المطلوب والمؤثر الشعوري لقول الشعر.
وأعتقد أن هذه القضية -موهبة الناقد أو ثقافته -مُ رحَّ لة
حاجة الشعراء للموهبة والثقافة .وكانوا معتدلين غالبًا في
التذوق واالختيار والفهم ثم الحكم على النصوص ،فيما
تعضد الثقافة عمل الموهبة ودورها ،فتكون عدة الناقد
هوميروس حتى المعاصرين فإنه يشترط بجانب تلك الثقافة
الدكتور لؤلؤة بأن السياب «كانت موهبته الشعرية أكبر بكثير
بسبب دراسته في قسم اللغة اإلنجليزية في دار المعلمين العالية ببغداد في األربعينيات ،تلك الموهبة هي التي رأى
ًّ خاصا لغوية وعروضية وبالغية ،وهي أمور تطلب استعدادًا
إليوت أن أمثالها قادرة على تجديد التراث وإعادته حيًّا
ترتبط بدورها بشروط الصناعة التي استخدموها للتدليل على
يكتف بمراجعها العالمية ،بل اتخذ من واقعه ومحيطه ولم ِ
لغوية وبالغية وعروضية بجانب المقدرة الخيالية والتصوير
فالموهبة أعانته على التقاط تلك القيمة الشعرية للموروث
وتعلمً ا ودراية؛ لذا قرنوا ثقافة الناقد بالنصوص ذاتها التي
أهمية المعرفة العلمية في نظم الشعر ،أي التوفر على عدة العاطفي. ّ وقد تنبه المنظرون الحداثيون ومن تالهم إلى ذلك؛
فأكدوا ضرورة التثقف والتزود بالمعرفة ،بما يشبه صناعة الشعر العربية .ولكن إغفال دور الموهبة أو الملكة األولية
أضر كثي ًرا في عافية الشعر والنقد معً ا. الشعر والموهبة
وقد قيل في السياب :إنه يتوفر على موهبة فحسب ،دون
ثقافة كافية ،وإن مصادره الثقافية محدودة وقراءاته ال تشي بمؤثر معرفي .وهذا الرأي ومن أبرز دعاته الشاعر العراقي
معاص ًرا .وكذلك فعل السياب إذ توفر على الرموز التراثية
وثقافته العربية كثي ًرا من رموز المنطقة وإشاراتها الثقافية.
شعبيًّا أو دينيًّا أو أسطوريًّا .موهبة ارتقت بشعره وأهَّ لته لفتح كبير في الشعرية العربية.
وليكن! فالسياب موهوب في كيفية امتصاص المرجع
الثقافي .كتاب واحد أعاره إياه جبرا إبراهيم جبرا هو «الغصن
الذهبي» جعله ينصرف إلى األساطير والرموز ويكيّف الفكرة
عراقيًّا؛ ليعود بكنز من رموز العراق القديم بجانب ما أدخله في شعره من التراث العربي والعالمي؛ فارتبطت باسمه
أسطورة تموز وعشتار .وكذلك رموزه األثيرة كأيوب والمسيح
وبروميثيوس وسيزيف وغيرها .وقريبًا من أمثولة التحديث والفعل الشعري تأث ًرا بمصدر واحد مع استثمار الموهبة
الستيني سامي مهدي تعرض لنقاش مطول وردود .من بينها
ما ذكره إليوت في مقالته تلك من أن (صاحب موهبة مثل
قال في معرض التنبيه على ما قدمه السياب في مجال الرمز
اإلغريق والرومان» أكثر مما أفاد كثيرون من مكتبة المتحف
ما فصل فيه الناقد والمترجم الدكتور عبدالواحد لؤلؤة إذ
واألسطورة مبك ًرا« :يرتبط تطويع اإلشارة الثقافية إلى صيغ
محلية ،ال يقوى عليه سوى صاحب موهبة كبرى» .في إشارة
لما أخذه السياب من إديث ِستويل في قصيدته «أنشودة المطر».
ومستندً ا إلى مقالة إليوت ذات الشهرة واألهمية «التراث
والموهبة الفردية» حيث تعرض لضرورة تجديد الموروث
شكسبير أفاد من كتاب واحد ترجمه نورث بعنوان« :مشاهير البريطاني برمتها). ٭٭٭
وال أحسب تلك المصانع الوهمية قادرة اليوم على أن
تصنع موهبة تلتقط بحساسية ورهافة تلك المعارف الساندة
لشعرية النص أو للخطاب النقدي اللصيق بالنصوص والمقبل عليها بدقة وحس ،تعضدهما المعرفة الالزمة.
45
دراسات
هل كان بورخيس يعيد كتابة فرويد؟ 46
العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
حسن المودن
ناقد مغربي
على النقيض من تصريحات الكاتب
بال شك ،هناك تمايزات بين االثنين :فاألنا تحب أن تتمشى في بوينس آيريس ،وقد تتوقف لتتأمل شي ًئا أثار انتباهها؛ إنها
تعيش وتترك نفسها لعيشها وحياتها؛ في حين أن بورخيس تحدث له أمور أخرى ،فأخباره تصل عبر البريد والمؤلفات ،وهو
األرجنتيني خورخي لويس بورخيس ونصوصه
يمارس األدب ،ويظهر في قائمة األكاديميين أو في بعض معاجم
والقصصية باألخص ،كان ينتصر للتحليل
كأنها مجرد تمثيل وتصنع ،كما أنه معروف بطريقته المضللة في
النظرية( ،)1نفترض أنه في نصوصه التخييلية، النفسي ،وكان يتبنى السؤال الفرويدي «نسبة
األعالم ،وهو معروف بطريقته السمجة التي تجعل األشياء تبدو تشويه األشياء وتهويلها .لكن سيكون من المبالغة والمغاالة، كما يقول النص ،أن نعد عالقتهما عدائية؛ ألن هناك أشياء
إلى سيغموند فرويد ،مؤسس التحليل النفسي»
مشتركة ومتداخلة بينهما :فهما معً ا يحبان الساعات الرملية،
أدبية وثقافية ،فكرية وفلسفية ،أوسع وأكبر
وطعم القهوة ،ونثر ستفنسون ..واألكثر من ذلك ،فإن أدب
بشكل من األشكال ،لكن من مرجعيات أخرى،
ربما من تلك التي يستند إليها فرويد .وأقترح أن نعود في هذه المحاولة النقدية إلى بعض
نصوصه القصصية الشهيرة.
والخرائط ،والفن الطباعي للقرن الثامن عشر ،وأصول الكلمات، اآلخر ،بورخيس ،هو الذي يبرر وجود األنا ،وإن كان غير قادر
على إنقاذها من ضياعها ومصيرها ،فإن هناك بضع شذرات من
األنا لن تنجو إال من خالل ذلك الرجل :بورخيس ..كأن األديب هو آخر األنا ،وكأن األدب هو موطن ذلك اآلخر ،آخر األنا ..وهو ال
أول هذه النصوص قصة قصيرة بعنوان:
يقول األنا كاملة ،وال يمكنه أن يقول إال شذرات منها ،لكنه وحده يقول شي ًئا عنها ،وحده األدب يتحدث عن األنا ،وعن آخر األنا.
واضحً ا ،من العنوان نفسه ،أن المبدأ الذي
ثانية ،وهو ما يعني أن الذات هي األنا ونقيضها ،وأن الذات
ليست بسيدة بيتها الخاص» ،هو المبدأ نفسه
الذات ،ولذلك يسميه النص بـ «ذلك الرجل» في أكثر من مكان،
بورخيس وأنا()2؛ وفي هذا النص القصير ،يبدو
تأسس عليه التحليل النفسي عند فرويد« :األنا
هناك «أنا» من جهة أولى ،وهناك «بورخيس» من جهة
«هي نوع من التناشز واالنفصام» ،واآلخر هو شيء يقع خارج
فالحياة التي تعيشها األنا في شوارع بوينيس آيريس غير الحياة
الذي تتأسس عليه هذه القصة القصيرة عند
التي يعيشها بورخيس على صفحات الجرائد وقوائم األكاديميين
جهة أولى ،وهناك بورخيس من جهة ثانية،
لكن النص يقدم من الدالئل ما يكشف أن ما بينهما ليس عداء،
بورخيس :في الذات الواحدة ،هناك «أنا» من
ومعاجم األعالم ،ويبدو كأن لكل واحد منهما حياته الخاصة؛
واالثنان هما ً معا يشكالن الذات ،بشكل يصعب
بل إنه نوع من التماهي ،واألنا ،على الرغم من محاوالتها ،فهي
معه ،في النهاية ،أن نحدد بالضبط مَ نْ كاتب
هذا النص القصصي« :حتى إني ال أعرف اآلن من
منا كتب هذه السطور»(.)3
لم تستطع التحرر من ذلك اآلخر« :أما أنا فسأبقى على الدوام في بورخيس ،وليس في نفسي ،إذا كنت في الحقيقة كائ ًنا ما»(،)4
فاألنا تذهب إلى حد الشك في وجودها بوصفها كائ ًنا حقيقيًّا؛
ذلك ألن وجودها ال يكون إال من خالل ذلك اآلخر :فاألنا هي
اآلخر( ،)5ألنه في النهاية ،سيكون مصير األنا هو النسيان ،ووحده
ذلك اآلخر سيبقى« :لقد انتهت األشياء جميعً ا إلى خسارة ،سقط
كل شيء في النسيان أو في يد ذلك الرجل»()6؛ ولهذا ،فالكاتب
على النقيض من تصريحات بورخيس
ال يعرف ،في النهاية ،مَنْ كاتب هذا النص :أهو أنا أم بورخيس أم
كان يتبنى السؤال الفرويدي لكن من
بل ربما أنها ليست بكاتبته ،فاآلخر ربما هو الكاتب ،لكنه الذي ال يمكنه أال يقول شي ًئا ،ولو قليلاً ،عن األنا ،لما بينهما من عالقات،
نفترض أنه في نصوصه القصصية، مرجعيات أخرى ،أدبية وثقافية ،فكرية وفلسفية ،أوسع وأكبر ربما من تلك التي يستند إليها فرويد
هما معً ا؟ وهو ما يعني أن األنا ليست بالوحيدة التي تكتب النص،
فاألنا هي اآلخر ،بما يعني أن اآلخر هو األنا ،ولو جزئيًّا .لكن الذي يبقى هو ذلك «الرجل اآلخر» الذي ينتمي إلى نظام الكتابة
واألدب ،أما األنا التي تنتسب إلى نظام الواقع والعالم فإنك تنتهي
47
دراسات
اً وإجمال ،يبدو بورخيس ،في هذا النص إلى الموت والنسيان.
(لنقل :الكتابة؟) شي ًئا آخر غير الواقع ،وإن كانت تبدو كأنها تنقل
النفسي إلى مائدة النقاش :ماذا عن األنا؟ أهي موحدة منسجمة
والكتابة ،فإنه قد يتحول إلى شيء آخر؛ ولهذا ،فالسارد الكاتب
على األقل ،كأنه يعيد كتابة فرويد ،كأنه يعيد أسئلة التحليل وسيدة بيتها أم أنها منقسمة منفصلة منفصمة؟ كيف يتأسس هذا االنقسام بين األنا واآلخر؟ ما دور اآلخر في تشكيل الهوية؟
ما دور الغيرية في بناء الذاتية؟ كيف يمكن أن أكون آخر بالنسبة إلى أناي؟ لكن بورخيس يدرج األدب في إطار هذه المسألة :ما
عالقة األدب باألنا؟ أبإمكانه أن يقول األنا في كليتها وشموليتها،
أم أنه ال يقولها إال جزئيًّا من خالل بضع شذرات منها؟ أيقول األنا
انتظر لسنوات قبل أن يروي ما حدث ،من أجل أن يقرأه اآلخرون على أنه قصة ،ومن أجل أن يتحول إلى قصة بالنسبة إليه ً أيضا. لكن ،وبشكل مفارق ،فالنص من بدايته يوضح أن ما حدث قد حدث فعلاً وحقيقة ،والسارد الكاتب يريد من القارئ أن يقتنع
بهذه الجزئية األساس ،بنقطة انطالق ربما هي ضرورية إن أراد القارئ أن يتصور ما حدث ،وأن يستوعب ما وقع ،وأن يدرك
أم يقول اآلخر ،آخر األنا؟ أليس اآلخر بالذي يبقى في النهاية بعد
أبعاد ما عاشه السارد الكاتب في ذلك الصباح من أيام شباط
وحده يحتفظ ولو بقليل من األنا ،وهو ال يقولها في كليتها ،لكنه
ما حدث وقت حدوثه؟ وماذا عن الحدث عندما ينتقل إلى نظام
أن تؤول األنا إلى النسيان؟ أال يعني ذلك أن األدب هو هذا الذي يحتفظ ربما بكثير عن آخرها؟
اً استشكال وبخاصة عندما نستحضر ًّ نصا آخر هي أسئلة تزداد
1969م .لكن ما الذي حدث؟ ولماذا لم يعمل الكاتب على تدوين
التدوين والكتابة؟
عند بورخيس ،عنوانه :اآلخر( .)7من بداية النص ،يخبرنا السارد
ما حدث هو شيء ال يتصوره العقل ،ولهذا كان السارد ً خوفا على عقله بالضبط ،فالحدث الكاتب يريد أن ينسى ما عاشه
حدث عاشه هو نفسه ،لكنه لم يقم بأي محاولة لتدوينه؛ في
ليالي األرق التي أعقبته»( .)8وعلى الرغم من كل هذا الرعب،
أن األمر يتعلق بحدث وقع صباح أحد أيام شباط 1969م ،وهو ذلك الوقت .وهذا يعني أن الحدث عاشه السارد الكاتب ،أي
48
ما وقع ،فالواقع عندما يروى ،أي عندما ينتقل إلى نظام التدوين
كان ،على حد تعبيره« ،مرعبًا عندما وقع ،وكان أكثر رعبًا في فالكاتب انتظر سنوات قبل أن يقرر نقل ما حدث رواية وكتابة.
واألكثر من ذلك ،فهو يوضح أن أثر ما وقع بالنسبة إليه لن
بورخيس نفسه .وهو يوضح أنه لم يقم بأي محاولة لتدوينه، ً خوفا على عقله؛ لكن بعد انقضاء ألنه كان يريد نسيان ما وقع،
يكون بالضرورة هو األثر نفسه بالنسبة إلى مجرد قارئ لهذا الذي
على أنه قصة ،وثانيًا من أجل أن يتحول إلى مجرد قصة بالنسبة إليه ً أيضا .وهذا يعني أن السارد الكاتب (بورخيس) يرى القصة
بالضرورة»( .)9وذلك ألن الحدث كما عاشه الكاتب غيره عندما انتقل إلى نظام الرواية والتدوين ،وأن أثره على من عاشه فعلاً
سنوات ،قام بتسجيله على الورق ،اً أول من أجل أن يقرأه اآلخرون
وقع« :لكن هذا ال يعني أن رواية ما حدث ستهز كل شخص آخر
وحقيقة غيره على من قرأه ،وأن هناك ً فرقا بين نظام الواقع والعالم ونظام الكتابة والقراءة.
ما حدث هو أن خورخي لويس بورخيس كان يجلس فوق
أحد المقاعد التي تطل على نهر «تشارلز» ،وكانت الساعة نحو العاشرة صباحً ا من أحد أيام فبراير 1969م ،وكان هناك شخص جالس على الحافة األخرى من المقعد نفسه ،ولن يمر وقت كثير
ليبدأ التعارف بينهما ،وليكتشف خورخي لويس بورخيس أن هذا الشخص الجالس قريبًا منه اسمه خورخي لويس بورخيس ً أيضا، لكن مع وجود فارق :فاألول يعيش بمبردج أواخر الستينيات،
والثاني يعيش بجنيف في العقد الثاني من القرن العشرين ،أي أن األول أكبر س ًّنا من الثاني ،كأن بورخيس يلتقي الذي كانه في زمن مضى وانقضى ،فبورخيس األول يمثل المستقبل ،في حين
نجد الثاني يمثل الماضي .ودار حوار طويل بينهما ،حول حقيقة ما يقع لهما وعالقته بالحلم ،حول الماضي والمستقبل ،حول
الكتب والكتابة .وهو الحوار الذي كشف عن عدد من االختالفات بين االثنين حول الناس والقراءات واألذواق ،بحيث يبدو أنهما
بورخيس
العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
غير قادرين على التفاهم ،على أن يفهم الواحد منهما اآلخر، فقد كانا «متشابهين جدًّا ومختلفين جدًّا»( .)10وقبل أن يفترقا،
هل كان بورخيس يعيد كتابة فرويد؟
اتفقا على اللقاء في اليوم التالي «على المقعد نفسه الموجود في زمانين ومكانين مختلفين»()11؛ لكن بورخيس األول لم يحضر في اليوم التالي ،وال شك أن اآلخر لم يحضر ً أيضا. هذا ملخص ما حدث بإيجاز شديد ،وأفترض أنه يطرح ،من
منظور التحليل النفسي ،ثالث مسائل:
(أ) هل األنا منقسمة متنافرة ال موحدة متجانسة؟
إعادة قراءة فرويد ،بما يعمل على تجديد أسئلة التحليل النفسي لم يكن ليكون ممك ًنا إذا لم نأخذ بعين االعتبار أن بورخيس يعمل قبل ذلك على اشتراط مفهوم جديد للكتابة األدبية (ب) هل الزمن هو الذي يقسم األنا ويعددها ويغيرها؟
في أكثر من مكان في النص ما يؤكد أن انقسام األنا أمر ّ ومسلم به ،فـ«ليس هناك من ال يجد نفسه مع نفسه معروف
نفترض أن الفكرة الرئيسة التي يدافع عنها بورخيس من خالل
أحد أيام فبراير 1969م ،وجد نفسه مع نفسه ،لكن ليس بمعنى
في حياة األنا ووجودها ،في انقسامها وتعددها ،في اختالفها
في اليقظة»( ،)12وهذا ما حدث لبورخيس في ذلك الصباح من
أنه اختلى بنفسه ،وليس بمعنى أنه يحدث نفسه في مونولوغ ً مختلفا في هذه الحالة ،صاغه داخلي مثلاً .ذلك ألن هناك شي ًئا بورخيس بهذا الشكل االستثنائي« :عدا أننا اثنان»( :)13فالجديد
هنا أننا أمام بورخيسين اثنين ،هناك تشابه كبير بينهما ،لكن هناك ما يفصل بينهما ،ويجعل كل واحد منهما منفصلاً ً مختلفا
عن اآلخر :هناك «األنا» وهناك «األنا اآلخر» ،وبينهما اختالفات
كثيرة وعلى مستويات عديدة :فعلى المستوى العائلي ،وبالنسبة
إلى األنا ،فاألم حية ترزق ،واألب ميت والجدة ميتة كذلك، لكنهم كلهم أحياء بالنسبة إلى األنا اآلخر؛ وعلى المستوى الشخصي :األنا كاتب مشهور ومحاضر في كمبردج ،أما األنا
اآلخر فإنه ال يزال في بداياته ،يقرأ رواية لدوستويفسكي التي لم تعد األنا تتذكرها؛ وواضح أن بينهما اختالفات كبرى في
تصور كل واحد منهما للقراءة والكتابة :فاألنا اآلخر يتحدث عن كتاب يحتفل فيه بأخوة اإلنسان وهو موجه إلى الجمهور األعظم
من المضطهدين والمنبوذين ،في حين يوضح األنا أن فكرة
«الجمهور» تجريدية ،إذ ال وجود في الواقع إال لألفراد؛ واألنا
اآلخر يؤمن في األدب بابتكار استعارات جديدة أو اكتشافها ،فيما يؤمن األنا بتلك االستعارات التي تحمل شبهًا حميميًّا واضحً ا، تلك االستعارات التي ارتضاها خيالنا ً سلفا (الشيخوخة والغروب، األحالم والحياة ،انسياب الزمن والمياه) .والخالصة أننا أمام
اثنين مختلفين جدًّا :في واقعهما ومصيرهما ،في أفكارهما وتصوراتهما ،في قراءاتهما وكتاباتهما .وكان الحوار بينهما صعبًا:
وإن كان بينهما كثير من التشابه ،فإن كل واحد منهما يبدو كأنه «نسخة كاريكاتورية لآلخر»( ،)14كأنه ال يمكن ألي واحد منهما أن
هذه القصة هي ضرورة االنتباه إلى الدور الكبير الذي يؤديه الزمن وتنافرها .وهكذا ،فالخالصة األساس التي انتهت إليها األنا هي أنها في زمن مضى وانتهى غيرها في الوقت الحاضر أو في الزمن
المستقبل؛ والعنصر األساس في هذه التغيرات التي تصيب األنا، فتجعلها منقسمة متعددة ،هو الزمن ،فهذا هو ما انتهت إليه األنا
بعد ذلك الذي حدث في فبراير 1969م لما التقت األنا اآلخر وهو يعيش زم ًنا آخر يعود إلى بداية القرن العشرين« :وإنسان األمس غير إنسان اليوم» كما قال أحد اإلغريق ،وربما كنا نحن الجالسين على هذا المقعد في جنيف أو كمبردج دليلاً على ذلك( .)15وليس
من دون داللة أن يكون ما فكرت فيه األنا قبل أن يحدث ما حدث
هو التفكير بالزمن من خالل صورة النهر عند هيراقليطس« :كنت
جالسا فوق أحد المقاعد التي تطل على نهر تشارلز ..كانت المياه ً
الرمادية تدفع الطوف الجليدي .وقد دفعني ذلك إلى التفكير
بالزمن صورة هيراقليطس قبل ألف
عام»(.)16
وهذه الفكرة التي
يصوغها بورخيس تخييليًّا هي نفسها الفكرة التي يوضحها في
نصوصه النظرية ،ففي مقالته حول الزمن ،نجده يقول:
«يشبه الزمن دائمً ا نهر هيراقليطس ،فنحن دائمً ا نرجع إلى هذا المجاز القديم ...فنحن دائمًا هيراقليطس يتأمل ّ ظله في مياه النهر ،وهو يفكر في أن هذا النهر ليس هو إياه؛ ألن المياه فيه قد تغيرت ،ويفكر ً أيضا في أنه ليس هيراقليطس نفسه؛ ألنه كان ً شخصا آخر بين اللحظة التي رأى فيها النهر في المرة الفارطة
وبين اللحظة الراهنة»(.)17
في المقعد نفسه ،في اللحظة نفسها ،يلتقي بورخيس الذي
نيف على السبعين وبورخيس الشاب الذي لم يبلغ العشرين ،أي يلتقي الماضي والمستقبل ،فاألنا هي مستقبل األنا اآلخر ،وهذا
يكون صورة طبق األصل من اآلخر ،ألن هناك وجه الشبه كما أن
األخير هو ماضي األنا ،وبورخيس في اللحظة الراهنة هو االثنان
أنوات مختلفة وإن كان هناك شبه بينها :أي أن األنا ليست وحدة
الممكن أن نقبل بإمكانية أن يلتقي أحدكم بذلك الشخص الذي
هناك وجه االختالف ،وهو ما قد يعني أن هناك أنا تنقسم إلى
متطابقة ومنسجمة ،موحدة ومتجانسة ،بل إنها وحدة تنقسم وتنفصل ،تتضاعف وتتعدد ،تختلف وتتعارض .فما تفسير ذلك ً انطالقا من النص نفسه؟
معً ا .وبالنظر إلى طبيعة عقولنا وعقائدنا وإدراكاتنا ،فإنه من غير
كانه في الزمن الماضي :أن يلتقي في اللحظة نفسها شخصك في األلفية الجديدة وشخصك في عقد من زمن األلفية المنصرمة؛ ألن عقولنا سلمت بأن ما مضى قد انتهى ومات ،والواقع أن ليس
49
دراسات
هناك من دالئل على موته ونهايته ،ألن األمر ال يتعلق إال بتصور للزمن سلمنا بأنه وحده الصحيح ،ولهذا سيكتب بورخيس مقالة
نظرية بعنوان شديد الداللة« :دحض جديد للزمن»( ،)18وفيها يوضح مفهومه لألنا وللزمن فيقول:
فكرت األنا كثي ًرا في هذا اللقاء الذي لم تروه ألحد ،واعتقدت في
النهاية أنها وجدت المفتاح« :كان اللقاء حقيقيًّا .أما اآلخر فكان يحلم
عندما تحاور معي»( .)20وهذا يعني أن الحدث ،حدث اللقاء ،قد كان
«الزمن نهر يجرفني لكنني أنا الزمن ،إنه نمر يفترسني لكنني
حقيقيًّا بالنسبة إلى األنا :بورخيس في اللحظة الراهنة ،وهو يشرف
يمكن أن ننتهي إليه هو أن مفهوم األنا ال يمكن تصوره من دون أن
العشرين بعد ،فهو يعرفه جيدًا ،ألنه عاشه فعليًّا؛ لكن األنا اآلخر،
هي التي يمكن أن تفسر لنا لماذا ينبغي لنا أن نجدد من مفهوماتنا:
ولذلك ال يمكن للقاء أن يكون حقيقيًّا بالنسبة إليه ،ال يمكنه أن يكون
موحدة متطابقة منسجمة متجانسة ،بل إنها على عكس ذلك
تمامًا»( .)21ومعنى هذا أن ما حدث ال يمكن تفسيره إال بهذا المفتاح:
أنا النمر ،إنه النار التي تلتهمني لكنني النار ...فأنا بورخيس»( .)19ما
نأخذ بعين االعتبار مفهوم الزمن ،وأن تلك العالقة الجدلية بينهما
لماذا يكون من الضروري أن ننظر إلى األنا على أنها ليست وحدة
وحدة منقسمة متنافرة ال تعرف االنسجام والتجانس؟ ولماذا
على السبعين سنة بإمكانه أن يتعرف إلى نفسه لما كان شابًّا لم يبلغ
أي ذلك الـ«بورخيس» الشاب لم يعش بعد بورخيس السبعين سنة،
إال حلمًا ،ولهذا تقول األنا« :لقد حلم بي اآلخر ،ولكنه لم يحلم بي
الحلم ،والحلم عند فرويد هو الطريق الملكي إلى الالوعي( ،)22والذي
يكون من الضروري أن نأخذ بعين االعتبار أن األمس غير اليوم ،وأن
يحلم في أثناء الحلم ليس هو األنا (الوعي؟) ،بل إنه األنا اآلخر ،فهل
أن اللحظة الراهنة هي الماضي والمستقبل معً ا ،كما قد ال يكون
عند بورخيس وإن كان لها هذا البعد النفسي ،فإن لها أبعادًا أخرى،
الماضي غير المستقبل ،لكن الحاضر قد يكون هو ذلك كله ،أي هذا الحاضر أي شيء ،كأنه غير موجود ،ما يوجد هو الماضي أو
المستقبل .وفي األحوال كلها ،فإن مفهومنا للزمن ولألنا يحتاج إلى التغيير :فاألنا يغيرها الزمن باستمرار ،لكنها هي الزمن نفسه؟
50
(ج) هل الحلم هو المفتاح؟
نقول مع التحليل النفسي :إن اآلخر هو الالوعي؟( )23لكن المسألة
ومنها باألساس البعد الزمني :فاآلخر هو بورخيس الشاب الذي يحلم
بمستقبله ،أي ببورخيس الشيخ ،أي أن اآلخر هو الماضي الذي يحلم بالمستقبل؛ وربما أن هذه الفكرة تعاكس فكرة فرويد التي تقول :إن
رأسا على عقب قلب فرضيات فرويد ً
هل أفترض أن بورخيس قد قرأ فرويد ،وأنه قد أعاد كتابته بشكل من األشكال ،بمعنى أنه
يسائله ويقوّمه ويطوره ،فهو وإن كان ينطلق من الفرضية األساس في التحليل النفسي الفرويدي
بأن األنا ليست بسيدة بيتها الخاص ،أي أنها ليست وحدة متطابقة ،وأنها تنقسم إلى أنوات
متعددة وغير متجانسة كل التجانس ،فإنه يلفت االنتباه إلى أبعاد أخرى للمسألة النفسانية، ويبدو كأنه يقلب بعض فرضيات فرويد رأسً ا على عقب :الماضي هو الذي يحلم بالمستقبل وليس
المستقبل بحالم بالماضي؛ الحلم ليس بمجرد استعادة لما عاشته األنا في الماضي ،ذلك ألن الحلم هو عالم آخر ،هو مستوى آخر من الحياة والوجود .وبورخيس بذلك كله ،يبدو كأنه يرفض
تطبيق التحليل النفسي على األدب ،لكنه يفضل تطبيق األدب على التحليل النفسي ،بالمعنى الذي
بلوره أحد قراء بورخيس الناقد والمحلل النفسي الفرنسي المعاصر بيير بيار( ،)25ذلك ألن األدب هو األقدر دومً ا على تجديد األسئلة والمفهومات والتصورات النفسانية لإلنسان ولغته وأدبه.
لكن إعادة قراءة فرويد ،وإعادة كتابته ،بما يعمل على تجديد أسئلة التحليل النفسي لم يكن ليكون ممك ًنا إذا لم نأخذ بعين االعتبار أن بورخيس يعمل قبل ذلك على اشتراط مفهوم جديد
للكتابة األدبية .ألنه ال بد من تصور جديد لألدب يكون قادرًا على مقاربة جديدة لتلك األسئلة
النفسانية والفلسفية .وقد رأينا أعاله ،وبخاصة مع النص الثاني ،كيف يتحدث بورخيس عن كتابة، وإن كانت تنطلق من الواقع اليومي المعيش ،إال أنها سرعان ما تحلق عاليًا نحو فضاءات الخيال والرمز والغرابة وغير المعقول .فالتفصيالت اليومية مادة أساس في الكتابة ،لكن هذه األخيرة ال
تكتفي بالنسخ والتسجيل ،وإنما تقوم بالنبش في أماكن ومسالك أخرى القتناص ذلك الغريب في واالجتماعي والتاريخي .وتتقدم الرؤية الذهني واقعنا ووجودنا ،ومساءلة قدرنا الكوني واشتغالنا ّ ّ التي تنسجها نصوص بورخيس استشباحية (فانطاسماغورية) لألنا والزمن ،للوجود والحياة.
العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
هل كان بورخيس يعيد كتابة فرويد؟
بورخيس يبدو كأنه يرفض تطبيق التحليل النفسي على األدب ،لكنه يفضل تطبيق األدب على التحليل النفسي الحلم يحكي رغبة مكبوتة منسية ،أي أن الالوعي يستعيد ً حدثا من
الماضي لم تنجزه األنا فعليًّا ،وحصل إنجازه حلميًّا في زمن الحق؛
ذلك ألن بورخيس يقلب األدوار :الماضي هو الذي يحلم بالمستقبل وليس العكس ،الماضي هو الذي يحلم كأنه يريد أن يعرف مصيره
ومنتهاه ومستقبله .وربما قد يتعلق األمر بشيء آخر ،كأن تكون
تلك الفكرة عند فرويد بأن الالوعي ال يعرف الزمن هي التي يحاول بورخيس بلورتها وتطويرها؟ يبقى أن بورخيس يترك النافذة مفتوحة
أمام أسئلة مقلقة وغريبة دارت بين األنا واألنا اآلخر :من الحالم ومن المحلوم به :األنا أم األنا اآلخر؟ ما الفرق بين الحلم والعالم؟ ماذا لو
استمر الحلم ولم يتوقف؟ وهي أسئلة تمنح المسألة بعدًا وجوديًّا،
أي أن الحلم ،مثل الواقع ،هو مستوى آخر من الحياة والوجود ،وال بد ،يقول نص بورخيس« :أن نقبل بالحلم تمامًا كما نقبل بالعالم
وبأننا نولد ونرى ونتنفس»(.)24
هوامش:
اإلسباني مرسيديس بالنكو أنه من غير ( )1تلحظ الناقدة وأستاذة األدب ّ الممكن أن نميّز ما كان يعرفه بورخيس عن فرويد ،فال تصريحاته وال أعماله النظرية تساعدنا على ذلك؛ لكن الشيء اليقين هو أن تلك اإلحاالت القليلة على التحليل النفسي في كتاباته تأتي مختزلة وسطحية ومتهكمة؛ ولمزيد من التفصيل ،نحيل على دراستها: Mercedes Blanco : «Borges et l’aversion pour la psychanalyse», Savoirs et clinique, 2005 / 1,N : 6
( )2بورخيس ،خورخي لويس« :بورخيس وأنا» ،ضمن مؤلف: سداسيات بابل ،مختارات نقلها إلى العربية حسن ناصر ،دار الكتاب الجديد المتحدة2013 ،م. ( )3نفسه ،ص .156
( )4نفسه ،ص .156
(« )5األنا هي آخر» هي ً أيضا قولة مشهورة للشاعر أرتور رامبو في إحدى رسائله التي تعود إلى 15مايو 1871م؛ وهي عنوان كتاب ألحد أكبر المنظرين لألتوبيوغرافيا في العصر الراهن :فليب لوجون في كتابه: األنا هي آخر ،الصادر عن دار سوي بباريس سنة 1980م.
( )6بورخيس :نفسه ،ص .156
( )7خورخي لويس بورخيس« :اآلخر» ،ضمن :كتاب الرمل ،ترجمة سعيد الغانمي ،اإلصدار الثاني ،أزمنة للنشر والتوزيع ،األردن، 1999م. ( )8نفسه ،ص .14 ( )9نفسه.
فمن الصعب في قصة بورخيس أن نعرف أيتعلق األمر بحكاية
واقعية حقيقية ،أم أنها مجرد حلم أو استيهام ،أيتعلق األمر بواقعة حدثت فعلاً في الزمن والمكان ،أم أن األمر كله مجرد تهيؤات وتخيالت وأحالم؟ وكأن األمر يتعلق بلغز يحاول النص
التخييلي فك أسراره والوصول إلى حقيقته ،لكنه بقي مفتوحً ا على كل االحتماالت من دون أن ينغلق على حقيقة ما على أنها
الحقيقة ،وتبقى األسئلة مطروحة دون جواب :هل حدث اللقاء فعلاً بين بورخيس الشيخ وبورخيس الشاب؟ هل من الممكن أن يلتقي الشاب والشيخ ،بوصفهما كائنين منفصلين وإن كانا متشابهين ،في المقعد نفسه ،لكن كل واحد منهما يوجد في
تلك اللحظة بزمان ومكان مختلفين؟ هل األمر واقع أو حلم؟ من الحالم ومن المحلوم به؟ ما الفرق بين الحلم والواقع؟ أليس الحلم شكلاً آخر من الحياة والوجود؟
يبدو أن ذلك كله قد يقود إلى المزيد من األسئلة ً بعيدا بالتفكير والشكوك ،إلى حد أن أنطونيو تابوكي قد ذهب البورخيسي عندما تساءل :هل وجد بورخيس فعلاً ؟ أو أنه
مجرد اختراع من كتاب ومثقفين من األرجنتين ،وأن حياته مجرد كتابة« :من المسموح لنا أن نقول :إن خورخي لويس بورخيس هو شخصية من ابتداع شخص يحمل اسمه ،لم يكن له وجود باعتباره هو»(.)26
( )10بورخيس :نفسه ،ص .19 ( )11نفسه.
( )12نفسه ،ص .16 ( )13نفسه.
( )14نفسه ،ص .19
( )15نفسه ،ص .18
( )16نفسه ،ص .14
( )17بورخيس :الزمن ،ضمن مؤلف :بورخيس صانع المتاهات ،ترجمة وتقديم محمد آيت لعميم ،المركز الثقافي العربي ،البيضاء، بيروت2016 ،م ،ص .83
( )18مقالة مذكورة ضمن حوار مع ألبرتو مانغويل ،مترجم ومنشور ضمن مؤلف :بورخيس صانع المتاهات ،المذكور أعاله. ( )19نفسه ،ص .132 ،131
( )20بورخيس :اآلخر ،ص .20 ( )21نفسه.
( )22جان بيلمان نويل :التحليل النفسي واألدب ،ترجمة حسن المودن، المجلس األعلى للثقافة ،القاهرة1997 ،م ،وبخاصة الفصل الثاني، وعنوانه :قراءة في الالوعي.
(23) Roland Chemama : Dictionnaire de la psychanalyse, ed. Larousse, Paris, 1993, p28. ( )24بورخيس :اآلخر ،ص .15
(25) Pierre Bayard : Peut-on appliqué la littérature à la psychanalyse, ed. Minuit, Paris, 2004. ( )26أنطونيو تابوكي :هل وجد بورخيس فعلاً ؟ ،ضمن مؤلف :بورخيس صانع المتاهات ،سبق ذكره ،ص.251
51
دراسات
سوسيولوجيا الخطاب الشعري اإلحيائي..
ثالوث الذاكرة والتراث والهوية
52
آمال موسى
شاعرة تونسية
عرف الشعر العربي في العصر الحديث مدارس وتيارات واتجاهات عدة ،ظهرت بشكل متعاقب منذ ً تاريخا مفصليًّا في تاريخ بداية عصر النهضة في الفضاء العربي اإلسالمي؛ لذلك ،فإن عصر النهضة يمثل ً خصوصا أنه بعد عصور الشعر العربي ككل ،وعاملاً مهمًّ ا في انبثاق النهضة األدبية في العصر الحديث، ازدهار الشعر العربي التي تعود إلى الشعر الجاهلي وصولاً إلى الشعر العباسي ،شهدت الحياة األدبية العربية ً نوعا من الخمول والضعف ،أصاب اللغة العربية والكتابة الشعرية والنثرية ،ومس كذلك اتجاهات الثقافة الشعبية التي كانت تجنح إلى اإلنتاجات الهزلية والخرافية ،الشيء الذي مثل بدوره سببًا أساسيًّا من أسباب ظهور النهضة األدبية في القرن التاسع عشر ،وأكد الحاجة إليها ،إذ النهضة مدلوليًّا تشير إلى حالة من التعارض مع ما سبق ،وإلى طموح تجاوز حالة الوهن الحضاري ومالمحه الدالة عليه كافة. العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
سوسيولوجيا الخطاب الشعري اإلحيائي ..ثالوث الذاكرة والتراث والهوية
وهكذا يتضح لنا أن كل مقاربة للشعر العربي في العصر
الحديث ،وبشكل خاص تلك التي تهتم بالمدارس الشعرية األولى، وتحديدًا مدرسة اإلحياء والبعث ،إنما هي بالضرورة مقاربة تتنزل
في جزء من تحليلها ومن استنتاجاتها في إطار عصر النهضة ،على أساس أن عوامل النهضة األدبية العربية ،تساعدنا على فهم طبيعة
الخطاب الشعري اإلحيائي ،وعلى تفسير مضامينه وخياراته الفنية الجمالية وتأويلها.
فشأن الشعر من منظور بنيوي وظيفي ماكرو-سوسيولوجي،
كشأن سائر مجاالت اإلبداع كافة .فهو في أحد أهم وجوهه،
نتاج ظروف تاريخية واجتماعية .وذلك من منطلق أن الشعر هو جزء من الفعل االجتماعي ،وأحد الحقول االجتماعية المهمة، ويخضع في إنتاجه وتلقيه إلى عملية مركبة من التواصلية
والتفاعلية .بمعنى آخر ،ال ينبغي التعامل مع المنتوج األدبي ً منغلقا على نفسه ،مترك ًزا فيها ،وال يرتبط اإلبداعي «كما لو كان
بأي شيء خارجه»( .)1فهو – أي الخلق الثقافي اإلبداعي -كما ذهب
إلى ذلك لوسيان غولدمان ( )Lucien Goldmannنتاج ذات جماعية ،ويحمل في باطنه رسائل ومعاني كاشفة عن طبيعة ما يسميه عالم االجتماع الفرنسي بيير بورديو ()Pierre Bourdieu «نسق اإلحاالت المشتركة» للذات الجماعية.
أهم ما ميز النهضة العربية إلى جانب عنصر االتصال بالحضارة الغربية واالستفادة من بعض منجزاتها المادية ،هو ظاهرة استعادة االرتباط الوثيق بالتراث العربي الثقافي في أزمنة ازدهاره وإشعاعه وقوته األدبية وانطالقها من مصر ولبنان .ذلك أنه في التعرف إلى حيثيات عوامل النهضة العربية ،تأصيل مهم لفهم الظاهر والباطن في الخطاب الشعري اإلحيائي.
اً أول -اإلطار التاريخي العام وظروف النشأة :عصر النهضة
يكاد يجمع مختلف الذين درسوا عصر النهضة العربية
على األهمية المركزية التي حظيت بها تاريخيًّا الحملة البونابرتية
الفرنسية على مصر في سنة 1798م ،بل إنهم يؤرخون لعصر ً انطالقا من تاريخ دخول نابليون إلى مصر وذلك لما مثلته النهضة
تلك الحملة في جوانب منها من اتصال وتالقح ثقافيين ما بين الشرق وأوربا .وأدى استمرار هذا االحتكاك بين الشرق والغرب
إذن ظهرت في العصر الحديث مدارس شعرية عربية متعددة،
على إثر الحملة الفرنسية على مصر إلى «ظهور النهضة المادية» ،
وتولدت المدرسة الرومنطيقية أو االبتداعية ،وذلك في بداية
حدوث النهضة الثقافية ،حيث كانت المطبعة آنذاك «وسيلة لنشر
افتتحتها مدرسة اإلحياء والبعث ،ثم جاءت جماعة الديوان،
()2
فكان دخول المطبعة إلى مصر من أكبر العوامل التي أسهمت في
القرن العشرين متأثرة برموز الرومنطيقية في اآلداب الفرنسية ً وأيضا ما واإلنجليزية .وبعدها عرف الشعر العربي جماعة أبولو، اً وصول إلى مدرسة الواقعية في األدب ،ويليها سمي أدب المهجر
الثقافية واألدبية على امتداد القرن التاسع عشر في البالد العربية،
من المدارس واالتجاهات الذي شهده الشعر العربي في العصر
بالخصوص التراث العربي فك ًرا وشع ًرا ونقدًا ونث ًرا ،فكانت العامل
ظهور حركة الشعر الحر أو قصيدة التفعيلة .ولعل هذا العدد
الحديث يكشف بدقة ووضوح عن حالة من الحراك الشعري ،من أهم مظاهرها وعناوينها استعادة قوية لمكانة الشعر في الثقافة
التراث» ،ومواجهة الصدمة الحضارية ومظاهر االستالب الثقافي ()3
التي عبرت عنها البعثات التبشيرية .فالمطبعة شكلت قاطرة النهضة وذلك لكونها مثلت األداة المادية لتأمين حركة نشر واسعة ،شملت
الرئيس لظهور النهضة الثقافية واألدبية في مصر وبالد الشام، وانتقالها إلى عواصم عربية أخرى مشرقية ومغربية .ويبرر الدكتور
والحضارة العربيتين ،واستنهاض لوظيفة الشعر عند العرب ،وتلبية اً مجال من مجاالت لحاجة اجتماعية وثقافية ملحّ ة للشعر ،بوصفه
بالد العرب إلى مشارف التوعية وأغزرها عطاء أدبيًّا نظ ًرا إلى موقعها
وفي هذا اإلطار ،فإننا اخترنا التوقف عند مدرسة اإلحياء
لهما من مكانة علمية وينابيع للمعرفة يقبل عليها العطاش من
الذكر أولى المدارس الشعرية العربية في العصر الحديث .ويبدو
وقد شهد المغرب العربي ً أيضا في القرن التاسع عشر نهضة مهمة ،تمثلت في تونس مثلاً في سياسة اإلصالحات التحديثية التي
النهضة ،وأحد أبرز مضامينها ومسوغاتها.
والبعث التي ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر ،وهي كما أسلفنا لنا أنه قبل التعرض إلى نشأة هذه المدرسة والتعرف إلى روادها ً وأيضا النقد الذي وأهم خصائصها وسماتها ومرجعياتها ومبادئها،
وجهته لها جماعة الديوان بزعامة محمود عباس العقاد ،من المهم جدًّا االنطالق من العوامل التي لم تسهم في ظهور مدرسة اإلحياء
والبعث ذات الخطاب الشعري الذي تغلب عليه ظاهرة محاكاة الشعر العربي القديم ،وإنما أسهمت كذلك في ظهور النهضة
علي شلق انطالق حركة النهضة في مصر ولبنان بأنهما «كانتا أسبق على شاطئ البحر المتوسط ملتقى حضارات الشرق والغرب ،ولما
مختلف بالد العالم»(.)4
حصلت في عهد محمد الصادق باي الذي تولى الحكم في منتصف
القرن التاسع عشر (من 1859إلى 1882م) ،فدخلت الطباعة إلى تونس ،وأسست أول مطبعة حجرية سنة 1857م ،وأنشئت مدرسة باردو الحربية في عهد أحمد باي (1855 -1837م) سنة 1840م .فضلاً
عن إصدار دستور 1861م ،وقبله وثيقة عهد األمان سنة 1857م،
53
دراسات
وتأسيس الوزير خير الدين باشا التونسي (1890 -1822م) مدرسة
نخبة طالئعية ترنو إلى اإلصالح ومواجهة الثقافة الوافدة بسالح
مجاالت التعليم والسياسة والفكر والثقافة ،انبثاق حركة في القرن
لإلصالح والنهضة ،يهيمن فيه عنصر التراث وتمجيد رموز الماضي
الصادقية سنة 1875م .وكان من نتاج هذا الحراك اإلصالحي في التاسع عشر عرفت باسم «الشعر العصري» ،وكان من أعالمها
العربي المزدهر وإبداعاته في مجاالت القول الشعري والنثري
محمد الشاذلي خزندار (1954 -1881م) .وبناء على هذه المعطيات
القرن العشرين مع بداية االحتالل الفرنسي واالنتداب البريطاني
المؤسسين محمد السنوسي (1900 -1851م) ومن أبرز شعرائها مجتمعة ،يمكننا االستنتاج أن العواصم العربية ،وإن كان بشكل
متفاوت ومختلف ،كانت قد اتصلت بمظاهر النهضة وعواملها وتفاعلت معها ً طبقا لآلليات والمضامين نفسها .وهنا نلحظ أن أهم
ما ميز النهضة العربية إلى جانب عنصر االتصال بالحضارة الغربية
واالستفادة من بعض منجزاتها المادية ،هو ظاهرة استعادة االرتباط
الوثيق بالتراث العربي الثقافي في أزمنة ازدهاره وإشعاعه وقوته. استدعاء التراث
ً خصوصا في أواخر القرن التاسع عشر وبداية والفكري والديني، للبالد العربية اإلسالمية ،فتدعم بذلك الطابع االنكفائي للنهضة
ً خصوصا في أطوارها األولى ،وبالتوازي مع النهضة األدبية، العربية تولدت النهضة الفكرية بزعامة جمال الدين األفغاني ومحمد عبده،
حيث ظهر تيار الوعي الفكري الديني إلنقاذ العالم اإلسالمي من االستعمار .إذن كان القرن التاسع عشر عصر النهضة العربية بامتياز. ً ً صادقا وتعبي ًرا ترجمانا ولعل الجانب األدبي من هذه النهضة ،كان
متماهيًا إلى حد بعيد مع الظروف التاريخية والمالبسات االجتماعية والثقافية والسياسية التي أدت إلى انبثاق النهضة العربية.
ويبدو لنا فعل استدعاء التراث واعيًا وتوجيهيًّا ،ويعبر عن
يبدو لنا أن مدرسة اإلحياء والبعث التي ظهرت في أواخر القرن
العربية .وهو ما يعني أن ظاهرة العودة إلى التراث التي هيمنت
المدارس الشعرية في العصر الحديث في عالقة تكاد تكون عضوية
اختيار عقالني ذي أهداف وأبعاد متصلة بالذاتية الثقافية والحضارية على حركة الطباعة والنشر واإلنتاج الفكري واألدبي ،إنما هي في األساس آلية دفاعية ضد ثقافة اآلخر ،وخوف حضاري من الذوبان
54
التراث إلى اجتماع عوامل النهضة ،التي انطوت على تصور مخصوص
واالضمحالل .فنحن أمام رد فعل ثقافي ،يرمي إلى التمسك بالهوية الثقافية واستحضار الذاكرة الحضارية ،كآليات دفاع وهجوم في
الوقت نفسه ضد الغزو الثقافي والسياسي األجنبي .وهو ما يفسر لنا ،لماذا أخذت النهضة في نسختها العربية مسؤولية بعث مشاعر
الهوية العربية ،وتدارك الواقع الثقافي واالجتماعي المتقهقر بسبب
التاسع عشر ،أي بعد قيام دعائم النهضة األساسية ،وذلك كأولى
بظاهرة االنكباب على التراث تمجيدًا واقتفاء آلثاره التي استحوذت على شواغل حركة النشر في القرن التاسع عشر في مصر وبالد
الشام .لقد عمدنا إلى تخصيص حيز كبير من هذه المقدمة لتناول اإلطار التاريخي العام الذي أنتج النهضة األدبية العربية العتقادنا العميق بأن مدرسة اإلحياء والبعث أو كما يسميها بعض الدارسين
مدرسة النهضة الشعرية ،هي نتاج عصر النهضة العربية وثمرة من ثمارها ،ومرآة يمكن في ضوئها قراءة الواقع العربي في تلك
سياسة التتريك التي اتبعتها الدولة العثمانية ،والضعف الذي الزم
الحقبة من جوانبه االجتماعية والنفسية والثقافة كافة .ناهيك عن
مصر حكام ال يحسنون العربية منذ الحكم العثماني بصورة خاصة
اإلحيائية بالذات ،وكيف أنها نقلت التصور السائد الذي يربط بين
اللغة العربية واألدب في العصر العثماني حيث «اختلف على حكم
مما حال دون وجود شاعر أو أديب يتمتع بموهبة متميزة لعدم توفر العوامل الضرورية لنشوء الفكر والثقافة واألدب»(.)5
ولقد أدى ازدهار حركة الطباعة والنشر ،وإنشاء دار الكتب المصرية وجمعية المعارف ومجمع اللغة العربية ،فضلاً عن ظهور
حركات اإلصالح اإلسالمية والجمعيات واألحزاب السياسية ،وبروز
إننا أمام مدرسة شعرية مفتونة بمفهوم الفحولة الشعرية ،فكان أن عمد رموزها إلى تمثل تجارب الشعراء القدامى ومعايشة فروسيتهم واستدعاء ذواتهم الشعرية والتلبس بها من جديد ،وذلك لما يرمزون إليه من قوة الحضارة العربية العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
إدراك كيف كان ذلك الواقع متحكمًا في بروز هذه المدرسة الشعرية تحقق النهضة والعودة إلى التراث وإحيائه .فال شك في أن ألحداث العصر أثرها في المعجم الرمزي اإلحيائي ،بوصفها محددة للسياق اللفظي الشعري بشكل من األشكال .فضلاً عما يعبر عنه الباحث
إبراهيم السعافين بالموقف النفسي للشاعر من الحياة االجتماعية
ومدى انغماسه في جانب من جوانبها ،وذلك من منطلق أن هذا
الوقف هو نتاج تفاعل مع أحداث العصر بغض النظر عن طبيعة هذا التفاعل( .)6فكيف نعرف مدرسة اإلحياء والبعث؟ ومن أهم رموزها؟
وما أهم المبادئ التي قامت عليها ،والخصائص التي ميزت المدونة العامة لرواد ورموز المدرسة اإلحيائية في قول الشعر؟
ثانيًا -الخطاب الشعري اإلحيائي :الخصائص والمضامين
يعد الشعر اإلحيائي مدرسة شعرية كالسيكية جديدة،
ظهرت في عصر النهضة األدبية العربية في أواخر القرن التاسع عشر ،وامتدت إلى الربع األول من القرن العشرين .رائدها األول
سوسيولوجيا الخطاب الشعري اإلحيائي ..ثالوث الذاكرة والتراث والهوية
الشاعر المصري محمود سامي البارودي (1839هـ1904/م) الذي أشاد عميد األدب العربي طه حسين بموهبته قائلاً « :أصبح ًّ فذا من حيث إنه استطاع أن يرد إلى الشعر العربي من القوة وجزالة اللفظ ورصانة األسلوب ودقة المعنى ما كان قد بعد
به العهد وطالت عليه القرون»( .)7لذلك،
فإن هذه الحركة الشعرية مصرية المولد ً سابقا والنشأة ،وهو ما يدعم ما ذهبنا إليه من رصد للعالقة بين بداية عصر النهضة
محمود سامي البارودي
خليل مطران
العربية في مصر وبالد الشام وظهور مدرسة اإلحياء والبعث ،بعد
1944م) من السعودية ومحمد الشاذلي خزندار (1954 -1881م)
أسبابها السياسية والثقافية في مصر وباقي العواصم العربية في
وأحمد علي الشارف ( 1959-1872م) من المغرب العربي .
أن تحققت أسباب النهضة األدبية في جوانبها المادية ،وفي تراكم ذلك التاريخ .والالفت لالنتباه أن االتجاه اإلحيائي الشعري قد عبرت
عنه تسميات عدة ،يصب جميعها في الداللة ذاتها والتوصيف
نفسه .فقد أطلق عليها الدارسون قرابة خمس تسميات وهي: مدرسة اإلحياء والبعث ،ومدرسة اإلحياء والتراث ،والمدرسة ً وأيضا االتباعية اإلحيائية ،والمدرسة االتباعية في الشعر العربي، مدرسة النهضة.
ومحمد غريط (1949 -1880م) وأحمد رفيق المهدوي (1960-1898م) ()9
ال شك في أن قائمة شعراء اإلحياء أطول مما ذكرنا ،وأن لها
كشأن جميع المدارس الشعرية روادها المؤسسين ورموزها األشهر
والمنتسبين إليها تحت راية مبادئها الشعرية ،واألقل شهرة من الرموز الكبار ،لكن المهم حسب تقديرنا هو أن مدرسة اإلحياء
هي تصور مخصوص للعملية الشعرية وللشعر ،نجد صداه حتى
ونلحظ من خالل هذه التسميات أن توصيف المدرسة
في الشعر العربي الراهن .بمعنى آخر ،إن ظاهرة اإلحياء بصفتها تمثيلاً لموقف ثقافي حضاري ،ولعالقة تقوم على تمجيد الماضي
واالتباع .وكلها مفاهيم في تواصل داللي ،وتشير إلى سجل من
الشعر ،باعتبار أن الشعر هو تفاعل بين الفكر والمعرفة وللنظرة
ينحصر أساسً ا في مفاهيم أربعة هي اإلحياء ،والبعث ،والتراث، الرموز والمعاني المتقاربة المترادفة؛ بل إن كل المفاهيم حركية
(اإلحياء-البعث–االتباع) تجسد حركتها وفعلها في نحت عالقة
والحنين إليه ،هي تعبير عن طبيعة الفكر المنتج لذلك النمط من إلى العالم واألحاسيس معً ا .ومما تتميز به مدرسة اإلحياء والبعث
اعتمادها المحاكاة ،وهي خاصية تفيد التقليد الذي تواتر في
تفاعلية إيجابية مع التراث الشعري العربي .وال تفوتنا اإلشارة
القصيدة اإلحيائية ،وهي القصيدة التي سعت إلى محاكاة منوال
ليس عامًّا ،بل هو اتصال انتقائي ،يوجه بوصلته تحديدً ا في اتجاه التراث العربي الذي أُنتج في عهود ازدهار الشعر العربي وأوج
ونظام القافية الواحدة والتمسك باعتماد البحور الشعرية الخليلية المعروفة .وفي الحقيقة ،فإن ظاهرة محاكاة عمود الشعر القديم،
وإذا كان جميع دارسي مدرسة اإلحياء والبعث الشعرية يقرون
المدرسة ،وسبب محدوديتها في مجال اإلضافة الشعرية الكبيرة في
إشارات صريحة تبين أن بدايات االتجاه اإلحيائي كانت مع الشعراء
ال عن إبداع ،يجمع بين الوصل والتجاوز .فالطابع المحافظ لمدرسة
في هذه الجزئية إلى أن اتصال مدرسة الشعر اإلحيائي بالتراث
قوته ونهضته اإلبداعية.
بأن محمود سامي البارودي رائدها ،فإننا في الوقت نفسه نعثر على علي الليثي وعبدالله فكري وعائشة التيمورية .أما أبرز شعراء مدرسة النهضة الشعرية ،فنذكر منهم أمير الشعراء أحمد شوقي (-1869 1932م) ومحمد حافظ إبراهيم (1932 -1872م) من مصر وشكيب
أرسالن (1946 -1869م) وخليل مطران (1949 -1872م) وعمر أبو ريشة
(1990– 1910م) وسليم الزركلي (1989-1905م) ومحمد البزم (-1887
1955م) وعدنان مردم بك (1989-1917م) من بالد الشام ،ومعروف الرصافي (1945-1875م) وأحمد الصافي النجفي (1977- 1897م)
وجميل صدقي الزهاوي (1936- 1863م) من العراق ،وأسماء أخرى
ذات بصمة في شعر اإلحياء من اليمن( )8ومحمد بن عثيمين (-1854
أغراض الشعر العربي القديم ومضامينه والمحافظة على الوزن
تبدو مهيمنة بقوة على مدونة اإلحيائيين ،وهي السمة البارزة لهذه
الوقت نفسه .ذلك أن المحاكاة في حد ذاتها ،تنم عن تقليد واتباع
اإلحياء ومحاكاتها السلبية غالبًا للقدامى ،جعلت سهام النقد تطول ً أحيانا ومبالغ فيه في أحايين أخرى. رموزها بشكل موضوعي ويتجلى التأثير القوي للشعر العربي القديم في أشعار المدرسة
اإلحيائية في مستويات عدة ،تشمل المعجم والبالغة واإليقاع وغيرها من القوالب التعبيرية الشعرية المتواترة في الشعر العربي القديم والمعبرة عن فضائه السوسيولوجي والسيميائي ولحظته
التاريخية ،حيث يطغى تقليد القصيدة القديمة ومجاراتها في نمط تعبيرها سواء في غرض الغزل أو في ظاهرة البكاء على األطالل .فضلاً
عن امتداد أثر الشعر العربي القديم في مستوى التجربة وموضوع
55
دراسات
القصيدة ومستوى مقروئيتها وتأثيرها في
المتلقي .فعلى مستوى المعجم ،يشير
صالح لبكي إلى وصف الطلول واإلبل، وتواتر ظواهر االستعارة والتشبيه والنزوع
إلى الزخرف اللفظي( .)10ومن جهته يذهب الدكتور إبراهيم السعافين إلى أن شعراء اإلحياء كانوا يميلون إلى األشعار القديمة ويؤثرون شعر األمراء الفرسان ،كما يميلون
إلى شعر الفخر والبطولة والحكمة( .)11بل
يذهب هذا الناقد إلى القول :إنهم عاشوا
«بمزاج القدماء ومثلهم العليا وكان الفرد «النمطي» النموذجي هو الذي يستولي على اهتماماتهم»(.)12
االفتتان بمفهوم الفحولة الشعرية
إننا أمام مدرسة شعرية مفتونة بمفهوم الفحولة الشعرية،
فكان أن عمد رموزها إلى تمثل تجارب الشعراء القدامى ومعايشة
فروسيتهم واستدعاء ذواتهم الشعرية والتلبس بها من جديد،
وذلك لما يرمزون إليه من قوة الحضارة العربية .ومن ثمة،
تكون المحاكاة في حد ذاتها تلبية لحاجة نفسية لدى شعراء
56
عصر النهضة عمومً ا ومدرسة اإلحياء والبعث تحديدً ا .بل إنها
محاكاة مفكر فيها ومستندة إلى معرفة وتكوين( ،)13ذلك أن
المحاكاة -كما حددها الفرنسي عالم النفس االجتماعي غابريال
تارد ( -)Gabriel Tardeنوعان :محاكاة ساذجة أو سطحية، ومحاكاة عالمة ،إن صح التعبير .والظاهر أن التقليد يمثل خاصية
معروف الرصافي
عمر أبو ريشة
إن تركيزنا على استحداث مدرسة اإلحياء والبعث لالتجاه الوطني في الشعر ال نقصد منه الغض من قيمة اإلضافات الشعرية األخرى ،بقدر ما أردنا به أن نبين تأثير هذا االستحداث في تحقيق نقلة مهمة في الخطاب الشعري اإلحيائي معارضات شعرية كثيرة .كما تعد ً أيضا قصيدة البردة التي كتبها ()15
البوصيري في مدح الرسول ﷺ ومنها ذاع صيته الشعري ،من أكثر
القصائد التي عورضت في الشعر العربي .لقد ازدهر فن المعارضات الشعرية في العصرين األموي والعباسي والقى رواجً ا استثنائيًّا في األشعار األندلسية .لذلك ،فقد مثلت المعارضات الشعرية ف ًّنا
شعريًّا يثبت من خالله الشاعر العربي تمكنه من فن الشعر وقدرته
على التميز والمباراة الشعرية والتفوق وإثبات الفحولة الشعرية.
أساسية من خصائص القاموس اإلحيائي اللفظي والفني ،الشيء الذي جعل الدارسين للخطاب اإلحيائي بشكل عام ،يرون مثلاً في
وهو ما يعني أن إحياء فن المعارضات الشعرية جزء ال بد منه في
من الضمور على مستوى اإلبداع .وقد اختصر الناقد جابر عصفور
وكي يتسنى لنا فهم أهمية المعارضات الشعرية في مدرسة
تعامله مع الصورة الفنية ،بوصفها أساس الشعر والشعرية ً نوعا
عملية محاكاة أبهى عصور الشعر العربي القديم.
اإلحياء والبعث ،قد يكون من المهم تحديد مفهومها وشروطها.
هذا الضعف في أربع خصائص تميز طبيعة الصورة الفنية عند اإلحيائيين وهي اً أول :التفكك والتناقض ،وثانيًا الجمود واإلشارية،
يحدد الباحثان في مجال نقد الشعر عبدالرؤوف زهدي وعمر
ومن أهم ما اشتهر به أعالم هذه المدرسة هو إنتاجهم
والمعاظمة والمشابهة والمحاكاة»( .)16وتقتضي المعارضة الشعرية
ضمن عملية بعث القصيدة القديمة وإحياء أبرز نماذج شعراء العصر
من القوافي فيعجب بها شاعر آخر بسبب من الصياغة المتميزة أو
ً وثالثا المبالغة واالفتعال ،ورابعً ا النمطية والتعميم(.)14
للمعارضات الشعرية ،وهو في الحقيقة إنتاج يندرج بشكل عميق العباسي .أي أن معارضة الشعراء القدامى في قصائدهم المشهورة، ً وبعثا وإحيا ًء لتجاربهم الشعرية ،ولزمنهم الحضاري يمثل استدعا ًء
األسعد مفهوم المعارضة الشعرية بأنها تفيد «المقابلة والمباراة
«أن ينظم قصيدة في موضوع معين على بحر من البحور وقافية اإليقاع الالفت أو المعاني الظاهرة أو الصورة المعبرة ،فينظم على
ً حريصا بحرها وقافيتها وموضوعها ملتزمًا التزاما تامًّا أو محدودًا
الموسوم باالزدهار الحضاري والقوة الثقافية والسياسية .وكما هو
على أن يضاهي الشاعر المعارض إن لم يتفوق عليه»(.)17
أدبي عريق في األدب العربي ،بدأت تاريخيًّا تقريبًا مع القصيدة التي
مدرسة اإلحياء والبعث وسمة من سماتها الكبرى ،فكان رموزها
موثق في الدراسات التاريخية األدبية ،فإن المعارضات الشعرية فن سميت «البردة» والتي قالها كعب بن زهير بن أبي سلمى في مدح
الرسول ﷺ ،فالقت هذه القصيدة من فرط إعجاب الشعراء بها العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
لقد شكلت المعارضات الشعرية خاصية أساسية من خصائص
من أهم شعراء العصر الحديث إبدا ًعا في هذا الفن ،حيث عارض
رائد شعر اإلحياء محمود سامي البارودي أبرز الشعراء القدامى
سوسيولوجيا الخطاب الشعري اإلحيائي ..ثالوث الذاكرة والتراث والهوية
مثل عنترة والنابغة وأبي نواس والمتنبي وأبي فراس الحمداني.
ي��������������ا اب������������ن������������ة ال��������������ي��������������م ،م��������������ا أب�����������������������وك ب�����ـ�����ـ�����ـ�����خ�����ي�����ل
أن أحمد شوقي من أهم رواد فن المعارضات الشعرية في مدرسة
أح�����������������������ـ�����������������������ـ ٌ �����������������������رام ع����������ـ����������ـ����������ـ����������ـ����������ل����������ى ب�������ل�������اب���������������ل���������������ه ال�����������������������دو ٌ ���س؟ ح ،ح ـ���� ـ����ـ��ل�ال ل���ل���ط���ي���ر م������ن ك������ل ج ـ��� ـ���ن ِ
ويكاد يجمع المختصون في مدرسة اإلحياء والبعث الشعرية ،على اإلحياء والشعر العربي الحديث بشكل عام ،حيث عارض ابن زيدون
وأبا البقاء الرندي والبحتري وتحديدًا في سينيته ،التي عارضها
بقصيدة يقول في مطلعها [ :الخفيف]
اخ����������������ت��������ل�������اف ال�����������ن�����������ـ�����������ه�����������ار وال�������������ل�������������ي�������������ل ي������ن������س������ي
اذك�����������������ـ�����������������را ل�������ـ�������ـ�������ـ�������ي ال����������ص����������ب����������ا وأي����������������������������ام أن�������س�������ي ً ������������������ل�����������������اوة م������������������ن ش���������ب���������اب وص���������������ف���������������ا ل���������ـ���������ـ���������ـ���������ي م ص���������ـ���������ـُ���������ـ���������ـ���������ـ��������� ِّورت م�������ـ�������ـ�������ـ�������ـ�������ن ت����������������ص����������������ورات وم ِّ ��������������س
ع�����ص�����ف�����ت ك�����ال�����ص�����ب�����ا ال����ل����ـ����ـ����ـ����ـ����ع����وب وم����ـ����ـ����ـ����رت
م�����������������ا ل�����������������ه م��������������ول ً ���������������س؟ ��������������ع��������������ا ب����������م����������ن����������ع وح���������������ب ِ
ك�����������������������ل دار أح������������������������������ق ب��������������األه��������������ـ��������������ـ��������������ـ��������������ـ��������������ل ،إال
����������س ف����������ي خ������ب������ي������ث م����������ن ال�������م�������ـ�������ـ�������ـ�������ذاه�������ب رج ِ
ن�����������ف�����������س�����������ي م����������������������رج ٌ ����������������������ل ،وق�������������ل�������������ب�������������ي ش�������������������راع
ب���ه���م���ا ف����ي ال�����دم�����وع س����ي����ري وأرس ����ـ ����ـ����ي
()18
وال مناص لنا في هذا المستوى من محاولة قراءة مدرسة
النهضة الشعرية ،من البحث موضوعيًّا عن األسباب األساسية التي
اقتضت أن يحوم مشروع شعراء اإلحياء حول بعث الشعر العربي
س������������������������ن������������������������ة ح������������������������������ل������������������������������وة ول�����������������������������������������������������������ذة خ������������ل������������س
القديم والسير على نهج شعرائه إيقا ًعا ومعجمًا وبالغة .بل حتى
أو أس���������������ا ج���������رح���������ه ال��������ـ��������ـ��������ـ��������زم��������ان ال������م������ؤس������ي
عملية إحياء التراث الشعرية ،فقط من أجل اإلحياء من دون أن
رق ،وال������ع������ه������د ف������ـ������ي ال������ل������ي������ال������ي ت���ق��� ـ��� ـ���س���ي
واضح المقاصد .فإلى جانب تفسير الميل إلى شعر القدامى بما
��������رس أول ال������ل������ي������ل ،أو ع����������وت ب���� ـ���� ـ����ع����د ج ِ
وحضاري( ،)19فإن هناك واقعً ا تاريخيًّا وثقافيًّا ،أسهم إلى حد كبير
وس ـ����ـ��ل�ا م�����ص�����ر :ه�����ل س��ل��ا ال����ق����ل����ب ع�� ـ�� ـ��ن��ه��ا ك��������������ل��������������م��������������ا م��������������������������������رت ال�������������ل�������������ي�������������ال�������������ـ�������������ـ�������������ـ�������������ي ع��������ل��������ي��������ه م����������������س����������������ت����������������ط����������������ا ٌر إذا ال���������������������ب���������������������واخ���������������������ر رن����������������ت راه ٌ ������������������ب ف���������ي ال�������ض�������ل�������وع ل�����ل�����س�����ف�����ن ف���ط���ن
معارضة روائعه من القصائد؛ ذلك أنه من غير المنطقي أن تكون
يرتبط فعل البعث الشعري بأهداف محددة ومعلومة ومشروع يرمز إليه هذا الشعر من مرحلة زمنية قديمة صاحبها مجد سياسي في تحديد حجم ظاهرتي المحاكاة والمحافظة ومديهما.
������������س ك���������������ل���������������م���������������ا ث������������������������������������رن ش������������������اع������������������ه������������������ن ب������������ن������������ق ِ
هوامش:
1) Macherey (Pierre), Pour une théorie de la production littéraire, Paris, François Maspero, 1966, p.66. )2السعافين (إبراهيم) ،مدرسة اإلحياء والتراث :دراسة في أثر الشعر العربي القديم على مدرسة اإلحياء في مصر ،دار األندلس ،بيروت ،ص.40 )3المرجع السابق ،ص.41 )4شلق (علي) ،النثر العربي في نماذجه وتطوره لعصر النهضة والحديث، دار القلم ،بيروت ،1974ص.46 )5السعافين (إبراهيم) ،مرجع مذكور ،ص.52 )6يقول الباحث السعافين في هذا السياق :إن «القاموس اللفظي ذو داللة اجتماعية حضارية ،يقترن بالتطور وتفاعل الشاعر مع المجتمع ومع أحداث العصر المختلفة .وهو على هذا النحو يختلف من فئة إلى أخرى ً اختالفا ال ندعي أنه حاسم بصورة قاطعة ،وإنما يملك من الدالالت
المميزة ما يبرز هذا االختالف بجالء؛ فالقاموس اللفظي العام متصل بعصور ازدهار الشعر ...كما أنه يتأثر بأحداث العصر وبخاصة في المرحلة المتأخرة من اإلحياء» .انظر :المرجع السابق ،السعافين (إبراهيم)، ص.52 )7انظر :حسين (طه) ،تقليد وتجديد ،دار العلم للماليين ،ص.83- 80 )8شعراء اإلحياء في اليمن هم :ابن شهاب والسقاف وأحمد عبدالله السالمي والشاطري والزبيري والحامد والموشكي والشامي ...انظر عبادي صالح (عبدالرزاق) ،المعجم الشعري لشعراء اإلحياء في اليمن ،رسالة ماجستير ،جامعة عدن ،اليمن2008 ،م.
)9ال يتسع مجال هذه المقدمة إلى ذكر جميع شعراء االتجاه اإلحيائي في الشعر العربي. )10لبكي (صالح) ،األعمال الكاملة ،المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع1982 ،م ،ص.140-139 )11السعافين (إبراهيم) ،ص.60 )12المرجع السابق ،الصفحة نفسها. 13) Gabriel TARDE, Les lois de l’imitation, Réimpression, Paris , Éditions Kimé, 1993,p.28. )14لألستاذ جابر عصفور رسالة ماجستير حول «الصورة الفنية عند شعراء اإلحياء في مصر « انظر :المرجع السابق ،السعافين (إبراهيم) ،ص.52 )15قصيدة البردة أو الكواكب الدريَّة في مدح خير البريَّة ،قصيدة مشهورة جدًّا في مدح النبي محمد ﷺ ،نظمها الشاعر محمد بن سعيد البوصيري في القرن السابع الهجري الموافق القرن الحادي عشر الميالدي ،وهناك إجماع بين النقاد على أن هذه القصيدة تعد من أجمل وأقوى أشعار المديح النبوي. )16زهدي (عبدالرؤوف) ،األسعد (عمر ) ،المعارضات الشعرية وأثرها في إغناء التراث األدبي ،دراسات العلوم اإلنسانية واالجتماعية ،المجلد ،36 الجامعة األردنية2009 ،م ،ص.904 )17المرجع السابق ،الصفحة نفسها. )18الشوقيات ،المجلد األول ،دار العودة ،بيروت 1986م ،ص . 46-45 )19السعافين (إبراهيم) ،مرجع مذكور ،ص.61
57
دراسات
58
المرجعية العقائدية للصورة الشعرية عند
خالد جمعة
العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
يوسف القدرة
شاعر وباحث فلسطيني
ّ تتمثل المرجعيّة الثقافيّة للصورة الشعريّة في تجربة الشاعر ،بتلك العناصر التي الثقافي للشاعر وتجربته لصيق بالتكوين طابع يعتمد عليها في إبداع صوره ،وهذا ذو ّ ٍ ٍ ً مشاركا الحياتيّة ،كذلك قدرته اإلبداعيّة على توظيف معرفته وتأمّ الته ،وجعله المُ تلقي فاعلاً في عمليّة اإلبداع من خالل مرجعيّة ثقافيّة مشتركة ،تعتمد اإليحاء واإلشارة ،وليس
المباشرة والعبارة ،فالقارئ لشعر خالد جمعة ،والمُ ّطلع على تجربته الشعرية الكاملة ،يجد ّأنه ذهب إلى خلق «عوالم ممكنة» غير تقليدية؛ إذ إن البنى والتراكيب البالغية عنده تشير إلى هيمنة غياب المرجع ،غير أنّ ذلك ال يعني انقطاعه وانفصاله عن موروثه التراثي ،فالقراءة والبحث في أعماقهاّ ، الثقافيّة المُ ّ يدلنا على مراجع مُ تنوّعةُ ، ُ وت ُّ عد الديانات تأنية لنصوصه، عميق. أثر السماو ّية واألرضيّة ،من أهم مصادر المعرفة ،لما لهذا التراث الديني من ٍ ٍ ّ تأثر الشاعر بالكتب المقدّ سة ،وظهر ذلك جليًّا في
نصوصه .وهنا نشير للكتاب المقدّ س بعهديه القديم والجديد ،هذا ّ التأثر نجده تحت جلدِ قصائده ال على سطحها، أي في عروق وأوردة نصوصه ،هذا ّ التأثر تعدّ ى مجادلة الفكرة
إلى أسلوب الصياغة والتصوير ،ومن الصور ذات المرجع العقائدي عند الشاعر خالد جمعة ،نقرأ له ّ نص «أمّ ا َكرْمِ ي ُ حيث يعو ُد بنا من خالل معجمه َف َلمْ أَ ْن ُط ْره» نموذجً ا،
اللغوي ،إلى الكتاب المقدّ س ،في صورة رسم فيها التقابل
بين نصه والنص المقدس ،إذ يقول الشاعر: َ ِّ حسن في مثل َع َم ٍل الرب غافيًا خرائط «لوني ،في ِ ٍ دائما أطلَّ ّ ً حكايات جدتي عينِهِ ،إلى قلبي ينظرُ ،...وفي ِ َ َ الموجوعين قبل النهايةِ بقليل». كبلسم على مأسا ِة ٍ ي ِّ ُشخ ُ ص الشاعر لون األنثى ،فيستعير صفة الغفوة من اإلنسان ،وينسبها إلى اللون ،ولونها الغافي شبهه بعمل
حسن في عيني الرب ،الذي ينظر إلى قلبها ،ثمّ يذهب إلى تبديل الجنود بالوردة مضافة إلى الرب ،كناية عن رحمة
الرب وجماله ،ثم يذهب إلى صورة أخرى يشبّه فيها طلة
الرب بالبلسم في حكايات الجدة ،الذي يظهر فيها منتص ًرا ً تناصا مع ِسفر للموجوعين ،ونحن نرى في هذه الفقرة
السفر ،في أول التكوين؛ إذ يظهر جليًّا في اإلصحاح األول من ِّ
المقدسة ،وظهر ذلك تأ ّثر الشاعر بالكتب ّ جل ًّيا في نصوصه .هذا التأ ّثر نجده تحت جلدِ قصائده ال على سطحها ،أي في عروق تعدى مجادلة وأوردة نصوصه ،هذا التأ ّثر ّ الفكرة إلى أسلوب الصياغة والتصوير
صفحات الكتاب المقدس ،كيف أن الرب كان مُ عجبًا بخليقته ُ حيث يذكر: ومؤكدً ا ومُ شددًا على جمال كل شيء وصالحه، «رأى الل ُه جميع ما صنعه فإذا هو حسنٌ » ،وفي هذا تقارب
الثقافي. للصورة الشعرية مع مرجعها ّ
حين ّ ُ َ َ ويُكمل الشاعر ّ تجلى أمام ُه «جثوت نصه ،فيقول:
جناح ريش على جبل على ماءٍ على غيمةٍ على كضوءٍ على ٍ ٍ ِ َ ُ سكبت أدعيتي وقرباني انتظار ال ينتهي، نار على ٍ سر على ٍ ن ٍ ُ بس». عيني دمع ّ الفائض عن الحَ ِ ِ
ُ ّ «جثوت أمامَ ه»، النص يقول الشاعر على لسان أنثى
فنرى صورة بالغية فيها داللة على انكسارها أمام الرب، ُ حيث شبّه الشاعر الذي يجيء في صورة ثانية فيها تشبيه، ّ ّ تجلي الرب بالضوء ،ثم تحوّالت أمكنة تجليه في صورة تتسع
لمكونات من الطبيعة :جبل ،ماء ،غيمة ،ريش ،جناح نسر، نار ،وأضاف إلى الصورة مكو ًّنا معنويًّا وهو االنتظار ،الذي صبغه بالديمومة واالستمرارية ،ثمّ ينتقل إلى صورة فيها
استعارة يتم تحويل األدعية إلى مادة تنسكب في إشارة إلى
دمع عينيها ،وكذلك القربان .هذه اللوحة التي تشكلها مقدرة
الشاعر الشعرية ،أبدت لنا صورة المحبوبة كما تجلت في ِسفر نشيد اإلنشاد ،في إعادة إنتاج لدالالته ،مبتعدً ا كثي ًرا
للسفر ،ومُ قتربًا من المفردات إفرادًا من الدالالت األصليّة ِّ ّ نص الشاعر وتركيبًا ،وكذلك التعبيرات الجمالية ،وفي َ جمعة ،نجدُ براعة الشاعر في توظيف شخصيّة األنثى المؤمنة
برب الوردة ،يقول: ّ ُ َ َ ّ ْ ّ ُ في وانهمرت َ كثلج السماوات سكينة ِ «تجول النور َّ ٍ ً َ َ رج في م في راقصة قلبي ر وصا حريق صدري على كغزالةٍ ِ ٍ ِّ ُ ْ ُ ُ إحساسها بخِ ش ِفها األ ّول يركل قلبَها فتؤلف روحً ا ربيع في ِ ٍ ً َ ُ َ جديدة وتغزل حُ بَّها الغريزيَّ كف ْر َو ٍة لشتائِهِ اآلتي».
59
دراسات
اتساع الصورة لمكونات الطبيعة
يستعير الشاعر صفة التجوّل من اإلنسان ،وينسبها للنور
الذي يتجوّل في دواخل األنثى ،وفي صورة ثانية يشبّه الشاعر «سكينة السماوات» المعنوية بالثلج الماديّ في االنهمار ،ثمّ
يشبّه قلب األنثى بالراقصة ،ثمّ يضيف إلى الصورة تشبيهًا ُ حيث شبه قلب الراقصة بالغزالة، آخر بأداة التشبيه الكاف،
لمكونات طبيعية وهي المرج والربيع، ثمّ تتسع الصورة ٍ ُ والخ ْش ُ ُ ف وهو ولد الظبية أول ما يولد ويطلق على الذكر
واألنثى ،والصورة الشعرية مجتمعة في داللة عن فعل ُ حيث يستحضر أحد لوازمه المخاض واقتراب حالة الوالدة، َّ وهو فعل «الركل» الذي يحيلنا إلى «الطلق» ،وفي الصورة بالنص الذي ي ّ ّ ُؤلف ،أي الروح الجديدة. يشبّه الشاعر الخشف
الحب المعنوي إلى مادة يمكن غزلها ،ويشبهه ويحوّل الشاعر ّ ُ حيث بدائيتها، بالفروة ،ومكونات الصورة كلها منسجمة من ُ حيث وهي تحيلنا إلى بدائية األنثى في ِسفر نشيد اإلنشاد،
الثقافي. تتالقى أبعاد الصور الشعرية هنا مع مرجعها ّ ّ النص بفقرة جديدة ،يبدؤها الشاعر خطاب ويستمر ُ صوت األنثى ال يزال يتجدّ د مع ِّ ُ َ كل حيث إن بتحديد للمكان،
60
العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
سطر جديد ،وتتضح المرجعية الثقافية للصورة كذلك في ٍ ّ النص ،إذ يقول الشاعر: َّ بت وعو َد الر ِّ ُ َ خيمتي ،رت ُ َ وخرجت تحت وسادتي، َّب «في َ ُ ً أل ُ ٍّ ُ كروم بني ّ َ أمي ،خفيفة بال هم يكاد يسوقني الهواءُ نط َر
وحين و َّد ُ َ عت عاصفة، كريشةِ فراغ في ِ ٍ عصفور على ٍ رمل في ٍ َّ جد ُ وألقيت تعبي على حصيرتي التي ّ ُ الش َ لتها من بقايا مس القمح الذي ْ أف َل َ ّ أج ْد وسادتي مناجل ت من الحصادين ،لم ِ ِ ِ أج ْد ما َ تحتها». ولم ِ نالحظ هنا أن الوعود المعنويّة تحوّلت إلى شيء ما ّديّ
يختبئ تحت الوسادة ،ثمّ تحوّلت األنثى في صورة ثانية إلى
ريشة يحركها الهواء ،ونالحظ خروجً ا من هذه المجازات إلى مجاز آخر تتحرك فيه الصورة إلى استحضار اللوازم في تحويل ٍ
الشمس إلى كائن يمكن توديعه ،ثمّ تحويل التعب إلى مادة تلقيها األنثى على حصيرتها ،وهي صورة متسعة تستوعب
مكونات الوسادة ،والكروم ،والهواء ،والعصفور ،والرمل، والشمس ،والحصيرة ،والمنجل ،وهي مكونات يكاد يتنافر
بعضها مع بعض ،لكن المقدرة الشعرية صالحت بينها لتكوّن هذه اللوحة التي تجمع بين النعومة في الوسادة والهواء،
المرجعية العقائدية للصورة الشعرية عند خالد جمعة
والخشونة في العواصف ومناجل الحصادين ،لتتجلى صورة األنثى كما تجلت في سفر نشيد اإلنشاد مع بعض التحريفات
التي تباعد الصورة عن مرجعها الثقافي.
وتتضح مالمحها ،فنجدها كذلك «أنثى يتيمة» ً إضافة إلى كونها «مؤمنة» و«فقيرة» إذ يقول: و«مضطهدة»، ً ْ أمي ،ولم ُ أع ّ أك ْن حزينة لهذا ،لم «لم ِ أعرف أبي ولم ِ ُ الكروم التي نطرتها كي ِّ َ َ الغاضبين غضب أهو َن أعرف غي َر ِ ْ ينقط ْع ،كنتُ الذي لم أعرف من َ ً أين َ كمطر ال دائما كان يأتي ِ ٍ ً دائما أنتظ ُر هد ّي ًة خبّأَها الر ُّ ّب في اختباراتِه الهائلةِ لجسدي القصبي ،وقلبي الذي ال يقوى على ِّ قمح هش ُقبَّر ٍة عن حبّةِ ّ ٍ في كرم ُ أنط ُر ُه». ٍ ّ النص ،فيبدأ بصورة يرسم لنا الشاعر صورة جليّة ألنثى
يستلهم الشاعر من نشيد اإلنشاد لغته؛ إذ إن الصورة الشعرية تعتمد على تجسيد الرغبات اإلنسانية األولى ،بكل ما فيها من استبداد بالنفس البشرية األرض عينيها من وخز َّ المعبدِ َ ُ الشمس». قبل أن تفرك ِ ّ النص الثقافي ،وهو التوراة، يعود بنا الشاعر إلى مرجع
في مطلع هذه الفقرة ،من خالل وصايا الرب ،وهي الوصايا العشر التي ُذكرت في اإلصحاح العشرين من «سفر الخروج»،
فنجد الشاعر يدلل بجمله الشعرية النافية على نقاء هذه
األنثى وطهارتها ،وعلى عملها بالوصايا والتزامها بها ،وأنهى
مجازية فيها غياب لمعرفة الوالدين ،وفيها داللة على يتمها،
الفقرة بصورة مجازية حوّل فيها البراءة المعنوية إلى مادة ً إنسانا ذا عينين يفركهما ،ويواصل تحس ،وجعل األرض ّ
أنها معرفتها الوحيدة ،أال وهي الكروم التي تنطرها في محاول ٍة
ّ النص مع الكذب ،في دالل ٍة على ادّعاء اإليمان ،ثمّ ينتهي بفقر ٍة ُتحيلنا إلى مبتدئه ،إلى لون األنثى الغافي في خرائط
هذا تغيب داللة المطر الخيّرة والبنائية واإلحيائية ،وتحل
«أنا سودا ُء وجميلة يا بنات أورشليم ،أمي ما كانت إال جدتي ،أما كرمي ،فلم ُ وصي ًَّة في حِ جْ ر ّ أنط ْر ُه ،ولم أ َر ُه، ُ ً نطرتها ،فمن غي ُر الكروم الكثير ِة التي واحدا من وربما كان ِ ُ َ وم ْن غي ُر الر ِّ الر ِّ يعرف؟ َ َ العالم إلى يعيد ّب قاد ٌر على أن َّب ِ
معان قاسية ،ومع بكل ما يحتوي ويتضمن ذلك الفقدان من ٍ
ذلك تنفي كونها حزينة بسبب يتمها.
ثمّ صورة مجازية أخرى فيها حضور لمعرفة مُ غايرة وتبدو
منها لتخفيف وتجنب ،إن أمكن ،غضب الغاضبين المستمر، وفي الصورة تشبيه غضب الغاضبين بالمطر المتواصل ،وفي
مكانها داللة المطر التدميرية الرتباط المطر بغضب الغاضبين.
ثمّ ينتقل إلى مجاز آخر في صورة يشبه فيها جسد األنثى بالقصب ،من طول االنتظار والنطر للكروم ،انتظارها كـ«أنثى الرب، مؤمنة» ال خيارات أمامها ،تظل في انتظار هديّة من ّ
ثمّ ينتقل إلى صورة مجازية أخرى فيها كناية عن كو ِنها أنثى مسالمة ذات جسد واهن وقلب ّ هش يضعف عن هش طائر
الشاعر ّ نصه ،ذاك ًرا شهادة األنثى على بني أمِّ ها ،راسمً ا لنا ُ لوحة من الصور الصريحة عن الطقوس والعادات التي تمارس
الرب ،إذ يقول الشاعر: ّ
بداياتِهِ المسالِمة.»...
هكذا يحيلنا الشاعر عبر صوت األنثى ،في تجسيدها
لصورة معرفة الرب الشاملة ،وقدرته القديرة ،في تساؤلين
في كرم تنطره .والصور مجتمعة تشكل لنا لوحة هذه األنثى
منفصلين ،عن معرفة أي كرم هو كرم األنثى من بين الكروم
وذات الجسد الضعيف والقلب الهش ،وحالة انتظارها ونظرها
العالم إلى سلميته ومسالمته ،في داللة على اإليمان المُ ستمر
المؤمنة واليتيمة والفقيرة والمضطهدة والراضية والمسالمة
للكروم تحيلنا إلى نشيد اإلنشاد في تقارب للصورة مع مرجعها ُ حيث تصوير الشاعر لالنتظار والنطر. الثقافي من صوت األنثى
ويواصل الشاعر ّ نصه ،بصوت هذه األنثى التي ّاتضحت
لنا أغلب مالمحها االجتماعية والروحيّة والجسديّة ،إذ يقول: «أح َبب ُ ْت الر َّ أنطق باسمِ هِ َّب كما قالت الوصايا ،لم ِ ُ َّ وقد ُ َ نطرت أشعل نارًا وال سابع أيامِ هِ فلم ست باطلاً ، ِ
ْ وس َق َط ْ ً أعرف والديَّ ُ كرما فيهِ َ ، خامس الوصايا ألني لم ت لاً ُ ذراعي رجل وامرأةٍ ،لم أعرف رج بين فأشفقت على كل ّ ٍ َ ً ُ ولم أقتل نملة وال نظرت بعين الحسدِ إلى شي ٍء؛ لذا برّأني َّب من ِّ َ براءت ُه في قلبي كلما أيقظني ُ الر ُّ ُّ ديك أحس كل َد َنس،
التي نطرتها ،وأي قدرة غير التي يمتلكها الرب قادرة على إعادة ّ النص .ففي النص بكليّته ،يستلهم الذي تحدثنا عنه في بداية
الشاعر من نشيد اإلنشاد لغته؛ إذ إن الصورة الشعرية تعتمد على تجسيد الرغبات اإلنسانية األولى ،بكل ما فيها من
استبداد بالنفس البشرية ،وكذلك نرى أن الشاعر عمد إلى استخدام التشكيل البالغي في صور النص من خالل التشبيه
واالستعارة والكناية .حريّ بنا أن نذكر ،أن الشاعر قد افتتح ّ نصه بهذا المقطع من مقدمة ِسفر نشيد اإلنشاد ،فنقل منه:
«أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم ،كخيام قيدار، كشقق سليمان ،ال ُ تنظر َ َ الشمس إلي لكوني سوداء ألن ْن َّ
قد ّ علي ،جعلوني ناطورة الكروم، لوحَ ْتني ،بنو أمي غضبوا ّ أما كرمي فلم أنطر ُه».
(االقتباسات من ديوان «كما تتغير الخيول»).
61
نصوص
اسم في الليل أحمد الخميسي
كاتب وقاص مصري
ً جالسا في مضيفة الطابق األول من بيته الريفي كان
على كتفيه وركض إلى الخارج .توقف عند بوابة البيت .زر عينيه
الهدوء .تناهت إليه أصوات غريبة مدغومة كموجة من ظلمة.
لمح على الطريق الضيق المحاذي للترعة كتلة بشرية
وقد أراح رأسه على المسند الخلفي بعد أن نام األوالد وخيم نهض .خرج بالجلباب إلى الشرفة المفتوحة على الحديقة.
كانت السحب تغطي وجه القمر والليل شديد القتامة .مال
برقبته يلقي نظرة على أرضه الممتدة خلف الحديقة .ال حركة ً عائدا للداخل سمع األصوات تقترب وال صوت .قبل أن يستدير واضحة .دبيب أقدام مهرولة ،ضجيج وصيحات ،ثم شق األجواء صوت يصيح بكلمة «غريب» كأنما تحذير أو استنفار.
تنبهت حواسه كلها .ال معنى لكلمة «غريب» في ليل القرية سوى أن أحد األشقياء سطا على زرع أو ماشية أو هجم على بيت يسرقه .فجأة تقصف سكون الليل من هزيز الرصاص .دوي
متالحق بومض من لهب برتقالي .انطلق إلى الداخل بسرعة.
62
سحب بندقيته .اختطف تلفيعة صوفية من على مقعد ألقى بها
في العتمة ليرى مصدر الصوت.
تتحرك داخل شبورة .هرول فوق الجسر الخشبي وأدرك الرجال
هناك .احتشدوا في حلقة بعضهم يحمل البنادق والبعض يمسك بشوم غليظ ،يتبادلون المشورة بكلمات مقتضبة وهم يرسلون نظراتهم في كل ناحية ً بحثا عن الطريق الذي يرجح أن يكون الغريب قد سلكه .لمح بين المحتشدين محمود
ابن عمه حسن .اقترب منه وسأله وهو يلهث «:ماذا جرى؟».
أجابه محمود بنبرة قاطعة من دون أن ينظر ناحيته« :غريب». ً مهموما« :ال أدري .أبو استفسر بقلق« :وماذا فعل؟» .قال
إسماعيل هو الذي لمحه عند الساقية» .سأله« :أي ساقية؟».
ً متبرما« :ال أعرف» .قالها وغاب في قلب التجمهر يشق أجاب لاً معه الطريق بين أعواد الزرع بغضب وتوتر .مشوا طوي ، يرفعون فوهات البنادق ،يرخونها ،يدمدمون ،يتلفتون حولهم إلى أن بلغوا أرض السلباوي التي هجرها أبناؤه في نزاع فأمست
خربة ثعابين .لعنة الله على الغريب المجهول الذي جره في
الليل ليستنشق الغبار الصاعد من بين األقدام برئتيه المنهكتين من التدخين .من هو؟ ما الذي فعله؟ وأين هو في
تلك الظلمة؟ توقف عبدالمولى والريح تهز أطراف
جلبابه« :كأنه فص ملح وذاب»! هتف غنام بغل: ً بعيدا» .زعق أبو إسماعيل وهو «ال يمكن أن يذهب يؤرجح طرف بندقيته عاليًا« :ها هو .هناك يا رجال».
لعلع الرصاص في االتجاه الذي أشار إليه الرجل ،ثم
ساد صمت .اندفع ثالثة منهم إلى األمام يخبطون األرض
بأطراف أقدامهم يتلمسون جثة مصاب برصاصهم .سمعهم
من بعيد يرددون «ال أحد».
عادوا من جديد ،كتلة واحدة ،تجتاح الليل وعيونها
تلمع بالشرر .بدأ يشعر بالتعب ،واالنهاك يتسرب إلى
العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
قدميه ،ونغزة في ذراعه اليسرى .تثاقلت خطوته إلى أن تخلف
ً تماما والريح تعوي حوله. عن الموكب ووجد نفسه بمفرده
التقط أنفاسه« :لو كنت قد استفسرت عما رآه أبو إسماعيل؟ عما حدث؟ أو أين جرى ما جرى؟» .استراح قليلاً ومد بصره ً قديما مهجورًا يشبه مخزن غالل إلى جهة اليسار فرأى مبنى ً وأمامه شجرتان .لم يكن مسموعا سوى نقيق الضفادع في ضوء قمر مختنق حين لمح فجأة طرف تلفيعة يرفرف في الهواء
ويتوارى خلف إحدى الشجرتين .قال لنفسه« :إنه الغريب. عليك بالحذر» .كتم أنفاسه وسار ببطء على مدق رفيع نحو
المبنى وإصبعه على زناد البندقية .توقف مكانه .خايله ظل
التلفيعة كأنما يثب من وراء الشجرة إلى كومة أحجار عالية يتوارى خلفها .وثب عدة وثبات فوق قنوات ماء مهجورة .شقت
أغصان جافة جلبابه عند كتفه وانخلعت منه فردة من نعله وهو يخوض في األرض .أحس بسن زجاجة ينغرز في باطن ً الهثا« :لعنة الله على الغريب المجهول» .قطع قدمه .توقف
وكثافة شديدتين .بدأ يسمع دبيب خطوهم يرج األرض والغبار
عدة خطوات إلى اليمين وهو يعرج في مشيته ،ثم حط على
يعلو في اتجاهه .أدرك أن أي همس يصدر عنه اآلن سيؤدي إلى
وجهه .تفكر فيما جرى« :للقرية أسرارها ،مثل كل القرى ،ربما ال يكون ًّ ً مجرما بل مجرد عاشق طوف ببيت امرأة؟». لصا وال
بريق غريب ثم انطفأ .قال لنفسه« :يطاردونك ويفتحون النار بال
حجر في األرض ووضع بندقيته إلى جواره .ضرب الهواء البارد
تساءل« :هل أيقظ ضجيج المطاردة أوالده الصغار في البيت؟ أم أنهم ينعمون بنومهم؟» .أحس بالدم ّ ينز من قدمه .شملته
مصرعه .أحس بيأس أسود يغمر روحه كلها .ترجرج في عينيه هوادة .ال يمنحونك لحظة تقول فيها من أنت؟ وتدفع ظنونهم؟ أي جنون! لم يعد إال الفرار طريقا وحيدا أمامك».
جرى إلى األمام يعرج تالحقه غيمة أصوات تتشعب في
رجفة رعب من الصمت المطبق كحد السكين ،ومن ضوء القمر
الجو بتوتر وإصرار يئز بينها صياح صارخ« :ال تتركوه .إنه هناك».
ً تماما. بمفرده ً استجمع همته وضرب بيده على فخذه ناهضا« :ال بد من ً مسترشدا الرجوع إلى الجماعة» .تحامل على قدمه النازفة وخطا
قبر مفتوح منبوش ،وخياالت الرجال تطول وتتمايل في العتمة
الفضي الميت ،ومن رائحة التراب ،ومن شعوره أنه وحيد
ً مسموعا بأصداء األصوات .أصبح صياح الرجال ودبيب خطوهم
عن قرب .مأل صدره بنفس االرتياح العميق .رفع بندقيته ألعلى ً هاتفا« :يا جماعة» .قبل أن يتم نطق الكلمة وقبل ولوح لهم
أن يتبين أحد صوته انصب عليه الرصاص بال توقف ،وصرخ ً مرتعدا أحدهم« :وجدناه .من هنا .تعالوا» .تجمد مذهولاً .صاح
من الغضب واالنفعال« :أنا شفيق حمدان» .لم يلحق بنطق الحرف األول من اسمه إال وكان الرصاص يتطاير ناحيته بقوة
تقطعت أنفاسه وهو يعدو بقدمه النازفة إلى أن وجد نفسه قرب
كاألشباح .لم يشعر بالرصاص الذي اخترق صدره وكتفه ،فقط
أحس بنصفه العلوي يميل ويهوي ،ثم بوجهه ينكفئ على تراب القبر .لحظة أخيرة من الوعي ،ثم طوته غيبوبة األبد.
وبحلول الصيف بزغ في األرض الخربة زهر مجهول يتوهج
بقسوة ،اشتدت أعواده في أكثر من مكان.
63
بورتريه
ِمركل.. من «فتاة كول» إلى «قائدة العالم الحر» سمير جريس
كاتب ومترجم مصري يقيم في ألمانيا
ذات مرة سأل صحافيون أنغيال مِ ركل :ماذا تغير في حياتك
بعد أن أصبحت مستشارة؟ فأجابت :التسوق!
64
في ذلك اليوم حكت مركل للصحافيين أنها اعتادت الذهاب إلى
«السوبرماركت» بنفسها ،وشراء ما تحتاج إليه .لكن ذلك أصبح صعبًا بعد أن َّ تولت منصب المستشارية .فما تكاد تدخل محلاًّ حتى يلتف
العاملون حولها« .لم يكن يحدث هذا من قبل» ،تقول مركل بنبرة
جافة .ثم تسمع في المحل السؤال التقليدي« :عن أي شيء تبحثين؟» تقول لهم :عن خرشوف (أرضي شوكي) مُ ّ علب« .ماذا؟» ،يأتي الرد
باندهاش .في تلك األثناء يكون مدير الفرع قد ظهر أمامها ليعيد السؤال نفسه« :عن أي شيء تبحثين؟» فتكرر مركل اإلجابة .يقول المدير: «ماذا؟ لدينا بالطبع خرشوف طازج ،سيادة المستشارة ».تعيد مركل أنها تفضل المُ َّ علب؛ ألنه جاهز لالستخدام .هذه المواقف دفعتها إلى أن تطلب من زوجها يواخيم زاور ،البروفيسور في الكيمياء ،أن يقوم هو بالتسوق ،لكن تضيف مركل: «بعد أن أكتب له ورقة بما نحتاج إليه».
العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
هذا الموقف يبين على خير وجه شخصية مركل التي لم تغيرها
السلطة كثيرًا .ما زالت هي المرأة التي تحب أن تطبخ بنفسها ،إذا
توافر لديها الوقت ،وتخبز في فصل الصيف فطيرة البرقوق؛ وما زالت هي البروتستانتية المتواضعة ،المتقشفة ،المحبة للعمل،
التي تبتعد من األضواء في حياتها الشخصية .لن تجد إال نادرًا صورة لمركل وهي تقضي إجازتها السنوية في إيطاليا مثلاً ،أو على جبال األلب ،أو على أحد الشواطئ الساحرة ،مثلما كان يفعل المستشار
السابق غيرهارد شرودر ،أو كما كان يفعل راعيها هلموت كول. لن نجد لمركل سوى صورها في أثناء تأدية عملها كمستشارة.
بموضوعية العالِم وتجرده اقتربت من السياسة رغم أنها لم تفكر يومً ا في االنضمام إلى حزب ،ناهيك عن أن تصبح مستشارة.
ولدت أنغيال مركل في هامبورغ (ألمانيا الغربية) في عام 1954م،
وفي العام نفسه انتقلت عائلتها إلى ألمانيا الشرقية حيث نشأت
وتعلمت في مدارس الدولة االشتراكية ،ومن جامعة اليبزيغ نالت درجة الدكتوراه في الفيزياء .وفي عام 1978م حصلت على وظيفة في معهد الكيمياء الفيزيائية بأكاديمية العلوم في برلين الشرقية .ولوال
سقوط جدار برلين عام 1989م ،وانهيار الكتلة الشرقية ،وتوحد شرق ألمانيا مع غربها ،ما تركت مركل السلك العلمي أب ًدا. عالمة براغماتية
ما زالت هي المرأة التي تحب أن تطبخ بنفسها ،وتخبز في فصل الصيف فطيرة البرقوق؛ وما زالت هي البروتستانتية المتواضعة ،المتقشفة ،المحبة للعمل انتخابات عام 1998م ،وبعد أن افتضح أمره بسبب تبرعات حزبية
تلقاها على حسابات بنكية سرية .كانت مركل مِن أول منتقدي كول علنيًّا ،بل كتبت مقالاً في واحدة من أهم الصحف األلمانية لتعلن ً متشوقا تبرؤها مما فعله .في عام 2000م اختارها الحزب –الذي كان
إلى بداية جديدة بعد «فضحية كول» -رئيسة له ،لتصبح أول امرأة ترأس حزبًا سياسيًّا كبيرًا في ألمانيا .ولم تمض خمس سنوات حتى
َّ حلت محل شرودر على كرسي المستشارية ،لتغدو أول مستشارة َّ في تاريخ ألمانيا ،وأصغر من تولى هذا المنصب ً أيضا (كانت آنذاك في الحادية والخمسين).
برز دور مركل القيادي في االتحاد األوربي خالل األزمة المالية
واالقتصادية التي اجتاحت العالم منذ نهاية 2007م ،وكافحت من أجل إنقاذ العملة األوربية الموحدة .ثم تعزز دور ألمانيا ،ومعه
مكانة مركل ،بعد إجراء االستفتاء في بريطانيا حول البقاء في االتحاد األوربي .كانت نتيجة االستفتاء صدمة كبيرة لدول االتحاد،
يقول بعض :إنها تتعامل مع السياسة بمنطق العالِم الذي
بل صدمة للحكومة البريطانية نفسها؛ إذ لم يتوقع أحد أن تكون
يقولون ذلك ليس على سبيل المديح ،بل ليؤكدوا أنه ليس لديها
لكن مركل ،كعادتها ،استطاعت تحويل األزمة إلى فرصة :فرصة
يقف أمام مشكلة ويريد حلها .ويطلقون عليها «البراغماتية» – رؤية سياسية .هي تحل ما يعترضها من مشاكل فحسب ،أو «تدير األزمات» ،بحسب تعبير المنتقدين .ونحن إذا نظرنا إلى كيفية
تعاملها مع مشكلة العملة األوربية ،وانهيار بعض البنوك ،واألزمة المالية في اليونان وإسبانيا وإيطاليا ،نجد أن هذا التحليل صحيح
إلى حد كبير .بعد انهيار المعسكر الشرقي أرادت عالمة الفيزياء أن
تشارك في البداية السياسية الجديدة في شرق ألمانيا ،فانضمت إلى الحزب الديمقراطي المسيحي في عام 1990م (عام الوحدة
األلمانية) ،وتقدمت إلى أول انتخابات برلمانية تجرى في ألمانيا
نتيجة التصويت لصالح الخروج من االتحاد األوربي (البريكست).
للوصول إلى مزيد من التضامن األوربي عبر إظهار الثمن المرتفع الذي ستدفعه لندن مقابل هذه الخطوة ،أو على األقل هذه هي
إستراتيجية مركل.
المدافعة األخيرة عن الغرب الليبرالي
رئيسا ثم ارتفعت مكانة مركل عالميًّا بعد انتخاب دونالد ترمب ً للواليات المتحدة األميركية الذي رفع شعار «أميركا أولاً » .خشي
المتحدة ،ونجحت في الحصول على مقعد في البوندستاغ .لفتت
أنظار المستشار األسبق هلموت كول ،فاختارها لتكون وزيرة للمرأة والشبابُ .نظِ ر إليها باستخفاف آنذاك ،وأُطلِق عليها «فتاة كول»، ُّ وات ِهمت بأنها مجرد تابعة لراعيها ،من دون أن يكون لديها شخصية
سياسية مستقلة.
لكن المقربين من الوزيرة الشابة تعرَّفوا «غريزة السلطة» لديها ،كما أُعجبوا بأسلوبها الموضوعي في مقاربة القضايا السياسية ،وإصرارها على الوصول إلى ما تعده صحيحً ا ،من دون
الصدام مع الكبار في الحزب ،وعلى رأسهم راعيها هلموت كول
بالطبع .غير أن الصدام مع كول كان حتميًّا ،وبخاصة بعد أن خسر
مركل مع هلموت كول ،سنة 2000م
65
بورتريه
كثيرون ،في أميركا وخارجها ،صحوة التيارات القومية المتشددة
في العالم كله ،التي ال ترى سوى مصالحها الذاتية .ظهرت مركل –بمواقفها األوربية وتعاملها اإلنساني مع أزمة الالجئين -كأنها
المضاد لشخصية ترمب ،فوصفتها صحيفة «نيويورك تايمز» بـ«المدافعة األخيرة عن الغرب الليبرالي» .ولعل أكبر ٍّ تحد واجهته مركل خالل سنوات حكمها االثنتي عشرة هو مشكلة الالجئين، وقرارها الخاص بفتح الحدود أمامهم في الرابع من أغسطس عام
2015م .يقول بعض الصحافيين :إن هذه الليلة تشبه ليلة سقوط جدار برلين في التاسع من نوفمبر 1989م ،وي ّدعون أن ليلة الرابع من
أغسطس عام 2015م ستغيّر ألمانيا في العقود المقبلة بشكل عميق،
مركل مع الالجئين السوريين
مثلما فعل سقوط الجدار وما أعقبه من انهيار المعسكر الشرقي، ثم إعادة توحيد ألمانيا .آنذاك قالت مركل تلك الجملة التي اشتهرت
فيما بعد في ألمانيا« :نستطيع ذلك» ،أي نستطيع أن نتغلب على مشكلة الالجئين التي ع َّدتها المستشارة «مهمة وطنية ضخمة»، وبخاصة بعد أن استقبلت ألمانيا نحو مليون الجئ في عام واحد.
القت سياسة مركل التأييد لدى قطاع كبير من األلمان،
واكتسبت في تلك األيام شعبية كبيرة داخل ألمانيا وخارجها، وأصبح لقبها لدى الالجئين «ماما مركل» ،وتناقلت وسائل اإلعالم
ِّ «السيلفي» معها .ومع نهاية صور الالجئين وهم يلتقطون صور
66
العام توقع كثيرون أن تنال المستشارة األلمانية جائزة نوبل للسالم لموقفها اإلنساني النبيل .من ناحية أخرى ،أصيب عدد كبير من
األلمان بالصدمة والخوف عندما رأوا بالدهم تفقد السيطرة على حدودها؛ والدول في نهاية المطاف ُتعرّف بحدودها ،وهو ما أدى، مع تزايد عدد الالجئين ،إلى انقسام عميق في المجتمع األلماني ما
زال مستمرًّا حتى اليوم.
مواجهة النازية الجديدة ً في تلك المُ دة زارت مركل مركزا إليواء الالجئين في مدينة «هايندناو» في والية سكسونيا (شرق ألمانيا) التي أصبحت رم ًزا
ُوجمت بأقذع للتعصب واالتجاهات النازية الجديدة في ألمانيا ،فه ِ ُوجهت للمرة األولى بهذا الغضب الشتائم («عاهرة»« ،خائنة») ،وو ِ
المنفلت لدى بعض قطاعات الشعب األلماني ،وال سيما تيارات اليمين المتطرف ،التي ربما لم تكن تعلم بحجمها .ثم توالت أحداث في ألمانيا رفعت صوت منتقدي مركل عاليًا ،بدءًا من أحداث ليلة
لعل أكبر تح ٍّد واجهته مركل خالل سنوات حكمها هو مشكلة الالجئين، وقرارها الخاص بفتح الحدود أمامهم في الرابع من أغسطس عام 2015م. يقول صحافيون :إن هذه الليلة تشبه ليلة سقوط جدار برلين واندفعوا يتساءلون :هل ارتكبنا خطأً باستقبال كل هذا العدد في
مدر ً كة حجمَ القرار الذي هذه المدة القصيرة؟ هل كانت حكومتنا ِ َّاتخذته؟ هل ارتكبت مركل أخطاء في التعامل مع ملف الالجئين؟ كانت اإلجابة عن كل هذه األسئلة من وجهة نظر اليمين المتطرف
هي :ال بد من إزاحة مركل!
في تلك األيام قويت شوكة حزب جديد هو «البديل من أجل
ألمانيا» الذي تأسس عام 2013م كحزب قومي مُ عا ٍد لالتحاد األوربي
والعملة األوربية ،غير أنه سرعان ما وجد في أزمة الالجئين موضوعه ً حاضنة لكل خصوم سياسة «الباب المفضل ،وبسرعة أصبح المفتوح» التي انتهجتها مركل ،سوا ٌء من المواطنين َ «الق ِل ِقين» على
مستقبل بالدهم ،أو من النازيين الجُ دد .قد يكون تشبيه ليلة الرابع
من أغسطس بسقوط جدار برلين مبالغة كبيرة ،لكن األكيد أن تلك الليلة أ َّدت إلى حدوث انقسام حا ّد في المجتمع األلماني ،وهو ما
سيؤثر بالطبع في نتيجة االنتخابات المقبلة.
وعلى الرغم من كل ذلك ،ففي اعتقادي أن مركل ستنجح في
تحقيق انتصار لحزبها ،وستجلس أربع سنوات أخرى على كرسي
االحتفال برأس السنة الميالدية ،وهي الليلة التي شهدت فيها مدن ً ً جماعية من االعتداءات حاالت وخصوصا مدينة كولونيا ألمانية عدة، ٍ
المستشارية؛ فكثير من األلمان يتحدثون عن غياب بديل حقيقي
شمال إفريقيا .ثم جاءت سلسلة من االعتداءات اإلرهابية نفذها
الباب المفتوح التي انتهجتها ،بقدر ما يعني ثقتهم في المستشارة
الجنسية والسرقة ،وكان معظم الجُ ناة من الالجئين ،أغلبهم من الجئون في مدن متفرقة من ألمانيا ،بل شهدت العاصمة برلين في
ً شخصا بين 19ديسمبر 2016م عملية إرهابية راح ضحيتها نحو ثمانين قتيل وجريح .أُصيب ماليين من األلمان عندئذ بالصدمة والذهول، العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
جدير بإزاحة مركل .لن يعني فوز مركل تأييد الماليين لسياسة
«البراغماتية»« ،مديرة األزمات» التي أدركت ،واعترفت ،بأنها ارتكبت أخطاء في تعاملها مع أزمة الالجئين ،ووعدت شعبها بأن
ما حدث ليلة الرابع من سبتمبر لن يتكرر ثانية.
نصوص
ظل النظرات المتعبة ُّ سلمان الجربوع
شاعر سعودي
غروب
ْ تهافتت أشباحُ نا عندما آخ َر اليوم
على رصيف الميناء
مثل أوراق الخريف
كان الشاطئ
ّ ينضم على بعضه ً حنانا
بقدميها العاريتين.
قبطانة
ُ أدركتها
قبيل الفجر ً حائرة
في خطوط الحرق القديم على ظاهر ّ كفي َ مكانه كمن يلتمس في خريطة كنز ٌ متقاعس دمي
ورياحي غي ُر مواتية ّ لكنها
ٌ اإلبحار عازمة على ِ على أ ّية حال ُ قبطانة الوقت المهدور في عينيها فقط
تلتمع ُ لؤلؤة روحي.
وشم ٌ واحة
ٌ َ أسفل سا ِقها، موشومة ُّ ظل النظرات المتعبة.
طريق البيت على
ّجات تعر ِ
خطوط الوالدة ِ
في بطون زوجاتهم
يجد اآلباء التائهون
أخيرًا َ طريقهم إلى البيت.
رجوع
أنوء بنفسي
َ الوهج ثقيلة شمس مثل ِ ٍ ها أنا
في الرجوع الطويل إلى حبيبتي أحرقت جميع الظالل.
67
قضايا
68
مقارها تشبه بيو ًتا مهجورة في وسط المدن
مجامع اللغة العربية..
تعيش في غربة على هامش العصر العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
مجامع اللغة العربية
صبحي موسى القاهرة
هدى الدغفق الرياض
هيا صالح األردن
تونس
هل من حضور اليوم فاعل وفعلي لمجامع اللغة في الوطن العربي؟ سؤال تستدرجه
القطيعة بين هذه الكيانات المعنية بحراسة اللغة ،والواقع الذي يتجدد في كل لحظة ،القطيعة التي
يستشعرها على نحو واضح ،المثقف والمختص والرجل العادي؟ فعلى كثرة انتشار مجامع اللغة في الوطن العربي ،بدءً ا من مجمع دمشق عام 1916م ،ومجمع القاهرة ()1932م ،مرورًا بالمجمع
العلمي العراقي (1947م) ،والمجمع األردني (1961م) ،والمجمع التونسي (1983م) ،والمجمع السوداني (1993م) ،وأخيرًا مجمع اللغة بالشارقة (2016م) ،فضلاً عن كثير من المؤسسات والروابط
المعنية باللغة ،إال أن ً أحدا ال يشعر بحضور أي من هذه المجامع والروابط والمؤسسات في الحياة
االجتماعية والثقافية ،على الرغم من األدوار األساسية التي أنشئت من أجلها ،وعلى الرغم من أهمية المعاجم والقواميس التي عكف شيوخ اللغة الكبار على إنجازها ...فقد ظلت مغلقة على
نفسها حتى إن بعض مقارها يكاد يكون أشبه ببيوت مهجورة في وسط المدن ،لذلك ال عجب أن
تسأل عن مقر مجمع ما للغة في عاصمة عربية وال تعثر على إجابة شافية ،األمر الذي يعكس حال العزلة الذي أضحت تعيشه هذه المجامع ومن ينتسب إليها ،العزلة التي راحت تتفاقم مع تقدم ثقافة العصر وتقنياته ،فما تقترحه هذه المجامع من معادل لغوي لكثير من مفردات العصر ال
يلقى االستحسان ،إما لوعورة الكلمة المقترحة ،أو لعدم تعبيرها عن روح المفردة الجديدة ،إضافة
إلى التحديات التي تواجهها هذه المجامع ،ومنها ضعف التمويل وعدم صدور قرارات سيادية تلزم
بتوصياتها .فهل تجاوز الزمن فكرة مجمع اللغة ،أم أن خروج العرب من دائرة اإلسهام الحضاري جعل لغتهم ومؤسساتها خارج اهتمام المثقف وليس فقط المواطن العادي؟
محمود فهمي حجازي :التمويل ال يتناسب مع الطموحات
مجمعا اللغة العربية في القاهرة وفي دمشق أُ ِّس َسا
على نمط مجمع اللغة الفرنسية في باريس ،ومن ثم فقد ً عمقا لغويًّا أكثر ،ومن ثم تمثل دوره أخذ العمل فيهما
الثقافي في عمل ملتقيات لغوية من حين إلى آخر ،وهناك اتجاه قوي اآلن لعمل ندوة شهرية بدءً ا من أكتوبر المقبل
عن موضوعات لغوية أو ثقافية سواء في اإلطار المصري أم بالتعاون مع جهات عربية مماثلة .المجمع له دور قومي
قديم في تحقيق التراث العربي ،وهذا موجه إلى جمهور الباحثين ،كما أن له دورًا في صناعة المعاجم المتخصصة في األنثربولوجيا والهندسة والرياضيات ،فضلاً عن معاجم اللغة التي تهم جمهور المثقفين ،ومن بينها المعجم الوسيط الذي يعد أهم معجم ُ ص ِّنف في العصر الحديث، كما أن المعجم الوجيز كان ي َّ ُسلم لتالميذ المدارس في
دول عربية عدة من بينها مصر وتونس.
وأكبر المعوقات التي تواجه المجمع في أداء دوره
المنوط به أنه يعمل وحده ،بوصفه مؤسسة
متخصصة ووحيدة في هذا المجال، في حين أن األكاديمية الفرنسية ،أو ُ نشئ المجمع المجمع الفرنسي الذي أ ِ
العربي على غراره ،تعمل إلى جانب كثير
من مراكز البحوث العلمية في الجانب اللغوي ،وليس لدينا في بالدنا
مراكز حقيقية متخصصة في ذلك ،حتى المركز القومي
للبحوث ال عالقة له باللغة، والجامعات بها أقسام لغة
عربية لكنها ليست متخصصة في دراسات وأبحاث وتاريخ
اللغة ،وفي الوقت الذي توجد فيه ُد ور نشر متخصصة
69
قضايا
في نشر كتب لغوية وتوزيعها مثل دودن في ألمانيا والروس في فرنسا ،مما يحقق عائد يمكن إنفاقه على
الباحثين وأبحاثهم ،فإن هذا غير موجود في بالدنا ،ومن
ثم فالتمويل أغلبه من الحكومة؛ إذ يتبع المركز وزارة التعليم العالي ،وإن كان تدخل الوزارة هامشيًّا لدرجة يمكننا القول من خاللها :إن المجمع جهة مستقلة ،فوزير
التعليم العالي يفتتح المؤتمر السنوي ،ويعتمد قرارات المجمع وانتخابات األعضاء الجدد .ومن المعوقات عدم وجود سياسة لغوية في البلدان العربية ،والمقصود هنا تحديد المجاالت التي تستخدم فيها لغتنا العربية،
وكيف يمكن إبرازها والتأكيد على هويتنا من خاللها ،ومن
ثم فال بد من وجود قوانين تنظم وضع الالفتات واللغة المستخدمة فيها ،وكذلك تنظم اللغة المستخدمة في اإلعالم والمدارس والتعليم بشكل عام .وفيما يخص التمويل فهو أمر يحتاج إلى تأمل؛ إذ إنه ضئيل وال
يتناسب مع الطموحات الموجودة ،ألننا في المجمع
نتبع القوانين المصرية ،والقوانين تكبله في تعامله مع الجهات الخاصة أو تلقي تبرعات منها.
70
عضو المجمع المصري
منصف الوهايبي :المجامع تنهض بترتيب العالقة بين اللغة وتراثها
ينبغي أن نقرّ ،ونحن نمهّ د السبيل إلى جواب سائغ مقبولّ ، أنه ليس من ّ حق أيّ م ّنا أن يستصدر حكم قيمة ،على مجامع اللغة العربيّة، وبيوت الحكمة ،في استجوابات خاطفة المؤسسات التي تؤ ّدي كهذه؛ وهي ّ عملها في ظروف ما ّدية صعبة .على
المؤسسات تواجه أنّ ما يعنينا أنّ هذه ّ ّ لعل علميًّا قضايا لغويّة شائكة، من أظهرها أنّ ضبط حقيقة الكلمة أو ماهيتــها أو غير هاتين المقولتين من مقوالت تنتسب
إلى نفس العائلة المفهوميّة ّ والحد الكبرى نظير المفهوم
والجوهر والهويّة ...وما إلى ذلك ،عمل ال يخلو من
صعوبة في ثقافة العرب المعاصرين؛ ألسباب :من أبرزها أنّ المصطلح ما ّد ة لغوية باألساس ،وليس بالميسور اإللمام بأطرافها والوقوف على نم ّوها ّ وتطورها في معاجم مثل معاجمنا تستدعي الداني والقاصي ،وتجمع الشاذة ّ والفاذ ة؛ فإذا الكلمة تقفز من عصر إلى عصر ،ومن معنى العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
عدم وجود سياسة لغوية في البلدان كبيرا ،والمقصود العربية ،يمثل عائقً ا ً تحديد المجاالت التي تستخدم فيها لغتنا العربية ،وكيف يمكن إبرازها والتأكيد على هويتنا من خاللها ،ومن ثم فال بد من وجود قوانين تنظم وضع الالفتات واللغة المستخدمة فيها، وكذلك تنظم اللغة المستخدمة في اإلعالم والمدارس والتعليم بشكل عام إلى معنى ،عبر فجوات فاغرة ،ومتاهات لغويّة متشعّ بة
األصول والفروع ،قد ال يقدر الباحث على تخطي عقباتها
ورياضة صعابها .والكلمة شأنها شأن المصطلح ،ال تنهض بوظيفتها ،إلاّ إذا أ ّدت عن «المفهوم» الذي وضعت له، ّ بدقة من جهة ،واتصلت بأفهام القرّاء من جهة أخرى، ودخلت حيّز االستعمال .وعلى أساس من هذه الوظيفة
المنوطة بها ،نستطيع تقدير رجحان مصطلح على آخر، ّ كلما كانت منزلته تكافئ منزلة مفهومه أو كان أوفر حياة وأوفى داللة.
إذن قد يكون مر ّد اإلشكال في مستوى أ ّول إلى أنّ
معاجمنا عامّ ة تنقلنا من عصر إلى عصر؛ دون أن يعبأ
كثيف حُ جُ ب صاحبها بما انسدل بين هذه العصور من ِ الزمان والمكان .صحيح ّ أننا نكتب بلغة «واحدة» هي
الفصحى .ولكنّ األمر في واقعنا العربي ليس بهذه ّ مؤثرات اللغات األجنبيّة واللهجات البساطة ،فثمّ ة ّ ممّ المحليّة في كالمنا ونصوصنا .وهذا ا ال تتفطن إليه
المؤسسات المذكورة ،أو هي تتحاشاه ،ألسباب قد ّ تكون دينيّة «قداسة» اللغة العربيّة ،أو سياسيّة .أليس
في هذا االستعمال اللغوي المختلف أو المتن ّوع؛ ما ّ ّ يؤكد أنّ الكلمة ال تمضي على ثبات وديمومة واطراد؛ ّ ً تقييدا أو تحويلاً ؟ وإنما تغيّر ما بنفسها توسيعً ا أو
فهذه «العربيّات» يجري أكثرها على أصول العربيّة وقوانينها في اشتقاق الصيغ وتصريفها؛ على نحو يتيح
لنا الرجوع إلى صورة الكلمة أو وزنها أو صيغتها أو بنائها، ولكنّ استعمالها «يختلف» من بلد إلى آخر.
المؤسسات هي التي تنهض بإعادة ترتيب وهذه ّ
العالقة بلغتنا وتراثها؛ بل إعادة وصفها دون تهيّب.
عضو المجمع التونسي للعلوم واآلداب والفنون (بيت الحكمة)
مجامع اللغة العربية
وفاء كامل :ال يوجد قانون يلزم باألخذ بتوصيات المجمع
رسالة المجمع تكمن في الحفاظ على اللغة وسالمة
نطقها على ألسن الجميع ،والوفاء بمتطلباتها من مستلزمات
الحضارة والعلم ومصطلحاتهما الحديثة ،إضافة إلى دراسة تاريخ اللغة وتطورها عبر مراحلها المختلفة .المشكالت التي يواجهها المجمع أنه ال يوجد قانون ملزم لبقية هيئات
المجتمع باألخذ بتوصيات المجمع ،كان الدكتور فتحي
سرور قد شرع في إعداد قانون لمجلس الشعب بهذه
الصيغة لكن األمر توقف ولم يكتمل .وضعف التواصل
بين المجمع وغيره من مؤسسات المجتمع يعد أكبر المعوقات ،فكثير من المحاضرات واألبحاث التي ُت َ نشر
في مجلة المجمع ال تصل إلى الناس ،وكم الترجمات
عن المنجزات العلمية أو غيرها كثير ،وأي دراسة علمية تحتاج إلى وقت وجهد وتأني ،وهنا تكمن المشكلة الكبرى ،فالمجمع يبدو أداؤه بطي ًئا ،ويضم مجموعة من كبار السن غير قادرين
على مالحقة ما يحدث ،في حين الترجمات المتوالية ال يمكن
لغوية» ،وكانت وقتها جامعة القاهرة قد قررت أن يقوم كل باحث ماجستير على دراسة شاعر أو أديب من القدماء ،وقمت بدراسة داللية للمعاني واألضداد والمترادفات ،وسجلت كل
المعجم اللغوي لكعب بن زهير في نحو 525صفحة من أصل
الرسالة المكونة من .725في مطلع األلفية الجديدة ،بدأ تعاون بين مجمع اللغة العربية وجامعة القاهرة من خالل مشروع
توقيفها إلى حين االنتهاء من ترجمة المصطلحات ،ومن ثم تنتج لدينا مصطلحات ُعرِّبت بمعرفة المترجمين على عجل،
المعجم التاريخي ،هذا الذي تبرع حاكم الشارقة ببناء مبنى
تذيع وتنتشر إعالميًّا ،ويصبح من الصعوبة تغييرها في أذهان
أبحاث المعجم التاريخي ،التي تهدف إلى دراسة اللغة في
ورغم أنها ال تحمل الصواب الكافي لداللتها المعرفية إال أنها الناس ،وال يتقبل أحد ما يقدمه المجمع من تصويبات أو
مصطلحات.
أعد المجمع قواميس في األنثربولوجيا والهندسة ً أحدا ال يعود إليها وال يلتزم والفيزياء والطب وغيرها ،لكن
خاص به هو واتحاد المجامع العربية ،وتعهد بأن ينفق على العصور األولى ،ثم تطور صيغها في العصور التالية حتى وقتنا
الحالي ،وهو أمر يحتاج إلى تمويل كبير ألنه بحاجة إلى تكاتف كثير من ال ِفرَق البحثية ،وإذا كان األلمان والفرنسيون أنجزوا
المعجم التاريخي للغاتهم في أربعين عامً ا ،فأنا متفائلة أننا
بها ،وقد طالبت فور انضمامي للمجمع منذ ثماني سنوات
قادرون على إنجازه في زمن لن يتجاوز عشرين عامً ا ،وعشرون
لجنة تجتمع بشكل يومي ،وترد على األخطاء وتص ِّوبها ،وال
أول عضو نسائي في المجمع المصري
بضرورة عمل لجنة لمراجعة ما ينشر في الصحف والمجالت؛
يكون موعد اجتماعها أسبوعيًّا مثل بقية لجان المجلس، لكن هذا االقتراح ذهب أدراج الرياح ،ربما لمعوقات إدارية
أو بيروقراطية .أكبر المشروعات التي يعمل عليها المجمع هو المعجم التاريخي للغة العربية ،وهذا قام به األلمان
والفرنسيون في بالدهم في غضون أربعين سنة ،شاركت فيه مجموعات كثيرة وكبيرة ،بدءً ا من أساتذة الجامعات مرورًا بالباحثين في اللغة وصولاً إلى مدرسي اللغة في المدارس.
هذا المشروع بدأه األلماني فيشر حينما كان مقيمً ا في
مصر في األربعينيات ،وكان يعمل بطريقة التسجيل على
عامً ا في عمر الشعوب رقم ليس بكثير.
علي السامرائي :قضايا ال طائل منها من وظيفة المجامع اللغوية إنشاء
تواصل بين لغات العالم بهدف نقل
المنجزات الثقافية والفنية والحضارية
واإلفادة منها في تالقح اللغات وتعميق
أواصر المنجزات العلمية بين األمم ،لكن يبدو أن المجامع العربية لم
تفلح إلى يومنا هذا في فهم
الجذاذات الورقية ،وحين سافر إلى بلده قامت الحرب وفقدنا ً وأيضا الجذاذات التي جمعها .أنا أول عضو نسائي بالمجمع،
واستيعاب هذا الهدف فبقيت
في الوقت من 1970إلى 1974م عن «كعب بن زهير :دراسة
وال أهمية لها.
أول امرأة عملت على التاريخ اللغوي في رسالتي للماجستير
تجتر قضايا ال طائل منها
71
قضايا
ترقد اآلن على رفوف المجامع العربية مئات اآلالف من
المصطلحات في كل العلوم والفنون واآلداب والفلسفة
ومسميات علمية كثيرة لم يجدوا ما يقابلها في اللغة العربية ،ما يعزز الرأي أن العربية قاصرة عن استيعاب
هذا الكم من المعارف والواقع أن عدم إيجاد ما يقابل ذلك في اللغة العربية ليس قصورًا بل إن ذلك ربما يضيف إلى
لغتنا ثراءً معرفيًّا في إدخال هذه المصطلحات بأسمائها أو األقرب إليها ،لكن المجامع تعد ذلك خطرًا على اللغة، من هنا فدخول أسماء إلى لغتنا ليس لها عهد بها هو أمر
حتمي شئنا أم أبينا ،والحاضر يقتضي من المجامع العربية
أن تنظر األمر بجدية للحاق بركب المنجزات العلمية التي تخطو سريعً ا.
ناقد ولغوي عراقي
أحمد فؤاد باشا :التدريس في الجامعات «سمك لبن تمر هندي» المجمع كأي شيء في
المجتمع يقوى بتقوية إمكاناته،
72
شأنه شأن التعليم والمرافق
الثقافية وغيرها ،لكن
مشكلته في أن توصياته اً وقوانيه ال تفعَّ ل ،وهو ليس مسؤول عن تفعيلها؛
إذ إنه يخاطب على سبيل المثال التربية والتعليم لتصحيح المناهج وتعديلها ،ويخاطب اإلعالم لمعالجة أخطاء المذيعين ،ويخاطب الجهات القانونية لتعريب المصطلحات القانونية ،وقد قام على تعريب مصطلحات
كل العلوم في مجلدات ،لكن ال الجهات التنفيذية
تستجيب لتوصيات المجمع ومخاطباته ،وال أحد يخرج المجلدات ليقرأها.
األمر يحتاج إلى قرار سيادي لجعل اللغة العربية
هي اللغة األولى بالفعل ،ولك أن تنظر إلى حال التعليم
وتعدده ،وهو ما يوضح أن األمر أكبر من إمكانيات المجمع ،وأننا صرنا على األقل بحاجة ألن تكون خطابات المسؤولين باللغة العربية ،وليس العامية .المدهش
أن األساتذة في الجامعات ال يقومون بالتدريس باللغة
العربية ،رغم أن اللغة قسمة أساسية في الهوية،
والتنازل عنها هو تنازل عن الهوية ،وعلى الرغم من كثرة إثارة الموضوع إال أن أحدً ا ال يستجيب ،حتى إن قاعات
الدرس صارت كما يقولون« :سمك لبن تمر هندي»، كلمة عربية وأخرى إفرنجية ،وبينهما كلمات عامية، ومصطلحات علمية تارة ،وشعبية تارة أخرى .علينا أن
نستفيد من تجربة المأمون في إنشاء دار الحكمة ،أليست
ترى ماذا قدمت المجامع العربية من برامج وخطط ومشاريع لالرتقاء بلغة التخاطب؟ ماذا قدمت من معاجم لتوحيد المصطلحات العربية المستخدمة في مجاالت اإلعالم والصحافة والسياسة والعلوم والتقنية؟ أين دورها في ترجمة المصطلحات المستحدثة في عالمنا المعاصر؟
سيد الوكيل :كيانات لم تعد صالحة للعمل آخر مرة سمع فيها اسم مجمع اللغة العربية كان منذ
خمسة عشر عامً ا ،عندما أخبرني األديب محمد مستجاب
أنه يعمل هناك .أنا ال أقصد إهانة أحد ،لكني أشير إلى أن ثمة كيانات كثيرة فقدت وجودها بالتقادم ،مثلاً لو سألت
مئة أديب عن دار األدباء ،فإن تسعين منهم ال يعرفون عنها شي ًئا .هذه الكيانات :إصدارات قديمة ،لم تعد صالحة للعمل وتحتاج «فرمتة» وإعادة «تسطيب» .في الماضي، كان لمجمع اللغة العربية وظيفة ثقافية مهمة ،مثلاً :عندما
دخلت الثالجة الكهربائية إلى مصر ،كانت األسر األرستقراطية تسميها «فريجيدير» لكن جهود المجمع جعلت كل الناس
العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
مجامع اللغة العربية
الدول العربية قادرة على إعادة إحياء هذه التجربة؟ فبيت
الطبيعي أال تجد لها أثرًا في حياة الناس ،وربما ال يعلم كثير
حدة ،نظ ًرا ألن المصطلحات العلمية في تزايد ،واألمر
العربية على تعريبه منذ سنوات ال يزال الناس ال يعرفونه إال
الحكمة العصري هو المخرج من هذه األزمة التي تزداد يحتاج إلى قرار سيادي قوي.
لغوي وأكاديمي مصري
عبدالله مليطان :مؤسسات منفصلة عن الواقع
من الناس بوجود مجمع للغة لديهم .حتى ما اتفقت المجامع
بلغته األصلية ،وال يتداولون ما اتفقت عليه تلك المجامع؛
ألن المجامع العربية لم تحسن الترويج له والتعريف به .وهو
تقصير منها بالطبع للدور الذي كان عليها أن تقوم به إزاء دورها في خدمة لغتنا العظيمة.
يؤسفني القول :إن مجامع اللغة أصبح شأنها شأن ما
كاتب ليبي
يجري في الواقع العربي على كل المستويات ...بعيدة من الواقع
ممدوح فراج النابي :ال يتردد اسم المجمع سوى عند الموت
بالشأن األكاديمي والعمل العلمي ،فماذا قدمت في هذا
يتردد إال في مناسبات الموت ،فال نسمع اسم المجمع ورئيسه
منفصلة عن حياة الناس على الرغم من طبيعة عالقتها بوسيلة
التخاطب ،وهو اللسان العربي ...وإن قال قائل :إن أمرها يتصل الصدد؟ وفي تصوري أن أي مؤسسة ال تتصل مباشرة بالناس
ال جدوى من وجودها .ترى ماذا قدمت المجامع العربية من
برامج وخطط ومشاريع لالرتقاء بلغة التخاطب؟ ماذا قدمت من معاجم لتوحيد المصطلحات العربية المستخدمة في مجاالت اإلعالم والصحافة والسياسة والعلوم والتقنية؟ أين دورها في ترجمة المصطلحات المستحدثة في عالمنا المعاصر؟ بالطبع هناك من سيتعلل بعدم وجود اإلمكانات المادية
الداعمة لنشاطه وبالعراقيل التي تواجهه إداريًّا وفنيًّا ...وهو أمر واقع لذلك فإن الدول التي
ال يعنيها أمر اللغة ومجامعها ما كان عليها أن تنشئ مجمعً ا لتتركه يعاني الدعم وقلة اإلمكانات ليكون عب ًئا عليها وثقلاً يضاف إلى أثقالها .لذلك من
دور مجمع اللغة العربية في الواقع الثقافي مع األسف ال
إال إذا غيّب الموت أحد أعضائه أو استبدال آخر براحل .هكذا اختفى الدور الفاعل لمجمع اللغة العربية على الرغم من الحاجة
الماسة له اآلن في ظل حالة الخلط اللغوي التي صارت دخيلة على اللغة .لم يأخذ المجمع بالصيحات والدعوات المطالبة
بالحفاظ على اللغة العربية ،ومقاومة القبح اللغوي
الماثل في استخدام الحروف الالتينية في اللوحات اإلعالنية ،أو على األقل لم يسعَ لتنفيذ
قراراته ،كما أن المجمع صار دائمً ا متأخ ًرا خطوة للخلف في مالحقة الطفرة التكنولوجية
والمتغيرات العالمية التي انتقل تأثيرها إلى
اللغة .في ظل كثير من الكوادر العاملة في المجمع التي يعوّل عليها.
ناقد مصري
تقول «الثالجة» .وأنا أعرف أن دوره كان كبي ًرا في مجال تعريب المصطلحات العلمية (الهندسية والطبية والفيزيائية)... ولوال هذا التعريب لما عرفنا شي ًئا عن هذه المصطلحات وظللنا جاهلين بها. ومع ذلك فليس كل ما أطلقه المجمع استخدمه الناس ،فال أحد يقول عن التلفزيون «مرناء» ،وال على التلفون
«مسرة» .الناس تعلمت تصريف المصطلحات األجنبية ،وهضمها في التكوين الثقافي الذي يلبي حاجاتهم اليومية مثل: تلفزة ،تلفنة ..وتدليت وتسطيب وفرمتة وهكذا ،وشي ًئا فشي ًئا ّ حلت محل هذه الكيانات ،وأصبحت تسيطر على الحراك اللغوي في الشارع ،وهذا الدور اتسع بشكل كبير مع عصر التكنولوجيا .مثلاً ،الناس تقول :اديني ماسيج أو ميسد كول، وتقول فالن «بيشيّت» على طول ،أي مدمن على الشات ..أو «ن ّتاوي» أي مدمن على اإلنترنت أو «يدوّن» أي يحمّ ل أشياء
من على الشبكة .وتنتقل هذه اللغة إلى السلوك والصفات ،فنقول :فالن «هاكر» .أي يسرق أفكارك ويستخدمها لنفسه.
والتوسع في هذه الظاهرة ،يشير إلى أمر من االثنين :إما أن الناس فككت هذه الكيانات وحلت محلها وقامت بدورها،
وإما أن هذه الكيانات ماتت إكلينيكيًّا والناس مضطرة ألن تمأل ذلك الفراغ بطريقتها االرتجالية .والسؤال اآلن :إلى متى سنتلكأ
قبل إعادة النظر في هذه الكيانات ،سواء بتحديث دورها أو بإحالتها للتقاعد مع الشكر .لكن المؤكد أنها كثيرة ومعوقة ألي نهوض.
73
قضايا
كل اللهجات تمارس إزاحتها للغة الضاد، وهذا أمر يمكن أن يساهم في اضمحالل عدد الكلمات المستخدمة التي نجدها كثيرا حتى إننا نحتاج اآلن قد تقلصت ً إلى ترجمات للمعلقات وإلى الموروث جيدا األدبي العربي كي نفهمه ً محمد المغبوب :يبدو أن أم ًرا قد حدث في غفلة منا ولم تدركه المجامع
لم يعد للدور المناط بمجامع اللغة العربية
في الوطن العربي من عمل نراه على الواقع المعيش ،حيث نجد لغتنا في ظل لغة اآللة الغربية وقريبًا الصينية وهي تتوسع
على حساب لغة القرآن الكريم حيث تأتي
بمفردات جديدة تلصق على ألسنتنا وتتسرب
حتى إلى الديوان الرسمي وإلى القنوات اإلعالمية
ووسائل االتصال المباشر ،ناهيك عن زحف اللغة
74
المحكية حيث كل اللهجات تمارس إزاحتها للغة الضاد ،وهذا أمر يمكن أن يساهم في اضمحالل عدد الكلمات المستخدمة التي نجدها اآلن
قد تقلصت كثيرًا حتى إننا نحتاج إلى ترجمات ً جيدا. للمعلقات وإلى الموروث األدبي العربي كي نفهمه يبدو أن أمرًا قد حدث في غفلة منا ولم تدركه المجامع العربية وال قدر أصحاب اللغة من بحاث وأدباء وأساتذة
اللغة على اللحاق به ومعالجته لعدم الوقوف عليه.
إن أهم ما في األمر كله هو أن المصطلح صار يشكل لنا
ربكة في الفهم تفسيرًا وفهمً ا ،وقد يتلون المصطلح الواحد
بعد إيحاءات تجعلنا في لبس وفي حيرة .ويتجلى هذا حتى عند تفسير القرآن الكريم حيث نخلط بين النزول والهبوط والسقوط مثلاً ،وبين الكتاب واللوح والذكر والقرآن ،وحين عقد المعاهدات الرسمية والعقود مع اآلخر على مستوى
الترجمة والتأويل.
هذا كله لم يكن وليد اللحظة بل هو تراكم عبر حقب
التاريخ ،وبخاصة ما بعد القرن التاسع عشر بعد ثورات
عالمية في السياسة والحكم وفي العلوم كافة ،إذ حين
هم يثورون ويغيرون كنا نحن العرب نمارس فعل الفرجة ونتلقى المنجزات وال نأتي بها ،فصار العالم يتحدث بلغته
وكذلك نحن فاعلون.
كاتب ليبي
العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
تضييق الخناق على العزلة التي تعانيها «العربية» ال يختلف اثنان على ما تشهده مجامع اللغة العربية
من عزلةٍ أو غرب ٍة عن محيطِ ها ألسباب متعلقة بها أو خارجةٍ ٍ عن إرادتها ،وهي «أزمة» تستفحل أو ْ تخ ُفت ،تبعً ا لطبيعة
المشروعات وفاعلية البرامج التي تتولى المجامع تنفيذها، أملاً في مدّ الجسور بين الواقع والمأمول في مجال الحفاظ على «العربية» وحمايتها.
«نعم ،هناك عزلة تعانيها المجامع ال يمكن إنكارها»،
يقول األمين العام لمجمع اللغة العربية األردني ،الدكتور
محمد السعودي ،رادًّا ذلك إلى أسباب من أبرزها «غياب
التشريع» كما يرى .ولهذا فإنه يؤكد أن مجمع اللغة العربية الذي فاز بجائزة الملك فيصل العالمية (فرع المؤسسة
العلمية الفائزة عن فرع اللغة العربية واألدب لعام 2016م)، َ نفض كثي ًرا من الغبار عن كاهله ،وتجاوَز مرحلة «مراوحة مكانه» بعد إقرار تشريعَ ين مهمَّ ين مؤخ ًرا ،هما قانون مجمع
اللغة العربي ،وقانون حماية اللغة العربية.
ويوضح السعودي أن قانون المجمع أعاد تنظيم األدوار داخل المجمع ببني َتيه اإلدارية والفنية ،أما قانون حماية َ محصلة العربية ،فهو «إنجاز كبير» على حدّ تعبيره ،جاء نضاالت طويلة تواصلت على مدى سنوات .ومن البنود التي ٍ
تضمّ نها القانون ويعوّل عليها القائمون على المجمع وسدَ نة
«العربية» ،عدم تعيين أيٍّ من المشتغلين في مجال اللغة من معلمين وصحافيين وسواهم ،اّإل بعد اجتياز «امتحان الكفاية» الذي صدر نظامه مؤخ ًرا ،وحُ وِّل إلى الحكومة َ ليوضع موضع التنفيذ. ويؤكد السعودي أنّ هذا االمتحان ُطب َِّق بنجاح في وزارة
التربية والتعليم سنة 2016م ،وأن استمرار تطبيقه عند ملء الوظائف الشاغرة سيضيّق الخناق على العزلة التي تعانيها ّ وسيخلصها من «غربتها» إلى حدّ ما .ويضيف «العربية»، َ بغية أن المجمع يعمل حاليًا على تبسيط امتحان الكفاية إخضاع الطلبة الجامعيين الجدد له ،ومَ ن يجتازه بنجاح
سيسقط عنه مساقان دراسيان في اللغة العربية .وبالتالي ً تخفيضا للنفقات وتوفي ًرا للوقت ،إلى فإنّ في هذا التوجّ ه جانب تشجيع الشباب على إثراء مخزونهم اللغوي.
ويشير األمين العام للمجمع ،إلى مكتبة األطفال التي
د ِّ ُشنت في أواخر يوليو عام 2017م ،وهي «مشروع رائد» يغرس حب العربية في نفوس الطلبة ،ويعمل على تنمية مهاراتهم َّ
مجامع اللغة العربية
الملك سلمان يسلم خالد الكركي جائزة الملك فيصل العالمية للغة العربية واألدب لعام 2017
ً ً ً ً واستماعا ،وإثراء حصيلتهم اللغوية بمفردات جديدة ومتنوعة ،وخلق روح اإلبداع اللغوي ومحادثة وقراءة كتابة اللغوية
فيهم ،وحفزهم إلى إدراك مفاهيم اللغة هوية األمة ووعاء حضارتها وحاضنة تراثها. ً صيغا متنوعة تواكب المستجدات ،جاءت فكرة إذاعة المجمع وألن التواصل مع الشرائح المستهدفة في المجتمع يتطلب ً حريصة على االرتقاء بالذائقة الفنية للمستمعين ،وتحبيب الناس بالفصيحة ،وتعريفهم بقدرات التي بدأت بثها التجريبي
اللغة وكنوزها ومرونتها وغناها اللفظي والتعبيري.
ومما يُحسب للمجمع ،أنه بدأ يتصدّ ى لمهمة تعريب المصطلحات األجنبية ووضعها في السياق العربي ،مثل:
مصطلحات الطاقة المتجددة ،ومصطلحات السياقات السلوكية والطبية والصحية والبيئية والعمرانية .وهذا يتم بالتعاون مع مجموعات طالبية مهتمّ ة تتفاعل على موقع التواصل االجتماعي (فيسبوك).
من ناحية ،للباحث واألكاديمي الدكتور غسان عبدالخالق ،رأيٌ آخر في مسألة حضور مجامع اللغة العربية وتأثيرها،
وعجزها عن تطبيق مقترحاتها اللغوية؛ إذ يؤكد أن هذه المجامع «تمثل تجسيدً ا حقيقيًّا لمدى انفصال مستودعات اللغة عن
ٌ متفاوت من مجمع آلخر؛ فهناك مبادرات «جديرة باالحترام» إيقاع الشارع ومستجدات الحياة» ،موضحً ا أن هذا االنفصال
مثل مبادرات مجمع اللغة األردني ،لكن المشهد المجمعي العام «ال يدعو للتفاؤل».
ً دعوة لرصد ألفاظ ومصطلحات «الربيع العربي» وتوثيقهما وإفرادهما بمعجم سنوات ويضيف عبدالخالق أنه أطلق قبل ٍ
خاص ،لكن هذه الدعوة التي ال تحتاج أليّ تبرير فـ«الربيع العربي» يمثل أخطر ما مرت به األمة العربية في العصر الحديث -ما يفضل االستغراق في مفردات القرون الهجرية األولى اً زالت تصطدم بذهنية «أمين المستودع اللغوي» الذي ّ بدل من االنخراط في مواكبة واستدخال مفردات القرنين العشرين والحادي والعشرين.
ويذ ّكر عبدالخالق بما ذهب إليه ّ كل من هشام شرابي ومحمد عابد الجابري وفهمي جدعان قبل عقود بخصوص «أبوية
مجامع اللغة وصنميتها» ،وهو النهج الذي يرى أنه ما زال ساريَ المفعول .وكان رئيس مجمع اللغة العربية األردني الدكتور خالد الكركي ،أكد خالل ّ تسلمه جائزة الملك فيصل العالمية التي مُ نحت للمجمع في 4إبريل من العام الحالي ،على أهمية
إقرار قانون حماية اللغة العربية الذي يركز على العربية السليمة ال الفصحى ،ويُلزم المؤسسات الحكومية والخاصة باستخدام َ األمانة العامة للجائزة ،إلى تبني مبادرة توحيد مجامع اللغة العربية اللغة العربية في جميع وثائقها وإعالناتها .ودعا الكركي
تحت لواء مجمع عربي موحّ د ،يكون مقره الرئيسي في مكة المكرمة ،وذلك بهدف صياغة الرسائل اإلستراتيجية والعامة التي
تخدم لغة الضاد في محيطها وعمقها العربي.
75
قضايا
عبدالله الوشمي: اللغة التي ال يتحدثها األطفال تسير إلى الموت الرياض
يتطلع األمين العام لمركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز الدولي لخدمة اللغة العربية الدكتور عبدالله الوشمي إلى مجموعة من المبادرات في خدمة اللغة العربية ،من خالل إستراتيجيات تنظر إلى الشباب رئيسا من الحل وليسوا جزءًا من المشكلة ،وتوظيف خبراتهم وطاقاتهم لخدمة اللغة العربية. بوصفهم جزءًا ً الوشمي يلفت في حوار مع «الفيصل» إلى أن الرهان على حركة تعليم العربية مهم ويجب أن يتوافر من أجله األفراد والمؤسسات ،وأن يتداخل فيه شرائح متنوعة ،مشد ًدا على أن اللغة صانعة اإلبداع ،وأن اإلنسان ال يفكر إال باللغة ،وأن اللغة التي ال يتحدثها األطفال هي لغة تسير إلى الموت .إلى نص الحوار:
76
● ماذا قدم مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز الدولي لخدمة
ً رابعا :تأسيس ورعاية برامج لغوية متنوعة في آسيا وإفريقيا
■ يتأسس مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز الدولي لخدمة
وتأسيس معامل مثل :معمل اللغة العربية في جامعة إسطنبول،
اللغة العربية حتى اآلن؟
اللغة العربية على مبادئ عامة أهمها أنه يجتهد في أن تكون اللغة
العربية مسؤولية الجميع ،وليست مسؤولية فرد أو مؤسسة ،وتبعً ا
لذلك يطلق برامجه في مختلف المجاالت ،ويجتهد في أن يعمل مع الشركاء ،وأن يفعِّ ل أدوارهم في خدمة اللغة العربية ،بحيث ال يُظن أن العربية مسؤولية قسم النسخ والتحرير فقط! إنما هي رؤية وهوية ،ويمكن أن نقول :إن أبرز مجاالت العمل في المدة الماضية
تركزت على: اً أول :تأسيس وإطالق مجموعة كبيرة من البحوث التي تعالج قضايا لغوية دقيقة يزيد عددها على ٤٠٠مشروع علمي شارك فيها
عدد كبير من المختصين.
ثانيًا :إطالق برامج تبحث أحوال اللغة العربية في العالم؛ ألننا
نتكلم عن اللغة وال نملك إحصاءات دقيقة عنها ،وتبعً ا لذلك
أطلقت قواعد البيانات (أكثر من ثالث قواعد موجودة
في موقع المركز) إضافة إلى مشروع اللغة العربية في العالم وسلسلة األدلة. ً ثالثا :العمل على عقد الشراكات النوعية
مع مختلف الجهات ذات الحضور الدولي من المنظمات وغيرها.
العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
وأوربا من خالل شهر اللغة العربية في الصين وفي الهند وفي تركيا، ودعم أقسام اللغة العربية ،وإطالق المنح في السنغال وأوغندا
وجيبوتي ،ودعم المكتبات في البالد غير العربية ،وغير ذلك.
مجامع اللغة العربية
ً خامسا :العمل على تهيئة المؤسسات
المتنوعة في بالدنا الغالية على إيجاد مسار
رئيس لخدمة اللغة العربية ضمن أعمالها
منطلقين من الرؤية األولى حول مسؤولية الجميع في خدمة اللغة العربية. ● َ إالم يتطلع المركز؟
■ نتطلع إلى مجموعة من المبادرات في
خدمة اللغة العربية إستراتيجيًّا ،وأتمنى أن
تتحقق قريبًا ،وال أعتقد أنها صعبة المنال ،وطمعً ا في التركيز فإني
إحدى فعاليات المركز
● ما رأيكم في مجامع اللغة العربية بشكل عام؟ وما
التحديات التي تعترضها؟ وكيف يمكن مواجهتها؟
أشير إلى ثالثة مسارات منها: اً أول :التنسيق :نحن نلحظ من خالل االستقراء العام وجود
■ مجامع اللغة العربية في البالد العربية تقوم بوظيفة مهمة
وفي البالد العربية ،لكنها جهود متفرقة ،ونتأسف حين نجد مشرو ًعا
تمثل دولها بشكل رئيس؛ فإننا يجب أن نشير إلى أنها تقوم بجهد
جهود لغوية متنوعة في بالدنا الغالية المملكة العربية السعودية واحدًا في بالدنا تتنازعه عدة جهات وكلها تستهدف خدمة اللغة نوعي بين الجهات العربية ،ولذلك نطالب بأن يكون هناك تنسيق ّ
المعنية باللغة العربية ،واألفكار في المشروعات التي تخدم اللغة العربية ،وأن تتولى المؤسسات العامة أو المرجعية مثل مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز الدولي لخدمة اللغة العربية إطالق مبادرات للتعريف بالجهود المتنوعة.
ثانيًا :مكانة الشباب :يجب أن ننظر إلى الشباب بوصفهم جزءًا
رئيسا من الحل وليسوا جزءًا من المشكلة ،وأن نوظف خبراتهم ً وطاقاتهم لخدمة اللغة العربية ،ويمكنني أن أشير إلى أن تعريبًا
واحدًا ألحد تطبيقات الهاتف الذكي قام به شاب يعادل جهدًا متنو ًعا
يقوم به بعض األقسام أو الجهات اللغوية. ً ثالثا :نحن في زمن ُتشكلنا فيه التقنية ،ويجب علينا جميعً ا أن نكثف حضور المؤسسات اللغوية والمبادرات اللغوية في هذا المجال
بهدف أن نصل إلى الصيغة األنسب.
● ما آلية العمل داخل المركز؟
في خدمة اللغة العربية؛ ولئن كانت مرتبطة بالجانب القطري إذ نوعي في مجال المعاجم والتصحيح اللغوي وغير ذلك ،وهي تواجه تحديات عدة؛ أهمها الصورة النمطية التي حوصرت المجامع بها من خالل النظر إلى أنها ثانوية ،وأنها تترك الجوانب الرئيسة ،علمًا بأن أنظمتها التي س ّنتها لها الجهات التنظيمية في دولها هي التي حصرتها ضمن أُطر محددة ،ولعل من أفضل السبل لمواجهة هذه التحديات: اً أول :أن يهيأ لهذه المجامع إطار العمل الدولي وليس العمل
ُ الق ْطري فحسب.
ثانيًا :استحداث أنظمة لدخول الشباب والنساء فيها من
المتخصصين والمتخصصات. ً ثالثا :إلزام هذه المجامع بأن يكون لها شق تقني مماثل لشقها
الواقعي؛ ألن الحياة تتجه نحو هذا االتجاه ،ويجب أن تكون جميع الخدمات التي تقدمها موجودة على الشبكة.
● كيف ترون الوضع الذي تعيشه اللغة العربية الفصحى مع
أجيالها من الطلبة والمعلمين وغيرهم؟
■ هذا السؤال يحتاج إلى لقاءات حوارية متنوعة ودراسات
■ يقوم المركز بتحقيق أهدافه المنصوص عليها في تنظيمه
دقيقة للوصول إلى صيغة من صيغ اإلجابة ،وهو مما تفتقده لغتنا،
الجهات المتنوعة ،فيوجد في بالدنا أكثر من ستين قسمًا للغة
اإلشارة إلى أن الرهان على حركة تعليم العربية هو رهان مهم ،ويجب
الصادر من مجلس الوزراء ،في سياق خطط تتكامل مع عمل العربية مع كثير من الجهات المعنية باللغة العربية أو بثقافتها،
والمركز قد وضع خطة تكاملية للعمل مع الجهات المتنوعة في المملكة .وتردنا طلبات لتعليم العربية للناطقين بها ،لكن المركز ال يقوم بهذا العمل بشكل مباشر ،إنما يتيح ذلك لشركائه في المعاهد
وفي الجامعات السعودية كيال ال تتكرر الجهود ،على حين تصدى
المركز لعمل لقاءات التنسيق والشراكة بين الجهات واألقسام اللغوية ألول مرة َ ورشد هذا اللقاء حتى انعقد منه أربعة لقاءات بحثت فيها المشروعات المشتركة ،وما إلى ذلك.
ولذلك نعمل اآلن على مشروع «مؤشر اللغة العربية» ،ويتعين هنا أن يتوافر من أجله األفراد والمؤسسات ،وأن تتداخل فيه شرائح
متنوعة منهم المختصون باللغة ،ومنهم المختصون بالتربية،
ومنهم المعنيون في قطاعات التنمية والحضارة بشكل عام؛ إذ إن تعليم العربية في المدارس والجامعات ووسائل اإلعالم المتنوعة هو نافذة مهمة لكي نصنع جيلاً يعتز بلغته ،وينظر إليها بوصفها تقع
في المنزلة العليا من اهتماماته ،فاللغة صانعة اإلبداع ،واإلنسان
ال يفكر إال باللغة ،واللغة التي ال يتحدثها األطفال هي اللغة التي تسير إلى الموت.
77
مقال
محمد علي اليوسفي كاتب ومترجم تونسي
هل نعيش ًّ حقا أزمة في الشعر وازدها ًرا للرواية؟ فيما يتحدث بعض عن «أزمة الشعر» في ح ّد ذاته،
يلجأ آخرون إلى ربط أزمته بازدهار فنّ الرواية ،زاعمين أنّ
ينظر إليها عندنا ،للوهلة األولى ،كأنها هروب من ضيق الشعر
العصر هو عصر الرواية ،من دون الذهاب إلى ما هو أبعد، والقول مثلاً :إن الرواية باتت «ديوان العرب» فال ب ّد للعرب
إلى رحابة الرواية ،والواقع ليس كذلك ،فليس «كل» من كتب الشعر قد «هرب» إلى الرواية اً أول ،وثانيًا أراد الذي جمع بين
أزمة تطور ،ومنطق عصر ،وقد م ّرت بها البلدان المتقدمة
اليومي ربما تضيق بهما القصيدة ،وارتأى أنه قادر على الخوض
ّ ولعل األزمة ليست أزمة شعر بل هي من ديوان كما يبدو!
78
بينهم ،من يجمع بين كتابة الشعر وكتابة الرواية ،في عملية
قبلنا.
وليس الشعر بقادر في عصرنا ،على أن ينافس
«فرجوية» الفنون الجديدة بسالحه الجوّاني ،البوحي،
الحميم .وال شك أنّ العصور السابقة نفسها شهدت مثل
هذه الظاهرة ،فكل عصر كان يتميز بـ«فحل» واحد أو «فحلين» ،بينما ننظر نحن اليوم إلى الخلف ونظنّ أنّ كلّ ماض واحد أو مرحلة شعراء العرب الكبار قد وُجدوا في ٍ
واحدة بنظرة تجريدية واختزالية للماضي ،مقابل فقر
الحاضر! وحتى الجمهور ...فقد نحسب ،أو نخال ،أنّ كلّ الرعيّة ،أيام اإلمبراطوريات ،كانت تحب الشعر ،أو
تتعاطاه .فليكنْ ! لكنْ ،ال ب ّد أنهم كانوا «مضطرين» إلى ذلك ،فلم تكن لديهم وسائل فرجوية متعددة ،ولم
يكن الشعر الفصيح ،بالتأكيد ،في متناول الجميع،
(نظرة أخرى اختزالية) ،وهذا ما يفسر نشأة الحكايات ّ ولعل حكايات ألف ليلة وازدهار فنون أخرى من القول،
وليلة تقدّم أبرز مثال على ذلكً . ً وعطفا على إذا ،فالرواية،
ما سبق ،ليست السبب في أزمة الشعر ،ولم تحتل ديوانه،
وال هي تطمح إلى ذلك ،ما دامت «ضحية» عصرها،
بدورها ،وبهذه الدرجة أو تلك .وبالنـظر إلى حداثة عهدنا بفن الرواية ،فقد سهلت اإلشارة إليها بأصابع االتهام.
ما زال عدد الشعراء أكبر من عدد الروائيين ،بل هناك، العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
الشعر والرواية أن يفتح سجلاًّ ً مختلفا للحياة النثرية واإليقاع فيه.
هذه الظاهرة موجودة بكثرة في الغرب ،أي الجمع بين
الرواية والشعر (لورنس داريل ،ولوي أراغون ،وأستورياس،
وبورخيس ...إلخ) وإنْ كانت الغلبة الفنية تتم لنوع على حساب
اآلخر ،وال أحد حسبها تهديدًا للشعر ،وذلك ل ِقدمهما معً ا .فإذا كان ال ب ّد من حديث عن أزمة في الشعر ،ال ب ّد ً أيضا من التأكيد
على أنها أزمة ال تتعلق بالشعر ،وال بالشاعر وال ..بالرواية! إنها معطيات عصر جديد. الحكاية هي الحكاية
احتاج اإلنسان منذ القدم ،إلى سرد الحكايات ،بدءً ا
باألسطورة التي لم تكن كذلك بالنسبة إليه ،بل كانت طريقة
لفهم العالم ومحاولة التكيف معه ،ثم تلتها الخرافات والمالحم والحكايات واألخبار.
ظل لنا من ّ ّ كل ذلك ،في عصورنا الحديثة ،تلك الحاجة
إلى سرد الحكايات ،لكن طريقة السرد تطورت عبر أشكال
أسلوبية متعدّدة ،ووسائط فنية مختلفة .من السرد التقليدي
(وال سيما الخبر والحكاية والسيرة) تطوّر فن القصة والرواية، ليتوسع شاملاً اإلنتاج المرئي والمسموع .غير أنّ السرد -بالمعنى ً الدقيق للكلمةّ - وبجنسي القصة القصيرة لصيقا بالكتابة، ظل ِ والرواية تحديدًا .لقد تنوع السرد وفق المدارس الفنية التي
شهدتها اآلداب العالمية ،من الكالسيكية ،إلى الواقعية بأنواعها،
اً وصول إلى ما يسمى بالواقعية السحرية ،ويمكن القول :إن تلك َ تتالش كليًّا ،في أيامنا ،بل ظلت منها عناصر المذاهب الفنية لم
كثيرة ،جمع بينها السرد الحديث حتى صارت الكتابة تفاجئنا بتنوّعها من كاتب إلى آخر ،ومن قصة إلى رواية .فإلى جانب
التقنيات التي باتت معتادة ،مثل الوصف والحوار والمناجاة (المونولوغ) واالسترجاع (الفالش باك) وغيرها ،عاد السرد
ليستفيد من المنجزات األحدث في الفنون األخرى ،وبخاصة في
السينما ،على غرار التقطيع والتركيب وما إلى ذلك ،كما أسرع إلى محاولة االستفادة مما هو أحدث :اإلنترنت.
ما زال عدد الشعراء أكبر من عدد الروائيين، بل هناك ،بينهم ،من يجمع بين كتابة الشعر وكتابة الرواية ،في عملية ينظر إليها عندنا ،للوهلة األولى ،كأنها هروب من ضيق الشعر إلى رحابة الرواية، والواقع ليس كذلك
وفي هذا المجال ظهرت روايات كثيرة ،أجنبية وعربية
تهتم بالمؤالفة بين السرد القديم وبين ظاهرة جديدة أكثر فتنة وشمولية وإثارة لالهتمام؛ ألنها تتكلم بلغة العصر.
ما يستفيد منه السرد في هذا المجال ،هو محاولة ّ توخي ما
يميز اإلنترنت من إيجاز وسرعة وتواصل عبر العالم ،سواء فيما يتعلق بنقل المعلومة أم بالتخاطب واالتصال بين األشخاص، بما في ذلك قصص الحب والتعارف والمؤامرات ...إلخ ،إال أن
الحكاية تظل هي الحكاية ،والحاجة إليها استدعت المحافظة
الفرجة من حيث التقنية (السينما) وكذلك من حيث المحتوى. غير أنّ ما ينقصه ،وهو ما ينقص الرواية تحديدًا ،يتمثل في قراءة ما ي َْكمُن خلف الظاهرة؛ كي يكون الكاتب شاهدًا على
عصره ّ بحق. ّ ربما كان على الرواية أن تقول ببساطة مركبة كيف تحولت
السلطة إلى مشهد؟ فيما أصبح المشهد هو السلطة .بهذا
عليها .لذلك أعيد االعتبار لجوهر الحكاية ،بما هي حكاية .وبعد
المعنى ،يُنفق كثير من أجل التلفازات العربية ،وكذلك العروض الكبيرة والمهرجانات؛ ألنها باتت توجه الجماهير ،مثلاً :عليك
وجود حكاية ُتحكى ،بل يمكن القول :إن هناك عودة إلى شكل األسطورة ،فضلاً عن اللهاث الذي لم ينت ِه وراء محاوالت
إلى الواقع لتشاهدك الماليين .بهذا المعنى ،ال بد من محاربة
تجارب كثيرة لكتابة «الرواية الجديدة» ذات الطابع التجريبي، عاد ُ الك ّتاب إلى المنجزات التاريخية في فن السرد ،وإلى ضرورة
االستفادة من أسلوب السرد المدهش في كتاب «ألف ليلة وليلة» مثلاً .وتكفي في هذا المجال اإلشارة إلى عشرات ،بل مئات
الروايات التي صدرت في أوربا وأميركا الالتينية والبلدان العربية. وثمة ً أيضا ذلك االندفاع نحو إعادة االعتبار للخيال
ً خصوصا بعد الطفرة التي شكلتها رواية والمتخيّل الجمعي،
ً مليونا! لكن أمام الماليين! وعليك أن تتجاوز السينما أن تربح
سلطة الفرجة بفرجة مضادة :هنا تكمن قوة الرد على العنف
المشهدي الهوليوديّ بعنف هوليوديّ -لكنه أقوى ألنه واقعي!
(عودة إلى مقولة :إنّ الواقع أشد تعقيدًا من الخيال )...كما حدث
برجي مركز التجارة في هجمات 11سبتمبر 2001م التي استهدفت ْ
العالمية بمانهاتن ومقر وزارة الدفاع األميركية (البنتاغون) على
أميركا الالتينية .بذلك اغتني سرد الحكايات ،جامعً ا بين منجزاته
سبيل المثال ،حيث تجاوز أثر الواقع ،أي العنف الحي والمباشر، ما يُعرض في قاعات السينما ،كما أنه تجاوز الخيالَ ، ب وقل َ
المعاصرة ،كأنما السارد ،وهو يحكي حكاياته ،إنما يحكي حكاية
إخفاق مئات ،وربما آالف األعمال األدبية التي حاولت االنضواء
السابقة عبر العصور ،واإلمكانيات التي يوفرها تطور التقنيات
اإلنسان بما يعني أن السرد هو اإلنسان ،ساردًا ومسرودًا ،من
كهوفه البدائية األولى إلى عصرنا ،عصر اإلنترنت. ً تعقيدا من الخيال الواقع أشد
اإلعالم المرئي الذي يشمل ألعاب األطفال -ناهيك عن
اليومي -استطاع ،إلى أسباب أخرى، األفالم ،وأخبار القتل ّ ومنذ أمد بعيد ،أن يفترس القراءة والكتابة جزئيًّا ،وبخاصة
معطيات عالمية .هذه المعطيات الجديدة تفسر بعض أسباب
تحت شعار ما يمكن تسميته بـ«أدب الثورات والحروب».
الواقع أشد تعقيدًا من الخيال وأغنى منه ،نعم .بل هو أشد
تعقيدًا من الرؤية «الواقعية» المسطحة لما يتراءى من جبل
الجليد العائم ،أو من حمم البركان .غير أن ما يبقى هو عالقة
اإلنسان بكل ذلك ،في قوته كما في ضعفه .وال شك أنّ الرواية
مطالبة بالرد على العنف المشهدي بتقنيات ال تقتصر على فضح
تدمير الشعوب واقتصادياتها وبناها التحتية فحسب ،بل تفضح
في منطقتنا العربية .والمؤسف أنّ الرقابة ،في معظم البلدان
مؤامرة السلطة الكونية المعولمة ،والمُمعنة في الهروب من
وهذا المكتوب -إذا اقتصرنا هنا على الرواية التي شهدت أكثر من
ذلك أن الصورة كما ُ قلت ذات مرة :هي التي هبطت من الكهوف ،وهي القادرة ً أيضا على إعادتنا إليها.
العربية ،ما زالت تحارب المكتوب ،عاجزة عن المرئي الوافد.
فضيحة في مدة قياسية -حاول ،منذ عقود كثيرة ،ولوج باب
الواقع والتخفي وراء الصورة /المشهد /الفرجة.
79
حوار
80
يعد نفسه الوريث الوحيد ألحمد أمين ووصف تفضيله «األيام» على «حياتي» بـ«الحماقة»
جالل أمين: الغرب لم يعد يحتاج االستشراق ألنه كسب المعركة ..وألن العرب «استغربوا» العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
حاوره في القاهرة :محمد جازم كاتب يمني
ً ً وباحثا متأملاً في حراك المجتمع ،ومفكرًا أستاذا لالقتصاد يجمع جالل أمين في شخصه مشغولاً بقراءة الخطابات في تنوعها وتشابكها مع أسئلة الراهن ،آراؤه وكتاباته تعدت المدرسية واألكاديمية وذهبت لتلتحم بهموم الجماهير العريضة ومعاشهم ،الجماهير بكل فئاتها وأعمارها وفروقها الفردية ،وكل ذلك سمات ليست في متناول اليد دائمً ا .يتبنى جالل أمين عد ًدا من القضايا التي يمكن وصفها بشديدة الحساسية ،وألف ُك ُتبًا متنوعة في اهتماماتها ،لكنها تتوحد عند سؤال اإلنسان والمجتمع والذات في مواجهة مصايرها .من كتبه« :فلسفة علم االقتصاد» و«التنوير الزائف» و«خرافة التقدم والتخلف» و«ماذا حدث للمصريين؟» و«ماذا علمتني الحياة» و«عصر الجماهير الغفيرة» و«عولمة القهر» و«المكتوب على الجبين» و«مصر والمصريون في عهد مبارك» وغير ذلك من اإلصدارات التي حركت جمود المجتمع في مصر والعالم العربي. في حواره مع «الفيصل» وفي كل ما يطرحه من آراء
وتعليقات كان يتحرى دقة المعلومة وجمالية الحرف ،ويرفق األحداث والوقائع بالتواريخ التي يربط بينها بإتقان .في هذا
الحوار عبّر عن درجة من التفاؤل بالمستقبل ،وثقة أكثر بالعقل العربي .وقال :إن مشروع النهوض في أي بلد في حاجة إلى
جهود ذاتية ،وإلى وجود زعيم قادر على التصميم والمثابرة في انتشال بلده .وأكد أن ما يحدث في مصر من إرهاب وراءه
قوى خارجية ،موضحً ا أن الكالم عن اإلرهاب صار أكثر من
الالزم .في الحوار ،الذي شارك فيه الروائي والشاعر صبحي موسى ،تحدث ً أيضا عن نفسه كابن للمفكر الراحل أحمد أمين ،وعد نفسه الوريث الوحيد له ،مشي ًرا إلى أن تفضيله
«األيام» لطه حسين على «حياتي» لوالده ،كان حماقة .ويلفت
إلى أن الغرب لم يعد في حاجة إلى االستشراق؛ ألنه كسب المعركة ،وألن العرب استغربوا.
كتاب «حياتي» ألحمد أمين أكثر منه ،كنت أراجع فيه قريبًا
وزعمت لنفسي أنني ورثت أحمد أمين في الكتابة وقد أكون مخط ًئا ،لكن هذا ال يتأتى من التأثير البيئي وأرى أنه وراثة. نحن ثمانية إخوة ،ومن ورث االتجاه األدبي شخصان فقط:
حسين أحمد أمين وأنا ..أنا ورثت طريقة التعبير أكثر من حسين.
● لكنك أشرت في مذكراتك إلى أنك أفصحت لوالدك
ذات مرة ،بأفضلية «أيام» طه حسين على سيرته الذاتية؟ ■ نعم ،كانت حماقة مني .أنا قلتها اآلن ً أيضا لكن بشكل
مختلف ،كنت شابًّا ولم تكن لديّ الخبرة الكافية ألحكم.
● نعرف أن المذكرات تختلف عن السير ،وقد بدأت
أنت كتابة المذكرات في الثانية عشرة من عمرك ،ما يعني
أنك اتكأت في كتابة سيرتك على مذكراتك وربما مذكرات
● سيرتك الذاتية التي تضمنها كتاب «ماذا علمتني
أشقائك ،أيهما يحتاج الجرأة والمناخ المتحرر لكتابته والستقباله ً أيضا ،المذكرات أم السيرة الذاتية؟
القراء ...في تقديرك ماذا ميز هذه المذكرات مما سبقها
سجّ لت فيها ما كان يحدث بشكل يومي ،كنت أكتب عن
الحياة؟» وكتاب «المكتوب على الجبين» وما تلقيه هنا
وهناك داخل مؤلفاتك المتنوعة ،بالتأكيد جذبت كثيرًا من مثل «األيام» لطه حسين و«حياتي» ألبيك أحمد أمين وسواهما من المذكرات؟
■ هذا تفضل منك أن تقارن عملي بعمل الكتاب الكبار .أنا لست من عشاق طه حسين ،أنا طبعً ا أُ ِج ُّله كشخصية وأجل
دوره في الحياة الثقافية المصرية إنما لست من عشاق أدبه، وهو كان يلقب بعميد األدب العربي في حقبة كان اللفظ فيها
أهم من المعنى ،ومع مرور الوقت انعكست اآلية .أنا أحب
■ ال ،ال ،ما كتبته أنا في مذكراتي كان عبارة عن يوميات
أحداث عامة وأحداث عائلية ولم أستفد منها؛ ألنها كانت ً ركيكا جدًّ ا ال يرقى إلى أي مستوى من مستويات الكتابة كالمً ا
ً إطالقا .فعندما رجعت ألقرأ ما كتبته لم أستطع االستمرار في
القراءة؛ من فرط سخافته كنت ال أزال صغي ًرا وبدا األمر كما لو أنني كنت ألعب؛ فمثلاً ذهبت إلى القول :وقد حدث في
هذا اليوم أن ألقى النقراشي باشا كلمة في األمم المتحدة... وما يشبه ذلك ،مع العلم أنني لم أكن أفهم في السياسة شي ًئا
81
حوار
يومها وكان يبدو كثي ًرا أنني أكتب من دون خبرة.
● تنوع مشروعك الفكري ما بين األدب واالقتصاد
والسياسة وعلم االجتماع ،فهل جالل أمين خبير اقتصادي أم مفكر ليبرالي في عصر ما بعد الحداثة؟
علي مفكر ،وال أملك الحق في أن ■ ال أحب أن يطلق ّ أقول عن نفسي ذلك .نحن جميعً ا مفكرون ألننا نفكر طوال
الوقت ،عندما تقول لفالن :إنه مفكر أو يقول عن نفسه ذلك دعه يشرح ذلك .أنا ال أستطيع أن أصف نفسي بذلك ،وفي
● االقتصاد المصري يعاني اآلن حالة تضخم هائل،
فما الحلول األساسية للخروج منها؟
■ هناك تضخم لكن التضخم في كثير من البلدان يكون أكثر بكثير من هذا؛ أعني أن مصر ًّ حقا تعاني التضخم
ً أيضا ،والسبب أن موارد أساسية كانت تجذب عملة صعبة
لمصر انخفضت بشدة منذ ثورة 11فبراير وأقصد السياحة واالستثمارات األجنبية الخاصة ،وتحويالت المصريين
الحقيقة ال أحب ً أيضا مفردة «ليبرالي»؛ ألنها في أحد معانيها
العاملين في الخارج ،هذه هي المصادر األساسية لدعم
يتفق وكاتب أميركي مشهور هو نعوم تشومسكي الذي يقول:
ترى ،إضافة إلى الشعور بعدم االستقرار ،األمر الذي لم يعد
تعني ترك األمور تجري بال تدخل من الدولة .وكذلك لدي رأي « 95في المئة من الذي يقوله هؤالء الحداثيون أنا ال أفهمه، ً موافقا عليه .ال أدري ما الذي يريده ُكتاب ما وما أفهمه لست بعد الحداثة ،وماذا يقصدون بما يذهبون إليه؟». مشاكل مصر وراءها عوامل سياسية
● تخصصك في علم االقتصاد ،إلى أي حد جعلك قريبًا
من قضايا المجتمع والتحديات التي تواجهه .ما الذي أضافه
هذا التخصص إلى رؤيتك للواقع والعالم من حولك؟
82
االقتصاد مهم لكنه وحده ال يكفي.
■ معظم االقتصاديين المصريين الذين أعرفهم،
اهتماماتهم االقتصادية قليلة؛ فالمسألة ال عالقة لها باالقتصاد
العملة في مصر ،وقد انخفضت بشدة ألسباب سياسية كما يشجع ال السائحين وال المستثمرين وال تحويالت المغتربين.
● وهذا يقودنا إلى سؤال :ما الوصفة التي يمكن
لوضع مثل هذا؟ إعطاؤها ٍ
■ الوصفة سياسية وليست اقتصادية .المسألة في كيف
نشجع االستقرار ،وكيف نقنع المستثمرين باالستثمار في مصر؟
● بصفتك األدبية والعلمية واألكاديمية ،هل لديك منظومة لالنضباط ،كأن تطرح على المعنيين خطة سير مثلاً ؟
يمكن أن تكون العالقة بالعكس ،فبسبب اهتماماتي السياسية
■ هذا صعب جدًّ ا ،لكن سأقول لك جملة بسيطة جدًّ ا
يومها االقتصاد يدرس إما في الحقوق أو في التجارة ،ففضلت
«ليس هناك مشكلة اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية...
كنت أظن أن دراسة االقتصاد ستوضح لي بعض األمور ،وقلت
قالها عالم سويدي مشهور ،حاصل على جائزة نوبل ،يقول: هناك فقط مشاكل وهي معقدة» ،يقصد أنه ال يوجد مشكلة
الحقوق ألن سمعتها كانت أفضل يومها ،وفي أول محاضرة ّ الغلة المتناقصة في القانون، وجدتهم يتحدثون عن قانون
تستطيع أن تقول أنها اقتصادية فقط ،حتى التضخم تجد
أعرفه ،ومنذ ذلك الوقت لم أجد في كتب االقتصاد ما يساعدني
مقارنة بالسلع الموجودة وراءه عوامل نفسية ،وليس فقط
تناقص المنفعة الحدّ ية ،أمور لم يكن لها عالقة بما أريد أن
على فهم الحياة .وفي شكل عام ،االقتصادي ال يحصل له هذا،
وأنا في الحقيقة لم أكن أحب علم االقتصاد .ودخلته بسبب
صلته بالعوامل األخرى ،قلت يمكن أن أعرف ما يدور في المجتمع لو درست اقتصادًا ومعه أشياء أخرى ،وبالفعل
المتكلمون حول تجديد الفكر الديني تعال وغرور أكثر مما يلزم لديهم ٍ كنا نحب ميشيل عفلق؛ ألنه كان يؤمن إيما ًنا حقيق ًّيا بالوحدة العربية ،كان متفائ ،ولم يفقد لاً تفاؤله حتى بعد انهيار المؤشرات
العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
أن علم النفس داخل في الموضوع؛ ألن اإلقبال على اإلنفاق
عوامل اقتصادية ،وهكذا أعود لسؤالك ،أنا في عمري كله
جالل أمين :الغرب لم يعد يحتاج االستشراق ألنه كسب المعركة ..وألن العرب «استغربوا»
لم أفكر في مشكلة بوصفها اقتصادية.
عندي مشكلة كيف أفسرها؟ أنظر فأرى
توالي التفسيرات والعوامل السياسية
واالقتصادية ،كل شيء مرتبط بعضه ببعض .كما قلت لك :إن مشاكل مصر
التي تبدو اقتصادية اليوم وراءها أسباب
سياسية.
● ما رأيك فيما تقوله الحكومة
المصرية عن اإلصالح االقتصادي
والبنك الدولي وكمية الديون ،هل
طه حسين
أحمد أمين
يمكن لمصر أن تتحول إلى دولة على غرار دول النمور
مناسبة هنا وبخاصة لدى الشرائح الدنيا والطبقة المتوسطة،
■ لم يحدث للمعونات الخارجية أن نقلت دولة من دولة
،2011وال يزال اإلحباط مستم ًّرا واآلمال محبطة ،يعني في
اآلسيوية؟
راكدة االقتصاد إلى دولة سريعة النمو ،المعونات ممكن أن
تساعدك في تخطي أزمة مؤقتة كما حصل لتايلند وماليزيا، لكن النهضة االقتصادية الحقيقية تأتي بجهود ذاتية ووجود
زعيم ،ال بد من وجود زعيم قادر على التصميم والمثابرة في انتشال بلده ..زعيم له رؤية يقف على تنفيذها.
● لو َ كتبت اآلن جزءً ا ثانيًا من كتابك« :ما الذي حدث
للمصريين؟» فما أبرز عناوينه الداخلية؟
هناك حالة من اإلحباط الشديد وهو األمر الذي سبَّب ثورة
المرحلة السابقة من النصف الثاني من القرن الماضي لم يكن اً مثال :العائلة التي يعولها األمر كذلك ،وأحب هنا أن أضرب صنايعي وهي أسرة غير متعلمة تذهب إلى تدريس ابنها ثم ُتدخله الجامعة ولديها أمل في أنه سيحصل على وظيفة جيدة في الحكومة ،هذه العائلة يتحقق حلمها بالفعل .هذا لم يعد
موجودًا اليوم ،لهذا أرى أن مفردة اإلحباط مهمة اآلن. اإلرهاب أخذ أكثر من الالزم
■ أنا كنت أعلق على أكبر قدر مما سميته «الحراك
● لننتقل إلى موضوع آخر ،الخطاب الديني المتطرف
عاليًا جدًّ ا؛ إذ امتد من الخمسينيات إلى نهاية القرن ،بمعنى:
هذا المنوال ،ومنها النصوص التي تدعو إلى تقديس
االجتماعي» ،الحقبة التي عالجتها كان فيها الحراك االجتماعي النصف الثاني من القرن العشرين .الحراك االجتماعي في السنوات الـ 17من القرن الحادي والعشرين أقل بكثير مما كان؛
أقصد أقل سرعة مما كان في الحقبة التي كتبت فيها كتابي.
الذي يؤمن بالظاهراتية في النص ،ويفسر النصوص على
القتال ،كيف ترى هذا الخطاب والعقل الذي ينتجه؟
■ أنا ثقتي بالعقل اإلنساني العربي قوية ،ومن يقول:
إن الخطابات هي من تسبب هذه االعتداءات ثقته بالعقل اإلنساني ضعيفة .ال أظن أن الناس حين يسمعون هذه
● على الرغم من الثورة التي قام بها الشعب؟ ■ ثورة 2011م لم ُتغيِّر شي ًئا ،أما ثورة يوليو فقد غيَّرت:
صعوبة في تصور ذلك .والكالم عن اإلرهاب أخذ أكثر من
أنا ال أقول :إن الحراك االجتماعي توقف لكن لم يعد سريعً ا
● هل رفضك لمصطلح تجديد الخطاب الديني نابع من
هناك اإلصالح الزراعي ومجانية التعليم والصحة ،لكن 2011م الذين قاموا بها لم يستلموا الحكم أصلاً ،ولم تتغير أشياء كثيرة في عمق المجتمع ،لم ِّ تؤثر على الحراك االجتماعي. كما كان ،وكثير من شرائح الطبقة المتوسطة بدأت تضعف
وتنحدر بسبب المصاعب االقتصادية ،وهذا على العكس من
ُ تحدثت عنه في كتابي .هذا حراك الحراك االجتماعي األول الذي اجتماعي سلبي بمعنى أنك تنزل وال تصعد .كتابي ظهر إلى النور
سنة 2000م يعني مع نهاية القرن .الذي يمكن أن أقوله اآلن :إن ظاهرة الحراك االجتماعي ضعفت بشدة .كلمة اإلحباط تبدو
الموعظة يتأثرون بهذه السهولة أو إلى هذه الدرجة ،أنا أجد
الالزم ،وأكثر من الحقيقة .ليتنا نقلل من الكالم عن اإلرهاب، وليتنا ً أيضا ننجح في القضاء عليه بالفعل.
اإليمان بأن الخطابات الدينية ال تجدد ،أم من كون البنية
االقتصادية والفكرية لمجتمعاتنا لن تسمح بهذا التجديد؟
■ ال هذا وال ذاك .المتكلمون حول تجديد الفكر الديني
تعال وغرور أكثر مما يلزم .ال أحد يجدد في الخطاب لديهم ٍ
الديني أو غير الديني ،ال أحد .أنت إذا كنت ال تحبذ طبيعة الفكر السائد انظر إلى الظروف االجتماعية والسياسية واالقتصادية
83
حوار
التي أنتجت هذا الفكر وغيرت فيه أو حاولت تغييره؛ ناهيك
عما يسمى بـ«إرهاب اإلرهاب» فهو صناعة خارجية.
● «إرهاب اإلرهاب» ،ماذا تقصد من هذه التسمية؟
المستفيد من قلقلة المجتمع المصري ومنعه من التقدم. ● من تعتقد في قائمة المستفيدين؟
ً شخصا إرهابيًّا يذهب ■ أقصد أنه من المستحيل أن تنتج
■ إسرائيل في الدرجة األولى ،أقول في الدرجة األولى واألخيرة ً أيضا ،فأميركا ال أظن أن لها دورًا مثلما كانت في السابق.
الشيء الذي باإلمكان حدوثه هو أن يعطيك أحدهم المال
● لكن هناك من يرى أن إسرائيل شبه مختفية عما
القاتل يقع تحت تأثير إغراء المال ،هذا ممكن .أما أن يذهب
■ طبعً ا ،وهذا ما يجعلنا نشك أكثر ،أنت ال تسمع صوتها
إلى قتل مسيحيين مسالمين هكذا من أجل القتل ،هذا ليس
ً شخصا إنما وحش .من الصعب أن تحول اإلنسان إلى وحش.
ويقول لك :اذهب لقتل فالن .هذا سمعنا به وقد يحدث؛ ألن
إنسان من ذاته وبإرادته الخاصة لقتل شخص ما من دين آخر؛ ما الذي سيكسبه؟ ولماذا؟ وبالطبع أنت لن تغير دينهم إن
كان هذا هو دافعك ،فهل كانوا يضايقونك من خالل طريقة حياتهم إلى هذه الدرجة ،مثل هذا ال أستطيع استيعابه ،وهو
ما يقودني إلى القول :إن هناك إرهابًا لإلرهاب.
● مع بدء اقتناع العالم بعدالة الموقف المصري في
مواجهة اإلرهاب المسلط على البلد ،حدث تحول نوعي تمثل في الضغط على المسيحيين وليس الجيش أو
84
غرض في إحداث ذلك ليس مصريًّا ،فابحث ً إذا عن المستفيد،
الشعب؛ لماذا؟ ً ■ ما حصل -وطبقا لتفكيري -أن هؤالء يريدون أن يشعلوا
البلد نارًا ،يريدون إحداث توتر داخل مصر ،وأنا أستبعد أن تكون العقول المدبِّرة مصرية ،أستبعد ذلك بشدة؛ ألن الذي لديه
يحدث ،فهي ال تمارس دورًا واضحً ا وظاهرًا؟
ً بتاتا؛ ألن المجرم الحقيقي دائمً ا يختفي ...يختفي بشدة. ● هل أنت مع فكرة أن المؤامرة خارجية؟
■ أنا في البداية ال أحب هذا التوصيف :نظرية المؤامرة،
وذلك ألن سمعة هذه الكلمة سيئة ،المؤامرة لها مالمح معينة ،أعتقد أنها خطة خبيثة ال يعلن صاحبها عن نفسه. ● تقصد خطة إلعادة تقسيم المنطقة كلها؟
■ ال ،ليس التقسيم بالضبط .أقصد زعزعة أمن البلد واستقالله ،وخلق مشاكل تجعل التقدم صعبًا ومستحيلاً . مزاعم داعش المضحكة
● داعش اآلن تسيطر على مناطق في الشرق والغرب؛
كيف ترى مستقبلها؟ وكيف ترى اقتصادياتها؟
■ إن أحد مزاعمهم مضحك ،كيف يمكن أن نتصور أناسً ا
يريدون إعادة الخالفة اإلسالمية؛ هل الخالفة اإلسالمية يمكن
إعادتها؟ ال أدري!! لعلهم يرغبون أن يضحكوا علينا ،وأرجح
أنهم في الحقيقة يضحكون على أنفسهم .أنا أرجح أنهم يضحكون على أنفسهم ًّ حقا؛ ألننا نعرف جيدً ا كيف يفكرون؟ ● لكن ما يشغل كثيرين هو اقتصادياتهم ،كيف تأتي
األموال إليهم؟
■ نعم ،وهذا جزء من غموضها ،ال نعرف من أين يأتون
باألموال؟ وعلى العكس من تصوراتهم فهذه األموال الغفيرة ً داعشا ال تقول الحقيقة .هؤالء أناس استلموا تجعلك تشك بأن
نقودًا ليقولوا أشياء ال يعنونها ،وبالتالي ليقوموا بارتكاب جرائم .مثلاً ،داعش استلم نقودًا من أجل تخريب سوريا ،هل هذه خطة نحو إقامة الخالفة اإلسالمية؟ تشريد السوريين على
هذا النحو أمر ال يرضي أحدً ا .لعلها عصابات دولية.
● أليست داعش خارجة من الخطاب اإلخواني
والخطاب السلفي؟ العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
جالل أمين :الغرب لم يعد يحتاج االستشراق ألنه كسب المعركة ..وألن العرب «استغربوا»
■ أنت تعلق اً آمال كبيرة على الخطاب .ال أدري ما هذا
الخطاب الذي عمل على تخريب دولة وشرد سكانها من أجل رفعة اإلسالم؟ من الذي سيقتنع بمثل هذه األمور ويأخذ اً أموال في الوقت نفسه؛ هل هو مدفوع بالمال أم باالقتناع؟ األمر ليس واضحً ا وأنا لست مقتنعً ا .كلمة اإلرهاب اختراع
أميركي .قبل أيام توفي مسؤول أميركي اسمه «بريجنسكي» مستشار األمن األميركي في عهد كارتر ،وقد ُكتب عنه أنه صاحب ملف اإلرهاب ،وبمعنى أدق مح ِّرك ملف المجاهدين ضد االتحاد السوفييتي ،ما يعني أنه هو من حرك هذا الفئة
ابتداءً من أفغانستان -ضد االتحاد السوفييتي ،هذا الحدثبدأ في السبعينيات .وهنا أتذكر أن ما يسمى اإلرهاب اإلسالمي في هذه المرحلة بدأت صناعته ،ثم إن الذين عادوا من
أفغانستان ،هم الذين دمّ روا العراق .الحظ أن هذه الكلمة:
اإلرهاب ،انتشرت عقب سقوط االتحاد السوفييتي ،وكانت قد ُنمِّ ْ يت ضد الخطر الشيوعي كما يقولون.
ما يحدث في مصر وراءه عوامل سياسية وقوى خارجية الفقراء منسيون في كل العصور وفي كل المجتمعات ،ليس فقط عندنا نفسه ضاع .التفاؤل بالمستقبل ضعف كثي ًرا .وما نسميه الحركات النهضوية أصابتها ضربة قاصمة. الربيع العربي ليس عربيًّا
● كيف قيمت ثورات الربيع العربي؟
■ أنا ال أحب كلمة «الربيع العربي»؛ ألنه ليس ربيعً ا،
ويمكن أن أقول :إنه ليس عربيًّا.
● أنت من الجيل الذي عاصر التحوالت الكبرى في
الوطن العربي ،في رأيك هل كان العرب يقتربون من التحول
● لماذا فشلت مشاريع التنوير العربي في مواجهة
الجذري بعد ثورة سوريا ومصر والجزائر والعراق واليمن؟
■ ال أستطيع أن أقول :إن هذه الحركات فشلت تمامً ا،
قامت ثورة يوليو في مصر ثم ثورات العراق ولبنان واليمن
شك هذا السؤال يطرح تحت ضغط التأثر بما حصل في
في الخمسينيات؛ لكنها ضعفت بشدة في الستينيات حينما
التيارات الراديكالية؟
هذا غير صحيح ألن هذه الحركات أحدثت تقدمً ا .من دون األربعين والخمسين سنة الماضية ،وظهور ما يسمى بالحركات التكفيرية والظالمية واإلرهابية ،أو سَ مِّ ها كما
تريد .فمن يسأل هذا السؤال هو متأثر بما حدث في العقود
الماضية كما أسلفت ،يعني من أواخر الستينيات تحديدً ا .أنا
أعلق عادة على ما حدث للعالم العربي من النواحي كافة، ً انطالقا من هزيمة 67مثلاً .كل المشاريع التقدمية وبمعنى
أدق النهضوية أصيبت بخيبة أمل أو بنكسة أو بضربة ،ولم نفق منها إلى اآلن .الثقة بالنفس تضعضعت .استقالل اإلرادة
■ نعم كانت آمالنا كبيرة جدًّ ا .وكلنا تصورنا حين
وسوريا ،أن التحول أصبح قريبًا .المهم آمالنا كانت كبيرة
تحول ما كنا نسميه بالثورات إلى انقالبات عسكرية أو حكم
عسكر ،أنا أتذكر تفاؤل المصريين بمحمد نجيب وعبدالناصر في الخمسينيات ،ثم مع تأميم قناة السويس في 1956م،
ووحدة سوريا ومصر .تفاؤلهم كان أكبر بكثير مما حدث في 1965م حتى قبل الهزيمة .لم تنجح هذه الثورات وتحولت إلى انقالبات ،وهذه اآلمال ظلت اً آمال. ● هل يتآمر الغرب على العرب ًّ حقا أم أن الخلل يكمن في عجز الفكر العربي الذي رافق تلك الثورات، نسألك هذا السؤال ونتذكر تجربتك الرفاقية مع ميشيل عفلق؟
علي أن أقول :إنه حدث تضافر ■ من السهل َّ
للعاملين الداخلي والخارجي ،ولكن إذا قلت ذلك سأكون كأنني لم أقل شي ًئا ،ودائمً ا أي شيء يأتي
جيدً ا يكون نتيجة تضافر داخلي وحدوث تطور
مهمّ ،لكن في بلدان مهمة ليس غريبًا أن يتضافر
العامالن ،إنما أنا أعطي أهمية للعامل الخارجي أكثر.
هناك تصميم من القوى الخارجية ،دعنا نقول :قوى
خارجية ،على عدم نهوض العرب وعدم اتحادهم،
مع ذلك فإن عوامل التوحد كثيرة وما زالت كثيرة،
85
حوار
ً دائما مسدود أمام هذه إلى أن األفق
لهذا كنا نحب ميشيل عفلق؛ ألنه كان ً إيمانا حقيقيًّا بالوحدة العربية، يؤمن لاً كان متفائ ولم يفقد تفاؤله حتى بعد
الشريحة؛ ما الحل إذن؟ اً أول ،ناضلت من أجلها هذه ■
بطبعهم ،هو كان من هذا النوع .جمال
لم أعتقل في حياتي ولم يفكر أحد
انهيار المؤشرات .هناك ناس متفائلون
كلمة كبيرة ومجاملة ال أستحقها .أنا
عبدالناصر حاول أن يحتويه ،وهو كان
بذلك ،لم أكن مهمًّ ا إلى هذه الدرجة.
لديه ثقة بعبدالناصر أكثر مما يستحقها.
وإذا أتينا إلى سؤالك ،لقلنا :إن الفقراء منسيون ًّ حقا ،في كل العصور وفي كل
وبعد ذلك صدام الذي لم يحاول احتواء
ميشيل عفلق فقط إنما احتواه بالفعل، ويقال :إنه وضعه تحت اإلقامة الجبرية.
فالمفكر يمضي خلف أفكاره التي يؤمن بها وهذا ما يجعله متفائلاً ؛ ألن إيمانه يقول له بأن هذا
سيحدث بالفعل ،بل ال بد أن يحدث ،لكن الشر لألسف كان
قويًّا .قوى الشر قوية جدًّ ا. حكم العسكر
ً متحمسا لتدريس ● بعد عودتك من إنجلترا لم تكن
االشتراكية العربية في الجامعة؛ لماذا؟ َ ■ لو كنت جئت إلى مصر في 1957م أو 1959م لكان األمر
86
اختلف ،لكني جئت في 1964م حكم العسكر فعل كثي ًرا مما أفقدنا الثقة فيه :من تلك الدكتاتورية ،واعتقال أناس كثيرين جدًّ ا ،علماء كانوا يمثلون النخبة المصرية معظمهم دخل َ كنت ترى أعظم المفكرين السجون من 1954م إلى 1964م.
المصريين في السجون ،وحين وصلنا إلى 1964م كانت ثقتنا
بالحكم العسكري قد تضعضعت؛ فكونهم يريدون تدريس االشتراكية العربية يعني ذلك تدريس أفكارهم فقط ،وليس ما نعتقده نحن ونؤمن به.
َ ناضلت من أجلها ،وقد ● الفقراء هم الشريحة التي
ازداد األمر سوءً ا مع الحروب التي ظهرت أخيرًا ،ما يشير
المجتمعات ليس فقط عندنا ،حتى في
ميشيل عفلق
أميركا واالتحاد السوفييتي.
الذين كسبوا من الثورة الروسية هم
زعماء الحزب الشيوعي ،إنما عامة الناس عاشت حياة قاسية ما يزيد عن 50أو 60سنة .نعم الفقراء منسيون دائمً ا حتى في
الواليات المتحدة األميركية ،يمكن الدول الوحيدة المستثناة من ذلك هي إسكندنافية. موقع العرب اليوم
● وأنت تقارن بين فتوة األمم وشيخوختها ،قلت :إن األمر يتعلق بالجانب النفسيً ، إذاّ ، مم تشكو نفوس العرب؟
■ الذي كتب في هذا الموضوع جيدً ا هو األمير شكيب
أرسالن في كتابه «لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟» .ير ّد
ذلك للعامل النفسي ،أما سؤالك عن سبب العامل النفسي، فإنه ال يزال قائمً ا ،الذين قالوا :إن العرب يمرون بمرحلة تاريخية تتسم بالتدهور واالنحطاط ،لم يفسروا لماذا؟ وكانوا يعنون أننا
لسنا في أهم مراحل تاريخنا ،هذا صحيح لكن ال يزال سؤالك قائمً ا ً أيضا -أنا أقول :إن كل أمة لها جوانب قوة وجوانب ضعف،
ثم تأتي ظروف تاريخية فتغلب شي ًئا على شيء .في الخمسينيات
والستينيات الظروف كانت جيدة ومواتية إلى درجة أنها ساعدت على ظهور الحالة اإليجابية في الحالة المصرية مثلاً والعربية وفي العالم الثالث كله .كان هناك نهرو في القارة الهندية،
وكوامي نكروما في دولة غانا ،وبن بلة في دولة الجزائر، وسوكارنو في إندونيسيا ،اآلن العالم ال يشجع على نهوض
العالم الثالث؛ بسبب عوامل خارجية بالنسبة للعرب وللعالم الثالث اً أول .الشركات متعددة الجنسيات ً أيضا لم تكن بهذه
القوة في الخمسينيات والستينيات .بالنسبة للعرب العامالن الخارجيان :البترول وإسرائيل؛ البترول ،أنا في تصوري كان
نقمة على نهضة العرب؛ ألنه جعل األنظار تتجه وتصمم على أن العرب ال ينهضون وال يتحدون ،وإال سيضيع البترول منهم.
وإسرائيل كان لها الرأي نفسه ،فعوامل التدهور قويت ،ولم
يظهر زعماء مثلما في الخمسينيات والستينيات ،أما عبدالناصر فمهما انتقدته ال تستطيع أن تنكر دوره.
العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
جالل أمين :الغرب لم يعد يحتاج االستشراق ألنه كسب المعركة ..وألن العرب «استغربوا»
● أين يقف العرب اليوم من الحضارات العالمية؟
■ يقف العرب من الحضارات العالمية ،موقف الناقد
والناقم والمقتبس ،وليس موقف المساهم الذي يعطي.
● إلى أي حد أسهمت وسائل التواصل االجتماعي في
اقتراح واقع بديل عن الواقع الملموس والحقيقي؟
■ أنا في الحقيقة متفائل جدًّ ا بهذه الوسائل ،وأثق كثي ًرا ً نمطا في أنها تمتلك من المؤشرات ومن الثراء ما يجعلها
جديدً ا في الحياة العلمية والثقافية ،لكن أثرها الكبير لم يتضح بعد على الرغم من أنه كان لها دور طيب في ثورة 2011م؛
لكن مع مرور الوقت سيكون لها أثر طيب جدًّ ا.
● «صدام الحضارات»؛ أال ترى أن الغرب ال يزال
يشتغل على هذه النظرية؟
■ سأرد عليك بسؤال :أال تالحظ أن هذا الكتاب ظهر مع
سقوط االتحاد السوفييتي ومع ظهور مصطلح اإلرهاب الذي أخذوا يخوفوننا منه؟ نعم ظهر في هذه الظروف والغرض
منه سواء كان األمر بوعي أو بغير ذلك ،التحول العدائي من
عدو إلى عدو .نعم ما داموا يشتغلون على اإلرهاب فهذا هو
التطور الذي ظهر مع صدام الحضارات ،ثم أال ترى أن مفردة اإلرهاب بدأت تتشكل مع إرهاصات تلك الحقبة التي حرضت على الخطر الشيوعي ،ثم خلقوا بعد ذلك هذه المفردة
وصوَّروها كما لو أنها البُعبُع الذي سيفترس العالم؟ واألمر ليس كذلك ،نصف الحديث في الصحف اليوم عن اإلرهاب،
وهذه نقطة مهمة أريد توضيحها ،وأتمنى أن يفهم الناس
أن ذلك ليس صحيحً ا ،فنصف الجرائد اآلن يتحدث عن اإلرهاب ،والنصف اآلخر ال يستحق القراءة .والحقيقة أن كل دولة كبيرة كانت لديها ميزانية ضخمة ،فلكي تصرف هذه األموال تذهب إلى تخويف الناس من خطر محيق ،وهؤالء
كانوا يخوفوهم من الشيوعية ،ولمّ ا زال الخطر الشيوعي اخترعوا فكرة اإلرهاب .أتذكر مرة أن غورباتشوف قال في األمم المتحدة ونقلتها اليونايتد« :أيها الناس نحن ال نأكل
األطفال» .بمعنى كان هناك تهويل من الخطر الشيوعي ،كما هو اليوم اإلرهاب.
● االستشراق الجديد؛ هل لديك تصور عنه؟
■ أنا قليل االطالع على االستشراق الجديد؛ ألنه َّ قل كثي ًرا عن االستشراق القديم ،والسبب أنهم كسبوا
المعركة ،ولم يعودوا في حاجة لالستشراق ،ويمكنني أن أقول ً أيضا :إنهم كسبوا المعركة؛ ألن العرب من جهة أخرى استغربوا.
في «بوكر» كنت أعرف ركاكة الرواية من اإلهداء ● أخي ًرا كانت لك تجربة في رئاسة تحكيم جائزة
البوكر؛ فمن واقع هذه التجربة هل يمكن أن تقول لنا
كيف تدار الجوائز الكبرىَ ، ولم تشتمل لجان التحكيم
على صحفيين ومحكمين ليس األدب مهنتهم األولى؟
■ أنا في الحقيقة كنت عملت في جائزة ساويرس
رئيسا مع مجموعة للرواية ،وكنت فيها عضوًا وليس ً
من النقاد ،والسبب أنني كنت أكتب في النقد كثي ًرا؛ رئيسا في هذا ما جعلهم يختاروني .وكونهم اختاروني ً جائزة البوكر؛ فهذا شرف عظيم رحَّ بت به ،وكانت تجربة سررت بها .أعتقد أن هذا التوجه جيد؛ ألن النقاد عادة
يكونون متخصصين أكثر من الالزم وكذلك كثي ًرا ما يكون لديهم تحيزات ،وربما أسوأ من تحيزات ،تكتالت. يعني :اليساريون ينتصرون للكاتب اليساري ،وغير ذلك
بصرف النظر عن مدى الجودة .أنا أرى أن االستعانة بغير
النقاد إلى جانبهم -أي النقاد -يعد اتجاهً ا جيدً ا .أما كيف ُتدار الجائزة أنا ال أعرف إال تجربتي ،وكنت أديرها برويَّة وسعادة ،وبديمقراطية عالية ،وتوافق في اآلراء؛ إذ إنهم
لم يشتكوا من أدائي ،كما لم نختلف في إدارتها .تقدم ً رواية كثيرون للجائزة ،فعُ رضت علينا من 130إلى 150
تقريبًا ،شعرت بمسؤولية كبيرة ،وتساءلت كيف سأقرأ
هذه الكمية الكبيرة من الروايات .كانت الروايات قد ُو ِّزعت على كل األعضاء ،وبدأنا نستبعد الروايات الضعيفة،
كنا نستطيع أن نعرف ذلك من الصفحات األولى للرواية.
في الحقيقة المواهب نادرة؛ فمن السهل على اإلنسان أن يحس أن لديه موهبة ،لكن أن تكون لديه موهبة ًّ حقا فاألمر نادر .لم نواجه صعوبة في تخفيض عدد الروايات؛ ً أحيانا أعرف ركاكة الرواية من اإلهداء ،وكنت ألنني كنت
أتوغل في الرواية فأبذل مجهودًا ،لكن حين ال يساعدني ضعف الرواية على االستمرار أتركها ألخرى .أتذكر في تلك
الدورة فاز روائي كويتي اسمه سعود السنوسي ،بروايته
ِّ المحكمون جميعً ا عليها، «ساق البامبو» ،فقد أجمع وهي رواية بديعة ما زلت إلى اليوم أعيد قراءتها.
87
نصوص
طيران دوريس ليسنغ ترجمة :عمر أبو القاسم الككلي كاتب ليبي
88
دوريس ليسنغ
العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
من فوق رأس العجوز كان ثمة برج حمام ،رف طويل فوق
ً عميقا يف قلب الـ« .»...هراء» .صاح« .هراء .هراء به بعض الوقاحة».
الشمس عىل صدورها الرمادية يف أقواس قزح صغرية .أذناه كانتا
من البيت الذي يعيش فيه مع ابنته وزوجها وذريتهم .لكن البيت ً فارغا .كل البنات الشابات ذهنب بضحكهن وشجارهن سيصبح
ُطواالت محاط بشبكة سلكية ،ميلء بطيور( )1نظيفة متبخرتة ،تتكسر
مفعمتني بهديلها ،يداه ممدودتان تجاه حمامة زاجلة مفضلة ،فتية مكتنزة ،وقفت ثابتة حني رأته رامقة إياه بعني براقة ذكية.
«جميلة .جميلة .جميلة» .قال وهو يمسك الطائر ويدنيه إىل
أسفل ،شاع ًرا باملخالب املرجانية الباردة القابضة عىل إصبعه .أراح،
برىض ،الطائر عىل صدره ،ومال ناحية شجرة ناظ ًرا إىل الخارج
فيما وراء برج الحمام يف خالء األصيل .يف تتايل مساحات الشمس والظل تمددت الرتبة غامقة الحمرة ،املتشققة عىل هيئة كتل كبرية مغربَّة ،باتساع إىل األفق البعيد .حاذت األشجا ُر مسرى الوادي، َ ٌ الطريق. وفيض من العشب ذي الخضرة الزاخرة
طافت عيناه جوار البيت بامتداد هذا الطريق إىل أن رأى حفيدته
تتأرجح بالبوابة تحت شجرة فراجيباين .شعرها انسدل عىل ظهرها
يف موجة من ضوء الشمس ،وساقاها العاريتان الطويلتان حاكتا زوايا فروع شجرة الفراجيباين ،فروع عارية ذات لون بني متألق بني
تكوينات من األزهار الفاتحة .كانت تنظر إىل ما وراء الزهور الوردية، ٍ وراء مقصورة سكة الحديد؛ حيث عاشوا ،بامتداد الطريق حتى القرية .تغري مزاجه .عمد إىل بسط راحته لتطري الحمامة ،وقبض
عليها من جديد يف اللحظة التي كانت تنشر فيها جناحيها .شعر بالجسد املكتنز يكافح ويتوتر تحت أصابعه ،ويف لحظة نكاية عاتية
وضع الحمامة داخل صندوق صغري وأغلق الرتاج« .ابقي هناك اآلن» .تمتم ،ثم أدار ظهره إىل رف الطيور .تحرك بحذر بمحاذاة
الحاجز الشجري مراقبًا حفيدته التي استدارت اآلن حول البوابة رأسها مرتاح عىل ذراعيها تغني .الصوت الجذالن السلس امتزج
بهديل الطيور وتصا َع َد غضبُه« .هي!» .صاح .رآها تقفز ،تنظر
وراءها ،وترتك البوابة .عيناها تنغمضان وقالت يف صوت محايد رشيق« :أهلاً ،جدي» .تحركت باتجاهه بعد نظرة متمهلة إىل الطريق وراءها.
«تنتظرين ستيفن ،صح؟» .قال وأصابعه تنثني كاملخالب يف
كفه« :لديك اعرتاض؟» .سألت بال مباالة ،مشيحة نظرها عنه.
واجهها ،عيناه منكمشتان ،كتفاه محدبتان ،مربوطتان يف
عقدة ألم قوي شملت الطيور األنيقة ،ضوء الشمس ،األزهار.
قال« :تظنني أنك كربت إىل درجة إقامة عالقات؟» .حركت الفتاة
رأسها يف إشارة مألوفة وقطبت قائلة« :أوه ،يا جدي!»« .تظنني
مغمغمًا من بني أسنانه عاد باتجاه برج الحمام الذي كان ملجأه
ومناكفاتهن .سيُرتك دونَ رعاية ووحيدًا ،مع تلك املرأة جامدة
العينني مربعة الواجهة ،ابنته.
ً ممتعضا من الطيور توقف ،مغمغمًا ،أمام برج الحمام
املستغرقة يف الهديل .صاحت الفتاة من البوابة« :اذهب وأخرب!
اذهب ،ما الذي تنتظره؟».
اتخذ طريقه إىل البيت عازمً ا ،ملتف ًتا إليها يف نظرة استغاثة
ثابتة حزينة ،إال أنها لم تنظر حولها أبدً ا .جسدها الفتي القلق، أعن لكن املتحدي ،لذعه بالحب والندم .توقف« ،لكنني لم ِ أعن.»... أبدً ا »...تمتم ،منتظ ًرا إياها أن تعود وتجري نحوه« .لم ِ
لم تلتفت .لقد نسيته .عىل الطريق جاء الرجل الشاب ،ستيفن، حاملاً يف يده شي ًئا ما .هدية لها؟ تصلب العجوز وهو يراقب البوابة تغلق ،والثنايئ يعتنقان .يف الظل الخفيف لشجرة الفرانجيباين حفيدته ،عزيزته ،تستكن بني ذراعي ابن ناظر
املحطة وشعرها ينسدل عىل كتفيه. لاً ً مغتاظا .لم يتحركا .خطا داخ البيت «أراك» .صاح العجوز ِ املطيل باألبيض مستمعً ا يف غضب إىل صرير الشرفة الخشبية تحت ً خيطا يف إبرة قدميه .كانت ابنته تخيط يف الغرفة األمامية تمرر معرضة للضوء.
توقف مجددًا ،ناظ ًرا إىل الحديقة خلفه .أخذ الثنايئ اآلن
يتمخطران بني الشجريات ضاحكني .وهو يراقبهما رأى الفتاة تهرب فجأة من الفتى بحركة مشاكسة ،وتركض خالل الزهور وهو ً ً صراخا ،صم ًتا. ضحكا، يالحقها .سمع صيحات، ً «لكن األمر ليس هكذا إطالقا» .تمتم بأىس« .ليس هكذا. ملاذا ال ترى؟ .ر ْكض وقهقهة ،وتقبيل ثم تقبيل .ستستنتج شي ًئا ً مختلفا تمامً ا».
نظر إىل ابنته بكره متهكم ،كارهً ا نفسه .لقد ضبطا وانتهى
األمر ،كالهما ،لكن الفتاة ال زالت تركض بحرية». َ «أال ترين؟» .سأل حفيدته املختفية ،التي كانت لحظتها مستلقية يف العشب األخضر الكثيف مع ابن ناظر املحطة. نظرت إليه ابنته وارتفع حاجباها يف صرب نافد.
«أنمت طيورك؟» .مازحته.
«لويس» .قال بإلحاح« .لويس.»...
أنك تستطيعني ترك البيت؟ .تظنني أنك تستطيعني الركض يف الحقول ليلاً ؟» .ابتسامتها جعلته يراها ،مثلما اعتاد كل مساء من
«نعم .ما األمر؟».
الهائج( ،)2ابن ناظر املحطة .غزت التعاسة رأسه وصرخ غاضبًا:
«اآلن ،فقط اجلس وتناول شايك».
هذا الشهر الدافئ يف نهاية الصيف ،يدها يف يد ذلك الشاب الفحل
«سأخرب أمك!»« .أخربها!» .قالت ضاحكة .ثم عادت إىل البوابة. سمعها تغني متعمدة إسماعه« :احتويتك تحت جلدي ،احتويتك
«إنها يف الحديقة مع ستيفن».
داس بقدميه بالتناوب ،تك ،تك ،عىل األرضية الخشبية
املجوفة وصرخ« :ستتزوجه .أقولها لك ،ستتزوجه قريبًا!».
89
نصوص
ً فنجانا ،أعطته صح ًنا« .ال نهضت ابنته بخفة ،أحضرت إليه
أرغب يف الشاي .ال أريده .أقول لك»« .اآلن .اآلن» .غمغمت« .ما
الخطأ يف هذا؟ .لم ال؟« .إنها يف الثامنة عشرة .الثامنة عشرة».
حلقه وشفتاه ترتعشان .قرب الحمامة الجديدة من وجهه ليداعب ريشها الحريري .ثم وضعها يف الصندوق وأخرج حمامته املفضلة.
ُ تزوجت يف السابعة عشرة ولم أندم عىل ذلك»« .كاذبة». «لقد
«يمكنك الذهاب اآلن» .قال بصوت مرتفع .أمسك بها يف وضع
يفعل ذلك .ملاذا تفعلني ذلك؟ ملاذا؟»« .الثالث األخريات وضعهن
ثم ،وباعتصارة من وجع الفقدان ،رفع الحمامة عىل كفه وشاهدها
قال« .كاذبة .إذن عليك أن تندمي .ملاذا تزوجني بناتك؟ أنت من جيد .لديهن ثالثة أزواج رائعني .ملاذا ال تكون أليست مثلهن؟».
«إنها األخرية» .قال بحزن« .أال يمكننا إبقاؤها مدة قليلة أخرى؟». «أرجوك ،بابا .ستسكن هنا قرب الطريق ،هذا كل ما هنالك. ستكون هنا يوميًّا لرتاك»« .لكن هذا ليس نفس اليشء» .فكر يف
البنات الثالث األخريات ،الاليئ تغرين داخليًّا منذ بضعة أشهر
مضت من بنات مدلالت مناكفات جذابات إىل أمهات صغريات جادات« .لم تفعل هذا حني تزوجنا» .قالت« .لم ال؟ دائمًا نفس
ُ تزوجت جعلتني أشعر كأنني ارتكبت خطأ .ونفس اليشء .عندما
متوازن مهيأ للطريان وهو ينظر إىل الحديقة ناحية الولد والبنت.
تعلو .رفيف واصطفاق أجنحة ،ثم علت سحابة من الطيور يف املساء من برج الحمام .عند البوابة ،أليس وستيفن نسيا حديثهما
وراقبا الطيور .عىل الشرفة ،تلك املرأة ،ابنته ،وقفت متأملة مظللة عينيها بيدها التي ما زالت ممسكة بما تخيطه .بدا للعجوز أن األصيل بجملته سكن لرياقب إيماءته إىل سيطرته عىل نفسه ،حتى
أوراق األشجار توقفت عن االهتزاز .بعينني جافتني ويف هدوء ،ترك ً محدقا إىل أعىل يف السماء. يديه تنسبالن إىل جانبيه ووقف منتصبًا ارتفعت سحابة الطيور الفضية الالمعة إىل أعىل مع صوت اصطفاق
اليشء بالنسبة إىل بنايت .أبكيتهن كلهن وأحزنتهن بسبب سلوكك.
األجنحة الصاخب فوق األرض املحروثة الداكنة وأحزمة األشجار
الحديقة املشمسة« .ستتزوج الشهر القادم .ما من داع للتأخري». ً متشككا. «قلت :إنه يمكنهما أن يتزوجا؟» .قال ِ
الشمس مثل سحابة من ذرات الغبار .طافت يف دائرة واسعة،
دع أليس وشأنها .إنها سعيدة» .تنهدت جاعلة عينيها تتلبثان عىل
«نعم ،بابا .لم ال؟» .قالت يف برود ،وعادت إىل خياطتها.
90
يفعال ذلك ،أعاد العجوز تطمني نفسه ،شاع ًرا بغصة الدمع يف
األشد دكنة ومساحات العشب املتألق ،إىل أن حلقت عاليًا يف ضوء محركة أجنحتها بحيث تتكون ومضة إثر ومضة ،وواحدة بعد ()4
األخرى ،هبطن من الشمس املشرقة يف أعىل السماء إىل الظل،
وخزته عيناه وخرج إىل الشرفة .تحدر البلل إىل ذقنه فأخرج
واحدة بعد األخرى ،عائدات إىل األرض الظليلة من فوق األشجار
من حول املنعطف جاء الثنايئ الشاب ،إال أن وجهيهما لم
صارت الحديقة كلها ضاجة بصخب واضطراب الطيور العائدة.
تسقط من ذقنه« .يل؟»« .هل تعجبك؟» .أمسكت الفتاة بيده
نحو الحديقة لحفيدته .كانت تحدق به .لم تبتسم .كانت عيناها
منديلاً ومسح كامل وجهه .كانت الحديقة فارغة.
يتجها إليه أبدًا .عىل كف ابن ناظر املحطة تقف حمامة صغرية يتألق الضوء عىل صدرها« .يل؟» .قال العجوز ،جاعلاً القطرات وتعلقت بها« .إنها لك يا جدي .ستيفن أحضرها من أجلك» .عانقاه بعاطفة واهتمام محاولني إبعاد الدموع واألىس من عينيه .أحاطا به ٌّ كل من جانب وتناوال ذراعيه وسارا به إىل رف الطيور مالطفني
إياه قائلني ،بدون كلمات :إنه ال يشء سيتغري ،ال يشء يمكنه أن يتغري ،وأنهما سيكونان معه دومًا .الحمامة كانت دليلاً عىل ذلك، قاال ،من خالل عيونهما التي تصطنع البهجة وهما يركزانها عليه: «ها هي جدي .إنها ملكك .هي لك» .راقباه وهو يمسك بها يف كفه
والعشب والحقل ،عائدات إىل الوادي ومالذ الليل.
ٌ صمت ،وصارت السماء خاوية. ثم لاً عاد العجوز ببطء ،متمه ،رفع عينيه ليبتسم باعتزاز
متسعتني وشاحبتني يف الظل البارد ورأى الدموع تنزل مرتعشة عىل وجهها.
الهوامش:
٭ دوريس ليسنغ روائية وشاعرة إنجليزية ،من مواليد 1919م في إيران. عاشت في روديسيا ،زمبابوي الحالية ،ثم في بريطانيا .حصلت على َ المرأة الحادية عشرة التي جائزة نوبل لألدب سنة 2007م ،وكانت
ممسدًا عىل ظهرها الناعم الذي دفأته الشمس ناظ ًرا إىل الجناحني يرتفعان ويتوازنان« .ينبغي اإلقفال عليها مؤق ًتا» .قالت الفتاة
( )1المقصود بـ «طيور» و«طائر» هنا حمام أو حمائم ،وحمامة.
البيض»( .)3دمدم العجوز .متحررين بفعل غضبه شبه املتعمد
…that red-handed, red throated, violent-bodied youth
بحميمية« .إىل أن تعرف أن هذا محلها»« .علمي جدتك امتصاص
تراجعا ضاحكني« .نحن مسروران أنها أعجبتك» .ابتعدا عنه ،وقد صارا جادين ومليئني باألهداف ،باتجاه البوابة؛ حيث توقفا موليني
إياه ظهريهما يتحدثان بخفوت .جديتهما الناضجة أبعدته عنهما أكرث مما يستطيعه أي يشء آخر .هذا ً أيضا هدأه .انتابته لذعة من تمرغهما كجروين عىل العشب .نسياه من جديد .ليكن .عليهما أن العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
حصلت على هذه الجائزة وأكبرهن عم ًرا ،توفيت سنة 2013م.
( )2في األصل :الشاب العنفواني ،أحمر الحلق ،أحمر اليد: ومجمل المقصود :العنفوان الجنسي.
( )3في األصل:
Teach your grandmother to suck eggs
وهو تعبير يقال لمن يوجه نصيحة لمن هو أكبر منه وأكثر خبرة. ( )4عاملنا الحمائم هنا معاملة المؤنث.
نصوص
في عيادة طبيب األحوال نبيل سبيع
شاعر يمني
أسناننا ُم َّ سوسة ٌ وكلماتنا ُم َّ سوسة أكثر لدرجة أنه لم يعد من الالئق ْ أن يبتسم أحدنا في وجه اآلخر أو يسأله عن حاله. ً رجاء! ال تبتسموا في وجهي ابتسامة تقدمونها لي فكل ٍ ّ تتطلب مني الرد بمثلها واالبتسام َ مؤلما ًّ ً جدا بات أمرًا هذه األيام: ُ هممت بابتسامة كلما انفتح مكانها جرحٌ في وجهي. تظنونه ابتسامة! لكن الجرح العميق غالبًا ما يحدث على شكل ابتسامة. اتركوا فمي وشأنه! هذا الجرح القديم والمتجدد والمؤلم ًّ جدا مثل أيامي اتركوه في حاله! ً رجاء! وال تسألوني عن حالي فحالي مثل بقية األحوال ينخره السوس ً يوما بعد يوم: ال المهدئات عادت تنفع وال الحشو عاد يجدي! لهذا ،سأذهب ً غدا إلى عيادة طبيب األحوال وأطلب منه أن يخلعه من جذوره
وأمضي ما تبقى من حياتي بدون حال ماذا في ذلك؟ يمكنني أن أعيش حياتي حال على اإلطالق بدون أي ٍ لاً ُ صادفت متطف ودو ًدا وإذا وسألني: كيف حالك؟ سأصرخ في وجهه بغضب: وما أدراني أنا يا أخي؟! َ ًّ مهتما بحالي لهذه الدرجة، كنت إذا يمكنك أن تبحث عنه وعندما تجده، ابتسم في وجهه واسأله هو! (حتى هو لن يجيبك) وقد يصرخ في وجهك أكثر مني: وما أدراني أنا يا غبي؟!
91
تقارير
الفيلسوف والعا ِلم برتراند راسل وآينشتاين يحشدان علماء دين وشخصيات عامة للعمل على التقليل من مخاطر النزاعات المسلحة توني سيمبسون
محرر كتاب «مناخ السالم»
ترجمة :عبدالله بن محمد
مترجم تونسي
يكشف توني سيمبسون في هذا التقرير عن دور بيان كل من الفيلسوف برتراند راسل والعالم
آينشتاين في تأسيس مؤتمر بوغواش (للعلوم والشؤون الدولية) ،أو المنظمة الدولية التي تسعى إلى حشد علماء الدين والشخصيات العامة من أجل العمل على التقليل من مخاطر النزاعات
المسلحة وإيجاد حلول للتهديدات والمخاطر المحدقة باألمن العالمي. «لم يكن عالمًا كبي ًرا فحسب بل رجلاً عظيمًا ،رجلاً تسعد
بمعرفته وتتسلى بالتأمل في أفكاره» ،بهذه الكلمات ،اختتم برتراند
راسل مقدمته عن آينشتاين في كتابه «السالم» (1960م) .على مر
92
السنين ،كان راسل يلتقي ألبرت آينشتاين من وقت آلخر ،لكنهما لم يجلسا معً ا كثي ًرا إال في عام 1943م ،عندما عاشا معً ا في برينستون.
بعد ذلك قررا أن يجتمعا أسبوعيًّا في منزل آينشتاين لمناقشة
تجمعنا معً ا .أعتقد أنه يتوجب على العلماء البارزين القيام بحركة
استثنائية للفت انتباه الشعوب والحكومات إلى الكوارث المحتملة. هل تعتقد أنه سيكون من الممكن أن نحصل على ستة علماء مثلاً من الذين يتمتعون بسمعة علمية مرموقة ُتشرف عليهم أنت بنفسك،
لصياغة بيان رسمي حول حتمية تجنب الحرب؟».
متحمسا: ورغم حالته الصحية المتدهورة ،استجاب آينشتاين ً
«مسائل مختلفة في فلسفة العلوم» .كما حضر معهما كل من
«أتفق مع كل كلمة في رسالتكم ليوم 11فبراير ...ويمكن تحقيق ذلك على أفضل وجه من خالل إعالن عام ّ توقعه مجموعة صغيرة
وبعد تجربة القنبلة الهيدروجينية األميركية في بيكيني أتول Bikini
بإنجازاتهم العلمية (بمعناها الواسع) والذين لن تتأثر قوة شهادتهم
وولفغانغ باولي وكورت غودل .وقال راسل« :وجدت هذه المناقشات غير الرسمية مثمرة للغاية وقيّمة إلى أبعد الحدود» .في وقت الحق،
Atollبالمحيط الهادئ في مارس 1954م ،انتشرت اإلشعاعات عبر مناطق واسعة ،مما تسبب في تلوّث الصيادين اليابانيين ومحاصيلهم على متن قارب الصيد «الكي دراغون» .في ذلك الوقت
تمكنت الواليات المتحدة واالتحاد السوفييتي من حيازة القنبلة
الهيدروجينية .وفي فبراير عام 1955م ،نتيجة لذلك ،اقترح راسل على
آينشتاين« :كغيري من العقالء ،أشعر بقلق بالغ جراء سباق التسلح النووي .لقد عبّرت في مناسبات مختلفة عن المشاعر واآلراء التي
العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
من األشخاص ،اثنا عشر عالمًا مثلاً من الذين اكتسبوا صي ًتا عالميًّا
بانتماءاتهم السياسية». ّ وعلى الفور رد راسل وتبنى مقترح آينشتاين ،وللتأكيد على «وجود ّ موقعين آخرين إلى جانب توقيعك وتوقيعي» قبل إرسال
مشروع المناشدة إلى األشخاص المختارين .أراد راسل أن يترك الخيار آلينشتاين وشركائه «ألنك تعرف الدوائر العلمية أفضل بكثير
مما أعرف» .وفي الحين كتب آينشتاين إلى الفيزيائي نيلز بوهر، مقترحً ا عليه أن يتصل ببرتراند راسل مباشرة« .ال ترفض ذلك!» هكذا
استهل آينشتاين رسالته إلى بوهر« :هذا ال
يتعلق بالجدل القديم بيننا حول الفيزياء، لكنها مسألة نتفق فيها جميعا» ،موضحً ا أن راسل سعى إلى تكوين مجموعة صغيرة من
العلماء المشهورين للتحذير من «المخاطر
المحدقة نتيجة انتشار األسلحة الذرية وسباق التسلح» .وأوضح ً أيضا «إال إذا أسأت فهم
قصد راسل ،فإن هذا األخير يريد أن يذهب أبعد من مجرد التنبيه من الخطر؛ بل صياغة مقترح نطالب فيه الحكومات بأن تعترف عل ًنا
برتراند راسل
ألبرت آينشتاين
بضرورة التخلي عن حل المشاكل بالوسائل العسكرية» .في الواقع
التقى بداية الفيزيائي البروفيسور جوزيف روتبالت في إبريل عام
باتصاالت أوسع ،ألنه ،كما قال لراسل« :أنا لست على دراية بالدور
الهيدروجينية .أعجب راسل بشكل خاص بعمل روتبالت الذي كشف
«لتجنب أي لبس ،يبدو لي أنه من األنسب أن تكون دكتاتورًا في هذه
بضعة أسابيع من إطالق مبادرة «راسل -آينشتاين» بلندن في يوليو
فهم آينشتاين نية راسل جيدًا .ومع ذلك ،تردد هذا األخير في القيام
الذي ترغب في أن يقوموا به» ،وأضاف آينشتاين في رسالته لراسل،
المبادرة وتصدر األوامر» .وختم حازمًا« :في انتظار األوامر» .وفي 5
1954م في قناة بي بي سي ،في برنامج حواري تلفزيوني حول القنبلة عن القنبلة القذرة التي اختبرها األميركيون في بيكيني أتول .وبعد
عام 1955م ،كتب راسل إلى روتبالت بكلية الطب التابعة لمستشفى
إبريل 1955م كتب راسل -رسالته األخيرة إلى آينشتاين -أكد فيها أن
سانت بارثولوميو ما يلي« :عندما شرعت في التواصل مع العلماء،
عن غير قصد في المخاطر الحالية» .ولهذا السبب ،رأى راسل أنه
مرضه وانتهى بوفاته .أشعر بأنه كانت هناك المزيد من الخطوات
العلماء يشعرون بمسؤولية عظيمة وبخاصة أن عملهم «قد تسبب من األفضل التعامل مع العلماء فقط ،وآثر عدم دعوة أولئك الذين
يعملون في مجاالت أخرى ،مثل المؤرخ أرنولد توينبي ،الذي ذكره آينشتاين .فتوسيع نطاق هذه المبادرة كان سيجعل من الصعوبة
بمكان التخلص من النقاشات السياسية .توفي آينشتاين في 18إبريل عام 1955م لكن ليس قبل أن يكتب إلى راسل ليخبره بأنه «مستعد، بكل سرور ،للتوقيع على هذا البيان الممتاز» .كما وافق آينشتاين على
اختيار راسل للموقعين المحتملين.
كانت لدي قناعة بتعاون آينشتاين ،لكن ذلك قد تضاءل بسبب
التي يجب أن يقوم بها العلماء وبأن أي عمل آخر من جانبي يجب أن يكون في مجال السياسة» بعبارات راسل ،أظهر روتبالت «شجاعة
كبيرة ليترأس» المؤتمر الصحافي وتالوة البيان .وهكذا بدأ التعاون الدائم الذي ولد أول مرة في بوغواش ،نوفا سكوتيا ،في يوليو عام 1957م ،الساحة التي جمعت اثنين وعشرين مشار ًكا من عشر دول،
بما في ذلك الواليات المتحدة واالتحاد السوفييتي والصين ،والتجمع
تحت مظلة الدعم المشترك ألهداف بيان راسل -آينشتاين .كانت
لكن رسالة آينشتاين األخيرة لم تصل راسل إال بعد هبوطه في
بوغواش موطن سايروس آيتون ،رجل األعمال الذي دفع تكاليف
وفاة آينشتاين .شعر راسل باإلحباط ،على األقل ألن خطته ستخفق
زالت مؤتمرات بوغواش المعنية بالعلوم والشؤون العالمية تنعقد
باريس قادمًا من روما .وفي أثناء الرحلة ،كان الطيار قد أعلن عن
من دون آينشتاين بوصفه عالمًا إلى جانب فيلسوف .وأدرك راسل،
أن توقيع المناشدة كان آخر عمل يقوم به آينشتاين في حياته العامة. وبفراقه آينشتاين ،أيقن راسل أنه بحاجة إلى تعاون وثيق مع أحد
العلماء اآلخرين.
في 5إبريل عام 1955م كتب راسل رسالته األخيرة إلى آينشتاين ،أكد فيها أن العلماء يشعرون بمسؤولية عظيمة ،وبخاصة أن عملهم «قد تسبب عن غير قصد في المخاطر الحالية» ،ولهذا السبب ،رأى راسل أنه من األفضل التعامل مع العلماء فقط
المؤتمر األول ،وارتبط اسمه بالحدث .وبعد مرور ستين عامًا ،ما كمنارة لألمل .رعى جوزيف روتبالت شخصيًّا الحركة طوال حياته، وتوّج بفضلها وكذلك المؤتمر بجائزة نوبل للسالم في عام 1995م. وفي عام 2003م ،قبل عامين من وفاته في سن ّ ،96 حث روتبالت
بوغواش على «االنفتاح» والتعاون مع اآلخرين لتوعية الشعوب بمخاطر الحروب النووية إبان غزو العراق .واليوم يواجه العالم مشكلة تغير المناخ فضلاً عن تزايد االنتشار النووي ،في الوقت الذي
يمتد فيه خط الجفاف جنوبًا عبر منطقة الساحل في جنوب الصحراء الكبرى ،ويدمر وسائل العيش األساسية هناك .الناس يفرون من
البلدان المتضررة التي كثي ًرا ما يصاحبها الصراع والجفاف ،وهناك
ضرورة علمية أخرى تفرض علينا العمل على نطاق عالمي .ألم يحِ ِن الوقت لتذ ُّكر إنسانيتنا وتجاوز خالفاتنا؟
المصدر :مجلة Philosophy Nowعدد يونيو -يوليو 2017م.
93
تحقيقات
المسرح العربي في مأزق فن البسطاء لم يعد قاد ًرا على التعبير عن همومهم أو مخاوفهم
94
أكاديمية الشرق األوسط لفنون المسرح 2017م أكتوبر2017م سبتمبر- -أكتوبر 1439هـ//سبتمبر محرم1439هـ 1438هـ- -محرم الحجة1438هـ ذوالحجة 492ذو 492--491 العددان 491
خاص
لم يكن المسرح العربي يعرف في زمن ما معنى «أزمة» مثلما يعرفها اآلن ،على الرغم من كثرة ترديد المسرحيين لهذه الكلمة .فعلى مدار تاريخه منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى وقتنا الراهن والمشتغلون في مجال المسرح يتحدثون عن وجود أزمة في المسرح ،ربما تمثلت في قلة النفقات ،وربما في ندرة خشبات العرض ،أو حتى تفتت الفرق الكبرى ورحيل النجوم والمؤسسين .لكن طيلة الوقت كان ثمة ورق جديد لكتاب جدد ،وجمهور كبير يقبل على هذا الفن الذي يمكنه أن يستوعب مختلف الفنون األخرى ،بدءًا من الغناء والموسيقا والرقص إلى اإللقاء والتأليف والوعظ واإللهاء والتثوير ،حتى إنه في األربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي كان هو الفن الجماهيري األول .واستطاع منافسة السينما والتلفزيون لسنوات طويلة ،حتى إن مسرحية «الزعيم» لعادل إمام ظلت تعرض ألكثر من عشر سنوات على المسرح ،وما زالت أعمال سعد الله ونوس ومحمد الماغوط ومحمود دياب وعلي سالم والرحبانية وغيرهم قادرة على إمتاع الناس حتى اآلن ،لكن السنوات األخيرة كشفت أن المسرح العربي خرج من المنافسة ،ولم يعد قادرًا على إمتاع الجماهير أو جذبهم ،وأن تجارب مثل مسرح مصر أو غيرها لم تقدم ً مزيدا من التسطيح ،وأن فن البسطاء لم يعد قادرًا على التعبير عن همومهم أو ثوراتهم أو مخاوفهم، إال فهل يعيش المسرح العربي اآلن في أزمة ،وما أسبابها؟ وكيف يمكن الخروج منها؟ زياد عيتاني :اإلعالم يتعامل مع المسرح بطريقة خاطئة
الصعوبات التي تواجه العاملين بالمسرح أولها اإلعالم الذي
غيّب عن الناس الثقافة العامة ،ونعني بالثقافة العامة أن نقدم مسرحً ا قائمًا على الروايات الكالسيكية الشهيرة ،أو األعمال التي
أساس أنك ال تستطيع أن تقدم للعالم غير الاليت ،بالطبع ال،
فأنا قدمت ثالث مسرحيات ،إحداهن بلبنان ،لبنان الذي تعداده أربعة ماليين نسمة ،استمرت لمدة ثالث سنوات ،حضرها 45 ً ألفا ،وهي نسبة كبيرة ،كانت المسرحية بعنوان« :طريق جديد» وهي مقاربة تاريخية كوميدية لعدة نقاط في عالمنا العربي،
يقال عنها :إنها نخبوية ،وهي في حقيقة األمر غير ذلك ،فما معنى
فماذا كان دور المنتج ،المنتجون يفضلون دائمً ا الربح السريع،
بالمثقفين أو نخبة معينة من الناس ،ألم يكن ما قدمه محمد
المسرح الشعبي.
ً انطباعا عن المسرح أنه أمر ثقافي كبير وخاص أن يعطي اإلعالم
الماغوط مع دريد لحام ثقافة شعبية؟! ،ألم يالمسا كثي ًرا من األمور المهمة في عالمنا العربي؟ الشيء نفسه فعله لينين الراملي مع
محمد صبحي .فلماذا الترويج للمسرح كأن إيقاعه بطيء ونخبوي، وال يمكنه أن يجاري ما هو سائد بالسوق؟ هل ما هو سائد بالسوق
هو كل ما نملك؟ ال أظن .من المؤسف أن اإلعالم تعامل مع المسرح بطريقة خاطئة ،فالمسرح أبو الفنون ،وال بد أن يمنح الحيز األول ،فلماذا تغيبت األعمال الروائية عن الدراما التلفزيونية، اً أعمال لتشيخوف ،من ما زلنا نتذكر التلفزيون المصري وهو يقدم بينها سهرة تلفزيونية مدتها ساعة بعنون« :الرهان» ،قام ببطولتها
يحيى الفخراني ،هل كانت نخبوية؟ ال لم تكن نخبوية ،فقد كتبت بأسلوب عصري سريع يناسب الشباب ،وهكذا يمكننا أن نمثل كثي ًرا
من األعمال العالمية المهمة ،لكن اإلعالم ال يساعد.
األمر الثاني هو اإلنتاج الذي يسعى للربح السريع دائمً ا،
فيطالب المسرحيين بشيء أقرب إلى ما يسمى بـ«الاليت» ،على
يفضلون ما يعرف بـ«الكوميدي اليتس» ،وهو ما أثر في مفهوم يمكن للنهوض أن يحدث من خالل ثالثة محاور أساسية :أولها
هو اإلعالم ،وثانيها هو السلطة أو الدولة التي ال بد أن تضع المسرح ضمن مناهج التالميذ في المدارس والطالب في الجامعات،
وتشركهم أكثر في الثقافة المسرحية المفقودة ،فيجب أن ندعم
كل البرامج الثقافية ،فالثقافة ليست ذلك المفهوم النخبوي، لكنها كل شيء في حياتنا ،تاريخنا ،حضارتنا ،كل شيء ،نحن يمكننا أن نتناول أي شيء في حدود 120كلمة على تويتر ،فهل نستطيع عمل ذلك من خالل المسرح؟ بالطبع يمكننا أن نصنع
كثي ًرا ،فقط أعطوا المسرح المجال المناسب ،وليس بطريقة البحث عن نجم كبير كي نصنع له عملاً مسرحيًّا ،هذا النهوض ال
بد أن يتعاون فيه كل من اإلعالم والسلطة والمسرحيين أنفسهم، أما أن يُترك المسرحيون وحدهم فذلك أمر صعب ،والمسرحيون
كما يقال يعيشون من اللحم الحي ،لكن هذا طريق صعب وال بد أن نسلكه حتى يستمر هذا الفن ،فهذا الفن بناه مسرحيون كبار
95
تحقيقات
بداية من جورج أبيض إلى نجيب الريحاني إلى فؤاد المهندس،
من دون هذا التدخل الفج في تفاصيل العملية اإلبداعية .كان
واجباعي بتونس والرحبانية بلبنان؛ لذلك ال بد أن يستمر ألنه جزء
كلمة تقال كما هو الوضع الحالي .ومع إدراك هذه األنظمة أن
ودريد لحام ،ومحمد الماغوط بالشام ،وجابر مهموش باإلمارات مهم وأساس في حضارتنا العربية.
المسرح قد يهدد وجودها ،ولو بشكل غير مباشر ،بدأت برفع
كاتب وممثل مسرحي لبناني
الدعم عنه ،مثلما امتنعت عن إقامة المعاهد المسرحية التي ترفد
ناصر ونوس :الحكومات رفعت الدعم عن المسرح
المسرحية الجديدة التي تلبي حاجات المجتمع الثقافية والفنية
منذ والدة المسرح العربي أواخر القرن التاسع عشر وهو ً ً أحيانا أحيانا وتقصر يمر بمراحل متأزمة ،يزدهر سنوات تطول
أخرى ،ثم تأتي مرحلة الهبوط ،تطول ً أيضا أو تقصر .وآخر مراحل ازدهار المسرح العربي كانت في أواخر عقد الثمانينيات، ثم بدأ نجمه يأفل من جديد .إلى أن وصلنا إلى الوضع الحالي،
حيث يمر بأسوأ مراحله –باعتقادي -منذ تأسيسه .وأسباب أزمة
المسرح العربي كثيرة ،أولها عزوف الحكومات العربية عن دعم المسرح ،طالما أن هذا المسرح يتناول قضايا تع ّدها هذه
الحكومات خطيرة عليها .وهنا نأتي إلى النقطة المهمة وهي أن المسرح ال يمكن أن ينتعش إال في ظل الحالة الديمقراطية وتوافر المناخ لحرية التعبير.
ومن يراجع تاريخ المسرح العالمي والعربي والحقب التي
96
ثمة هامش لحرية التحرك بمعزل عن الرقابة المشددة على كل
ازدهر فيها يدرك ذلك .ففي الستينيات والسبعينيات ازدهر المسرح قياسً ا بالوقت الحالي؛ ألن القبضة األمنية لألنظمة الحاكمة لم
تكن بعد قد أحكمت سيطرتها على قطاعات المجتمع كافة،
ومنها القطاعان الفني والثقافي ،كما هو حاصل اآلن .ما زال هناك فسحة للتعبير عن الرأي ،وطرح القضايا الكبيرة منها والصغيرة،
الحركة المسرحية بأجيال جديدة .كما امتنعت عن تشكيل الفرق
المتنامية ،وحولت المهرجانات المسرحية إلى استعراضات إعالمية تهدف إلى تحسين سمعة الدولة أو النظام القائم.
ومع امتناع الدولة عن تقديم الدعم للمسرح ،وصلنا إلى مرحلة نعاني فيها شحّ الكوادر المسرحية ،من ُكتاب ومخرجين
وفنيين ،بل ممثلين يعملون في المسرح .ومن ثم فإن الخروج من هذه األزمة يجري بتأهيل كوادر جديدة ،وتكوين فرق مسرحية جديدة في جميع المدن والبلدات حتى القرى ،وإقامة
المهرجانات على المستوى المحلي والعربي ،وهو ما يعزز روح المنافسة ومن ثم التطوير المستمر .يجب علينا اّأل ننتظر الحكومات حتى تقدم الدعم للمسرح من تلقاء ذاتها ،إنما علينا
مع إدراك األنظمة أن المسرح قد يهدد وجودها ،ولو بشكل غير مباشر ،بدأت برفع الدعم عنه ،مثلما امتنعت عن إقامة المعاهد المسرحية التي ترفد الحركة المسرحية بأجيال جديدة
سميحة أيوب: المسرح تحول اسكتشات هزلية فقيرة وأحيانًا مهينة الحالة العامة في جميع البالد هي سبب اضطراب المسرح ،وال يمكننا أن
نتحدث عن مسرح حقيقي ومزدهر في ظل ظروف غير مستقرة ،فأغلب البلدان في العالم العربي تعاني عدم استقرار واضح ،وأغلب البلدان غير مستقرة ماديًّا
أو سياسيًّا ،وهذا ترك تأثيره في المسرح في العالم العربي كله ،وال نملك اآلن إال المبدعين أنفسهم ،سواء الكتاب أو الممثلون أو المخرجون أو العاملون
في اإلضاءة والمالبس والديكور وغيرها ،ال نملك سوى البشر ،وهم العنصر الوحيد الذي يمكن الرهان عليه ،فال األدوات والميزانيات وال اإلمكانيات متوافرة ،وكي يتوافر ذلك كله ال بد من توافر حالة من التوازن .وفي ظل األحوال السياسية التي
تجوب العالم العربي اآلن فمن الصعب الرهان على شيء ،فالعالم العربي منذ سنوات وهو يعيش حالة من االضطراب السياسي ،والمسرح هو عمل ثقافي وسياسي ً أيضا ،واضطراب الحالة السياسية يقضي باضطراب أحوال المسرح بشكل
العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
المسرح العربي في مأزق
السعي الحثيث لتحقيق طموحاتنا المسرحية من خالل مطالبتها بالدعم المطلوب .وينبغي لنا اّأل نكتفي بالمصادر الحكومية لمثل هذا الدعم ،بل يجب البحث عن مصادر التمويل الخاص ،من
خالل إقامة شركات إنتاج محلية ،تنتج العروض المسرحية مثلما تقوم شركات اإلنتاج السينمائي بإنتاج األفالم.
كاتب ومترجم وناقد مسرحي سوري
سعيد حجاج :ليس هناك أزمة في المسرح
من تاريخ قراءتي للمسرح وأنا أسمع أن هناك أزمة في
المسرح ،على مر العقود واألزمان ثمة أصوات تتحدث عن وجود
أزمة في المسرح سواء المصري أو العربي ،وعن نفسي ال أرى هذه األزمة ،لكني أرى الدنيا تطور ،وكل مسرح يشبه عصره ،لكن أزمتنا نحن أن الدنيا تتطور ونحن نرى المسرح بعيون الستينيات ،نتعامل معه طيلة العقود التي تلت الستينيات من منظور هذه الحقبة،
والحقيقة أن الستينيات كان بها إستراتيجية وتوجه ،لكن بعد رحيل الرئيس عبد الناصر لم تعد هناك إستراتيجية وال توجه ،من ثم
ظهرت فكرة أزمة المسرح .الواقع يقول :إن األزمة الحقيقية تكمن في عالقة الناس اآلن بالمسرح ،فالميديا أخذت اهتمام الناس إليها،
وتركت المسرح يعاني ضعف االقبال وقلة الجمهور ،وهو ما يشعر
وليد داغستاني :األولوية لمسرح المدرسة
بين الستينيات واآلن .كانت السينما في الستينيات هي المنافس
وتح ّد من قدراته اإلبداعية في ظل غياب تصور واضح لدور المسرح
الناس بأن ثمة أزمة ،متناسين الفارق الزمني والتقني واإلعالمي
الوحيد ،أما اآلن فهناك السينما والدراما التلفزيونية وبرامج التوك شو وغيرها ،وكل هذا خصم من رصيد المسرح في اهتمام الناس.
كاتب مسرحي مصري
واضح ،ومن ثم فإننا ال نملك إال مطالبة المبدعين أنفسهم بالتمسك بعملهم ،وكل منهم يقدم عمله على أكمل
وجه؛ كي ال يخسر الجميع ،المسرحيون أنفسهم قبل
الجمهور والمجتمع كله .وال يمكن عد كل ما ينتج اآلن عملاً مسرحيًّا حقيقيًّا ،فالمسرح أمر حضاري جدًّ ا ،لكن هناك تجارب تقدم اآلن مسيئة إلى الذوق والفن ،ألفاظ
خارجة ،واسكتشات بذيئة ،ورغبة في إهانة الممثلين ً بعضا كي يضحك الجمهور .هذا ليس مسرحً ا، بعضهم
وال ثقافة وال قيمً ا ،المسرح فعل حضاري يجب الحفاظ عليه ،وال يجب االستسالم لموجات االنحطاط التي توالت
يشكو المسرح العربي اليوم من معضالت شتى تعيق الفنان
في المجتمع .وقد يعود ذلك إلى جهل أغلبية الحكومات العربية
بقيمة المسرح ،ومن ثم فإن ما يُرصد له من ميزانيات محتشمة تفرضه ضرورة دبلوماسية للظهور أمام الدول المتقدمة بمظهر
التحضر ،ولهذا فقد آن األوان للتفكير جديًّا في تأهيل المسرحيين لالضطالع بدورهم الحساس ،من خالل التكوين والدعم ،وإعطاء أولوية مطلقة لمسرح المدرسة والجامعة ،وإشعار الناس بقيمة اً هذا الفن .ويظل ً مسؤول بشكل مباشر عن أيضا القطاع الخاص
نوعية ما يقدمه من أعمال مسرحية عادة ما تكون ذات طابع تجاري .ولذلك فإن الفنانين عليهم حث الدولة على سن قوانين تحمي مهن الفنون الدرامية ،وتشجع النقابات على الوقوف إلى
جانب حقوق المسرحي في العيش الكريم وتكافؤ الفرص.
مخرج وممثل مسرحي تونسي
محمد أبو العال السالموني :سوء اإلدارة وراء أزمة المسرح
على المسارح العربية في األوقات األخيرة ،وهذا ال يعني
المسرح بشكل عام في حالة أزمة كغيره من مؤسسات
الجمهور وإضحاكه حولت المسرح إلى اسكتشات هزلية ً وأحيانا مهينة. فقيرة
من ظروف عاصفة في أعقاب الربيع العربي ،هذه الظروف التي
أن المسرح العربي كله ضعيف ،لكن الرغبة في إرضاء
المجتمع العربي الراهن ،نظ ًرا لما تمر به البلدان العربية جميعً ا أضعفت كل شيء بما في ذلك المسرح العربي ،فقد شملت الفوضى كل شيء ،وعمّ الدمار في كثير من بلدان المنطقة،
97
تحقيقات
وارتعد الجميع من تلك الموجة الشريرة للجماعات المتشددة
في مختلف بلدان العالم العربي .والمسرح من المفترض أنه إحدى األذرع المهمة التي ينبغي لها مواجهة قوى اإلرهاب ،هذا إذا فكر المسؤولون عن المسرح بشكل إيجابي في كيفية مواجهة اإلرهاب ،فهي قضية ثقافية بامتياز ،والمسرح في قلب العملية الثقافية ،فالفكر ال يواجَ ه إال بالفكر ،أما اعتماد مواجهة العنف
بالعنف ،فذلك سيؤدي إلى دمار شامل ،يمكننا معالجة القضية من جذورها بتغيير الفكر الحافز على اإلرهاب ،لكن المشكلة تكمن
في سوء اإلدارة ،وفي ظني أنها هي أساس أزمة المسرح الراهنة. فالعشوائية والشللية سيطرتا على هذا القطاع بشكل واضح، وليس هناك مسؤول لديه رؤية أو إستراتيجية واضحة للتعامل مع اإلرهاب من خالل المسرح ،وال حتى للمسرح بشكل عام في هذه
المرحلة ،ففي الستينيات كان مدير المسرح لديه خطة وبرنامج
وأفكار واضحة ،وحين يتوقف عمل لظرف ما كان يسرع باالتصال بالكتاب كي يقدموا له عملاً يسد الفراغ الذي تركه العمل الذي توقف ،اآلن األمور كلها تسير بالمصادفة والهوى ،ومن ثم فال
أحد يعرف ما الذي ينبغي عمله وال ما الضرورة ،مشكلة المسرح بالدرجة األولى هي مشكلة سوء إدارة ،وانعدام خيال ،وهيمنة
شللية ،وانعدام الرؤية اإلستراتيجية لما ينبغي عمله.
كاتب مسرح ودراما تلفزيونية مصري
98
المتغيرات محمد المنجي بن إبراهيم :بين أحكام ّ وفضاءات الحرية
العالقات ضمن الحياة المسرحية في تونس ،وكذلك حسب
اطالعي ،في كامل الوطن العربي يشوبها التأرجح والم ّد والجزر
المسرح إحدى األذرع المهمة في مواجهة قوى اإلرهاب ،هذا إذا فكر المسؤولون عن المسرح بشكل إيجابي في كيفية مواجهة اإلرهاب ،فهي قضية ثقافية بامتياز، والمسرح في قلب العملية الثقافية، فالفكر ال يواجه إال بالفكر أو الدينية أو االجتماعية تجذب ّ كل المحاوالت التقدمية إلى
بين مجموعات تنادي بالحداثة والتجديد على األصعدة الفكرية والف ّنية وكيفيات اإلنتاج والتقديم ،وشؤون التوزيع والترويج،
الخلف وإلى األسفل ،وأن الح ّريات المزعومة بمفهوم «:اصنع
دون عناء أو شقاء التفكير .وهناك ّ شق آخر يمسك بوسط العصا، ويسعى إلى أن يكون لمسرحه وجود ولو متواضع ،في ُْقدِ مُ على
وال ُتعير اهتمامًا باحترام الهوية ،بل هي عوامل ُتؤدّي إلى التيه
ومجموعات أخرى متشبّثة بنمطية مسرحية تد ّر الربحَ الوفير من
أنماط مسرحية ذات طابع تقليدي من حيث االختيار ومجهود إنجاز العرض سواء فيما ّ يتعلق بالكتابة المسرحية أو األطر الفنية لإلعداد والتقديم.
وفي هذا الشأن يكمن فسيفساء المسرح العربي ،وقطاعاته
المحترفة ،والهواة ،والمسارح الجامعية والمدرسية ،وذلك
ضمن عالقات مضطربة وفي أجواء ال تخلو من مطبّات هوائية غير مريحة .خالصة هذا المعنى أن المضايقات السلطوية
لح ّريات التعبير هي أجهزة قمعية تح ّد من انتشار المقترحات الف ّنية الجريئة ،وأنّ التسيّب والفوضى والتعاطي االعتباطي للنشاط المسرحي يُدخل المسرح في متاهات متداخلة كخيوط
العنكبوت يصعب الخروج منها ،وأنّ أشكال التط ّرف السياسية العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
ما شئت» و«العالم صغير» و«ال حاجة لهوية» ...وغيرها هي عوامل ال تضمن استقرار الذاتُ ، وتهمل التعريف بالشخصية، والغربة ،وإلى ضروب العدمية بانعدام الكيان ،ومن ثم فعلى كل فنان مسرحي اختار عن طواعية واقتناع أن يجعل من حياته
المهنية والمجتمعية خدمة للتعبير المسرحي بمكوّنات وأدوات تسمح له ال أن يضاهي كبار القوم المتقدّم فقط ّإنما بالتنافس
المشروع معهم ،وذلك بأن يعتمد على هويته وبَصماته المحلية، وثراء ثقافته ومراجعه التراثية والتاريخية ،وبُعد النظر الحداثي والمعاصر ،وال يكون في التفرقة والتش ّتت والضغينة واألحقاد، وال في الصراعات الداخلية والخارجية ورمي اآلخرين بالحجارة ّ بالتخلف والال-اعتبار ،فالكبير يبقى صغي ًرا أمام شسوع ونعتهم
المعرفة ،والفنان يبقى متواضعً ا أمام عظمة اإلبداع.
ناقد ومخرج مسرحي تونسي
المسرح العربي في مأزق
عبدالعزيز السماعيل :أزمة وجودية في الصراع بين قيم المدنية ،والقيم المتطرفة ً وحدثا اجتماعيًّا ثقافيًّا جا ًّدا حيًّا ومباشرًا، أعتقد أن المسرح بوصفه ف ًّنا أو هذا ما يجب أن يكون عليه أصلاً ،قادر على المساهمة بفاعلية في مواجهة
كل أشكال األزمات والقضايا التي تهم المجتمع العربي اآلن ،ومن ضمنها تعزيز قيم التسامح والمحبة والمواطنة والمشاركة والحوار ...إلخ ،من قيم حضارية وإنسانية عالية هي أصلاً من صميم فضائل الدين اإلسالمي الحنيف، في مقابل كشف الزيف والتضليل الذي يدعيه دعاة الغلو والتطرف واالنغالق باسم اإلسالم ،إال أن المسرح العربي ذاته واقع في أزمته الخاصة والمزمنة
منذ سنوات طويلة؛ بسبب ضعف الدعم وغياب التخطيط اإلستراتيجي للثقافة عمومً ا ومن ضمنها المسرح ،إضافة إلى العنصر األهم وهو تشديد سلطة
الرقيب التي تعوق دوره في تناول القضايا المهمة في المجتمع بشكل واضح وصريح ،وقد ضاعف اآلن االنفتاح الكامل على العولمة وقيم السوق واالستهالك الرأسمالي من أزمة المسرح العربي ليس فقط في الوطن العربي بل في
العالم ً ً تحديدا ،يمكن مالحظة أحد مظاهر تلك األزمة في انقسام أيضا ،وألن ما يعنينا هو المسرح في واقعنا العربي
المهتمين بالمسرح أنفسهم تيارين مختلفين.
فالذي ال يستطيع مجاراة عروض السوق االستهالكية للترفيه والتسلية انسحب إلى العزلة ،أو إلى تغليب الشكل
المسرحي وألوان السينوغرافيا بدعوى التجريب الغارق في الترميز والدالالت اللغوية المنفلت من أي موضوع أو
مضمون جاد له قيمة فكرية مهمة في المجتمع ،في حين بقي المسرحي الجاد المؤمن بدور المسرح وأهميته يصارع من أجل توفير احتياجاته المسرحية الملحّ ة ،أملاً في أن يجد له مكانة اجتماعية مرموقة يتمناها منذ زمن بعيد وال ً أحيانا. يستطيع الحصول عليها إال مع النخبة المسرحية في عروض المسابقات والمهرجانات
إن المجتمع الذي يدعم وهم الخصوصية والمحافظة على التقاليد ،رغم انفتاحه المفرط على أنماط السوق
وقيم االستهالك الرأسمالي المادي ،لن يبحث عن قيمة حقيقية للفنون ،وال عن مسرح جاد وحقيقي يناقش قضاياه وهمومه االجتماعية الحقيقية ،ومن ضمنها قضايا التطرف والغلو واإلرهاب ،بل عن مسرح استهالكي مُ ٍّ سل ساخر من مشاكل الناس واألشكال النمطية للشخصيات الشاذة فيه ،مثل :األسود والسمين واألعور والقصير والطويل... إلخ من موضوعات سطحية فجة تستجدي إضحاك المشاهدين وتسليتهم بأي شيء ،ومن أي شيء غريب أو عجيب
في سلوكه أو هيئته.
ومن ثم فإن القيم التي تسطح المسرح وتتعامل معه كعلبة غازية فارغة سوف ترمى بعد االنتهاء منها ،سوف
تنتج قيمً ا لصالحها ،سطحية وتافهة ً أيضا ،لكنها عميقة ومؤثرة في نفوس الناس وتسطيح تفكيرهم ،ومن ضمنها
تدمير قيمة المسرح ،حين يتحول إلى منصة تهريج ليس إال.
إن ازمة المسرح العربي كانت وال تزال أزمة في العمق ،أزمة وجودية في الصراع بين قيم الثقافة والتحضر
والمدنية ،والقيم الدينية المتطرفة والعادات والتقاليد المحافظة ،على الرغم من مظاهر التمدن والمعاصرة الشكلية
في المدن وحياة الناس.
مسرحي سعودي
99
نصوص
عصفور الزيبرا ٭
فنغ تـچي تساي
ترجمه عن الصينية :مي عاشور
مترجمة مصرية
رائع ًّ حقا! أهداني صديق زوجين من طيور الزيبرا .وضعهما بداخل قفص بسيط من أعواد البامبو المضفرة، بداخل القفص كانت توجد ً أيضا لفافة من العشب الجاف ،التي كانت بمنزلة عش دافئ ومريح لهما. يقال :إن هذا نوع من الطيور يهاب البشر.
َعلقت القفص أمام النافذة ،حيث كانت هناك أصيصة لنبات الغيالن الفرنسي مزدهرة بشكل غير عادي. قمت بتغطية القفص بأوراق نبات الغيالن الخضراء والطويلة الممتدة ،فشعر العصفوران بأمان كأنهما
توارا وسط غابة نائية هادئة ،وباتا يطلقان من هناك تغريدات رقيقة رنانة أشبه بصوت المزمار ،كما
بدا عليهما أنهما في منتهى االرتياح وهدوء البال .كانت خيوط الشمس تتخلل النافذة ،منسابة إلى الداخل؛ مما جعل أوراق الغيالن الصغيرة الكثيفة التي تشبه األظافر منقسمة إلى جزأين :أحدهما
100
مظلل واآلخر مضيء ،فغدت كحجر اليشم ،مرقشة وخضارها يضفي حيوية ونضرة. ً فأحيانا كان يصعب رؤيته ،لكن كان ظل العصفورين يظهر ويختفي كوميض داخل القفص .أما القفص،
كان يمكن رؤية منقار العصفورين اللطيفين الصغيرين الزاهيين في حمرتهما ممدودين من بين األوراق الخضراء .قلما كنت أزيح أوراق النبات المنبسطة أللقي نظرة عليهما -وهما ً أيضا -أصبحا تدريجيًّا إلي ،وبهذا الشكل أَ َ لف كل منا اآلخر إلى حد ما. يجرؤان على أن يطال برأسيهما الصغيرين وينظرا َّ
بعد مضي ثالثة أشهر ،انبعث من بين النبات الكثيف المتمادي في النمو واالزدهار صوت تغريدة حادة ،لكنها ناعمة ورقيقة .خمنت أنه قد صار لديهما مولود صغير .فماذا فعلت أنا حينذاك؟ بالتأكيد لم أزح األوراق أللقي نظرة إلى الداخل ،وظللت أفعل الشيء نفسه ،حتى عندما كنت
يمض وقت أضع لهما الطعام وأزودهما بالماء ،لم أزعجهما بنظرات يملؤها الفضول .لم ِ طويل ،حتى ظهر بغتة رأس صغير من بين النبات .آه هذا عصفور أصغر ،إنه المولود الصغير!
كان صغيرًا ،وبوسعه أن يتسلل ويخرج من بين قضبان القفص بكل سهولة ويسر .انظر ،كم يشبه أمه،
له منقار وساقان حمراوان ،وريش رمادي الزرقة ،فقط لم تكن النقطة البيضاء المستديرة قد نمت بعد ً بدينا ًّ جدا ،وجسده أشبه بكرة شعثاء .في البداية ،كان يتحرك على ظهره ،كباقي عصافير الزيبرا؛ كان ً محلقا في الغرفة العصفور الصغير في إطار القفص فحسب ،ولكنه بعد ذلك أصبح يضرب بجناحيه ً متألقا متباهيًا بنفسه ،وتارة ينقر أكعبة رائحً ا غاد ًيا ،تارة يهبط أعلى الخزانة ،وتارة يقف فوق المكتبة الكتب المنقوش عليها أسماء فطاحل األدب ،وأخرى يرتطم بسلك المصباح فيجعله يتأرجح ذها ًبا
وإيا ًبا ،وفي الحال يقفز لينتقل إلى الوقوف على برواز اللوحة ،لكنه سرعان ما كان يعود طائرًا في الحال إلى القفص ،بمجرد أن يصدر العصفوران الكبيران تغريدات غاضبة.
تجاهلته .وظللت أفعل هكذا لوقت طويل؛ كنت أفتح النافذة ،وكان أقصى ما يفعله هو أن يقف على
ً مندفعا صوب الخارج مهما حدث. إطارها لبعض الوقت ،دون أن يطير
العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
ً ً ً بعيدا مني، رويدا ،وسرعان ما أصبح يهبط على مكتبي .كان في البداية يقف رويدا استجمع جسارته َ ً فشيئا ،ثم بات يقفز فوق فنجاني ،ويحني شيئا وعندما توسم أنني لن ألحق به أذى ،أخذ يدنو مني رأسه إلى أسفل ليحتسي الشاي ،ثم يرفع رأسه مرة أخرى ليرى ردة فعلي .أما أنا فكنت أبتسم
له ابتسامة خفيفة ،وأواصل الكتابة كما كنت أفعل .لكنه سرعان ما أطلق لشجاعته العنان ،أخذ ً متقافزا حول سن قلمي هنا وهناك ،كانت مخالبه الصغيرة يتقافز حتى وصل فوق الورقة ،وغدا يدور الحمراء المحتكة بالورق تحدث صريرًا.
ً ساكنا ،وأخذت أستمتع بمودة الطائر الصغير في سكون .وبهذا واصلت الكتابة من دون أن أحرك
ً تماما .وسرعان ما أصبح ينقر قلمي المتحرك بمنقاره األحمر الصغير الذي يشبه الشكل ،اطمأن قلبه حسست بيدي على ريشه األملس الرقيق ،وهو ً شمعة مطليةَّ . أيضا لم يخف ،بل على العكس ،نقر
أصابعي مرتين برفق ورقة .كان يرافقنى كظلي كل الصباح ،وعندما يصبغ الشفق السماء بلونه، ّ ً الملتف، عائدا ،إثر تغريدات ثالث متتالية من والديه ،كان جسده المستدير كان يطير صوب القفص
يزيح أوراق النبات الخضراء ويخترقها إلى أن يدخل القفض .ذات يوم ،هبط على كتفي دون تمهيد،
بينما كنت منكبًا على الكتابة ،فأوقفت حركة القلم الذي كنت أمسك به بشكل ال إرادي؛ حتى ال
أفزعه فيف ّر هار ًبا .بقي لبرهة ،وعندما استدرت ألراه ،كان الصغير قد أمال رأسه إلى األسفل وغط في نوم عميق على كتفي ،كان وجهه الفضي يحجب عينيه ،أما قدماه الحمراوان الصغيرتان فكان قد
كساهما الريش الطويل الرفيع الذي يمأل صدره .رفعت ً مستغرقا في كتفي بخفة ،لكنه رغم ذلك لم يستفق ،كان
ً صوتا من فمه ،أكان يحلم؟ النوم ،إضافة إلى أنه كان يصدر
أول ما تحرك سن قلمي ،تدفقت منه المشاعر التي لمستني
ً ً عالما بهيجً ا. دائما حينذاك :الثقة تخلق
٭ فنغ تـچي تساي ولد عام (1942م) كاتب وروائي ورسام صيني معاصر ،ويُعَ دّ واحدً ا من أكبر الكتاب الصينيين المعاصرين وأهمهم ،ولد في مدينة تيان تچن ،هو اآلن عميد معهد
فنغ تـچي تساي لألدب والفنون بجامعة تيان تچين .له اهتمامات أدبية؛ موسيقية وفنية
كثيرة ،له إنتاج كبير من األعمال األدبية التي تعكس حياة المثقفين الصينيين،
ً قصصا تاريخية متعلقة وكذلك تروي بالمدينة التي يعيش فيها.
101
تراث
ألف ليلة وليلة أو صوت شهرزاد
102
بيترو تشيتاتي
ناقد وباحث إيطالي
ترجمة :محمود عبدالغني
شاعر وكاتب مغربي
ال نستطيع ً أبدا فهم «ألف ليلة وليلة» والحضارة اإلسالمية من دون أن نتذكر ً جميعا ،والثاني ،األكثر غنى وجود نوعين من الخلق؛ األول هو خلق آدم ،الذي ننحدر منه ً وغموضا ،ويشمل كل عجيب وشيطاني وسحري :إنها مملكة سليمان .هذه المملكة تجاور ً أحيانا داخل وجودنا .كما عالمنا؛ تحيا حياة موازية ،وتمتلك قوانينها الخاصة ،وتتسرّب أنها مباركة ومحمية من طرف اإلسالم (النبي محمد يعلن وحيه للجن) ،في حين أن الوعي ً شيطانا وشريرًا. المسيحي يعده
العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
الحاكم هو سليمان ،الملك الساحر ،الحكيم الكتوم ،الذي يسيطر على المرئي والخفي ،يسمع ّ كل الكلمات الملفوظة
له إمبراطورية الكون .مات بعد ذلك ،وبقي فوق عرش من
أحب أثناء كتابته الثانية لـ«فاوست»، ّ غوته أكثر من الجميع األمكنة السرية في «ألف ليلة وليلة» :القبور ،واآلبار، واألدراج التي تغوص في الالنهائي، والكهوف المسكونة ،والغرف المحجوبة ،والقصور الواقعة تحت األرض حيث تحكم أميرات الجن
والشرير ،المتوحش أو الرائع ذو الجسد المصنوع من الهواء
ُّ ٌّ «التلذذ بمتعة اللحظة»؛ وهذا الحشد كل يؤمن بضرورة
فوق األرض وفي السماوات ،يعرف لغة الطيور الغريبة، ويضع في يده خاتمً ا ُنقش عليه االسم السري لله الذي يضمن
الذهب ،وفي إصبعه ذلك الضوء الساطع من خاتمه ،في
جزيرة الزم ُّرد البعيدة .لكن تلك المخلوقات ،على األقل في
ألف ليلة وليلة ،بقيت خاضعة لقوانينه؛ ألنه في فضاء السرد سليمان رجل خالد ،ومخلوقاته غير محدودة؛ الجنّ الطيب
والنار؛ الشعوب النصف بشرية في الهواء والبحر؛ الحيوانات، ً خصوصا األفاعي؛ األشياء السحرية (حصان اآلبنوس الذي
من النمل الصغير ،الجشع ،الشهواني ،النشيط ،الماكر،
يدب فوق مساحة األرض الغريبة! المنشغل ،كم ُّ
ّ يحلق في السماوات ،الطاووس المذهّ ب الذي يشير إلى ّ النظارة التي تساعد على رؤية مئات األميال)؛ الساعات،
ليالي ألف ليلة وليلة طافحة بغنى المشاعر األرضية، ومُ ّ صفاة بغربال العقل :عطر األزهار والبهارات ،بمذاق الفواكه
الشرق؛ رُواة الحكايات والخرافات ،ونحن ،جمهورهم ،الذي
في سرود دقيقة؛ الحمّ ام ،رائحة أجساد النساء ،الخشب
األحجار الكريمة في اليابسة والبحر ،األضواء المبهرة، يتلقى بركة سليمان الغامضة.
ّ الجافة ،باللحوم وبمعامل السكر ،ملفوظات الطرية أو
المحروق ،المسك والعنبر ،إيروس ،المحادثة ،الموسيقا،
مملكة سليمان هوائية ،خفيفة ،تتجاهل الفضاء
ألعاب القمار ،الخمر ،النوم .ها هي مرة أخرى المنازل الكبيرة
وسجاداتها الخارقة ،وقصورها التي تظهر في وقت واحد. ّ المفضل .اليد ،التي هي دومً ا يد امرأة، التحوّل هو سحرها
بالكامل ،صورة عن عدن ،حيث الماء يجري ،والعصافير
والزمن وتتالعب بالحدود التي تفرضها ،بواسطة أجنحتها،
ترسم إشارة وها هي األشكال تبدأ في التحوّل :بسرعة مدوّخة يصبح الجني أسدً اُ ،عقابًا ،أفعىًّ ، قطا ،عقربًا ،ذئبًا ،دودة، ً ديكا ،رُمّ انة أو نارًا مستعرة؛ ويمكن للتحوّل ،إلهيًّا كان أو
شري ًرا ،أن يصبح إما سعادة (يتغير الشكل ،هل يوجد ما هو أجمل؟) أو خط ًرا شيطانيًّا ،ال نفلت منه إال عن طريق الموت. ّ معقدة؛ ينبغي أما أبناء آدم فإن عالقتهم بمملكة سليمان ً وأيضا إبطال ِشراكها. لهم حبّها مثل الخوف منها ،ومداهنتها،
عالم واحد مشرق
في بعض المحكيات الكبرى ،يعترف بعض الرجال بأنهم ً مطلقا إال بنات الجن :النساء -السمكات، ال يحبون حبًّا
ُسط ،والصوف ،واألقمشة بغرفها المفروشة بالسجاد ،والب ُ َ ْضرة تقريبًا المزخرفة ،واألرائك الدمشقية :الحدائق المُ خضو ِ
تغني؛ والجواري اللواتي تثرثرن ،وتغنين ،وتعزفن الموسيقا،
وتدبرن المؤامرات ،وتمارسن الحب .نحن داخل الفضاء غير
الواقعي للسرد :ال نستغرب حين نرى الطبقات االجتماعية
واحدة جنب أخرى ،والمهربين ،صانعي المالبس ،الملتحين، بائعي الجمال ،الك ّناسين ،أطفال اإلسطبالت الذين يتحولون بين ليلة وضحاها إلى وزراء باذخين. ّ في مملكة آدم الجمال قيمة جوهرية :الله يتجلى على
األرض ،ربما أكثر من اإليمان بالله .عندما يم ّر رجل أو امرأة بجمال باهر في شوارع بغداد ،أو البصرة أو القاهرة ،فإن
وجوههم تشعُّ بالضوء؛ فيفقد المارّة المعجبون الذاكرة، مثل صديقات زليخة أمام ظهور يوسف .إن ّ كل ليالي ألف ليلة وليلة هي ُنصب لألُنثوي الخالد :سواء ُكنّ متحدرات من آدم
النساء -الطيور ،اللواتي يبحثن عن الهروب من حضور اإلنسان ّ يتمكن الرجال والعودة إلى عالمهن الخفيف .لكن في النهاية
في حين الرجال ،هم تقريبًا مخنثون« ،بخطوات أنيقة
ليلة وليلة هو التقريب بين ممالك آدم وممالك سليمان ،بين
يستسلمون برقة وهدوء ،يتنازلون بدون مقاومة إلثارة النساء
من العيش معهن؛ ألن الحلم الكبير الذي يراود رواة ألف الناس والشياطين والحيوانات والنباتات ،وصهرهم في عالم موحّ د ومشرق .قرب مملكة سليمان يوجد عالمنا :الحياة اليومية ،الحياة الدُّ نيا ،محبوبة في ّ كل تعددها وأشكالها. كل الشخصيات تفكر في أن «الحياة هي الخير األكثر نفاسة»،
أو سليمان ،النساء حيويات ،وملحّ ات ،وعنيفات وشجاعات؛ ومرنة ،يتموّجون مثل أغصان الصفصاف أو قصب البامبو»، اإليروسية الجارفة .يندلع الحب فجأة ،مثل الصاعقة .ليس ً أحيانا يكون انعكاسً ا من الضروري رؤية وجه المحبوب،
لوجهنا؛ االسم يكفي ،أو صورة مرسومة على ورقة .ومثلما يحدث في الروايات اإلغريقية والنصوص الصوفية ،يوجد
103
تراث
فقط الحب -الشهوة ،والرغبة المثيرة ،وقدر العشق ،ومرض ً أحيانا إلى المعاني ،واأللم الذي يرجُّ كل األعصاب ويقود
إدراك نشوة الطريق ،يغوصون في الجغرافية العجيبة لهذا
كثيرة هي السفن ،كثيرة هي الموانئ واألسواق التي تمأل
ً شسوعا ،وتعقيدً ا وكثافة سكانية إلى مملكة سليمان ،األكثر
الجنون والموت.
البلد الشاسع الذي يمتدّ إلى ما وراء بلدنا ،أو جنبه ،أو فوقه،
ألف ليلة وليلة .ليس أم ًرا ذا أهمية أنه في الوقت الذي كان فيه ال ُّنساخ ينسخون مخطوطنا ،كان المغول في الغالب قد
هو الجبل األسود ،وجبل األعشاب ،وجبل الزم ّرد ،ومدينة
السلع المطلوبة من طرف ويبيعون بضاعتهم ،ويشترون ّ
الجزر التي ال تنتهي أبدً ا ،إما فردوسية أو مليئة باألخطار الرهيبة ،التي تتر ّكز فيها كل عجائب الدنيا.
دمّ روا شبكة التجارة العربية .ألن السفر هو الولع الحقيقي: ومتاهي مثل السرد .كل يوم يبيع ال ُّتجّ ار سلعهم، ال يُقهر ّ
مثل البلدان المتخيلة من طرف األدب الغربي القروسطي .ها
المرجان ،ومملكة الطيور ،وقصر األحجار الكريمة؛ والجزر،
ثم يقودنا السفر إلى المدن المهجورة ،إرم ذات العماد،
البلدان البعيدة ،ويجوبون األمكنة واألقطار ،كما لو أن تراب ّ الملتف حول عصا. األرض عبارة عن قطعة من القماش الرقيق
ومدينة النحاس ،والمدينة البيضاء ،التي كانت مسكونة قديمً ا
سيرهم .كم تأمّ لوا من ممالك ،كم اجتازوا من طرق تحت
الذين أرادوا تقليد جنة األرض .األبواب الضخمة ّ مرصعة باألحجار
وبقدر ما تلي الليالي النهارات والنهارات الليالي ،يتابعون
المناخات السبعة ،كم من خطوات حسبوا ،وكم من بضاعة باعوا ،واشتروا ،وتبادلوا ..البحر في انتظارهم :الهدوء ،حين ّ نتصفح كتابًا؛ حيث صراخ ورعب تمتدُّ األمواج ببطء مثلما العاصفة ،حين يمتدُّ المحيط من دون نهاية إلى األفق ،حين تختفي ّ كل أرض عن األنظار.
104
وتركستان ،والهند ،والصين .بعد ذلك ،ومن دون أن يتمّ
سفر ال محدود
السفر ال محدود ،من بحر إلى بحر ،ومن قارة إلى
قارة ،ومن جزيرة إلى جزيرة ،ومن ميناء إلى ميناء .التجار ً بلدانا معروفة :مصر ،والعربية السعيدة ،والعراق، يعبرون
من طرف الزرادشتيين ،أو المشيّدة من طرف الملوك الملحدين
والسرادقات الكريمة ،والقصور هي األخرى شاسعة مثل المدنُّ ،
من الذهب والفضة ،والحصى من الزبرجد ،واأللماس والياقوت.
أبدا فهم «ألف ليلة وليلة» ال نستطيع ً والحضارة اإلسالمية من دون أن نتذكر وجود نوعين من الخلق؛ األول هو خلق جميعا ،والثاني آدم ،الذي ننحدر منه ً وغموضا ،ويشمل كل عجيب األكثر غنى ً وشيطاني وسحري :إنها مملكة سليمان
المتابعون السريون لشهرزاد والمهمة المزدوجة للسرد ّ أحب غوته أكثر من الجميع األمكنة السرية في «ألف ليلة وليلة» :القبور ،واآلبار، أثناء كتابته الثانية لـ«فاوست»،
واألدراج التي تغوص في الالنهائي ،والكهوف المسكونة ،والغرف المحجوبة ،والقصور الواقعة تحت األرض حيث تحكم أميرات الجن .هنا ،في األعماق حيث تعيش ً أيضا األمهات ،وتحرس العجائب والكنوز .المتابعون السريون لشهرزاد يرددون
ً جيدا أن النزول إلى الكهوف المأهولة بالعجائب هي مهمة على مسامعنا أن مهمة السارد مزدوجة .من جهة ،هو يعرف
صعبة ًّ جدا :ال طرق ،ال مرشد ،ال سيد .ال شيء أكثر خطورة من محاولة البحث عن معرفة األسرار :هناك قانون يمنع ذلك،
وال يمكن خرقه إال بالتضحية بحياته .لكن من جانب آخر ،ال يستطيع إال ركوب هذا الخطر .وبكل حيلته وقوته ،ينبغي أن
ينزل إلى القبور ،واآلبار ،والكهوف ،والقصور تحت األرض؛ ليمتحن األلغاز ،ويخرجهم إلى الضوء ويحكيها لجمهوره، بهذه الكلمة السعيدة والغامضة التي تخبئها وتكشفها في آن .ربما لن يعاقبه القانون؛ ألنه في جزء من كيانه ،الناجي من
الموت ،لم يعد ينتمي إلى الجنس البشري.
ال أحد يقول لنا كيفية االلتحاق بالقلب السرّي لألرض .كثيرون هم الحكماء في «ألف ليلة وليلة» ،يوجدون حتى بين الع ّتالين ،والحلاّ قين والجواري :محترمون من طرف الجمهور وأغنياء بهذا العلم الكوني الذي يُؤخذ من الكتب .هؤالء يرغبون تلقين السارد أن الحكمة توجد مختبئة بداخلها :لكن السارد ال ينتمي لنمطهم .فهو ال يستمع إلى األحاديث المبالغ
العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
ألف ليلة وليلة أو صوت شهرزاد
خلف دائرة األسوار ،يهيمن الفراغ والوحشة؛ ال وجود لصوت
لكن الرحلة ال تنتهي هنا .أحدٌ ما ،في األزمنة الغابرة،
باكية الذين هجروها .حُ ّراس األبواب ،والخدم ،والخفر،
بعد ،وال يمكن هزم الزمن .شخص آخر يبحث عن امرأة
تنعب في الطرقات والبيوت، بشري؛ البومة تنعق ،والغربان ُ والجنود ،واألمراء تحوّلوا إلى حجر ،أو ينامون على أفرشتهم الحريرية ،وجلدهم ما زال حيًّا مثل األحياء .في السوق ،الفواكه
واألشياء المصنوعة من الجلد تبدو في حالة جيّدة ،غير أنها تتف ّت ُ ت وتسقط غبارًا بين األيديُ .نصب تذكاري حزين وضخم
«أين الذين حكموا البلدان ،وأخضعوا الرجال وقادوا الجيوش؟ أين القياصرة بقصورهم التي ال ُتحصى؟ لقد غادروا األرض كما لو أنهم لم يوجدوا قط» يذ ّكرنا بأننا دخلنا مملكة الموت .الموت
يهيمن على عالم عالء الدين مثلما على عالم سليمان؛ ال أحد يستطيع الهروب منه ،حتى شهرزاد ،التي هزمته طيلة مدة
زمنية بفضل قوتها السردية المقنعة.
يبحث عن النبي محمد :بال جدوى ،ما دام محمد لم يولد
مجهولة ،امرأة -طائر أو امرأة -سمكة ،تقيم في بلد عجيب
ومجهول هو اآلخر .وكيفما كان الدافع فإن الرحلة تستمر.
يعبر كل الجزر ،وكل البحار ،وكل القارات ،وكل الممالك؛ ألن جوهر البحث هو أن يكون ال محدودًا ،أن يتجاوز جبل قاف حيث ينتهي عالمنا ،والذهب إلى ما وراءه ،بين األكوان
األربعين ،حيث كل واحد له لون مختلف ،وال أحد يعرف آدم أو حواء ،النهار أو الليل.
الفصل مترجم عن كتاب:
Pietro Citati ; La voix de Schéhérazade, éd. Fata Morgana.
105
في إنسانيتها .وبالرغم من كونه يملك كل الكتب ،وبكونه قرأها واطلع عليها بأمل أن يستوعبها ،فإنه فهم أن الحكمة ال
توجد بين األوراق .أين البحث عنها إذن؟ في حكاية شهيرة ًّ جدا ،لم ينل حسيب كريم الدين الحكمة إال عندما ضحّ ت ملكة األفاعي بنفسها من أجله ،فكان موتها بال ُّنسغ الموجود في جسدها هو هديتها له .في هذه اللحظة ،أصبح قلب حسيب هو «موطن الحكمة» .ليس حسيب شي ًئا آخر سوى الوجه اآلخر للسارد الخفي في «ألف ليلة وليلة» .وله ً أيضا تكشف ملكة
األفاعي ،صديقة سليمان ،أسرار الطبيعة الحية ،واألرض العجيبة ،والحيوانات الموجودة في السماء واألرض ،هذه هي
الحكمة التي ال تنطوي عليها كتب اإلنسان .غير أن ملكة األفاعي ليست في حاجة إلى التضحية من أجله؛ فكلما بدأ حكاية ما ّ يقدم السارد نفسه تضحية معينة ،أو يريد التضحية من أجلنا ،في اللحظة التي يلي فيها الفجر الليل ،وعجائبيته هي
ً تحديدا ذلك النسغ الذي يحوّل قلبنا إلى «مق ّر للحكمة».
تراث
سعاد الحكيم تستعيد الصوفية
سع ًيا إلى عالم أكثر انفتا ًحا
106
العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
خالد محمد عبده
باحث مصري
خصص ميشيل شودكي ِفتش -الذي أطلق علي بعد أن دخل اإلسالم من بوابة على نفسه اسم ّ التصوف وخصص جزءًا كبيرًا من كتاباته لدرس الشيخ األكبر ابن عربي -مقالاً علميًّا يتناول فيه جهود سعاد الحكيم في دراسة اللغة الصوفية. كان شودكي ِفتش قد نشر دراسته في عام 1984م في المجلد العشرين من «حولية العلوم اإلسالمية» التي تصدر في القاهرة باللغة الفرنسية ،بعنوان: «سعاد الحكيم في المعجم الصوفي» .وانطلقت خالدة سعيد من مقال شودكي ِفتش ل ُتعرِّف القرّاء بسعاد الحكيم المرأة والمشروع اإلبداعي ،في كتابها« :المرأة التحرر اإلبداع» ضمن سلسلة نشرتها دار الفنك الدار البيضاء 1991م ،بإشراف ً كاشفا فاطمة المرنيسي .جاء عمل خالدة سعيد عن حياة ونضال وتجربة عدد من الروائيات والشاعرات والفنانات والباحثات ممن تحدين الموانع ،وقدمن مساهمة قيمة من شأنها أن تساعد على احتالل المرأة مكانها الطبيعي في المجتمعات اإلنسانية .ونظرًا لالهتمام العربي الحالي بقضية النسوية والنسوية اإلسالمية بشكل خاص ،أعادت خالدة نشر دراساتها التي صدرت ً سابقا في دار الساقي ببيروت عام 2009م في كتاب بعنوان جديد يعبر عن اهتمامها بالكتابة النسائية، وهو« :في البدء كان المثنى». «المعجم الصوفي» الكتاب األكثر شهرة لسعاد الحكيم ،يعتمد عليه التعرف إلى وغربا في شرقا الباحثون ً ً ّ عالم ابن عربي ،وفي اكتشاف اللغة الصوفية الخاصة
سعاد الحكيم
ر ّكزت دراسة خالدة على استعراض جهود سعاد الحكيم في
عملها الموسوعي «المعجم الصوفي» وهو الكتاب األكثر شهرة ً شرقا وغربًا من بين أعمال الحكيم ،فقد اعتمد عليه الباحثون في التع ّرف إلى عالم ابن عربي ،وفي اكتشاف اللغة الصوفية الخاصة ،يستوي في ذلك الباحثون أو أهل الطرق الصوفية؛ إذ
نجد صدى واسعً ا للمعجم في عمل شيخ الطريقة الكسنزانية «موسوعة الكسنزان فيما اصطلح عليه أهل التصوف والعرفان» فما من مجلد من مجلدات الموسوعة العشرين إال ويعود لمواد
معجم سعاد الحكيم الذي اعتبره شودكي ِفتش أداة للبحث شامخة وثمينة ،ومرجعً ا ال غنى عنه؛ إذ يتوافر فيه التحليل المنهجي ٌ عمل في منتهى الصعوبة نظ ًرا الدقيق لمصطحات ابن عربي ،وهو
ّ ولتعقد هذه المادة ،ولألهمية التساع المادة التي توجّ ب سبرها
التي تحظى بها إذا أخذنا في االعتبار تأثير ابن عربي في الصوفية
الذين جاؤوا من بعده.
عدَّت نايال طبّارة في كلمتها التي ألقيت في تكريم سعاد الحكيم َ مجمل في أنطلياس ،التي ُنشرت بعد ذلك في مجلة المقاصد أن نتاج الدكتورة سعاد الحكيم حتى اليوم ،يتمحو ُر حول اإلسالم في
بعديه األخالقي والصوفي ،وتحدثت في إيجاز حول مسارها العلمي
107
تراث
ْف َض َر َب َّ ً مستعينة بالمثل القرآني﴿ :أَ َلمْ َت َر َكي َ الل ُه م ََثلاً َك ِلم ًَة َط ِّيب ًَة ُ َ ين َك َشجَ َر ٍة َط ِّي َب ٍة أ ْص ُلهَا َثابِ ٌت و ََف ْر ُعهَا فِي َّ السمَاء * ُت ْؤتِي أ ُك َلهَا ُك َّل حِ ٍ
مقالة مطوّلة ُنشرت في الكتاب التذكاري عن ابن عربي قصته مع ً مغلقا حتى ّ مكنه أستاذه درس الشيخ األكبر ،وكيف كان هذا العالم
أو ٍّ نص َك َتبَتهُ ،سواء كان في الفلسفة أو التصوف أو الفكر اإلسالمي،
قليلة مصطفى لبيب عبدالغني ،بعد أن ع ّرف في المجالت والدوريات
بِإِ ْذ ِن َر ِّبهَا﴾ (إبراهيم )25-24فتحدثت عن أصول الحكيم جغرافيًّا ودينيًّا ،مشددة على ّ اختيار ِّ مقال كل كلم ٍة في أي دقتها العلمية في ِ ٍ
ومن يقترب من عالم سعاد الحكيم يرى ذلك جليًّا وبوضوح. رحلة مع النص «األكبري»
العربية بجهود عفيفي في درس التصوف اإلسالمي وع ّده من روّاد
الثورة الروحية في اإلسالم في العصر الحديث .من أين استقى محيي الدين بن عربي فلسفته الصوفية؟ وما مكوّناته الفكرية؟ وكيف ّ تمكن
كيف نقرأ ابن عربي اليوم؟ وماذا قدّمت سعاد الحكيم في
من كتابة هذه األسفار العظيمة في التصوف؟ وما أثره في التصوف اً مجال لبحث دائم المشرقي والمغربي والفارسي؟ كانت هذه األسئلة
نحاول مقاربة ذلك في إطار حديثنا عن جهود الحكيم ،الذي نرى أن ابن عربي ّ يمثل جزءًا كبي ًرا في مشروعها العلمي لكن ال يمكن اختزال
لكن التحقيق األبرز لنصوص ابن عربي كان من نصيب عثمان
مشروع القراءة الممتد على طول رحلتها مع ّ النص األكبري؟ ال تزعم بشكل واف ،إنما هذه المقالة المختصرة اإلجابة عن هذين السؤالين ٍ
جهدها في هذا الموضوع وحده ،وعدم الحديث عن بقية مشروعها العلميُ .ق ّدمت مع بدايات القرن الفائت قراءات كثيرة البن عربي ال يمكن إغفالها ونحن نتحدث عن جهود الحكيم ،كان من أشهرها
في مصر قراءة أبي العال عفيفي الذي تتلمذ لنيكلسون ،وروى في
108
المستشرق من مفاتيح قراءة النصوص الصوفيةّ ، ظل الكتاب األبرز اً مجهول عند القارئ العربي حتى نقله إلى العربية قبل أعوام لعفيفي
ترى الحكيم أننا اليوم في حاجة ماسة الستعادة العلوم الصوفية لما تحويه خزائنها من تسامح وقبول اآلخر ،وانفتاح على الكون الكبير ،وعلى التاريخ الجاري من األزل إلى األبد
عند عفيفي ظهر على أثرها عدة بحوث ودراسات وتحقيقات.
يحيى الذي دخل عالم الشيخ األكبر –بحسب الحكيم -لمناسبة إنسانية بين الرجلين ،أي لموافقة إنسان ابن عربي إلنسانه .ع ّد
عثمانُ يحيى ابنَ عربي ترجمان الروحانية المحمدية والناطق بلسان
ميتافيزيقا اإلسالم ،وحاول فهم ّ نصه من خالل ما كتبه هو وإن قرأه ً أحيانا على ضوء النظريات والتعاليم الشيعية واإلسماعيلية .تختلف
القراءات الغربية البن عربي عن القراءات العربية في كونها تحاول تقديمه كوجه من وجوه اإلسالم الحضاري الذي يحمل رؤية للكون
والحياة واإلنسان تجعله يندمج في المشروع العالمي ،كمحاولة
لتع ُّرف اإلسالم من خالل بوابة التصوف ،وفي هذا السياق يمكن أن نذكر أسماء كثيرة أخلصت لهذه الفكرة ،منها :سيد حسين نصر،
ووليم تشيتك وشودكي ِفتش ،وكلود عدّاس ،وميشال فالسان.
المميز في سعاد الحكيم رغم مشاركتها في المؤتمرات الغربية بورقات بحثية عن ابن عربي أنها ليست مشغولة بالعالم الغربي بل
باآلخر المسلم ،هي ال تطلب من قارئها أن يؤمن بأفكار ابن عربي، وليست مشغولة بالدفاع عنه كما فعل العلماء األقدمون ،بل ينطق
كثير من أعمالها حوله أن ابن عربي ال يخالف أصول العقيدة وأنه ّ يشكل وجهًا من وجوه اإلسالم ال يمكن إلغاؤه؛ ألننا بذلك نصبح ٌ عمل حواري في المقام األول: ناقصين ،وتصف الحكيم عملها بأنه
حوار مع اآلخر المسلم ..حوار مع اآلخر اإلنسان. الحاجة إلى استعادة العلوم الصوفية
ترى الحكيم أننا اليوم في حاجة ماسة الستعادة العلوم
الصوفية؛ لما تحويه خزائنها من تسامح ،وقبول اآلخر ،وانفتاح
على الكون الكبير وعلى التاريخ الجاري من األزل إلى األبد .فمنذ أكثر
من مئتي عام ،حين بدأت النهضة العربية في القرن التاسع عشر، أقصى جملة مفكريها العلوم الصوفية من المشاركة في اإلصالح ،بل عدوا التصوف ً عائقا أمام التقدم وحاض ًنا للتخلف والتخاذل ،فجاءت
الصحوة اإلسالمية في القرن العشرين أحادية النزعة ،وحيث إنّ اآلفة
الحتمية لكل أحادية إنسانية هي التطرف والغلو واالمتالء بالذات
العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
انفتاحا سعيا إلى عالم أكثر سعاد الحكيم تستعيد الصوفية ً ً
فاطمة المرنيسي
خالدة سعيد
وإقصاء اآلخر ..شهدنا ما حدث في العالم المعاصر .ومن هنا حاولت
متحررة في اعتقادها بالله من الوسائط –كما يشير ابن عربي -جعل الحكيم ُت ِّ خصص دراسة واسعة لهذه الشخصية بعنوان« :تجليات
أن تعيد تقديم التصوف برؤية ولغة تناسب العصر الراهن ،فأعادت
كتابة موسوعة إحياء علوم الدين لتناسب القرن العشرين ،ووصل عملها هذا الذي ُطبع عدة مرات إلى الجماهير المسلمة ً شرقا وغربًا،
وكما فعلت مع نصوص َ الغ َّزالي كان اهتمامها برسائل الجُ َنيْد شيخ
الطائفة –بحسب تعبير ابن تيمية -فحققت أعماله ودققت في أقواله ّ ووثقتها ،وجاءت نشرتها بشكل ال يختلف عن المعجم الصوفي في
ترتيبه وتنسيقه ،فتبدأ أقوال الجُ َنيْد في الكتاب من األلف إلى الياء،
وتعود إلى عشرات المصادر لتوثق الكلمة المنسوبة إليه ،ثم تراجع المطبوع والمخطوط وكل ما له صلة بالجُ َنيْد حتى تظهر صورة هذا العَ َل ِم الكبير الذي هُ ضم حقه في الكتابات العربية .فتخرج للقارئ ثمرة تجتمع فيها أقواله وكتبه وأدعيته وعظاته. المرأة في التصوف
ملكة في القرآن الكريم» فإضافة إلى القراءة العقائدية قرأت فعلها
في التاريخ قراءة سياسية ،فقد حافظت هذه الملكة القرآنية في عالقتها بسليمان على موقعها كأولى في شعبها فلم َت ْن َق ْد لسليمان بل أعلنت أنها معه ،شأن ما يسمى اليوم باالتحادات السياسية، فتكون كل دولة من دول االتحاد صاحبة كيان منفرد ويشترك الجميع في نظم عامة ،ويشكلون معً ا وحدة اجتماعية وبشرية. ُ درس بدأت الدراسات االستشراقية المرأة في التصوف موضوع ٍ منذ وقت مبكر االهتمام به ،ولعل أبرز الدراسات عنه ما كتبته
مارغريت سميث التي قدّمت رابعة العدوية وأخواتها ،ال نعرف كثي ًرا
ّ النص الذي حققته سعاد الحكيم عن النسوة الصوفية؛ لذا فإن مع بكري عالء الدين ُ ونشر بالمعهد الفرنسي تحت عنوان« :شرح
وإذا روى ابن الجوزي كثي ًرا من حكايات العُ بّاد والزهاد ،فإن
المشاهد القدسية لتكميل دائرة الختم الموصوف بالوالية المحمدية» ً تأليفا وشرحً ا ومناقشة ،وينقلها يكشف عن دور المرأة في التصوف
لذلك ُتخصص سعاد الحكيم جزءًا من اهتمامها البحثي للكتابة
ً ّ دراسة له في كتابها «المرأة نص صوفي وفلسفي خصصت الحكيمُ ّ
نصيب النسوة في هذه الحكايات قليل ما يُلتفت إليه ،فال نظفر بكتابات عربية تر ّكز على قراءة هذه الحكايات ودراساتها إال نادرًا؛
عن نساء في حياة ذي النون المصري ،ونساء في حياة ابن عربي. ويظهر عملها الصادر مؤخ ًرا اهتمامها بالمرأة الصوفية ،ورؤية ُ القارئ لزيارة حدائق أعالم التصوف للمرأة ،فقبل أن يسافر معها الصوفية ُتح ِّدثنا عن حضور التصوف وأثره في حياتها ،فنقرأ عن المرأة الراعية في العلم وتهدينا «باقة ورود صوفية» ّ بنصها
المكتوب عن ابن عربي في حياتها. نقرأ كثي ًرا عن بلقيس الملكة والمرأة التي حُ ّفت سيرتها وشخصيتها بكثير من المرويات واألساطير ،لكن كتابة الحكيم عن
هذه المرأة تختلف عما اعتدنا مطالعته في استكناه أغوار شخصيات التراث ،فااللتفاتة إلى إسالم بلقيس مع سليمان واعتبارها ّ ظلت
من كونها موضو ًعا إلى كونها مساهمة ومشاركة للرجل في هذا ً كاشفا عن مشاركة حقيقية في مناقشة الميدان ،وألن هذا الكتاب كان والتصوف والحياة» أبرزت فيها ثقافة الست عجم اإلسالمية والصوفية
والفلسفية ،وكشفت عن إبداعها الذي يختلف كثي ًرا عن النصوص
الصوفية المناقبية والعجائبية. وبما أن التصوّف هو ُخ ٌ لق فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك سنوات طوال تعمل الحكيم على اإلعداد في الدين والتصوف؛ فمنذ ٍ واإلشراف على موسوعة علمية تؤسس لعلم مكارم األخالق في
اإلسالم مع فريق من األساتذة واألكاديميين المختصين ،قناعة منها أنه ال يزال لدى المسلمين ثروة من القيم األخالقية اإلنسانية
التي تنفع الناس اليوم –مسلمين وغير مسلمين -وقد أوشكت هذه الموسوعة على الصدور ،ونأمل أن تحقق أهدافها.
109
مخطوطات
110
در التتويج بتعريب مؤامرات الزيج مخطوطّ :
المؤلف :الفلكي حسن بن محمد المعروف بقاضي حسن (كان حيا سنة 1014هـ).
العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
111
نسخة اشتملت على رسوم فلكيّة هندسيّة دقيقة مع كتابة الرموز باألحمر واألزرق.
من مقتنيات مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية.
ثقافات
التسامح في النزاع
112
فضيلة تدعو إليها األخالق أم موقف متعجرف؟
العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
راينر فورست
فيلسوف ألماني -من الجيل الثالث لمدرسة فرانكفورت
ترجمه عن األلمانية :رشيد بوطيب
كاتب مغربي
يملك عنوان كتاب« :التسامح في النزاع» معنى رباعيًّا .أولاً :إن مفهوم التسامح يرتبط صميميًّا بالنزاع؛ ألنه سلوك أو ممارسة ،ال يصبح ضرور ًّيا إال عند اندالع نزاع ما .لكن ما تجدر اإلشارة إليه ً خصوصا في هذا السياق ،هو أن التسامح الذي يستوجبه النزاع ،ال يحل هذا النزاع ،بل يعمل فقط على تسييجه والتخفيف من حدته ،أما تناقض القناعات والمصالح والممارسات فيظل قائمً ا ،لكنه يفقد، نزولاً عند اعتبارات معينة ،طاقته التدميرية .ويعني «التسامح في النزاع» أن الفرقاء في نزاع ما ،ينتهون إلى اتخاذ موقف متسامح؛ ألنهم يرون أن أسباب الرفض المتبادل تقف حيالها أسباب أخرى للقبول المتبادل ،حتى إن كانت أسباب القبول المتبادل ال تسمح بتجاوز أسباب الرفض ،لكنها تتحدث لصالح التسامح ،بل تطالب به .إن وعد التسامح يقول بإمكانية التعايش في ظل االختالف. ً وانطالقا من هذه الخلفية تطرح سلسلة من األسئلة نفسها،
يجب اإلجابة عنها في هذا البحث :ما طبيعة النزاعات التي تستوجب
التسامح أو تسمح به؟ ما موضوعات التسامح؟ ما طبيعة أسباب رفض المتسامح معهم ،وكيف يمكن أن نفهم أسباب القبول بهم
التي تقف ضدها؟ وأين تقع الحدود الخاصة بالتسامح؟
كان االنشغال بمفهوم التسامح وال يزال أم ًرا ضروريًّا بالنسبة
ُرض الالتسامح الذي يبدو الظاهرة األصلية ،التي تتطلب رد فعل م ٍ ومتوازن وأخالقي. ويعني «التسامح في النزاع» ثانيًا ،أن مطلب التسامح ال يمكن أن يتحقق فيما وراء الصراعات التي يعرفها مجتمع ما ،بل ي َ ُولد في
ً مرتبطا بالظروف رحمها ،بشكل يجعل الشكل الواقعي للتسامح
لفلسفة تطمح إلى فهم الواقع االجتماعي ،فالنزاعات ،التي تبدو
التي تحيط به .إن التسامح يوجد داخل النزاع ،إنه تحزب ،حتى لو وجب أن تقوم بنية التسامحً ، وفقا ألسسها المعيارية ،ضد كل
شأنها في ذلك شأن الرغبة في عدم وجودها .حتى هناك ،حيث
أن التسامح يطلب تحقيق التوازن ،لكنه ال يعني «الحياد» .بل هو
مستعصية على الحل ،تنتمي ،ال غرو ،إلى الحياة البشرية، لم يكن مفهوم التسامح قد أخذ شكله المعاصر ،الذي تشكل
بعد اإلصالح الديني ،كانت اإلشكالية معروفة ،ولنتذكر في هذا السياق هيرودوت ووصفه لتعدد الثقافات .فالتسامح موضوع
عرفته اإلنسانية جمعاء ،وال يمكن اختزاله في حقبة معينة أو ثقافة محددة .فمنذ ظهور الدين مثلاً ومشكلة أتباع األديان األخرى وأهل
البدع وغير المؤمنين قائمة .وعمومًا ،فحيثما تكونت لدى البشر
قناعات قيمية ،تأتي المواجهة مع اآلخرين لتمثل تح ِّديًا لها .تح ٍّد ال
يمكن اإلجابة عنه انطالقا من تلك القيم المشكوك فيها .لكن ،حتى يؤدي هذا التحدي إلى تشكل موقف متسامح ،يشترط القيام بعمل
معقد على القناعات الشخصية .إذن ،منذ زمن والكفاح قائم ضد ما ً انطالقا من مرحلة زمنية محددة بـ«الالتسامح» .هذا يصطلح عليه
مطلوبا فقط في ظل التسامح ليس ً صراعات محددة ،وال يمثل فقط في النزاعات االجتماعية دعوة خاصة إلى أطراف الصراع ،بل إنه في حد ذاته موضوع لتلك النزاعات
شكل من أشكال التحزب ألجل أن يتحقق تسامح متبادل .ورغم
دعوة عملية إلى أطراف الصراع ،بشكل مختلف جدًّا ،مرة إلى النأي
بأنفسهم عن التحيز ،ومرة كمحاولة للحفاظ على عالقات القوى القائمة عبر ضمان للحرية .وهكذا فإن تاريخ التسامح وحاضره ،كما
سيظهر لنا ذلك ،هو دائمًا تاريخ الصراعات االجتماعية وحاضرها.
إن مفهوم التسامح متجذر في هذا التاريخ ،وكي نفهمه في كل تعقيده ،يجب علينا استعادة هذا التاريخ .وبذلك يرتبط المعنى
الثالث لعنوان الكتاب. التسامح إهانة
إن التسامح ليس مطلوبًا فقط في ظل صراعات محددة ،وال
يمثل فقط في النزاعات االجتماعية دعوة خاصة إلى أطراف الصراع، بل إنه في حد ذاته موضوع لتلك النزاعات .وفي تاريخ المفهوم
كما في حاضره ،ال يظل معنى التسامح ضبابيًّا فقط ،بل موضع خالف بشكل عميق .إذ قد ي َ ُنظر مثلاً إلى السياسة نفسها أو السلوك
من جانب معين كتعبير عن التسامح ،ومن جانب آخر كفعل
غير متسامح .بل األفدح من هذا وذاك ،يتمثل في النزاع حول ما إذا كان التسامح عمومًا أم ًرا خ ّي ًرا .ففي الوقت الذي يع ّد بعض
التسامح فضيلة يدعو إليها الرب أو األخالق أو العقل أو على األقل
113
ثقافات
الفطنة ،يرى آخرون أن التسامح موقف متعجرف وأبوي وقمعي بالقوة .ويرى بعض آخر أن التسامح تعبير عن اليقين الذاتي وقوة
الشخصية ،ولبعض آخر موقف ،مصدره عدم الشعور باألمان ،وهو ِّ ويمثل لبعض تعبي ًرا عن احترامهم لآلخرين أو اإلذعان والضعف، ً موقفا ينمّ عن تقديرهم لألجنبي ،في حين يُعَ ّد التسامح آلخرين
الالمباالة والجهل واالنغالق على الذات .وال نعدم أمثلة عن مثل هذه
في الوقت الذي يعد بعض التسامح فضيلة يدعو إليها الرب أو األخالق أو العقل ،يرى آخرون أن التسامح موقف متعجرف وأبوي وقمعي بالقوة
اآلراء المتناقضة ،فلنتذكر فولتير أو ليسينغ ومديحهما للتسامح ّ الحقة والثقافة السامية ،في حين تحدث كانط عن كرمز لإلنسانية «االسم المتعجرف للتسامح» في حين نصادف عند غوته في النهاية
الجملة األكثر شهرة في سياق النقد الموجه للتسامح« :يجب على ً موقفا مؤق ًتا فقط :عليه أن يقود إلى االعتراف. التسامح أن يكون فالتسامح إهانة».
ويقول المعنى الرابع أخي ًرا إن االختالفات المتعلقة باستعمال
وتقييم مفهوم التسامح ،تعود إلى التصورات المختلفة التي نشأت عبر التاريخ ،وفي صراع بعضها مع بعض ،حول هذا المفهوم.
وهكذا يوجد داخل مفهوم التسامح صراع ،سوف أستعرضه تحت المفاهيم العامة «للسلطة» و«األخالق» ،بل أكثر من ذلك ،ليس هناك فقط تصورات مختلفة عن التسامح ،بل ً أيضا سلسلة غنية من األسس المختلفة للتسامح؛ دينية ،وسياسية ـ براغماتية،
114
ومعرفية ،وأخالقية ،حتى تلك المتعلقة بعلم الواجبات .وهذه األسس ،ولِمَ ال ،تقف هي األخرى في صراع بعضها مع بعض .وفيما
كتاب« :التسامح في النزاع» لـ«راينر فورست»
يلي عرض نسقي لهذه التصورات واألسس وللسؤال عن األقرب منها
الوعي بالتعقيد الذي يطبع تاريخ التسامح كفيل وحده بأن يعمق
في الصراع» منطلق التحليل الفلسفي الذي سأقوم به لهذا المفهوم.
الممكن فقط ،بل من الضروري مراجعة القراءات األحادية البعد لهذا التاريخ واألحكام واألحكام المُسبَقة حول التسامح ،مثلاً حول
إلى الصواب .تشكل هذه المعاني األربعة لعنوان كتاب «التسامح إن حاضرنا مطبوع وإلى حد كبير بالصراعات ،ويبدو أن التسامح
وحده قمين بتحقيق مخرج منها .وليس فقط داخل المجتمعات التي تتميز بتعدد األديان وأشكال الحياة الثقافية والجماعات
المختلفة ،يطرح مشكل التسامح ،وبشكل متنوع ،نفسه .والحروب
األهلية ،التي يعرف أطراف النزاع أنفسهم فيها بشكل إثني أو ديني تؤكد هذا األمر بشكل كبير ،لكن حتى داخل المجتمعات المنظمة
بشكل ديمقراطي نقف على نزاعات عميقة حول قضية أين يجب أن يبدأ التسامح وأين ينتهي .وعلى المستوى الدولي نشهد دعوة إلى التسامح؛ بسبب الصراعات المتعددة وإكراهات الفعل المشتركة،
ضد سيناريو صراع الحضارات .وبالنظر إلى هذه الوضعية تعالت
الدعوة إلى التسامح سواء من جانب أحادي أو من جوانب متعددة، وأضحت عملية توضيح هذا المفهوم أم ًرا ملحًّ ا ،سواء فيما يتعلق بمعنى هذا المفهوم أو بطريقة تقييمه.
الوعي بالتعقيد الذي يطبع حاضره .وفي هذا السياق ليس من
التسامح لدى المسيحيين أو الحركة اإلنسانوية أو لدى المذهب
الشكي ،وفي ظل الدول الحرة والليبرالية واألنوار .وسيظهر للعيان غنى الحجج التي قام عليها التسامح ،وفي أي سياقات نشأت هذه
الحجج وأية قوة نسقية ،متجاوزة للسياق الذي نشأت فيه ،تتمتع بها .وأخي ًرا يجب أن تكون هذه النظرة إلى التاريخ نظرة جينالوجية،
تظهر كيف أنه في «تاريخ الحاضر» كان وال يزال للتسامح عالقة
ملتبسة مع السلطة.
ويجب على هذا البحث النظر ثانيًا في األبعاد الحاسمة التي
تميز المفهوم وبخاصة المعيارية منها واإلبستمولوجية .والهدف ً انطالقا مما يمكن العثور عليه في من ذلك بناء نظرية للتسامح
التعددية من مسوغات له ،من أجل تج ّنب مآزق المحاوالت البديلة. وبنا ًء عليه ً وضح بهذه الطريقة ،في ثالثا ،أن يضع المفهوم ،وقد أُ ِ
وتظهر هذه األفكار األولية أن تحليلاً شاملاً لهذا المفهوم
سياق نزاعات الحاضر السياسية وفحص مضمونه بشكل ملموس، مما يتطلب اّأل نسأل فقط عما يجعل الشخص متسامحً ا ،بل
الصراع حوله ومضامينه في السياق التاريخي الذي ظهرت فيه .إذ
هذا البحث على عاتقه ،وهذا يتطلب إبداء مالحظة محددة ،وهي
يستدعي أخذ ثالثة عناصر جوهرية بعين االعتبار .يجب على هذا التحليل اً أول أن يتأكد من تاريخ المفهوم من أجل معرفة أوجه
العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
أيضا عما يصنع المجتمع المتسامح .إنها المهمة التي يحملها
التسامح في النزاع ..فضيلة تدعو إليها األخالق أم موقف متعجرف؟
أنه ال يمكن في هذا السياق إنجاز بحث «شامل» ًّ حقا ،بمقدوره استعادة ،وضمن المنظور التاريخي ً أيضا ،طاقات التسامح الكامنة
في جميع األديان .وألن فكرة نهائية العقل البشري تلعب دورًا مهمًّا في استداللي ،فإنه من المرغوب فيه أن يكون المرء على وعي بها في هذا المكان ً أيضا. تصور مركب ومعياري
وبالنظر إلى ذلك ،سيتمحور األمر فيما يلي حول فهم نسقين
ومناقشتهما ،ينطلقان من السياق المعين لألدلة ،التي طورها اً وصول إلى صياغة الخطاب األوربي لصالح التسامح منذ الرواقيين، اقتراح نسقي خاص ،يستند إلى هذه الخلفية ،يجب أن يتمكن
جميعها ،يبقى الطريق مفتوحً ا إلى تصور مركب ومعياري للتسامح.
ومع ذلك ،ال يسد بحث من هذا النمط وبهذا المعنى وحده ثغرة قائمة في أدبيات التسامح ،بل هو حاجة منهجية ً أيضا ،ما دامت معالجة التسامح تنقسم عادة إلى مجاالت خاصة بما هو تاريخي، معياري (غالبًا دون اإلبستمولوجيا والبعد النفسي) ،أو «اإلثيقا التطبيقية» (أو السياسية التطبيقية والنظرية الحقوقية) .وقد حاولت التأليف بين هذه المنظورات.
قد يكون أم ًرا مفيدًا أن أعرج باختصار في هذا الموضع على
األفكار األساسية الواردة في جزأي الكتاب .لكنني ،وبالنظر إلى وفرة طرائق فهم التسامح وتقويمه في التاريخ والحاضر ،سأبدأ بمعارضة الشبهة التي تفرض نفسها ،وهي أننا لن ننشغل بمفهوم
من إثبات صالحيته في سياقات أخرى .تعكس األدبيات المتنوعة َ الغموض ،الذي يعود إلى الصراع والواسعة حول هذه المسأل ِة ذلك
لي القول ،من الضروري االنطالق من مفهوم (أو تصور) واحد
لذلك ثمة أسباب جيدة لع ِّده «مفهومًا من الصعب اإلمساك به
منها .وترتبط هذه التصورات بمسوغات مختلفة للتسامح ،علما
التحليلي والمعياري ،الذي سبق ذكره ،ويميز مفهوم التسامح؛
فلسفيًّا» .وإنني ألتحدث عن مفهوم «مختلف عليه» ،لكنني أعتقد ً أيضا أن أسباب هذا الشجار يمكن تفسيرها تاريخيًّا ونسقيًّا .ففيما وراء االختيار بين دفاع أحادي البعد عن فهم معين للتسامح،
واحد للتسامح ،بل بعدد كبير من مفاهيمه .في رأيي ،وكما سبق للتسامح ،وكذلك من تنوع رؤاه (أو تصوراته) – التي أميز بين أربع بأنه ليس لكل تصور مسوغ واحد وحسب .إن تطوير نسق خاص بمسوغات التسامح هو هدف الجزء األول من هذا البحث.
يتعامى عن الصور التكوينية األخرى والمجردة لهذه المعاني
النظر بأعين متسامحة إلى الذات والعالم أخي ًرا ،سيكون علينا التساؤل عن طبيعة العالقة الذاتية ،وأي صفات وقدرات انفعالية تسم الشخص المتسامح .وسيظهر أن
فضيلة التسامح ال تقول بوجود مثال شخصي أخالقي معين ،وإن كانت بعض القناعات «الثابتة» تستطيع أن تنتمي إليها ،وقدرة
معينة على التنصل من الذات ،ليكون باإلمكان التسامح معها .سأقدم في الفصل األخير من هذه الدراسة شرحً ا سياسيًّا – عمليًّا للتصور
المقترح ،يبيِّن أنه ليس فقط من الضروري أن ينتمي إليه تصور حول الديمقراطية ،يضفي ماهية سياسية على مبدأ التسويغ ،بل إن
ثمة ،وفق أرضية المحاولة المقترحة ،إمكانية لبلورة نظرية نقدية للتسامح ،ال تستطيع تقديم تحليل نقدي ألشكال التسامح وحده، ً إنما بوسعها ً انطالقا من هذه الخلفية ،سيُطرَح السؤال عن «المجتمع المتسامح»، أيضا نقد أشكال التسامح القمعية والضبطية. وسي َ ُناقش بمعونة أمثلة ،على أن ُتختار صراعات من دول مختلفة ،تتصل بمكانة أقليات دينية وثقافية ـ إثنية ،وبمسائل التسامح
مع عالقات داخل الجنس الواحد ،والعالقة مع مجموعات سياسية متطرفة .سيتضح بجالء في هذه التحليالت أن مفهوم التسامح ً مختلفا عليه من قبل ،ذلك أن ما نوقش هنا ال يقتصر على حدود التسامح ،إنما يشمل بصورة مختلف عليه في الحاضر ،مثلما كان عامة فهمه وتسويغه ً أيضا.
هذه مقالة في التسامح .لكن تعقيد مفهومه يجعلها شي ًئا يتخطى ذلك ً أيضا .إنها تعالج في آن واحد الدينامية المعقدة بين
السلطة واألخالق ،والعالقة بين الدين واإلثيقا ،وبين القدرة وحدود العقل العملي فيما يتصل بالصراعات اإلثيقية العميقة الغور، مستقل عن التقويمات المتنازع عليها (إن لم يكن منفصلاً ّ متعال على هذا الشجار، وأخيرًا بين حتمية وضرورة وجود تصور لألخالق ٍ عنها بصورة تامة) .ربما تكون العبرة المركزية ،التي يجب استخالصها من االشتغال بهذه القضية ،هي التالية :إن النظر بأعين متسامحة إلى الذات والعالم يعني القدرة على التمييز بين ما يستطيع البشر طلبه أخالقيًّا بعضهم من بعض ،وما ربما يكون أكثر أهمية بكثير بالنسبة لهم ،أال وهو أفكارهم حول ما يجعل الحياة خيرة وتستحق أن تعاش .هذا يعني أن علينا رؤية الشجار الذي ال نهاية له، المتصل بالنقطة األخيرة ،ويجب ألاّ يمس صالحية األخالق أو حقيقة القناعات الخاصة أو اندماج المجتمع .هذه النظرة هي منجز
العقل ،الذي يمثلها مفهوم التسامح ،وهي تعني ،إذا ما تحدثنا بلغة فلسفية مجردة ،فهم هوية البشر واختالفها بصورة صحيحة.
115
ثقافات
ترسخت في ذاكرة مف ّكريه ثقافته ّ وكتّابه ومبدعيه
«ربيع الغرب» وتحوالته ّ
116
العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
أحمد فرحات
كاتب لبناني
ليس للعرب وحدهم «ربيعهم» الدامي شبه المتمادي اليوم ،بل للغرب المتقدم ً أيضا .غير أن «ربيع ً الغرب» وإن ترجم نفسه في الساحات والميادين على نحو أقل ً وسخطا واعتقالاً تعسفيًّا ومدى عنفا ودمً ا َسخت أكثر في ذاكرة ّ مفكري هذا الغرب وأدبائه وشعرائه وف ّنانيه، زمانيًّا ومكانيًّا ،إالّ أنّ ثقافة هذا «الربيع» ر َ
وبخاصة في الواليات المتحدة األميركية وبعض الدول األوربية ،ممن تأثر في البداية «بالثورات العربية»،
ونقل تأثره إلى نيويورك ،حيث اشتعلت هناك االحتجاجات الصاخبة منذرة ،من خالل حركة «احتلوا وول ستريت» (عصب المركز المالي األميركي) ،باألسوأ على الصعيد األميركي ،ومنه على صعيد العالم بأسره، ّ ّ إذ تعاظمت االحتجاجات تتقدمها لتغطي ما تعداده 1564مدينة حول العالم ،من بينها 103مدن أميركية، واشنطن بوصفها عاصمة سياسية ونيويورك بوصفها عاصمة للمال واالقتصاد .كان ذلك بدءً ا من 15أكتوبر
2011م ،حيث انتشرت ظاهرة االعتصامات والتخييم ليل نهار في الساحات المركزية وبعض الحدائق العامة مثل متنزه «زوكوني» الشهير في مانهاتن قبل أن تستأصلها الشرطة عن بكرة أبيها. المجرّة المتغيّرة العناصر
قبل أن نتط ّرق إلى أبرز الخطابات الفكرية واألدبية والفنية ً خصوصا في الواليات التي ن ّتجها حراك «الربيع الغربي»، المتحدة وبعض دول االتحاد األوربي ،ال بدّ لنا وبإيجاز من سرد
ثـم إن «الساخطين» مـا لبثوا أن ألهمـوا بدورهم «احتالالت» كثيرة أُخرى .وسرعان مـا امتدت حركتهم لتشمل مجمل
إسـبانيا والبرتغال؛ ثـمّ لتجـد صدً ى لها في اليونان ،إذ جاءت تع ّزز وتكمّل التعبئات النقابية .وهكذا فإن «احتالل» سـاحة
هذي الوقائع التاريخية لمزيد من التضوئة على الموضوع .افتتح
«سينتاغما» في قلب أثينـا ،كان يش ِـرك النقابات واألفـراد القريبين
واسعة من التعبئات واالسـتنفارات .كان المتوقع لمثل هذه
وفي الخـريف كانت الحـركة تمتـد وتتجدّ د في الوقت عينه ،مع
الحراكان الشعبيان ،التونسي والمصري في عام 2011م ،موجة «االنتفاضات الثورية» أن تنتشر ،وإنْ بوتائر مختلفة ،في بلدان
المشرق والمغرب العربيين؛ غير أن كثي ًرا منها أفضى إلى حروب أهلية دمويّة ،كما حدث في سوريا وليبيا ،اً مثال ال حص ًرا ،ومن ثمّ صار له وظيفة تحريضيّة على مستوى القارات .في السنغال اإلفريقية ،مثلاً ،سـ ّرعت حركة «طفح الكيل» بسقوط نظام عبـدالله واد .بعد ذلك بأسابيع ،وتحديدً ا في منتصف شـهر مـايو
من دوائر «الساخطين» ،في مجابهة غالبًا ما تكون متوترة.
احتالل متنزه «زوكوتي» في جنوب مانهاتن األميركية ،وهـو «االحتالل» الذي حظي بتغطية إعالمية واسعة .كانت الحركة
تمتـدّ عبر حركة «احتلوا وول سـتريت» بدءً ا من 17سبتمبر 2011م، ومنها إلى العالم األنغلو -ساكسوني بشكل مر ّكز .وهكـذا فإن عدد مخيمات «االحتالل» في خريف عام 2011م ،كان يصل إلى ً مختلفا .غير أن بضع مئات ،مو ّزع ٍة على أكثر من ثمانين بلـدً ا
آالف من اإلسبان ضد سياسة «شدّ الحزام»، 2011م ،تظاهر بضعة ٍ
عمر الواحد من الغالبية العظمى من هذه التخييمات ،لم يطل
بالدهم ،وق ّرروا المـرابطة في إحدى سـاحات مدريد الرئيسة:
2011م ،طـرد البوليس آالف األشـخاص الذين كانوا يخيّمون على
كما سمّ تها صحيفة «إلباييس» اإلسبانية التي اعتمدتها حكومة
«البويرتا دل سول» .كان هؤالء اآلالف يسـتلهمون مباشرة تجـربة «ميدان التحـرير» في القاهرة ،أي االحتالل المدني ،ليلاً ونهـارًا، لحـي ٍِّز عمومي ،كتعبير عن التصميم الجماعي على الخالص من
سياسات غير عادلة.
ممي ًزا في تاريخ سيظل عام 2011م عامـًا ّ ّ الصراعات االجتمـاعية :من تونس إلى
ـرورا بإسـبانيا والبرتغال الواليات المتحدة ،م ً واليونان ،وكذلك آيسـلندا والتشيلي
أكثر من بضعة أسابيع .وفي ليلة باردة من ليالي أواسط نوفمبر بضع خطوات من بورصة نيويورك .أما الساخطون فإنهم ،من
جهتهم ،كانوا قـد ق ّرروا وقف مخيّماتهم منـذ شهر يونيو .وهكذا فإن ّ قل ًة من «االحتالالت» اسـتطاعت أن تتواصل إلى ما بعد عام
2011م ،باستثناءٍ «احتالل» واحد مرموق ،هـو الذي شهدته مدينة هونغ كونغ الكبرى واستمر متواصلاً حتى أغسطس من عام
2012م .غـير أن نهـاية «االحتالالت» لم تكن تعني نهاية الدينامية الفكرية والسياسية عمومً ا التي َّ ولدتها سلسلة تلك الحراكات.
فلقـد واصلت هذه االنتفاضات التمرديّة توسّ ـعها عبـر العالم،
لتندلع في كيبيك (كندا) ،وفي تركيـا ،وفي البوسنة ،وتجد
تعبئات ذات شكل مختلف في التشيلي، كذلك صداها يتردّد في ٍ
117
ثقافات
أو حتى في البرازيل .ثم إن «حراك هونغ كونغ» ،اسـتؤنف على
نعوم تشومسكي وتعاليمه ّ المفكرين والفالسفة األميركيين البارزين الذين آزروا أول لاً حراك «الربيع األميركي» ،ممث بحركة «احتلوا وول ستريت»،
في اليونان ،وبوليموس في إسـبانيا ،سيضعان جملة الممارسات
أمر مشابه يمكن أن يخطر على بالي .وإذا أمكن تعزيز الروابط
نح ٍـو أوسع وأكثف في عام 2014م ،أي بعد ثالثة أعوام كاملة من
يوم انطالقة حركة «احتلوا وول ستريت» ،بحيث إنهـا ال تتجاوزه بيوم وال تستبقه بيوم .غير أن عام 2015م بدا ّ كأنه يسجّ ل تغ ّي ًرا مـا؛ ذلك أن االنتصارين االنتخابيين اللذين حققهما حـزبا سـيريزا
والمطالبات المنبثقة عن هـذه المجـ ّرة المتغايرة العناصر ،تحت
امتحان السلطة واختبار السلطان؛ وينبغي القول :إن قدرة هذه
الحركات على أن تزن بوزنها وتنيخ بثقلها على نح ٍـو مستديم، سياسيًّا واجتماعيًّا ،هـو أمـ ٌر يبعث على التساؤل واالستفهام.
كان نعوم تشومسكي (مواليد 1928م) الذي رأى أن حركة ّ تشكل تطورًا مثي ًرا جدًّ ا« ،إذ لم يسبق أن حدث «احتلوا»،
واالتحادات الناتجة عن هذه األحداث المميزة ،في سياق المدة الطويلة والقاسية أمامنا ،فسيتبيّن أنها لحظة تاريخية ًّ حقا،
وذات داللة بالغة في التاريخ األميركي» .وفيما يشبه النداء ّ الموشح بأسلوب أدبي ،نقرأ على غالف الكتاب الذي السياسي
صدر لتشومسكي في بيروت تحت عنوان« :احتلوا ..تأمالت
في الحرب الطبقية والتمرد والتضامن» (شركة المطبوعات الشرقية)« :استيقظوا َ وخ َرجوا إلى الشوارع ..سدّ وا الجسور
وأقفلوا المرافئ ..عسكروا في الريح والمطر والثلج ..وواجهوا الغازات المسيّلة للدموع ورذاذ الفلفل والقنابل الصاعقة واألصفاد والسجون» .وفي هذا الكتاب الذي نفدت ُن َس ُخه من المكتبات اللبنانية ،ويجري طبعه حاليًّا للمرة الثانية ،يجيب تشومسكي عن األسئلة الملحّ ة من خالل محادثات ومناقشات
مع أنصار حركة «احتلوا» :لماذا يحتج الناس؟ كيف يؤثر واحد في المئة من المواطنين في 99في المئة؟ كيف يمكن فصل
118
المال عن السلطة؟ ما حقيقة االنتخابات الديمقراطية؟ كيف تتحقق المساواة؟ ومن ينقذ أميركا من حيتان االحتكار؟ مقطع
القول ،يَعُ دّ تشومسكي «احتلوا» حركة عظيمة؛ لكونها امتدت
تشومسكي
نعوم تشومسكي كان أول المف ّكرين والفالسفة األميركيين الذين آزروا «الربيع األميركي» ممث بحركة وول لاً المنظر المنهجي آلليات ستريت ،وكان ّ
في العمق األميركي ،وحظيت بكثير من التعاطف مع أهدافها وغاياتها .وهي تحتل ،في الواقع ،مراتب عليا في استطالعات
الرأي؛ لكن عليها –في رأيه– «أن تصبح أكثر فأكثر جزءً ا من حياة الناس اليومية ،ال لشيء اّإل ألنها تحمل همومهم
وطموحاتهم المستقبلية في المزيد من العدالة والحقوق
المدنيّة على اختالفها».
حراكها على األرض
من مظاهرات هامبورغ خالل قمة العشرين األخيرة
العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
وتحوالته «ربيع الغرب» ّ
مايكل مور نجم حركة «احتلوا وول ستريت»
ويعتقد أن واحدً ا من اإلنجازات الحقيقية لحركة «احتلوا»،
هي في تنميتها لمظهر مجتمعي غيري ،إيثاري بامتياز .فالناس
المنخرطون في الحراك ،ال يقومون بذلك من أجل أنفسهم،
بل من أجل بعضهم ،ومن أجل المجتمع األكبر واألجيال المقبلة .وتحوّل تشومسكي إلى ع ّراب رائد في نصح األجيال «الربيعية» األميركية الجديدة ،يرشدهم ،حتى في المسائل
األمنية واإلجرائية على األرض .سأله أحد أفراد الحراك :ماذا
«اكتب يسعني أن أفعل إذا ما تع ّرضت لعملية توقيف؟ ..أجابه: ْ رقم هاتف النقابة على معصمك أو على رسغ قدمك ،واتصل به
إذا ما تعرضت للتوقيف ،أو شاهدت عملية توقيف .احمل في
وسوسيولوجيًّا داخل أميركا والغرب كله ،وعلى علماء االجتماع
الثقاة تلقفه ،وتحليل نتائجه في العمق. خطيب «الثورات» مايكل مور
أما الكاتب األميركي جاك هيلبور ستيم ،فيرى أن حركة
االحتجاجات األميركية الكبرى في وول ستريت وواشنطن
ولوس أنجلس وبوسطن ،كانت نتيجة تراكميّة لما سبقها من
انتفاضات في ضواحي لندن في الثمانينيات من القرن الفائت، التي تخللتها أعمال نهب وحرق وتخريب للممتلكات العامة
والخاصة؛ لكن التأثير الكبير لحركة «احتلوا» بانتفاضات تونس
ً أرباعا مالية معدنية إلجراء المكالمات ،وبطاقة هاتفية جيبك لالتصاالت البعيدة» .وعن سؤال« :ماذا أفعل إذا ما أُوق ُ ِفت فعلاً ؟» أجاب« :أنصحك بأن تعلن بوضوح :سألتزم الصمت..
بحيث تحوّل المنتفضون األميركيون إلى ناشطين سلميين ،ال ّ يتوخون اّإل العدالة االجتماعية ،وتصحيح السياسات الضريبية
تصدّق كل ما تقوله الشرطة ،فمن المشروع للشرطة أن تكذب عليك لدفعك إلى الكالم» .ويسأله سائل« :ماذا لو لم أكن مواط ًنا
وخلص إلى أن الثورات الحقيقية ،حتى لو لم تنجح ،هي التي تعترف تلقائيًّا بغيرها ،بوصفها حاف ًزا لها على التكامل .وهذا
محام فقط .ك ّرر األمر ألي ضابط يستجوبك .ال أريد التحدث مع ٍ
أميركيًّا وأوقفتني الشرطة؟» ،فير ّد تشومسكي« :يحمل األمر هنا مخاطر أكبر .تحدّث مع المحامي قبل النزول إلى االحتجاج؛
ومصر كان أقوى ،واكتسب أبعادًا أخالقية وثقافية مغايرة،
وبأساليب قانونية ،جذبت عموم أنظار الجمهور األميركي.
ما حاولت فعله االنتفاضات األميركية محاكاة لميادين تونس ّ المفكر األميركي إلى أن االحتجاجات في ومصر .ويخلص هذا
الواليات المتحدة والعالم على توحّ ش رأس المال ،غيّرت من
واحمل معك دائمًا اسم أحد محامي الهجرة ورقم هاتفه .واحمل معك ً أيضا أي أوراق هجرة قد تملكها ،مثل البطاقة الخضراء،
ً وخصوصا السياسيين واالقتصاديين وعلماء أفكار الجميع،
حركة «احتلوا وول ستريت» ردًّا كبي ًرا على ثالثين عامً ا من إطباق
هذا التغيّر الحاصل ،بات ال أحد في أميركا يجرؤ على مناهضة
أو تأشيرة «آي – »94أو إجازة العمل» .وفيما يرى تشومسكي في
السوبر أغنياء على الفقراء ،في حرب طبقية ال مثيل لها في التاريخ الحديث للواليات المتحدة ،يخلص إلى أن هذه الحركة ّ ستظل هاجس الجميع في الواليات المتحدة، «لن تموت ،بل
ّ ولعلها من سياسيين واقتصاديين ومفكرين وأدباء وفنانين، ّ تشكل فاصلة زمنية ذات طاقة فلسفية إيحائية برعت في إحالل ّ شكلتها» .كما يرى أنها ّ محل األداة التي ّ تشكل تحو اًّل فكريًّا الرؤية
االجتماع ،إضافة إلى األدباء والشعراء والفنانين .ومن فرط
المحتجّ ين الساخطين ،بل تقاطر الجميع إلى تأييدهم ،حتى
رجال الدين؛ فهناك ،مثلاً ،أكثر من 350رجل دين أميركي
أعلنوا تأييدهم «للربيع» األميركي ،واستطرادًا الغربي كله.
يع ّد مايكل مور نجم حركة «احتلوا وول ستريت» وخطيبها
الجريء في حديقة «زوكوني» النيويوركية؛ إذ أعلن انضمامه إلى صفوف المحتجّ ين و«المضي معً ا لصناعة التاريخ الجديد» .فلقد
119
ثقافات
حان الوقت من وجهة نظر مايكل مور ،المخرج السينمائي الكبير،
والحائز جائزة األوسكار« ،إلى ضرورة إحداث التغيير ،ورفض
االحتكارات الكبرى ،ممثلة ببنوك وول ستريت ،وبعض الشركات
الكبرى ،ممن لها التأثير الكبير في توجيه بعض السياسات الكبرى للـ«اإلستبلشمنت» األميركية» .ومما قاله مايكل مور في مخيم االعتصام الشعبي لحركة «احتلوا أوكالند»« :الشعوب هي التي تنتفض اآلن ،رافعة الفتات تشكر تونس ومصر .فما يجري
في العالم اليوم ،ليس ثورات متعدّدة ،بل ثورة واحدة ممتدة عبر مختلف القارات .ويجب اّأل نستهين بهذا الذي يجري ،فهو أكبر مما نتصوّر ،وأوسع مما ندرك .إنه دعوة جادة لنسف ما هو قائم ،ورفض كل سياسات العداء بين الشعوب التي تستغلها فئة قليلة ،ال ترى اّإل مصالحها فقط» .ويردف مشي ًرا إلى فضل
االنتفاضات العربية بعد« :أرى هنا ضرورة أن ندرك أننا في وسط
حراك عالمي ال عربي فقط ،وإن كان للعرب فضل البدء به على هذا النحو غير المسبوق في التاريخ الحديث».
أحد المارة من جانب الخيمة اإلعالمية في حديقة زوكوني،
سأل أحد الناطقين اإلعالميين من حركة «احتلوا وول ستريت»: ما أهدافكم؟ ماذا تريدون؟ فكان الجواب« :نحن ندافع عن أميركا
ومستقبل أميركا .أميركا هي لمواطنيها جميعً ا» .وأجاب ناطق
120
إعالمي آخر عن السؤال عينه« :أجل لن نتوقف عن «احتالل» اقتصادنا .نحن الشعب ،واالقتصاد الذي ّ ينظم حياة هذه البالد هو
جورج سوروس
سوروس الذي ص ّنفته مجلة «فوربس» في المرتبة 27من أغنى أغنياء العالم ،هو من يقف وراء االحتجاجات الشعبية عشية فوز ترمب بكرسي البيت األبيض ..كما كان تبرع من قبل بمبالغ مالية هائلة لمنع قد ّ إعادة انتخاب الرئيس جورج بوش االبن رئاسية ثانية في عام 2004م لوالية ّ
اقتصادنا .هو اقتصادي واقتصادك واقتصاد الجميع ،بمن فيهم
حتى من كبار المليارديريين األميركيين ،من طراز رجل األعمال
يخ ِّربون ،ليس اقتصاد أميركا فقط ،إنما أميركا نفسها .ليس من حق أحد أن ي ّتهمنا بالسعي لتخريب األمن واالستقرار في بالدنا.
دوالر ،والممثلة سوزان ساراندون ،التي تفوق ثروتها المئة
الذين يخ ّربونه من جماعة البنوك؛ ونحن نريد أن نردعهم؛ ألنهم
نحن من يدعم ،بحراكنا هذا ،استقرار أميركا وأمنها ورفاه شعبها». الملياردير الفيلسوف و«ربيعه» المفتوح
الكبير جورج سوروس (يحمل شهادة دكتوراه في الفلسفة)، ومغ ّني الراب كانييه ويست ،الذي تتجاوز ثروته الـ 90مليون مليون دوالر ،وقد زاروا جميعً ا جمهور حركة المعتصمين في نيويورك وواشنطن ولوس أنجلس ّ (كل على حدة طبعً ا) وأعلنوا
ّ وحذروا السلطة المركزية األميركية ،على تضامنهم معهم،
بالتأكيد يختلف «ربيع الغرب» عن «ربيع العرب» ،الذي
المديين القريب والبعيد ،من عدم تلبيتهم لمطالبهم ،وقال
الشعبية العربية ،التي باتت تتم ّنى أن تتجاوز عتمته الراهنة
يشوّهها بعض مدّعيها من جماعة الكارتيالت المالية الضخمة، الذين ال ينشغل ذهنهم العام ،ويدور ،اّإل على هاجس المال
تحوّل (أي هذا األخير) إلى كابوس دموي في نظر كثرة كاثرة من النخب العربية ،ومن بعض األحزاب والتيارات والتك ّتالت إلى غير ما رجعة؛ فيما «الغرب النيوليبرالي» ،وبحسب المفكر والناشط األميركي المعروف كورنل وست (اعتقلته الشرطة األميركية ثم أطلقت سراحه) سيستفيد من دروس «ربيعه
الخصوصي» ،وإن ببطء ،حتى ال ينغلق زمن بدايات تصدّ عه عليه من الداخل ،ويخنقه ،حتى وهو في ع ّز قوته وجبروته.
غير أن هذا ال يعني ،وفق استنتاج كورنل وست نفسه ،أن أميركا ليست مهدّدة من داخلها ،أو أن مستقبلها آمن في ّ ظل استمرار السيطرة المطلقة ألباطرة التروستات المالية الضخمة ّ ومنظريهم من الليبراليين الجدد ،الذين هم موضع شكوى، العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
جورج سوروس بالحرف الواحد« :أنقذوا الحرية في أميركا التي
والربح كيفما اتفق ،حتى لو تهدّ م الهيكل عليهم هم قبل غيرهم ..أميركا بحاجة الى رأسمالية متوازنة ،منفتحة وعادلة، تعطي الحقوق لآلخرين قبل أن تأخذ هي حقها ،وتحافظ،
بالتالي ،على استمرارية هذا الحق».
والطريف أن جورج سوروس ،الذي ص ّنفته مجلة «فوربس»
األميركية في المرتبة الـ 27ألغنى أغنياء العالم عن السنة 2014م، وتقدّ ر ثروته بـ 26مليار دوالر ،هو الذي تصدّ ى ويتصدّ ى لتوحّ ش
زمالئه األثرياء ،ليس في الواليات المتحدة فقط ،إنما في
العالم أجمع؛ ولقد أعطاهم ،ويعطيهم كل يوم الدروس تلو
وتحوالته «ربيع الغرب» ّ
ً خصوصا لجهة إنفاق المال الوفير على أعمال الخير الدروس، المختلفة ،ومنها ،على سبيل المثال ال الحصر ،تخصيص منح للطالب المعوزين داخل الواليات المتحدة وخارجها .وتقدّ ر
شبكة التلفزة األميركية pbsمجموع ما أنفقه جورج سوروس
على أعمال الخير حتى اآلن ،بحوالى الـ 3مليارات دوالر .من جهة أخرى ،كان سوروس ،وال يزال ،يستخدم لعبة المال السياسي، وبشكل علني في الواليات المتحدة؛ فلقد أنفق ،مثلاً ،وبحسب أكثر من وسيلة إعالمية أميركية ،ماليين الدوالرات للحيلولة دون إعادة انتخاب جورج بوش االبن لوالية رئاسية ثانية في
عام 2004م (وقتها أمام المرشح الديمقراطي جون كيري) ،وهو
اليوم يُعَ دّ أحد أبرز الذين وقفوا وراء االحتجاجات التي عمّ ت شوارع المدن األميركية الكبرى عشية فوز دونالد ترمب بكرسي
البيت األبيض .وقد وجّ هت لسوروس التهم العلنيّة والمباشرة، ً تخطيطا بأنه هو وراء هذا الحراك الشعبي األميركي الساخط.. وتمويلاً ً وتحريضا .أما لماذا؟ فألنه وجد ويجد في رئاسة ترمب
خط ًرا على حاضر الواليات المتحدة ومستقبلها ،وبخاصة لجهة آخر ما تبقى لها من حيّز ريادي للعالم ،الذي ال يزال ماثلاً على
المستويات االقتصادية والسياسية واألمنية حتى اليوم.
ولقد انطلق الملياردير الفيلسوف سوروس من أفكار وتحليالت شخصية ّ تلخص رؤيته لألمور السياسية واالقتصادية واالجتماعية حوله ،و َد َمج ،هكذا ،خالصاتها في رؤية ذات أبعاد
فلسفية ،تق ّر بأن المعرفة ،واقتصاد المعرفة ،هما وحدهما ّ يشكالن القوة الحقيقية لثبات األمم ،وذلك إذا ما أرادت األمم القوية أن تستمر وتحيا بثبات مع الزمن .وال غرو ،فسوروس الذي وصف نفسه بـ«الفيلسوف» و«صانع السياسة العالمية» ،كان قد ّألف العديد من الكتب ،من أبرزها« :كيمياء المالية القديمة»- 1988م ،و«خرق النظام السوفييتي»1990 -م ،و«المجتمع
المفتوح :إصالح الرأسمالية العالمية»2000 -م ،و«تصحيح إساءة استخدام القوة األميركية»2005 -م ،و«عواقب الحرب على ّ والمفكر اإلرهاب»2006 -م ...إلخ .وهو من المعجبين جدًّا بالباحث
األميركي بيتر فردناند دراكر ،الذي يميل إلى تقطيع الصيرورة
التاريخية ،حيث يشير في كتابه« :مجتمع ما بعد الرأسمالية» (صدر في عام 1993م) إلى أنه تقريبًا في كل خمسين أو ستين
سنة ،يحدث في سياق التاريخ الغربي انفصال يصل إلى ح ّد تغيير النظرة إلى العالم ،وتبديل القيم األساسية والنظم االجتماعية واآلداب والمؤسّ سات فيه ،اّإل في الواليات المتحدة التي ال
تعرف ،حتى اآلن بنظره ،سوى أن تعيد إنتاج تغوّل رأسماليتها الجشعة على نحو م ِّ ُنفر وطارد للمشروعيات على اختالفها، وأنه آن األوان لواشنطن أن تحسن قراءة المنعطفات الكبرى في التاريخ وتستفيد من انهيارات األمم الكبرى التي سبقتها ،اّ وإل فإن
السقوط الكبير ينتظرها وبأسرع مما يُتصوّر.
الثورات العربية والغرب ّ سيظل عام 2011م بطبيعة الحـال ،عامـًا مم ّي ًزا هكذا
في تاريخ الصراعات االجتمـاعية :من تونس إلى الواليات
المتحدة ،مـرورًا بإسـبانيا والبرتغال واليونان ،وكذلك
آيسـلندا والتشيلي .فهو يسجّ ل في الواقع العودة الكاسـحة
للشقاق والتنـازع االجتماعي؛ غير أن العصف المنبعث
من التعبئات واالسـتنفارات التي سارعت بـ«فسطاطي» بن علي ومبارك ،دام واستمر اً بدل من أن يخمد .بعد ذلك بخمس سنوات ،عرفت هذه التجارب مصاير مختلفة.
فبعد االنتصارات االنتخابية التي حققها حزبا سيريزا في
اليونان وبوديموس في إسبانيا ،التي نتجت عن التعبئات واالستنفارات التي ظهرت بعد األزمة المالية األميركية – 2008م و«الثورات العربية» ،فإن عام 2015م ،كان عام
انتقال هذه الحركات إلى مراكز المسؤولية المؤسّ ساتية،
وقد مهّدت إلى ذلك كله ،ورافقته خطابات فكرية وأدبية
وفنية ال تحصى ،سمّ اها الناقد اإليطالي جوليانو دي بينو بـ«اإلبداع الفوري الحر والمتح ّرر من تقليد كل المرجعيات األدبية والنقدية التقويمية السائدة».
وعلى الغرب ،وبالتحديد الواليات المتحدة ً أيضا..
ً وأيضا -كما نستنتج من جورج سوروس -أن يشكر في
المحصلة «الثورات العربية» في براءتها األولى في تونس ومصر؛ ألنها ّ شكلت جرس إنذار له؛ كي يراجع ،وجذريًّا، سياساته االقتصادية (وبخاصة المحليّة منها) اآليلة إلى
ضربه هو من داخل ،قبل أي عامل آخر .وما األزمة المالية التي عصفت بأميركا في عام 2008م اّإل الشاهد األبلغ على
ذلك ،ثم جاءت حركات االحتجاج الصاخبة في عام 2011م ّ المحك لتضع هذا البلد األول في الغرب والعالم على الخطير ،ومن َثمَّ تدفعه للعودة إلى المنطق الديكارتي الذي أسّ س لسياسات الغرب العقالنية في حدودها الصارمة والقصوى.
121
ثقافات
روائي ياباني يجمع بين الكتابة األدبية والشراسة ضد االستخدامات النووية
كنزابورو أوي: من دواعي سروري أن ُأقرأ ُ وأترجم لكن هذا لن يجعلني أفكر أني سأموت مرتاح البال تقديم وترجمة :سعيد بوكرامي
كاتب ومترجم مغربي
تقدم األعمال المترجمة للروائي الياباني كنزابورو أوي من
اليابانية إلى اللغة الفرنسية الصادرة مؤخرًا خدمة أدبية جليلة
122
للقارئ عمومً ا .فترجماتها رصينة وانتقاؤها دقيق ،ترصد حياته وأدبه على مدار عقود عدة .وال ينحصر اهتمام دور النشر العالمية بنشر أعماله فحسب ،بل يأتي االهتمام ً أيضا من كونه شخصية ثقافية مثيرة للجدل في اليابان.
فهو يحتل اليوم واجهة اإلعالم الياباني بحكم معارضته
الشرسة لالستخدامات النووية العسكرية والمدنية .ولد
كنزابورو أوي في عام 1935م في قرية شيكوكو من مقاطعة
إيهايم باليابان ،وحصل على جائزة نوبل في األدب عام 1994م، ً وهو واحد من الشخصيات األكثر نشاطا ثقافيًّا وأدبيًّا وسياسيًّا.
ألف كتا ًبا مؤلمً ا عن هيروشيما ،نشر في عام 1965م (أعيد
إصداره مؤخرًا ضمن سلسلة كتاب الجيب) ،وقد منحته الكارثة
البيئية واإلنسانية في فوكوشيما الفرصة لتوسيع نطاق هذا االلتزام
برفض الطاقة النووية المدنية من دون التخلي عن إنعاش الذاكرة
الجماعية ،من ِّبهًا إلى نتائج مأساة هيروشيما وناغازاكي ،وفي هذا الصدد كتب كثيرًا من المقاالت وأجرى عد ًدا من المقابالت، كما التمس من رئيس الوزراء التخلي عن الطاقة النووية وجمع أكثر من سبعة ماليين توقيع تؤيد موقفه.
العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
أعمال هذا الكاتب الكبير المترجمة إلى العربية ،لألسف
قليلة .ال تقدم الكاتب بصورة واضحة وشاملة للقارئ العربي ،وال أعلم سبب تهرب المترجمين من أعماله على ً ً وعالمية من أعمال غيره من أدبية الرغم من أنها أكثر
ً خصوصا الشباب .من رواياته التي الروائيين اليابانيين،
ترجمت إلى العربية« :علمنا أن نتجاوز جنوننا» (دار اآلداب) بترجمة كامل يوسف حسين ،و«مسألة شخصية» (مؤسسة
األبحاث العربية) ترجمة وديع سعادة ،و«الصرخة الصامتة» (دار المدى) ترجمة سعدي يوسف.
عشت على عدم االهتمام بما يمكن أن وأيا كان النظام يفكر فيه اإلمبراطورًّ . اإلمبراطوري ،ال بد من إزالته من الدستور .أنا أنتقد بشدة حكومة شينزو آبي الذي ينوي تغيير الدستور ،وأال مسالما ال يستخدم الحرب يبقى البلد ً كأداة ضد بلدان أجنبية
وفي أحد أيام هذا الصيف القائظ تلقى كنزابورو أوي
■ كنزابورو أوي :فوجئت كثي ًرا عندما قيل لي :إن 1300 صفحة من أعمالي ُنشرت في دار غاليمار ،وما زلت متأث ًرا
النشيط والكلمة اليقظة المتنقلة بين األدب وااللتزام
أن األمر يتعلق بكتاب وبصورة كاتب ،لكن كنت أعتقد أنها تمثل ً ّ خاص جدًّ ا بي .أنت تعلم أن في أيضا حياتي .إنه شيء
وهو محاط بزوجته يوكاري وابنه هيكاري ،عشرات الكتب
والصفحات المسودة وضعت فوق طاولة منخفضة وسط ً تاريخا من الفكر بهو منزله .كانت تلك األوراق تجسد االجتماعي .تأملها النوبلي كنزابورو أوي مبهورًا ،فقد بلغ
عدد الصفحات أكثر من 1300صفحة قامت بترجمتها دار
ً خصوصا ضمن بذلك .ولعل هذه هي أعظم هدية في حياتي، اً أعمال كالسيكية .أشعر حقاًّ سلسلة «كوارتو»؛ ألنها تضم
اليابان ،نحن نتحدث «الوتاكوتشي شوسيتسو»« ،الرواية
غاليمار الفرنسية عن أعماله .منها القصة القصيرة والرواية
بضمير المتكلم» لكن هذا ال يعكس حياة الفرد .هذه الرواية،
حلة تليق بهذا الكاتب الفريد.
الكاتب الذي يعيش عادة في طوكيو ،ليست سيرة ذاتية .في
والمقاالت األدبية .كبداية لخطة نشر أعماله الكاملة في
التي تكتب بضمير المتكلم وشخصيتها األساسية هي تخص
يبلغ اليوم كنزابورو أوي 82عامً ا ،وال يزال آخر عمالقة
هذا النوع من الرواية اليابانية ،تروى باألحرى تفاصيل الحياة
الرواية في اليابان يعيد النظر بصبر وعمق في طفولته وحياته الفريدة ككاتب وأب لطفل معاق ومثقف ملتزم بقضايا
● أرنو فولران :لكنك ال تنتمي إلى هذه المدرسة.
األدبي المهم أجرى مراسل صحيفة ليبراسيون الفرنسية في
المتكلم؛ ألن عملي يستند إلى نقد هذا النوع من الرواية .على ً معروفا ونال سبيل المثال ،ناويا شيغا [1971-1883م] أصبح
مصيرية تهم بالده ومستقبل العالم .على هامش هذا الحدث
اليابان الكاتب والصحافي أرنو فولران مؤخ ًرا حوارًا مهمًّ ا مع
كنزابورو أوي ،هنا ترجمة له من الفرنسية. الرواية بضمير المتكلم
● أرنو فولران :ما رأيك في نشر مختارات من أعمالك،
تحاول رسم صورة اإلنسان والكاتب ،إن لم نقل صورة الحياة؟
■ كنزابورو أوي :لم أكن أنوي أن أكتب رواية بضمير
التقدير ألنه كتب بضمير المتكلم .عندما نقرأ رواياته ،نكتشف أخي ًرا الصورة الشخصية الحقيقية للكاتب .إن الذين اشتغلوا على
ً انطباعا بأنهم يقومون بالتقاط صور هذا النوع من الرواية يعطوننا عن حياتهم وتحويلها إلى كلمات .لكن في وقت ما بعد الحرب حاول ُ الكتاب أن يجدوا ويحللوا اإلنسان الذي يكتب للتمعن في أين يمكن أن نذهب بالتفكير في كيفية حياته وموته ،وهذا ً انطالقا من قراءتي لألدب األوربي ،بدا ما حاولت أن أقوم به.
من المهم تطوير الكتابة للنظر إلى العالم بطريقة أكثر شمولية ً واتساعا .لقد بدأت بكتابة قصص قصيرة حول موضوعات أصيلة.
ثم ولد هيكاري بإعاقة [ولد الطفل األول لكنزابورو أوي في
1963م بإعاقة ذهنية] فغيرت تمامً ا مشروعي .فقلت في نفسي: «ستكون حياتي معه هي موضوع كتابتي» .هذا الوضع األصيل الذي بحثت عنه في قصصي وجدته في حياتي الخاصة .وهذا ما
سمح لي حقيقة بأن أكتب عندما قررت صحبة زوجتي القبول والعيش رفقة هذا الطفل .وهكذا ُق ِب ُ لت ككاتب وس َّرني كذلك أن المختارات من أعمالي اتخذت سمة التأريخ للكتاب واإلنسان.
123
ثقافات
● أرنو فولران :لكن ،على كل حال ،هل أنت سعيد؟
■ كنزابورو أوي :لو قيل لي :إن هذا المصير جيد لي،
كنا نتحدث عن االلتزام تجاه المجتمع الذي نعيش فيه ،فمن
سيمفونيته في ألمانيا منذ شهور -المترجم) ،منذ ثالث
أكون ملتزمً ا ،ثم شعرت أن األدب الذي كنت أكتبه ال يمكن أن
طوال اليوم كطائر .وكان مثل الطفل يستمتع بأسرار اليقظة، وأعتقد أنه في يوم من األيام سيموت مبك ًرا أو عجو ًزا ،لكنه
● أرنو فولران :في هذه المختارات نجد المجموعة
رغم كل شيء ،عشت حياتي مع تجارب صعبة ،لحظات
تحكي قصة مراهق ممزق بين دوافعه الغريزية والسياسية
سأرغب دائمً ا في أن أقول :ال .أشعر ببعض األشياء .اآلن ً مؤلفا للموسيقا ،وقد ُعزفت عمر هيكاري 53عامً ا (يعمل
سنوات ،وأنا أشعر أنه أصبح أكثر قتامة .من قبل كان يتحدث
سيموت بروح طفل .وأظن إلى جانب هذه الحياة السعيدة مفجعة؛ لذلك بدأت الكتابة عن هذه الحياة في رواياتي،
فمن الواضح أني أقدم تجارب حياة ليست دائمً ا مرحة.
هناك دائمً ا في معظم رواياتي شكل من أشكال الفكاهة وهي تأتي من هيكاري ،ومن عالقتنا .لقد عشت وأنا ال أفعل شي ًئا غير الكتابة ،فتمكنت من أن أذهب إلى الجامعات ،وتقديم
المحاضرات .عشت حياة أخرى غير حياة المدرِّس .من خالل كل ذلك ،تحدثت ً أيضا عن قريتي وطفولتي .أعتقد أن هذا هو ً أيضا السبب في أن بعض القراء يُبدون اهتمامً ا بكتاباتي.
124
كازو واتانابي ،وهو مدرس ،خبير ومترجم رصين لرابليه .إذا
شأن العمل بالكتابة أن يدفعك بالضرورة إلى التساؤل عن ً ً اليابان ،والتساؤل ً عوضا عن أن عارضا، أيضا عما إذا كنت يكون محدودًا ،وأنه يجب أن ينفتح على اليابان وآسيا.
القصصة «سبعة عشر» التي لم يسبق نشرها في فرنسا،
والوجودية .كانت هذه المجموعة القصصية التي تتكون من 90 صفحة مثيرة للجدل في الستينيات؛ ما مكانتها بين منجزك؟
■ كنزابورو أوي :إنها عمل مهم لي؛ ألن األمر يتعلق
بشاب يعيش في المجتمع المدني الياباني .احتلت هذه
الشخصية العادية التي قامت بعمل إرهابي مكانة مهمة في تفكيري .بكتابة هذه القصة ،بدأ شيء ما يتغير بداخلي ،إنها نقطة البداية.
● أرنو فولران :كنت في الثانية والعشرين عندما نشرت عملاً غريبًا؛ هل كنت تشعر أنك كاتب؟ ■ كنزابورو أوي :ال .كنت أقرأ كثي ًرا من الروايات ،كنت قادمً ا من القرية أشبه شابًّا بين األطفالُ .توفي والدي مبك ًرا
جدًّ ا [في عام 1944م ،وربما بسبب نوبة قلبية] ،لكني لم أكن على عالقة بكبار القرية ،كما لم أشعر بأني أنتمي إلى دائرة األطفال .كنت أقرأ فقط .ثم جئت للدراسة في طوكيو ،التقيت
كنزابورو أوي في مسيرة مناهضة للطاقة النووية ،طوكيو 2011م
العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
كنزابورو أوي ..روائي ياباني يجمع بين الكتابة األدبية والشراسة
كنزابورو مع ابنه سنة 1935م
أب وحياته مع ابنه في طوكيو
● أرنو فولران :في «نشيد الذكرى» القصيدة الجميلة،
تكتب «ما زلت ال أعرف ماذا سأقول للشاب الذي كنته» نشعر بكثير من الفشل في هذه الجملة.
■ كنزابورو أوي :تحدثت للتو عن االنفتاح على العالم ،لكن
كتابتي ال تزال في إطار محدود ،عن أب وحياته مع ابنه في طوكيو.
ال أكتب وفي ذهني تصور كي أكون موضع تقدير أو فهم في الخارج. إنه لمن دواعي سروري أن أُقرأ وأُترجم ،لكن هذا لن يمأل حياة أو
انطالقا من قراءتي لألدب األوربي ،بدا ً المهم تطوير الكتابة للنظر إلى من ّ واتساعا العالم بطريقة أكثر شمولية ً يقوله اإلمبراطور ،أو النظر فيما إذا كان جيدً ا أم ال .اإلمبراطور
اإلله صاحب السلطة المطلقة تركناه خلفنا جميعً ا ،لقد انتهى في عام 1945م .وتوفي ،ولم يعد إلهًا .عشت على عدم االهتمام
يجعلني أفكر في أني سأموت مرتاح البال .أعتقد أني سأعيش
بما يمكن أن يفكر فيه اإلمبراطور .وأيًّا كان النظام اإلمبراطوري،
نشاطي الفكري طبيعي إلى حد ما .من يومين أدركت أنني لم أمارس
الذي ينوي تغيير الدستور ،وأال يبقى البلد مسالمً ا ال يستخدم
خمس سنوات أخرى ولمدة سنتين أو ثالث سنوات أخرى سيكون
رياضة الجري منذ عام .لهذا ارتديت بذلة رياضية وركضت لمدة عشر دقائق .عندما نركض ،هناك لحظة نرتفع فيها ،وأنا أحب هذه
اللحظة القصيرة جدًّا التي نرتفع فيها عن سطح األرض .لقد أدركت أنه حتى في سن متقدمة ،يمكن أن نركض .وهذا منحني شعورًا
بالفرح والوضوح في حياتي .اإلنسان هو ذلك الشخص الذي يسمو عن سطح األرض .وبهذه الطريقة عدت مرة أخرى بشريًّا.
ال بد من إزالته من الدستور .أنا أنتقد بشدة حكومة شينزو آبي الحرب كأداة ضد بلدان أجنبية.
● أرنو فولران :هل ستصبح اليابان «دولة طبيعية»
ً وفقا للرغبة التي عبّر عنها شينزو آبي؟
ً جيشا يسمى قوات ■ كنزابورو أوي :بالفعل تملك اليابان
الدفاع الذاتي ،وهناك جيش أميركي لديه قنبلة نووية مزروعة في
● أرنو فولران :أنت معارض للنظام اإلمبراطوري منذ
اليابان .ويبدو هذان األمران مخالفين للدستور .إذا آبي ،أو رئيس الوزراء المقبلَّ ، تمكن من تعديل الدستور بموافقة الشعب،
المعروضة من اإلمبراطور أكيهيتو ،في ذكرى انتهاء الحرب
وأن يصبح لليابان سالح نووي على الفور .في كوريا ،هناك نقاش
وقت طويل .ومع ذلك ،عبرت عن رضاك من دعوة السالم
سيكون من السهل جدًّا تحويل جيش قوات الدفاع الذاتي الحقيقي
العالمية الثانية؟ لاً ■ كنزابورو أوي :عندما كنت طف ،كل صباح في المدرسة،
حول هذا الموضوع ،وبطبيعة الحال ،أنا أعارض .يمكن أن تصبح ً مكانا لحرب نووية .إذا تغير الدستور ،لن نكون في المنطقة قريبًا
ال أعرف .على كل حال ،كان لديّ انطباع أني أعرف ،أن هناك
كان هناك استفتاء ،وقرر الشعب الياباني دعم مواقف «آبي» .وأنا
كنا نسجد في الهيكل لإلله اإلمبراطور .هل كنت أومن بذلك؟ ً شخصا مقدسً ا فوق الجميع .لم نفكر قط في أن نعطي قيمة لما
عالم يمكن أن نحقق فيه السالم .ستكون هذه هي نهاية اليابان إذا
على استعداد للنزول كل يوم إلى الشوارع لمعارضة ذلك.
125
مقال
زكي الميالد كاتب سعودي
لم يعد ألوربا ما تقدمه للعرب.. أطروحة بحاجة إلى التفات العالم العربي ليس خاليًا من األطروحات الجادة
والمهمة على أقسامها الفكرية واالجتماعية واالقتصادية
الدكتور زيادة أن أوربا قدمت ما عندها من األفكار الكبرى
تكمن في واحدة من ثالثة أمور تتصل وتنفصل ،منها
والقومية واالشتراكية والليبرالية وحقوق اإلنسان ،ولم تعد
والتربوية وغيرها ،لكن المشكلة مع هذه األطروحات أننا ال نحسن طريقة التعبير عن هذه األطروحات،
فنقدمها بشكل باهت ال يلفت االنتباه لها .ومنها أننا ال نظهر هذه األطروحات بثقة عالية ،وال نتعامل
126
بأوربا ،والثاني له عالقة بالعرب ،بشأن األمر األول ،يرى
معها بهذه الثقة العالية ،متمسكين بهذا الوصف،
وصف األطروحة وجازمين به ،ومنها أننا ال نتنبه لهذه
األطروحات حين تظهر ،فتمر من دون أن تعرف بالقدر
الكافي ،وتمضي وتنكمش من دون أن تحدث دهشة أو تأثي ًرا.
تحصل هذه الحال ،في الوقت الذي يتساءل فيه
بعض :هل توجد أطروحات جادة في المجال العربي؟ وبطريقة أخرى من التساؤل المزدوج :لماذا ال توجد
أطروحات جادة في المجال العربي؟ ولماذا تأتي
األطروحات الجادة من الخارج وال تأتي من الداخل
العربي؟ وفي إدراك بعض أننا بحاجة إلى أطروحات جادة تفتح لنا ً ً نقاشا، أفقا ،وتحرك ساك ًنا ،وتنشط
التي أثارت دهشة العالم ،كالحداثة والديمقراطية والعقالنية أوربا كما كانت باألمس مصدر إشعاع وإلهام وتأثير.
وبشأن األمر الثاني ،يرى الدكتور زيادة أن العرب قد
ربطتهم عالقات طويلة بأوربا ،واعتمدوا عليها ،وأخذوا منها كثي ًرا ،وحان الوقت الذي يغيرون فيه المسلك والمسار،
واالتجاه نحو االعتماد على أنفسهم ،والنظر إلى ذاتهم بعيدً ا من سحر أوربا واالرتهان والتبعية لها ،وبات على العرب أن
ينشئوا أفكارهم وأال يعتمدوا على أوربا. خالد زيادة وأوربا
وما هو جدير باإلشارة أن هذه األطروحة قد اتصلت عند
الدكتور زيادة بسياق من البحث الفكري والتاريخي الممتد
لعقود عدة ،تطورت فيه وتراكمت المعرفة والخبرة ،ومثل
له حقل دراسة واختصاص علمي وأكاديمي ،يرجع إلى سنة
1980م حين ناقش الدكتور زيادة رسالته للدكتوراه في جامعة
وتثير دهشة ،لكن من دون االلتفات إلى األطروحات التي
السوربون الفرنسية ،وكانت بعنوان« :المؤثرات الفرنسية ً الحقا على العثمانيين في القرن الثامن عشر» ،وصدرت
المهمة التي بحاجة إلى التفات ،أطروحة المؤرخ
وفي سنة 2010م صدر الكتاب في القاهرة بعنوان آخر هو:
تظهر أو حين تظهر عندنا وفي مجالنا .ومن األطروحات
في كتاب سنة 1981م بعنوان« :اكتشاف التقدم األوربي»،
اللبناني الدكتور خالد زيادة التي حددها بقوله« :لم يعد ً عنوانا لكتابه الصادر ألوربا ما تقدمه للعرب» ،وجاءت
الدكتور زيادة كتابًا له طابع الرصد والتتبع والتوثيق ،حمل
2015م ،وأراد منها في المنظور الكلي تغيير النظرة إلى
االهتمام ولم ينقطع ،وتجدد مع هذه األطروحة.
في طبعته األولى سنة 2013م ،وفي طبعته الثانية سنة
أوربا من جهة ،وتغيير النظرة ألنفسنا من جهة أخرى. ً فحصا وتأملاً ،يمكن وعند النظر في هذه األطروحة
القول :إنها ترتكز على أمرين أساسين :األول له عالقة
العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
«المسلمون والحداثة األوربية» ،وفي سنة 1983م أصدر
عنوان« :تطور النظرة اإلسالمية إلى أوربا» ،وتواصل عنده هذا وأظن أن هذه األطروحة لو جاءت من أحد الغربيين
لكان لها شأن آخر ،ولجرى التعامل معها بطريقة مختلفة، وألخذت حي ًزا أكبر من االلتفات ،ولبالغنا في االهتمام بها
اً ً وسجال ،ولوجدنا فيها ما ونقاشا ،ونقدً ا واالنشغال كتابة
ت الحال عندنا في العادة ،فما يثير يثير الدهشة ،هكذا ج َر ِ
اهتمام الغربيين يحرك االهتمام عندنا في الغالب ،ولعً ا بتأثير
الغالب على المغلوب حسب المقولة الخلدونية القديمة. وكنت قد ناقشت هذه األطروحة من قبل ،وتواصلت
في هذا النقاش مع الدكتور زيادة ،وأعطيت هذه األطروحة
آنذاك صفة المقولة ،لكني وجدت أنها تستحق صفة
األطروحة كذلك ،وذلك لطبيعة السياق الفكري والتاريخي
الذي اتصلت به.
والجديد الذي أود لفت االنتباه إليه ،هو أنني وجدت
تأكيدات مهمة على هذه األطروحة من األوربيين أنفسهم،
وهم يتحدثون عن حالهم الفكري والفلسفي والسياسي
سودير هازاريسنج
والحضاري ،بشكل يشير إلى أن أوربا قد تغيرت صورتها في
الداخل ،ولم تعد بذلك اإلشعاع الذي كانت عليه من قبل،
بل لم يعد لها ما ِّ تقدمه لغيرها من األمم والمجتمعات
يشر إليه الدكتور زيادة ،ومثل ً نقصا األخرى ،وهذا ما لم ِ واضحً ا في بنية أطروحته.
ومن أوضح هذه التأكيدات الفكرية والفلسفية
وأبلغها ،ما ذكره عضو األكاديمية البريطانية الدكتور سودير
هازاريسنج في مقالته المهمة المنشورة باللغة اإلنجليزية في
يونيو 2015م ،وفي ترجمتها العربية في مجلة الثقافة العالمية الكويتية يناير -فبراير 2016م ،بعنوان« :ما تبقى من الفكر
تغيرت صورة أوربا في الداخل ،ولم تعد بذلك اإلشعاع الذي كانت عليه من قبل، بل لم يعد لها ما تقدمه لغيرها من األمم والمجتمعات األخرى
127 صورة فرنسا
وباالنتقال إلى أوربا ،يرى سودير أن هذا التراجع
المزدهر ..إلى أين انتهى الفالسفة الفرنسيون العظام؟».
الفكري ال يقتصر على فرنسا بمفردها؛ إذ على الرغم من
ترجمتها العربية ،حاول الدكتور سودير الكشف عن حالة
حركة سيرنيرا اليونانية وبوديموس ،فإن تأثير حركات آفاق
في هذه المقالة التي فاقت عشر صفحات حسب
التراجع الفكري لفرنسا بصورة خاصة ،وتأثير ذلك في أوربا
نجاح الحركات الراديكالية الشعبية في االنتخابات مثل
اإلصالحيين والتقدميين تضاءل عبر أوربا كلها منذ نهايات
بصورة عامة ،وحسب قوله« :يعاني الفكر الفرنسي المعاصر الركود الشديد فعلاً ،فالفلسفة الفرنسية التي قدمت
فرنسا؛ ألن صورة فرنسا ارتبطت وجوديًّا مع التفوق الفكري،
قبيل :العقالنية ،والنزعة الجمهورية ،والفلسفة النسوية،
عالمية ...ولكون الكيان الثقافي األهم لفرنسا يمثل حالة
يعد لديها إال أقل القليل لتقدمه في العقود األخيرة». وتعزي ًزا لهذا الموقف ،يرى الدكتور سودير أن الفكر
والف ًتا هو« :هل تخرج أوربا من التاريخ؟».
تيارات فلسفية ومذاهب جسورة ،اجتاحت العالم من
والمذهب الوضعي ،والفلسفة الوجودية ،والبنيوية ،لم
الفرنسي لم يعد يمثل مرجعية مركزية للتقدميين حول
القرن العشرين ،غير أن هذه الظاهرة تجلت بصورة حادة في ومع الفرض القائل :إن األفكار الفرنسية تحظى بجاذبية
فريدة في الثقافة األوربية .وليس بعيدً ا من هذا السياق كتاب ً عنوانا مثي ًرا السياسي الفرنسي جان شوفنمان الذي اختار له ويتصل بهذا السياق كذلك ،صعود جماعات اليمين
العالم ،فالثورات االجتماعية التي أدت إلى سقوط األنظمة
المتطرف في أوربا الذي قلب صورة أوربا في العالم ،وكشف
العالم العربي ،لم تستلهم التقاليد الفكرية الفرنسية ،وهو ً فراغا فكريًّا ...وقد قرعت مجلة األدب Magazine ما يمثل
وصف العجوز على أوربا ،هذه بعض الدالئل المهمة ،وال
شك أن ما يعرفه األوربيون عن أنفسهم أكثر بكثير ،وهناك
فرنسا تفكر؟».
القول :إن أوربا لم يعد لها ما تقدمه للعرب.
الشيوعية في شرق أوربا ،وتحدي األنظمة السلطوية في
litteraireأجراس الخطر بعنوان مفزع هو« :هل ال تزال
كيف أن أوربا تتغير من الداخل ،وليس بعيدً ا من ذلك إطالق
دالئل أخرى ستتكشف مع توالي األيام ،تجعل من الممكن
إصدارات
سبينوزا والكتاب المقدس المؤلف :جالل الدين سعيد الناشر :مؤمنون بال حدود
ّ الحق في بناء هويّة الجماعة سياسيًّا ودينيًّا. ال ينكر سبينوزا الدور الذي يلعبه الدين
فالعقل والدين يسعيان إلى الهدف نفسه؛ والمتمثل بتنظيم حياة الناس .لكنّ هناك حدودًا
للعقل وحدودًا للدين ،وهي حدود موضوعية ،حيث توجد صعوبة في العمل بتعاليمهما الحل ً ّ إذا؟ وعالمَ يقوم ومبادئهما ،صعوبة عمليّة يشهد بها التاريخ وتق ّرها التجربة .فما تصوّر سبينوزا لنظام الحياة في الدين والمجتمع ونظام الحكم في الدولة؟
االتحاد الخليجي ..وجهات نظر دولية المؤلف :مجموعة باحثين الناشر :مدارك ،المسبار
تناولت وجهات النظر في الكتاب جملة التحديات السياسية واالقتصادية واالجتماعية.
شارك في الكتاب خبراء غربيون تخصصوا في دراسة المنطقة ،وغطت دراساتهم مواقف دول الجوار ،والمنظمات العالمية ،وتصوراتهم لالتحاد ،بدءً ا بموقف الواليات المتحدة
األميركية ،واالتحاد األوربي مرورًا بإيران وإسرائيل ،وتركيا ،إضافة إلى روسيا والصين ،كما
تناول دراسة نموذج تالفي اآلباء المؤسسين لالتحاد األوربي مشاكله ،وختامً ا دور الشباب
128
الخليجي في دعم تأسيس االتحاد.
اإلخوان المسلمون وحركة النهضة المؤلف :أليسون بارغيتر
ترجمة :إبتسام بن خضراء
الناشر :دار الساقي
في الكتاب ِّ ّ متخصصة في سياسات تقدم بارغيتر المحللة السياسية البريطانية التي تعمل
الشرق األوسط وشمال إفريقيا وفي اإلسالم السياسي ،باالعتماد على مقابالتها مع كبار أعضاء «اإلخوان المسلمون» و«حركة النهضة» ،تحليلاً ً مقارنا لحركة «اإلخوان» في شمال
إفريقيا وتشرح عواقب سقوطها على المنطقة ،وعلى المشروع السياسي اإلسالمي الكبير.
جدل اإلنسان والطبيعة المؤلف :يوسف أشلحي الناشر :دار ابن النديم ،ودار الروافد
في كنف الطبيعة تبلورت قدرات اإلنسان وترعرعت طموحاته وتعدّدت نزوعاته ،حينئذ
بسط اإلنسان سلطته على المجال ،وسعى بشكل حثيث للبرهنة على أنه صاحب السيادة ومالك مفاتيح لتسخير عناصر الطبيعة .بهذا االعتبار ،ستمسي الطبيعة مج ّرد موضوع تابع ،كأنها
وجدت في األصل لكي تشايع رغبات اإلنسان ،ولم يعد األخير مج ّرد جزء ال يتجزأ من نسق
الطبيعة ،بقدر ما صار عنص ًرا متعاليًا على النظام الطبيعي ،وتضافرت أمامه السبل لكي يعيد ترتيب منزلته ضمن هذا النسق ،ليك ّرس بفعل ذلك ضربًا من العالقة التراتبية أو قل الهرمية.
العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
قوة الكلمات :حوارات وأفكار ترجمة وتقديم :لطفية الدليمي الناشر :دار المدى
يضم الكتاب ترجمة مجموعة من الحوارات واألفكار لنخبة من المفكرين والفالسفة.
وتقول المترجمة في مقدمتها :شكلت عالقة األدب بالفلسفة وتأريخ األفكار واالشتغاالت
هاجسا لم تخفت جذوته المعرفية األخرى – إلى جانب عالم الرواية والترجمة والسيرة – ً المتقدة في عقلي منذ أن بدأت تعاطي الكتابة اإلبداعية بأشكالها المعروفة كافة ،وكان السياق الذي حرصت عليه دومً ا هو ترجمة مقاالت وحوارات وسير ذاتية ومذكرات وكتب تتوافر على رصانة بينة ممتزجة بطراوة في التناول وصلة حية بالحياة النابضة بعيدً ا من الصالبة والصرامة األكاديميتين لغرض جعل تلك الترجمات قادرة على طرق قلوب الق ّراء
ومالمسة عقولهم الشغوفة وإثراء حيواتهم الثمينة.
الكرنفال في الثقافة الشعبية المؤلف :مجموعة مؤلفين ترجمة :خالدة حامد تسكام الناشر :منشورات المتوسط
يعنى هذا الكتاب بالبحث عن تأصيل مفهوم «الثقافة الشعبية» ودراسة تجلياتها
عبر دراسات اختارتها مُ ِعدّ ة الكتاب ومترجمته بعناية فائقة ،ابتداء بسؤال جون ستوري:
ما الثقافة الشعبية؟ ومقال ميخائيل باختين عن تأثير الطقوس الرومانية ،مرورًا بدراسة كليفورد غيرتز عن صراع الديكة في بالي ،ثم األنثروبولوجيا الكولونيالية لعيد
مسلسل األضحى في مقالة عبدالله حمودي المهمة جدًّ ا ،وانتهاء بالبحث عمّ ا يجعل من ٍ تلفزيوني مندرجً ا ضمن الثقافة الشعبية في بحث إين آنغ المبدع عن أيديولوجيا الثقافة ّ الجماهيرية في مسلسل داالس.
ضارة في الفردوس عشبة ّ المؤلف :هيثم حسين الناشر :دار مسكلياني ،ودار ميارة
يتداخل الحب بالقهر في هذه الرواية بالضياع ،وباألسى في عالم من التناقضات
والنقائض ،يقع عدد من الشخصيات فرائس للخيبة والهزيمة والجنون .يبحث القتلة عن
تبرير يتق ّنعون به ،في حين يمضي الضحايا في رحلتهم إلى المجهول .تقتفي الرواية أثر
األكراد الذين نزحوا من مدنهم وقراهم البعيدة في الشمال السوري إلى ضواحي العاصمة ً أحداثا دامية وقع ضحيتها عشرات الضحايا، دمشق بعد سنة 2004م ،السنة التي شهدت وسُ ِجن األلوف ،وقد ُعرفت في األدبيات الكردية بانتفاضة 12آذار .هذه الرواية قطعة من الذاكرة الكرديّة ومن أحالم جيل تهافتت ّ كلها تحت سطوة االستبداد والتهميش ،قطعة من الذاكرة يرفعها الكاتب في وجه النسيان ،ح ّتى ال يتك ّرر ما حدث.
129
كتب
شاعر المتاهة وشاعر الراية عبدالوهاب أبو زيد
130
شاعر سعودي
فوزي كريم ،الشاعر والناقد العراقي المعروف، من الشعراء والكتاب الذين أحرص دائمً ا على اقتناء كل كتاب له تقع عليه يداي .وقد قرأت له عد ًدا من الكتب المهمة ،من بينها مجموعته الشعرية الكاملة الصادرة عن دار المدى عام 2000م ،وكتابه النقدي الذي كان مفصليًّا في تشكيل تجربتي الشعرية الشخصية، «ثياب اإلمبراطور» ،الصادر في طبعته األولى في العام ذاته ،و«تهافت الستينيين» (2006م) و«العودة إلى كاردينيا»(2004م) .آخر ما قرأته له هو كتابه الصادر ً حديثا «شاعر المتاهة وشاعر الراية :الشعر وجذور الكراهية» ،الصادر عن منشورات المتوسط2017 ،م، الذي يشكل على نحو من األنحاء امتدا ًدا ألطروحته النقدية في كتابه «ثياب اإلمبراطور» بشكل أساس، ومن ثم كتابه اآلخر «تهافت الستينيين». شاعر األسطورة وشاعر التاريخ
ووفيقة .أما التاريخ ،األقل التباسً ا ،فهو التاريخ بقبضة أحداثه
كان من الممكن أن يختار المؤلف «شاعر األسطورة وشاعر ً عنوانا لكتابه ،لكن ثنائية المتاهة والراية تبدو أكثر لف ًتا التاريخ»
الصارمة التي تناصب الخيال العداء ،وتجنح للواقع المدبب والفظ الذي يجعل من القصيدة ً بوقا ينفخ فيه رسائله وإشاراته.
األسطورة والتاريخ .يورد كريم في مطلع الفصل األول من كتابه،
قصيدته إلى معتركه الداخلي» ،في حين أن شاعر التاريخ أو
للسمع ،ودغدغة للحس ،وأبعد من تقليدية ومألوفية ثنائية الذي جاء تحت عنوان« :الشعر والتاريخ» ،عبارة أثيرة لديه وهي
أن «الشاعر ينتسب لألسطورة ،ال للتاريخ» .والشاعر المعني هنا هو الشاعر كما ينبغي أن يكون وليس كما هو كائن ،أي أنه
الشاعر المثال الذي يتحقق به وفيه المعنى الحقيقي للشعر .فما الذي يعنيه انتساب الشاعر لألسطورة في مقابل انتسابه للتاريخ.
األسطورة المعنية هنا ليست األسطورة بمعناها الظاهر والمألوف الذي نجده لدى شاعر مثل السياب الذي استحضر األساطير اليونانية وغيرها في شعره ،على سبيل المثال ،بل هي األسطورة
الشخصية التي يشكلها الشاعر في شعره بعيدً ا من الواقع
وحقائق التاريخ ،وتحويله وارتقائه بمفردات وأماكن وشخوص
حياته إلى مقام األسطورة كما فعل السياب مع جيكور وبويب العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
شاعر األسطورة أو المتاهة هو كائن «ينصرف في كتابة
ً شخصا كان هذا اآلخر، الراية «ينصرف إلى معتركه مع اآلخر؛ ً تاريخا» .وال يعني هذا بالطبع أن شاعر حزبًا ،عقيدة ،فكرة أو
المتاهة منفصل عن تاريخه وأحداث زمانه وهموم شعبه وأمته، وهو قد يعبر عنها في شعره ،أو لنقل :إنها تتسلل إلى شعره،
لكنها ال تفرض منطقها وأبجديتها عليه ،بل هو من يطوعها
ويعيد تشكيلها وصوغها لتتالءم مع مزاجه الشعري الذي يتعالى على شروط الزمن وإمالءاته الضيقة .وال يقتصر مفهوم شاعر
الراية على الشعراء الذين تطغى السياسة واأليدلوجيا أو الحزبية ً الحقا بااللتزام في شعرهم ،بل إنه يمتد ً أيضا ليشمل أو ما عرف
شعراء رفعوا راية الحداثة الشكلية ،المفتونة باللغة والمجاز والشكل الشعري أكثر من اهتمامها بالتجربة اإلنسانية والروحية
التي ال يصبح الشعر شع ًرا إذا تخفف منها وتخلى عنها .والرائد األول أو ربما األبرز لهذا النوع من الشعر وهذا الضرب من الرايات
عربيًّا هو أدونيس ،بحسب ما يرى فوزي كريم ،والمثال األبرز عراقيًّا من شعراء الستينيات العراقية هو فاضل العزاوي. جذور الكراهية
فيما يخص الشعر العراقي تحديدًا ،وفيما يرتبط بفكرة
«جذور الكراهية» التي ترد في العنوان الفرعي للكتاب ،يطرح الكاتب ويناقش فكرة مثيرة للجدل حول طبيعة الشخصية العراقية والشعر العراقي في آخر فصول الكتاب تحت عنوان:
«الشعر والكراهية»؛ إذ يشير إلى أن الشخصية العراقية «تتصف بتعارضات داخلية محتدمة» ،محيلاً إلى كتابات علي الوردي بهذا الشأن .هذه التعارضات وجدت لها انعكاسً ا لدى أبرز الشعراء
العراقيين كالجواهري الذي يعجز الكاتب كما يقول عن إحصاء ً انطالقا من ونتيجة «قطرات الدماء ،وفيض الكراهية» فيه ،وذلك النغماس الجواهري في تعارضات «المعترك السياسي» الذي
طالما كان محتدمً ا في المشهد في التاريخ العراقي المعاصر.
موجة شعراء المتاهة األولى تمثلت في كل من نازك
المالئكة والسياب وبلند الحيدري وحسين مردان ومحمود
البريكان ،الذين خص المؤلف كل واحد منهم بدراسة خاصة ووافية يبسط فيها األوجه التي تبرر إدراجهم ضمن هذه الفئة
من الشعراء .أما «ستينيو المتاهة» فكان هو عنوان الفصل الذي تضمن أسماء الموجة الثانية من شعراء المتاهة( ،والشاعر فوزي
كريم واحد منهم بالتأكيد) وهم كل من حسب الشيخ جعفر
وياسين طه حافظ وسركون بولص .أما شعراء الراية فتمثلوا في كل من عبدالوهاب البياتي ،الشاعر األممي الذي كان رائدً ا في
هذا المجال ،وسعدي يوسف ،الشاعر الذي رفع الراية القومية زم ًنا طويلاً فعرف بها وعرفت به« .ستينيو المتاهة» بدورهم
تمثلوا بشاعرين هما سامي مهدي وفاضل العزاوي الذي سبق أن احتل فصلاً موسعً ا في كتاب «ثياب اإلمبراطور» ،مما حدا
فوري كريم
على الرغم من أن الكاتب توخى الموضوعية ما استطاع في صفحات كتابه الشائق فإنه فيما بدا لي كان قاسيا على شعراء الراية إجماال ً فإن شاع ًرا كبي ًرا مثل محمود درويش ،على سبيل المثال ،كان
«شاعر راية» في مطلع تجربته الشعرية ،وظل كذلك حتى مطلع التسعينيات أو قبلها بقليل ،ليتحول إلى «شاعر متاهة» بامتياز.
وعلى الرغم من أن الكاتب قد توخى الموضوعية ما استطاع
في صفحات كتابه الشائق فإنه فيما بدا لي كان قاسيًا على شعراء اً إجمال ،وبخاصة حين يقول :إن «قداسة الفكرة لدى شاعر الراية
الراية يمكن االلتفاف حولها ومخاتلتها ،ما دام اإلنسان عنده
رخيص الثمن ،وال يتسم بقداسة» ،ص .228ختامً ا ،هناك بعض
الملحوظات المستغرب وقوعها في دراسة محكمة ،وإن لم يكن ذلك بالمعنى األكاديمي ،من كاتب وناقد قدير ذي تجربة طويلة
في الكتابة والنشر ،ومن ذلك تكرار بعض الفقرات المطولة (صفحتان على وجه التحديد) في موضعين مختلفين من
بالمؤلف لالكتفاء بسامي مهدي كنموذج ممثل لهؤالء الشعراء
الكتاب ،فما أورده الكاتب في مقدمة القسم المخصص للشاعر
وال يعني كونك «شاعر راية» أن تظل كذلك إلى األبد،
االشتراكية والجدانوفية (ص ،)121-120هو بعينه ما ورد في مطلع
وبعد انحسار موجة األممية التي سادت في خمسينيات القرن
المخصص لسعدي يوسف حين قال :إنه أصدر ديوانه األول عام
في كتابه الجديد.
فالشاعر الحقيقي يمر بمراحل مختلفة من التحوالت والتقلبات وربما االنقالبات الجمالية ،إن صح التعبير .فالبياتي مثلاً ،
العشرين وأوائل الستينيات طغت على شعره مسحة صوفية، وأصبح أقرب إلى أن يكون «شاعر متاهة» ،وكذلك األمر مع سعدي يوسف الذي خفت نبرة القومية العربية والنضال اليساري
في شعره في مراحل متأخرة من تجربته الشعرية الغنية بتنوعها وغزارة إنتاجها .وإذا ما خرجنا قليلاً عن إطار الشعر العراقي،
عبدالوهاب البياتي من تقديم وعرض لمنشأ فكرة الواقعية
القسم الذي خصصه للحديث عن تجربة نازك المالئكة (ص -37 .)38وهناك ً أيضا الخطأ في معلومة أوردها الكاتب في القسم
1952م بعد عامين من صدور ديوان البياتي الثاني ،والصحيح هو
أنه األول؛ فالبياتي أصدر ديوانه األول «مالئكة وشياطين» عام 1950م .ثم إن هناك كثي ًرا من األخطاء الطباعية التي ،لحسن
الحظ ،لم تنغص علي متعة قراءة هذا الكتاب الجدير والمستحق للقراءة المتأنية والمتأملة.
131
كتب
من األمومة إلى النسوية والحجاب
«إليزابيث بادينتر» سيدة المواجهات أسماء مصطفى كمال
132
مترجمة وكاتبة مغربية
«السلطة المؤنثة» ( )Le pouvoir au fémininهو عنوان أحدث كتاب لـلفيلسوفة الفرنسية «إليزابيث بادينتر» الصادر عن دار «فالماريون» ،ويتناول الحياة الشخصية والعائلية والسياسية لإلمبراطورة «ماريا تيريز» ملكة «المجر وبوهيميا» خالل القرن الثامن عشر ،ويعد الكتاب ً بحثا تاريخيًّا عن حقبة حكمها ،وتحليلاً لشخصيتها وطريقة إدارتها ،تتجمع خيوط مباحثه ،لتلتقي عند فكرة لطالما تناولتها بادينتر في كتاباتها ،وهي قدرة المرأة على القيادة ،ومساواتها بالرجل. كما أنها تعكس اهتمام الكاتبة بالبحث عن تاريخ النساء، والوثائق المتعلقة بهن ،من رسائل ،وغيرها .ويأتي الكتاب في وقت تخوض فيه بادينتر معارك بدأت بآرائها ،حول الحجاب في فرنسا ،وتطورت إلى تراشق مع اليسار الذي اتهمته بالتنكر للعلمانية ،وهو ما استتبع وصفها ،بـ«اإلسالموفوبيا» ترى بادينتر أن النساء مظلومات من زاوية أن كثيرات منهن
كما يلقي الكتاب الضوء على الحياة العائلية
الغالب ،حيث لم ينجُ من ذلك إال قليل ،كما في حالة مدام دي
والبنات ،إحداهن وأشهرهن ماري أنطوانيت التي صارت
قد قمن بأدوار مهمة ،لكن الوثائق التي تخصهن مفقودة، حتى رسائلهن ُت َتجاهَ ل أو ي َّ ُتخلص منها العتبارات اجتماعية في شاتلي التي وصلتنا كتابتها ،لمصادفة أنها كانت عشيقة فولتير، وبخالف هذه المصادفات تضيع الرسائل .وهي تصف النساء
بأنهن قارة سوداء في التاريخ ،وال يمكن العثور على كالمهن
إال في األدب .ولهذا السبب فقد بذلت الكاتبة جهدً ا كبي ًرا في
لإلمبراطورة ،التي كانت متزوجة من رجل طموح وطائش هو «فرانسيس األول» ،وكانت أُمًّ ا لستة عشر من األبناء ملكة لفرنسا قبيل الثورة .وتعرض بادينتر الوثائق التي تؤكد أنها «تمكنت أن توفق بين حيواتها الثالثة بوصفها زوجة وأُمًّ ا وملكة ،تواجه صراعات مميتة ،ال يمكن تصورها .وهو ما يبرهن على أنه ال الطموح وال الذكاء وال الرؤية الثاقبة
تجميع وقراءة وتحليل ما يزيد عن اثنين وعشرين ألف وثيقة اً متداول ،لتقدم تتعلق باإلمبراطورة ماري تريز معظمها لم يكن
وطريقة وضع القوانين هي التي تولد الفروقات» .وتؤكد أنها
كان والدها تشارلز السادس آخر وريث ذكر لعائلة هابسبورج؛
إمبراطورية أوربية من دون أن تخضع مهاراتها للتشكيك.
لنا صورة المرأة ُعيِّنت على رأس الدولة في ظروف صعبة؛ إذ
لذلك اضطر إلى إصدار مرسوم األمر العالي بتعيينها قبل وفاته، واستطاع أن يحصل على ضمانات لبقائها في موقعها ،وهي في المقابل ً وفقا للكاتبة قد أثبتت أنها «جديرة ببالدها ،وبملكيتها
ألراض شاسعة».
العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
لها جنس ،فالرجال والنساء لديهما أهداف في الحياة،
كانت سياسية حكيمة ،حكمت على مدى أربعين عامً ا أكبر
كما كشفت الوثائق عن الطابع المتحضر لشخصية «ماريا
تيريز» وقد شكك بعض فيما توصلت إليه بادينتر من خالل رصد إخفاقات لشخصية كتابها ،يتعلق معظمها ،بخسارتها لمساحات من أرض بالدها.
آراء «بادينتر» المفجرة للنقاشات ،واالنتقادات ،بدأت منذ
كتابها األول «الحب أكثر» ( )L›amour en plusالصادر في اً تساؤل حول ثمانينيات القرن الماضي ،الذي طرحت من خالله األمومة؛ هل هي غريزية لدى النساء ،أم أنها جزء من السلوك
االجتماعي يخضع للزمن واألعراف السائدة .وقد عادت لطرح السؤال نفسه بعد أكثر من ثالثين عامً ا ،وبعد أن صارت أُمًّ ا
لثالثة أبناء ،من خالل كتاب «الصراع» ( ،)le conflitالصادر عام 2011م ،وتساءلت فيه عن حقيقة ما يقال من أن األم مدينة ألطفالها بكل شيء :حليبها ،ووقتها ،وطاقتها ،وأنه من
ترى بادينتر أن النساء مظلومات وأن كثيرا منهن قد قام بأدوار مهمة، ً لكن الوثائق التي تخصهن مفقودة، َجاهل أو ُيتخ َّلص منها حتى رسائلهن ُتت َ العتبارات اجتماعية في الغالب بالنفي عادًّا إياهم مجموعة صاخبة ،لكن غير مؤثرة .وبالتالي
علينا معاملتهم كمواطنين وليس «كمجموعات مسلمة».
ً وسادسا :هل عدم موافقتنا لـبادينتر يعني دعمنا
المحتم أن تستسلم النساء لهذه العقبة .يبدو مبدؤها السابق ً متسقا مع إعالنها الحرب على الحجاب منذ حادثة «كريل»
«اإلسالمويساريين»؟
في عام 1989م؛ األمر الذي أثار حفيظة اليساريين الذين كانوا
صف «اإلسالمويساريين» ،لكن في الواقع يمكن أن نكون في
الشهيرة عندما منعت تلميذات محجبات من دخول المدرسة
يدعمونها بقوة ،ثم انقلبوا عليها ،بسبب موقفها ،وهو ما لم تغفره بادينتر فاتهمتهم بالتخلي عن العلمانية .ما وصف اً جدل بمناسبة القضايا اإلسالمية، بشمولية بادينتر أصبح أكثر
وهو ما خلق توترات قوية ،وانقسامات حادة بين من يتبنون آراءها وبين اليساريين. األخطاء الستة
لم تسلم آراء بادينتر من انتقادات متوالية؛ إذ رد المحلل
ويجيب بأنه بالنسبة لـبادينتر إما أن تكون في صفها أو في
آن واحد معارضين للطائفية اإلسالمية ،ولكل أشكال الطائفية ٍ
باسم الشمولية الجمهورية ،ومعارضين لـ«بادينتر» بسبب أخطائها الفادحة فيما يخص اإلسالم والحجاب والعلمانية حتى
«اإلسالموفوبيا».
كما علق المؤرخ وعالم االجتماع جان بوبيروت ومؤلف
كتب عدة حول العلمانية بأن بادينتر ادعت أن ماريان لوبان
هي الوحيدة التي تدافع عن مبادئ العلمانية ،في حين أنه
في فرنسا هناك محاضرات حول العلمانية بشكل يومي
السياسي توماس غينولي بأنه لن يقبل بشيطنة الطائفة المسلمة من الفرنسيين ،كما نشر اً مقال بعنوان« :األخطاء الستة إلليزابيث
بادينتر متهمة دائمً ا بالنخبوية المتشددة ،لبقائها دائمً ا خارج
فيما يخص الكتابة عن اإلسالم دون دراسته بجدية ،وفند غينولي
أرستقراطية القرن الثامن عشر .وفي هذا اإلطار تربط السياسية
بادينتر» وشبهها بـإريك زمور وميشال أونفري قائلاً :إنها مثلهم مزاعم بادينتر من خالل أسئلة أولها :هل يعدّ حجاب المرأة
ً خضوعا للرجل كما تزعم؟
إضافة إلى المقاالت الصحافية .وهنا تجدر اإلشارة إلى أن
الحركات المنظمة ،وأنها دائمً ا وحيدة ومترفعة ،وتعيش داخل كليمنتين أوتان مواجهات بادينتر ببعد طبقي؛ إذ إن اإلسالم دين
ألغلبية فقيرة تتشدد بادينتر في قضاياهم ،بينما دافعت عن
وأجاب بال ،مستندً ا ألنه تنفيذ ألمر قرآني ،ومن ثم تفعله
صديقها دومينيك ستروس كان المدير السابق لصندوق النقد
وثانيًا :هل ارتداء الحجاب انتهاك لمبادئ العلمانية؟
لكن بادينتر نفت دفاعها عنه ،وقالت :إنها فقط انتقدت
المرأة كجزء من عقيدتها.
الدولي في قضيته الشهيرة.
وأجاب بأن العلمانية في الدستور الفرنسي ليست إجبارًا على
مهاجميه بأنهم استبقوا المحاكمة.
السلطة العامة ،مع كل العقائد وأصحابها. ً وثالثا :هل المرأة في اإلسالم مطالبة بالمكوث في المنزل،
تدافع عن العلمانية في فرنسا ،وتعيد طرح أفكار تتعلق بالتنوير
الحياد الروحي للمواطنين داخل الفضاء العام ،بل حياد
كما تقول بادينتر؟ ويجيب بأن نسب النساء العامالت في الدول ذات األغلبية المسلمة ال تقول ذلك. ً ورابعا :هل «اإلسالموفوبيا» تستخدم لشيطنة من ينتقد اإلسالم كما تقول بادينتر؟ ويجيب ً أيضا بالنفي استنادًا لظهور المصطلح أوائل القرن العشرين ،وهو يعادل في معناه على
سبيل المثال معاداة السامية مع اليهودية.
وخامسا :هل «اإلسالمويساريون» أقلية مؤثرة؟ ويجيب ً ً أيضا
وفي الحقيقة ترى بادينتر نفسها واحدة من القلة التي
وسيادة العقل ،وعندما يعلو صوتها بمناسبة قضايا تتعلق بوضع المسلمين في فرنسا ،فإنها تبدو مناقضة ألطروحات
شبابها حول الحق المطلق في االختالف .وهي ال تنكر ذلك
وتعترف بأنها أساءت فهم هذا الحق في خضم ثورية جيلها الذي عاش جموح نهاية الستينيات .وتظل بادينتر واحدة من أكثر الشخصيات اشتبا ًكا ،وإثارة للجدل ،والدخول في معارك
فكرية ،في بلد تعيد طرح أسئلة ،كنا نعتقد أنها تمتلك إجابات ً خصوصا في الغرب. متماسكة،
133
كتب
«حافة الكوثر» لعلي عطا..
أحزان ليست عابرة شاكر عبدالحميد
134
ناقد مصري
تحتوي رواية «حافة الكوثر» لـعلي عطا على تمثيل مناسب للضغوط النفسية واالجتماعية واألسرية والمادية أو اجتماعها ً معا داخل إنسان واحد وعبر حياته ،فالسارد الرئيس ُي َ دعى حسي ًنا، ً ضغوطا اجتماعية شتى مصدرها وهو يعاني هنا األساس عالقاته بزوجته األولى (دعاء) ثم زوجته الثانية (سلمى) ثم بنته (حنان) كما أنه بعد أن انتابته نوبة االكتئاب األولى ،ألسباب عدة، شعر بأن اآلخرين يراقبونه ويتحدثون عنه ،عبر الفيسبوك وفي الحياة. الزوجة األولى ،كما جاء وصفها في الرواية زوجة مسيطرة جدًّا ،باردة جدًّا ،مستحوذة جدًّا ،وفي الرواية ً أيضا وصف
لحالة دعاء (زوجته األولى) بعد أن أخبرها بزواجه الثاني ،فقد
كانت تظل مستيقظة وال تنام حتى يستغرق في النوم وذلك كي
كان يحتاج ككاتب للحرية ،لكنه كان محاص ًرا في كل وقت ،بل في كل لحظة ،في بيته ،وفي عمله ،حتى في عالمه االفتراضي،
تراقبه وتمنعه من االتصال بسلمى زوجته الثانية .وهناك إشارات ً أيضا لذلك السأم الذي أصابه من الحياة بشكل عام ،سياسيًّا
وكذلك في عدم قدرته على كتابة ما يريد ،فهو في األصل مبدع،
الشغف بشكل عام كلية وشغفه في عالقته بزوجته األولى دعاء
الحياة ،ومن ثم فقد كان ينتابه شعور دائم بأن روحه ضائعة
ويتجلى فقدانه للشغف ً أيضا في أحالمه ،ومنها ذلك الحلم
حنين إلى الماضي هكذا انتابه ً أيضا نوع من الحنين إلى الماضي ،تجلى في صحوه وتجلى ً أيضا في أحالمه ،ازداد شوقه لبيتهم القديم،
واجتماعيًّا وثقافيًّا وإنسانيًّا ،وإشارات كذلك إلى أنه قد فقد
بشكل خاص «ذلك الشغف لم يعد له وجود يا دعاء ،ولذلك ً شغفا يالزمك على مدار أستثقل إجباري على تصنعه ليجاري الساعة ،ما دمنا غير متخاصمين».
الذي رأى نفسه فيه ،بينما كانت دعاء تنام بجواره ،إنه غير قادر على الوصول إليها ،كي يفي بوعد ما ،على الرغم من أنه يحفظ
رقم هاتفها وبيتها الذي جاء في الحلم ،إنها تنتظره فيه منذ
سنوات بعيدة ،وهو حلم تزداد حيرته في تفسيره .لكنه في رأي
حلم يدل على رغبته الخاصة في الحرية والتحرر ،وهي رغبة
كانت كامنة في أعماق ال شعوره ،عبَّر عنها في أحالمه هكذا كان يشعر بضغوط متواصلة تالحقه من كل صوب وحدب ،وقد العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
لكنه ضاع أو استنفد جهده في عمله الصحافي وفي متاهات وهائمة ،وأنه قد تأخر كثي ًرا في العثور عليها.
لعالم طفولته ،وشارع شمس الدين وكذلك حنينه لألشياء
واألماكن والبشر وكل ما لم يعد له وجود اآلن ،وقد تزايدت
مشاعره هذه مع زيادة االضطرابات في المجتمع ،حرق الكنائس
وقتل المتظاهرين ومشاعر الخوف العام وعدم األمن ،هكذا يزداد حنينه لمظاهر الريف التي تتالشى شي ًئا فشي ًئا ،للشوارع والمدارس واألسواق والطواحين والساحات الشعبية والمحالت
وتمثال أم كلثوم ،ولرموز مدينة المنصورة (بديع خيري -
السنباطي -علي محمود طه -أنيس منصور -كامل الشناوي... إلخ) وبقايا عبق ذلك الماضي الذي لم يزل موجودًا هكذا يقول:
«أماكن الطفولة تناديني وال تكف عن اقتحام ذاكرتي».
لقد أسهمت المدينة ،بكل ما عاناه فيها من تزايد شعوره
بالغربة واالغتراب ،ومن ثم كان يزداد شوقه واشتياقه لتلك
اللحظات التي كانت األشياء فيها شبه مؤكدة وشبه يقينية ،في حين أنه فقد اآلن الثقة وفقد اليقين ،بالنسبة لذاته وبالنسبة
لآلخرين وبالنسبة للحياة بشكل عام .هكذا وقع في براثن ما يمكن تسميته باالكتئاب المديني ،فاالكتئاب بطبيعته مرتبط
بالضغوط ،والضغوط تفاقمت مع الحداثة ،ومع زيادة المطالب االستهالكية للبشر ،مع المظاهر والسطح والبريق واالستعراض.
ويتفاقم شعوره بالغربة هذا حتى بعد أن دخل إلى
المصحة ،يشعر بأنه غريب في مكان غريب بين أناس غرباء. ويزداد شعوره بالغربة واالغتراب مع تذكره لتاريخ عائلته ألبيه
الذي دفن في مقابر الصدقة بالمنصورة ،وكذلك جدته وأمه على الرغم من وجود مقابر لهم في المنصورة ،ولتصوره أنه سيدفن ً أيضا غريبًا في مقبرة خاصة به على طريق الواحات بمدينة 6أكتوبر.
علي عطا
تحتوي «حافة الكوثر» على تمثيل مناسب للضغوط النفسية واالجتماعية معا واألسرية والمادية أو اجتماعها ً داخل إنسان واحد وعبر حياته غياب عن الوجود
يصف حسين في هذه الرواية نوبات االكتئاب العنيفة التي
يصف حسين حالته في الكوثر فيقول« :األيام هنا مملة،
مع صدور تأوهات عالية يسمعها من يحيط به ،وكذلك كيف
يومً ا ،وإنني حتمً ا سأعود إلى الكوثر ،وقد يطول بي المقام
البشر كتلك النوبة التي هاجمته حينما كان موجودًا في المسرح
أحالمه في حاالت اليقظة ،وأحالمه في حاالت النوم يقول:
تهاجمه ،وغالبًا ما تبدأ معه مصحوبة بشعور متزايد بالضجر
أنها تأتي إليه فجأة حتى لو كان موجودًا وسط جمهور غفير من
ومع ذلك أحن إليها ،وعندي ما يشبه اليقين أنني سأستعيدها فيها ،مقارنة بالمرات السابقة» .في الرواية سرد ألحالم حسين، ً ومستيقظا» ويقول ً أيضا« :الحلم هو بداية كل شيء «أحلم نائمً ا
الكبير في األوبرا في مؤتمر ملتقى الرواية ذات عام .أما ما بعد النوبات ،فهناك شعور عام بالضجر ً أيضا واإلحباط والعجز إلى
عندي» وتصوير لالكتئاب على أنه نوع من الغياب ،غياب عن
وفي الرواية وصف لطقوس االستيقاظ والنوم وتناول الطعام
النت االفتراضي ،أو بالهجرة خارج الوطن وإشارات إلى االكتئاب
حد االقتراب من االنتحار ،مع فقدان للشهية الخاصة بالطعام والحب وكل شيء.
والدواء ومشاهدة التلفزيون والزيارات في مصحة الكوثر،
ووصف كذلك لتحول الناس الراشدين الناضجين إلى حالة تشبه األطفال في كالمهم وسلوكهم واستسالمهم لقدرهم ،في
الكوثر هناك صغار وكبار ،رجال ونساء ،مسلمون ومسيحيون، أدباء ومحامون وضباط شرطة ومستشارون ،وأساتذة جامعات
ومديرو شركات وموظفون ،الفئات واألعمار والمستويات كافة، وكأن الكوثر هنا مجتمع صغير فيه انطوى المجتمع األكبر ،أو
كأنها مرآة ينعكس فيها حالة مجتمع يقف كله على حافة الكوثر
أو حافة المرض واالكتئاب واالنهيار ،في المستشفى ذهانيون ً أيضا فصاميون وعصابيون وسواسيون واكتئابيون ،وهناك
ضحايا حاالت جرائم غامضة يشار إليها عبر الرواية على نحو ً أحيانا أخرى. صريح حي ًنا ،وعلى نحو غامض خفي سريع
الوجود وعن الوطن وعن اإلحساس ،بل عن الواقع االفتراضي ً أيضا ،غياب باألدوية ،أو بالوجود في مستشفى ،أو في عالم بأنه «لئيم ال تعرف متى يهاجمك ،وعلى أي درجة من الضراوة سيكون ،وإلى أي مصير يمكن أن يدفعك» .وإشارات ً أيضا إلى
حاالت المبدعين والفنانين الذين أصابهم االكتئاب وانتحروا؛
صالح جاهين ،وسعاد حسني ،وداليدا ...إلخ.
في الرواية رصد لألحداث الكبرى في مصر منذ عام 1963م
(تاريخ ميالد السارد والكاتب) حتى تفجيرات المنصورة وثورة 30يونيو 2014م ،وهزيمة 1967م ،وحرب أكتوبر 1973م ،واغتيال
السادات 1980م ،وثورة 25يناير 2011م .هكذا حتى اآلن في الرواية تأكيد على قيمة الصداقة والتواصل حتى لو كان ذلك مع صديق واحد غائب أو افتراضي ،وتأكيد كذلك على قيمة الكتابة واإلبداع
كوسيلة وأداة مواجهة للكآبة واالكتئاب والحزن بمصادرهم الخاصة والعامة ً أيضا.
135
كتب
«ال ،السعودية ليست دبي».. شغف بازدهار الحياة المدنية في صورة فن وفلم وحب أوليفر وساندرا ستيلر
ألمانيان يقيمان في السعودية
ترجمة وتقديم :الهنوف الدغيشم
كاتبة سعودية
حينما سمعت عن كتاب أصدره زوجان
ألمانيان يحكيان تجربة حياتهما في السعودية،
شعرت برغبة عارمة في قراءته ،ومحاولة فهم كيف ً وبعيدا من سطوة اإلعالم ،إن يرانا اآلخر من داخلنا
ً وخصوصا أنني أمضيت أكثر من أمكنه التحرر منه،
ست سنوات في ألمانيا ،وكنت أشعر في مواقف
136
علي فهم العقلية األلمانية .ربما كثيرة أنه يصعب َّ يبدو العنوان «ال ،السعودية ليست دبي!» للقارئ،
هي حالة مقارنة اجتماعية ما بين السعودية ودبي، لكن من خالل تجربة حياتي في ألمانيا ،لطالما مررت
بمواقف كثيرة وقلت نافية ..ال ،السعودية ليست
دبي! األلماني البسيط ،يعتقد أن دبي إحدى واليات السعودية ،وليس ذلك فقط ،بل قطر وكل مدن اإلمارات هي مدن وواليات تابعة للسعودية ،لفظ الخليج في عقلية األلماني البسيط تعني السعودية
فقط ،وربما هذا ألسباب تاريخية قبل تبلور دول
الخليج واستقاللها.
يكتب الزوجان أوليفر وساندرا كتابهما عن
تجربتهما خالل خمس سنوات أمضياها في الرياض،
التي ما زالت مستمرة .يفرقان بين كتابتهما بنوع الخط ،ففي أثناء القراءة لنفس الموضوع ،يتغير
نوع الخط حسب الكاتب -الكاتبة ،فحينما نقرأ
لساندرا فنحن نقرأ بالخط المائل .وهذا يعكس الشخصية األلمانية التي تؤمن بالفردية واالستقالل.
سأحاول في هذا المقال أن أسلط الضوء على بعض الفقرات التي ُذكرت في الكتاب. العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
في مقدمة الكتاب يصف أوليفر بداية التفكير في الذهاب إلى
السعودية ،ويعنون هذا الفصل بـ«طريقنا إلى دولة مجهولة»، فيصف مشاعره وأفكاره التي تعكس القصور في معلوماتهما عن
السعودية :السعودية ،االسم يرنّ في أذني كأنه يذكرني بحكايات
ألف ليلة وليلة .أتخيل الصحراء والحرارة الشديدة ،وطعم الرمال بين أسناني ،ال أملك صورة واضحة عن السعودية ،كل ما في
علي ذهني عنها فراغ وغير قابل للتخيل .لذلك ،حينما عرض َّ العمل في السعودية ،كان صعبًا علي ،أنا وشريكتي ساندرا، (التي أصبحت زوجتي فيما بعد) أن نتخذ القرار ون ّتجه للسعودية. كانت ليلة صعبة لم َأنمْ فيها؛ ألن غدً ا هو تسليم قراري بقبول
العرض أو رفضه .اتخذنا القرار بقبول العرض ،لكننا اتخذناه بوصفه مغامرة في حياتنا.
تساءلت :هل يوجد ستاربكس هناك؟
السعوديون ال يلقون أهمية للدقة في المواعيد ،مواعيد
فتحت اإلنترنت وبحثت في خرائط غوغل ،وكتبت
االجتماعات ذات مدى واسع ،وطبيعة العمل مختلفة عن ألمانيا،
أبحث عن أسماء المطاعم التي أعرفها ،كلها موجودة وبفروع
بوصفي مستشارًا يقولون :إن شاء الله ،لكنهم ال يعملون عليه؛
ستاربكس ..تفاجأت بعدد الفروع الكثيرة في الرياض ،بدأت
كثيرة .كانت المعلومات في اإلنترنت عن طبيعة الحياة فيها شحيحة .لهذا قررنا كتابة الكتاب؛ ألنه بعد خمس سنوات من الحياة في السعودية ،لم نعش الحياة التي توقعناها وخفنا ً إطالقا الصورة النمطية التي كان اإلعالم الغربي منها ،ولم نر يصورها لنا .كتبنا هذا الكتاب عن تجربتنا الشخصية واحتكاكنا مع ثقافة مختلفة ،إننا ال نهدف ألي نقد سياسي أو اجتماعي.
ال يوجد إستراتيجية وال خطة واضحة ،وحينما يأخذون رأيي لذلك ال أفضل المناقشة بل العمل مباشرة من دون اجتماعات
وال مناقشة خطتي مع أحد ،وبعد التنفيذ حينما يرون النتائج
تقول لهم هكذا! السعودي ال يقول :ال ،لمديره ،وال يناقشه،
لكن هذا ال يعني أنه سينفذ ما يقول! بيئة العمل ليس فيها نقد
مباشر ،أو وضوح في تحديد الخطأ ،بل تطفو المجامالت ويذوب
الموضوع .لدى القرارات الملكية ميزة وهي سرعة تنفيذها من دون بيروقراطية ،مثلاً :تغيير إجازة نهاية األسبوع من الخميس
حينما وافقت على العمل كمستشار في إحدى الشركات في ً ضابطا السعودية ،فهذا يعني أن تترك ساندرا عملها بصفتها
والجمعة إلى الجمعة والسبت تم خالل ستة أيام .لو كان هذا
أن السعودية ليست حكاية من ألف ليلة وليلة ،وليست لورنس
كثيرة ،وبرلمان ،ونقاشات في التلفاز قبل اتخاذ القرار .الشركات
وتأتي بصفتها مرافقة .بعد ستة أشهر في السعودية ،أدركت
العرب ،أو مجرد مخزن كبير للبترول .قررت البقاء في هذا البلد .فلقد سحرتني صحاريه الالمتناهية ،ونزعته المأسورة
باالستهالك ،وأهله الفخورون والمتفردون .لقد قررت البقاء في
التغيير في ألمانيا الستغرق أشه ًرا ،ولم َّرت اإلجازة على لجان الغربية في السعودية لم تستطع تطبيقه إال بعد أسبوعين. قيادة السيارة في السعودية
هذا البلد ،رغم فهمي وإدراكي لصعوبة عملي مع مجتمع هو
من أكثر الموضوعات التي تطرق لها الزوجان في كتابهما هو
أن على ساندرا أن تترك عملها ،وأنه علينا أن نتزوج لتستطيع
فيشرح أوليفر بتعجب كيف أنه يموت في السعودية يوميًّا
األكثر مقاومة للتغيير والتحسين في العالم .هذا القرار يعني الحصول على فيزا.
العمل مع السعوديين
سلوك قيادة السيارة لدى السعوديين:
ً شخصا؛ بسبب حوادث السيارات ،من بين ٢٩مليون ساكن، ١٩ منذ ٢٠٠٣م وعدد الحوادث تتضاعف .في كل بيت يوجد أكثر من سيارة ،وبسبب عدم السماح للمرأة بقيادة السيارة ،فهي
يتطرق أوليفر في الكتاب في أكثر من موضع إلى الكرم
تعتمد على أوالدها األطفال الذكور في مواصالتها مما يزيد نسبة
المفطح أحد أهم الوجبات التي تعبر عن الكرم والضيافة ،لحم
لم يجرب قيادتها من قبل في بلدته الفقيرة .يوجد قواعد مرورية
السعودي فيقول :الشعب السعودي شعب مضياف جدًّا، الخروف يوضع بأكمله على األرز ،ويكون األكل في األرض وبال
مالعق ،وال حتى سكين للتقطيع ،وفي اللحظة التي أفكر فيها
كيف سأقطع بيدي اليمنى فقط ،من دون استخدام اليسرى، قطعة لحم حارة ،إذ إن استخدام اليد اليسرى غير مرغوب
فيه ،أجد قطع لحم تتهاوى في صحني معبرين عن حفاوتهم واهتمامهم ،غالبًا ما تكون القطعة الممنوحة للضيف هي أفضل
قطعة لحم ،وحينما أقترب من انتهاء صحني ..تتهاوى قطع أخرى من كل جهة ،إنهم يخدمونك قبل أن تسألهم.
أوليفر ستيلر :السعودي ال يقول :ال، لمديره ،وال يناقشه ،لكن هذا ال يعني أنه سينفذ ما يقول! بيئة العمل ليس فيها نقد مباشر ،أو وضوح في تحديد الخطأ، بل تطفو المجامالت ويذوب الموضوع
الحوادث ،أو تعتمد على سائق أجنبي لقيادة سيارة كبيرة وفاخرة في السعودية لكنها أشبه باإلرشادات وليس القوانين ،يمكن
وصف القيادة في السعودية بالخطرة على الحياة .لذلك ال أفضل أن أقود سيارتي وحيدً ا ،وأفضل أن يكون معي مرافق حتى يكون
معنا أربع أعين ،حتى إنني اتفقت مع أحد زمالئي في العمل أن
نذهب دائمً ا معً ا في سيارة واحدة ،لذلك ساندرا ال تفتقد قيادة ً إطالقا. السيارة
المكالمات وتبادل الرسائل ممنوعة في أثناء قيادة السيارة،
ومع ذلك كل يجريها .بعضهم يكون معه أكثر من جوال، فيتحدث بجوال من خلف المقعد ،ويرسل رسائل بالجوال ً أحيانا نلعب أنا وساندرا لعبة اكتشاف كم سائق حولنا اآلخر. ليس بيده جوال؟
اإلعالم الغربي ..والواقع المعيش
يوجد في السعودية كثير من الخدم ،من جنسيات مختلفة،
يعيشون مع العائلة السعودية :خادمة أو مربية أو ممرضة
137
كتب
للنساء ،أو سائق أو حارس للرجل .حياتهم متواضعة وربما في
الخرز الملون حتى ال يفقدن هوية مظهرهن الخاصة.
شاكرين للفرصة التي جعلتهم يعملون في السعودية .دائمً ا
على معصمهن ساعات فاخرة ،وعلى أكتافهن يحملن حقائب
أعيننا حتى بائسة ،لكن ،كل الخدم الذين تواصلنا معهم كانوا ما طرح موضوع تعامل العرب مع العمالة للنقاش في أوربا، ولطالما سمعنا عن التعامل السيئ معهم .خالل السنوات الخمس لم نشاهد أو نسمع عن حالة إساءة للعمالة ،صحيح
أنهم يتقاضون رواتب منخفضة حسب مفهومنا األوربي ،لكننا حينما نشاهد أنه هناك مئات األلوف من العمالة من شرق آسيا وإفريقيا يسعون للدخول إلى السعودية سواء بطريقة نظامية أو
مخالفة ،فهذا يعني أنهم يجدون في هذا البلد فرصة معيشة جيدة وآمنة أكثر من بلدانهم .في السعودية لم نسمع عن جرائم
عنف أو سرقات ،حتى إننا ال نقفل باب بيتنا وال سيارتنا. المرأة السعودية
تتحدث ساندرا في الكتاب كثي ًرا عن المرأة السعودية:
علي في البداية أن أتكيف على مظهر النساء الموحَّ د في كان َّ
السعودية ،كل النساء مغطيات بالسواد .عالم النساء يبدو لي اً ومجهول .ومع هذا الحظت أن النساء يحاولن بعيدً ا ،وغريبًا،
أن يتخلصن من مظهر اللبس الموحد بإضافة بعض األلوان أو
138
العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
تحت العباءة تلمع األحذية األنيقة ،وكثير من األحيان أرى
جلدية ثمينة تحمل توقيع دور األزياء الراقية .في البداية كان في ّلي على الحجاب ،بتأثير من اإلعالم الغربي الذي ذهني حُ كم أو ّ
دائمًا ما يربط حجاب المرأة بكلمات مثل( :القمع -اإلجبار)،
و(التخلف) ،و(األصولية) .هذا الحكم األولي على اآلخرين مع الوقت واالحتكاك بالنساء هنا سرعان ما تالشى؛ ألني عرفت أن كثي ًرا من النساء يتحجبن برغبتهن التامة تعبي ًرا عن هويتهن
الدينية .حتى إنني التقيت أختين إحداهما تتحجب واألخرى ال تفعل ،والعائلة منحت كلاًّ منهما حق االختيار .مع الوقت ،بدأت
أرى اإلعالم الغربي بعيون أخرى؛ إذ يحاول تصوير األمور بطريقة
ساندرا ستيلر :لماذا يؤمن كثير في الغرب بأن المرأة المتحجبة تعني أنها مقموعة؟ هل يصنفون عقل المرأة بشكل انطالقا مما ترتديه إلى مؤمنة وغير عام ً مؤمنة ،ومحافظة أو متحررة؟
«ال ،السعودية ليست دبي» ..شغف بازدهار الحياة المدنية في صورة فن وفلم وحب
سلبية ومن وجهة نظر واحدة؛ إنها أحكام أولية وغير متفهمة للثقافات األخرى .هذا ما يجعلني أتساءل :لماذا يؤمن كثير
في الغرب بأن المرأة المتحجبة تعني أنها مقموعة؟ هل يمكن
لهم الحكم على المرأة خارج إطار مالبسها؟ هل يصنفون عقل ً انطالقا مما ترتديه إلى مؤمنة وغير مؤمنة، المرأة بشكل عام
محاولة تغيير الصورة المرئية عن اآلخر خالل السنوات الخمس الماضية التي أمضيناها في
ومحافظة أو متح ِّررة؟ ولماذا تخاف الدول الغربية من األجانب
السعودية ،يبدو جليًّا التغير في الفصل الحاد بين الرجل
يهمهم ماذا يوجد في رأس المرأة ،لكن ماذا تضع على رأسها؟
بائعات ،صحيح أنها ال تخدم إال النساء أو العائالت .رغم
المختلفين عنهم؟ أال يبهجهم التنوع الثقافي المصاحب؟ ال
والمرأة .فاليوم يعمل كثير من النساء في السوبر ماركت
تحت العباءة والغطاء تحدثت مع نساء واثقات ولهن طريقتهن إنسانا أن ي َ ً ُنظر لما تفكر به ال في التفكير ،ومن حقها بوصفها
الفصل الحاد بين الشباب والشابات في المقاهي والمطاعم،
بما ترتديه.
مجلس الشورى
منذ ٢٠١١م سُ مح للنساء بأن يكنّ عضوات في مجلس
لكن يبدو واضحً ا كيف يتواصل بعضهم مع بعض بتبادل رسائل الجوال .إن التقدم والتنوع التكنولوجي في التواصل
يذ ِّوب حدة التراث وصرامته .حينما قدمنا هنا ،فكرنا في أننا سنبقى سنتين ،مضى اآلن أكثر من خمس سنوات ،وال
يوجد لدينا خطة للعودة قريبًا .األشياء واألحداث التي كانت
الشورى .لقد جاءتني الفرصة مع نساء غربيات لزيارة مجلس
توترنا في البداية ،اعتدنا عليها ،بدأنا نتأقلم على العقلية
العالي لنساء مجلس الشورى ،لقد كنّ يدركن تأثيرهن ،وكنّ
إننا نندهش بكمية اعتزازهم بتراثهم ،رغم كل التطورات
الشورى ،والتحدث مع النساء .لقد تفاجأت بمستوى التعليم
السعودية ،حتى لو أنه ال يمكن أن نفكر مثلهم.
واقعيات جدًّا ومدركات للواقع السعودي .كنّ متحمسات
السريعة التي مروا بها.
واقعي ،بما يتناسب مع متطلبات المجتمع .ويرغبن في القيام
ويصعب المقارنة بينهما.
بشكل بطيء بما يتناسب مع رغبة المجتمع.
بساطة القانون فيها ،فال يوجد قوانين بالتفصيل ،مجرد
ومنفتحات على العالم ،ويرغبن في تحدي الظروف بشكل
المجتمع السعودي مختلف تمامً ا عن المجتمع األلماني،
بإصالحات مثل السماح بقيادة المرأة للسيارة ،لكن يفضلن
كنا نتصور أن السعودية دولة منغلقة ،لكن بسبب
صحة المرأة السعودية واالستهالك
يوجد في السعودية جميع الماركات الغالية ،واالستهالك
عناوين رئيسة ،هذا الجانب يمنح مدى واسعً ا من الحرية،
فيمكنك في الشركة عمل كثير من التطوير من دون أن يحدك كثير من القوانين المفصلة كما في ألمانيا التي تسبب كثيرًا
عال جدًّا؛ بسبب سهولة الحصول على المال ،ووفرته بيد ٍ ّ محل ذهب المرأة السعودية .النساء السعوديات تنتقل من
ونتحمس لتطور النقاشات فيها في ألمانيا ،لم تعد تعنينا،
المفاجئة عن السعودية هو مستواها وخدماتها الطبية العالية.
والنقاشات في البرلمان ،واالجتماعات والقرارات ،اآلن أصبح
كلمة غريبة ،فبسهولة يمكنك الدخول للطبيب المختص .في
تغيير الصورة المرئية عن اآلخر ،وال يعني ذلك تقبله بشكله الجديد .فاأللمان ليسوا أكثر تقبلاً لآلخر من السعوديين.
من البيروقراطية واإلعاقة .كثير من األشياء التي كنا نتابعها
لمحل ذهب آخر وزوجها يسير خلفها .من أكثر األمور اإليجابية
مثل :حجاب المسلمات في ألمانيا ،وكثير من المقاالت،
األجهزة الطبية المتقدمة متوافرة ،والخدمات الطبية ذات ً مجانا لكل السعوديين .االنتظار جودة عالية .الخدمات الصحية
هذا الموضوع ال معنى له لدينا؛ ألنه في الحقيقة هو محاولة
كل قسم طبي أجهزة أشعة وفحص خاصة به .مرت ساندرا
يوجد في السعودية زيادة عدد الشباب المتعلمين
أنه تلقى تعليمه في الخارج كان يتحدث معي ،ويشرح أسباب
بالتطور العالمي .لدينا فضول لنرى السعودية بعد سنوات،
وبسبب الخدمات الجيدة تفضل النساء الغربيات
وبالوقت الذي سنمضيه في هذا البلد الذي أحببناه ،ولدينا
بحالة مرضية وحينما توجهنا للمستشفى تلقينا عناية عالية ً ولطفا من األطباء والممرضات .لكن الطبيب السعودي رغم
بشكل جيد ،ولديهم أفكار وطموح لعمل شركات .والدولة ٍّ تحد كبير في الموازنة بين اإلسالم التراثي واللحاق لديها
المرض ،وليس مع ساندرا المريضة.
ال نعرف كم سنبقى ،لكننا مسرورون بالوقت الذي أمضيناه،
الوالدة في الرياض .المستشفيات تقدم األدوية بالمجان،
والصيدليات تعرض جميع األدوية حتى المضادات الحيوية من دون وصفة طبية.
شغف برؤية ازدهار الحياة المدنية في صورة فن وفلم وحب ،ومزيد من الحرية للمرأة ،الذي بدأنا نراه.
139
كتب
«العربية هذه اللغة الشريفة» دراسات في اللغة والنحو والمعجم والساميات محمد ضياء الدين األسود
كاتب سوري
مقاالت كتبها الدكتور رمزي هذا الكتاب هو مجموع ٍ
مقالة البعلبكي خالل مسيرته العلمية الحافلة باإلنتاج .كل ٍ موضوعا مستقلاًّ ُ ، ً ونشرت في مكان وزمان منفصلين، ُتعالج
وكان الدكتور بالل األرفه لي رئيس قسم اللغة العربية في الجامعة األميركية ببيروت ،قد جمعها في سفر واحد، وتعاهدها بالتحرير والتنقيح ،ثم نشرها في مركز الملك
فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية .ومن خالل عنوان
140
الكتاب ومطالعته يتبين أنها مقاالت متنوعة بين اللغة والمعجم والنظرية النحوية والساميات .تشهد هذه المقاالت بغزارة معرفة الباحث ،وعلو كعبه ،وطول باعه فيما كتب. ولعل عنوان الكتاب الذي أُدرجت تحته هذه المقاالت وهو
عليها من دون أخواتها الساميات ،ثم نزل بها كالم الله ،فازدادت ً شرفا على شرف؟!
«العربية هذه اللغة الشريفة» يستحق أن نقف عنده هنيهة، َ ُ ً اللغة وهي الباحث هذه وخصوصا عند الصفة التي ألبسها
أقول :لعل االحتمال الثاني هو األقرب لمقصد الرجلين؛
جني هو من أطلق هذه الصفة على العربية ،ثم أخذها الباحث
أوضح في المقالة نفسها أنّ مميز العربية هو النظام اللغوي
«الشريفة» .يذكر الباحث في مقالته عن نظرية الشدياق أنّ ابن عن استلهام من عبارة ابن جني؛ يقول ابن جني« :وذلك أنني إذا
تأملت حال هذه اللغة الشريفة ،الكريمة اللطيفة ،وجدت فيها من علي جانب الفكر.»... الحكمة والدقة ،واإلرهاف والرقة ،ما يملك َّ
ومن الواضح أنّ ابن جني خلع على هذه اللغة صفات كثيرة ،بيد ّ «حاق أن الباحث وقع اختياره على هذه الصفة ،التي جاءت في
ألنّ كليهما ألمح إلى نظرته حول هذه القضية؛ أما ابن جني فقد
الدقيق ،والحكمة الكامنة في استعمال كل تركيب بعينه ،وأما
الدكتور البعلبكي فيذكر في مقالته التي يتحدث فيها عن منزلة العربية بين الساميات ،أنّ المنهج المرتضى في الحكم على تميز
لغة في أي جانب إنما هو المنهج اللغوي الذي يستند إلى ثوابت
من ُصلب اللغة ،ال من شيء خارج عنها ،ثم يذكر بعد ذلك أنّ العربية تف َّردت بين أخواتها الساميات بكثير من المزايا التي ُتنسب
موضعها» كما يقول عبدالقاهر الجرجاني ،ولو أنك أخذت صفة الكريمة مثلاً أو اللطيفة ،لما وقعت موقع «الشريفة» ولبقيت
للغة السامية األم.
التشريف الديني؟ بحيث أنّ الله ش َّرفها وأنزل كالمه بها ،وجعلها
وإتقانها على مستوى جيد ،وال سيما علم النحو ،فهو أكثر علوم
ِّ متمكنة في موضعها .ولنا أن نتساءل بعد َقلِقة مضطربة ،وغير ُ الباحث -بهذه الصفة؟ أهو ذلك :ماذا يقصدان -ابن جني ومِن ورائِه لغة الدين الخاتم ،ثم تحدَّى بها العرب أولي الفصاحة والبيان َّ والل َسن ،أم أنها تتميز بخصائص لغوية ،ومزايا صرفية ،حافظت العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
ِّ المتعثر لتعليم العربية في يسلط الباحث الضوء على الواقع المؤسسات األكاديمية ،وإعراض الطالب عن ُّ تعلم لغتهم األم، العربية تجريدًا ،فلذا كانت الجفوة بينه وبين متعلمي العربية كبيرة. ويعزو الباحث هذه الجفوة إلى تركيز النحويين على مسألة التعليل
في إطالق أحكامهم النحوية ،في حين أنّ التعليل يغير المنهج من الوصفية إلى المعيارية ،الذي كان على النحاة أن يتجنبوه ،ويكتفوا
توصيات للتحسين من واقع بوصف الظواهر .وفي ختام المقالة يذكر ٍ
العربية المتردي في أوساط المتعلمين ،فيدعو إلى تخليص النحو من شائبة «التعليل»؛ ألنها ِّ تنفر الطلبة من لغتهم ،والتوجه نحو اعتماد المعنى بديلاً عن التعليل ،كما فعل البالغيون؛ ألن الغرض الذي وضع من أجله علم النحو هو دراسة المعنى من جوانبه كافة،
هذا باإلضافة إلى التخفف من وطأة القيود التي وضعها النحاة،
كـ«عصور االستشهاد» أو «الوجه الضعيف» .ومما يُستحسن لدارس العربية ً أيضا أن يتعلم لغة سامية إلى جانب العربية؛ إلدراك الظواهر اللغوية بشكل أعمق وفي إطار تاريخي مقارن.
رمزي بعلبكي
العربية في جمعية األمم
ويُعالج الباحث أهم االعتراضات التي وُجِّ هت إلى اللغة
العربية إبّان الجدال الدائر في جمعية األمم المتحدة حول قبول
اللغة العربية في الجمعية وجعلها لغة رسمية ،وكان االعتراض
آنذاك هو أن العربية تنتمي إلى القرون الوسطى ،وال تصلح أن تكون لغة حداثة ،أو تواصل في المنتديات الدولية .فرأى أن العربية فيها
من المرونة ما يسمح أن يُطوع أساليب جديدة تستجيب لمقتضيات
التخاطب السياسي والدبلوماسي ،ففي معظم الوثائق الدبلوماسية العربية قد ال يعرف القارئ إن كان النص ُكتب بالعربية من أصله
أو ُترجم إليها ،بل إن العربية قد استخدمت من المصطلحات الدبلوماسية ما يصعب ترجمته بكامل داللته إلى لغة أجنبية؛ مثل:
جاللة ودولة ورفعة وغبطة وسعادة وسمو ومعالي وعزة وعصمة.
يسلط الكتاب الضوء على الواقع المتع ِّثر لتعليم العربية في المؤسسات األكاديمية ،وإعراض الطالب عن تعلم لغتهم األم ،وإتقانها على مستوى جيد ،وال سيما علم النحو ،فهو أكثر تجريدا ،فلذا كانت الجفوة علوم العربية ً بينه وبين متعلمي العربية كبيرة القسم الثالث من الكتاب يضم مقاالت في التأليف ّ يستهله الباحث بمقالة عن نظرية الشدياق االشتقاقية، المعجمي،
ولقد كان الباحث موضوعيًّا عندما رأى في ختام مقالته أنه ال بد الذ ِّب عن لغتنا ،فهل َّ من نقد ذواتنا العربية ،عالوة عن َّ ذللنا سُ بُل
المعجمية الثالثية السابقة ،التي بنى عليها المعجميون العرب
لخطر اللغات األجنبية؟ فنحن نقدم للعالم ومنظماته صورة غير
مارون عبود على نظرية الشدياق الذي جعل كفة معاجم اللغة
االنطالق للغتنا حتى في مجتمعاتنا ،وهل َّ وفرنا لها وسائل التصدي موحدة عن لغتنا .وهل لدينا واقع مصطلحي موحَّ د؟
يجزم الباحث في مقالته عن التقعيد النحوي بأنّ نشأة النحو ً عربية خالصة ،وهو ابن بيئته ،وذلك لسببين: العربي كانت نشأة
وهي نظرية جديدة ،تقوم على الثنائية اللغوية ،مُغايرة للنظرية
معجماتهم .لقد كان الباحث موضوعيًّا حين سرد في البداية إطراء
كلها تشول إذا ما وُزنت بسر الليال للشدياق .ثم بعد ذلك وضعها
على ميزان النقد ليرى هل يمكن عدها نظرية ثابتة ،وخطوة جديدة في مجال المعجم ،ليتبيَّن له في نهاية المطاف «أن نظرية الشدياق
أولهما -أنَّ المصطلحات في كتاب سيبويه كانت في طور
االشتقاقية قائمة في جوهرها على االفتراض ،وفي تطبيقها على التعسف ،وإن كان فيها ومضات خلاَّ قة ،ومالحظ صائبة ،وجهد
ً ترابطا منهجيًّا ،يجعله ثانيهما -أنّ المُتأمل كتاب سيبويه يرى
العامة الكبيرة» ومما يوجهه إلى تلك النظرية من سهام النقد هي
النحوية العربية بشكل دقيق ،وال يستقيم في المنطق أن يكون
أن تقوم عليها لغة متكاملة ،وأن معظم التأويالت التي يذكرها
الوالدة ،فقد يُعبِّر سيبويه عن المصطلح بجملة كاملة ،وهذا دليل ً ُ مقتبسة من نحو أمة أخرى. وليست على أنها محلية النشأة، ي ِّ ُسلم بوجود خطة في ذهن سيبويه تقوم على تحليل التراكيب
ذلك كله لنظام مُقترض من لغة أخرى ،وطبقه على العربية .وال ينكر الباحث ظهور األثر اليوناني في دراسة النحو العربي وغيره
من العلوم العربية ،من حيث تناول األشياء وتحليلها ،وهذا أمر ّ مستقل تمامًا عن مرحلة النشأة.
دائب في التقصي والمقارنة والنفاذ من الجزئيات إلى الخطوط
أن المعاني التي يُرجع إليها األصول الثنائية قليلة جدًّا ،وال يمكن
الشدياق ال تخلو من التكلف أو التمحل .ثم إن الباحث في نقده لنظرية الشدياق ال يبخسه ًّ حقا ،وال يغمطه فضلاً ،بل يُشيد بجهده ،ويُق ّر بنصيبها من الصحة في بعض الجوانب ،بيد أنه يرى
أنها ال يمكن أن تكون نظرية راسخة ثابتة.
141
نصوص
حين تتوقف ساعة العقل عائشة البصري
روائية وشاعرة مغربية
رفع رأسه إلى شاشة اإلعالن عن مواعيد الحافالت ،تفحصها مليًّا ،ثم تأفف بصوت مرتفع :أُ ّف !..يبدو أن الحافلة تأخرت مرة
أخرى. ً َ َ ترين إعالنا يخص الحافلة القادمة من الجزيرة التفت إلى السيدة المنتظرة بجانبي وسألها :من فضلك ،ال أرتدي نظاراتي ،هل الخضراء؟
ْ ْ وأجابت بصوت حزين :ال أرى اقتربت منه ابتسمت المرأة الستينية بمودة في وجه الرجل السبعيني ،وكما لو أنها تعرفه، ً َ حافلتك .اسأل الجابي هناك وراء الكونتوار. إعالنا يخص مع أنه في تلك اللحظة بالذات أُعلن عن الوقت المحدد لوصول الحافلة نفسها.
ما َه َّمنيُ ، قلت لنفسي.
ُ ُ ُ ً ً توقفت عند الرصيف رقم 12كما هو مكتوب واتجهت أنا إلى محطة اإلركاب. كالما لم أفقهه، متمتما تركته يتجه نحو الكونتوار
ُ انتبهت ،ما زال على وقت السفر أكثر من ثالثين دقيقة ،وقت كاف لتناول فنجان على بطاقة سفري .وقفت أنتظر قدوم الحافلة. قهوة وقطع من« ْ ُّ تخصص مقصف محطة غرناطة .في الوقت المحدد دخلت الحافلة ،نزل المسافرون ،وترجل السائق. التشو ُّرو»،
142
ً ً واحدا: واحدا من خالل زجاج المقصف ،رأيت الرجل يتوجه إلى السائق ويسأله وهو يتفحص وجوه المسافرين القادمين هل هذه الحافلة قادمة من الجزيرة الخضراء؟
أجاب السائق بتعاطف غير مبرر: ال ،إنها قادمة من طريفة.
لكن الالفتة تحمل اسم الجزيرة الخضراء.
احتجَّ الرجل بإصرار.
أجاب السائق بهدوء:
أخبرتنا الشركة أن ال مسافرين في محطة الجزيرة الخضراء ،فألغيناها من خط السفر هذا اليوم. ازداد احتجاج الرجل:
كيف تلغون رحلة دون إخبار سابق ،ابنتي َن َوت السفر على هذا الخط.
ِّ ثم حك رأسه مخم ًنا:
تأت ابنتي هذا الصباح ،الحمد لله ،اعتقدت أن الحافلة تعرضت لحادثة في الطريق ،ال يهم ألاّ تأتي ابنتي في هذه لهذا لم ِ
الرحلة ،المهم أنها بخير .ثم استدار نحو منظفة كانت منهمكة في جمع بقايا طعام على مقعد عريض:
ها أنت ترين يا بيبا ،لم تكن حادثة سير ما َّ أخر ابنتي ،إنما سوء تدبير شركة النقل .في المرة القادمة سأنصحها بأن تأخذ حافلة من شركة ْ َاريس ،شركة ميغا ُب ْ بالي ْ وس ال تحترم المسافرين.
َّ صدقت المنظفة على كالمه بحركة من رأسها وتابعت عملها .اختفى الرجل في الممر المؤدي إلى باب الخروج .في الحافلة
يجر بيننا ،قالت: كانت جارتي هي نفس المرأة الستينية التي سألها الرجل أول األمر .دون مناسبة ،وكتكملة لحديث لم ِ
أتعرفين أن العديد من الناس يفقدون الذاكرة من األلم والصدمة؟ عقل هذا الرجل أصابه التلف لكن ذاكرته ترفض النسيان.
النسيان يساعد الذاكرة على تنظيف مشاعر الحب أو الكراهية المفرطة؛ كي ال يجن العقل .كل جمعة يأتي الرجل المسكين إلى
هذه المحطة للسؤال ،بنفس اللهجة واإليقاع ،وفي نفس التوقيت ،عن الحافلة القادمة من الجزيرة الخضراء ،التي كان من المفروض أن تحمل ابنته إلى غرناطة ،منذ خمس سنوات .لم يكن لديه في هذا العالم غير تلك االبنة ،التي كانت تعيش مع أمها العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
المطلقة .وكانت نهاية األسبوع حصة الوالد من ابنته .منذ ذلك الحين توقفت ذاكرته عند هذه اللحظة ،لحظة أعلنوا عن تعرض
الحافلة لحادثة وعن وفاة ابنته .سوء األقدار جعل الجميع ينجو إال ابنته البالغة من العمر تسع عشرة سنة. رسمت عالمة صليب على صدرها ،وتمتمت بأدعية قبل أن تواصل:
رفض حتى أن يتسلم تعويض التأمين وهو مبلغ مالي ال يستهان به .فالمذنب كان السائق الذي غفا أثناء السياقة .الكل في
محطة غرناطة يجاريه ألنهم يعرفونه ويعرفون مصابه ،لم يتأخر عن موعده كل جمعة إال مرة واحدة ،يوم نفقت القطة .وحسب ما حكت لي بيبَّا منظفة المحطة فإن القطة كانت البنته .بعد شهور ،قنطت القطة من انتظار عودة صاحبتها ،فر ََم ْ ت نفسها من النافذة إلى حاوية األزبال.
صمت .فجأة ،التفتت إلي:
أال توافقينني على أن انتحار القطة فيه ما ُيريب؟ كثيرًا ما تتماهى أرواح القطط بأرواح البشر ..أن يقتلها الرجل أمر وارد ،انتظار
القطة يذكره بانتظاره المؤلم. ..أعرف ً شيئا عن هذا االرتباك بين التذكر والنسيان .فقد سبق وعانيت في فترة من حياتي من نسيان النسيان ،وتلك حكاية
طويلة ال تكفيها مسافة هذه الرحلة. ً ً سلسا ومتناسقا جاهزا للتدوين إذا ما فكرت ً ً يوما في سرقة قصتها. دون كلمة ،حركت رأسي بتعجب .في الواقع كان سردها
ُ ْ عيني الحظت حاولت أن أجد تفسيرًا لذلك ،كأن تكون قد غير أنني لم أعتد هذا االقتحام المفاجئ ،وبخاصة في بلد أوربي. َّ ُ ظننت أن السيدة أفرغت ما في جوفها من مرارة وحسرة ،وأشبعت تلك الفضوليتيْن وهما تتبعان الرجل في كل مراحل السؤال.
الرغبة في القص التي تصاب بها العجائز عادة ،لكنها حولت بصرها إلى الحقول الممتدة على جنبات الطريق ،لم تنتبه حتى إلى أنني لست إسبانية وال أفهم بعض ما تنطق به حين تسرع في إيقاع الكالم .ودون أن تنظر إلي تابعت:
أصبح هذا الرجل جزءًا من رحلتي؛ ألنني أستعمل هذا الخط مرة في الشهر ،ألزور ابنتي في الجزيرة الخضراء في مأوى ً مكانا لها في مأوى، لالحتياجات الخاصة .قضيت عشر سنوات وأنا أعتني بها وحدي عن طواعية ،وأربع سنوات أخرى وأنا أنتظر
بعد أن أبدت ميولاً للعنف ..منذ أكثر من عشر سنوات وأنا أطالب المسؤولين بنقلها إلى مأوى في غرناطة لتكون قريبة مني، ً دائما برسائل اعتذار مبرر بأنه ال مكان في مأوى غرناطة ،وحين يشغر مكان سيعملون على تلبية طلبي .عادة تغويني وأتوصل
حكايات األكبر مني ًّ سنا ،وقد أطعمها بأسئلة حافزة ،لكنني لم أنم ً جيدا ليلة أمس في اإلقامة الجامعية ،وأحس بخمول ذهني
وجسدي ،لهذا لم أسألها عن الحلقة المفقودة :أين والد االبنة؟ التفتت نحوي ،فأطل دمع الزوردي من عينين هما آخر مسحة جمال فضلت عن الشباب .وجه مع ِّبر لكنها مالمح ال تصلح ألن تكون لشخصية من الشخصيات الروائية المستقبلية،
ً تماما. وذلك ما أخمد فضولي
مرة ذهبت أشتكي في المصلحة الشؤون االجتماعية ،فواجهتني الموظفة العانس بسؤال اتهامي: ألم تكوني تعلمين أن الحمل بعد األربعين ينتج عنه ولد معاق؟
مجاملة أللم إنساني رسمت على وجهي مالمح تعاطف واهتمام بقصة
المرأة ما شجعها على االستمرار في البوح:
ُ كنت سأواظب على هذه الزيارات مع تقدمي ال أدري إن
في السن ،أو سأصبح مثل هذا الرجل أتردد على المحطة ّ وتحل محلي امرأة أخرى لتحكي للسؤال فقط. لجارتها قصتي.
أما أنا فال أعرف إن كانت تلك المرأة ستنزعج أو تتألم إذا عرفت أنني سرقت حكايتها ،فعلاً ، ألحكيها لكم.
143
فضاءات
144
ِليلي بريك.. من عشيقة ماياكوفسكي إلى عميلة في الشرطة السرية! السوفييتية من أكثر النساء تأثي ًرا في الثقافة ّ الروسية» ـ«ملهمة الطليعة وصفها نيرودا ب ُ ّ العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
عماد أبو صالح
شاعر وكاتب مصري
عاشت لِيلي بريك بالطول والعرض .عاشت ح ّتى شبعت من العيش ،فأنهت حياتها بكامل رغبتها في السابعة والثمانين من عمرها .كأنّ ليلي ال يليق بها أن تموت دون إرادتها ،ميتة عاد ّية مثل ّ كل الناس. كأنها أرادت أن ّ تحدد وقت موتها بنفسها ،ح ّتى وهي في أرذل العمر ،وأن تختم تاريخها الطويل في التمرّد، بمقاومة سلطة مالك الموت ،وهي جلد على عظام .كانت ليلي قاتلة .ال القتل الكالسيكي بالرصاص الحي،
إنما باللحم الحي .بحرارتها وحريّتها ،بجبروتها وجرأتها .كانت أينما تسير ،يتبعها طوابير من المعجبين ّ والعشاق والمجانين .حين تراها لن يكفي أن تقول« :جميلة» ،ال ّ بد أن تصرخ عاليًا« :منتهى الجمال»! ما الذي ّ يتبقي لي ألكتبه عن ليلي بريك؟
ال شيء تقريبًا ،ال كبيرة وال صغيرة ،إذ إنها حين كانت تعطس،
يكون هناك من يحتفي في قصيدة أو لوحة أو قطعة موسيقيّة،
بروعة عطستها .واحدة من أكثر النساء تأثي ًرا في الثقافة السوفييتيّة،
ال يصعد شاب ساللم الشهرة ،مهما كانت موهبته ،إال إذا منحته تأشيرة الدخول ،ووصفها بابلو نيرودا ّ بأنها «مُلهمة الطليعة الروسيّة» ،وهو إعجاب ّ ملطف ،إذ ال بد أنه كان يريد أن يمدحها أكثر ،لكنه خاف على مشاعر «ماتيلدا» ،أو خاف من عقاب «ماتيلدا»! *
*
*
وُلدت ليلي يوريفنا كاجان يوم 11نوفمبر 1891م لعائلة يهودية ّ معلمة موسيقا ،أما أختها محام وأمّها ثريّة في موسكو .أبوها ٍ األصغر منها ،فهي إلزا تريولية ،التي س ُتعرف فيما بعد باسم إلزا أراغون ،نسبة إلى الشاعر الفرنسي لويس أراغون الذي ّ خلد عيونها في ديوان كامل. ّ تلقت ليلي تعليمًا راقيًا ،وأتقنت األلمانية والفرنسية ،ورقص
الباليه ،والعزف على البيانو ،وتخ ّرجت من معهد موسكو للهندسة
المعماريّة .في سنّ الثالثة عشرة أدركت قدرتها الباكرة على «سحر الرجال» .جلبت كثي ًرا من المتاعب لوالديها ،تقول« :أمي لم تعرف
الراحة بسببي ،كان ال يغمض لها جفن» .كانت دائمًا «تقع في الحب
«حب حتى الموت» ،مع ليلي دائمًا هناك بسهولة» ،وهو في كل م ّرة ّ حب جديد. ّ
ما إن بلغت السابعة عشرة ،ح ّتى تكوّر بطنها الجميل .ممّن؟
145 ليلي وماياكوفسكي
ذات ليلة من ليالي يوليو عام 1915م جاءت إلزا التي كانت في
التاسعة عشرة من عمرها ،ومعها عمالق فارع الطول ،قويّ البنية،
وعيناه تقدحان شررًا .ما الذي ستفعله «ماكينة بشريّة» كهذه في
صالون أدبي؟ ستفعل كثي ًرا ،ستغيّر حياة ليلي بريك برمّتها ،وتغيّر الروسي ّ كله .كانت الغرفة معبّأة بدخان السجائر، وجه الشعر ّ ومليئة عن آخرها بضيوف جاؤوا إللقاء أشعارهم .كسر فالديمير ً واقفا قصيدته الطويلة ماياكوفسكي آداب صالون آل بريك ،وألقى
«غيمة في بنطلون» ،التي تشتبك فيها اللغة الثوريّة باللغة الدينيّة،
كأنه شجار عنيف بين امرأتين ،وحين انتهى ،كان يمكنك أن تسمع ّرنة إبرة على البالط لدقائق طويلة .الكتاب الصغير الذي كتبته إلزا عن ماياكوفسكي ،وصدر في باريس بعد تسع سنوات من وفاته ،يتضمّن
الحب الطويلة ،ليلي ال تذكر المراجع اسم ذلك الحبيب في سلسلة ّ نفسها ال تذكره ،أو ربّما ال تتذ ّكره .أجرت عملية إجهاض في قرية
إلي أنني ما زلت أراه يمشي «تشريحً ا» لجسده بعيون أنثويّة« :يخيّل ّ
في 26فبراير 1912م تزوّجت الشاعر والناقد أوسيب بريك،
تلك الرأس المذهلة ذات الجمجمة الضخمة المستديرة ،والوجنتين ّ والفكين القوييّن ،والعينين الكستنائيتين المستطيلتين الغائرتين،
نائية ،وكان الثمن عدم قدرتها على إنجاب أطفال بقيّة عمرها .ال بأس ّ ً المدللة ،فما حاجتها لطفلة أو طفل؟! أيضا ،ليليشكا طفلة الجميع وانتقلت للعيش معه في سانت بطرسبرغ ،وبعد أشهر عدة ق ّررا ّ الشقة ّ كل أحد إلى صالون أدبي للك ّتاب والشعراء والرسّ امين تحويل وص ّناع األفالم والثوريّين من الجيل الجديد.
في شوارع موسكو ،برأسه العالية مقارنة برؤوس غيره من المارّة،
العميقتين الذاهلتين ،برموشهما التي ال ّ تكف عن الرفيف ،وجبهته ّ المتغضنة .كان يمشي على قدمين قويّتين، بأخاديدها القصيرة ونصفه العلوي ،بمنكبيه العريضين ،كأنه تمثال نصفي».
فضاءات
كانت ليلي قد سمعت عن هذه «القنبلة» أنه منبوذ من ّ وتخلى عن المجتمع ،وسُ جن ثالث م ّرات في سنّ المراهقة، السياسة الحزبيّة ،ويبادل المؤسسات البرجوازية ريبة بريبة،
وانتقل إلى موسكو لدراسة الفن ،ويحظى بمحبّة طاغية في أوساط
الشباب الراديكالي ،ويقرأ قصائده في الشوارع .ماكينة بشريّة وطاقة كاف ليجذب ليلي ،ولتبدأ واحدة من أهم قصص شعريّة ،هذا ٍ الدراما والحب في التاريخ الروسي .ماذا عن زوجها؟ ال يهمّ ،ليلي حل ّ سترتب األمر ،ليلي عندها ّ ّ لكل مشكلة. *
*
*
في عام 1918م ،كتبت ليلي« :بعد التأ ّكد من مشاعري تجاه
ماياكوفسكي ،كنت قادرة على إخبار بريك بكل ثقة عن حبّي ،وق ّررنا نحن الثالثة ،أن نواصل عالقتنا الحميمة» .بوضوح أكثر :احتفظت
ليلي بالرجلين ،واقتسمها الرجالن ،بالعدل ،وسط صدمة وقتها
في المجتمع الروسي .انتقل ماياكوفسكي لإلقامة في شقة سانت بطرسبرغ بعد طول تش ّرد في الشوارع ،وهناك صورة من هذه الحقبة ُتظهر ليلي واقفة بين «رجُ ليها» وابتسامة عريضة تكسو
وجهها .ماذا عن إلزا؟ ليست مشكلة .يبدو أن إلزا شبعت أو ّ ملت
من ماياكوفسكي ،وتنازلت عنه بطيب خاطر ألختها الكبيرة ،وستجد
بكل تأكيد واحدًا غيره .بال ميلودراما ،الحكاية بسيطة :ليلي خطفت ُلعبتها ،وستقتني ُلعبة غيرها.
كتبت ليلي في مذكراتها« :ماياكوفسكي وقع في حبّي م ّرة
واحدة إلى األبد .أقول :إلى األبد؛ ألنه سيبقى لقرون عدة ،ولن يولد
من يمحو هذا الحب من وجه األرض» .ماذا عنها هي؟ أحبّته؟ ها هي إجابة :دائمًا تحكي ليلي هذه الحكاية وال ّ ُ «ذهبت تمل من تكرارها:
مع ماياكوفسكي إلى مقهى بتروغراد الشهير .قبل مغادرتنا ،نسيت حقيبتي ،وعاد ً الهثا لجلبها .على الطاولة المقابلة كانت تجلس
سيدة مذهلة ،الصحافيّة المعروفة الريسا ريسنر ،نظرت بحزن إلى
ماياكوفسكي وقالت :يبدو أنك ستحمل هذه الحقيبة مدى الحياة». ّ تعلق ليلي بفخر على حكايتها قائلة« :أنا ليليشكا! عليه أن يحمل
الحب» .ستصبح ليلي ملهمة هذه الحقيبة في فمه ،ال كرامة في ّ ماياكوفسكي لمدة عشرين عامًا .ك ّرس لها وعنها القسط الوافر
من قصائده الغنائيّة ،وكتب سيناريو فلم «السلسلة» وقاسمها بطولته ،كما نشر بالتعاون معها ومع أوسيب بريك والمصوّر ألكسندر رودتشينكوّ ، مجلة الفنون اليساريّة التي فتحت صفحاتها للمبدعين الجدد.
في أواخر سنة 1920م ،كاد الشرخ يضرب جدار العالقة الثالثيّة؛ ّ المتقلبة .تع ّرف خالل بسبب شخصيّة ماياكوفسكي الدراماتيكيّة
146
رحلة في باريس على روسيّة شابّة ،هي تاتيانا ياكوفليفا ،وبدأ معها
ّ قصة غراميّة .امرأة تأخذ ماياكوفسكي من ليلي؟ مستحيل .ها هي ّ ْ تستعيده« :أقنعته بأن يعود من باريس بسيّارة رينو ،وأن يتعلم
القيادة .أنا كنت دائمًا وراء عجلة القيادة .عندما كان هناك تهديد بالفراق بيني وبينه بسبب عالقته مع تاتيانا ياكوفليفا؛ طلبت من
ليلي مع زوجها وماياكوفسكي
أختي إلزا ،التي تعيش في باريس ،كتابة رسالة تزعم فيها تاتيانا بأنها ستتزوّج من نبيل ثري ،وقراءتها بصوت عال في إحدى األمسيات.
ليلي بريك تتعاون مع الشرطة السرية تجربة مؤلمة؟ ليس كثيرًا .واصلت ليلي تعاونها مع الشرطة السريّة ( ،)OGPUووزارة الداخلية ( ،)NKVDوجهاز أمن الدولة ( ،)CHEKAوغيرها من وكاالت االستخبارات السوفييتيّة ،كما كانت «زائرة» دائمة التحاد الك ّتاب في بيريدلكينو ،وهو ما أثار تساؤالت
عن دورها في القبض على عدد من المبدعين خالل تلك الحقبة. ّ كثيرون أعربوا عن شكوكهم في تعاون ليلي وأوسيب مع السلطات منذ وقت طويل .بوريس باسترناك كان يصف شقتهما بأنها: ّ الشقة« :هل تظن أن بريك ،الناقد األدبي ،يعيش هنا؟ مخبر أمن «قسم شرطة موسكو» .سيرجي يسينين ،كتب بالطباشير على باب ّ الشقة نفسها اسم« :ملتقى الك ّتاب مع أمن الدولة». الدولة يعيش هنا» .آنا أخماتوفا أطلقت على
ً تحقيقا في في عام 1990م ،بعد اإلفراج عن المحفوظات السريّة لوزارة الداخلية السوفييتيّة ،نشر الصحافي فالنتين سكورياتين
ّ وحصة العدد الخامس من مجلة ( )ruبعنوان« :من ،أنا ،أطلقت النار على نفسي؟ ال تقل ذلك!» ،يتناول فيه موت ماياكوفسكي الغامض ً مؤكدا ليلي من الميراث بعد وفاته .تضمّ ن التحقيق األرقام التسلسليّة في أمن الدولة لكل من أوسيب وليلي ( 15073 - 24541على التوالي)، تجنيد أوسيب عام 1920م ،في حين لحقت به زوجته في عام 1922م. العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
لِيلي بريك ..من عشيقة ماياكوفسكي إلى عميلة في الشرطة السرية!
الحب مع تاتيانا ،التي بُهت ماياكوفسكي وق ّرر على الفور إنهاء عالقة ّ لم تكن على علم بهذه المؤامرة». *
*
كثيرون أعربوا عن شكوكهم في تعاون ليلي وأوسيب مع السلطات .باسترناك شقتهما بأنها« :قسم شرطة كان يصف ّ موسكو» .يسينين كتب بالطباشير على باب الشقة« :هل تظن أن بريك ،الناقد األدبي، ّ يعيش هنا؟ مخبر أمن الدولة يعيش هنا». الشقة« :ملتقى آنا أخماتوفا أطلقت على ّ الكتّاب مع أمن الدولة»
*
عام 1928م تبدّلت موسكو .ازداد قمع الشعراء والفنانين،
كرسي الحكم ،مما ينذر بحمّام دم في واستق ّرت الستالينيّة على ّ العقد القادم ،وبدأت التم ّزقات الروحيّة ته ّز بدن ماياكوفسكي
العفي .في 14إبريل 1930م ،أطلق رصاصة على قلبه بدون سابق ّ إنذار .خيبة أمل في الثورة أم في ليلي؟ ربّما االثنان معً ا .ترك رسالة
ّ بخط يده« :إليكم جميعً ا ،أموت ،وال ت ّتهموا أحدًا في موتي ،أرجو تج ّنب القيل والقال ،هذه األشياء أكرهها .أمي ،وأخواتي ،ورفاقي، سامحوني .هذه ليست الطريقة الصحيحة (ال أوصي بها اآلخرين)،
ولكن ليس هناك طريقة أخرى للخالص .ليلي أحبّيني .الرفاق، الحكومة ،عائلتي تتكوّن من ليلي بريك ،ماما ،أخواتي ،فيرونيكا فيتولدوفنا بولونسكايا ،إذا كان يمكنكم أن ّ توفروا حياة كريمة لهنّ ، ّ سيدققونها». أشكركم .أعطوا هذه القصيدة غير المكتملة آلل بريك، أما القصيدة التي لم يكملها فهي: «ما يجب أن يحدث حدث ّ ّ تحطم الحب قارب
واسعتين وسط الجموع ،فشلت الفجيعة في تخفيف ح ّدة جوعهما للحياة ،عينا ليلي.
*
*
*
الحياة تستمر .مع ليلي ،يجب أن تستمر .مَن القادم؟ ال بد أن يكون رجلاً مناسبًا للمرحلة .حصلت على الطالق من أوسيب ،وبعد شهور قليلة من انتحار ماياكوفسكي ،تزوّجت القائد العسكري فيتالي بريماكوف .من حبيبة شاعر ،إلى زوجة جنرال ،يا للهول! «خطوة
تكتيكية ذكية لضمان فتح خط ساخن مع ستالين إلقرار الدولة بمكانة ٌ بعض أسباب انحدار ماياكوفسكي في التاريخ الروسي» ،هكذا يب ّرر لاً ليلي من المستقبليّة إلى الستالينيّة .عام 1935م اشتكت فع في رسالة
على الروتين الكئيب ُ اختبرت الحياة ّ نتخلى ويجب أن
إلى ستالين مباشرة من تجاهل الدولة ألشعار ماياكوفسكي .غسيل
واآلالم والضغائن».
نفسه إلى نيكوالي يزوف« :الرفيق يزوف ،يرجى االهتمام بشكوى بريك.
عن تبادل األذى
استقبلت ليلي خبر االنتحار بهدوء .قالت« :كان عصبيًّا دائمًا. أنقذته منه قبل مرتيّن» .فعلاً ،متعب يا ليلي أن تنقذيه في الثالثة.
ُشيّعت جنازة ماياكوفسكي بعد أربعة أيام .سار 150ألف
شخص وراء تابوته في شوارع موسكو .حشود لم تجتمع من قبل إال في جنازتين :لينين وستالين .لو ّ دققت في الصور ،ستجد عينين
سمعة ،أم شكوى حقيقية؟ ال يمكن الجزم .صدر أمر فوري من ستالين ماياكوفسكي كان وال يزال األفضل ،الشاعر األكثر موهبة في عصرنا
السوفييتي .تجاهل ذكراه وأعماله اإلبداعية جريمة .شكوى بريك مب ّررة في رأيي» .لكن هذا القرب الحميم من ستالين ،لم يمنع اعتقال بريماكوف سنة 1936م بتهمة الخيانة وإعدامه رميًا بالرصاص مع عدد من التروتسكيين ،على رغم تبرئته بعد وفاته بـ 21عامًا.
االتهامات بالعمالة ،لم توقف ليلي عن مواصلة الحياة« .موهوبة في فنّ العيش» كما يقول ماياكوفسكي .في عام 1938م تزوّجت من الناقد األدبي الشاب ،فاسيلي كاتانيان ،وبقيت معه حتى وفاتها .حاولت في السنين الالحقة استعادة الماضي ،بتحويل ّ شقة موسكو إلى صالون أدبي ،لكنها أخفقت في إعادة تدوير الزمن .حاولت تكرار العالقة الثالثيّة مع زوجها وحبيب جديد هو المخرج سيرجي باراجانوفا،
لكن الجسد كان قد ّ ترهل ،ولم تعد تجدي صعقات كهذه في لفت األنظار .سعى الشيوعيون «األرثوذكسيون» منذ أوائل السبعينيّات، لطي صفحة أوسيب وليلي بكل ما تستدعيه ذكراهما من مستقبليّة ،بوهيميّة ،ومغامرة أخالقية تشوّه سمعة ماياكوفسكي. ّ
عاشت ليلي على بقايا مجدها الغابر .ال احتفاءات تقريبًا وال تكريمات ،باستثناء دعوات متناثرة في باريس للمشاركة في معارض
استعاديّة ،و«فستان رائع» أهداه لها مصمم األزياء الفرنسي الشهير إيف سان لوران في عيد ميالدها الخامس والثمانين .يوم 4أغسطس
1978م ،في منطقة بيريدلكينو ،بلعت ليلي جرعة هائلة من أقراص «نيمبوتال» ،ونامت نومها األبدي ،بعد أن كتبت رسالتها األخيرة« :ال تلوموني .فاسيك ،أنا أعشقك ،سامحني .واألصدقاء ،سامحوني .ليلي». «ال» حرف نهي
ليلي تأمر وتنهي من الموت إياكم أن يلومها أحدّ ، نفذوا.
147
فضاءات
جالل الدين الرومي األميركي مبيعا مع بزوغ نجم ترمب قصائده األكثر ً محمد الحجيري
كاتب لبناني
جالل الدين الرومي ،الشاعر األفغاني المولد ،الفارسي اللغة ،الصوفي الهوى ،والتركي الضريح،
اليوم من بين الشعراء األكثر شعبية في الواليات المتحدة والغرب ،برغم أنه لم يكن مشهورًا فيها قبل
ً خصوصا المستشرقة األلمانية عشرين عامً ا .لقد تحدثت كثير من الدراسات عن تأثيره في الشرق والغرب،
آنا ماري شيميل في كتابها «الشمس المنتصرة» ،وهذا التأثير كان نخبويًّا بين المستشرقين والمهتمين، رئيسا واالهتمام بشعر الرومي اآلن ،يتجاوز القيمة األدبية إلى أشكال مختلفة ،فمع مجيء دونالد ترمب ً
الذي صعد في خطابه الشعبوي ضد المسلمين المهاجرين ،حينها كتبت صحيفة «واشنطن بوست»« :أليس ً ً مبيعا «في مدهشا أن تصير قصائد الرومي ،فيلسوف القرن الثالث عشر المسلم المتسالم» أكثر القصائد الواليات المتحدة مع ظهور نجم ترمب؟ إذا عاد الرومي حيًّا ،سيرى أن األميركيين ال يكادون يتوقفون عن
148
قراءة قصائده ونشرها ،رغم أن ترمب يتحدث عن ترحيل المسلمين من أميركا ،ومنعهم من دخولها».
قالت صحيفة «لوس أنجلس تايمز»« :مثل قصائد عمر الخيام ،صارت قصائد الرومي الروحية مفضلة في األعراس ،واحتفاالت البلوغ ،ودفن الموتى .ها هو ضباب أمام أعيننا يعيدنا إلى عصر اإلسالم الذهبي» .وافتتحت الجريدة ملفها الخاص بالرومي «لم تحتل أية مجموعة لمشاهير األميركيين من الكتاب أمثال روبير فروست أو واالس ستيفنز أو الشاعرة سيلفيا بالث واألوربيين على غرار هوميروس، ودانتي ،وشكسبير ،رأس قائمة الكتب األكثر مبيعً ا في الواليات المتحدة األميركية على امتداد العقد الماضي مثل قصائد الرومي».
توجد ترجمات قديمة لمؤلفات الرومي إلى اللغة اإلنجليزية ولغات
أوربية أخرى في إيطاليا وألمانيا وفرنسا وإنجلترا .وقبل نصف قرن،
صدرت ترجمات حديثة له أنجزها آرثر آرباري ،وهو أستاذ جامعي بريطاني (كان قد ترجم القرآن الكريم ترجمة حديثة) .لكن ،لم يهتم األميركيون بالرومي إال مؤخ ًرا .فقد ترجم كولمان باركس ،وهو شاعر أميركي،
ميدالية باسم الرومي أصدرتها اليونسكو بمناسبة مرور 800عام على ميالده العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
بعض قصائده ،ومنها« :ضروريات الرومي» (عام 1995م) ،و«كتاب
الحب» (عام 2003م) .ومنذ هجمات 11سبتمبر 2001م ،أصبح الرومي بمنزلة المعبر الذي وصل بين األميركيين واإلسالم .وشكلت
قصائده «جس ًرا بين الشرق والغرب» كما يقول ويليام دالريمبل
الناقد واألديب في «الغارديان».
جزء من الرحلة الروحية لمشاهير هوليود
وبلغ اهتمام األميركيين بالرومي قمته عام 2007م ،بمناسبة
مرور 800عام على ميالده ،ووزعت ميداليات باسمه من جانب
منظمة اليونسكو ،التي جاء في إعالنها آنذاك «أفكار وآمال الرومي يمكن أن تكون جزءًا من أفكار وآمال اليونسكو» .وجد أكثر من 28
موقعً ا إلكترونيًّا على موقع ماي سبيس وحده تحمل مراجع حول أعمال الرومي .كما ُنشر أكثر من 2200تسجيل فيديو حول الرومي.
وعندما قرر كريس مارتن ،مغني فرقة «كولدبالي» االنفصال عن
زوجته الممثلة األميركية جوينيث بالترو ،وحينما انتابته حالة من القنوط ،أهداه صديق له كتابًا لرفع معنوياته ،وقد كان ذلك الكتاب مجموعة من قصائد الرومي ،من ترجمة كولمان باركس .قال مارتن
بعد ذلك عن أشعار الرومي :إنها غيَّرت حياته ،بل تضمن آخر ألبومات كولدبالي مقطعً ا بصوت باركس من إحدى قصائد الرومي يقول فيه« :هذا اإلنسان بيت للضيافة /في كل صباح يصله زائر
جديد /الفرح ،الحزن ،الدناءة /إنها لحظات وعي خاطفة /تأتي كما لو كانت ً ضيفا غير متوقع» .وكان الرومي جزءًا من الرحلة الروحية لمشاهير آخرين ،مثل مادونا التي غنت من كلماته« :تعلم كيف
تقول ودا ًعا» ،وتنافست كل من نجمة هوليود ديمي مور ،وزميلتها
غولدي هاون وسارة جيسكا باركر على شراء حقوق قراءة هذه األشعار على أسطوانات مدمجة( ،ألن الرومي كانً ، أيضا ،موسيقيًّا مشهورًا ،واستعمل كثي ًرا آلة الناي ،غنت األميركيات بعض قصائده
على أنغام هذه اآللة). ُ وتنشر كلمات الرومي يوميًّا على مواقع التواصل االجتماعي، بهدف حفز من يقرؤها على األغلب .إضافة إلى عروض األزياء األميركية التي استضافت شعر الرومي كأسلوب تسويقي لمالبس
السهرات الرومانسية ،وأصبحت عباراته تزين ستائر الحمامات، والحلي وأشجار عيد الميالد وشركات اآلالت الموسيقية التي قررت حفر أبيات من شعره على منتجاتها .كذلك تنشر األبواب الثقافية في الصحف الصادرة في المدن األميركية الكبرى كلها تقريبًا أماكن
قراءة أشعاره ومواعيدها وإلقاء محاضرات عنه وعن أعماله.
أعلن «فرانزوني» عن ترشيح الممثل ليوناردو دي كابريو للقيام بدور شخصية الرومي في فلم سينمائي
مفخخا ببعض انتشار القصائد الرومية كان ً الشوائب ،ففي مقالة لروزينا علي في مجلة «ذي نيويوركر» ،تناولت عملية محو األفكار والمعاني اإلسالمية والقرآنية في التراجم األميركية لشعر الرومي والمعاني اإلسالمية والقرآنية في التراجم األميركية لشعر الرومي، وناقشت ما إذا كان ذلك الحذف متعمدًا ،أم أنه جاء بهدف تقريب
الصورة ،وإذا ما كان يشوه النص األصلي أم يحافظ عليه .تقول الكاتبة« :إن أستاذة الدراسات الفارسية بجامعة ماريالند ،فاطمة
كيشاورز ،أخبرتها أن الرومي كان على األغلب يحفظ القرآن الكريم؛ نظ ًرا لتكرار استشهاده به في أشعاره ،وهو ما قاله الرومي نفسه ً سابقا ،إذ قال عن «المثنوي» بأنه يشرح القرآن الكريم» .يقول
أوميد صافي ،أستاذ دراسات الشرق األوسط والدراسات اإلسالمية
في جامعة ديوك :إن ذلك حدث خالل العصر الفيكتوري ،حينما
بدأ القراء في الغرب فك ارتباط الشعر الصوفي بجذوره اإلسالمية، إذ لم يتمكن المترجمون ورجال الدين في ذلك الوقت التوفيق بين
أفكارهم ورؤيتهم لإلسالم ،وبين هذه األفكار األخالقية السامية غير التقليدية التي وردت في شعر الرومي ،تدلل الكاتبة على فصل
تحولت قصائد الرومي ودواوينه ،على يد باركس ،إلى نجاح
الغرب الرومي عن اإلسالم بمقدمة ترجمة «المثنوي» للسير جيمس
الحديث إلى جانب أسماء نعرفها وهي شديدة المعاصرة ،لكن ً مفخخا ببعض الشوائب ،ففي مقالة انتشار القصائد الرومية كان
هؤالء الذين يرغبون في ترك العالم ،ويحاولون معرفة الله والقرب
قياسي تجاري يتربع مؤلفه على عرش إمبراطورية الشعر الغربي
لروزينا علي في مجلة «ذي نيويوركر» ،تناولت عملية محو األفكار
ريدهاوس الصادرة عام 1898م ،التي قال فيها« :يخاطب المثنوي
منه ،أولئك الذين يريدون محو الذات وتكريس أنفسهم للتفكر والتأمل الروحاني».
149
فضاءات
وساهم مترجمون عدة خالل القرن العشرين في تعزيز
حضور الرومي في النصوص اإلنجليزية ،إال أن باركس هو من كان أكبر المساهمين في توسيع قاعدة القراء للرومي ،هو
ليس مترجمًا بقدر كونه مفس ًرا ،فهو ال يعرف قراءة الفارسية
أو كتابتها ،إال أن ما قام به كان تحويل تراجم القرن التاسع عشر إلى نظم أميركي .يقول باركس :إن شعر الرومي هو
أشبه بالسر الذي يفتح القلب ،وإنه من الصعب التعبير عنه بالكلمات ،ومن أجل أن يتمكن فهم بعض األشياء التي كان صعبًا عليه إيضاحها ،أعطى باركس نفسه شي ًئا من حرية التصرف في التعامل مع النص ،وبخاصة في بعض الكلمات
المستوحاة من النصوص اإلسالمية التي كان صعبًا عليه كتابتها
بلغة أخرى.
الرومي وتحدي الصورة النمطية للمسلم
ولم يقتصر أمر االهتمام على شعر الرومي ،فانتشاره واالهتمام
بنصوصه ،دفع بعض المنتجين إلى الحماسة لتصوير فلم عنه،
مثل :السيناريست ديفيد فرانزوني ،مؤلف فلم ،The Gladiator
والمنتج ستيفين جويل براون ،قاال قبل مدة :إنهما يريدان تحدي
«الصورة النمطية» عن الشخصيات المسلمة في السينما الهوليودية،
150
وذلك من خالل تسليط الضوء على حياة جالل الدين الرومي.
ويَعُ ّد فرانزوني «الرومي مثل شكسبير ...ومن الواضح أنه ال يزال يتمتع بصدى واسع حتى اليوم ،وهؤالء هم دائمًا ممن يستحقون
االكتشاف» .لكن فرانزوني واجه موجة واسعة من االنتقادات؛ بعد
إعالنه عن رغبته في أن يؤدي ليوناردو دي كابريو شخصية الرومي، ال ضير في أن هوليود تبحث عن الجمهور واالستهالك ،واختارت ً شخصا يحمل هوية كونية أو عابرة للهويات ،فهو األفغاني والفارسي والتركي والصوفي واألميركي والغربي والعربي واإلسالمي...
بالطبع اندفاع ديفيد فرانزوني لكتابة فلم عن الرومي ليس
ناتجً ا عن حب في الثقافة المشرقية بقدر ما هو ثمرة تفكير تجاري
قبل كل شيء؛ ألن الرومي ماركة شعبية بامتياز ،ندرك ذلك من
العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
مادونا
ديمي مور
خالل اندفاع القراء لشراء رواية «قواعد العشق األربعون» للروائية
التركية إليف شافاق التي ترجمت إلى كثير من اللغات ،وتتناول
موضوعات الحب بين الشرق والغرب ،والروحي والدنيوي ،كل ذلك من خالل قصة جالل الدين الرومي .وشمس التبريزي المتصوف
(ولد سنة 1185م في تبريز في مقاطعة أذربيجان واستهوته الطرق
الصوفية) .و«عشق» شافاق ذات نسيج مركب ،وأبطالها هم إيلال ربة بيت أميركية ذات أصل يهودي تعشق رجلاً أسكتلندي الجنسية
يقيم في هولندا ،ثم يسلم فيما بعد ويتسمى باسم عزيز زهارا، ومن جانب آخر هنالك شمس التبريزي وجالل الدين الرومي وكيررا
التي تقترن بجالل الدين الرومي ،وتتحول من الديانة األرثوذكسية الرومية إلى اإلسالم .بدأ ولع شافاق بالصوفية حينما كانت طالبة، وقرأت لكثير من الباحثين في مجال التصوف ،منهم :آنا ماري
شيميل ،وإدريس شاه ،وكارين أرمسترونغ ...،وفي روايتها ال تدخل
شافاق الصوفية كتعليم نظري ،وتجريدي .بل هي شغوفة بما تعنيه الصوفية بالنسبة لها في العالم المعاصر .وقد اتهم كثير من
المثقفين المسلمين شافاق بتصوير مترف مشابه للمذهب الصوفي. ساعدت رواية شافاق ،التي صدرت في أميركا عام 2010م ،على
فهم بعض مناحي االهتمام الغربي بالمتصوف الرومي .فشعبية الرواية إلى اليوم ال ّ تقل عن شعبية أبطالها :الرومي وشمس التبريزي ،وهي ً أيضا مثار استغراب .وصار الرومي ثيمة للرواية فإلى
مبيعا مع بزوغ نجم ترمب جالل الدين الرومي األميركي قصائده األكثر ً
جانب رواية شافاق هناك رواية «الرومي نار العشق» لإليرانية األصل الفرنسية الجنسية نهال تجدد ،واستندت المؤلفة إلى مقاالت شمس ً مستخدمة معلومات مستمدة من السيرة الذاتية للرومي التبريزي
وحاشيته «مناقب العارفين» بقلم األفالكي شمس الدين أحمد، بنا ًء على طلب حفيد الرومي .يرى قراء كثيرون على مواقع التواصل
االجتماعي أن المؤلفة تقدّم صورة ملفقة للرومي في محاولة لجذب القارئ الغربي ،كذلك صدرت عن دار «نينوى» ،ترجمة رواية «بنت
موالنا» ،للكاتبة اإلنجليزية موريل مفروي ،وهي ترسم في ج ّو الفت
شخصية «كيميا» ،تلك الفتاة التي ف ّرت من أهلها والتحقت بجالل الرومي ،إذ عاشت حياتها المشتعلة والمرتبكة في بيته ّ بكل الدين ّ ما فيه من تباينات ...ويتنازع األفغان واألتراك واإليرانيون جالل الدين الرومي ،فقد وُلد في ب َْلخ ،وعاش في إيران وتركيا ،وهو على نحو ما يوحد بينهم ،كما أن الغربيين يستنتجون من تسميته «الرومي»
هناك مبالغة في تقدير تأثير الرومي في القراء األميركيين ،فبالرغم من أنه مبيعا ،لكنه ليس األكثر قد يكون األكثر ً تأثيرا ،وشعبيته مرتبطة بالحرب على ً اإلرهاب بأنه منهم ،ولكنه يقول كأنه يرد على هؤالء جميعً ا« :أنا لست من الشرق وال من الغرب ،ولست من األرض وال من البحر. أنا لست عطر النعناع ،ولست من الكون الدوار.
أنا لست من األرض وال من الماء ،وال من الهواء وال من النار.
مكاني هو الالمكان ،وأثري ال أثر له ،ليس لي جسد وال روح؛ ألنني أنا هو المحبوب.»...
بحر يمشي خلف بحيرة ُولد الرومي في 30سبتمبر 1207م في ب َْلخ (ما يعرف بأفغانستان حاليًّا) التي ُن ِس َب إليها كبا ُر العلماء والفالسفة والفقهاء؛ مثل: الفردوسي وابن سينا والغزالي ،وقد غادرها أبوه بهاء الدين و ََلد سنة 1219م هربًا من الغزو المغولي الذي دمَّ ر المدينة بعد عام وأتى
عليها .تروي المستشرقة الفرنسية إيڤا دو ڤيتراي مئيروڤتش أن بهاء الدين توجّ ه إلى مكة ألداء فريضة الحج .وفي نيسابور (إيران)،
التقى الشاعر الصوفي فريد الدين العطار ،الذي أهدى إلى الرومي كتابه «أسرار نامه» .ولقد ظل الرومي معجبًا بالشاعر الصوفي طوال عمره ،وكان ير ِّدد القول: ِّ الحب السبع ،بينما ال أزال أنا في الزاوية من دهليز ضيق. لقد اجتاز العطار مدن َّ ْ َ بعد العودة من مكة ،استقرت عائلة الرومي في أ ْرزنجان ،وهي مدينة في أرمينيا ،احتلها عالء الدين السلجوقي ،ومنها دعا بهاء ِّ محقق الدين و ََلد ،والد جالل الدين ،إلى قونية ،عاصمة الدولة السلجوقية في تركيا اليوم ،تتلمذ جالل الدين على يد برهان الدين
الترمذي ،ثم توجَّ ه إلى حلب للدراسة ،ومنها انتقل إلى دمشق ،وكان الشيخ محيي الدين بن عربي يمضي بها السنوات األخيرة من عمره .ويُروى أن ابن عربي رأى الرومي من ُ قبل يمشي خلف والده بهاء الدين ،فقال« :يا سبحان الله! بحر يمشي خلف بحيرة!.
عاد جالل الدين إلى قونية ،فاستق َّر في مدرسته َّ ٌ حادث غيَّر مجرى حياته وتولى فيها تعليم الشريعة ومبادئ الدين ،حتى عرض له ُ ً ُ شمس نضجت ،واآلن أنا محترق .ترجع بداية ذلك عندما التقى الرومي محترقا ،كما عبَّر عن حاله بالقول :كنت ني ًئا ،ثم أ وجعله صوفيًّا َ
الدين التبريزيَّ ،الذي وصل قونية سنة 1244م وأقام في أحد خاناتها منقطعً ا إلى نفسه ..يتفق الجميع على أن التبريزي أثر بشكل كبير في شعر الرومي وفي ممارساته الدينية .في سيرة ذاتية جديدة كتبت عن الرومي بعنوان« :سر الرومي» ،تناول الكاتب األميركي براد غوش في كتاب «أسرار الرومي :عن حياة وعشق الشاعر الصوفي» فكرة تأثير التبريزي في الرومي دينيًّا وفكريًّا ،وأنه كان عاملاً أساسً ا
السني والفكر الباطني الذي تعلمه حدد االتجاه الذي سار فيه الرومي ،وهو مزج حب اإلله الذي وجده في الصوفية ،مع قواعد اإلسالم ُّ
من التبريزي .وكتب الباحث األفغاني عناية الله إبالغ األفغاني في كتابه «جالل الدين الرومي بين الصوفية وعلماء الكالم»« :فقد ألهاه (شمس التبريزي) هذا الصوفي عن مسيرته كفقيه ،وجعل منه صوفيًّا ً غارقا في التصوف حتى أذنيه!».
باختصار ،الرومي خرج عن سياق أنه شاعر التصوف والحب ،هي لعبة الثيمة ،سواء في الروايات أو في األفالم السينمائية أو الثقافة الشعبية حتى الغناء واالستهالك وتأليف الشعر .يرى بعض ّ النقاد أن هناك مبالغة في تقدير تأثير الرومي في القراء األميركيين،
فبالرغم من أنه قد يكون األكثر مبيعً ا ،لكنه ليس األكثر تأثيرًا ،إذ يرون أن شعبيته ظرفية ،مرتبطة بالحرب ضد اإلرهاب ،وهواجس
البحث عن إجابات روحانية لمشكالت شديدة المادية .وهناك مبالغات في الحديث عنه وعن تصوفه ودوره ،المبالغة تأتي من الشهرة ً وحيدا في هذا المجال، واالنتشار ،فعندما يتحول أحد الشعراء إلى ماركة أدبية ال ب ّد أن نسمع العجائب الوهمية عنه ،والرومي ليس فجبران خليل جبران سبقه ،وكذلك رامبو وعمر الخيام.
151
فضاءات
الخريطة الروائية
للمدينة العربية العجيلي شهال ُ
روائية وناقدة سورية
التركي أورهان باموق ،عن عالقته بالمدينة التي ولد فيها وعاش ،وكتب عنها، الروائي يقول ّ ّ
وذلك في كتابه الذي حمل اسمها« :إسطنبول -الذكريات والمدينة»« :كانت إسطنبول دائمً ا بالنسبة
لي ،مدينة الخراب وسوداو ّية نهاية اإلمبراطور ّية .وقد قضيت حياتي أحارب هذه السوداو ّية أو ً جميعا ،سوداو ّيتي»( .أورهان باموق .ترجمة :أماني توما وعبدالمقصود أجعلها مثل أهل إسطنبول
152
الروائي عبدالكريم ،الهيئة المصريّة العامّ ة للكتاب) .في هذا الكتاب الفريد ،من وجهة نظري ،يشرّح ّ ّ ولعل عالقته بالمدينة ،والتشريح في نهاية األمر فنّ ،مهما استند إلى الوقائع ،والوثائق ،والمعرفة،
ً الروائي ،وتبقى عالقة أساسيّة تحديدا ،هي أساس اإلبداع الروائي والمدينة ،مدينته هذه العالقة بين ّ ّ الروائي مدينته فيزيائيًّا أو كتابيًّا؛ إذ هي المقياس والمرجعيّة في كتابته عن ال تنفصم ،ح ّتى لو هجر ّ
المكان ،أيّ مكان ،سواء أكان وط ًنا أم منفىً ، بائدا أم حاضرًا.
العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
ّ رئيسا من مكوّنات يشكل هذا التشريح مكو ًّنا معرفيًّا ً
األدبي هو الذي يجعلنا نفهم الروائي ،وأداة بيده ،وإنّ العمل ّ ّ
تفسر العمل ،فخطوات المدينة ،وليست المدينة هي التي ّ ّ الروائي في المدينة ليست كخطوات اآلخرين ،إنها تصنع ّ
خريطة مغايرة ،ال تاريخيّة ،وال قومية ،وال كولونياليةّ ،إنها خريطة روائيّة تشير إلى ذلك ّ كله. ّ متلقين ،عمليّة تشريح عالقة يجب اّأل تظهر لنا ،بوصفنا
ّ الروائي واعيًا النص ،لكن ال ب ّد من أن يكون الروائي بالمدينة في ّ ّ لهذه العالقة ،ومن هنا انطلقت نظرية لوكاتش في التأكيد الروائي، على أنّ الرواية نتاج المجتمع البورجوازيّ ،وأنّ البطل ّ ً تاريخي (جورج لوكاتش ،معنى خالفا لهيدغر ،هو كائن ّ الواقعيّة المعاصرة ،ترجمة :أمين العيوطي ،دار المعارف، مصر) .وكذلك فكرة التعدد أو البوليفونيّة الباختينيّة ،التي ّ الروائي (ميخائيل تحقق اجتماعيّة الرواية وهي شرطها ّ
باختين1988 ،م ،الكلمة في الرواية ،ترجمة :يوسف حلاّ ق، منشورات وزارة الثقافة ،دمشق .ص .)61التي قد نسمع كثي ًرا من الروائيين يتح ّدثون عنها بثقة ،لك ّنها ال تعني الحوارية التي يقصدونهاّ ،إنها حضور الطبقات التاريخيّة الثقافيّة في الرقعة
الجغرافيّة ،وتبيان تمايزاتها بعضها من بعضها اآلخر ،حيث
االجتماعي يكشف الض ّد عن ض ّده ،وتتكوّن الدراميّة والحراك ّ في الرواية .يحكي غونتر غراس في «تقشير البصلة» عن عالقته بمدينته األمّ دانتسيغ ،وهي ميناء بولنديّ على بحر البلطيق،
ثمّ بالمدن التي رحل إليها ( .غونتر غراس ،ترجمة :عدنان
نعد الفكرة الرئيسة في تصميم يمكن أن ّ أتحدث المديني ،وأنا الرواية هي الوعي ّ ّ الروائي بالمدينة ،ال عن هنا عن عالقة ّ بد عالقة الراوي أو الشخصيات بها ،فال ّ ّ للروائي بعد أن دائما من أن أعيد االعتبار ّ ً التلقي ونظرية ة البنيوي المناهج شته هم ّ ّ ّ ّ مثل دانتسيغ عن إسطنبول ،عن عمّان .إذن يمكن أن نع ّد
المديني ،وأنا الفكرة الرئيسة في تصميم الرواية هي الوعي ّ الروائي بالمدينة ،ال عن عالقة الراوي أتح ّدث هنا عن عالقة ّ
للروائي أو الشخصيّات بها ،فال ب ّد دائمً ا من أن أعيد االعتبار ّ ّ فالروائي هو التلقي، بعد أن ه ّمشته المناهج البنيويّة ونظريّة ّ الذي يو ّزع عالقته بالمدينة على ّ كل من الراوي ،والشخصيّات، لاً ً أحيانا ،جاع إحدى الشخصيّات فيحوّل المدينة إلى موضوع تراها بعين ناقدة ،ثمّ سيستعير عالقته العاطفيّة بها لشخصيّة
أخرى ،وسيستفيد من تجربته معها ومن تجارب اآلخرين ،ومن ّ التدفق الوثيقة ومن الوثيقة المضا ّدة ،من غير أن يسيء إلى
ّ الخاصة بها الزمني للمدينة؛ إذ سيكون وفيًّا للمورفولوجيا ّ الحس بحيث ال تتناقض المالبس والعمائر ونبض الشارع مع ّ
جمالي في النهاية، المعرفي هو إخفاق التاريخي؛ ألنّ اإلخفاق ّ ّ ّ وتلك هي الصنعة التي تنتجها المعرفة بالتشريح ،ويمكن أن نقول مع آالن روب غرييه« :ليس لدى الكاتب الحقيقي
ما يقوله ،بل لديه طريقة لقوله فحسب»( .ألبير ليونار ،أزمة
الروائي بالمدينة حسن ،دال للنشر ،سورية) .وتتخذ عالقة ّ عالقة سيريّة ،تشمل العالقة مع التحوّالت ،منذ انطالق شرارة
مفهوم األدب في فرنسا في القرن العشرين ،تر :زياد العودة،
ويحيل عنوانه« :تقشير البصلة» إلى عمليّة التشريح هذه، حيث ُت َ فصل قشور البصلة المتع ّددة ،الرقيقة منها والسميكة،
إذا تتبّعنا حضور المدينة في الرواية العربيّة بشكل عام، العربي بمدينته ،سنجد ّ خطين الروائي التي تنمّ على عالقة ّ ّ
الحرب العالميّة الثانية ،التي كان مبدؤها ميناء مدينته،
اللب. ح ّتى نصل إلى ّ
تحوالت الفرد وتحوالت المدينة
منشورات وزارة الثقافة ،دمشق).
واضحين :رثاء المدينة الكوزموبوليتانيّة ،والحنين إلى المدينة
المحليّة الضائعة في المنفى .نشأ روائيّون محظوظون في مدن عربيّة يمكن وسمها بالـكوزموبوليتانيّة،
ق ّدم عبدالرحمن منيف عالقته بمدينة
أو الكبيرة ،أو الحيويّة ،عواصم كانت ً مدنا مركزيّة ،فارتبطت القاهرة روائيًّا أو
المؤسّ سة العربيّة للدراسات والنشر ،بيروت)،
عبدالمجيد ،وحلب بوليد إخالصي ونهاد سيريس ...وثمّة مدن عظيمة لك ّنها أقل ًّ حظا
عمّان في كتابه« :سيرة مدينة -عمّان في
األربعينات»( .عبدالرحمن منيف1994 ،م،
لقد منح منيف تلك العالقة طابعً ا سيريًّا، إذ لم يفصل تحوّالت المدينة عن تحوّالته
الفرديّة .سنجد تشابهًا في طبيعة الرواية التي
كتبها هؤالء الروائيّون جميعً ا ،على الرغم من اختالف هويّاتهم ،ولغاتهمّ ،إنهم امتلكوا هذا
المديني ،رغم تباين إمكانيّات مدينة الوعي ّ
بنجيب محفوظ ،واإلسكندريّة بإبراهيم
الروائي من مثل دمشق ،التي على الصعيد ّ قاربها ّ كل من خيري الذهبي وفوّاز ح ّداد،
وكذلك بغداد التي انتعشت روائيًّا مع إنعام ّ ولعل الظروف كجه جي وسنان أنطون، السياسية واأليديولوجية هي التي لعبت دورًا
153
فضاءات
ّ الحظ ،فحصل في توجيه هذا
طمس للتع ّدد المشوب برؤية
استعماريّة لم تجد فيها الدعوة القوميّة الراديكاليّة سوى مصدر
للخطر والعداء األيديولوجية. ّ مؤخ ًرا عالقات روائيّة ونشأت
مع مدن من مثل :الرياض ّ ومكة ورجاء وبدرية البشر، ّ ً المتلقي لمعرفة مثل تلك العالقات شغفا لدى عالم ،ونجد ً الطبقي أحيانا بالمعاناة في الحفر المغيّبة ،لك ّننا نشعر ّ
الروائي ،وقد عنون روايته ً أيضا باسم مدينة عدن إلى قلب العالم ّ ّ ولعل صفة الميناء تفصح عن نفسها ميناء «ستيمر بوينت»،
يسيء إلى المعالجة الفنيّة.
نقطة االنطالق ستينيّات القرن العشرين ،حيث حرب اليمن
أورهان باموق
ّ النص مما قد والوصول إلى الخريطة الروائيّة للمدينة عبر
تدمير واحدية النسق االستعماري
تظهر عالقة الكاتب مع المدينة العربيّة في الكتابات ّ المتأخرة أكثر نضجً ا م ّما كانت عليه قبل تسعينيّات الروائيّة
من خالل حركة القادمين والمسافرين ،والعابرين ،وكانت
التاريخي باتجاه الماضي: األهليّة التي ننطلق منها إلى الحفر ّ ّ تتوقف ليومين أو ثالثة ثمّ تمضي مثل «سفينة سيّاح هائلة مدينة عائمة ،في الليل ستبدو مثل مركبة فضائيّة عمالقة
خرافي»( .ستيمر بوينت .دار التنوير ـ بيروت). تبحر في سديم ّ
القرن العشرينّ ،إنها تقاطعات بين رؤية قومية أو وطنيّة
يفرض حضور التع ّدديّة الثقافيّة التي صنعتها الكولونياليّة
اآلخر ،تلك التي تتسم بالموضوعية الظاهرية ،على الرغم ممّا ً أحيانا من جهل ،أو مبالغة ،أو أيديولوجيا .تو ّكد تلك فيها
(فارسي ،هندي ،أميركي ،إنجليزي ،فرنسي ،)...المقارنة مع
تنتمي إلى الصفاء أو الذات ،ورؤية كولونيالية تنتمي إلى
154
عبدالرحمن منيف
غونتر غراس
النصوص على التعددية الثقافيّة للمدينة في مجتمعات ما
بعد االستعمار ،م ّما يشير إلى الرغبة في تدمير واحديّة النسق
االستعماريّ المسيطر ،فالتع ّدد هنا قوّة اجتماعيّة وثقافيّة، ّ تتمسك به الكولونياليّات في تاريخي، يدل على غنى حضاريّ ّ ّ صراعها مع الق ّوة المسيطرة ،التي غالبًا ما تجيء من منطلق
الثقافي ،سواء كان دينيًّا أو عرقيًّا، األنثروبولوجي تفوّقها ّ ّ فيظهر التأكيد على مدينية المدينة العربيّة بوصفه جزءً ا من إستراتيجية تفكيكية لالستعمار.
روائي مصدره تحظى المدن المفتوحة على البحر بامتياز ّ دراميّة الحركة عبر الماء ،تمامً ا كما يصف باموق إسطنبول،
والسفن في البوسفور« :إنّ القدرة على رؤية البوسفور بالنسبة ألهل إسطنبول ،ولو عن
بعيد ،مسألة ذات أهميّة روحانيّة ،وربّما ّ المطلة على البحر تشبه يفسر هذا أنّ النوافذ ّ المحراب في المسجد ،والمذبح في الكنيسة،
والهيكل في الكنس»( .أورهان باموق،
إسطنبول -الذكريات والمدينة) .وتزداد أهميّة البوسفور وقت الحرب طبعً ا ،وتحيلنا هذه
العالقة بينهما إلى العالقة العضويّة بين طنجة ومحمد شكري.
يعيد أحمد زين بمقاربة مشابهة لباموق،
العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
في عدن من جذور القاطنين فيها نتيجة للحراك االستعماريّ
مدينة الحُ ديدة التي جاءت منها إحدى الشخصيات الرئيسة في قومي أحاديّ « :مثل الميت، الرواية ،والمصبوغة بلون صراع ّ مدينة ال مالمح لها مدفونة اآلن في ركام من الصمت والتاريخ
وجثث الجنود المصريين واليمنيين ،ملكيين وجمهوريين». (ستيمر بوينت) .وتصير تشبه إسطنبول التي تق ّزمت ،وتحوّلت الحزبي منذ ستينيّات القرن التركي ،والصراع القومي مع الم ّد ّ ّ ّ
العشرين إلى قرية ،كما يقول باموق ،بلونين فقط ،أبيض وأسود.
تتيح المدن الكوزموبوليتانيّة إمكانيّة اختيار الهويّة ،التي
تكون غنيّة ومتجددة ،غير تلك الجامدة التي تفرض علينا عدني ...ال أريد االنتماء سوى بالمولد وبالقبيلة وبالدين« :أنا ّ لهذه المدينة» (ستيمر بوينت) ،وتفاصيل هذه الهويّة هي تفاصيل المدنيّة ذاتها :السينما، والمسرح ،والبنايات الشاهقة ،والمكتبات، والبنوك ،والشركات ،وقضايا الحداثة ،من
المنتديات ،التي تناقش قضايا الدعوة إلى تحرير المرأة وإلغاء الحجاب ،وال نستثني أمراض ّ كالسل والتيفوئيد المدينة والحرب والبحر،
التي ال تكون في القرى واألماكن القصيّة غالبًا
(ستيمر بوينت) .تعيد إنعام كجه جي عبر عالقتها ّ كل من بغداد ،والديوانيّة، بالمدينة إنتاج
ّ «طشاري» (دار الجديد - والموصل في روايتها
الخريطة الروائية للمدينة العربية
التاريخي ،تتساوى بيروت) ،هذه المدن المتفاوتة في حضورها ّ
الموضوعي مقبرة الفرنسي ،ويصبح معادلها في المنفى ّ ّ إلكترونيّة يصمّمها الحفيد ذو الهويّة المزدوجة (العراقية الفرنسيّة) ،ويجمع فيها جثث األقرباء التي تف ّرقت
ّ النص التاريخ بسبب نزيف الحروب .يتتبّع السياسي والحزبي للعراق ودور النساء فيه ،عن
طريق الدكتورة وردية التي تحكي حياة أسرتها المسيحيةّ ، باالتساق مع تحوّالت المدن الثالث،
الثقافي في وحركة البشر ،والكفاءات ،والتع ّدد ّ
مربوطة بشريط فضي ،ثمّ رحلت مع زوجها صاحب معمل ً خوفا من التنكيل باليهود في بغداد ،فهاجروا إلى الطابوق لندن ،وبعدها إلى إسرائيل( .طشاري).
الروائي والمدينة إنّ حضور العالقة بين ّ ً ّ عبثا أو رغبة إكزوتيكيّة، النص ليس في ّ ّ يتعلق لعلها رغبة بتفسير شيء ما غالبًا ما باإلنسان ،من مثل «الرغبة في معرفة
مصيرنا ،أو إرجاع المعنى العميق إلى المأساة
اإلنسانيّة ،من خالل المالحظة الدقيقة ،أو
فيال الدكتور اللبناني فرنجيّة رئيس الصحة في
إبداع حقائق إنسانيّة خياليّة ،أو البحث عن
اليهودية التي عقدت على مرآة سيارة الدكتورة
األدب في فرنسا في القرن العشرين .ص.)138
الديوانية ،وفي العالقة مع أم يعقوب الصديقة
ورديّة الجديدة في عام 1959م أم سبع عيون
تظهر عالقة الكاتب مع المدينة المتأخرة الروائية العربية في الكتابات ّ ّ ّ تسعينيات مما كانت عليه قبل أكثر ً ّ نضجا ّ القرن العشرين ،إ ّنها تقاطعات بين رؤية وطنية تنتمي إلى الصفاء أو قومية أو ّ الذات ،ورؤية كولونيالية تنتمي إلى اآلخر
حقائق خفيّة» (.ألبير ليونار ،أزمة مفهوم لذا يصل باموق بعد تشريحه عالقته
بإسطنبول إلى تفسير الحزن الذي يقيم فيها
وال يفارقها ،ويطبع الشخصيّة التي تنتمي
إليها ،كذلك يمكن تفسير االضطراب واإلحباط
الذي يعتري الشخصيّة العربيّة ،والتردّي الذي ينتاب عالقتنا
رومانسي غالبًا عبر بمدننا ،الذي تعكسه الروايات ،بشكل ّ النوستالجيا إلى المكان من موقع المنفى ،أو النوستالجيا إلى التع ّدد الذي حملته المرحلة الكولونياليّة ،ويعيدنا هذا التفسير إلى عدم تقبّل العالقة الملتبسة مع الجذور.
نماذج مهمة لكتابة ما بعد االستعمار
ّ تشكل التجلي األكثر فداحة لتوحّ ش انطلقت من الحرب العالميّة الثانية ،التي ّ تشكل نماذج مهمة لكتابة ما بعد االستعمار ،فهي اإلمبرياليّة ،نصوص روائيّة عربيّة،
نصوص تجمع الواقعيّة ،بوصفها مدرسة فنيّة في التصوير ،إلى الرومانتيكيّة بوصفها مزاجً ا عامًّ ا لمراحل الحروب وما بعدها ،فضلاً عن الوثائقيّة ،التي تنتج عن ضغط الحوادث والنوعي ،ويجتمع ذلك ّ كله تحت عنوان« :كتابة ما بعد االستعمار» ،أو الكمي التاريخيّة ّ ّ
والخيالي. التاريخي الر ّد على اإلمبراطورية بصورة روائيّة ،تحضر فيها جدليّة السياقين ّ ّ ّ القومي الواحدي ،حين كشف التسلط األيديولوجي استطاع فوّاز حدّاد أن يكون من أوائل الذين أخرجوا دمشق روائيًّا من ّ فواز حداد
عن هجنتها؛ إذ أشار إلى تلك الهجنة منذ عنوان روايته« :موزاييك -دمشق ( »39األهالي للطباعة والنشر -دمشق) .لقد حرمت الروائي للتعدّ د؛ ألنّ األيديولوجيا شغلت الرواية السوريّة بشكل مباشر بمفهوم المقاومة ،مقاومة دمشق طويلاً ذلك الضوء ّ الشعب واألبطال الفردانيين ّ الفرنسي ،من غير إبراز حياة المدينة األنثروبولوجيّة ،التي العثماني ،واالستعمار لكل من االحتالل ّ ّ
يشير إليها فوّاز حدّ اد عند تصويره بانسيون مدام كورينا ،الذي يرتاده الدكتور يوسف الذي درس في باريز ،فيقرن العاصمتين ّ والموظفين والتجّ ار السوريين، الثريّتين« :لم تكن هذه غرفة الجلوس التي عهدها تعجّ بفتيات الفرق الليليّة والضبّاط الفرنسيين ّ وتغص بالمأكوالت والمشروبات المتنوّعة والمازة اللبنانيّة واليونانيّة ...مدام كورينا هذه ،لم يستطع أحد أن يعرف هويّتها الحقيقيّة ،زعمت م ّرة ّأنها من منكوبي األرمن ،وم ّرة أخرى ّأنها سائحة تجمع الذكريات والتذكارات ،ثمّ متعهّدة أرتيستات،
ّ مصغرة ،يدّ عي الفرنسيّون ّأنها تعمل لحساب اإلنكليز ،واإلنكليز لك ّنها لم تكن واحدة من هؤالءّ ،إنها في حقيقتها عصبة أمم يزعمون ّأنها عميلة ألمانيّة ،واألصحّ ّأنها جاسوسة عالميّة(.»...موزاييك -دمشق .)39
155
مقال
شايع الوقيان كاتب سعودي
صورة المرأة في عصر النهضة عصر النهضة العربية ابتدأ باللحظة التي التقى فيها
الشرق بالغرب .صحيح أنه كانت هناك لقاءات بين الشرق
فريد وجدي يؤلف «المرأة المسلمة» ردًّا على كتاب أمين .وها
الصليبية لكنه كان لقاءً بين ندّين تقريبًا .أما في العصور
حقيقته وحكمة حكمه فتجاوزوه إلى أذى وضرار .و«أما الخصوم
والغرب إبان الوجود اإلسالمي في األندلس وإبان الحروب
الحديثة فالشرق هذه المرة يلتقي غربًا جديدًا عليه وأقوى منه؛ غرب الثورة الصناعية والتقدم العلمي والتطور
الجيوسياسي والعسكري .ويمكن التأريخ له بغزو نابليون مصر في آخر القرن الثامن عشر .وكان هناك مفكرون
156
المرأة ،ومعارضوه هم معارضو حرية المرأة .فها هو ذا محمد
هو ذا أحمد شوقي يرثي أمي ًنا مؤيدًا له وألفكاره .يقول :جهلوا فرفعوا عقائرهم صادحين :كتب الحرب والقتال علينا وعلى
الذيول»! الغانيات جر ِ أعداء المرأة
وأدباء واكبوا هذا اللقاء الحضاري وعبروا عنه أبلغ تعبير،
لنلق نظرة على خصوم المرأة أو أعدائها! وأشهرهم هو عباس ً أحيانا بأنه «ليبرالي!» وهذا محمود العقاد .هذا الرجل يوصف
وقاسم أمين ،وينتهي هذا العصر برأيي مع النصف األول
دعاة الفردانية عند العرب .والفردانية هي إحدى ركائز الليبرالية.
جمال عبدالناصر باالنقالب على العصر النيابي الليبرالي
يقول في «ساعات بين الكتب»« :ليس للمرأة في قرارة نفسها
هناك مسائل كثيرة ناقشها رواد عصر النهضة وكلها
الذي تطيعه ،وتلقي بنفسها لكل ما فيها من ذخر حالوتها بين
ونذكر منهم :رفاعة الطهطاوي ،وخير الدين التونسي،
وجمال الدين األفغاني ،وفرح أنطون ،ومحمد عبده،
من القرن العشرين عندما قام الضباط في مصر بقيادة
عام ١٩٥٢م.
يمكن أن تجمع تحت سؤال واحد :لماذا تأخر العرب
والمسلمون وتقدم الغرب؟! ومن األسئلة الفرعية سؤال
المرأة .فقد كان وضع المرأة االجتماعي والقانوني حاض ًرا
لدى أغلبية -بل كل -رواد النهضة .وتنوعت أساليب الطرح
صحيح جزئيًّا .فهو مؤمن أشد اإليمان بحرية الفرد وهو من أبرز
لكن موقفه من النساء يجعلنا نحذر من إطالق النعوت واأللقاب. سعادة أكبر من سعادة الطاعة ،وال أمل أرفع من حب الرجل
وليقس الرجل عليها أو يرحمها ويعذبها ..فإنها لسعيدة يديه، ُ بالطاعة»(األعمال الكاملة ،مجلد ،٢٦ص .)٣٣وال أدري كيف
عرف العقاد ما في قرارة المرأة؟! وال أدري كيف جرؤ على التحدث
وطرائق التحليل بينهم ً تنوعا كبي ًرا .ويمكن أن نميز في آرائهم
باسمها في شيء من أخص خصائصها وهو خلجات النفس واعتماالت العقل! ويبدو أن العقاد يتصور المرأة كائ ًنا «مازوخيًّا»
تابعة للرجل ،وبين مجددين يرون أن المرأة مساوية للرجل
تحب فإنها سوف تكفر بالحقوق والمطالبات ،ولما قام للحركة
بين محافظين يرون أن المرأة يجب أن تكون حبيسة المنزل في الحقوق وفي الممارسة االجتماعية وأنها حرة كالرجل. يعد قاسم أمين أبرز من دعا لحرية المرأة وكتابه «تحرير
يتلذذ بالعذاب والمهانة .ويقول« :لو أن المرأة وجدت الرجل الذي النسوية قائمة» .وكل كالم العقاد عن المرأة هو أمر لها بالطاعة العمياء للرجل «فالمرأة ُخلقت لتعطي والرجل خلق ليأخذ منها
المرأة» أشهر من أن نعرف به .وقد أردفه كتابًا آخر بعنوان:
كل ما تعطيه ،خلقت المرأة للطاعة وخلق الرجل للسيادة».
وأحمد فارس الشدياق سبقوا قاسم أمين في الدعوة إلى
مفك ًرا ح ًّرا وأديبًا قاد ثورة من أعظم الثورات األدبية يعد سقطة
«المرأة الجديدة» .ويرى مارون عبود أن الكتاب األتراك
حرية المرأة (مارون عبود ،األعمال الكاملة :ج ٢ص .)٢٦٦
وقد تحول النقاش حول المرأة إلى نقاش طويل حول كتاب قاسم أمين؛ فصار مؤيدو الكتاب هم ذاتهم مؤيدو حرية
العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
(ص .)٣٤هذا الكالم المشين الصادر من رجل يفترض أن يكون
مدوية ،وال أظن أن العقاد كان له بعد نظر واستشراف للمستقبل وإال لعرف أنه سيأتي يوم يلفظ الناس فيه كالمه هذا كما يلفظون
الطعام الفاسد.
في كتاب «فتاوى األدباء» يقرر جميل صدقي الزهاوي -وهو
معروف بتأييده للسفور« :قلت :هل في السفور خير يرجّ ى؟ -قال خير من الحجاب السفورُ -إن الرجل والمرأة كجناحي الطائر وال يمكن للطائر أن يطير بحناج واحد» (ص .)١٢٢يتفق معه أحمد
أمين فيقول :الرجل لوحده ناقص والمرأة لوحدها ناقصة وهما معً ا إنسان كامل(.فيض الخاطر ،ج ،١ص .)٢٦١لكن أحمد أمين
ال يلبث أن يعود فيتحيز للرجل إذ يؤكد أن الرجل أكثر سعة
في العقل وفي الخيال من المرأة ،وأنه لم يكن هناك نساء في
الفلسفة وال في النبوة! لكن مارون عبود يؤكد أنه كان هناك نساء
مسائل كثيرة ناقشها رواد عصر النهضة وكلها يمكن أن تجمع تحت سؤال واحد: لماذا تأخر العرب والمسلمون وتقدم الغرب؟! ومن األسئلة الفرعية سؤال المرأة .فقد كان وضع المرأة االجتماعي حاضرا لدى أغلبية رواد النهضة والقانوني ً
«نبيات» في عهد بني إسرائيل .فهناك «حنة» و«دبورة» وغيرهما، وأن األديان تساوي المرأة بالرجل!(عبود ،األعمال الكاملة ،ج،٣ ص ،١٢٤-١٢٣وانظر ً أيضا ج ،٨ص .)٨٠٣أحمد أمين في موقفه
من المرأة مضطرب ومتناقض .فرغم أنه يؤكد أن المرأة لم تتح
لها الفرص التي أتيحت للرجل وإال فإنها كانت ستتفوق في الشعر والفكر والسياسة ..فإنه يعود فيقرر أن الخصائص التي للمرأة هي
خصائص طبيعية فطرية ال تقبل التغير ..ويقصد بهذه الخصائص:
ضعف المرأة مقابل قوة الرجل في العقل والخيال والتمرد ويستشهد بأن رجلاً قاد ثورة تحرير المرأة وهو قاسم أمين ثم
تبعته المرأة (هدى شعراوي)( .فيض الخاطر،ص .)٢٦٣ ومن أسف أن أحمد أمين كالعقاد يعد مفك ًرا ليبراليًّا مؤمناً
بالحرية .لكن تحيزه الذكوري خذله ،في حين غرور العقاد هو من خذله .وأما رفيق العقاد ،عبدالقادر المازني فليس أفضل ًّ حظا من
سلبي .فهي ثرثارة والرجل صموت. صاحبه؛ فموقفه من المرأة ّ و«ال تصمت المرأة إال إذا عجز لسانها عن الجري وانقطعت
ص .)١٣٩ويتفق معه أمين واصف الذي يعد تحرر المرأة ومساواتها بالرجل في الحقوق ً مرضا من األمراض االجتماعية المعضلة (نفسه ،ص .)١١١وأما عبدالوهاب عزام فهو محافظ ويرفض حرية المرأة ويردد األسطوانة المشروخة وهي أن المرأة مصونة مكرمة وأنها ليست في حاجة للمشاركة االجتماعية والسياسية( .نقلاً
عن :عبداللطيف شرارة ،معارك أدبية ،ص.)٣٨٣
المحافظة المقنعة ً ً لكن هناك مفكرين وأدباء وقفوا موقفا وسطا .وبرأيي أن الوسطية في مسائل كهذه هي ضرب من المحافظة المق ّنعة! فأسعد داغر مثلاً يدعو لالعتدال ونبذ تقليد المرأة الغربية
(نفسه ،ص .)٣٧١والغريب أن شبلي شميل صاحب مذهب النشوء
واالرتقاء وقف هذا الموقف المتخاذل فيرى أن الرجل -فسيولوجيًّا
أنفاسها ألن الكالم ال يكلفها نصبًا عقليًّا!»(.قبض الريح ،ص.)١٢٧
ونفسيًّا -أفضل من المرأة ويدعو لوسطية مهلهلة :فليس علينا
وجلي وطه حسين وولي الدين يكن وغيرهم فموقفهم واضح ّ وال تذبذب فيه .فولي الدين يكن في «الصحائف السوداء» يؤيد
فعل ديدرو! ويرى أن المرأة «تابعة للرجل في ارتقائه» ( شميل،
أما زعماء الليبرالية األصالء كأحمد لطفي السيد وقاسم أمين
موقف قاسم أمين ،وكذلك سعد زغلول ،وهناك مفكر لم يشتهر
ويدعى محمد عمر وله كتاب «حاضر المصريين أو سر تأخرهم». أُ ِّلف سنة ١٩٠٢م .وفيه دفاع قوي عن المرأة وحقوقها وحريتها.
يرى أن إبعاد النساء من المشاركة االجتماعية يفضي إلى انحطاط المجتمع ،ويأسف هذا المفكر على أن من عارض قاسم أمين
«ليس من فئة األميين وسطحيي المعارف بل من الفئة الممتازة؛
فئة العلماء»(ص .)١٦٤ويرى أن المعارضين هم «عراقيل وقتية ال تستطيع مقاومة قوة الحقائق»( .ص.)١٦٥
هؤالء المعارضون لحقوق المرأة هم ممن غلبت عليهم
أن نحتقر المرأة كما فعل شوبنهاور وال أن نبالغ في تعظيمها كما
المقاالت ،ص .)١٠٤
ً ملخصا سريعً ا ألبرز اآلراء التي طرحها مفكرو ما سبق كان
النهضة وأدباؤها .وقد اقتصرت على آراء الرجال لتخصيص
الموضوع وإال فإن هناك نساء مفكرات وأديبات ممن دعا لحرية
المرأة مثل هدى شعراوي وصديقتها سيزا نبراوي وسهير القلماوي
وصفية زغلول (زوجة سعد زغلول) وأمينة السعيد وغيرهن. فالمقام ال يسمح بذلك وسوف أخصص لهن اً مقال منفردًا في قابل األيام .لقد شهد تاريخ العالم الحديث أن كل البلدان المتقدمة في كل المجاالت هي البلدان التي أعطت المرأة الحقوق كافة ،ولم
تنتقص منها ومن دورها ،ولم تجعلها حبيسة المنزل وحبيسة
المحافظة في كل شيء :في الفقه واألدب والفكر والسياسة .فها
العادات والتقاليد .فهوية المرأة تكمن في أن تتحرر من األصفاد، وأن تكسر القيود وأن تصبح عضوًا فاعلاً في المجتمع ،ولن يتحقق
«فساد األنوثة» الذي تدعو له حركات التحرر (فتاوى األدباء،
والتأويالت الدينية المتحجرة.
هو ذا مصطفى صادق الرافعي ،أبرز المحافظين ،يرى أن المرأة كائن مغاير للرجل ،وأن لكل جنس دوره الخاص به ويحذر من
هذا وهي مطمورة تحت ركام من التقاليد البالية والعادات الظالمة
157
نصوص
يا طفلي نصوص قصيرة ج ًّدا عبدالله السفر
شاعر سعودي
ُ سيجارة َخ ْل ٍق ضجران. يا طفلي! إنما أنت
* * * ٌ ُ يا طفلي! إياك إياك .ال تنخدع .جرّة الرماد ثقيلة ثقيلة.
* * * يا طفلي! كر ْ ّس حنجرتك للغزل وسوف تنبت للرصيف أجنحة.
158
* * * ُ ّ يا طفلي! ا ّدخ ْر شربة الماء .الظل قصي ٌر والهاجرة مقبلة.
* * * ّ أم َ ْ قتلت َّ ُ ً ك. العيون المصفحة وجها. يا طفلي! ُش َّق لالبتسامة * * * يا طفلي! كو ُب َ ك غي ُر فارغ .لمه الدمدمة؟
* * * َ ولكن جمال َ ّ ك شديد. يا طفلي! ستراهم سكارى وما هم بسكارى، * * * ً تلتفتُّ . ّ ْ كل ُه ُم ّد َخر وستتذكرُه؛ فاصلة فاصلة. امض .ال يا طفلي! ِ * * * سيرك منصوب .هذا ً ٌ أيضا ،سراب. يا طفلي! انظ ْر إليه. * * *
العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
يا طفلي! ّ فاخترعت َ ُ تفن ُنوا في َ لك الدهاليز. ب؛ الحجْ ِ * * * ً ّ حتما ،سيُصا ُبون بك. تتعجل. يا طفلي! ال
* * * انتبه ُّ للعبةّ . ّ َ ْ تيق ْظ إلى أنك في اللعبة. يا طفلي! * * * ٌ ُ ٌ وشمع َ ُ قليل وهيّن. ك عاتية الظلمة يا طفلي!
* * * يا طفلي! ْاتبَع َ ُ البلل؛ وسيبلِغ َ ك عن العطش. ِ * * * بإسراف ،وال تهتم. يا طفلي! أن ِف ْق من األغنية ٍ
* * * يا طفلي! المالعين جاؤوا بأثوابهم السابغة .افضحْ هم .اخرجْ عليهم ُ بعريِك. * * * ُ ّ تصد ْق ّ ُ لعبة نرد. الجزاء أن الجزا َء من جنس العمل. يا طفلي! ال * * * يا طفلي! َّ َ الطر ُْق يتعالى ّ الشاطئ مقفر. لكن
* * * ْ يا طفلي! َّ فازحف وستصل. ك الس ْي ُر المدهون ال تمش عليه .على بط ِن ِ ِ * * * ُ ضحكتك. يا طفلي! السوق مزدحم؛ فلتشرق * * * ُ يا طفلي! َ هج َم ُّ السعاة وال بريد.
* * * ّ ّ القصاب. يا طفلي! ِمن هرهرة الكالب وذلها ستعرف ُ ُ ُ ُ قرقعة عظام. تتبع ُه دم آيت ُه بقعة ٍ
159
إعالم
السيلفي:
غياب للديمومة في مقابل اللحظة تواضعت أحالم البشر وتبدد مطلب السعادة األبدية
160
هند السليمان
كاتبة سعودية
في الهواتف الذكية الحديثة وُضع ألبوم خاص بصور السيلفي ،فما الذي يعنيه هذا؟ أهو داللة ال على استخدامنا المكثف للسيلفي فقط ،بل إلحاحه ً أيضا؟ أم هو معنى جديد للتصوير يحتاج ً وتصنيفا وحده؟ وبناءً عليه ،ما القراءات اسمً ا المحتملة لوجود السيلفي في محيطنا وكثافة انتشاره؟ فبشكل يومي وجدنا أنفسنا محاطين بأشخاص مهمومين بالتقاط السيلفي ،إن لم نكن نحن ً أيضا أحد هؤالء.
العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
السيلفي فعل ال تستطيع حصره بمكان أو بنمط أفراد بمواصفات محددة ،فمع 24بليون سيلفي ُنشرت فقط السنة
الماضية ،فإن األمر أكثر انتشارًا من إمكانية حصره بفئة محددة. تقول النسب :إنه وإن كان الرجال والنساء يلتقطون السيلفي بمعدالت متقاربة ،قد تتفاوت باختالف الدول ،إال أن %13من النساء ُتجري تعديال ً على صورها قبل نشرها ،مقابل %34من
الرجال يفعلون ذلك ،هذه النسب ال تتماشى مع تصوراتنا عن أولويات االهتمام بالشكل لكليهما ،لكن يظهر أن هناك عوامل أخرى صنعت هذا الفارق ،فهل وجد الرجل في السيلفي مرآته
ومكياجه اللذين استهجن عليه استخدامهما لقرون؟
السيلفي ليس بالضرورة صورة لشاب في رحلة ترفيهية عابثة .فمثالً ،في شارع وول ستريت بنيويورك قد تصادف رجلاً
أربعينيًّا ببدلة رسمية يمشي بعزيمة وصرامة كأغلب عابري
هذا الشارع ،ليتوقف فجأة ،لثانيتين ،يلتقط فيها سيلفي،
ثم يستكمل طريقه بعد ذلك .شخصيًّا الفعل كان صادمً ا، لكن استطاعت هذه الثانيتان كسر حاجز الوقار المتخيل لرجل
أربعيني ببدلة رسمية ،وكذلك كسر حاجز رتابة موظفي وول ستريت وجمودهم كما تشكل في مُخيلتنا! ً أيضا ،في الجامعة،
استخدام السيلفي المكثف أحد العالمات الضطراب نفسي قد يتداخل فيه عدد من اضطرابات الشخصية كالنرجسية أو الحدية أو الهستيرية أو الوسواس وتحديدا األفعال القهرية القهري ً اإلضاءة الطبيعية ،وبخاصة مع حساسية المواد المستخدمة في التصوير وبدائيتها .الصورة كانت لمنظر طبيعي ،فحينها من كان سيجد من يقبل الوقوف أمام آلة غريبة ومجهولة لمدة
ثماني ساعات بشكل منتصب ،مع عدم معرفة ماذا سيحدث من
هذه اآللة العجيبة بعد ضغط الزر .لعله كان هناك خوف وتردد
مشترك من جانب من سيُصوَّر ،ومن المصوَّر كذلك .على أي حال ،هذا األمر ،كما كل ما يخص التقنية ،لم يستمر طويلاً ، ففي نهاية القرن التاسع عشر ،ومع تطور التقنيات أصبح التقاط ً وأحيانا قد الصورة يستغرق بين عشر دقائق إلى دقيقتين، يمتد إلى ساعة .هذا االختالف الزمني ،الذي يكشف عن سيطرة
أفضل على تقنية ما زالت في طور االكتشاف ،أسهم في وجود
وفي أثناء إلقاء محاضرة تفاجأت بطالبة تخرج جوالها لتلتقط
األفراد في الصور ،وبدأنا نرى صورًا شخصية ،لكن ألن الزمن
الجامعة للحرمان من فصل دراسي وربما الطرد من الجامعة،
فمن يستطيع االحتفاظ بذات تعابير الوجه ،كاالبتسام ،لمدة
سيلفي داخل قاعة المحاضرة! هذا األمر قد يُعرضها ،وفق لوائح لكن من الواضح ،انتماء الطالبة لثقافة عصرها ،لدرجة أن يصبح
هذا االنتماء أهم من مستقبلها األكاديمي في مؤسسة أكاديمية
عجزت أن تواكب وتتناسب قوانينها ومعاييرها مع متطلبات العصر الذي يعيشه طلب ُتها. بداية لنتفحص التعريف المعتمد للسيلفي ،في عام
2013م عرف قاموس أوكسفورد السيلفي بأنه «صورة ملتقطة ُ ويبكام تنشر على مواقع للتواصل ذاتيًّا بواسطة هاتف ذكي أو االجتماعي» .ول ُتطرح كلمة سيلفي بوصفها «كلمة العام»
لكثرة تداولها .هذا التعريف يتضمن ثالثة عناصر أساسية تحدد وتميزه من بقية الصور ،اً السيلفي ُ أول :إنها صورة ذاتية ،ثانيًا
المستغرق طويل فنجد صور األفراد ،كأنها صور لتماثيل خشبية.
عشر دقائق أمام الكاميرا .لذا كان الجمود هو الحل المالئم أمام جمود الوقت الذي يتطلبه التصوير آنذاك .وقتها كان التقاط ً حدثا ال يتحقق إال للمحظوظين ،وقد يحدث مرة صورة عائلية واحدة في العمر ،وال نعرف دوافع األفراد لتجربة ذلك وكيف كانت تصوراتهم ومشاعرهم حول تجربتهم تلك .وإن كان هناك
كتاب لمصور أميركي جمع قصص أفراد تناولوا تجارب مواجهة الكاميرا للمرة األولى ،وكيف أن بعضهم كان برحلة سفر لهذا الغرض ،ولهذا الغرض فقط ،كأنها إحدى رحالت العالج التي
يقوم بها أحدنا اآلن!
بعد ذلك بدأت الصور تستخدم كإثبات لهوية الفرد في ً خوفا الوثائق الرسمية ،وهذا يتطلب وضعية للجسد ثابتة ،ال
ً وثالثا :النشر يتم عبر وسائل التواصل إن األداة :هاتف ذكي، ً أركانا ثالثة للسيلفي: االجتماعي .إذن هذا التعريف يحدد
من اآللة ،بل اللتقاط صورة بجدية تكشف مالمح الوجة بأفضل
األركان الثالثة ،وأي فارق تصنع؟ لتحليل هذه األركان الثالثة،
بالسالسة المتوقعة ،فما زال التصوير في بطاقة الهوية موضعً ا
الذات ،والتقنية الحديثة ،تواصل عبر مواقع النت .ما داللة هذه
ربما يحسن بنا تأمل سريع في تاريخ التصوير. ٭٭٭
يقارب عمر التصوير الفوتوغرافي مئتي عام .ظهرت أول
صورة ما زالت متداولة عام 1826م .تلك الصورة استغرق زمن
تصويرها ثماني ساعات! كل هذا الوقت لتثبيت الكاميرا وضبط
وضوح ممكن ،ألسباب أمنية .علمًا أن صور الهوية لم تمر
للجدل ،وبخاصة حين يتعلق األمر بصور النساء ،وإن كان هذا الجدل شمل صورة الرجال لكن بنبرة أقل تشددًا .ألم يكن «عكسا» ،مع ما مجتمعنا إلى زمن ليس ببعيد يسمي التصوير ً
تحمله هذه الكلمة من داللة لالستهجان والرفض الخائف؟
وألن التقنية ال تتوقف ،فالتحديثات في صناعة الكاميرا ً ضيفا أساسً ا لتسجيل المناسبات جعلتها تقتحم البيوت وتصبح
161
إعالم
االجتماعية المهمة .أال يشغل كل عروس هم إيجاد مصورة
أعرفها ،ألجعل الصورة تقارب ما أحلم به من أنف أدق وبشرة ً إشراقا وإثارة. أكثر صفاء ،ومكان كخلفية للصورة أكثر
ذاتي .بل كاميرا معدة للتصوير وشخص آخر يقوم بذلك ،إما
ُتظهر الوجه بشكل أقل جاذبية من حقيقته ،إال أننا أصبحنا
أعراس مناسبة .وأصبح كل من يسافر عليه حمل كاميراه لتوثيق اللحظات التاريخية المميزة في رحلته .كل هذا ،كان تصوي ًرا غير
متخصص أو أحد الحضور ،وبتبرع أحدهم بالتصوير يفقد امتياز
وجوده في الصورة .لننتهي بعد هذه المراحل إلى ما وصلنا إليه ً حديثا ،أي السيلفي. ٭٭٭
الشاشة األمامية لكاميرا الجوال وبمقاييس فيزيائية ،غالبًا،
نفضل أن نصور ذواتنا على أن يفعل اآلخرون ذلك .هم ال يعرفوننا كما نعرف أنفسنا ،ال يعلمون أي زاوية ُتظهرنا أجمل ،وأي نظرة
والتفاتة تعمق سحرنا .فكما قالت صديقة لتفسر تفضيلها السيلفي
«ال أثق بتصوير اآلخرين ،أنا لست جميلة ،لكن أعرف الزاوية التي تظهرني كجميلة» .كأننا باالرتكان إلى السيلفي نقول لآلخر :إنك
من جهة أخرى ،أليس في السيلفي تواضع في البحث
ال تستطيع التقاط جمالنا المخبوء ،ال ترى الجمال بداخلنا ،لكننا
كل ما نسعى له هو لحظتنا الخاصة ،البعيدة من صخب
هذا فالعالقة ليست بهذا التبسيط ،ففي الوقت ذاته وبعد التقاط
عن لحظة للفرح ال ديمومة لها .فهل تواضعت أحالمنا وأصبح وتدخالت اآلخرين لنصورها .هل توقفنا عن اإليمان بخاتمة
القصص التقليدية« :وعاشوا بسعادة أبدية» ليصبح؛ عشت
لحظة جميلة ،هي المبتغى .أهذا بؤس أم واقعية في الطموح؟ لو تأملنا صور السيلفي ،أغلبها صور ألفراد يظهرون وحدهم
وعليهم أمارات السعادة ،أو العبث ،أو «الدلع» ،فالسيلفي
احتفال الذات بالذات دون اشتراط وجود اآلخرين إلقامة الحفلة،
نستطيع ذلك بأنفسنا .أنا ال أثق بعينك ولكن أثق بعيني أنا .ومع الصورة ،ينشرها الفرد ليراها اآلخرون ،كأنه عدم ثقة باآلخرين،
وفي الوقت نفسه التماس لتأكيد يأتي من جانبهم .أليست هذه هي طبيعة إشكالية عالقتنا مع اآلخرين؟ بين عدم الثقة باآلخرين
والحاجة للثقة فيهم؟ فسيرورة خلقنا لهويتنا الذاتية المستقلة والمتمايزة من اآلخرين ،تتطلب في الوقت ذاته اآلخرين ،فمن
لكن بإمكان اآلخرين رؤية آثار الحفلة ،ما تبقى منها ،بعد نشر
162
الصورة .فالفرح ال يرتبط بوجود اآلخرين .في السيلفي ،الفرد
يعلنها :ال أحتاج أحدً ا ليصورني ،وال أحتاج كاميرا متخصصة ،أو محل تحميض ووق ًتا للحصول على صورة ،إنها لحظتي أصنعها بوقتي الذي أختاره وبجهازي الخاص ،وبمساعدة تطبيقات
الشعور بامتالك اللحظة قد ينفخ خيالنا حد التصور أننا ربما نمتلك حياتنا ،ليغذي هذا من نهمنا لمزيد من السيلفي. فهل هذا ما يمنحه لنا السلفي ،شعور مفخم بالقوة والسطوة حد امتالك تقرير لحظتنا ـ حياتنا؟
العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
السيلفي :غياب للديمومة في ُمقابل اللحظة
خاللهم نتعرف إلى هويتنا ،نتلمسها ،نختبرها ،لنصدقها بعد ً وفقا لهيدغر هم «الحقيقة الذين ال يميّز المر ذلك .فاآلخرون
ء نفسه عنه .إنهم استكمال لهوية الذات وتشكلها .إنها «هويّة تستوعب اآلخر في اللحظة التي تلغي فيها آخريّته ع ّنا» ،كما يشرحها فتحي المسكيني .ولعلنا ننهي هذه الفقرة ببقية اقتباسنا من المسكيني ،لنرى كيف يمكن إسقاط طبيعة عالقتنا مع اآلخر
على رؤيتنا وتناولنا للسيلفي ،وذلك من خالل هويتنا المنفصلة المتصلة عن اآلخر .يناقش المسكيني كيف يشكل التعايش مع اآلخر مدخلاً لسبر الذاتية« :ها هنا يمكن للتعايش أن يأخذ اً أشكال غير مسبوقة فلسفيًّا :من قبيل «وجهيّة» الوجه البشري،
التي تسبق معرفتنا له كموضوع ،إذ نفهم أن «حضور اآلخر هو
تعبير» محض؛ الوجه البشري ال «يظهر» بل «يعبر» ،وهكذا
يجد «التعايش» مقامه المناسب :هو «أن نتلقى الغير فيما أبعد من قدرة األنا» من منطلق أن حضور اآلخر ال يدمر حريتي بل «يستثمرها» .إن التعايش في جوهره هو نوع من «األخوّة» بين البشر :أي هو محض عالقة مع «وجه الغير» ليس بوصفه شي ًئا ّ «تشكلنا» من الداخل. ينضاف إلينا من خارج ،بل بوصفه عالقة
إنّ معنى التعايُش غير ممكن من دون اإلقرار بنوع ما من «أوّلية اآلخر» علينا».
فن عابر سريع الزوال جانب آخر ال بد من تناوله في معرض النقاش عن السيلفي ،وهو هل السيلفي فن؟ لإلجابة ،علينا مقارنة السيلفي بفن مشابه:
البورتريه الذاتي .فال شيء يظهر من العدم ،ومن هنا ال مناص من التاريخ للعودة إلى جذور ما قد تسهم في إلقاء ضوء إضافي لفهم
السيلفي .فهل السيلفي هو امتداد لفن البورتريه الذاتي؟ كالهما عبارة عن عمل يقوم أحدهما بتقديم صورته الذاتية على اآلخرين ً ً حديثا فالهواتف الذكية .فهل كثافة السيلفي مقابل ندرة سابقا كانت التقنية :األلوان والقماش والمرآة ،أما وعرضها باستخدام التقنية. البورتريه بما يتطلبه األخير من مهارة عالية للتمكن من اإلجادة؛ ما يجعل البورتريه ف ًّنا والسيلفي محض استعراض نرجسي للذات؟ فنسنت فان غوخ وفريدا كاهلو ،أشهر من قدم البورتريه الذاتي بصور متعددة تتجاوز العشرات ،ولم تقرأ أعمالهما تحديدًا بوصفهما
تجسيدًا لنرجسية ورغبة في التحكم ،لماذا؟ هل ألن فان غوخ في كل تلك األعمال يستعرض حزنه ووحدته ،في حين فريدا كاهلو
تستعرض إشكالية الجسد والمرض لديها .أيعني هذا أننا نتسامح إن كان استعراض الذات يتم عبر استعراض للحزن واأللم ،ولكن نرفض استعراض الفرح والتباهي الذي يغلب وجوده مع السيلفي؟ هل ُنعلي من قيمة التراجيديا في حياتنا مقابل بخس مشاعر الفرح والعبث. بالعودة إلى حديث الدكتور أبتر ،يرى أن كليهما ،البورتريه الذاتي والسيلفي ،يقومان على االستعراض والمبالغة ،لكن ما يفرقهما
بشكل أساس أن البورتريه يتطلب أن تكون مشهورًا لتفعل ذلك ،أما السيلفي فحتى المجهولون يستطيعون عرض ذواتهم لآلخرين .فهل
البورتريه فن نخبوي والسيلفي فن شعبوي؟ وهل عبر السيلفي تمت دمقرطة البورتريه الذاتي ،أم حُ وِّل لمنتج استهالكي كما كل شيء من حولنا اآلن؟ قبل اإلجابة عن هذه التساؤالت علينا تذكر إجابة فريدا كاهلو حين سُ ئلت :لماذا البورتريه الذاتي؟ فقالت« :أريد أن أظهر نفسي بشكل جيد» .أال يشابه هذا قول الصديقة التي فضلت السيلفي على تصوير اآلخرين لها؟
لعل شعبوية السيلفي مقابل نخبوية البورتريه الذاتي هي ما جعلت بعض الباحثين يفرق بينهما ،بكون البورتريه وإن كان يقدم
صورة للذات لكنه يطرحه ضمن محتوى يتضمن تساؤالت عميقة حول الهوية والذات والوجود ،في حين السيلفي كل ما يريده الفرد من
خالله ،أن يظهر لآلخرين بشكل جميل .في السيلفي الصورة واضحة بأبعاد محددة ال تسمح بتعدد القراءات والتفسيرات ،أما البورتريه فهو فن تأويلي يطرح نفسه كسؤال ،على المشاهد أن يتداخل معه ليجد بعض اإلجابات التي تناسبه .في السيلفي على المشاهد فقط أن يحدد إن كانت الصورة جميلة أم ال ،من دون تأويل تتداخل فيه الذات مع العمل المشاهد .وبهذا فإن البورتريه ُخلق ليبقى ،ليكون
شاهدًا على مرحلة وعلى وجود لذات الفنان وتساؤالته ،وتساؤالت عصره ً أيضا ،في حين السيلفي فن عابر سريع الزوال .لكن أليس في هذا انتقال من الزمن الديمومي إلى زمن اللحظة .ومن ثم يصبح السؤال؛ هل يقلل هذا من احتمالية أن يكون السيلفي ف ًّنا؟ فإن كان اً أعمال تختزل العصر الذي يعيشه الفنان وتطرح تساؤالته وإشكالياته ،فبهذا يكون السيلفي ف ًّنا يعبر أحد تعاريف الفن ،هو تقديم الفنان عن واقعنا ،الواقع الذي ُتمَجَّ د فيه اللحظةٌّ . فكل مطالب بأن يعيش لحظته ،لذا وُجد في السيلفي تثبيت لهذه اللحظة ،اللحظة فقط.
وأخي ًرا ،كل ما عرضناه وما غفلنا عن عرضه يظل احتماالت لتفسير تولعنا بالسيلفي .لكن لعل من المالئم االستعانة ختامًا بالشعر
إلضاءة زاوية أخرى في معرض قراءة دالالت السيلفي .تقول فيرونيكا فوريست تومسون:«الحب هو آلة التصوير األكثر قدمًا ..خذ لي لقطة بعينيك» .فهل السيلفي في جوهره فعل نقوم به ً بحثا عن الحب؟ فإن لم نكن محظوظين بمصادفة الحب في طريقنا ،فيكفي أن
نحب نحن أنفسنا ،ولنأخذ بأعيننا صورة لناُ ،نعلن بها هذا الحب .فلنلتقط مزيدًا من السيلفي.
163
إعالم
الوقف في وسائل اإلعالم.. تجارب من بريطانيا حبيب بن عبدالله الشمري
164
صحافي سعودي
تعد القناة التلفزيونية الرابعة وصحيفة الغارديان اليومية وأختها صحيفة األوبزرفر األسبوعية من الوسائل اإلعالمية العمومية والوقفية في بريطانيا ،بمعنى أنها مستقلة تمامً ا في تمويل نفسها وإدارة تحريرها وتوظيف كوادرها ،وعدم وجود مساهمين أو مالك أو سياسيين يؤثرون في إيراداتها ومحتواها وتوجهاتها ،رغم أن التوجهات التي تسير وفقها هاتان المؤسستان قائمة على المحافظة على القيم الليبرالية ،والتحديث ،واالبتكار ،ومواكبة التغير التقني في عالم رأسمالي جشع تسيطر ً ً أحيانا أخرى ،وتقترب أحيانا ،ويختفي الصوت اآلخر عليه النزعة الربحية التي تغيب معها الحقيقة من طبيعتهما التشغيلية قنوات البي بي سي إال أن دافعي الضرائب شركاء في سياسة الـBBC ويرفضون تمويلها من اإلعالنات التجارية .الحديث عن التنوع في ملكيات وإدارات وسائل اإلعالم في بريطانيا مهم وال سيما في إعالم اليوم الذي تدور رحى صراع الملكية فيه بين الحكومات العربية ورجال األعمال في تغييب تام للمُ شاهد العربي الذي ال يحدد ما يرغب في مشاهدته ،بل ُي َّ حدد له ذلك رغمً ا عنه ،سواء بتوجهات سياسية أو بضغوطات مُ علِنين.
العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
مؤسسات اإلعالم البريطاني
تنقسم مؤسسات اإلعالم في بريطانيا إلى ثالثة أنواع رئيسية:
أولها تمثله صاحبة الحصة الجماهيرية األولى واألكبر هيئة اإلذاعة
البريطانية ( )BBCبوصفها مؤسسة إعالمية حكومية عامة ،لكنها ال تتلقى أي دعم من الحكومة البريطانية ،بل إن تمويلها وبشكل
مباشر من المواطنين البريطانيين عبر ضريبة سنوية مفروضة على كل مواطن يمتلك جها ًزا تلفزيونيًّا بما يقارب من 190دوالرًا ،في
الحديث عن التنوع في ملكيات وإدارات وسائل اإلعالم مهم ،وال سيما في إعالم اليوم الذي تدور رحى صراع الملكية فيه بين الحكومات العربية ورجال األعمال في تغييب تام للمشاهد العربي
حين يقتصر تدخل الحكومة على تحصيل الضرائب وتحويلها للبي
من برامجها مُنتجة بالتعاون مع شركات من خارج حدود العاصمة
وإخفاقاتها .وبذلك تتحرر البي بي سي من أي تبعية مادية من
بعيدًا من عاصمة المال واالقتصاد.
بي سي ،وكذلك مساءلتها في البرلمان عن خططها وسياساتها
الحكومة البريطانية؛ األمر الذي يعفيها من االنحياز للحكومة وأي
حزب سياسي ،وتضمن االستقاللية وعدم تدخل الحكومة في
لندن؛ من أجل دعم مؤسسات اإلنتاج الصغيرة والمتوسطة التي تقع
وال يمكن أن يكون االلتزام بمثل هذه األهداف إال من طريق إدارة مستقلة وتمويل مستمر ومستقل ً أيضا ال يؤثر فيها وفي طريقتها
سياستها التحريرية ،وكذلك تحمي نفسها من سطوة المعلنين؛ إذ
ورؤية القائمين عليها بتنفيذ هذه االلتزامات ،ويأتي تمويلها من
تامة من الجشع الرأسمالي ،وتحصل على حرية تامة مريحة في
العالم .في حين تعد صحيفة الغارديان من أكثر الصحف الناطقة
إنها ال تبث إعالنات تجارية في قنواتها ،ومن ثم تتمتع باستقاللية
تناول القضايا ،وأهمها ما يمس حياة المواطن المستهلك ،وهو
دافع الضرائب البريطاني؛ األمر الذي جعل منها مؤسسة تحظى بثقة واحترام المشاهدين ليس فقط في بريطانيا بل حول العالم.
والنوع الثاني تمثله القناة الرابعة ذات المركز الثالث في نسبة
اإلعالنات التجارية ،والخدمات اإللكترونية ،وبيع المحتوى حول
باإلنجليزية قراءة عبر اإلنترنت حول العالم ،وراوَحَ مركزها خالل السنوات الماضية بين الثاني والخامس عالميًّا ،وتتنافس معها باستمرار مواطنتها صحيفة الديلي ميل ،ونيويورك تايمز األميركية،
اللتان تتبعان القطاع الخاص بشكل كامل ،فهل أثر الوقف في صحيفة الغارديان؟ تأثرت الصحيفة مثل غيرها؛ بسبب األزمات
الجماهيرية التلفزيونية وصحيفة الغارديان وأختها األوبزرفر ،إال أن ً ً بسيطا بينهما ،وهو أن القناة الرابعة ال تزال مملوكة اختالفا هناك
المالية ،وتراجع نسب التوزيع ،وهي مشاكل عصفت بجميع الصحف
خاصة مستقلة تمامًا عن الحكومة في تمويلها وإدارتها وتحريرها،
برأيي إلى أنها مؤسسة وقفية احتفظت بجميع أرباحها وأصولها
من مكتب االتصاالت البريطاني ،لكنها هيئة عمومية تديرها شركة في حين تنفرد الغارديان بأنها وقف خالص يعيد استثمار األرباح
في صناعة صحافة حرة ومستقلة ،ومواكبة التطور في المحتوى والتقنية ،وتأهيل الشباب البريطانيين في مجال اإلعالم.
الهدف األساس من القناة الرابعة هو تقديم خدمة عامة
مفيدة للبريطانيين تقوم على التنوع وقيادة االبتكار في المحتوى والتقنية ،وقد أُلزمت هذه القناة منذ تأسيسها بتنفيذ هذا االلتزام
حول العالم ،إال أنها استطاعت النهوض مرة أخرى ،ويرجع السبب واستثماراتها ،ولم يقتسم أرباحها مساهمون أو مالك ،وساعد
ذلك القائمين عليها باستقاللية القرارات التي ساهمت في تنويع
االستثمار ،وتطوير المحتوى ،وبناء بنية تحتية تقنية متطورة جدًّا.
في حين يقود النوع الثالث شبكة قنوات ( )itvذات الحصة
الجماهيرية الثانية في بريطانيا ،إضافة إلى بقية القنوات والصحف والشركات اإلعالمية البريطانية ،وهو القطاع التجاري الخاص القائم
تجاه البريطانيين ،وتخضع للمساءلة الحكومية فقط في حال
على مبدأ تحقيق األرباح للمساهمين بأي صورة وعبر أي توجه ،حتى ً هابطا أو عنصريًّا قبيحً ا أو إباحيًّا ،وهو ليس موضع لو كان محتوى
من مكتب االتصاالت البريطاني ،وذلك من أجل تنظيم عرض البرامج
كل من النوع األول والثاني على سياسة الوسائل اإلعالمية أن تهتم
إخفاقها في تنفيذ خططها وتحقيق أهدافها ،أو شكوى ضدها، وتتغير التزامات القناة بين الحين واآلخر بحسب القوانين التي تصدر
التفزيونية ،وتحديد األهداف التي يجب تحقيقها ،وتلتزم القناة الرابعة «بتقديم خدمة عامة تتمثل بتوفير طائفة واسعة من البرامج
المتنوعة عالية الجودة التي تضم بشكل أساس :برامج تحث على االبتكار والتجربة واإلبداع؛ تتناسب مع أذواق واهتمامات مجتمع متنوع ثقافيًّا؛ ُ وتساهم بشكل رئيس في مقابلة الحاجة إلى قنوات إعالمية مُرخصة تعرض برامج ذات طبيعية تعليمية وأخرى تثقيفية؛ وأن تتخذ طابعً ا ممي ًزا لها» .وتلتزم القناة الرابعة ً أيضا بتأمين برامج
خاصة بالمدارس ،إضافة إلى أن تكون نسبة معينة ليست قليلة
النقاش في هذا المقال ،فاألمثلة كثيرة في الوطن العربي .ويحتم بكل بريطاني يتحدر من أي أصول وأعراق وخلفيات أو حتى دين مختلف؛ ألنه في حالة البي بي سي فإن الجميع يدفع لها وشريك
في سياستها ،وفي حالة القناة الرابعة وصحيفة الغارديان فإن نوعية
ملكيتهما وأهدافهما تحتم عليهما العمل وفق مصالح المشاهد
البريطاني ،وسماع وبث كل اآلراء من جميع التوجهات والتيارات، إضافة إلى األقليات في المجتمع البريطاني ،سواء التي تمثل العرق
واألصل والدين مثل المسلمين والسود والهنود أو التي تمثل فئات خاصة مثل المرأة والمعاقين.
165
إعالم
اإلعالم العربي :أبيض وأسود
وفي الوطن العربي يبرز وبشكل رئيس اللونان األسود
واألبيض ،فهناك مجموعة قنوات وإذاعات حكومية تعاني وبشكل َ الضعف وعدم القدرة على التطور واستقطاب الجمهور رغم حاد
وجود التمويل ،وهناك قنوات وإذاعات تجارية خاصة لها جمهورها ومحتواها الجيد لكن بعضها يعاني الخلل وسوء اإلدارة وغياب الرؤية وضعف التمويل ،وبعضها اآلخر -وبخاصة الثرية منها- يعاني توجهات أصحابها أو بسبب النزعة الربحية الشرسة القائمة على جلب المعلن وإرضائه .في حين هناك نوع ثالث ال يكاد ُي َميَّز
لضعفه ،وهو الوسائل اإلعالمية التابعة لألحزاب السياسية ،لكنها
في غالبيتها صحف مطبوعة أو مواقع إلكترونية ليس لها ذلك التأثير
الذي تملكه القنوات الفضائية أو الصحف األكثر شعبية؛ لذلك تبقى وسائل ضعيفة ال تحمل سوى صوت ولون واحد ممل وهو الحزب. ً أيضا يوجد قنوات أنشأها ويمولها بعض رجال األعمال أخذت على عاتقها الهدف األسمى ،وهو تقديم عمل إعالمي محترم يتوافق مع
قيم ومبادئ المجتمعات العربية اإلسالمية ،لكنها تعاني بصورة
شديدة إما بسبب غياب اإلدارة اإلعالمية المحترفة ،أو بسبب نقص
166
سببا في معالجة الوقف اإلعالمي سيكون ً المشكالت االقتصادية واالجتماعية، وصيانة األمن الفكري والثقافي في المجتمع ،بل تكريس مفهوم الوطنية الذي يتجسد في تمثيل جميع أطياف المجتمع في أي بلد عربي ولكن كان تمويلها يف البداية يأيت من الشركاء ورجال األعمال ،وتربز
املجموعة بوصفها نموذجً ا لحالة اإلعالم الوقفي بمعناها الصحيح، ً ودوره يف املجتمع ،لكنها هي ً ضعفا شديدًا يف املحتوى، أيضا تعاين
وغيابًا لإلدارة الفعلية ،والتخطيط الصحيح ،وبغض النظر عن
املحتوى الذي تقدمه والجمهور الذي تستهدفه تبقى قنوات املجد ً رائدة يف صناعة إعالم وقفي مستقل ،ويمول ذاته بذاته ،وال
يخضع لرغبات املعلنني ،لكنه ال ينفك عن تأثري مؤسيس الوقف،
وهو ما سيجعل من هذا النموذج بعيدًا كل البعد من هدف الوقف املستقل ومفهومه ،وربما مع الخطط املستقبلية للمجموعة يف
صناعة املحتوى الشائق ويف توسيع أعمالها لتشمل اإلنتاج ستكون
وعدم ثبات واستمرار التمويل ،ومثل هذه القنوات غالبًا ما تتبع مال ًكا متحمسين يقومون بإنشائها ،ثم سريعً ا ما يتالشى الحماس
أكرث جاذبية وأكرث نجاحً ا مما هي عليه اآلن مع استقاللية تامة من
ولعل أفضل نموذج إعالمي واضح قائم عىل الوقف يف الوطن
يف جميع الحاالت تعاين ،مثل هذه املؤسسات ،عدم وجود إدارة
ويتركونها بال تمويل وال وقف يساعدها على النهوض في كل مرة.
العربي يمكن الحديث عنه يف هذا السياق ،هو مجموعة قنوات املجد التي بدأت تعمل ُ وتموَّل منذ عام 2012م من خالل وقف مخصص
لها قادر ً نوعا ما عىل تغطية نسبة كبرية من تكاليفها بعجز بسيط
ّ يغطيه املؤسسون وفاعلو الخري ،واملجموعة قد تأسست عام 2002م
مؤسيس الوقف .هناك نماذج أخرى صغرية ال تذكر ،لكن يبدو أنه إعالمية جيدة ،ناهيك عن الرؤية ،وتقوم غالبًا عىل اجتهادات
شخصية يعرتيها الضعف ،وكذلك هناك ضعف يف املوارد البشرية، واستقطاب العاملني فيها وتأهيلهم ،فاإلعالم قضية شائكة وخطرية
عىل من ال يحسن اإلدارة.
الحل لحاالت التراجع واالنكماش
بعد عرض نماذج امللكية يف وسائل اإلعالم يف بريطانيا وغريها من املتوافر يف الوطن العربي ،أستطيع أن أصل لنتيجة تدل عىل
أن الوقف يف مجال اإلعالم أو املؤسسات العمومية هو الحل األمثل لحاالت الرتاجع واالنكماش واملشكالت االقتصادية ،وهو الحل األمثل ملعالجة غياب التنوع الثقايف والفكري ،وهو بمنزلة ضمان استدامة دخل ثابت ومستمر لوسائل اإلعالم للمحافظة عليها
وعىل القيم املجتمعية التي يقتلها املعلنون ،الوقف اإلعالمي سيكون سببًا يف معالجة بعض املشكالت االقتصادية واالجتماعية من خالل استقاللية الطرح واملناقشة وتقديم اآلراء والحلول ،وكذلك صيانة األمن الفكري والثقايف يف املجتمع ،بل تكريس مفهوم
الوطنية الذي يتجسد يف تمثيل جميع أطياف املجتمع يف أي بلد عربي.
مؤسسات ووزارات األوقاف أو (الحبوس) يف الوطن العربي تعد من أغنى املؤسسات والوزارات ماليًّا وعقاريًّا ،لكن يغيب تمامً ا
عن أدبياتها ومفاهيمها قضية الوقف اإلعالمي والتحبيس للعلم واملعرفة والتوعية؛ ألسباب كثرية نعرف بعضها ،ونجهل بعضها
اآلخر ،ولعل أهم سبب ظاهر هو التصاق الوقف بمفهوم الحسيات مثل :املال ،والطعام ،والبناء مثل املساجد والعمارات ،حتى عندما يتصدق رجال األعمال بأموالهم فإنهم غالبًا ما يبحثون عن مثل هذه الحسيات ً أيضا مثل :الطعام والكسوة ،رغبة منهم
يف رؤية أثر عاجل وملموس .ويبقى السؤال يف هذا املقال :ما أفضل طريقة وأنسبها إلدارة املؤسسات اإلعالمية وتشغيلها بمعنى
ملكيتها؟ حتى يستمر تمويلها وتتمتع باستقاللية فكرية وتحريرية ،وتبقى قوية قادرة عىل أداء رسالتها وتطوير مجتمعها وصيانة ثقافته!! نظام الضرائب أم الشركة العمومية أم الوقف؟ أم امللكية التجارية التي تخضع كليًّا لنظريات السوق املتوحش واملتقلب!!
العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
167
مقال
سعيد يقطين ناقد مغربي
ثقافة المصلحة وضرورات المصالحة لم يعرف العرب في تاريخهم الحديث وضعً ا
ً اتساعا بشكل كالذي يعيشونه اليوم .فالخرق ازداد
تحقيق الرفاه لشعوبها واستقرار نظمها ،واستمرار قوتها.
يدعو إلى التساؤل عن كيفية الخروج من المأزق الذي
تكرس هذا التصور مع االستعمار الذي صاحب تشكل أوربا
الحيرة وانسداد األفق والترقب الحذر عناوين المرحلة
الحضارة الغربية وقيمها .فكان نهب الخيرات واستغالل
مما جعلها تلقي بظاللها على مختلف التحليالت والتوقعات .تتعدد التصورات حول ما يجري ،وكلٌّ َلغو َ ي ُ بل ْغ ِوه في واقع يقوم على التأزم والتشنج .ويبدو
أي فرصة للسؤال عن مصلحتها الخاصة التي ظلت مرتبطة
دخل فيه العرب نتيجة تكالب المصالح وتضاربها .إن
الحالية التي تجتازها األمة العربية واإلسالمية،
168
دول وشعوب خارجة عنها .إن هذا الخارج هو الذي يتيح لها
أن الخوض في التفاصيل والجزئيات ال يسهم إال في انعدام أي مقاربة ترمي إلى النظر في عمق األشياء وجذورها القائمة على تضارب المصالح وتجاذب
المطامح في المنطقة العربية.
تحرك الدول مصالح معينة وملموسة تحدد
توجهاتها وإستراتيجياتها المختلفة .فهل يمكننا
الحديث عن مصلحة خاصة تعين مواقف الدول
العربية وتصوراتها لمستقبل أوطانها وشعوبها؟ وأين
هي المصلحة العربية في عالقتها بالمصلحة األجنبية
التي تدخلت في شؤون الدول المستعمرة بذريعة نشر
الثروات الخارجية لفائدتها ،ولم تترك للشعوب المستعمرة بمصالح المحتلين .وبعد االستقالالت السياسية ،ظلت
ً تحقيقا لألغراض التبعية تحكم العالقة التقليدية بينهما عينها.
ضياع مصلحة المواطن
يمكننا أن نتحدث ،مع الدول المتقدمة والديمقراطية،
عن ثقافة المصلحة التي تبرز في كون الحكومات
المتعاقبة في تاريخها الحديث والمعاصر يحكمها في
عالقتها بمواطنيها وأوطانها ميثاق محدد يتمثل في ضمان
االستقرار واألمن والرفاهية .تولدت هذه الثقافة ذات الجذور الفكرية واالجتماعية والسياسية واالقتصادية عبر تاريخ
التي تتدخل في الشؤون العربية ،وتسعى من وراء ذلك
من الصراعات بين مختلف المكونات .وانتهى هذا التاريخ
طرحه لتشخيص تأزم الواقع العربي حاليًّا بالصورة
المصلحة العامة ،وضمان استمرارها .فكانت االستفتاءات، واالنتخابات في مختلف االستحقاقات دليلاً بار ًزا على كون
إلى رسم خارطة لما ينبغي أن يكون عليه الوضع العربي اً اً واستقبال؟ أرى أن هذا هو السؤال الذي يمكننا حال
باالحتكام إلى الشعب في مختلف المنعطفات الكبرى لتقرير
التي لم يُشهَد لها مثيل في كل تاريخه الحديث .كما
الشعب يسهم بإعطاء صوته لمن يسهر على تأكيد تلك
المصلحة العربية ما تستدعيه من اهتمام وممارسة
هذه الثقافة وتقاليدها في الحياة العامة ،تضيع مصلحة
أن الجواب عنه هو الذي يمكن أن يسهم في إعطاء لتجنب الكوارث الواقعة والممكنة والمحتملة.
إن الدول الغربية ،وعلى رأسها أميركا تربط
مصلحتها الحيوية لفائدة دولها وشعوبها بالعمل على
تثبيتها وضمانها ولو خارج حدودها ،بل على حساب
العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
المصلحة ويضمن استمرارها .في الوطن العربي ،لغياب
الوطن والمواطنين بين التحكم السياسي من جهة ،والتدخل
الخارجي الذي ال يمكن تحقيق مصلحته الخاصة إال على حساب التفريط فيما يمس مصالح الدول المتدخل فيها
من جهة أخرى .يتم هذا التدخل الخارجي ،أوربيًّا كان أو
أميركيًّا عبر التهديد بالعقوبات حي ًنا ،والتدخل العسكري حي ًنا آخر .وينتج عن هذا عجز الدول المتدخل في شؤونها عن االحتكام إلى شعوبها لضمان مصالحها ،والتخطيط
لما ينبغي أن يكون عليه واقع هذه الدول الستمرار تحقق المصالح الخارجية.
منذ االستقالالت العربية ظلت مصالح الوطن العربي
مرهونة بمصالح اآلخرين ،فلم تتحقق المصالح الخاصة به
أبدً ا .وفي مختلف المحطات التاريخية الكبرى كان التفريط
متى يمكن أن يعرف العرب مصلحتهم تماس مع مصالح اآلخرين، الخاصة في ّ
وبشكل متوازن ومتكافئ؟ كيف يمكن لثقافة المصلحة العربية أن تكون جزءًا من تفكير الدول والشعوب العربية؟
العصر ،وأن ال وجود للمؤامرة إال في أذهان العاجزين عن
في المصالح الداخلية لحساب الخارجية .ويكفي أن نضرب اً مثال من القضية الفلسطينية ليتبين لنا لذلك .فمنذ االحتالل
فهم األمور كما ينبغي أن ترى بالعين المجردة .وما الرجوع
العرب ضدها ،لم ينتج عن تداعيات صراع المصالح في
كونها وليدة الستينيات ،سوى دعم لنفي المؤامرة ،بالقول
البريطاني حتى زرع إسرائيل والحروب المختلفة التي خاضها
إلى «مقولة ما بعد االستعمار» في أواخر التسعينيات ،رغم بأن االستعمار انتهى ،وأن العالقات بين الدول في العالم
المنطقة سوى تأكيد المصلحة اإلسرائيلية وأميركا التي ترى ً ضمانا للمصلحة األميركية والغربية في استمرار وجودها
أجمع متكافئة ،ومبنية على أساس القانون الدولي الذي
من خالل التدخل في العراق باسم امتالكه أسلحة الدمار
العالقات بينها ،وليست هناك تبعية ،أو تفريط في مصالح
في المنطقة على حساب الشعب الفلسطيني .كما يمكننا
الشامل ،وبروز اإلرهاب ،والحرب عليه في العراق وسوريا
ومختلف الدول التي يوجد فيها ،وفي إمالء السياسات
االقتصادية على الدول العربية المختلفة؛ تقديم أمثلة
دالة على استهداف المصالح العربية بمختلف المبررات
والمسوغات ،وتأكيد أن تحقيق المصلحة الغربية واألميركية
في منطقة الشرق األوسط ال يمكنها أن تتحقق إال في غياب أي تفكير في المصلحة العربية.
وفي ظل هذا الواقع ال يمكن سوى التخطيط إلدامة
تغييب المصلحة العربية عن طريق إضعاف الدول العربية باستنزاف خيرات أراضيها ومواطنيها ،من جهة ،وتعريض
هذه األرض لتكون بؤرة مشتعلة بالصراعات المفتعلة،
بموجب االتفاقات والتعاقدات بين الدول تتحدد مختلف
دول أو شعوب على حساب أخريات .لكن الواقع الحقيقي يبيِّن أن هناك صراع مصالح ،وهو غير متوازن ،وال يقضي سوى بالتفريط في مصالح دول وشعوب لحساب شعوب
ودول أخرى .وبذلك فالمؤامرة مستمرة ،واالستعمار اتخذ وجهًا جديدً ا.
حين نتأمل ما يجري في الوطن العربي حاليًّا من
صراعات وحروب ،وما يعرفه من انقسامات وشقاقات،
وما يعانيه من تدخل بعضه في شؤون بعض بتالؤم مع
ما يدبره اآلخر ،ومباركته ،واتهامات متبادلة بين مختلف
مكوناته ،وانسداد أي آفاق لتحقيق مصالح الشعوب
العربية في الحرية والعيش الكريم ،ال يمكننا سوى معاينة
بشكل دائم ومتواصل ،من جهة ثانية ،وأخي ًرا العمل على
أن المؤامرة واالستعمار الجديد يرميان إلى ضمان مصالح
العمل على تقسيم البالد ،وخلق كيانات ضعيفة ،وقابلة
نرى كيف تتحرك إيران وتركيا ،من جهة ،وأميركا وروسيا
تفريق وجهات النظر ،والتخطيط لوضع خرائط ترمي إلى
خاصة تتصل باآلخر على مصالح العرب العامة .وحين
للحماية ،عن طريق التمهيد لزرع بذور الشقاق والخالف ليس
والغرب ،من جهة ثانية ،في الوطن العربي ،وكيف تسير
منها ،لتثمر ،مع الزمن دويالت ال مصلحة لها غير ما يمكن
هذا الطرف أو ذاك ،من جهة ثالثة ،يسلمنا هذا إلى النظر
فقط بين الدول العربية ،لكن بين الشعوب التي تتشكل أن تخدم به مصلحة اآلخرين. ذهنية المؤامرة
يبدو لنا ذلك بشكل واضح في بروز مقولة «المؤامرة»،
من جهة ،ومقولة «ما بعد االستعمار» من جهة ثانية .لقد صارت مقولة «ذهنية المؤامرة» في مختلف التحليالت
السياسوية ترمي إلى اتهام من يقول بها بأنه متخلف عن
الدول العربية متخبطة وسط تضارب المصالح ،منحازة إلى إلى أسباب ضياع المصلحة العربية ،سواء اتصلت بالدول
أو الشعوب .متى يمكن أن يعرف العرب مصلحتهم الخاصة تماس مع مصالح اآلخرين ،وبشكل متوازن ومتكافئ؟ في ّ
كيف يمكن لثقافة المصلحة العربية أن تكون جزءً ا من تفكير
الدول والشعوب العربية؟ أرى أن السؤالين يختزالن الواقع السياسي -الثقافي العربي .وال يمكن الجواب عنهما إال بالتفكير في ضرورات المصالحة العربية.
169
سينما
جديد كريستوفر نوالن 170
«دنكرك»..
أسبوع ويوم وساعة لنجاة 300ألف جندي فلم ينجح في دفع المتفرج إلى «التوحد األولي»
العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
«دنكرك» ..فلم ينجح في دفع المتفرج إلى «التوحد األولي»
زياد عبدالله
روائي وسينمائي سوري
ال حاجة لكريستوفر نوالن في جديده «دنكرك» ،الذي بدأ عرضه في الصاالت األميركية من شهر تقريبًا ،إلى أجهزة معقدة تجعل الحلم مواز ًيا للواقع ومسرحً ا للصراعات كما في «استهالل» 2010 Inceptionم ،وال إلى خيال علمي وثقب أسود ليتسرب منه أحد خارج الزمان والمكان كما فعل في «بين النجوم» 2014 Interstellarم ،فما حدث في «دنكرك »Dunkirkحدث بحق إبان ً وتحديدا في شهر مايو 1940م حين أُجل َِي ما يزيد عن 300ألف جندي معظمهم الحرب العالمية الثانية من البريطانيين ،كانوا محاصرين من جانب القوات األلمانية في ميناء «دنكرك» الذي تفصله أميال ّ ينقض نوالن على هذه القصة الملحمية ويلتقط منها كابوسيتها، قليلة عن الشواطئ البريطانية. فنشاهدها كما لو أننا حيال منام مهلك ،سواء حمل صفة تاريخية أم لم يحمل! وتبدو المعجزة التي وقعت بحق أكثر إعجا ًزا في السينما
جراء ضغط الزمن واختزال أسبوع اآلمال واآلالم الذي استغرقته عملية اإلجالء إلى ما ال يزيد على مئة دقيقة ،وليبتعد فعل ً «وسيطا مشاهدة «دنكرك» من «التلصص» بوصف السينما
للتلصص بطبيعتها» ليكون أقرب إلى المنام وعلى شيء من
استدعاء كل ما يحقق أعلى درجات «التماهي» ،وهكذا فإنه لن يكون هناك من محيد عن مقاربته باالستعانة بنظرية الفلم وهي تعاين الصلة الوثيقة بين األفالم واألحالم التي «تتسم
بتالحم الحس والعاطفة ،أي الطريقة التي ينساب فيها المضمون العاطفي من خالل تجسيدات بصرية .وهي ً أيضا -مثل األحالم -تتسم باالنقطاعات المكانية والتثبيت الزماني:
إن المتفرج السينمائي –مثل الشخص الحالم– مثبت في تتابع من الصور وهي تتكشف في الزمن .واألفالم –مثل األحالم–
تعتمد على االنتباه والحضور في التجربة ،إنك ال تحلم حلمً ا ال
تعبر قصة «دنكرك» عن نفسها ّ بطرائق مختلفة؛ بعضها أناني، وبعضها شجاع ،ومنها ما هو جبان، لكنها إنسانية في النهاية تكون موجودًا فيه ،أو غير منتبه له .وكذلك األفالم تميل إلى أن
تتحكم بانتباهك»( .بيزلي لفينغستون وكارل بالتينيا ،ترجمة:
أحمد يوسف .دليل روتليدج للسينما والفلسفة .القاهرة :المركز ّ يشكل آلية القومي للترجمة2013 ،م) يصلح هذا االقتباس ألن التلقي التي سيعايشها المشاهد مع «دنكرك» أو ما عايشته
أنا على األقل ،وللتدليل على ذلك فإن الفلم يبدأ مع جندي
بعينه ربما اسمه طوني ،ولست متأكدً ا ما إذا كان الممثل فيون وايتهيد من يجسد شخصيته ،فقد كان رفقة حفنة من الجنود
نوالن يوجه الممثلين أثناء التصوير
171
سينما
يتجولون في «دنكرك» وهم يبحثون عما يأكلونه أو يدخنونه،
يشرف على عملية اإلجالء ويبقى في نهاية الفلم ليتولى عملية
ينجو ،وبعد أن يجتاز استحكامات الجنود الفرنسيين ينفتح
ينقسم «دنكرك» إلى ثالثة خطوط درامية ،منفصلة ومن
ثم فجأة يلعلع الرصاص ،ويُقتل كل من كانوا معه ،إال أنه أمامه البحر ،حيث ستكون هناك أرتال مترامية لجنود على
شاطئ رملي ال وجود لشجرة أو شيء يستظلون به أو يقفون
ثم متصلة ،لكل منها زمنه االفتراضي وهي« :المرسى» وهنا سنكون حيال المعضلة الكبرى التي يتأسس عليها الفلم ،أي:
تحته ليوهمهم بأن هناك ما يفصل بينهم وبين الحمم التي
الجنود اإلنجليز العالقون على شاطئ البحر بانتظار السفن
إال الموت .البحر من أمامهم والعدو من خلفهم ،ال بل العدو
لهذا الخط هو أسبوع ،في حين يكون الخط الثاني في البحر أو
عار وما من كساء تمطرهم بها الطائرات األلمانية ،كل شيء ٍ في السماء والغمام وليس أمامهم إال الهرب ،الذي سيكون
متعذرًا ،يحتاج معجزات وليس معجزة واحدة. الفلم -الكابوس
والبوارج التي عليها أن تعود بهم إلى الوطن ،والزمن االفتراضي
ما يطلق عليه في الفلم «المرساة» الذي يتأسس بتلبية السيد داوسون (مارك ريالنس) وابنه وفتى يص ّر على مرافقتهم نداء
الحكومة البريطانية لمواطنيها بالمساعدة في إجالء الجنود
فيما تقدّ م مفتتح الفلم -الكابوس ،وكل عنصر من عناصر
البريطانيين بقواربهم غير الحربية سواء كانت قوارب صيد أو ً يخوتا أو أي نوع من القوارب ،والزمن االفتراضي لهذا الخط
غفيرة من البشر ،والشخصيات بالكاد نعرف أسماءها كأن نميز توماس هاردي بصعوبة وهو يرتدي ثياب طيار مُ ق ِّنعً ا وجهه ،في
سرب طائرات «سبيتفيلد» الذي سعى لحماية الجنود ومجابهة الطائرات األلمانية وهي ُتغرق البوارج وتفني المشاة على
ً جموعا ما نراه مهم ومؤثر ،وهي عناصر كثيرة ومتداخلة تخص
حين ينطق كينيث براناه بضع عبارات وهو قائد البحرية الذي
172
إجالء الفرنسيين كما يقول.
ال حاجة لكريستوفر نوالن في «دنكرك» موازيا إلى أجهزة معقدة تجعل الحلم ً ومسرحا للصراعات كما في للواقع ً «استهالل» ،وال إلى خيال علمي وثقب أسود ليتسرب منه أحد خارج الزمان والمكان كما فعل في «بين النجوم»
هو يوم واحد ،في حين يكون الخط الثالث في األجواء عبر
الشاطئ ،وزمن هذا الخط هو ساعة واحدة.
ذلك هو الهيكل العام لبنية الفلم ،الذي تهيمن عليه
فكرة «النجاة» بوصفها كلمة مفتاحية لكل ما سنشاهده في الفلم ،ولعل خلفيته التاريخية تقول ذلك ً أيضا ،والسؤال الذي
يجيب عنه الفلم كامن بالكيفية التي سينجو بها هؤالء الجنود والسفن الحربية ال تستطيع الرس ّو قريبًا من الشاطئ ،ومعادل ذلك سينمائيًّا سيكون في تعقب مصير طوني وجندي آخر يقع
عليه يقوم بدفن جندي آخر ،كذلك األمر بالنسبة للطيارين وهم يحاولون توفير نجاة من هم على األرض في اشتباكهم
ليوناردو دي كابريو في «استهالل»
العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
«دنكرك» ..فلم ينجح في دفع المتفرج إلى «التوحد األولي»
مع الطائرات األلمانية ،إال أنهم يسعون لتحقيق نجاتهم ً أيضا، اً وصول إلى السيد داوسون الذي يضع نصب عينيه المساهمة في نجاة أكبر عدد ممكن من الجنود. التشويق آلية الفلم السردية
ستلتقي في النجاة الخطوط الدرامية في الفلم لكن
بعد أن نكون شهودًا على فناء أعداد كبيرة من الجنود وفي تنويعات تحرص على حفز الترقب لدى المشاهد ،وهنا
يحضر «التشويق» الكلمة المفتاحية الموازية لـ«النجاة»، فإن كان موضوع الفلم هو «النجاة» فإن «التشويق» بنيته
وآليته السردية ،ولتحقيق هذه النجاة فإن أنبل وأحط ما
في اإلنسان قد يتجاوران من دون التطرق إلى مفاهيم مثل
الشجاعة والبطولة إال إذا اعتبرنا «المصادفة» تنطبق عليها هذه الصفات ،وإن كان ال بد من بطولة فإنها «بطولة مجتمعية» كما يورد نوالن نفسه في لقائه مع الناقد اإلنجليزي نك جيمس
في مجلة «سايت آند ساوند» ،يقول نوالن« :تعبّر قصة دنكرك
عن نفسها بطرائق مختلفة بعضها أناني ،وبعضها شجاع، ومنها ما هو جبان ،لكنها إنسانية في النهاية .إن ما حدث مع
هذه المجاميع من البشر ماثل برغبتهم اليائسة في النجاة في تلك األيام التي جرى فيها االنسحاب ،وما حصل هو نوع من
البطولة المجتمعية .كان هناك كثير من األبطال في دنكرك ،إال
أن البطولة الجماعية جعلتها تحمل هذا الصدى الذي سيبقى
مترددًا لطبيعتها المجتمعية ،وفرادتها تأتي من طبيعة البشر الذين أنجزوها ،وال يمكن لفرد بحال من األحوال إنجاز ذلك» (.)Sight & Sound. August 2017, volume 37, Issue 8.
ماثيو ماكونهي في «بين النجوم»
إن هذا االقتباس طبعً ا يشير إلى أهم ما حصل في
«دنكرك» أال وهو قيام البشر العاديين في النهاية بإنقاذ الجنود وهم يتوجهون بقواربهم لنجدتهم ،إال أنه يضيء على شيء
رئيس للمشاهد أن يلحظه في الفلم أال وهو غياب البطولة عن الفلم بمعنى الشخصيات الرئيسة ،وفي الوقت نفسه خلو الشخصيات من العمق أو الخلفية ،فهي تتحرك فقط في
ماض أو دوافع سياق الحدث الرئيس أي في الحاضر من دون ٍ عدا دافع النجاة ،ال بل إنها تتلفظ ببعض العبارات هنا أو
هناك ،وهذا انعكاس لما قاله نوالن عن «البطولة المجتمعية» ومسعى مجاميع كبيرة من البشر إلى النجاة.
فلم يكاد يكون صام ًتا يولد «دنكرك» شعورًا استثنائيًّا بالتماهي مع ما نشاهده بما يدفع للقول بأننا «نتوحد» معه ،وهو ناجح ًّ جدا بدفع
المتفرج إلى ما يعرف في أدبيات مقاربة التحليل النفسي للسينما بـ«التوحد األولي» المرتبط لديه باإلحساس الوهمي لدى المشاهد بأن يتوحد مع مكان الكاميرا وهو بذلك «يمتلك المجال البصري للفلم» ،وليكون «التوحد الثانوي» الذي
يحدث مع الشخصية شبه معدوم إن صح الوصف ،فنحن بوصفنا مشاهدين غير معنيين بها ،ولم نمنح األدوات التي تؤسس لعالقة معها ،ربما ما يهمنا هو مصيرها :هل ستتمكن من الهرب؟ هل ستنجو؟ و« ِتـمبو» الفلم ونقالته المونتاجية والمواقف الصعبة والمدهشة التي تعيشها كفيلة بذلك.
ولعل الخوض في أمور تقنية مثل كاميرا 65ميلمتر آي ماكس التي استخدمها نوالن في تصوير الفلم (مدير تصوير
الفلم هويتي فان هويتيما مص ِّور معظم أفالم نوالن) وطباعته في صيغة الـ 70ميلمتر – كما يورد في لقاء «سايت آن
ساوند» سابق الذكر -يشير إلى جمالية خاصة تظهر على الشاشة ونحن نتكلم عن عملية معالجة استثنائية للمادة المصوّرة إلحداث هذا «التوحد» سابق الذكر ،ومواصلة نوالن نأيه عن التصوير الرقمي ،ولتأتي الموسيقا التصويرية
(تأليف هانس زيمر سبق أن صنع موسيقا كثير من أفالم نوالن) ،التي لعبت دورًا دراميًّا أساسيًّا في الحفز والترقب والجو القيامي للفلم ،ونحن نتكلم عن فلم يكاد يكون صام ًتا.
173
فنون
فنانة سعودية شاركت في معارض دولية، ومتاحف عالمية تقتني أعمالها
منال الضويان: 174
بسيطا للتعبير عن قضية أستعمل رمزًا ً كبيرة...والقول بالحضور الواضح للفنانة السعودية س َّيس» «م َ ُ
العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
الفيصل
خاص
ترى الفنانة السعودية منال الضويان
الفن ً نوعا من الحوار المتطور ،وتؤكد في حوار لـ«الفيصل» أن القول بالحضور الواضح للفنانة
السعودية «مُ َسيَّس» .وتشدد على الحاجة إلى نقد
الذات سعيًا للتطور .الضويان في تجربتها المتنوعة تستعمل الرمز البسيط من أجل التعبير عن قضية
كبيرة ،بدأت مشوارها الفني من خالل التصوير الفوتوغرافي ،ثم طوَّرت هذا الفن إلى ما يعرف
بفن الـ installationوصممت أفكارًا فنية ثالثية ّ تحتل مساحات تعبر عن األبعاد كبيرة الحجم
الفكرة بأشكال متعددة .وقد شاركت الضويان في
معارض دولية واقتنى عدد من المتاحف العالمية أعمالها مثل :المتحف البريطاني ،ومتحف ال
كونتي ،والمتحف الوطني األردني للفنون الجميلة، وهيئة أبو ظبي للثقافة والتراث وغيرهاَّ . وثقت منال الضويان مجموعات اجتماعية مثل« :رجال ونساء
النفط في المملكة العربية السعودية» في مشروع ً عنوانا« :إذا نسيتك فال تنساني» ،وفي فني حمل مشروعها «صدمة» تناولت تأثير وسائل اإلعالم في
ممارسة المحو المتعمد للهويات .إلى نص الحوار:
«مغطى»
بدأت عملك مبرمجة نظم معلوماتية بناء على ِ
تخصصك في البكالوريوس بعلوم الحاسوب ،ثم حصلت
على درجة الماجستير في تحليل النظم وتصميمها ،إذن، كيف تبلور اهتمامك بالفن والتصوير؟
-منذ الطفولة وأنا أرسم وكنت مهووسة بالتصوير،
وقد عدت من الجامعة وأنا في سن صغيرة أحمل بمعيتي ً صندوقا مليئة بالصور .كانت رغبتي في دراسة ثالثة عشر الفن قديمة ،لكن كانت دراسة الفن آنذاك في المنطقة غير
متاحة ،ولم تكن هناك أية حركة فنية على الرغم من وجود فنانين ،ومع ذلك قررت دراسة الماجستير في تحليل النظم المعلوماتية نهارًا ،أما في المساء فقد كنت أدرس فن الطباعة وأحصل على كورسات في جامعات فنية في لندن .عندما
عدت من الدراسة التحقت بأرامكو .أول معرض لي أقيم في
شمال إسبانيا ،ثم صار الفن شغلي الشاغل ،وبعد خمس سنوات من هذا التغيير في حياتي تركت عملي ،وتفرغت للفن
في أعمالي أحاول التأكيد على أن المجموعات الكبيرة تساعد على محو هوية الشخص وفردانيته ،وهذا شكل من التجاهل لذات المرأة وهويتها
وتخصصت فيه.
النظر إلى القضايا بطريقة مختلفة َّ قت مجموعات اجتماعية ،مثل «رجال ونساء وث ِ
النفط في السعودية» في مشروعك الفني «إذا نسيتك وتناولت تأثير وسائل اإلعالم في نشر محو فال تنساني»، ِ
175
فنون
متعمد للهويات في مشروع «صدمة»؛ هل تعتقدين أن
تقحمه في مثلبة التكرار التي تدخل حس أفراده في نوع من
وبخاصة المرأة؟
«حالة من االختفاء» .ولقد جمعت صورًا من تلك الحوادث عن النساء ُنشرت خالل ثالثة أعوام في جريدة واحدة ،ووجدت
رسالة اإلعالم العربي كانت سلبية تجاه قضايا مجتمعه -بالنسبة لي أحاول االبتعاد من عالج المشكلة ،وأعتقد
أن دور الفن جعل المشاهد ينظر إلى مشهد أو قضية أو صورة بطريقة مختلفة ،فإذا اعتادت عيناك على النظر إلى المشهد من اليمين فأنا أجعلك تنظر إليه من اليسار ،وهذه الحالة في
تغيير الرؤية من شأنها أن تنتشل المتلقي من الخمول وربما تجعله يغير من طريقة طرحه األسئلة .وأما اإلعالم العربي فلن ِّ أعلق على موقفه ،لكن سأحيل إلى خطورة تكرار الصورة
خمسا في اإلعالم بما لها من قوة ،فتكرارها في الصحافة ً ِّ المعلمات مثلاً أعده خط ًرا وعشرين عامً ا في حوادث سيارات أو ً نوعا من تثبيت قصة وإهمال القصص األخرى ،فنشر صور سيارات مدمرة من دون أي جثث أو توضيح أسماء النساء الالئي توفين في هذه الحوادث هو نمط من المحو لإلنسان الذي ذهبت روحه .وأعلم أن النية هي الحفاظ على الخصوصية لكن التكرار بهذا الشكل محو إلنسانية النساء
176
الالئي ذهبت أرواحهن سدى في تلك
الحوادث من دون فجيعة من المجتمع
الذي ينتمين إليه .فمسؤولية اإلعالم
الخمول والغفوة .وأحاول معالجة هذه القضية في مشروعي
أنهم ال يقومون بنشر صور جديدة عن تلك الحوادث بل
يستعملون الصور ذاتها ،ولقد استعملت في بضعة شهور، تقدر بأربعة أشهر ،الصور ذاتها ثماني مرات ،وهي صور
تشمل عددًا وفي ًرا من النسوة ،وال تنشر صورة امرأة بمفردها،
مخفيات الشكل والوجه والتكوين ،األمر الذي يشعر معه
المرء بأن المرأة ليس لها تكوين وليس لها شكل محدد .لذلك أحاول في أعمالي التأكيد على أن المجموعات الكبيرة تساعد
على محو هوية الشخص وفردانيته ،وهذا شكل من التجاهل
لذات المرأة وهويتها.
َّ تضمن بعض مشاريعك الفنية تساؤلاً عن :ماذا
اضطررت إلى يحدث لذاكرة ال يوجد لها قصة؟ وربما ِ
استخدام أرشيف صورك الشخصية إلعادة نشر قصتك
من خالل ذكريات شخص آخر لبناء اتصال متخيَّل. استطعت تكوين هذا التصور القصصي واإلنساني كيف ِ
وتجميعه وتضمينه من خالل أرشيف من الصور؟ وما الذي دفعك إلى االستعانة بأرشيفك الشخصي لهذه الغاية الفنية البحتة؟
«من معرض صدمة»
العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
بسيطا للتعبير عن قضية كبيرة منال الضويان :أستعمل رمزًا ً
-منذ مدة وأعمالي تعالج قضية الذاكرة
وبخاصة أن والدي كان متأث ًرا بسبب مرض الزهايمر
أواخر سبع سنوات من عمره قبيل وفاته .وبصفتي
ْ وجدت والدها ال يتذكر اسمها وال وجهها وال شابة
يتذكر ما حوله ،كانت تجربة صعبة جدًّ ا ،ولقد عالجت هذه التجربة من خالل عملي في الفن.
فكثير من أعمالي تدور حول والدي وتجربته مع
هذا المرض ،ففي هذا المشروع الذي سميته «أنا
هل أنسى؟» .كنت في عمر اثني عشر عامً ا أعطاني ً صندوقا فيه ثالث مئة نيغاتيف ،وكنت ألعب والدي بها وأتسلى وأضع عليها تكوينات ،وصنفتها في صور عن الماء ،وأخرى عن الجبال ،وصور في أوربا
وأميركا وهكذا ،لكنني حينما كبرت وبعد وفاة والدي نظرت إلى تلك الصور بنظرة مختلفة ألن جميع من فيها توفي واألماكن الموجودة في تلك الصور ليس لها قصة ،فبدأت أطرح فكرة :ماذا يحدث للذاكرة أو
للقصة حينما ال تكون لها ذاكرة؟ ولقد أخذت صوري إلى فلوريدا في مكان إقامة فنية في جزيرة كابتيفا
التي تتبع الفنان روشان بيرغ فاونديشن ،وهذا الفنان
معروف في أميركا ،ولقد كنت أول عربية تشارك في تلك اإلقامة الفنية ،وبدأت إنتاج أعمال وأفكر في أن
تلك الصور إذا فقدت قصتها وذاكرتها فسوف أصنع لها ذاكرة ً وتاريخا هي قصتي ،وبتلك التجربة أكون قد بعثت فيها وقصة
روحً ا جديدة برؤية وفكر جديدين وأحييتها ،وهذه تجربتي التي قمت فيها بإحياء الذاكرة بعد المحو.
خطابات الملك عبدالله الملهمة
استمددت إلهامك في مجموعة «أنا» من الخطاب ِ الذي ألقاه الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز يوم ّ توليه
«اسمي»
إحباط الفنانة والفنان يأتي من عدم القدرة على إنتاج الفن أو عدم القدرة على التعبير وعلى مستوى إعالمي كذلك ،عن الوظائف التي يمكن
للمرأة شغرها ،وقيل يومها :إن المرأة ستعمل في الوظائف
المناسبة لطبيعتها بصفتها امرأة ،وكنت أتساءل بحيرة :ما
العرش ،ودعا فيه يومها السعود ّيين ّ كلهم ليتعاونوا على بناء وطننا .كما ّ شدد على أهمية مشاركة المرأة .وفي الصور
الذي يتناسب وطبيعتها؟ ومن خالل طرح هذين السؤالين على
تفاصيل توحي بوظائف عدة ،ما الذي دفعك إلى إعداد هذه
قبل ثالثة عشر عامً ا .فلقد طلبت من عدد من النساء الالئي
الفوتوغرافية من مجموعة «أنا» نساء صورتهن وهن يرتدين المجموعة؟
-كان للملك عبدالله -يرحمه الله -خالل حكمه خطابات
عدة وأهمها عند توليه الحكم ،والثاني لما عيّن المرأة في
مجلس الشورى .وتحدث عن النساء البارزات وتأثير النساء في حياته ،وتكلم عن أم سلمة وبعض نساء النبي صلى الله عليه
وسلم .ولكوني موظفة في أرامكو آنذاك كنت محاطة بنساء ناجحات في مجاالت عملهن ،وحين ألقى الملك عبدالله
ذلك الخطاب وغيره جرى حوار شديد في المجتمع السعودي
الذي يناسب طبيعة المرأة من الوظائف؟ ومن سيحدد ما نفسي انطلقت بعمل هو من أوائل أعمالي في هذا المجال
يعملن أن يحضرن إلى األستوديو الخاص بي لتصويرهن بزي المهن التي يعملن فيها :أنا معلمة ،أنا مهندسة بترول ،أنا كاتبة ،أنا سفيرة في األمم المتحدة ،وما إلى ذلك .فكان لكل ُ عددت ذلك العمل عملاً تشاركيًّا. صورة نقاش وحوار ألنني تميز عملك «في الهوا سوا» ببساطته التعبيرية
الفنية ،فهو عبارة عن سرب من الحمام األبيض بعدد َّ ّ يحد من معلقة بحبال شفافة مالصقة لسقف 200حمامة
177
فنون
حريتها .وعبر بعمق عن رسالته المجتمعية
الرافضة للحد من حرية حركة المرأة السعودية
والقيود المفروضة عليها .ترى أين تكمن
مسؤولية الفن في المجتمع؟ وكيف يمكن للفنان اجتماعي صحّ ّي على الصعيدين إنشاء حوار ّ ّ والعالمي؟ المحل ّي ّ أعدّ الفن ًنوعا من الحوار ،وأعتقد أن النقد
الذاتي مهمّ في كل المجتمعات ،وال بد أن ننتقد أنفسنا كمجتمع لنتطور بدل التقبل على مضض
أو االبتعاد وترك المساحة للعابثين في األرض
فسادًا ،فقضية الحمام تالمس قضية الوالية على ً بسيطا ليعبِّر المرأة وأنا بصفتي فنانة أستخدم رم ًزا
عن قضية كبيرة ،ففي عملي «الصدمة» وفلم
«لم يكن لدي أجنحة» كان الطرح يناقش قضية
السياقة ومسؤولية المجتمع في الحفاظ على
سالمة المرأة ،و«في الهوا سوا» تكلمت عن الوالية وخطورة ظلم المرأة على المجتمع برمته.
المالحظ أنه على الرغم من الوضع الذي
178
تعيشه المرأة السعودية في مجتمعها فإن
الفنانات السعوديات حاضرات وبقوة في ساحة الفن السعودي المعاصر؛ في رأيك ما الذي
يدفع الفنانة السعودية إلى تجاوز إحباط الداخل من خالل الفن الذي يحمل رسالة التغيير؟
«هي المدينة»
-نعم هناك حضور واضح للفنانة السعودية لكنني
عرضت بعض أعمالك بشكل دائم في مجموعات ِ
المرأة بصفتها فنانة لم تظلم أو أخذت حقها من االنتشار
الجميلة ،ومؤسسة عبداللطيف جميل ،ومؤسسة دلفينا
أعتقد أن هذا الكالم مُ َسيَّس من ناحية دفعنا إلى القول بأن والوجود .أنا أعتقد أن الحركة الفنية في السعودية فيها
توازن بين الرجل والمرأة غير موجود في أي مجال آخر في التجربة االجتماعية السعودية ،ولذلك تبرز المرأة التي تكاد تكون أث ًرا مختفيًا فيغير ذلك من المجاالت األخرى ،فهما في
حال مساواة تقريبًا؛ إذ إن مجال الفن خاص جدًّ ا يتكلم عن قصة الفنان الخاصة والحوار يحترم الرأي اآلخر .أما اإلحباط
للفنانة والفنان فهو يأتي من عدم القدرة على إنتاج الفن أو
عدم القدرة على التعبير.
الفن يجعل المشاهد ينظر إلى القضية بطريقة مختلفة ،وهذه الحالة في تغيير الرؤية من شأنها أن تنتشل المتلقي من الخمول
العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
المتحف البريطاني ،والمتحف الوطني األردني للفنون في لندن ،وهيئة أبو ظبي للثقافة والتراث ،ومؤسسة
الناظور في ألمانيا ومؤسسة بارجيل في الشارقة؛ فهل لك أعمال معروضة في السعودية؟
-عرضت كثي ًرا من أعمالي في السعودية منها صالة أثر
وكان اسم المعرض «رحلة االنتماء» .وشاركت في مهرجان
جدة الفني قبل أربع سنوات .وفي كل عام يختار المنسقون لي عملاً للمشاركة به ،ولقد شاركت هذا العام بعملي «الصدمة» في المتحف الوطني بالرياض ،وفي معرض بالسفارة الفرنسية ،وفي أرامكو أقمت معرضين .وفي البحرين كثير من السعوديين يحضرون هناك لتلقي أعمالي ،بل إن أغلب من يقتني أعمالي سعوديون ،وكثير منها في البيوت السعودية. ومن المتاحف التي أتواصل معها في المنطقة متحف
الدوحة ،والمتاحف الموجودة في أبو ظبي ،ومتحف البرجيل في الشارقة ،وكذلك متحف باألردن.
نصوص
ابتهال فاطمة عبدالحميد
قاصة سعودية
ابتعدنا عن بعضنا ،بنفس السرعة التي اجتمعنا بها لنلتقط صورة لحفل التخرج...
ك��ان��ت ه��ي م��م��ن جلسن ف��ي ال��ص��ف األول ،ليظهر ال��ص��ف ال��خ��ل��ف��ي م��ن ال��خ��ري��ج��ات واض���حً ���ا ف��ي ال��ل��ق��ط��ة .ال
أعرف إن كانت لم تسمع صوت المصورة حين رفعت يدها وقالت:
« ان��ت��ه��ي��ن��ا ...ش���ك���رًا ح��ب��ي��ب��ات��ي» ،أم أن���ه���ا ل���م ت��ف��ه��م أن ال��م��ق��ص��ود م���ن ك�لام��ه��ا ه���و «ت���ف���رق���ن ع���ن ال���م���س���رح» أم
���ررت المكوث هنا ،على هذا أن��ه لسبب آخ��ر ،ك��أن ال تكون لديها وجهة لتذهب إليها بعد ذل��ك ال��ي��وم؛ ل��ذا ق ِ المسرح وفي تلك الصورة ً أيضا. ُ عدت إلى الجامعة بعد عشرة أعوام ،وكانت ال تزال في مكانها ،وبروب التخرج الوردي الذي لم تخلعه
منذ ذلك اليوم .لم تكن تمثل في فلم رعب ...لم يكن العفن قد تسلقها كما توقعت قبل أن أقترب منها .ال...
كانت طازجة أكثر من كونها فتاة تم استثناؤها من مغادرة المسرح في ذلك اليوم المشؤوم ألهلها ،والذي سعيدا ًّ ً بالنظر البتسامتها الواسعة وروجها الالمع ،يبدو أنه كان ً جدا بالنسبة لها . يوما كم عدد الذين عرفوا أن آخر ابتساماتهم هي آخر ابتساماتهم بالفعل؟
ْ بللت إصبعها بلعابها لتضبط شعر غرتي المتطاير وأنا أتكئ على ركبتها ،حدثتني بانهماك عن طالبات
لم يعرفهن أحد ألنهن خارج مرتبة األفضل واألس��وأ في الدفعة ،فنسيهن الجميع ،وكنت في غنى عن أن تصمت إذا اب��ت��ع ُ ُ ُ ��دت قليلاً عنها ،وتعاود اسمي .الحظت أنها أع��رف أنني واح���دة منهن ،لكنها بأسف ذك��رت
ُ ُ ُ ذهبت مكثت قربها حتى وقت أذان الظهر ،ثم حين انشغل الجميع بالصالة اقتربت منها. الكالم بلهفة إذا ُ ُ وعدت بها إلى المسرح .كانت «ابتهال» صامتة حتى وسحبت مرآة تقاربني طولاً ، لغرفة أعمال الطالبات، ُ ُ ْ ْ وضعت المرآة أمامها كما كان يفعل والدي حين يموت توقفت قبل قليل. وعادت تكمل من حيث اقتربت، ً وحيدا. أحد أزواج الطيور في القفص ،ليقنعه بأنه ليس ُ ُ نزلت عن تراجعت للخلف خطوة خطوة ،حتى
المسرح دون أن تلحظ ذلك ...كانت ال تزال تتحدث إلى الصورة في المرآة بحماسة،
وكأنها أخرى تخبرها عن إنجازات كل طالبة منا بحسب الترتيب في الصورة الجماعية . حين تصل إلى مكاني في ُّ الدفعة،
أتمنى أال تعرف أن هذه الخدعة التي ُ قمت بها هنا ألجلها ،هي إنجازي
ُ نزلت عن المسرح قبل الوحيد منذ
عشر سنوات.
179
فنون
نجيب محفوظ قال له« :ال تستبدل شهوة العمل بشهوة الكالم»
هاني شنودة: موسيقاي تحققت وارتبطت بالناس.. علوما موسيقية جديدة و«المصريين» أدخلت ً القاهرة
180
ّ يعد واحدة من الظواهر الفنية التي عرفتها مصر منذ مطلع السبعينيات حتى اآلن ،وُلد عام 1943م بمدينة طنطا في وسط الدلتا ،وتخرج عام 1966م من معهد الكونسرفتوار ،أدخل على الموسيقا المصرية توزيع األلحان ،واعتمد األدوات الموسيقية الكهربائية ،نال كثيرًا من الهجوم، وقدم كثيرًا من النجوم في مقدمتهم محمد منير وعمرو دياب الذي التقاه في حفلة ببورسعيد، فنصحه بنزول القاهرة وتعلم الموسيقا ،وقدم له ألبومه األول «يا طريق» .هو الموسيقار هاني شنودة صاحب فرقة المصريين التي قدمت تراثا مهمًّ ا للموسيقا المصرية والعربية (بحبك ال .ماشية السنيورة .حرية .كتير .بنات كتيرً . أبدا من جديد ،حظ العدالة) ،لحَّ ن الموسيقا التصويرية ألكثر من خمسين عملاً سينمائيًّا، من بينها( :اللومنجي ،ونسيت أني امرأة ،ومصيدة الذئاب تعالب وأرانب، وصعيدي في الجيش ،وصراع الحسناوات ،ومسجل خطر ،والعذراء والعقرب ،وصديقي الوفي ،والمشبوه ،والمطربون في األرض). «الفيصل» التقته وحاورته حول الموسيقا والفن وقضايا أخرى:
العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
هاني شنودة :موسيقاي تحققت وارتبطت بالناس..
نجيب محفوظ
● ما الذي حققته فرقة المصريين للموسيقا العربية
وللغناء في مصر؟ ■ فرقة المصريين غيرت «المزيكا» في مصر ودول أخرى كثيرة ،وحين تذهب إلى أي فرح تجد الناس يغنون
أغانيها ،وهذا يعني نجاحها وتحققها وارتباط الناس بها، فضلاً عن أنه لم يكن في الموسيقا المصرية هارموني أو باص
نجاة الصغيرة
هجوما ال أستطيع وصفه، هوجمنا ً سواء من الصحافة أو التلفزيون أو غيرهما ،لكن أمام النجاح الكاسح يهون أي هجوم
غيتار أو كونتر بوينت« .المصريين» هي التي أدخلت العلوم
■ كنا فرقة غربي ،نغني أغاني غربية تتميز باإليقاعات
فالجزء الذي يجيء فيه ربع تون كان يُت َرك بال توزيع .وفي
باإلسكندرية ،وكان يجيئنا نحو ثالثة آالف شاب وفتاة
الموسيقية ،لم يكن هناك توزيع أو هارموني في الكورال،
السريعة والمدد القصيرة ،وكنا نقدم موسيقانا في المنتزه
«المصريين» عملنا أول شريط كاسيت لمحمد منير ،وعملنا له الموسيقا التي ما زال يغني ً وفقا إليقاعاتها حتى اآلن.
إلجراء حوار معنا لـ«آخر ساعة» أو «المصور» ،وكان ذلك
● هاني شنودة من أكثر الموسيقيين الذين احتكوا
عاملين زوبعة في فنجان ،أنتم ما بتعملوش أغاني عربي
وتعاملوا مع كتاب وشعراء ،فما الذي جعلك قريبًا من الوسط الثقافي هكذا؟
يرقصون على موسيقانا وأغنياتنا ،فجاءنا نجيب محفوظ
قبل أن يحصل على نوبل بسنوات طويلة ،فقال لي« :أنتم
ليه؟» ،فقلت له :إن األغنية العربية تأخذ وقت ثالثة أو أربعة أغاني مما نغنيه ،كما أنها تبدأ بتانغو وتنتهي
■ أول شيء أنا مدين بكل ما أنا فيه ألستاذ اللغة العربية
بمقسوم «على واحدة ونص» ،والشباب يرون أنه من
مؤكدً ا أن كل موضوع له مقدمة ثم قمة ثم تذييل ،سواء
مالحظاتي على األغنية العربية ،فقال لي« :ال تستبدل
في مدرستي اإلعدادية الذي علمني موضوعات اإلنشاء، ببيت شعر أو آية قرآنية ،كان يكلمنا في كل شيء ،وعن كل شيء ،فأثار خيالنا وأرواحنا نحو كل ما هو جديد ،إضافة
إلى ذلك فأنا من بيت جمع بين الثقافة والفن ،فوالدي كان
صيدالنيًّا لكن كانت لديه مكتبة كبيرة ،وكان محبًّا للقراءة
واالطالع ،وأمي كانت تجيد العزف على العود ،ومن ثم فقد نشأت في بيت جمع بين الثقافة والفن. نجيب محفوظ وحليم
● ما الذي غيرك لتنتقل من األغاني الغربية إلى
األغاني المصرية؟
العيب الرقص على إيقاعات شرقية ،وظللت أسترسل في شهوة العمل بشهوة الكالم» .وبدا على مالمحي أنني لم أستوعب ما قال ،فأوضح قائلاً « :اللي أنت مؤمن أنه صح
اعمله» ،ومشى نجيب ،لكن البذرة التي بذرها في رأسي تمش ،ظلت باقيةّ ، في حين طلبني عبدالحليم لم ِ وأثرت ّ حافظ وقال لي« :عايزك تعملي فرقة صغيرة» ،وكان عبدالحليم يعمل مع الفرقة الماسية ،وهي فرقة كبيرة
وشهيرة ،فوافقت وأحضرت درامز ،وبيست بالرمر ،لكن عبدالحليم عاد وقال لي :إن قائد الفرقة الماسية وهو
الموسيقار الشهير أحمد فؤاد حسن غاضب ،ويردد أن
عبدالحليم سيترك الماسية وسينضم إلى فرقة صغيرة،
181
فنون
واقترح علي أن نضم ثالثة عازفين من الماسية إلى فرقتنا،
صوت جيد ،فأضفت إليهما إيمان يونس أخت الممثلة
مختار السيد ،وحسين نور «رق» .وبدأنا البروفات ،فعملنا
حليفنا في كثير من األغاني ،وعملنا لمنير شريطه األول
فانضم إلينا عازف الغيتار هاني مهنى ،وعازف األوكرديون حفلة في نادي الجزيرة ،كان الجزء األول بقيادة أحمد
فؤاد حسن ،والجزء الثاني منها بفرقتي ،وبعد الحفلة
قال لي عبدالحليم« :إحنا القينا نفسنا؛ ألن حجز األوتيالت هيبقى أقل ،وحجز الطيران هيبقى أقل» .وحين فكرت
في الكالم علمت أن عبدالحليم فهم ما يفهمه كثيرون، فهو بما لديه من قدرة على االستبصار علم أن المستقبل لآلالت العالمية الجديدة ،سواء البيست غيتار أو غيره،
وبخاصة حين رأى هذا العدد من الشباب الذين يرقصون
على الهارموني والعلوم الموسيقية الجديدة التي مكنتنا من تفجير طاقاتهم ،حينها قلت :إنه حان الوقت كي أكوِّن
فرقة خاصة. لاً ولما جاءني عبدالرحيم منصور قائ :إن عنده مغنيًا
شابًّا صوته مميز لكن حظه يعانده ،وإنه يريده أن يغني
معي ،كان هذا الشاب هو محمد منير الذي وزعت له ألبومه األول ،ولحَّ نت له فيه أربع أغنيات ،وفي أثناء تسجيلنا
شريط منير وجدت أن من يلعب الدرامز والغيتار لديهما
182
الناس يرحبون باألغنية الرومانسية والدينية والفكاهية ،حتى أغنية الكالم الفارغ أو التي بال رسالة ،المهم أن تكون أغنية وليس إساءة لهم
إسعاد يونس ،وكوَّنت منهم فرقة المصريين ،وكان النجاح والثاني ،ولنجاة «باعشق البحر» ،ولعدوية «زحمة يا دنيا زحمة» ،وآخرين من بينهم :فايزة أحمد ،وعلي الحجار، ومحمد الحلو ،لكن باألسلوب الجديد. هجوم كاسح
● ُّاتهمت بأنك أدخلت الموسيقا الغربية إلى الغناء
المصري؟ ■ هوجمنا هجومً ا ال أستطيع وصفه ،سواء من
الصحافة أو التلفزيون أو غيرهما ،لكن «بيني وبينك» أمام النجاح الكاسح يهون أي هجوم ،فضلاً عن أن الكاسيت ً هامشا كبي ًرا من الحرية في السماع ،فقبله كان ذوق أعطى لجنة اإلذاعة المصرية هو الذي يتحكم في ذوق الناس ،ثم جاء الكاسيت الذي خلق الحرية ،فكل من لديه (ً 135 قرشا)
يستطيع أن يشتري ما يحب ،فلما شعروا أن السجادة تنسحب من تحت أقدامهم توقفوا عن مهاجمتنا .في هذا
الوقت قدمنا ألبومات «بنات كتير» و«بتتولد» لمحمد منير، وغيرهما ،اآلن تقلصت مساحة الحرية ،وعاد كل شيء إلى ما كان عليه ،فأنت تسمع ما هو متاح على اليوتيوب،
فلألسف السوشيال ميديا ضيقت حرية السماع ،ربما تكون وسعت الحرية في إبداء الرأي أو غيره ،لكن في األغنية األمر مختلف ،فاألغنية كلفتها مثلاً نحو مئة ألف جنيه ،ثم ُتصوَّر بنحو مئة ألف أخرى ،ثم تعرضها على اليوتيوب من دون
عبدالحليم حافظ
العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
هاني شنودة :موسيقاي تحققت وارتبطت بالناس..
فرقة المصريين وهاني شنودة
مقابل ،ومن ثم فال أحد سيقدم على إهدار نحو مئتي ألف جنيه في أغنية كي يسمعها الناس على اليوتيوب ،فعدنا من جديد إلى ذوق لجنة اإلذاعة.
● ما االتجاهات السائدة في الموسيقا بمصر اآلن؟ ■
فرقة المصريين غيرت «المزيكا» في مصر ودول أخرى كثيرة ابن هرمس ،أنا مولود مميز ،وال أستطيع أن أكون أقل من
الطاغي اآلن هو أغاني المهرجانات ،وأنا لست
أجدادي الذين عملوا بالعلم ،وأن أقول :إن الموهبة وحدها
ليس لدينا نوت مؤدبة أو «قبيحة» ،مؤمنة أو كافرة،
● ماذا تقول للموسيقيين الشباب؟ ■ أسمع موسيقا تصويرية في المسلسالت ،مستوى
ضدها ،لكني سأقول لك قبل أن تسأل :نحن في الموسيقا لكن هناك توليفة من اإليقاعات ،أما الكالم فله طريقتان،
وكلمات أغاني المهرجانات «لمؤخذة سيئة ورديئة» ،ولو
كانوا عرضوها على المصنفات الفنية وسمحت لهم بغنائها فال بد من جزاء الموظف الذي وافق عليها ،أما إن كانوا غنوها من دون تصريح من المصنفات التي عليها أن تعطي
تكفي.
الصوت بها أعلى وأفضل مما كان متاحً ا في الماضي لدينا،
وهي موسيقا جميلة ،لكن ينقصها الشخصية ،ففي الماضي لو أخذت موسيقا فلم «شمس الزناتي» ووضعتها لفلم
«المشبوه» فإنك ال تستطيع ،وال تستطيع أن تضع موسيقا
أي منهما لفلم «ال عزاء للسيدات» أو العكس ،لكن اآلن
تصريحً ا لكل ما ينشر :رواية أو ديوان شعري أو أغنية ،ومن ينشر شي ًئا بال تصريح منها يواجه عقوبات كبيرة ،وإذا كانوا
يمكنك أن تضع موسيقا أي مسلسل لمسلسل آخر من
فهناك مشكلة وتساؤل كبير.
المسلسالت وغيرها لم تعد موجودة ،رغم أنها موسيقا
غنوها من دون تصريح ولم تقم المصنفات بمحاسبتهم
● هل يدين هاني شنودة بالفضل لعصر شريط
الكاسيت؟ ■ أدين بالفضل لعنادي ،فقد كنت أعرف أن هذا هو االتجاه الصحيح؛ ألن بلدي والبالد المجاورة تأخرت ،وأنا
دون أن تشعر بأدني خلل ،ففكرة الشخصية في موسيقا حلوة ،وأصحابها موسيقيون محترفون وموهوبون .ومن
ناحية األغنية فأريد أن أقول :إن الناس يرحِّ بون باألغنية
الرومانسية والدينية والفكاهية ،حتى أغنية الكالم الفارغ أو حال اً التي بال رسالة كـ«يال اً بال حيُّوا أبو الفصاد» ،المهم أن تكون أغنية وليس إساءة للناس.
183
مقال
فيصل دراج ناقد فلسطيني
هل للنقد األدبي العربي الحديث ذاكرة؟ اجتهد النقد األدبي العربي ،في العقد األخير ،في توسيع حقله ً أحيانا ،أن بإمكان النقد األدبي أن يكون علمًا .فبعد النظري متص ِّورًا،
سيطرة مذاهب نقدية ضيقة ،دارت بين الواقعية واالنطباعية ،جاء السياق الثقافي في سبعينيات القرن الماضي وما تالها ،باتجاهات وافدة ،اطمأن لها بعض ّ النقاد العرب ،وسعوا إلى تطبيقها على
باعتراف األحياء بجهود األموات ،وأخرى معرفية ترى في المعرفة
المنقضية جزءًا من معارف الحاضر ،التي ال تستطيع االكتفاء بذاتها، وإال سقطت في الجمود واالنغالق.
نقاد أعطوا في حدود زمنهم
روايات حديثة ،وعلى شعر عربي قديم ،احتضن البحتري وأبا تمّام. تع ّرف النقد العربي ،أو بعض ّ النقاد بشكل أدق ،على
ّ فالنقاد العرب ،الذين كانوا أحياء ورحلوا ،سايروا القرن
وحملت معها أفكار روالن بارت وجيرار جونيت ،وتطبيقات لوسيان
ال فرق إن عرفوا «مشاهير نقاد الغرب» ،أم اكتفوا بالجاحظ وابن
البنيوية الفرنسية ،التي صعدت في ستينيات القرن العشرين،
غولدمان ،الماركسي الذي اعتنق بنيوية تكوينية ،كما يقال ،في
انتظار المنهج التفكيكي ،الذي ارتبط بالفيلسوف الشهير جاك
دريدا ،الذي تحدّث عن «اآلخر» ،و«األخروية» .بل إن بعض ّ النقاد
184
تقف إلى جانب التجسير الثقافي بداهة ،أخالقية ،تقضي
الذي أخذه الشغف ،أضاف إلى الجهد الفرنسي مقوالت اإلنجليزي جوناثان كولر ،وتمدّد إلى الروسي يوري لوتمان ،الذي قال بعلم
السميولوجيا ،أو «اإلشارات». تطبيق منقوص
لم يكن في انفتاح النقد العربي على غيره ما يضير ،فالفكر الذي
ال يتع ّرف على غيره يقع في السبات .بيد أن االندفاع المطمئن إلى
«األفكار الوافدة» يستدعي ،بمشروعية كاملة أو منقوصة ،بعض
العشرين إلى منتصفه ،وأعطوا في حدود زمنهم ،مساهمات المعة، قتيبة .واألمثلة في هذا المجال كثيرة :أعطى الفلسطيني ،روحي
ما الحصاد النقدي الذي «راكمته»، االتجاهات النقدية المنفتحة على «اآلخر»، وهل استطاعت أن تصير جزءًا من الثقافة العربية ،أم اختصرت في نخبة ،ترحب بالوافد ،وال تخضعه إلى مساءلة نقدية؟ الخالدي ،في مطلع القرن العشرين ،كتابه الرائد« :تاريخ علم األدب
األسئلة :ما الحصاد النقدي الذي «راكمته» ،بعد عقود ،االتجاهات
عند اإلفرنج والعرب وفيكتور هوغو» ،الذي قرأ فيه حياة األدب في
«نظرية» (تطور أفكارها األولى) ،أم أنها أخذت بشيء من التطبيق
منه في كتابه الالمع« :مقدمة لدراسة بالغة العرب» ،الصادر عام
النقدية المنفتحة على «اآلخر» الغربي ،وهل عرفت استمرارية
حياة المجتمع .وما كان المصري أحمد ضيف (1947 -1880م) بعيدًا
المنقوص واكتفت به؟ وهل استطاعت هذه االتجاهات أن تصير جزءًا
1921م .ومن العبث نسيان كتاب «الديوان»1921 ،م ،لمؤلفيه عباس محمود ّ العقاد وإبراهيم عبدالقادر المازني .الذي حاول« ،إقامة
يأتي به سياق ثقافي ناقص الوضوح يتبدّد ،سريعً ا ،مع رحيل السياق.
اإلنصاف نسيان «غربال» ميخائيل نعيمة ،و«الميزان الجديد» لمحمد
من الثقافة العربية ،أم اختصرت في نخبة ،ترحب بالوافد ،وال
تخضعه إلى مساءلة نقدية؟ تستعيد هذه األسئلة قاعدة تقول :ما تنطوي األسئلة ،مهما تكن دقتها ،على مفهومين يتعامل
معهما الفالسفة :كونية المعرفة ،التي تقضي بانفتاح كل معرفة «ضيقة» على أخرى أكثر اتسا ًعا وجدة ،والتميّز المعرفي الذي
يتحقق إذا اعترف ببيئته وموروثه الثقافي ،قريبًا كان أم قديمًا .فجديد
األفكار ،ال يقاس بالحاضر وبمعطياته .هناك ،في الحالين ،التجسير الثقافي ،الذي يقيم بين المعارف ،في أزمنتها المختلفة؛ تفاعلاً يضع
القديم في الحاضر ،ويضيء المعرفة الحاضرة بمعرفة قديمة.
حد بين عهدين» ،وإرساء النقد األدبي على قواعد جديدة .وال من
مندور ،وذلك النقد اللغوي الرهيف الذي مارسه أديب يدعى :يحيى حقي .وعلى هذا فإن االعتراف بكونية المعرفة ٌ شرط لتطور المعارف،
الذي يقضي بتأمل الخصوصية الثقافية. يقالُ :ت ِّ شكل معارف الماضي ،بعد نقدها ،جزءًا من معارف
الحاضر ،األمر الذي يجعل من الذاكرة الثقافية العربية ،في أزمنتها
المختلفة ،بُعدًا يحايث النقد األدبي العربي ،الذي ال يرتاح إلى االغتراب .فهل انتصر ّ النقاد العرب ،دائمًا ،لذاكرتهم الثقافية؟
العددان 492 - 491ذو الحجة 1438هـ -محرم 1439هـ /سبتمبر -أكتوبر 2017م
King Faisal Foundation
(+ 96611)4656524 :¢ù``cÉa (+96611)4652255 :∞JÉ``g á`` ` ` ` jOƒ`©` `°ù`dG á`` ` ` «Hô`` ©` dG á`` ` ` ` µ` ∏ª`ŸG 11411 :¢VÉ`` `jô``dG 352 :Ü .¢U
P.O.Box 352 Riyadh 11411 Kingdom of Saudi Arabia Tel: (+966 11) 4652255 Fax: (+966 11) 4656524
www.kff.com