العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ يوليو -أغسطس 2017م
الصحافة الورقية في زمن متغير
موت غير معلن
الصراع الطائفي في إسرائيل علي فخرو :البترول فرصة
الكاتبات اإليرانيات
قراءة ثقافية لمفهوم
تاريخية أضاعها الخليجيون
والعيش في جحيم مفتوح
الترفيه في السعودية
www.alfaisalmag.com
www.kfcris.com
اﻟﺒﺤﻮث واﻟﺪراﺳﺎت
اﻟﻤﺤﺎﺿﺮات واﻟﻨﺪوات
kfcris@kfcris.com
@kfcris_sa
اﻟﻤﻜﺘﺒﺔ
اﻟﻤﺘﺎﺣﻒ
kfcris_sa
KFCRISKSA
اﻟﺘﺪرﻳﺐ
KFCRIS
اﻟﻜﺘﺐ واﻹﺻﺪارات
ص ب ٥١٠٤٩ :اﻟﺮﻳﺎض ١١٥٤٣اﳌﻤﻠﻜﺔ اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ اﻟﺴﻌﻮدﻳﺔ ﻫﺎﺗﻒ ٠٠٩٦٦ ١١ ٤٦٥٢٢٥٥ :ﻓﺎﻛﺲ٠٠٩٦٦ ١١ ٤٦٥٩٩٩٣ : Fax: 00966 11 4659993
Tel: 00966 11 4652255
P.O. Box 51049 Riyadh 11543 Kingdom of Saudi Arabia
اﻟﺸﺆون اﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ
« ﺗﺠﻮل ﻓﻲ ﻣﻮﻗﻊ » ﻣﻘﺎﻻت ﻟﻨﺨﺒﺔ ﻣﻦ أﻫﻢ اﻟﻜﺘﺎب ﻣﻠﻔﺎت وﺗﺤﻘﻴﻘﺎت وﻗﻀﺎﻳﺎ ﻋﻦ اﻟﺮاﻫﻦ اﻟﺜﻘﺎﻓﻲ واﻟﺴﻴﺎﺳﻲ ﻣﻊ إﻃﻼﻟﺔ ﻋﻠﻰ اﻹﺑﺪاع ﻓﻲ ﻣﺨﺘﻠﻒ اﻟﻔﻨﻮن
@alfaisalmag alfaisalmag alfaisalmag ﻣﺠﻠﺔ اﻟﻔﻴﺼﻞ
alfaisalmag.com
editorial@alfaisalmag.com
+966 11 4647851 :¢ùcÉa +966 11 4653027 :∞JÉg ájOƒ©°ùdG á«Hô©dG áµ∏ªŸG 11411 ¢VÉjôdG 3 Ü ¢U
يصدرها
أسسها عام 1397هـ1977/م
األمير خالد الفيصل
العددان
490-489
الملف
كتاب الفيصل 17
مستقبل الصحافة الورقية 49 18 محمد الحيزان لتبقى المهنة ..تخلصوا من عقلية الورق! عثمان العمير الصحافة الورقية صناعة انتهت
2
بزون أحمد ّ أزمة الصحافة الورقية في لبنان صبحي موسى الصحافة المصرية تواجه «األزمة» بالبحث عن «خلطة» تناسب القراء عدنان فرزات تتحسر على أموال اإلعالنات.. الخليجية الصحافة ّ هدى الغفق -فواز السيحاني الصحافة السعودية :من يديرون الصحف كانوا يضعون األموال في جيوبهم جعفر العقيلي حل األزمة يكمن في التكيف مع المستجدات ميلود بن عمار صحافةالمغرب العربي.. نهايات مأساوية ..وأفق مسدود لطف الصراري اليمن ..عشرات الصحف توقفت تعبر عن وجهة نظر كتَّابها ،وال تم ِّثل رأي مجلة الفيصل. اآلراء المنشورة ّ تكفل المجلة حرية التعليق على موضوعاتها المنشورة شريطة االلتزام بالموضوعية. تحتفظ المجلة بحقوق ملكيتها للمواد المنشورة فيها ،ويتطلب إعادة نشر أي مادة ورقيا الحصول على موافقة المجلة مع اإلشارة إلى المصدر. إلكترونيا أو ً ً ترسل المواد إلى بريد المجلة اإللكترونيeditorial@alfaisalmag.com :
العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
ردمد ٠٢٥٨ - ١١٤٠ رقم اإليداع مكتبة الملك فهد الوطنية 14/0542
الناشر
رئيس مجلس اإلدارة
األمير تركي الفيصل
رئيس التحرير
الثقافية
دار
editorinchief@alfaisalmag.com
فضاءات
دراسات
بيت في الصحراء ..بح ًثا عن نقطة األصل
العربية منعطفات الرواية ّ (يمنى العيد)
58
ي ِّ ُحدد العنوان لمنعطفات الرواية العربيّة ،موضوع البحث، زم ًنا تاريخيًّا يقع بين العاميْن ١٩٦٧و٢٠٠٣م ،أي بيْن هزيمتيْن هما هزيمة الجيش المصري أو ما ُع ِرف بالنكسة ،وهزيمة الجيش العراقي أو احتالل العراق ،ما يعني أنَّ العنوان يُضمر اإلشارة إلى أثر يتركه الواقع التاريخي في عالق ٍة بين األدب والتاريخ ،أو إلى ٍ األدب الذي هو هنا الرواية.
154
(عالء خالد)
بدأت تتشكل رحلة عالقتي بواحة سيوة عام 1992م ،عندما لجأت إليها فارًّا من موت أبي ومن مشكالتي النفسية التي أورثتني إياها عالقات المدينة وزحامها الذي يختزل الموت وآثاره ،ويضيِّعه في ثنايا العادة والتكرار .المدينة التي تختزل أي مسافة ،وتضعك في عراك مع حافة جسمك ،ومن دون أي براح إضافي ،تنتقل فيه أنت وحياتك ومشكالتك وموتك الشخصي إلى مكان جديد.
مقال
تحقيقات
االستشراق الجديد ..جنون هوياتي أم تكريس
إيمانويل ماكرون..رئيس لزمن سياسي جديد
ماجد الحجيالن
(أحمد المديني)
54
هل كان الرئيس هوالند ،وهو يدعو الشاب ماكرون ،ليلتحق به أمي ًنا عامًّا مساعدً ا في قصر اإلليزيه ،قبل عامين فقط، وليعينه بعد عام في فرصة اهتزاز وتمرد لجناح من االشتراكيين ليحل محل وزير االقتصاد المتمرد مونتبورغ؛ هل كان هوالند عندئذ يحسب لحظة واحدة أن هذا الشاب الخجول ،المتكتم، إنما المسلح بتكوين جامعي صلب ،ويمتلك أسلوب عيش خصوصي ،ويعرف كيف يحرق المراكب دون دخان ،هو نفسه من سيودعه في نهاية مدته الرئاسية بمدخل قصر الرئيس.
106
لكراهية العرب؟ (الفيصل خاص)
كشف الغزو األميركي للعراق عام 2001م عن الدور البارز الذي لعبه االستشراق الجديد في تشكيل مخيلة الغرب نحو المنطقة العربية ،فعبر عدد من مراكز األبحاث وأقسام الجامعات ووسائل اإلعالم صدَّق العالم أن العراق مقبل على إبادة البشرية. يومها وقف وزير الخارجية األميركي كولن باول يستعرض أمام مجلس األمن علبة صفيح قديمة بوصفها دليلاً على مدى تطور البرنامج النووي العراقي ،مطالبًا بتشكيل تحالف دولي النتزاع قوى الشر من مكمنها.
3
بورتريه
سينما
شياطين الثورة الرقميةالكائن اإلنساني المتفرد؟
170
(فجر يعقوب)
من المؤكد أن عباقرة الفن السابع الكبار يتحسرون على األيام التي مضت حين كانت الكاميرا الثقيلة وحدها سيدة المشهد، وسيدة الفكرة والصورة والمحتوى .اليوم ال يبدو أن االحتالل الرقمي للسينما قد صنع المعجزات بخصوص اللغة السينمائية التي طورها هؤالء الكبار من وراء كراسيهم ،وصنعوا أمجاد النجوم والنجمات من خاللها.
كتب
134
وداعا غويتيسولو ..ضمير إسبانيا وصوت العرب ً في أوربا (أحمد عبداللطيف)
78
َ العالم واحدً ا في يونيو الماضي ،في مدينة مراكش ،ودّع ً من أكثر ُ تورطا في الشأن السياسي ،ومن أكثر األصوات الك ّتاب ً دفاعا عن الثقافة انتقادًا للسلطة اإلسبانية اليمينية وأكثرها
العربية اإلسالمية وقضايا المهاجرين :خوان غويتيسولو ،الذي
يعده بعض النقاد أهم كاتب إسباني في القرن العشرين.
141
مقاالت
76
4
إبراهيم عبدالمجيد جناية «الميديا» على األدب
90
عبدالله البريدي نحو مقاربة ثقافية تنموية للترفيه في السعودية
104
آمال قرامي كرنفال داعشي
160
محمد سبيال العرب والتقدم
168
شكري المبخوت توفيق ب ّكار ..القارئ العاشق العربي لعيون األدب ّ
184
سعد البازعي ترف الحرية
العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
80
نصوص
57
عبدالعزيز خوجة ــن َس ُّ هواك وما ت ُ
63
ماريان مور الشعر
93
محمد الشلفي مفكرة الحرب
142
أشجان هندي طرد بريدي
162
عمر شبانة قصائد ابن الورد
182
مدير التحرير
مسفر الغامدي مرآة ال تريني وجهي
أحمد زين اإلخراج
ينال إسحق التنفيذ
في هذا العدد شعرا في نظم أبي تمام (فضل العماري)........... الكتابة ً الشعر والثورة في شعر حسن طلب (يسري عبدالله)...... تركي السديري ..رمز صحافي لم يعش في منطقة الوسط (هيا المنيع)..........
الثقافية في إسرائيل؟.................. ما الذي يشغل النخب ّ مواجهة بين الشرقيين والغربيين في تل أبيب(..عودة بشارات)............... ترجمة إسرائيل األدب العربي( ..كرم سعيد)..................................................
الكاتبات اإليرانيات في جحيم مفتوح ( متعب القرني)..... المنفيون (روبرتو بوالنيو)..................................................... ريمكو كمبرت( ..صالح حسن).................................................. عبد القادر عبداللي( ..سامر اسماعيل)............................... «اآلخر» لم يعد أجنب ًّيا( ..يوسف بزي).................................. أحتاج عينًا ثالثةً ألرى الغيب( ..منذر مطري)....................... الجديد في مقامات الهمذاني (بالل األرفة لي)............. التحول في مفهوم الفرجة (عبدالرحيم اإلدريسي)....... أحمد الجنايني( الفيصل خاص)..............................................
64 68 74 80 81 86 112 120 124 128 146 150 164 174 178
لفراد 250 ،اً ريال �سعود ًّيا للم�ؤ�س�سات� ،أو ما االشتراك السنوي 100 :ريال �سعودي ل أ يعادلهما بالدوالر الأمـريكي خارج اململكة العربية ال�سعودية. السعر اإلفرادي :ال�سعــودي ــة 10رياالت ،الإمارات 10دراهم ،قطر 10رياالت ،البحرين دينار واحد ،الأردن ديناران ،م�صر 10جنيهات ،املغرب 10دراهم ،لبنان 5000لرية. الموزعون :م�صر ،م�ؤ�س�سة توزيع الأهرام ،القاهرة �شارع اجلالء ،هاتف ،27703195 :فاك�س: ،27704293قطـر ،دار ال�شرق للطباعة والن�شر والتوزيع� ،ص.ب ،3488هاتف ،44557810 فاك�س ،44557819 :الأردن� ،شركة وكالة التوزيع الأردنية� ،ص.ب ،3371هاتف،65358855 : فاك�س ،65337733 :البحرين ،م�ؤ�س�سة الهالل لتوزيع ال�صحف� ،ص .ب ،80050هاتف: ،17480800فاك�س ،17480818 :الإمارات العربية املتحدة� ،أبو ظبي املتحدة للطباعة والن�شر والتوزيع � ،ص.ب ،39955هاتف ،25010967 :املغرب ،ال�شركة ال�شريفية لتوزيع ال�صحف، �ص.ب ،13683هاتف ،2400223 :فاك�س ،2246249 :لبنان ،بريوت� ،شركة �شرق الأو�سط لتوزيع املطبوعات� ،ص .ب ،11-6400هاتف ،009611697310 :فاك�س009611697320 : التوزيع داخل المملكة
ال�شركة الوطنية املوحدة للتوزيع هاتف )011( 4871414 :فاك�س)011( 4871460 :
رياض دفدوف مبارك علي الموقع اإللكتروني
معتز عبدالماجد التدقيق والمراجعة اللغوية
عبدالله الدوسري محمد نصير سيد االشتراكات والتوزيع
جعفر عبدالرحمن -)+966(11٤٦٥٢٢٥٥تحويلة6640 : subscriptions@alfaisalmag.com
مراسالت التحرير editorial@alfaisalmag.com مراسالت اإلدارة ص.ب ( )3الرياض 11411 المملكة العربية السعودية هاتف المجلة )+966( 11٤٦٥3027: فاكس)+966( 11٤٦٤٧٨٥١ : contact@alfaisalmag.com اإلعالنات هاتف)+966( 11٤٦٤٧٨٥١ : advertising@alfaisalmag.com
5
المركز
دكتوراه فخرية للفيصل من جامعة غوميليوف أوراسيا منح المجلس األكاديمي لجامعة غوميليوف أوراسيا
الوطنية في كازاخستان األمير تركي الفيصل رئيس مجلس
إدارة مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية الدكتوراه الفخرية تقديرًا لمساهماته الفكرية ودوره في توطيد أواصر التعاون البحثي واألكاديمي بين مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية وعدد من المراكز والهيئات
الدولية المختلفة ،وكذلك لمشاركاته وإسهاماته في كثير من
المؤتمرات والندوات واللقاءات العالمية التي تناقش وتشجع
على السالم والتعاون والحوار وتبادل المعرفة.
وكان األمير تركي الفيصل قد ألقى أواخر مايو الماضي
محاضرة في جامعة «غوميليوف» بكازاخستان ،قال فيها: «يُسعدني أن أُلقي محاضرتي اليوم في هذا البلد العزيز ،بالد ما وراء النهر كما سمّ اها المسلمون األوائل؛ تلك المنطقة التي
َّ المؤلفات المهمّ ة ،التي تحتفي بها مكتبتنا بكثير من أخرجت لنا كثيرًا من العلماء الذين أَ ْثروا الثقافة اإلسالمية والعربية ٍ ّ ولعل أحد العربية حتى يومنا هذا» ،مشد ًدا على قوة العالقات العربية الكازاخية ،سواء في التاريخ القديم أم الحديث، األمثلة الواضحة على ذلك أن اللغة الكازاخية ّ ظلت ُتكتب باألحرف العربية حتى بدايات القرن الماضي .وذكر األمير تركي أنه
6
ال يمكن أن نذكر كازاخستان من دون أن نذكر القائد المسلم الكبير ركن الدين بيبرس الذي تعود أصوله إلى هذا البلد الكبير كازاخستان ،ذلك القائد الذي أبلى بالءً حس ًنا في معركة عين جالوت سنة 658هـ1260 /م ،وهي المعركة الفاصلة في التاريخ
اإلسالمي ،التي ألحقت أول هزيمة قاسية بجيش المغول ،وأوقفت زحفهم على بالد اإلسالم.
وفد من االتحاد األوربي يزور المركز
استقبل األمين العام للمركز الدكتور سعود السرحان
أواصر التعاون مع مختلف المؤسسات والمنظمات المحلية
األوربي ،وهي اللجنة المعنية بالسياسة األمنية المشتركة ً تعريفا بالمركز لدول االتحاد األوربي .وقدم األمين العام
وأشار رئيس وفد لجنة السياسة واألمن في االتحاد
األوربي آالن بوغوجا إلى رغبة االتحاد في استمرار بناء العالقات
في دراسة األفكار وتحليلها التي تسهم في تحسين السياسات
في دول الخليج العربي ،إضافة إلى تعزيز فرص التعاون في
في مايو الماضي وفدً ا من لجنة السياسة واألمن لالتحاد
وأنشطته وبرامجه ،وإصداراته البحثية المتنوعة ،مبر ًزا دوره
ومواجهة التحديات لدى ُ صناع القرار ،وكذلك اهتمامه بتوثيق العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
واإلقليمية والدولية.
وتوثيقها واالطالع على تجارب المؤسسات الحكومية واألهلية مجال البحوث والدراسات.
أمير الرياض يفتتح متحف الفيصل للفن العربي اإلسالمي
افتتح األمير فيصل بن بندر أمير منطقة الرياض ،متحف الفيصل للفن العربي اإلسالمي بالرياض في األول من يونيو
الماضي ،بحضور األمير تركي الفيصل ،رئيس مجلس إدارة مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية ،وشهد
االفتتاح األمير سلطان بن سلمان ،رئيس الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني ،واألمير بندر بن سعود بن خالد ،األمين
العام لمؤسسة الملك فيصل الخيرية ،وعدد من أصحاب السمو األمراء ،ونخبة من المتخصصين واألكاديميين والسفراء والدبلوماسيين والمهتمين بالفن العربي واإلسالمي.
ً وأيضا االستقصاء العلمي، ولمناسبة االفتتاح قال األمير فيصل« :هذا المتحف يؤكد على دور مركز الملك فيصل للبحوث ّ
في كثير من أمور التاريخ اإلسالمي ،والمركز مؤسسة عريقة ولها دور بارز في مجاالت العلم والمعرفة والثقافة والتراث، وأرجو له التوفيق الدائم ،وأن نسعد بهذه الجهود التي تفيد الباحثين وكل من يحاول البحث عن أي أمر من خالل هذه المؤسسة التي وصلت إلى مستوى عالمي» ،معربًا عن سعادته بوجود مؤسسة الملك فيصل في الرياض قائلاً « :هذه ً إشعاعا لإلنسان المؤسسة بقيادة األمير خالد الفيصل تأخذ طريقها المستمر في دعم الثقافة بكل جد واجتهاد؛ ألنها تعطي
في هذه المنطقة ،عن علم ومعرفة وإدراك وإتقان ،فهي مؤسسة عريقة تقوم بهذا الدور ،أتمنى لها التوفيق في ظل األعمال
التي تنتهجها الدولة ،وفقها الله في مجال الثقافة والتراث والعلم والمعرفة ،وسيدي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز أَولى هذه األمور عناية كبيرة وجعلها من أولوياته التي يحرص عليها ويوجه فيها». من جهته ،أوضح األمير تركي الفيصل أن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز «هو راعي مؤسسة الملك
فيصل وراعي نشاطاتها ،وهو بنفسه من افتتح كثي ًرا من المعارض في هذا المكان عندما كان أمي ًرا لمنطقة الرياض ،وهذا
المساء نشرف بوجود أخي األمير فيصل بن بندر أمير منطقة الرياض ،ونحن دائمً ا في رعايته في منطقة الرياض ،ووجوده هنا ليس فقط دليلاً على اهتمامه الشخصي ،ولكن توجه وتأييد الدولة المباركة لكافة المجاالت الثقافية والتراثية».
ويُقدّ م «متحف الفيصل للفنّ العربي اإلسالمي» التابع للمركز نماذج من المجموعة الفنية التي يقتنيها المركز من ً ً نادرة من الفنّ العربي اإلسالمي ،وتضمّ القاعة األخرى مجموعة المصاحف تراثية خالل قاعتين :تضم القاعة األولى قطعً ا
المخطوطة والمطبوعة الفريدة التي يقتنيها المركز (مصاحف األمصار) ،وتشتهر هذه المصاحف بتنوّعها من حيث بلد المنشأ ّ الخط والزخارف فيها. كثير منها ،و ِقدَ م تاريخها ،وإتقان والحجم ،وندرة ونفاسة ٍ
7
المركز
حوار سعودي ياباني باتجاه المستقبل
عقد المركز في مايو الماضي حلقة نقاش بعنوان :حوار سعودي ياباني إستراتيجي في معهد الفيصل ،أدارها األمين
العام للمركز بحضور عدد من األكاديميين والمتخصصين من السعودية واليابان .وركز النقاش على عدد من الموضوعات، بما في ذلك تاريخ العالقة بين البلدين الذي يمتد ألكثر من 60عامً ا ،ومستقبل هذه العالقة .كما ناقش الطرفان التحديات المشتركة التي تواجه البلدين ،وما إذا كان تصدير النفط إلى منطقة شرق آسيا سيخلق دورًا سياسيًّا أكبر لليابان في منطقة
8
الخليج العربي ،كما كان موضوع تمكين المرأة والتعاون الثقافي جزءً ا من الحوار؛ إذ تحدَّث المشاركون عن تصورات
النساء السعوديات واليابانيات وأفكارهما في العقود الماضية ،وكيف تغيرت وتطورت.
مشاركة في معرض الكتاب بالجامعة اإلسالمية
شارك المركز في معرض الكتاب والمعلومات الرابع والثالثين
وكشاف سعود الفيصل ،والعربية اللغة الشريفة ،وأخالق النبي
المركز من كتب وبحوث ودراسات ودوريات ،وبعض المخطوطات
التراثية والثقافية والدراسات الفكرية .واشتمل جناح المركز على
بالجامعة اإلسالمية في المدينة المنورة ،من خالل عرض إصدارات
والكتب التي توثق مسيرة الملك فيصل رحمه الله .ويبلغ عدد
إصدارات المركز نحو 350إصدارًا ،كما شملت إصدارات المركز ما ً عنوانا من اإلصدارات الجديدة ،ومنها :كشاف الفيصل، يقارب 120 العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
صلى الله عليه وسلم ،والتراث الثقافي ،وعدد آخر من الكتب
اإلصدار الجديد من «خزانة التراث» ،وهي قاعدة بيانات تضم أكثر من 150ألف عنوان في مختلف العلوم ،كما تضم أكثر من 750ألف
نسخة خطية.
كاريكاتير
فعاليات
عشرات الباحثين الدوليين شاركوا في فعالياته
منتدى الرياض لمحاربة اإلرهاب: التطرف آفة عالمية... واألديان جميعها عانت من جماعات العنف
10
تركي الفيصل
سعود السرحان
هدى الحليسي
آشتون كارتر
فرانكو فراتيني
مارتن غولوف
جون جينكنز
ريتشارد باريت
عبدالله بن خالد آل سعود
ويليام ماكانت
غرايم وود
بيتر نيومان
شيراز ماهر
جورج سالمة
سمية فطاني
جوزيف ميفسود
كاثرين باور
مايكل هورلي
خالد بن خليفة آل خليفة
راجان بصرة
نديم قطيش
إليزابيث كيندال
لورينزو فيدينو
جاك كارفيلّي
ناصر بن محيا المطيري
رضوان السيد
فيصل أبوالحسن
الرياض
التي شهدتها الرياض تزام ًنا مع الزيارة التاريخية للرئيس األميركي دونالد ترمب إلى السعودية.
شدد منتدى الرياض لمكافحة التطرف ومحاربة
وفي االفتتاح قال الدكتور سعود السرحان األمين العام للمركز
اإلرهاب من أجل تحقيق األمن والسالم في العالم .وأكد
يواجه العالم منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية ،مؤكدًا أن خطر
اإلرهاب على أهمية الدور الذي تقوم به السعودية في محاربة المنتدى الذي عقده مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية في 21مايو الماضي ،برعاية التحالف اإلسالمي
العسكري لمحاربة اإلرهاب ،أن التطرف واإلرهاب ال يمكن ربطه بدين أو منطقة معينة .والمنتدى الذي استمر يومً ا واحدً ا وعقد
في فندق إنتركونتيننتال بالرياض وشارك فيه عدد كبير من الباحثين والمهتمين بمحاربة التطرف من جنسيات مختلفة، جاء في إطار الفعاليات السياسية والعالمية الرفيعة المستوى العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
في كلمة ترحيبية بالمشاركين :إن التطرف واإلرهاب هما أكبر تهديد اإلرهاب «يتجاوز حدود المنطقة ويشكل خط ًرا على دول العالم
كافة» .وأوضح السرحان أن السعودية دعت إلى هذا المؤتمر لتبادل النقاشات والمعارف ،ولتأكيد التزامها المستمر باألمن والسالم العالميين ،وليكون المؤتمر منب ًرا عالميًّا لمكافحة اإلرهاب ،الف ًتا إلى أنه «كان لزامًا على الرياض التصدي لظاهرة اإلرهاب ،نظ ًرا ً وانطالقا من واجبها الديني واألخالقي ،وبنا ًء على لثقلها السياسي معاناتها ،في العقود الماضية ،من اإلرهاب».
طبيعة التطرف وأنواعه
وناقش المنتدى عددًا من أهم القضايا الملحّ ة في مجال
األمن واالستقرار الدوليين مثل :طبيعة التطرف وأنواعه وتأثيره، والتصور المستقبلي لإلرهاب ،ودور وسائل التواصل االجتماعي
وتأثيرها في التطرف وسبل مواجهة اإلرهاب والتطرف العنيف على
المستوى اإلقليمي .وفي الجلسة األولى وعنوانها« :داعش النسخة الثانية ومستقبل اإلرهاب» ،أكد المشاركون على أن تنظيم داعش
اإلرهابي إلى زوال وتبدد ،وأشادوا بالمقاربة الفكرية واإلعالمية واالجتماعية والعسكرية المتكاملة التي تعتمدها السعودية ،عا ِّدين
إياها نموذجً ا يجب على العالم االقتداء به .وأشار المتحدثون إلى أن القضاء على تنظيم داعش اإلرهابي ال يكون فقط عبر العمليات العسكرية ،بل يجب أن يتضمن جميع الجوانب الفكرية واإلعالمية
واالجتماعية ،وتجفيف منابع تمويل اإلرهاب ،وأن مسببات اإلرهاب والتطرف ليست دينية فقط ،بل قد تكون ً أيضا نتيجة مسببات آشتون كارتر وزير الدفاع األميركي السابق متحدثًا في المنتدى
شخصية واجتماعية وسياسية يجب التعامل معها عبر تهيئة
األرضية المالئمة على المستويين االجتماعي والسياسي ،وبخاصة
من جانبه ،أكد األمير تركي الفيصل رئيس مجلس إدارة
أن تنظيم داعش اإلرهابي يستغل سخط الشباب على األوضاع
كثي ًرا من أشكال اإلرهاب منذ الخمسينيات؛ إذ واجهت إرهابًا ً الحقا إلى إرهاب برداء ديني يرتدي اللباس الوطني ،تحوَّل
مراسل شؤون الشرق األوسط في صحيفة الغارديان البريطانية ،أن الحروب والنزاعات األهلية هي ً أيضا واحدة من مسببات اإلرهاب
المركز أن السعودية تكافح اإلرهاب منذ نشأتها ،وأنها واجهت
أوجد منظمات مثل القاعدة والجماعات التكفيرية األخرى
التي تسبب جميعها في إراقة الدماء وهتك األعراض .وقال
القائمة .وأوضح المتحدثون في الجلسة التي أدارها مارتن غولوف،
والتطرف ،إضافة إلى حقيقة أن اإلرهاب ال ينبع فقط من الدول
اإلسالمية ،بل من الدول غير اإلسالمية؛ لذلك يجب على دول العالم أجمع توحيد آليات التعامل والرؤى المشتركة وتبادل
الفيصل« :بسبب ذلك تجمعت لدى السعودية خبرات ومعارف متراكمة في محاربة اإلرهاب َّ مكنتها من تج ُّنبه في الداخل»،
المعلومات االستخبارية للتغلب على آفة اإلرهاب.
اإلرهاب ،وقدرته على إنجاز هذه المهمة الصعبة .وأضاف:
للمعهد الدولي للدراسات اإلستراتيجيّة -الشرق األوسط،
موضحً ا أن ثقته كبيرة في التحالف اإلسالمي العسكري لمحاربة «ظهرت الجماعات العنيفة في كل األديان ،في المسيحية
وفي اليهودية ،وتسببت في قتل األبرياء ،واإلسالم بريء من العنف والتطرف» .في حين قال آشتون كارتر مدير مركز بيلفر في جامعة هارفرد وزير الدفاع األميركي الخامس والعشرون :إن
السعودية تقوم بدور محوري ومهم في قيادة التحالف ومحاربة ً مضيفا أن أهمية التحالف تكمن في قدراته اإلرهاب والتطرف،
على الرد على ادعاءات المتشددين «الذين يستخدمون الدين
لتغذية أفكارهم المتطرفة ونشرها ،وهذا ال يمكن أن تقوم به
إال دولة إسالمية والرد عليهم يجب أن يكون من مسلمين». من جهته ،قال وزير الخارجية اإليطالي السابق فرانكو فراتيني: إن التحالف اإلسالمي العسكري ضد التطرف بقيادة السعودية
«خطوة كبيرة في االتجاه الصحيح» ،مؤكدً ا أنه ال يوجد أي
صلة بين اإلرهاب والتطرف والدين ،وأن الحروب التي تخوضها
الجماعات اإلرهابية هي من أجل السلطة والمال وفتح طرق التهريب حتى لو كانت تخاض باسم الدين.
وشدد المشاركون وهم السير جون جينكنز المدير التنفيذي
البحرين ،وريتشارد باريت ،كبير المستشارين في مجموعة سوفان والرئيس السابق لفريق العمليات الدولية لمكافحة اإلرهاب ،MI6والقائد السابق لفريق األمم المتحدة لمتابعة
تنظيم القاعدة وحركة طالبان ورصدهما ،والدكتور عبدالله بن
خالد آل سعود ،أستاذ مساعد في جامعة نايف العربية للعلوم
األمنية -بالرياض ،والدكتور ويليام ماكانت ،مدير عالقات
الواليات المتحدة مع العالم اإلسالمي في معهد بروكينغز، واشنطن دي سي ،الواليات المتحدة األميركية ،شددوا على أن محاربة اإلرهاب يجب ألاَّ تقتصر فقط على الجماعات اإلرهابية
السنية ،بل ً أيضا الجماعات اإلرهابية الشيعية التي تروِّع اآلمنين،
وتنشر روح الطائفية والكراهية .واستعرض هؤالء تاريخ نشأة
تنظيم داعش اإلرهابي وجذوره في العراق وسوريا ،وما يبثه من أفكار سامّة ومتطرفة في عقول الشباب ،والهزائم النكراء التي يتكبدها التنظيم في الوقت الراهن ،وفقدانه للسيطرة على
معظم األراضي التي كانت بحوزته.
11
فعاليات
التطرف عبر اإلنترنت
واستعرضت الجلسة الثانية وعنوانها« :من التطرف
في الجلسة ،دعاية إعالمية كبرى ،فأشرطة الفيديو التي يقوم
على شبكة اإلنترنت والعوامل الواقعية التي تقف خلف تجنيد
كأنهم أصحاب قضية يقاتلون من أجلها ،إال أن دور شبكة
اإللكتروني إلى اإلرهاب الواقعي» ،الدعاية اإلرهابية المتطرفة اإلرهابيين والتطرف .وقال الدكتور بيتر نيومان ،المبعوث الخاص لمنظمة األمن والتعاون في أوربا :يتحول عدد من
الناس في أوربا إلى التطرف على اإلنترنت ،فهي إحدى وسائل الدعاية التي تستخدمها المنظمات اإلرهابية إال أن عمليات تجنيد اإلرهابيين تحدث على أرض الواقع عبر أشخاص كبروا معهم
وعرفوهم معظم سنوات حياتهم ،فعلى سبيل المثال معظم
اإلرهابيين المتطرفين من النرويج ال يأتون فقط من المدينة نفسها ،بل يسكنون الشارع نفسه حيث ترعرعوا معً ا ،وقصدوا المدرسة نفسها .وإلى جانب الدكتور نيومان شارك في الجلسة،
التي أدارها فيصل أبو الحسن ،الباحث السياسي في مركز الملك
فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية ،الدكتور شيراز ماهر ،نائب مدير المركز الدولي لدراسات التطرف ،قسم دراسات الحرب
في كلية كينغز لندن ،وجورج سالمة ،رئيس السياسة العامة والعالقات الحكومية لشركة تويتر في منطقة الشرق األوسط وشمال إفريقيا ،وسميّة فطاني ،باحثة في مركز الملك فيصل
12
فقد أتاحت شبكة اإلنترنت لتنظيم داعش اإلرهابي ،كما جاء
للبحوث والدراسات اإلسالمية.
وركزت الجلسة على ضرورة استعراض ،ليس فقط جهود محاربة التطرف وتجنيد اإلرهابيين على شبكة اإلنترنت ،بل ً أيضا
العوامل الواقعية التي ِّ تمكن اإلرهابيين من تجنيد أتباعهم،
العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
التنظيم ببثها تتميز بالجودة العالية وتظهر إرهابيي التنظيم اإلنترنت يتغير حاليًّا ،ففي عام 2014م جرت معظم عمليات التجنيد على موقعي فيسبوك وتويتر ،كما أن اإلرهابيين تحولوا
حاليًّا إلى الجانب المظلم من الشبكة العنكبوتية عبر استخدام
خدمات الرسائل الخاصة مثل تيليغرام وفايبر وواتس آب، نظ ًرا ألن تلك المنصات أكثر خصوصية وتخلق عالقة حميمية مع الشباب صغار السن .من جانبه قال جورج سالمة« :أعلنت
تويتر مؤخ ًرا أنها أغلقت أكثر من 600ألف حساب إرهابي كانت
تنشط على منصتنا للتواصل االجتماعي ،وأنها تعمل مع الجهات الحكومية وغير الحكومية على تعزيز مستوى الشفافية فيما يتعلق بتلك الحسابات ،إال أنه ال يوجد تقنية يمكنها بشكل كامل
حل هذه المشكلة» .وذكرت سميّة فطاني« :أن تنظيم داعش
اإلرهابي قام بتطوير محتوى دعائي يستهدف النساء بشكل
إستراتيجي ،سواء على شبكة اإلنترنت أو على أرض الواقع ،من خالل منحهن شعورًا باالنتماء ،وبخاصة الالتي يشعرن بأنهن منبوذات في مجتمعاتهن ،حيث تمنحهن عمليات التجنيد
المباشر شعورًا بالواجب وااللتزام».
وناقش المتحدثون في الجلسة الثالثة للمنتدى وعنوانها:
«روابط االتصال بين الجريمة واإلرهاب» االرتباط العضوي الدائم بين الجريمة واإلرهاب ،مشيرين إلى أن تجارة المخدرات واالتجار
بالبشر وسرقة اآلثار وتهريبها وبيعها ،وغسيل األموال إلى جانب
الرئيسة فيما يخص تنظيم القاعدة في اليمن «تتمثل في تقبل
تمويل اإلرهاب حاليًّا .وأكدوا أن أكثر من %60من اإلرهابيين أدينوا
من التغريدات التي جرى تحليلها في اليمن كانت حول عمل
الضرائب التي يفرضها اإلرهابيون على السكان ،تعد أكبر مصادر
في قضايا جنائية أو أخالقية ،وأن السجون توفر بيئة خصبة
لتجنيد اإلرهابيين .وقال الشيخ الدكتور خالد آل خليفة نائب رئيس مجلس األمناء والمدير التنفيذي لمركز عيسى الثقافي في
البحرين :إن الفكر المتطرف يخلق اإلرهاب ،وإنه يجب محاربة التطرف لمنع تنامي اإلرهاب بين الشباب وتطور أفكاره .وأشار
راجان بصرة ،وهو باحث في المركز الدولي لدراسات التطرف في كلية كينغز لندن ،إلى أن دراسة حول الجهاد واإلرهاب أظهرت
أن أهم األسباب التي تعزز االنضمام للمنظمات اإلرهابية من
جانب الشباب «هي البحث عن الخالص؛ إذ يريد كثير منهم التكفير عن أخطائه من دون تغيير سلوكه ،كما أن االنضمام
للجماعات اإلرهابية يبرر الجريمة حيث إن عقيدتهم وفكرهم
يجيزان قتل «الكفار» وسرقتهم ونهبهم ،محذرًا من خطورة تكتيكات اإلرهابيين الجديدة في أوربا مثل الدهس بالسيارات؛ إذ إن كلفتها المادية قليلة للغاية .وذكرت كاثرين باور ،كبيرة
المستشارين في معهد واشنطن لسياسة الشرق األدنى ،أن مراقبة مصادر تمويل اإلرهاب يقلل العمليات اإلرهابية بجانب تبادل المعلومات االستخبارية بين الدول ،وطالبت بضرورة أن
يعلم كل شخص في العالم مدى خطورة اإلرهاب .وأشار مايكل ً سابقا ،أن هورلي وهو ضابط بالمخابرات المركزية األميركية الجانب المالي مهم في تنفيذ العمليات اإلرهابية ،وأن كثي ًرا منها لن ينجح من دون تمويل ودعم مالي. النزاع اليمني
الناس لهم وعدم مواجهتهم؛ إذ تظهر أبحاثي أن أكثر من %56 تنظيم القاعدة في مشروعات تنمية مجتمعية وإحداث تغيير
إيجابي في اليمن».
وأوضحت الجلسة أن هذا التكتيك يحظى بدعم مجتمعي
ليس فقط في اليمن ،بل في العديد من المناطق غير الخاضعة لسيطرة الحكومة في بعض الدول ،وأنه من دون وجود حكومات
ملتزمة وقوية ومشاركة الهيئات غير الحكومية في تعزيز قدرات
المجتمع ،فسيجد اإلرهابيون دومً ا موطئ قدم في منطقتي الشرق األوسط وشمال إفريقيا .إلى جانب الدكتورة إليزابيث
كيندال ،شارك في هذه الجلسة الدكتور لورينزو فيدينو ،مدير
برنامج دراسات التط ّرف في مركز األمن اإللكتروني والقومي في ّ جامعة جورج واشنطن األميركية ،والدكتور جاك كارفيلي،
كبير المستشارين لمؤسسة الشراكة العالميّة للموارد ،والمدير
السابق لسياسات عدم انتشار األسلحة النووية (روسيا والشرق األوسط) في فريق مجلس األمن القومي األميركي في البيت األبيض تحت إدارة الرئيس كلينتون ،والدكتور يحيى أبو مقايد،
الممثل الخاص لمركز محمد بن نايف للمناصحة والرعاية .وفي الكلمة الختامية للمنتدى قال الدكتور رضوان السيد أستاذ
الدراسات اإلسالمية في الجامعة اللبنانية :إن التحالف اإلسالمي ُ نجز العسكري لمحاربة اإلرهاب بقيادة السعودية ،يعد أهم ما أ ِ على صعيد محاربة اإلرهاب في السنوات األخيرة ،وبخاصة في إطار عدم قدرة أي دولة على مواجهة اإلرهاب بمفردها عسكريًّا أو
أمنيًّا أو مخابراتيًّا ،ومن ثم يكون هذا التحالف ضروريًّا جدًّا ،بل
إنه ضرورة وجود ،متوقعً ا أن يكون للتحالف اإلسالمي العسكري
وشهد المنتدى تنظيم جلسة نقاشية رابعة مفتوحة بعنوان« :مواجهة اإلرهاب :الصورة اإلقليمية» ،سُ ِّلط الضوء
والبعيد ،في المجاالت الفكرية واالجتماعية واإلعالمية وتجفيف
وناقشت الجلسة التي أدارها نديم قطيش ،صحافي ومقدّم
تجدر اإلشارة إلى أن «التحالف اإلسالمي العسكري لمحاربة
فيها على سبل مجابهة الفكر اإلرهابي المتطرف في المنطقة.
برنامج « ،»DNAبشكل مفصل النزاع اليمني كمثال للوضع اإلقليمي الحالي ،مشيرين إلى أن التركيز بشكل كبير على تنظيم
داعش اإلرهابي جعل كثي ًرا من الناس ينسى مخاطر تنظيم القاعدة الذي يستغل الوضع الحالي في اليمن إلعادة التموضع،
وبناء قدراته في المناطق غير الخاضعة للسيطرة الحكومية على امتداد المنطقة ،مؤكدين أن اليمن تمثل بيئة خصبة تمكن تنظيم القاعدة من تعزيز قدراته .وفي ظل الهزائم العسكرية
ُني بها ،تحول تنظيم القاعدة حاليًّا إلى تبني تكتيك جديد التي م َ
يتمثل في حل المشكالت الشعبية وتقديم يد العون للمجتمع، كغطاء ألنشطته اإلرهابية .في حين قالت الدكتورة إليزابيث
كيندال ،كبيرة الباحثين في جامعة أوكسفورد :إن المشكلة
لمحاربة اإلرهاب «نتائج إيجابية ملموسة على المديين المتوسط
منابع تمويل اإلرهاب والعسكرية».
اإلرهاب» الذي رعى المنتدى ،كان أعلن عن تشكيله في (15
ديسمبر 2015م) من األمير محمد بن سلمان ،ولي ولي العهد
النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع السعودي ،هو أول تحالف دولي يقوده العالم اإلسالمي ،ويضم تحت لوائه 41 دولة ،ويهدف إلى تنسيق الجهود السياسية والفكرية واإلعالمية واالقتصادية والعسكرية في الدول اإلسالمية وتوحيدها؛
لمحاربة جميع أشكال اإلرهاب والتطرف ،والتكامل مع جهود دولية أخرى في مجال حفظ األمن والسلم الدوليين .ويعمل
التحالف على بناء قاعدة معلومات حول برامج محاربة اإلرهاب وأفضل الممارسات التي تتبناها الدول األعضاء والمنظمات
الدولية.
13
فعاليات
«الفيصل ..شاهد وشهيد» يدشن أولى محطاته الخارجية في أستانة
14 شهد معرض «الفيصل ..شاهد وشهيد» الذي أقيم في
رئيس مجلس إدارة المركز ،وعدد من المسؤولين واألكاديميين
والغربية الموجودة في كازاخستان؛ إذ يتيح المعرض العودة
تجمع فخامة الرئيس الكازاخي نور سلطان نزارباييف وملوك
التي كانت بداية تنفيذ اإلصالحات في جميع المجاالت في حياة
للمستقبل وللتطور ،وأكد أن دولة كازاخستان وشعبها بإذن الله
المتحف الوطني بمدينة أستانة عاصمة جمهورية كازاخستان، إقبالاً كبي ًرا من الشعب الكازاخي والجاليات العربية واإلسالمية
إلى تاريخ المملكة في حقبة حكم الملك فيصل (1975-1964م)، المجتمع السعودي ،وهو ما دفع المسؤولين في كازاخستان إلى
المطالبة بتمديد مدة إقامة المعرض الذي افتتح في 18مايو.
والمثقفين .وقدم األمير تركي الفيصل ،الشكر لدولة كازاخستان وحكومتها على استضافة المعرض ،مث ِّم ًنا العالقة األخوية التي المملكة العربية السعودية ورؤيتهم المشتركة نحو تطلعهم
سيكون لهم مستقبل باهر.
وقال الفيصل« :إن بداية انطالق معرض «الفيصل ..شاهد
وكانت سكرتيرة دولة كازاخستان السيدة غولشارا
وشهيد» خارج المملكة من أستانة هذه المدينة الجميلة ،بمنزلة
في حضور األمير تركي الفيصل ،برعاية وحضور وزير الثقافة والرياضة في كازاخستان أريستانبيك محمدي أوليُ . وق ِّدم خالل
فقط على المستوى الدبلوماسي أو التجاري إنما للروابط التاريخية
والثقافية التي تجمع الشعبين ،فمنذ أن انبثق نور اإلسالم اجتمع
إلى اللغة الكازاخية والروسية .وحضر االفتتاح القائم بأعمال
إنسانية ،ولدينا الكثير بين البلدين من أواصر الصداقة والمحبة
أبديكاليكوفا افتتحت معرض «الفيصل ..شاهد وشهيد»،
مراسم االفتتاح كتاب «الفيصل ..شاهد وشهيد» الذي ُترجم
سفارة خادم الحرمين الشريفين في أستانة عبدالرحمن النجار، واألمير عمرو بن محمد الفيصل ،واألمير فيصل بن سعود بن عبدالمحسن األمين المساعد بمركز الملك فيصل للبحوث
والدراسات اإلسالمية ،واألمير سعود بن تركي الفيصل مستشار العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
تقدير لما يجمع بين الشعب الكازاخي والشعب السعودي ليس
الدم العربي بالدم الكازاخي في وحدة ليست فقط دينية إنما وحدة
تفوق األزمان .كما أننا ال ننسى أن فخامة الرئيس نور سلطان نزارباييف زار المملكة ثالث مرات في مدة وجيزة لتوطيد العالقات
بين البلدين ،وهذه عالقة صداقة ومحبة لن ننساها لفخامته». فيما أعربت سكرتيرة الدولة في جمهورية كازاخستان غولشارا
أبديكاليكوفا في كلمتها أثناء افتتاح المعرض ،عن ترحيبها
بالمعرض الذي يعد أول معرض عربي يقام في دولة كازاخستان والشعب السعودي في عاصمة بالدها (أستانة) ،متمنية أن تزيد الزيارات والعالقات المتعددة األطراف بين شعبي البلدين بفضل
العالقات الودية والطيبة بين فخامة رئيس جمهورية كازاخستان نورسلطان نزارباييف وخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن
عبدالعزيز آل سعود ،وأكدت أن هذه المناسبات تسهم في تعزيز العالقات الودية بين شعب جمهورية كازاخستان وشعب المملكة اللذين يربطهما الدين والتاريخ المشترك والكلمات المشتركة في
اللغة.
تعاون أكاديمي سعودي كازاخي
َّ وقع مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات
اإلسالمية ،مذكرة تفاهم مع جامعة «ل .ن .غوميليوف
األوراسيوية الوطنية» بكازاخستان ،لتعزيز التعاون األكاديمي والبحثي في مجال الثقافة والتراث وزيادة
فاعلية التبادل العلمي .وأبرم االتفاقية األمير تركي
الفيصل ويرالن صيديكوف رئيس جامعة ل .ن .غوميليوف
وقالت سكرتيرة دولة كازاخستان« :كل دولة لها شخصيات
األوراسيوية الوطنية ،في مقر الجامعة بالعاصمة أستانة،
بالدها ،وجاللة الملك فيصل بن عبدالعزيز آل سعود (رحمه الله)
معرض «الفيصل ..شاهد وشهيد». كما وقع المركز ً أيضا اتفاقية تعاون ثقافي وعلمي ّ مع مكتبة الرئيس األول لجمهورية كازاخستان ،وقع
بلده ،وتطوير المجتمع السعودي في المجاالت المختلفة ،ونقدر
والسيد محمود قاسم بيكوف مدير مكتب رئيس جمهورية ّ وتغطي االتفاقية مجال كازاخستان ورئيس المكتبة.
عظيمة تركت آثارًا سياسية واقتصادية وروحية مميزة في تاريخ
قائد بارز للمملكة العربية السعودية الصديقة ،تميزت حقبة حكمه بحكمة بالغة ،ونعلم أن جاللته ترك أث ًرا كبي ًرا في إنجاز
اإلصالحات السياسية واالقتصادية ،ورفع مستوى المعيشة في
انضمام المملكة إلى صفوف الدول العظمى في العالم بفضل
جهود الملك فيصل.
ضمن زيارة وفد من المركز لكازاخستان على هامش افتتاح
عليها األمير تركي الفيصل رئيس مجلس إدارة المركز،
وعبر وزير الثقافة والرياضة في جمهورية كازاخستان السيد
البحث العلمي ،وتبادل الرأي ،وتقديم التحليالت الالزمة َّ تطلب األمر ذلك، لمشروعات النشر لدى الطرفين إذا
لجمهورية كازاخستان هذا المعرض عن حياة الملك فيصل
ثقافية أو اجتماعية أو سياسية .وعلى هامش التوقيع،
أريستانبيك محمدي أولي ،عن تقديره الحتضان المتحف الوطني وخدماته وأعماله الصالحة من أجل تطوير بالده.
أما عبدالرحمن حسين النجار الوزير المفوض والقائم
باألعمال باإلنابة في سفارة المملكة لدى جمهورية كازاخستان، فأكد أن معرض «الفيصل ..شاهد وشهيد» حقق أصداء واسعة
في كازاخستان ،عادًّا إياه وغيره من المعارض تجسيدً ا لرؤية المملكة 2030في األنشطة والفعاليات كافة ،وأوضح أن المعرض يوفر الفرصة للشعب الكازاخي في االطالع والتعرف إلى جميع
جوانب سيرة الفيصل رحمه الله.
وإمكانية تنفيذ مشروعات بحثية مشتركة ُتعنى بجوانب أهدى المركز مكتبة الرئيس األول لجمهورية كازاخستان
جهاز الفيصل للتعقيم والحفاظ على التراث المخطوط، وهو جهاز آمن يقوم بتعقيم المخطوطات والوثائق والكتب المطبوعة النادرة ،عن طريق التبريد الجاف للقضاء على جميع الحشرات والفطريات الموجودة في الوثائق
والمخطوطات والكتب من دون الحاجة إلى استخدام أيّ مواد كيمياوية أو غازات سامة.
إشادات أكاديمية كازاخية بالمعرض ثمن إيرالن سيديكوف رئيس جامعة أوراسيا الوطنية في كازاخستان ،ما يحتويه المعرض من تراث ومواد شخصية ومقتنيات
ً مؤكدا أن الفيصل لعب دورًا مهمًّ ا في تطوير المملكة ،ونفذ عد ًدا من اإلصالحات السياسية خاصة ذات قيمة كبيرة للملك فيصل، ّ ً واالقتصادية الناجحة التي أثرت في جميع المجاالت في المجتمع ،كما لعب دورًا بارزا في حل قضايا الدول العربية ،ولفت إلى أنه يثق في أن المعرض سيعزز العالقات الودية بين البلدين في المجاالت السياسية واالقتصادية والروحية.
ورأت الدكتورة سمال توليوبايفا األستاذة بقسم الدراسات الشرقية في جامعة أوراسيا الوطنية ،أن المعرض حدث مميز
في تاريخ العالقات الكازاخية السعودية في مجال الثقافة والعلم والتعليم ،مبينة أنه أعطى الجمهور الكازاخي فرصة فريدة من
نوعها لالطالع على حياة الملك فيصل وإنجازاته الذي بذل أقصى جهوده للذود عن حياض دينه وأمته ،ولفتت إلى أن ما يربط الشعبين والبلدين تاريخ ودين مشترك وعادات وتقاليد متشابهة.
15
مقال
ماجد الحجيالن رئيس التحرير
عن «التاريخ الفكري لليبرالية»
16
قبل سنوات وفي أقصى جنوب البرتغال قابلت زوجين من السويد يقضيان إجازتهما بعيدً ا عن صقيع الشمال األوربي ،تحدثنا طويلاً ،ولمست ً تعاطفا هائلاً مع القضية الفلسطينية ،وما منهما لفتني أكثر هو تأكيدهما غير مرة أنهما أميَل إلى اليسار وليسا ليبراليين ،وهكذا في كل موقف يعلنانه من أي أمر تأكيد على أنهما ضد الليبرالية.. رغم أن الحديث عن الليبرالية لم يكن موضوعنا من قريب أو بعيد ،وقبل أيام دفع المرشح الجمهوري عن والية مونتانا األميركية غريغ جيانفورتي صحافيًّا من الغارديان ،وأسقطه ً أرضا، ً واصفا إياه «بممثل اإلعالم الليبرالي».. وزجره ُ وردهما لتناول الصورة أ عفويان مشهدان هذان ِ الذهنية لليبرالية في الغرب ،وكيف أن كل تيار يميني أو يساري يراها بطريقته الخاصة ،وهكذا كل فلسفة سياسية تخضع لتأويالت من خارجها ومن داخلها قد ال تتطابق بالضرورة مع نظريتها األولى ،فحرص السويدي ْي ِن على نفي الليبرالية عن مبادئهما المتعاطفة مع حق الشعب الفلسطيني ال يدعمه واقع أن البرلمانات األوربية التي اعترفت بدولة فلسطين والحركات الجامعية واألكاديمية التي ُتقاطِ ع إسرائيل هي في معظمها محاضن ليبرالية ،على أن هذا ال ينفي دور اليسار األوربي المتحمس لحقوق الشعوب والمهاجرين لكن هذا موضوع آخر .أما وصف المرشح اليميني للصحافي ّ محق؛ فاإلعالم الليبرالي في بالليبرالي فلعله الواليات المتحدة األميركية يشكل اليوم جبهة ضد ترمب وضد اليمين خلفه. ويدور عربيًّا جدال واسع النطاق بين أنصار الليبرالية وخصومهم من التيارات األخرى اإلسالمية منها بوجه خاص -تستعمل فيه كلالعددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
األسلحة البالغية الممكنة ،وما يعنيني هنا منها هو سالح المفاهيم وانصراف بعض أطراف المعارك من التيارات كلها للتصدي لتاريخ الليبرالية ومفهومها وتعريفها ،ويتحول كثير من هذا الخالف الفكري ،وفي الساحة السعودية منه أعاجيب كثيرة؛ إلى مبارزة تجد ً ومعارضا ،فيما تؤكد فيها سالح الطرفين مثلومً ا ،مؤيدً ا تجارب الدول أن ُّ تمثل المذاهب السياسية على األرض أهم كثي ًرا من فلسفة النظرية وتاريخها ،فال يذهب الظن أن ميركل وماكرون وماي في اجتماعات االتحاد األوربي ينشغلون بتعريف الليبرالية وفروقاته بين جون لوك وجان جاك روسو ،غير أنهم جميعً ا منهمكون بالتزام نتائج هذه الفلسفة وتطبيقها تأكيدً ا لحق الفرد في الملكية والحرية. المذاهب الكبرى كالليبرالية تكوّنت على مدى قرون من الزمنٌّ ، كل يضع فيها من روحه شي ًئا ،فال يضر إن اختلفت تعريفاتها طالما كان الهدف األسمى منها وهو ً متحققا ،فإن قلت :هي فلسفة الحرية، تحرير الفرد أو هي حق الفرد في الملكية ،أو هي الفصل بين السلطات ،أو هي المساواة؛ فأنت في االتجاه الصحيح. وهكذا الفلسفات الكبرى لكل مفكر في العصور األوربية فيها ضربة إزميل وزاوية نظر .وأن يحتدم السجال حول مفهوم الليبرالية في مجتمعات لم تخلقها ولم تستنبتها وال تتوافر فيها مقوماتها؛ هو أمر مخالف للطبيعة وللعقل ،إن معارك الليبراليين في المجتمعات الغربية اليوم تجاوزت األنظمة االقتصادية واالجتماعية وحقوق األقليات ومشاركة المرأة في المواقع السياسية رأسا على والعسكرية؛ إلى قلب مؤسسة الزواج ً عقب ،وحق اإلجهاض ،وفتح الباب أمام المهاجرين وحقوقهم ،وبمقارنتها مع مادة الجدل الليبرالي في عالمنا تتضح المفارقة. والحال أن معظم المذاهب الفكرية والفلسفات
السياسية التي نشأت في أوربا وتطورت خالل قرون، ّ وألف فيها مفكرون وفالسفة من القرن الثالث عشر إلى منتصف القرن العشرين؛ هي أفكار انبعثت وتكوّنت لخدمة مجتمعات محلية ،فمشكالتها كانت أوربية وعالجها كان أوربيًّا .كارل ماركس كان يسعى لالنتصار لطبقة العمال ،وتوماس هوبز كان يحارب سيطرة الكنيسة والالهوت .وهي قضايا لم تكن من أولويات الشعوب غير األوربية ،وكان أن انتصر بعض هذه النظريات وصار عالميًّا ،ومنها الليبرالية ،وصارت تطبيقاتها صالحة لالستيراد إذا ما جرى توطينها ،فمثلاً شيوعية الصين غيرها في كوريا الشمالية غيرها في كوبا ،حتى الليبرالية الغربية ّ وطنت النظرية بما يناسبها وطعّ متها بما سمَّ ته اشتراكية ديمقراطية ،فأنظمة الحكومات األوربية في المجال الصحي والتعليمي اشتراكية ال عالقة لها بالليبرالية والسوق الحرة، على أنها تتيح انسجامً ا مع ليبراليتها حرية األفراد في االستثمار في هذين القطاعين ،وتبقى الواليات المتحدة وحدها ليبرالية جدًّ ا أو نيو ليبرالية في هذين القطاعين؛ بسبب حساسية مؤسساتها التشريعية من أي ملمح شيوعي مرعب. ويعد كتاب أستاذ الفلسفة السياسية الفرنسي بيير مانيه (التاريخ الفكري لليبرالية) من الكتب التأسيسية في تاريخ هذه النظرية ،وقد نقله إلى العربية الدكتور هاشم صالح ،ويصدر عن مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية ،والكتاب يمثل إطاللة موجزة على التاريخ األوربي عبر سياحة فكرية في عقول ثمانية فالسفة أوربيين ينسب إليهم مانيه تأسيس الفكرة الليبرالية ،وهو يرى أن مبعثها األول كان في أطروحات مكيافيلي في كتابه (األمير) في القرن السادس عشر، ويختتمها بعالِم االجتماع الفرنسي توكفيل المتوفى في منتصف القرن التاسع عشر ،أي أنها دورة فكرية استغرقت ثالثة قرون ،وإن كان يعود بالقارئ ً أيضا إلى أرسطو والمدينة الرومانية القديمة .لقد كان هاجس مانيه العودة إلى أيام سيطرة الكنيسة المطلقة وصولاً إلى نشوء الحركة المضادة لتدخل الكنيسة األخروية في شؤون الدنيا وانبعاث أول المبادئ العلمانية. ِّ المؤلف فضلاً عن عباراته الموجزة وأفكاره ومما يميز المكثفة وميله إلى التكرار لشرح القضايا المعقدة؛ أنه ً موقفا حياديًّا ونقديًّا في أحيان كثيرة ،فتوصيفه يأخذ للمجتمع الذي تحكمه الليبرالية شديد الدقة ،هو يرى عالقة األفراد داخل المجتمع الليبرالي أشبه ما تكون بالكونفدرالية ،وذلك عكس ما تشاهده في مجتمع له رأي واحد شديد التجانس في األنظمة الشمولية ،سواء
تكونت على مدى المذاهب الكبرى كالليبرالية ّ كل يضع فيها من روحه شي ًئا، قرون من الزمنٌّ ، فال يضر إن اختلفت تعريفاتها طالما كان الهدف األسمى منها وهو تحرير الفرد متحققً ا ،فإن قلت :هي فلسفة الحرية ،أو هي حق الفرد في الملكية ،أو هي الفصل بين السلطات ،أو هي المساواة؛ فأنت في االتجاه الصحيح
ً طوعا أم كرهً ا. كان ذلك ويلحظ مانيه األصول اإلنجيلية في قيم الحرية والمساواة داخل الليبرالية رغم حربها األولى على المسيحية ،جازمً ا بأن الليبرالية لن تصبح ماضيًا؛ ألنها قابلة للتعديل والتجديد ،وألنها تحمل بذور نقدها ونقضها في داخلها ،فكل ما تجزم به الليبرالية قابل للشك؛ ألن النظرية األولى هي آراء بشرية خاصة، واألساس فيها عدم يقينية اآلراء ،وهو ما يجعلها مستعدة دائمً ا لنقض نفسها إذا دعت الحاجة. الفت كيف أن الليبرالية وهي أساس الحضارة الغربية المحسودة اليوم من قوانين ومساواة وحريات وفصل بين السلطات؛ إنما هي صناعة نقادها وخصومها قبل بُناتها وفالسفتها .وعلى حد توصيف مانيه نفسه فإن جان جاك روسو هو أحد خصوم الليبرالية وأكبر آن واحد ،وهو ما يجعلها تبدو اليوم خيارًا فالسفتها في ٍ َّ مفضلاً إلدارة الدول ،فالنظام العالمي المعاصر ينبني
على هذه السلطات الثالث التي اخترعتها الليبرالية ّ ونظمت العالقة بينها ،ثم وضعت حكم القانون ونظام االنتخابات ليحرك الدولة بدينامية مستمرة. والالفت أكثر أن الدول التي كانت تعادي المعسكر الليبرالي الغربي طبَّقت هذه المبادئ صوريًّا وأفرغتها من مضمونها :سلطات ثالث ال قيمة حقيقية لها ،وانتخابات معروفة النتائج ال تسهم إال في ترسيخ الواقع ،وقانون يبقى في مكانه المالئم من المكتبة. هذا ما قدمته الليبرالية للعالم بوصفها خالصة ما توصلت له الحضارة الغربية اليوم ،وعلى بقية المجتمعات أن تقدم حلولها ،وأن تنتج ما يليق بها من أنظمة .وهناك في منطقتنا أفكار يمكن البناء عليها، وتأمل عواقبها :والية الفقيه ،البعث وحدة حرية اشتراكية ،وطبعً ا كل ما ورد في النظرية العالمية الثالثة والكتاب األخضر.
17
الملف
الصحافة الورقية في زمن متغير
موت غير معلن
تنشغل أروقة الصحافة منذ سنوات بنقاشات معلنة وأخرى خفية ،يدور معظمها حول مستقبل
المؤسسات الصحافية كبيرها وصغيرها ،ومع انبالج فجر الهواتف الذكية واإلعالم االجتماعي ووقوع أولى الضحايا الصحافية بدأت القصص في المكاتب المغلقة تتحول إلى مقاالت وتقارير ،ثم صارت
نداءات واستغاثات ،أعقبها إغالق مؤسسات صحافية أبوابها ،ثم توقف مطابع صحافية عريقة عن الهدير ،حيث لم تعد رائحة الحبر ُت َشمّ ،وال أحد ينتظر مانشيت صفح ٍة أولى ،أو يفكر بعمود في األخيرة. هكذا فجأة انتهت الحوارات الخجولة حول المستقبل المهني وتحولت التنبؤات الشعرية في الغد
18
المجهول ومغامرات الصحافيين في الميادين؛ إلى حقيقة مُ رة...
الصحيفة لم يعد لديها معلن وال قراء ..والمموّل والداعم رحل إلى وسائل أخرى ،وقرار
ثوان عبر هاتف محمول. االستغناء عن الصحافي والصحيفة لم تستغرق كتابته سوى ٍ
العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
ً ً وصحفا عربية .ارتبكت ألول وهلة .ارتدت ز ًّيا صحفا دولية هذه حقيقة دهمت جديداّ . ً تعثرت.صدرت إلكترونية .عادت ورقية وإلكترونية .راهنت على الموقع. ورقيًّا
ثم غابت إلى األبد.
واليومَ للقارئ الذي كانت الصحف تخطب و ّده أن يختار أو يحتار .أن يؤكد أو ينفي،
له أن يقول :إنه يحب صحيفته اليومية مع فنجان الصباح كما تعوّد ،وله أن يقول :إن
صحيفته أو صحفه وأخباره العاجلة في جيبه ،له أن يشارك الصحافيين األمل بعمر مديد ،وله ً أيضا أن يكبّر على الصحافة ً أربعا. ولك أيها القارئ أن تختار معسكرك بين الورقيين أو اإللكترونيين ،أن تتفاءل
بتجربة الواشنطن بوست األميركية التي جددت نفسها ،وما زالت تهدد الرؤساء منذ ووترغيت /نيكسون حتى روسيا /ترمب ،أو تلتفت إلى صحيفة السفير اللبنانية ووداعها
المرير بعد أكثر من أربعة عقود صاخبة. ّ سيتكشف عن حقيقة الموت المؤجل؟ أم هو «قصة أهو احتضار بطيء سرعان ما
موت معلن» كما يختار صحافي من روايات ماركيز ،أم أن الصحافة تبدو آفلة لكن
بانتظار تجددها وانبعاثها بشكل جديد ،أم هي «عقلية الورق» التي يجب القفز فوقها إلى عصر الشاشات الصغيرة؟
هذا ما تضعه «الفيصل» بين أيدي قرائها في ملف هذا العدد ،وبأقالم الصحافيين
العرب أنفسهم ..ستطالع في هذا الملف آراء متنوعة ،وكثيرًا ما ستجد بعضها ينقض ً بعضا ،هذا هو واقع الصحافة العربية اليوم ،إنه مفترق طرق ،بين عهد السيادة
والمانشيتات والزوايا واألعمدة وتحريك الشارع ،وواقع البوست المؤثر والتغريدة ً تدقيقا وال حبرًا وال مطبعة. الصاخبة والخبر العاجل الذي ال يحتاج صياغة وال
19
الملف
لتبقى المهنة.. تخلصوا من عقلية الورق! محمد الحيزان
20
مستشار وباحث في اإلعالم واالتصال
التغيرات والتطورات التي شهدتها السنوات العشر األخيرة في تقنيات االتصال واستخدامات أفراد المجتمعات لها ،وكذلك مؤشرات اإلقبال على الصحف الورقية ،إضافة إلى ردود أفعال القائمين عليها؛ تشير بما ال يدع مجالاً للشك إلى أن هناك حالة انحسار كبير في عدد قراء الصحافة الورقية لصالح البدائل اإللكترونية ،والشواهد كثيرة؛ فبعض الصحف الورقية اختصر الطريق مباشرة فتوقف ،وهذا استسالم يعني عدم الرغبة في االستمرار ،أو ضعف القدرة لسبب أو آلخر على المواكبة ،وقد يكون التوقف نتيجة للصدمة وحجم االرتباك. وال بد من القول بأن االنحسار طبيعي وواقعي ،فوسائل اإلعالم اليوم هي غير وسائله باألمس، وأكد ذلك أن الجمهور تفاعل إيجا ًبا مع وسائل ذات خواص جاذبة أبرزها دخول هذا الجمهور ً شريكا مع الوسائل ليس في إبداء الرأي فقط؛ بل في صناعة مواد التحرير وأشكاله ،وذلك من خالل متغير «التفاعلية» التي شكلت قيمة مضافة لهذا النوع الجديد من الوسائل.
العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
نقطة مهمة ال بد من التنبيه عليها ،أن ردة فعل بعض الصحف
الورقية كانت عنيفة ،يف حني أن بعض رواد الوسائل الجديدة كانوا
إقصائيني ،وهو ما أدى إىل االعتقاد بأن هناك نوعني من الصحافة: تقليدي وإلكرتوين ،وهذا أمر مؤقت وكان يمكن ألاّ يوجد لو كانت هناك مبادرة من الصحف الرائدة التي هي األصل لفهم التغريات والتعامل معها بواقعية ومهنية ،فالحماس ملهنة الصحافة يجب ألاّ يختزل يف التعصب للشكل الذي تقدم به ،فالذين أخذوا بالتصنيف
تسببوا ولألسف يف تساقط كثري من مقومات صناعة الصحافة، وبخاصة املقومات البشرية التي ُزجّ بها يف هذا التعصب فخسرت هي
األخرى ً فرصا قيمة ،وكان عىل الجميع عدم التعامل مع الصحافة بشكل حدّي يصنفها عرب منظور تقني شكيل؛ من خالل نموذجني
ال يمكن أن يتداخال :أحدهما صحافة تقليدية ورقية ،واآلخر صحافة جديدة رقمية ،يف حني أن األمر بكل بساطة كان ينبغي أن ينظر له
عىل أننا حيال شكل وعاء جديد يجب أن يُتعامَل معه بما يقتضيه هذا الوعاء دون تراشق غري محسوب َّ كلف الصحافة اليشء الكثري، واستدعى يف كثري من أقطار عاملنا العربي البدء من الصفر من خالل
أفراد تنقصهم الخربة ،وبالتايل فهو فهم لم ي نْ َ ُب عىل تراكمات املايض
كما هو الحال مع صحافة الدول الغربية. صحافة الفضاء الجديد
يمكن تقسيم حالة الصحف الغربية مع الفضاء الجديد إىل
قسمني :قسم يمثل الصحف التي بادرت بإيقاف النسخة الورقية،
وحاول تعويض ذلك بالحضور إلكرتونيًّا بطريقة تشبه النسخة
يجب أن ننظر إلى نجاحات الماضي في عالم الصحافة الورقية على أنها جزء من تراث جميل ،وعلى الصحافة العربية أن تدخل بقوة في مرحلة صناعة الشكل الجديد لإلعالم ويحسب لها أنها جادة يف صناعة الشكل الجديد للصحافة؛ إذ يلحظ
الورقية ،وهو ما لم يحقق له الحضور بالقوة التي كان يتمتع بها عىل الورق ،وهذا التصرف جزء من ردة الفعل التي أشرت لها ً آنفا ،وجراء
هي عليه حال معظم الصحف العربية) ،إنما أصبحت جزءًا مهمًّا من
مع هذا الفضاء الجديد ،وذلك كصحيفة كريستيان ساينس مونيتور
اإللكرتونية الحقة ،وهو يف رأيي لم يتبلور بعد ،واملتابع للصحافة
االرتباك الذي أصابها؛ ألن الطريق لم تكن واضحة يف كيفية التعامل
التي ظهرت عىل النت بشكل متواضع ،واكتفت بإصدار نسخة ورقية
مرة يف األسبوع ،وكذلك مجلة نيوزويك ،ولقناعة الصحيفة واملجلة التامة بأن تاريخهما وعراقتهما يف الصحافة يوجبان عليهما أن تبقيا حاضرتني يف َ عالم اإلعالم ،رجعتا للساحة اإلعالمية مرة أخرى ،فقد
مهني أعلنت الصحيفة يف الثامن من شهر مايو 2017م عودتها بشكل ّ إلكرتوين ،أي بعد تسع سنوات من توقفها ،كما أن النيوزويك قررت ّ العودة ورقيًّا وإلكرتونيًّا بعد أشهر من توقفها مع تغيريات يف أسلوب التحرير وسياسة التسويق ،وهذا مؤشر عىل أن الوسائل الجديدة ال
يمكن أن تكون بديلة عن الوسائل العريقة ،أو عىل األقل ال يمكن أن تبدأ من الصفر ،وأن املسألة ليست قضية شكل ،إنما محتوى.
يف خطواتها أنها يف نسختها اإللكرتونية لم تكن مماثلة للورقية (كما التطوير الذي ال يزال يعمل عىل الوصول إىل الشكل النهايئ للصحافة
اإللكرتونية الغربية يلحظ التغيريات املتالحقة التي تهدف إىل شكل
جديد لم يصل بعد.
املواطن الصحفي
أما عن مهنة املراسل الصحفي وسؤال «الفيصل» عن مستقبلها
يف ظل ما يطرح عن صحافة املواطن وصحافة الهاتف الذيك؛ فهو جزء من التغيري الذي يمليه الشكل الجديد للصحافة ،وينبغي لنا ألاّ
ننظر إليه عىل أنه إلغاء ملهنة املراسل الصحايف ،لكنه تطوير له يلبِّي قيمة تنافسية يف الصحافة يدركها املهنيون واملتخصصون وهي السبق الصحفي ،وهي عىل الرغم من أهميتها ،فإنها محفوفة باملخاطر إذا
القسم الثاين من الصحف هو الذي دخل عالم الفضاء الجديد
لم يشرف عىل التعامل معها أصحاب الصنعة ،إذ قد تكون لها آثار
مدركة تمامًا لخصائص ويو إس إي توداي وغريها ،لكن بعقلية ِ ّ ووفرت لذلك السبل كافة التي تؤكد هذا، الفضاء اإللكرتوين،
ما ،فإنه ليس صحافيًّا مهنيًّا مدر ًكا تمامًا ملهنة الصحافة ،إنما هو
مع الحفاظ عىل نسخته الورقية كنيويورك تايمز ،وواشنطن بوست
عكسية يف حال فقدان املصداقية ،ومع التقدير ملا يمكن أن يقوم به ً أحيانا يف تغطية حدث ما يعرف بـ«املواطن الصحفي» الذي يستعان به
21
الملف
حالة مؤقتة صادف وجودها يف مكان الحدث ،واستعني به ً مطلقا وفق شروط مهنية محددة .ونحن ال نقلل من أهميته فهو شاهد مهمّ عىل الحدث بأسلوب أكرث شمولية ،لكن ال يمكن أن يُعوَّل عىل الشخص نفسه الذي ّ وثق الحدث دائمًا يف أحداث أخرى.
22
عقلية الورق
إن الصحافة العربية ،بما يف ذلك صحافتنا املحلية ،بقيت
-وال تزال يف كثري من الحاالت -تحتفظ بأخبار اليوم يف جعبتها
لتنشر يف الغد؛ ألنها ال تريد أن تحرق مادة ترى أنها سلعة قيمة للمعلن الذي بدأ يتضاءل يف صحف الورق ،فالجمهور -يف اعتقاد التقليديني -لن يُق ِبل عىل الصحيفة يف حال عدم وجود مادة متكاملة َ وث ِريَّة حافزة إىل اقتنائها ،وهذه املادة املقصودة
بإمكانك الحصول على اشتراك في صحيفة وول ستريت جورنال مدة ثالثة أشهر مقابل دوالر واحد فقط .قد يبدو زهيدا ج ًّدا ،لكنه ربما يحقق هذا المبلغ ً كبيرا؛ لسبب بسيط هو أن العالم دخ ً لاً متاحا لها أجمع أصبح ً وبكل وضوح يمكن القول بأن عليك إذا أردت أن تتعرف عىل أيّ سبب لرتاجع يف صحيفة ما أن ُتف ِّتش عن «عقلية الورق» ،ويجب أن ننظر ٍ إىل نجاحات املايض يف عالم الصحافة الورقية عىل أنها جزء من تراث
جميل ،وعىل الصحافة العربية أن تدخل بقوة يف مرحلة صناعة الشكل الجديد لإلعالم ،ال أن تنتظر من يبتكر لها أسلوبًا تسري عليه،
قد تنطبق عىل صحافة الرأي واملواد الثقافية ،لكن األمر ليس
حتى إن وجدت بعض األساليب الناجحة ،فإن نجاحها مع الصحف ً مضمونا كما هو الحال مع مبتكريها؛ ذلك أن العربية ليس بالضرورة
سريعة الذبول؛ لذا أصبح ال بد من نشرها بشكل فوريّ .
نجاحات كبرية لبعض الصحف العاملية العريقة يف اإلعالم الجديد، لكن لن تستطيع الصحف العربية مجاراتها ألن ثمن النجاح ِّ مكلف
كذلك مع املادة الخربية التي لم تعد تلك السلعة القيمة التي تستحق الحفظ للنشر يف الغد كما تعتقد بعض الصحف لكونها هذا األسلوب ال يوجد يف الصحف العريقة عامليًّا ،وال حتى
يف املجالت الشهرية؛ التي واكبت العصر ،وتحولت إىل أشبه ما يكون بوكاالت أنباء ،واملتابع لحساباتها عىل تويرت يدرك
ذلك جيدًا؛ إذ إنها تنشر موا َّد متالحقة عىل مدار الساعة،
ثقافة الجمهور وإمكانات الصحف تختلف من ثقافة ألخرى ،هناك
ً أحيانا تتعلق باملواقع اإلدارية). ويتطلب تنازالت مالية (ومعنوية ولألسف العربية واملحلية ال تحبذ هذا األمر أو ال تستطيع .فعندما
أحست بعض الصحف التقليدية بالخطر الذي يهدّدها ،قامت ّ
وبمعدل دقائق محدودة لكل مادة .وهو ما قادها إىل العمل
وبشكل معلن باستجداء تدخل الجهات املعنية واملؤسسات وطلب
يمكن االستفادة منه يف حال وجد املنتج الصحفي القيم،
ذاتها ،واألهم من ذلك لتناقض هذا األسلوب مع مبادئ أساسية يف
عىل محاوالت مبتكرة ال تزال قائمة ،حقق بعضها نجاحً ا وشبه الحصري.
ال بد أن تتخىل الصحافة الورقية والقائمون عليها عن
التفكري فيما يمكن أن نطلق عليه «عقلية الورق» ،حتى تبقى كمهنة وليس كشكل ،وعليها أن تفكر بـ«عقلية إلكرتونية»،
العون .هذا ال يحدث يف الغرب لسبب بسيط يكمن يف أنها تعتمد عىل
عالم الصحف ،أبرزها مبدأ تجنب تعارض املصالح.
أخريًا ال بد من القول بأن الهاجس الذي ينبغي أن تشرتك فيه
الجهات املعنية بصناعة اإلعالم يف ظل التغريات املربكة؛ هو اإلبقاء عىل مهنة الصحافة التي قد تذوب يف عالم الحرية والتشتت.
العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
الدخل والعامل االقتصادي ال أحد ينكر أن االقتصاد هو عصب النجاح ،لكن أكرر يف هذه املرحلة أن عىل الصحف ألاّ تفكر بـ«عقلية الورق»،
واملأزق الحقيقي يكمن يف صعوبة التخيل عن ثقافة األمس ،الصحف املحلية عىل سبيل املثال اعتادت عىل أن تبيع الصفحة اإلعالنية بمعدل يراوح بني 70-60ألف ريال ،وشكلت اإلعالنات يف وقت ما املصدر الرئيس لها ،واإلعالن الرقمي مع اإلعالم
ً خصوصا يف ظل وجود قنوات إعالنية منافسة .التفكري الجديد يف الصحف املحلية يصعب أن يصل إىل ذلك السعر،
املنطقي بما عليه بيئة اإلعالم الجديد يتطلب الشجاعة يف اتخاذ القرار والقبول بالقليل يف سبيل الحصول عىل الكثري.
وهو ما أقدمت عليه الصحف العاملية العريقة ،فعىل سبيل املثال بإمكانك الحصول عىل اشرتاك يف صحيفة وول سرتيت زهيدا ًّ ً جدا بقيمة االشرتاكات الورقية يف السابق ،لكنه جورنال مدة ثالثة أشهر مقابل دوالر واحد فقط .قد يبدو هذا املبلغ ربما يحقق دخلاً كبريًا؛ لسبب بسيط هو أن العالم أجمع أصبح متاحً ا لها ،وأصبح بإمكانها مضاعفة املشرتكني عىل نحو
يحقق أرباحً ا مضاعفة.
نعم هناك تجارب دولية يشار لها بالبنان عملت وال تزال عىل تطوير حضورها
الرقمي ،لعل من أبرزها صحيفتي نيويورك تايمز التي استطاعت أن تحقق من اشرتاكات ُ القراء دخلاً كبريًا عوَّضها عن خسائر الدخل اإلعالين الذي كانت تحققه
أيام طفرة النشر الورقي ،ومثل ذلك مجلة التايم األمريكية التي وصل عدد مشرتكيها 22مليون مشرتك ،ومن التجارب الفريدة كذلك صحيفة واشنطن بوست التي
اشرتاها مالك ومؤسس موقع أمازون السيد جيف بيزوس بصفته الشخصية. ً بعضا ظن أنه غامر بشراء صفقة خاسرة ،فإن الخطوات وعىل الرغم من أن
23
التطويرية والتغيريات التي وعد بها يف الصحيفة ً وفقا لطبيعة التقلبات املرتبطة
بالشبكة العنكبوتية ،بدأت تؤيت ثمارها ،وربما لم يكن ليتحقق لها ذلك لو لم يكن هو املشرتي؛ إذ إنه ذو خلفية عميقة عن طبيعة عصر الفضاء الجديد ،وبدأ
جيف بيزوس
يتعامل مع الصحيفة من منطلق الحاجة -كما قال هو -إىل االبتكار واالختبار للتحقق من تأقلم الصحيفة يف ثوبها الجديد مع سلوكيات جمهور النت ،مع تأكيده صراحة عىل احتفاظ الـبوست بقيمها التي أكد عىل أنها لن تتغري ،وهو الجانب
ً جيدا قطاع اإلعالم واستمر الذي أكد أنه ال ينوي التدخل يف العمل اليومي للصحيفة التي تدار بفريق إداري ممتاز يعرف يف عمله .وكانت املفاجأة أن ُتحقق الصحيفة بعد أكرث من عامني نجاحً ا لم يكن متوقعً ا ،وجمعت بني النمو والربح؛
لسبب بسيط هو أنها زاوجت بني أسلوب أمازون التجاري والبوست اإلعالمي ،وترتب عىل ذلك تطوير اقتضته طبيعة
عصر اإلنرتنت ،أبرزها التعريف بخدمة ما يسمى بـ«موبايل فيديو» التي يقدم عربها الخرب يف 15ثانية ،و«رابد رسبونس» ً تحقيقا أو االستجابة السريعة التي تتضمن
ً معمقا خالل يوم وليس خالل أشهر أو ً سابقا ،وكذلك أسابيع كما كان معمولاً به خدمة «خرب عاجل».
أما عىل املستوى العربي ،فلألسف ال
ّ يعتد توجد –حسب معرفتي -تجارب قوية
بها ،وإن كان أبرزها إقدام صحيفة النهار اللبنانية مؤخرًا عىل تشفري نسختها الورقية
وإتاحتها فقط للمشرتكني ،وال يزال الوقت مبكرًا للحكم عىل ما إذا كان مضمونها قادرًا عىل فرض نفسه كما يجب.
قسيمة اشتراكات إلكترونية لصحيفة النهار اللبنانية
الملف
الصحافة الورقية صناعة انتهت 24
عثمان العمير
ناشر صحيفة إيالف اإللكترونية
ال أعتقد أن على مسؤولي الصحافة
الورقية فعل شيء ،األمر لم يعد بأيديهم حتى يفعلوا .هذه صناعة انتهت مثلما تنتهي كل الصناعات التي عشناها منذ اختراع المطبعة ً خالفا سياسيًّا أو حتى اآلن .القضية ليست
ً تشجيعا لفنان أو فكريًّا أو عقائد ًّيا أو حتى ً اصطفافا مع قبيلة أو بلد .هذه قضية لكرة أو
حول وسيلة كانت تستخدم بشكل كبير ،ثم ّ ّ محلها .ما على لتحل جاءت وسيلة أخرى القائمين على هذه الصحافة سوى االتجاه إلى المستقبل.
العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
أتذكر أنني كنت التقيت طبيبًا يف نيويورك ،قال يل حينها
وهو يتحدث بفخر عن ابنه الذي يعمل صحافيًّا يف نيويورك
تايمز :إن اإلعالم الحديث هو املستقبل ،أجبته عىل عجل: إنه إعالم الحاضر اآلن ،شغلنا الشاغل هو :كيف هي أحالم
إعالم الغد؟ ضحك الطبيب ،وقال :هات قلبك أفحصه ليقول
لك كم يومً ا ستعيش لرتى العالم الجديد غري هذا الذي تراه. ّ تذكرت ذلك وهو يمارس الطريقة التقليدية اململة يف قياس الضغط والسكري والقلب. لاً قبل مدة كتبت تغريدة نق عن حكمة صينية تقول :إذا أردت أن تسأل عن املستقبل فاذهب إىل طفل يف الخامسة،
ووجِّ ه له هذا السؤال .والحق أن املستقبل ال يصنعه إال من
سيصبح جزءً ا منه وإال كيف نفسر أن كل األعمال الخارجة عن السؤال والجواب واالستفهام وعالمات التعجب قام بها
شباب ّ غض زاخر بالحياة؟ وكيف يمكن أن ننوب عن أمم تتابع
شبكات التواصل االجتماعي التي سيصبح عددها عام 2018م أكرث من مليارين ونصف املليار؟ لم تفعل الصحافة الورقية شي ًئا خاط ًئا لتؤول األمور إىل ما آلت إليه ،فهي فقط تعاملت
مع عوائد الزمن؛ لذا فإنه من املستحيل اآلن أن تعيد الكرة من جديد سوى من خالل استخدام الوسائل التكنولوجية التي
أصبحت ضرورة ،وأصبح القارئ املستفيد هو الذي يتحكم يف القبول من عدمه .اآلن ال تستطيع أن تطور صحيفة وتجعلها
كما كانت قبل خمسة عشر عامً ا .معظم ما نراه اآلن هو أن الصحف تتجه إىل وسائل االتصال االجتماعي وإىل تطوير
نفسها بشكل جذري ،كما نرى يف واشنطن بوست التي ألغت طبعتها الورقية لكنها ناجحة يف استخدامها لوسائل التواصل
االجتماعي ،وكذلك عدد من الصحف يف العالم اتجهت إىل هذا
االتجاه .وأعتقد أنه يف املستقبل سيبدأ اإلعالن نفسه بالعودة إىل الصحف من خالل اهتمامها بوسائل االتصال االجتماعي.
يصدق ما قلته عن الصحف السعودية على صحف دول الخليج ،وهي أن هناك كثرة في أسماء الصحف والصحافيين، لكنها تحتاج إلى الكيفية والنوعية، لدينا أكثر من عشر صحف يومية لقراء ال يتجاوز عددهم مئتي ألف ،في حين تجد أن القراء في بريطانيا بالماليين وتجد صحفهم اليومية الوطنية قليلة ج ًّدا الصحف العربية متشابهة بصرف النظر عن قدراتها
املادية ،والتشابه موجود يف رئيس تحريرها ويف مراقبها ويف السياسة التي توجهها كما تريد .ويصدق ما قلته عن الصحف
السعودية عىل صحف دول الخليج ،وهي أن هناك كرثة
أتصور أن ليس هناك اختالف كبري بالنسبة ملا يحدث يف
يف أسماء الصحف والصحافيني ،لكنها تحتاج إىل الكيفية
اختالف يف موضوع اإلمكانات املادية ،فصحف الخليج تتمتع
عددهم مئتي ألف ،يف حني تجد أن القراء يف بريطانيا باملاليني،
الصحافة العربية أو الخليجية والسعودية ،بالطبع هناك بإمكانات مادية ،ولكنها كثرية جدًّ ا أكرث من الالزم ،فيجب
اختصارها بشكل كبري .وعندما تذهب إىل الصحف العربية تجد اليشء نفسه ،هناك صحف تصدر بال هدف ،ومن دون قارئ؛
ألنها إما مملوكة لشخص يقول :إن عنده جريدة أو مملوكة لبعض األجهزة التي تريد أن تعرب عن نفسها ،ولكنها يف الوقت
نفسه ليست قادرة عىل تقديم محتوى جيد.
والنوعية ،لدينا أكرث من عشر صحف يومية لقراء ال يتجاوز
وتجد صحفهم اليومية الوطنية قليلة جدًّ ا قياسً ا بعدد الصحف املوجودة سواء يف العالم العربي أو يف الخليج والسعودية.
املعضلة الكربى أن معظم الصحف الخليجية والسعودية،
ومعظم املشاريع اإلعالمية ال تقوم عىل قواعد اقتصادية ،أو عىل استطالع حقيقي للقراء .إنها تصدر بقرار ،ولذلك فإن هذا
القرار قد ال يستطيع أن يصل إىل السوق.
25
الملف
أزمة الصحافة الورقية في لبنان.. قصة موت لم يعلن عنه بعد 26
العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
بزون أحمد ّ
رئيس القسم الثقافي في جريدة «السفير» سابقً ا
السؤال الذي ال بد من أن نستبق به الكالم عن أزمة الصحافة في لبنان هو :هل هذه األزمة تؤدي إلى
انهيار الصحافة وموتها أم انهيار الصحافة الورقية فقط ،حتى ال تختلط علينا األمور ،في عصر تنهض فيه وسائط إعالم جديدة بدأت تسود على أكثر ما عداها من وسائط؟
هذا السؤال ال يتردد في لبنان وحده إنما يسود العالم كله؛ إذ بدأ التحول االنقالبي يطيح بكثير من
أساليب الحياة التقليدية ،وقد بات علينا أن نتعامل بحذر حيال الموقف ،فال نقف ضد تطور الحياة ونحن نتصدى لمفاعيل أزمة الصحافة التقليدية ،فموت أسلوب في سبيل والدة أسلوب جديد ليس ً موتا ،ففي مطلع مقدمته لكتاب صاحب جريدة النهار غسان تويني« ،أسرار المهنة وأسرار أخرى» ،كتب الشاعر اللبناني
الراحل أنسي الحاج الذي كان وقت صدور الكتاب (عام 1995م) رئيس تحرير الجريدة« :ما من غياب إال لحضور
آخر ،واالنهيار قيامة ،ال موت هنا ،في هذا العالم ،مع أنه مرصع بالموت ،ال موت وال صمت ،بل حياة تتفجر من كل شيء» .هذا الكالم جاء في معرض تفاؤل أنسي الحاج بالمستقبل الصحافي ،وسط كل ما كان يراه من مشكالت في الصحافة اللبنانية ،وما استنتجه من الحوار الطويل الذي أجراه مع صاحب «النهار»
حول أسرار المهنة؛ حتى إن تويني نفسه الذي خاض غمار الصحافة في «النهار» منذ عام 1948م ،حين رأس تحرير الجريدة بعد والده جبران تويني (أسسها عام 1933م) كان متفائلاً بما كان يجري في العالم من تغيرات. مظاهر األزمة إذا كانت «النهار» صامدة حتى اآلن مع كل الرتاجعات التي أملتّ
بها ،فإن إقفال جريدة «السفري» هو الذي اختصر األزمة يف لبنان،
ولم يبدأها ،ومنه انطلق الكالم الواسع عن بدء سلسلة االنهيارات املتوقعة للصحافة الورقية يف لبنان ،فالصراخ كان يتصاعد أكرث من
صحف أخرى ،عندما وصل تأخر دفع مرتبات العاملني يف وسائل إعالم الرئيس الحريري (تلفزيون املستقبل ،وإذاعة الشرق ،وجريدة
املستقبل) إىل عشرين شه ًرا ،ويف جريدة النهار إىل خمسة عشر شه ًرا،
وشهدت السنوات العشر املاضية سلسلة إجراءات تسريح عدد من املوظفني من الصحف .لم تنقطع مرتبات العاملني يف «السفري» وهذا أمر إيجابي ،لكن التوتر كان سائدًا يف االجتماعات ،والخوف من التوقف يف أي شهر كان ماثلاً أمام الجميع .وكانت «السفري» و«النهار» وصحف أخرى قد جمدت الزيادات اإلدارية الدورية قبل
15سنة ،وأوقفت الشهرين الثالث عشر والرابع عشر ،واتخذت
إجراءات تقشفية مختلفة ،عىل أساس تخيري املوظفني بني هذه
اإلجراءات واإلفالس .إن ما حصل لـ«السفري» كان يمكن أن يحصل يف صحف أخرى ،لوال أن هذه الصحف اتخذت إجراءات وقائية تحميها
إىل مدد ال تطول كثريًا ،وقد اعتمدت مبدأ مالقاة األزمة يف منتصف
الطريق ،فاختصرت عدد العاملني ،عىل حساب مستوى التحرير ومستوى العمل الصحايف ،علمًا بأن كل هذه اإلجراءات الوقائية لن
تقيها من االنهيار؛ ذلك أن االنهيار بات أم ًرا بديهيًّا ،وسوف يدور عىل الجميع ،ما دامت الصحف مشاريع تجارية خاصة غري حكومية ،وإن كان بعضها ذا أبعاد حزبية.
27
الملف
الصحف التي توقفت ذات عام كانت تعاين مشكالت مشابهة ونحن نتحدث عن هذه الظروف القاسية التي تعيشها
الصحافة اللبنانية نتذكر ،لو رجعنا بالتاريخ إىل الوراء، أنها كانت مثلاً حس ًنا للصحافة العربية ،وأن بريوت كانت ذات يوم عاصمة الصحافة العربية مثلما كانت عاصمة الثقافة العربية وعاصمة الحريات ،وصحيح أن الصحافة
اللبنانية الحديثة التي تأسست يف القرن العشرين قد
استفادت كثريًا من الصحافة املصرية قبل أن يلجمها نظام
عبدالناصر ،فإن الصحافة املصرية نفسها التي انطلقت مع «األهرام» عام 1874م كانت تأسست
للتي عانتها «السفري» وتعانيها صحف اليوم ،مع اختالف
التفاصيل وطبيعة العصر ،وقد وصل عدد الصحف اليومية حاليًّا إىل ُع ْش ِر الـ ،110كما صرح نقيب الصحافة الجديد يف لبنان عوين الكعيك.
أسباب األزمة
يمكن أن نلخص أسباب أزمة الصحافة يف لبنان بما يأيت:
أولاً -أزمتنا جزء من األزمة التي تصيب الصحافة الورقية
يف العالم ،وتحوُّل عدد كبري منها إىل إلكرتونية ،يف ظل ثورة
تكنولوجيا املعلومات واالتصاالت الجديدة ،ولنا
يف ذلك أمثلة كثرية ،نذكر منها «النيوزويك»
عىل يد اللبنانيني سليم تقال وأخيه بشارة
األمريكية الشهرية ،و«كريستيان ساينس
اللذين أسسا مطبعة ودار «األهرام» يف
مونيتور» ،أعرق صحيفة أمريكية وقد استمرت بالصدور ً قرنا كاملاً ،ثم «اإلندبندنت»
اإلسكندرية قبل نقلها إىل القاهرة ،لتصري
أهم جريدة مصرية .ولعل عز انتشار
امتيازات الصحافة اللبنانية كان بني عامني 1950م (حيث صدر 50امتيا ًزا) وعام 1955م
( 45امتيا ًزا) .وإذا علمنا أن عدد امتيازات
الصحف اللبنانية قد وصل إىل 110امتيازات ،نفهم أن الخط
28
البياين النهيار الصحافة بدأ منذ زمن طويل ،فكثري من
مرت على الصحف اللبنانية مراحل ذهبية ،أو مناسبات ،وصل فيها إصدار جريدة «النهار» إلى 125ألف نسخة، في حين وصل إصدار «السفير» إلى 50 ألف نسخة ،لتبدو األزمة في قمتها عندما وصلت مبيعات كل من «النهار» انتشارا في لبنان، و«السفير» ،األكثر ً إلى قرابة خمسة آالف نسخة يوم ًّيا
الربيطانية وصحيفة «ذي لندن بيرب» املسائية
غسان تويني
املجانية ،بعد إقفال نحو مئة صحيفة محلية يف بريطانيا .وهكذا يمكن ذكر كثري من الصحف
األوربية وسواها من دول العالم ،التي أسقطها التنافس مع
اإلعالم اإللكرتوين ،وبات متعذرًا عليها االستمرار يف ظل األزمات
االقتصادية ،وكذلك يف ظل تنافس التلفزيون واإلذاعة أولاً ،ثم
وسائط التواصل االجتماعي وأثر اإلنرتنت وصيغة اإلعالم الجديدة التي تركز عىل املعلومات أكرث من اإلعالم بمعناه األشمل .لم تكن
تبعات األزمة العاملية التي نتحدث عنها ترمي بثقلها عىل الصحافة اللبنانية وحدها يف منطقتنا ،إنما شهدت الصحافة العربية
كثريًا من األزمات ،وسادت حال الرعب العديد من العاملني يف
ً خصوصا العاملني يف الصحف غري املدعومة من الصحافة الورقية،
الحكومات ،بل إن بعض الصحف التي تقف خلفها سلطات بدأت تعاين مشكالت تهدد استمرارها ،وقد اتخذت صحف خليجية عدة إجراءات وقائية؛ لتفادي السقوط املبكر ،فلم َت َ سلم الصحيفتان الكربيان «الحياة» و«الشرق األوسط» من االهتزاز ،وإن كانت «الحياة» محسوبة بامتيازها عىل لبنان ،وبمضمونها وقدراتها املالية
عىل السعودية .وقد باتت صحف
كثرية مصرية وكويتية ومغاربية
تشعر بهذا االهتزاز ،ويكفي أن نعرف
أن مجموع توزيع الجرائد اليومية
املصرية انخفض إىل 400ألف نسخة فقط (كان مليونني و 400ألف عام 2009م) وهذا تراجع ينذر بالشؤم
ألنصار استمرار الصحافة الورقية. العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
أنسي الحاج
عوني الكعكي
ثانيًا -تراجع املال السيايس الذي انقطع مع انهيار نظام صدام
نائلة تويني
طالل سلمان
رسميًّا ،وقد تركز الدعم الرسمي يف لبنان عىل «الجريدة الرسمية»
حسني ونظام القذايف ،وكذلك توقف تدفق املال الخليجي ألسباب
وهي مقتصرة عىل اإلعالنات الرسمية ،ووكالتي األنباء «الوطنية»
بعد حدوث ضعف يف األداء والتأثري شهدته الصحف ،كذلك بعد
خامسا -تراجع مستوى التحرير ،مع تزايد الضغوط ً ليّ االقتصادية ،واضطرار الصحيفة للتخ عن كوادر مهمة بسبب
عدة؛ منها شعور الداعم السيايس بعدم الجدوى من دعمه، تطوير وسائل اإلعالم الخليجية التي باتت تؤدي الغرض نفسه
ً خصوصا بعد استقطاب الطاقات الذي تؤديه الصحافة اللبنانية، الصحفية اللبنانية التي هجر بعضها بسبب الحرب وبعضها اآلخر
طلبًا ألجور أعىل. ً ثالثا -تراجع املبيعات ،فقد مرت عىل الصحف اللبنانية مراحل
و«املركزية».
مرتباتهم العالية ،وتوظيف شباب وشابات جدد بمرتبات أقل .وال
نغايل إذا قلنا :إن بعض الذين توقفوا عن شراء الصحف إنما فعلوا ذلك ألن مضمونها لم يعد يقنعهم ،ولم يعد يمثل تطلعاتهم،
ً خصوصا يف مرحلة تزايد الحساسيات الطائفية واملذهبية ،ولم
ذهبية ،أو مناسبات ،وصل فيها إصدار جريدة «النهار» إىل 125ألف
تستطع الصحف ،التي حاول بعضها كثريًا استقطاب قراء األجيال
األزمة يف قمتها عندما وصلت مبيعات كل من «النهار» و«السفري»،
سادسً ا -عدم تحول الصحف اللبنانية إىل مؤسسات تدار بشكل
نسخة ،يف حني وصل إصدار «السفري» إىل 50ألف نسخة ،لتبدو
األكرث انتشارًا يف لبنان ،إىل قرابة خمسة آالف نسخة يوميًّا ،إذا لم
تقل عن ذلك يف املراحل األخرية الحتضار «السفري» ،وقد بات عدد النسخ املطبوعة من الصحيفة يف لبنان س ًّرا من األسرار العميقة ً خوفا من انكشاف نقاط الضعف .ومع هذا الرتاجع يف املبيعات تصبح كلفة
النسخة أضعاف أضعاف سعرها يف السوق ،وقد وصلت يف جريدة
«السفري» ،عىل حد علمي ،إىل أكرث من خمسة أضعاف ،وقد بات من املستحيل االستمرار من دون دعم إعالين أو سيايس.
رابعً ا -تراجع اإلعالنات سنة بعد سنة جعل األزمة يف ازدياد
ً خصوصا يف الصحف التي ال تعتمد عىل مال سيايس تدريجي، أو دعم حكومي ،وكل الصحف اللبنانية املعروفة غري مدعومة
الشابة ،الوصول إىل الهدف.
ذايت؛ إذ تخضع الصحف ألمزجة شخصية ،ثم يأيت التوريث ليفقد الصحيفة البوصلة التي وضعها املؤسس ،فيأيت جيل أقل حماسة من سابقه ،وهذا ما حدث بوضوح عندما مرت جريدة «النهار»
بمراحل مختلفة متأثرة بمصلحة الوريث ،فمن جربان تويني الجد إىل غسان ،ثم ابنه جربان ،وصولاً إىل ابنة األخري نائلة التي يف زمنها
تشهد الجريدة آخر انهياراتها ،وال شك يف أن تدخالت أبناء طالل سلمان عجلت من إقفال «السفري»؛ ألنهم هدفوا إىل حفظ ما توافر لهم من أرباح يف زمن مىض ،ألن االستمرار أكرث يقضم بعضها ،وقد
صرح سلمان بما يؤكد هذا املعنى عندما رأى أنه ال يريد أن يحرم
أبناءه من اإلرث.
ماذا بعد؟
ً موظفا يف الشارع ،فإن نقيب املحررين اللبنانيني ،إلياس عون ،دعا إذا كان إقفال جريدة «السفري» قد رمى قرابة 150 الدولة إىل إيجاد حلول إلنقاذ قطاع يوفر دخلاً لقرابة 10آالف شخص ،يمكن أن تمارس بحقهم أساليب «تطفيش» ،ال سيما من خالل تأخري دفع الرواتب ،لكن كل صيحات استدراك استفحال األزمة باءت بالفشل حتى اآلن.
كلنا أسف عىل التاريخ املجيد للصحافة اللبنانية الرائدة عىل املستوى العربي ،وأسف أكرب عىل تلك التي أقفلت
الستارة عىل تجربتها بشكل كامل ،وتلك التي تقف عىل شفري الهاوية ،أو لم تعلن عن موتها بعد (تحويرًا لعنوان رواية
ماركيز «قصة موت معلن») .وال يسعنا إال أن نأمل يف استمرار حضور الصحف اللبنانية الجادة ،بما تتميز به من حريات
وخربة عالية ،من خالل تحولها إىل الوسائط اإلعالمية الرقمية الجديدة ،األقل كلفة واألكرث انتشارًا ..وتأثريًا.
29
الملف
تغلبت عليها برامج «التوك شو» والميديا الجديدة
الصحافة المصرية تواجه «األزمة» بالبحث عن «خلطة» تناسب القراء صبحي موسى
30
القاهرة
لم يكن يحلو لكثير من الناس أن يتحرك إال والجريدة مطوية تحت إبطه ،كأنه يحمل رسالة من الوالي إلى أبنائه المنتظرين عودته في البيت .لم تكن الجريدة مجرد حصول على خبر، لكنها كانت انتماء ،وكل حزب بما لديه سعيد ،وال يصدق الخبر إال إذا كتب في جريدته المفضلة، وكانت أشهر اللقطات التي أبرزتها السينما للمخبر في أثناء عمله وهو جالس خلف الجريدة يتابع تحركات المجرم ،في حين كان فلم «بياعة الجرائد» من أشهر كالسيكيات السينما المصرية، وفيه غنت ماجدة الصباحي ليوسف شعبان أغنيتها الشهيرة «أهرام ،أخبار ،جمهورية».
العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
كانت الصحف الورقية هي القوت اليومي للمواطن ،وال
يمكن تصور رجل ينتمي للطبقة الوسطى ال يجلس عىل املقهى
مطالعً ا جريدته املفضلة .وكان نجيب محفوظ قبل االعتداء عليه
من متطرف ديني عام 1994م يذهب إىل مقهى «عيل بابا» يف ميدان
التحرير يف تمام السابعة صباحً ا ليتناول فنجانه من النب ويطالع جرائد الصباح.
لكن هذا كله أصبح شي ًئا من املايض ،فمع مطلع األلفية
الجديدة تراجع دور الصحافة الورقية ،ولم تعد مصدرًا لتقديم الخرب إىل القارئ ،فقد سبقتها إليه القنوات الفضائية ،واملواقع
اإللكرتونية عىل النت ،ومواقع التواصل االجتماعي التي أصبحت
بمنزلة نبض الشارع والحياة ،هكذا حرمت الصحافة الورقية من ماليني الجنيهات التي كانت تتدفق عليها من اإلعالنات ،وتوقف
قطاع كبري من القراء عن التعامل معها ،وهو قطاع الشباب أو من هم دون األربعني ،هؤالء الذين لم يدمنوا ملمس الورق ورائحة الحرب ومطالعة الجريدة الصباحية ،هؤالء الذين نشؤوا يف عصر الستااليت والشبكة العنكبوتية والسمارت فون ،فصرنا نسمع عن
توقف جرائد عريقة كالسفري اللبنانية ،والبديل املصرية ،ونسمع
عن توقف إصدارات يف مؤسسات أكرب وأكرث عراقة مثل األهرام واألخبار املصريتني ،فما مستقبل الصحف الورقية؟ وهل هناك حلول لبقائها يف املنافسة؟ أم أننا قد نستيقظ يومًا لنجد العالم
وقد أصبح بغري جريدة الصباح وفنجان النب اللذين طاملا تغنى بهما شعراء وكتاب ينتمون إىل بلدان ومدن عربية؟
عدد من رؤساء تحرير الصحف املصرية ومسؤويل اإلعالم لم
يقطع يف الحديث حول نهاية قريبة محتملة للصحافة الورقية. وأدىل هؤالء لـ«الفيصل» بشهادات مختلفة حول واقع الصحافة يف مصر ويف الوطن العربيً ، وفقا لعدد من املعطيات ،ومع ذلك فإنهم أكدوا عىل أزمة كأداء تم ّر بها الصحافة العربية:
فهمي عنبة: الصحافة الورقية مريضة لكن لن تموت
توزيع الجرائد الورقية في مصر متدن ج ًّدا، وبعض الجرائد أغلق ،كالتحرير والبديل وغيرهما ،لكن الجرائد القومية لن تغلق، والجرائد الخاصة تبحث عن بدائل جديدة عىل الخرب لكن عىل ما وراء الخرب ،والنزول إىل الشارع حيث العمل امليداين ،وإبراز الرأي أو ما يعرف بصحافة الرأي ،وتقديم خدمات جديدة للقراء.
تبقى الصحافة الورقية األرشيف القومي للشعوب ،يف حني
املواقع اإللكرتونية أو وسائل التواصل االجتماعي نجد جانبًا منها
يقوم عىل اإلشاعة أكرث من الحقيقة ،وفكرة إثارة القراء وجذبهم، ثم العودة بعد دقائق ّ لبث أخبار جديدة ،من دون التأكد من صحة
بال شك تواجه الصحافة الورقية تحديات يف العالم كله بعد
الخرب أو حقيقته ،ومن ثم فالصحافة الرصينة سواء قومية أو
البيوت ،فقد أصبحت املعلومات متاحة للجميع ،والخرب يرد إليهم
سرعان ما ستعود بقوة حني يكتشف القارئ أن املواقع اإللكرتونية ال
انتشار وسائل التواصل االجتماعي ،ووصول النت إىل معظم يف وقته وربما آن حدوثه .لكن الصحافة الورقية تمرض وال تموت،
ولو تذكرنا ظهور الراديو ،وما تردد وقيل وقتها عن موت الصحافة
الورقية ،وتكرار هذا األمر مع ظهور التليفزيون ثم الفيديو ،نتأكد أن
الصحافة الورقية تمرض ،أو تمر بأوقات ضعف مع ظهور أي تقنية
أو وسيلة إعالمية جديدة ،لكنها ال تموت ،وإن كان مرضها هذه املرة قد يستغرق مدة أطول ،أو أكرث قوة وشدة من أوقات مرضها مع ظهور الراديو والتليفزيون والفيديو .لكننا نراهن عىل أن متعة
القراءة ال يساويها متعة ،ومن ثم فعىل الصحافة أن تركز ليس
حزبية أو خاصة ،ستجد نفسها خارج الصندوق يف وقت ما ،لكنها
تقدم له سوى هوس املتابعة الدائم ،وعدم تقديم معرفة حقيقية يف يشء .علينا أن نعرتف أن خريطة اإلعالنات تذهب يف الدرجة األوىل اآلن لربامج «التوك شو» التي تستحوذ عىل ثالثة أرباع املتاح من اإلعالنات ،يأيت بعدها املواقع اإللكرتونية وهي متعددة وكثرية،
ثم إعالنات الشوارع التي أصبحت تغطي كل مكان ،ثم الصحافة الورقية ،ويمكننا الرهان يف الحقبة املقبلة عىل أفكار مثل الصحافة اإلقليمية أو املحلية أو ما يعرف بصحافة الكومباوند أو األحياء
املجاورة ،هذا النوع يمكنه االعتماد عىل إعالنات بسيطة وبأثمان
31
الملف
النوع يف ظننا سيتحكم يف مستقبل الصحافة الورقية ،وهو نوع
زهيدة لكنها تغطي تكاليفه وتكفل له االستمرار .وهناك نوع
لألمراء واألثرياء ،ويف مصر أو غريها جرائد خاصة أو قومية،
القائم عىل اإلعالنات فقط ،إضافة إىل أننا يف «الجمهورية»
واإلعالنات والثمن.
للعمال ،ولدينا صفحات الفن واملسرح ،ونقوم عىل العمل
نوع جديد من التوزيع الورقي ،عرب إقامة شركات توزيع جديدة
من الجرائد الخدمية حقق انتشارًا وتوزيعً ا عاليًا كالوسيط
قدمنا تجديدًا يف أبوابنا ،فلدينا باب خاص باملعاشات ،وباب امليداين بالدرجة األساسية حيث الجمهور وتحليل الخرب.
رئيس تحرير جريدة الجمهورية
محمد السيد صالح: البحث عن دخل إضافي
الجرائد الخاصة إما أن تغلق أو أن تبحث عن عمل معادلة يف الورق ثمة حلول أخرى عىل هامش هذه املعادلة ،وهي اللجوء إىل
بديلة عن شركات التوزيع الحكومية التي تسيطر عىل السوق، والتفكري يف صحافة الكومباوند أو املحيط السكني الصغري ،هذه
التجربة ليست موجودة لدينا ،لكنها يف أمريكا والغرب ويمكن التفكري يف إصدارها هنا .من املعروف أن الصحافة نوعان :صحافة خاصة يمتلكها أمراء أو رجال أعمال ،وهذه تبحث عن مصادر
توزيع الجرائد الورقية يف مصر ُم َت َدنٍّ جدًّا ،وبعض
أخرى للدخل وإقامة معادلة فيما يخص اإلنفاق والعائد من التوزيع
القومية لن تغلق ،والجرائد الخاصة كاملصري اليوم تبحث
النوع الثاين هو الجرائد القومية التي لو رفعت الدولة يدها عنها نوعا ً فإنها ستغلق ،لكنّ ثمة ً ثالثا ظهر يف السوق مموَّل من جهات
الجرائد أغلق ،كالتحرير والبديل وغريهما ،لكن الجرائد عن بدائل جديدة ،فهي تسعى لعمل معادلة يف السعر والورق والبحث عن دخل إضايف من خالل املوقع ،واستغالل
إعالنات عىل النت والبحث عن مصادر للورق أرخص من املتاح .وهناك نوع ثالث من الجرائد ،ال هو جرائد قومية
32
ليس موجودًا ال يف الشرق وال يف الغرب ،فالخليج به جرائد مملوكة
مملوكة للدولة ،وال جرائد خاصة مملوكة لرجال أعمال،
لكنها جرائد مموَّلة من جهات سيادية أو غري سيادية ،هذا
عدد العاملين في أخبار اليوم يزيد على 6آالف ،ويعمل في األهرام نحو
12ألفً ا ،ومن ثم فإن الصحافة الورقية تمثل صناعة كبيرة في مصر ،وال يمكن التفكير في إغالقها
واإلعالنات ،وبعضها أمام الضغوط االقتصادية أو السياسية يغلق،
بعينها ،ال يعنيه التوزيع وال غريه ،وال تشغله الضغوط السياسية وال االقتصادية .هذا النوع نعتقد أن مستقبل الصحافة سيكون
لصالحة ،ألن تمويله قويّ ،وأهدافه أن يكون موجودًا بغض النظر عن الضغوط السياسية التي قد تكون لصالح بعض وضد بعض،
أو الضغوط االقتصادية التي يعانيها الجميع اآلن ،بما فيها الجرائد
القومية التي اضطرت إىل تخفيض بعض إصداراتها.
ما زال القارئ التقليدي الذي لم يرتبط بالسوشيال ميديا ً مرتبطا باإلصدارات الورقية من الجرائد ،هذه التي ومواقع النت يذهب إليها نحو %80من اإلعالنات .بعض الجرائد قامت بإنشاء
مواقع إلكرتونية أنفقت عليها الكثري؛ يك يعود الربيق إىل الجريدة الورقية نفسها ،وتستطيع املنافسة يف سوق اإلعالنات.
العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
رئيس تحرير املصري اليوم.
فهمي عنبة
محمد السيد صالح
عماد الدين حسين
تبقى الصحافة الورقية األرشيف القومي
سامي حامد
مجدي شندي
يف اﻻستمرارية عليها اﻻبتعاد بقدر اإلمكان من العنصر الخربي،
فاملواطن يحصل عىل الخرب يف الحال سواء عىل املوبايل أو
للشعوب ،في حين المواقع اإللكترونية أو
شاشات التلفاز وأجهزة الحاسب اآليل .عليها الرتكيز عىل ما
يقوم على اإلشاعة أكثر من الحقيقة،
كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية .وهناك ٍّ تحد آخر يواجه
جانبا منها وسائل التواصل االجتماعي نجد ً
بعد الخرب واﻻهتمام بالرأي والتقارير والتحليالت والقضايا سواء
وفكرة إثارة القُ راء وجذبهم
الصحافة الورقية هو ارتفاع أسعار مستلزمات اإلنتاج من ورق وأحبار وزنكات ،وهو ما يستلزم يف كثري من األحيان خفض ً صحفا أو مجالت. الكمية املطبوعة سواء كانت
عماد الدين حسين:
رئيس تحرير جريدة املساء املصرية.
الحاجة إلى تحرير جديد و ُكتاب جدد
هناك تحديات حقيقية تواجه الصحافة الورقية ،السبب
األساس هو منافسة وسائل االتصال وارتفاع أسعار الورق
واسترياده ،وتعويم الجنيه ،وارتفاع سعر الدوالر ،إضافة إىل غياب أي تصور حقيقي للتطوير .والنتيجة أن عددًا من الصحف
التي كانت توزع يف السبعينيات بأعداد هائلة اختفت.
مجدي شندي: وداعا للتوزيع «المليوني» ً
اقتصاديات الصحافة الورقية تضررت كثريًا؛ ألن هذه الصحافة
فقدت وظيفتها وهي اإلخبار ،فقد أصبحت لدينا بدائل أكرث سرعة
توجد أزمة حقيقية يف املحتوى ،وبخاصة مع ظهور
يف نقل الخرب وتقديمه للمتلقي ،كما أن أنماط القراءة وعاداتها
املستقبل أن تطور من أدائها وفكرتها وطرائق تواصلها ومحتواها،
مستقبل الصحافة الورقية ،وبخاصة من قطاعات الشباب؛ ألنه
الفضائيات واملواقع اإللكرتونية ،والصحف التي لن تستطيع يف لن يكون لها فائدة .فال بد من وجود حلول ،والحلول الجوهرية
تكمن يف تقديم محتوى مختلف ،فلم يعد مهمًّ ا أن تهتمّ بالخرب اليومي ،فال بد من تقديم محتوى مختلف يشتمل عىل حوارات
اختلفت من القراءة الورقية إىل القراء عىل اللوح الضويئ ،هذا هدَّد ال أحد منهم يُقبل عىل شراء الصحف الورقية ،فأغلبهم يعتمد
عىل املواقع اإللكرتونية ووسائل التواصل االجتماعي ،وهو ما جعل انتظار خروج الصحف الورقية من املطابع ،والسري مسافات لشرائها من بائعي الجرائد ،عملاً من املايض ،نظ ًرا لوجود بدائل
وقصص وأمور ليست متاحة للـ«توك شو» عىل الفضائيات، ُ والكتاب وهذا بدوره يحتاج إىل نوعية جديدة من املح ِّررين
قوية تبث الخرب يف آن حدوثه.
ومعارف جديدة.
وحدها ،فهو متعلق بالثورة التكنولوجية التي أنتجت الفضائيات
ِّ واملفكرين ،كما يحتاج إىل تدريب وإعادة تأهيل واكتساب لغات رئيس تحرير الشروق
سامي حامد: ارتفاع أسعار مستلزمات اإلنتاج
الصحافة الورقية تواجه يف الوقت الحايل الكثري من
التحديات ،وبالتأكيد تأثرت سلبًا بعد انتشار املواقع اإلخبارية
اإللكرتونية لكنها لم تمت ولن تموت ،فالصحافة الورقية لها مذاق خاص ونكهة مختلفة عما تبثه املواقع اإللكرتونية من
أخبار وموضوعات .الصحافة الورقية يف اختبار حقيقي اليوم؛ فإما أن تكون أو ﻻ تكون ،وأرى أن الصحافة الورقية ليك تنجح
ًّ خاصا بمصر تضررت الصحافة الورقية ،وهو أمر ليس
واملواقع اإللكرتونية ،وأصبح التوزيع املليوين للصحف الورقية جزءً ا من املايض؛ ألن ُق َّراء الصحف فيما فوق األربعني وحدهم
هم الذين اعتادوا عىل ملمس الورق ورائحة الحرب ،كل األجيال الجديدة اآلن لم َتع َت ْد عىل ذلك ،وليس لديها أدىن ارتباط نفيس مع الجريدة الورقية ،وهذا ترك آثاره عىل الصحف الورقية يف
العالم كله .صحف عريقة يف أوربا والواليات املتحدة تحوَّلت إىل الواقع االفرتايض ،أما يف مصر فربما يتأخر ذلك التحول قليلاً ،وقد تأيت مجالت متخصصة يف تفسري وتحليل األحداث ،ما يمكنها من
التعايش مع الواقع الجديد ،يك نشهد دورًا جديدًا لإلعالم الورقي.
رئيس تحرير املشهد
33
الملف محمد عبدالحافظ :األزمة تكمن في المضمون ال في الصناعة اليابان أعظم بلد يف التكنولوجيا ،ورغم ذلك بها ثالث
جرائد توزع صباحً ا ومسا ًء مليون نسخة ،وهم لديهم أكرب
توزيع ملجموعات الكومكس التي توزع بني الشباب والفتيان، واستثمارات الشركات األوربية املصنعة للمطابع زادت بنسبة ،%50يف مقدمتها شركة مان روالن األملانية املتخصصة يف
تصنيع ماكينات الطباعة .نحن إذن أمام أرقام تقول :إن هذه الصناعة ستبقى ،وإن العيب ليس يف الصناعة لكن يف ُّ الصناع العرب ،فنحن بوصفنا صنا ًعا لم نعد نعرف الخلطة املناسبة ألذواق ُق َّرائنا ،وهو ما يجعلهم يتجهون إىل الفضائيات ومواقع النت ،لكن الصحافة الورقية ستبقى إذا طوَّر الصحافيون
أنفسهم ،وأنا من مدرسة أن الصحافة الورقية لن تموت.
ولنا أن نتذكر أنه حني ظهر الفيديو خرجت أغنية تقول:
داي ،وأؤكد أن املشكلة ليست يف الصناعة بقدر ما هي يف مضمون
طوَّر نفسه ،وأصبحت لدينا العديد من القنوات والربامج
ويف الصحافة ال بد من ثالثة أسس للنجاح هي :الدقة ،واملصداقية،
«الفيديو نجم الراديو» ،لكن هل مات الراديو؟ بالطبع ال .فقط الجديدة التي تتناسب مع إيقاع العصر ،ومن ثم ،فالعيب
34
دائم مع مجلس تحرير جريدة اآلي ومجلس تحرير جريدة فري
ليس يف الصناعة ،لكن يف املضمون الذي تق ِّدمه الصناعة.
فاإلندبندنت من أعرق الجرائد الربيطانية ،كانت تسمى ماكينة الخسائر ،لكن صاحبها مدمن للصحافة الورقية ،فرفض أن
الصناعة ،فهؤالء يعملون عىل أفكار جديدة ومادة قابلة للقراءة،
واالستقالل وليس الحياد ،فال يوجد حياد ،فحني تصدر جريدة رياضية ال يمكنك أن تقول :إنك ستكون محايدًا ،فهذا يعني الخسارة
من قبل أن تبدأ ،لكن عليك أن تعلن عن انحيازك وجمهورك وتوضح
رسالتك .وال يمكنك أن تحصل عىل إعالنات من شركة ساعات أو
يتحول إىل الصحافة اإللكرتونية ،وأصدر جريدة سمّاها «اآلي» ً مجانا عىل ركاب وهو أول حرف من اسم اإلندبندنت ،ووزعه
لن يشرتي هذا املنتج ،ومن ثم فاملعلن سيبحث عن مجلة للمرأة
اإلعالنات .يف أمريكا جريدة مجانية تدعى «فري داي»
عدد العاملني يف أخبار اليوم يزيدون عىل 6آالف ،ما بني صحافيني وإداريني وعمال مطابع ،ويعمل يف األهرام نحو ً 12 ألفا،
من اإلعالنات فقط .وأنا
وال يمكن التفكري يف إغالقها ،لكن التفكري دائمًا يف التطوير ،والبحث
القطارات وهم ذاهبون يف الصباح إىل أعمالهم ،هذه الجريدة و َّزعت سبع مئة وخمسني ألف نسخة ،وغطت تكاليفها من
توزع توزيعً ا غري عادي ،وتغطي تكاليفها
أتواصل بشكل
مجوهرات ثمينة وتنتج جريدة حوادث؛ ألن جمهورك من الفقراء
تستهدف سيدات املجتمع.
وهكذا ،ومن ثم فإن الصحافة الورقية تمثل صناعة كبرية يف مصر،
عن أفكار جديدة ،ومهنية أرقى وأكرب ،أما من يتحدثون عن اإلغالق واالنهيار فهم أصحاب مصالح خاصة ،هؤالء الذين ال يريدون خربًا حقيقيًّا ،وال مقاالت يمكنها أن تبني الذهن وتوسع مداركه ،هؤالء
الذين يسعون للتسطيح يف الربامج الكالمية ،أو ملء فضاء النت بالصورة وأي تعليق عليها ،هؤالء يسطحون الفكر ،ويسعون للسيطرة عىل سوق اإلعالنات ليس أكرث.
وأنا لديّ موقع إلكرتوين مثلهم ،لكنني ال أستخدمه من أجل
ما يسعون إليه ،بقدر ما أستخدمه للرتويج لجريديت الورقية ،فأنشر ً مقتطفا من الخرب أو املقال كإعالن عنه ،ومن يريد استكمال قراءته فليشرت العدد الورقي. ِ
رئيس تحرير مجلة آخر ساعة
وعضو مجلس إدارة أخبار اليوم العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
مكرم محمد أحمد :خطة للنهوض بالصحافة حتى اآلن ال يوجد لدينا املواطن الذي يستطيع أن يستخدم
وكاف، الحاسوب يف البحث عن املعلومة والخرب بشكل واضح ٍ لدينا حواسيب إلكرتونية عىل كل مكتب ،لكن حتى اآلن ما زال
املوظفون واملواطنون يستخدمونها يف التسلية ،وهو ما يجعل القول بأن الصحافة الورقية يف خطر أم ًرا مستبعدً ا قليلاً ،
ونحن مهمتنا الراهنة بعد تويل املجلس األعىل لإلعالم يف مصر النهوض بمختلف وسائل اإلعالم ،ويف مقدمتها الصحافة
الورقية ،ونحن لم نقل بأن الجريدة التي لن تتمكن من تغطية تكاليفها ستتوقف ،ولكننا قلنا :إن الجريدة التي تصدر يف 24 صفحة وال تجد من اإلعالنات ما يغطي تكاليف كل هذا العدد
من الصفحات ،يجب أن تعيد النظر يف سياستها التحريرية من ً بعضا من هذه الصفحات بما يقرب الفجوة جانب ،وتخفض
النقيض سندعمها بقدر ما نستطيع من رؤى وأفكار حتى تقدم
النهوض بالصحافة واإلعالم يف مصر ،فهذه الخطة تستلزم
التحرير ويف التعامل مع اإلعالنات ،وعدد الصفحات املطلوبة.
بني التكاليف واألرباح .لكننا حتى اآلن لم نضع خطتنا لكيفية
عددًا من االجتماعات بني أعضاء املجلس وأعضاء هيئتي الصحافة واإلعالم ،وأن نستمع إىل مختلف وجهات النظر،
ومناقشة املقرتحات املقدمة من الجميع ،والعمل عىل النظر
يف مختلف التفاصيل ،حتى نصل إىل تصور متكامل يمكننا بناءً
عليه اعتماده كخطة للعمل يف املرحلة القادمة.
لكن ليس لدينا أي توجه مضاد للصحافة الورقية ،بل عىل
الحل املناسب ،ونتمكن من ضبط كثري من العشوائية ،يف وال بد أن نصل يف املجلس إىل توافق قوي حول هذه الخطة بما يكفي لضمان نجاحها .ونحن لدينا لجنة يف املجلس الستشعار
املستقبل وما به من مواجهات؛ يك نتعامل معها وفق آليات وأفكار علمية ،وخطط مدروسة وقائمة عىل إحصائيات ومعلومات حقيقية.
رئيس املجلس األعىل لإلعالم
35
الملف
الصحافة الخليجية تتحسر على أموال اإلعالنات.. ّ وتفتش عن بدائل عدنان فرزات
36
الكويت
حتى سنوات قليلة مضت ،كان المشهد كاآلتي :تستيقظ العائلة لتجد الصحيفة الورقية سبقت استيقاظها إلى الصندوق المخصص لتوزيع الصحف ،غالبًا ما تكون الحظوة لألب الذي يشرع في قراءة الصحيفة على فنجان قهوة ،وقد تتخاطف بقية العائلة الصفحات األخرى ٌّ كل حسب اهتمامه، أو ربما تذهب إلى مكتبك فتجد مجموعة من الصحف الورقية مكدسة بعضها فوق بعض .منذ ربع قرن تقريبًا ،بدأ المشهد يتغير ،تحولت كل هذه «األوراق» إلى أرقام «ديجيتال» ،لتصبح جاهزة بضغطة زر على شاشة الحاسوب ،ثم أصبحت أصغر من ذلك بحجم كف اليد على هاتفك المحمول. حين كانت الصحف الورقية في أوج مجدها ،كان هناك مصطلح يتداوله أصحاب الصحف ويحسبون له ألف حساب ،هو «سوق السعودية» ،حيث كان هذا السوق هو المستهلك األكبر للصحف الورقية، وكانت الصحف تحرص على دخوله ،وبعض الصحف كانت تلغي موضوعات أو صفحات كاملة؛ ألنها ً حرصا منها على الوصول إلى هذا السوق. ال تتوافق مع القيم المجتمعية السعودية
العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
ً أيضا كان القارئ يف كل مكان من الخليج يبذل العناء للذهاب
إىل املكتبة أو منافذ بيع الصحف واملجالت ،ليجد معظم الصحف الخليجية والعربية وغريها متاحة عىل الرفوف .اليوم غابت هذه املظاهر ،فهل أثر هذا الغياب يف اقتصاديات هذه الصحف؟ وهل أدى
غيابها إىل خلل ما يف كمية النسخ املطبوعة ويف اإلعالن والتوزيع؟ وماذا عن «التنني» اإللكرتوين الذي يم ّد جسده طويلاً ملتهمًا معظم ِ املظاهر التقليدية املصنوعة من ورق؟ يف دولة الكويت مثلاً ،كان هناك خمس صحف تتسيّد الساحة
اإلعالمية ،لكن قبل سنوات قليلة ،أصبحت إجراءات ترخيص
الصحف الورقية أسهل من ذي قبل ،فسارع كثري من األشخاص إىل إصدار صحف جديدة ،ثم ما لبثت هذه الصحف الجديدة معظمها أن أسدلت الستارة عىل صدورها منذ السنة األوىل ،ولم تستطع أن
تنافس أو أن تأخذ الحيز الذي تشغله الصحف الخمس.
بكل األحوال ال يمكن التفرد بالرأي يف هذا الجانب ،فهو موضوع
شاسع ،وقد يتعلق األمر باألجيال ،واألمزجة ،فهناك الكثري من
األجيال ال تزال متمسكة بالصحف الورقية ،كما أن بعضها ما زال يفضل اإلمساك بالورق ألنه يحقق له متعة أكرث بالقراءة ،تمامًا
كالفرق بني الكتاب الورقي ونظريه اإللكرتوين.
ماضي الخميس
حمزة عليان
لم تعد الصحف الورقية في الخليج بذلك الزخم السابق؛ إذ حدث تقليص في عدد الصفحات وتصغير الحجم بهدف تقليل المصروفات ،إضافة إلى التأثر المادي وتراجع نسب التوزيع الورقي من الناحية املادية ،واضح أن الصحافة الورقية تأثرت جدًّا
وتراجعت مبيعاتها ،واإلعالن أصبح يتجه إىل «الديجيتال ماركت» ألن
اإلعالن ينجذب لقوة التأثري وسهولة ووفرة االنتشار ،كما أن التأثري
ومن املعروف أن الصحافة الخليجية من أكرث الصحف العربية
يختلف اليوم ،فأصبح اإلعالم اإللكرتوين األشد تأثريًا من الورقي
النتشارها الواسع ،إال أن هذا الرثاء ال يسعه االستمرار ،ومن ثم
اإللكرتونية ،كما أصبح إنشاء مؤسسة إلكرتونية أقل تكلفة من الورقي.
سؤال الصحافة الورقية وتحديات البقاء الذي تطرحه «الفيصل» ً يمس ً أيضا الصحافة يف الخليج وأوضاعها وما آلت إليه: عنوانا مللفها ّ
األمني العام للملتقى اإلعالمي العربي
ثراء؛ بسبب اإلعالن الذي كانت تستقطبه هذه الصحف بكثافة نظ ًرا
فبعض الصحف ودَّعته بما يليق به من حسرة ،لتفتش عن بدائل.
ماضي الخميس: ستبقى الصحافة إنما بتأثير أقل
أو التقليدي ،وهو ما جعل الصحف الورقية تنفق عىل مواقعها رئيس تحرير صحيفة الكويتية السابق
حمزة عليان :صحافة تحتاج تمويال
يف العشرينيات والثالثينيات من القرن التاسع عشر امليالدي
خرجت صحف مطبوعة إىل النور بفضل مؤسسيها ،الذين كان لديهم
الصحافة الورقية لن تنتهي ،سيبقى لها قراؤها وستبقى
رؤية يف نشر التنوير بما يخدم شعوب املنطقة وتطلعاتها نحو التحرر
وعندما أقول صحافة فأعني هنا الورقية واإللكرتونية ،فهذه املهنة
املسرية وسعوا إىل نشر املعرفة بواسطة الصحافة ،بالرغم من الكلفة
املؤسسات الصحفية موجودة ،وهي تتطور كأي عنصر يف الدنيا، ستبقى ونحن اليوم أمام نموذجني :اإلعالم الذي عرفناه يف الصحف
الورقية والتلفاز ،ثم تطور بسبب التكنولوجيا إىل إعالم إلكرتوين ،ثم هناك نموذج وسائل التواصل االجتماعي الذي ظهر كصناعة أخرى لها
حضورها بشكل أو بآخر ،ولكن يف النهاية فمواقع التواصل االجتماعي ُنش هذه املواقع طبيبًا أو ال يمكن أن نطلق عليها إعالمًا ،فقد يكون م ئِ ً موظفا يف مجال آخر ،فكيف نطلق عليه لقب إعالمي؟ وإال مهندسً ا أو
أصبحت مهنة اإلعالم مهنة مشاعة .لذلك يف رأيي الصحافة الورقية ستبقى ولكن سيقل تأثريها وسيقل عددها ً أيضا ،أو أن تتطور بتطور
الصناعة اإلعالمية ،وكذلك فالصحافة اإللكرتونية ستزدهر ،ومهنة الصحافة لن تتأثر بوجود ما يسمى «املواطن الصحايف» ألن املواطن اليوم أصبح هو الصحايف.
واالستقالل والتنمية ،ومن ثم وجدت فئة مثقفة ومفكرون قادوا املالية التي تحملوها بمساعدة اآلخرين .اليوم نتحدث عن صحافة
تحتاج إىل تمويل لسد احتياجاتها ،ولم تعد قائمة فقط عىل التنوير وخدمة رسالتها اإلعالمية ،وإن وجد من كان يف هذا املسار تظل تلك
املؤسسات تطلب دعمًا ماليًّا مستم ًّرا حتى إن لم تتعرض إىل خسائر
مادية .املهم ،أن التمويل غالبًا ما يأيت من اإلعالن كمورد أساس أو من جهات أخرى ،وهذا أمر شائك لكنه بسيط بالشرح .فإما أن يكون التمويل سياسيًّا عىل مستوى دول أو تمويلاً حزبيًّا تدعمه دول ،وإن
حدث ذلك فال خوف عىل هذه املؤسسة أو تلك من اإلقفال واملنافسة إذا استطاعت أن تسوِّق نفسها باملادة التي تحتويها.
يف السابق لم يكن هناك من ينافس الصحف اليومية يف التوزيع والوصول إىل القارئ ،سوى من يطبع أولاً وينزل إىل السوق عن طريق
37
الملف الباعة أو املشرتكني ،أما اليوم فاألدوات التي كانت تستخدم يف إنتاج الصحيفة وتحريرها وتوزيعها انقلبت رأسً ا عىل عقب.
قبل سنوات كان اإلعالن محصورًا يف وسائل اإلعالم
املطبوعة مثل :الصحف واملجالت والتلفزيونات يف الغالب ،أما اآلن فقد جاء من يأخذ من حصتها وأعني بها مواقع التواصل االجتماعي ،فواحدة ممن تمتلك موقع بالسوشيال ميديا لديها
FOLLOWERSما يتجاوز الـ 100ألف متابع أي أكرث من توزيع صحيفة يومية مرتني ،يعني باتت تنافس الصحيفة يف عقر دارها،
وهذا ما نعيشه ونتعامل معه؛ ألن صاحب اإلعالن همه أن يصل إىل أكرب شريحة من الجمهور ،وهو ما سوف يجنيه ويحققه
بالتأكيد ،وأقرب مثال واقعي هو حمالت مرشحي مجلس األمة
يف الكويت واإلنفاق املايل عىل الدعاية؛ إذ لم يعد إنفاقهم باملعدل
نفسه عىل خدمات الطباعة واإلعالن يف الصحافة املكتوبة ،نتيجة
لوجود مواقع التواصل االجتماعي التي يلجؤون إليها حيث يقومون بإنشاء قنوات خاصة لهم عىل اليوتيوب واإلنستغرام
عىل سبيل املثال بهدف الرتويج ،وهذه معلومة لـ«الفيصل» إذ قدرت بعض املصادر ذات الصلة بأن قيمة األموال التي تضخ خالل
38
املوسم االنتخابي تراوح ما بني 50إىل 100مليون دينار كويتي ،فكم
يا ترى نسبة اإلعالن يف الصحف ويف غريها من اإلعالم الجديد؟
سكرتري تحرير ومدير مركز املعلومات والدراسات يف صحيفة «القبس» الكويتية
إبراهيم المليفي: السوق اإلعالني أهم من سرعة الخبر
أهم ما يجب النظر إليه هو موضوع السوق اإلعالين
وليس سرعة الخرب ،فمعظم الصحف اليوم أصبحت تنحو
إبراهيم المليفي
خلفان الزيدي
املشكلة يف بروز منافس مثل مواقع التواصل االجتماعي والصحف
اإللكرتونية أم يف جودة ما تقدمه الصحف الورقية نفسها؟ فهل انتهت الصحافة الورقية يف الغرب مثلاً ؟ أظن أنها موجودة وما يكتب فيها أقوى من الذي يكتب عندنا ،لذلك فهي صامدة.
مدير تحرير مجلة العربي الكويتية
خلفان الزيدي: الورقية أكثر احترافية من اإللكترونية
لم يعد يخفى عىل أحد انتشار الصحف اإللكرتونية وهيمنتها
عىل األخبار ،وسرعتها يف الوصول إىل الحدث ونقلها إياه بتطوراته وعىل نطاق واسع .يف الوقت الذي تسجل فيه بعض الصحف
تراجعً ا يف املبيعات وخسائر يف عائداتها إىل حد توقف صحف
وتقليص صفحات صحف أخرى ،كل ذلك واضح للعيان ومعايش
يف الكثري من البلدان .لكن هل ترى كل ذلك سيدفع الصحف الورقية إىل االختفاء؟ هل ستخلو ،مثلاً ،أرفف املكتبات ومواقع
اإلعالن وليس سرعة الخبر هو الذي بإمكانه إنقاذ الصحف الورقية اليوم من حافة «التقليدية» واالنهيار
للمقاالت التحليلية؛ ألن الخرب األسرع تقتنصه الصحف اإللكرتونية ،فاإلعالن
هو الذي بإمكانه إنقاذ الصحف الورقية اليوم من حافة «التقليدية» واالنهيار.
وسائل التواصل االجتماعي بدأت
تسحب البساط اإلعالين والخربي من الصحف الورقية ،بل إن بعض
مشاهري التواصل االجتماعي أصبحوا األبرز إعالنيًّا؛ ألن السوق اإلعالين أوجد لنفسه عالقات واسعة يف مواقع التواصل االجتماعي .ولكن علينا أن
نسأل أنفسنا :ما مستوى الجودة
الذي تقدمه الصحافة الورقية؟ وهل العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
بيع الصحف منها؟ أشك يف األمر ،ويحدوين
بدأت قبل سنوات ،وأتصور أن جريدة األيام يف
بوصفها أكرث مصداقية يف نقل األخبار ،وأكرث
بصورة متواضعة ،ثم تبعتها بقية الصحف
البحرين هي أول جريدة دخلت السباق ،لكن
تفاؤل باستمرار الصحف الورقية والرجوع إليها
البحرينية مثل أخبار الخليج والبالد والوطن
احرتافية من الصحف اإللكرتونية.
والوسط .بطبيعة الحال اليوم الصحافة الورقية يف ً ً ملحوظا يف انخفاضا مختلف دول العالم تسجل
فما زال الكثريون ال يعتدون باألخبار ما لم
يجدونها مربزة عىل صفحات الجريدة الورقية،
وما لم يجد التحليل واملقال واالستطالع املصور،
وما لم يشعر بملمس الورق ،ويصافح الحرب
أسامة الماجد
عدد نسخ البيع ،وهو ما دفع الكثري من الصحف
إىل تقليل النسخ املطبوعة ،وهذا يعود إىل قوة
بأصابعه .فهؤالء ال يجدون متعة يف تقليب األخبار ومقاالت الرأي
الصحيفة اإللكرتونية ،وانتشارها بشكل أسرع؛ إذ أصبح الفرد
صفحات الجريدة ،ويطالعوا خربًا هنا ورأيًا هناك ،ثم يضعوا
تعد الصحيفة الورقية تشكل وجبة يومية دسمة مثل السابق.
عىل شاشة هواتفهم أو األلواح اإللكرتونية ،فهم يريدون أن يقلبوا
الصحيفة جانبهم ،ويستعيدوها متى شاؤوا.
يتصفح عشرات الصحف من خالل هاتفه النقال ويف أي مكان .فلم يف تصوري ،بوصفي أحد املشتغلني يف الصحافة ،أن الصحافة
الصحافة الورقية باقية رغم عرثاتها املادية ..حالها يف ذلك
الورقية ستختفي تدريجيًّا مع مرور الوقت ،وربما قبل عام
إعالمي من سلطنة عمان مهتم بالصحافة اإللكرتونية
وسيضطر الصحايف والكاتب أن يعيش يف هذا العالم الجديد من
حال اإلذاعة والتلفزيون مع السينما واملسرح.
أسامة الماجد:
2030م؛ إذ ستكتفي املؤسسات الصحفية بعدد قليل من املوظفني، بيته ،وسيهجر القلم إىل األبد .هناك بكل تأكيد من يرى ضرورة
استمرار الصحف الورقية بوصفها مرجعً ا ال غنى عنه مثلها مثل
المد التكنولوجي سيقضي على الكالسيكي
الكتاب ،لكن الوضع بشكل عام يقول عكس ذلك .فم ّد التكنولوجيا
يطولها ما يطول بقية الصحف يف أي مكان .الصحافة اإللكرتونية
إعالمي بحريني
الصحافة يف البحرين جزء من القرية العاملية ،وال بد أن
سيقيض عىل كل يشء كالسييك!
صالح غريب :خطة لمواجهة التغير الصحف الورقية سوف تظل مدة طويلة صامدة من املتغري اإللكرتوين الذي نشهده
اليوم ،وهذا الصمود نابع من تلك العالقة التي تشكلت بني القارئ والصحف ،فما زالت الغالبية تعتمد أسلوب القراءة من الصحف الورقية أكرث من غريها من األشكال سواء عرب الجوال أو اآليباد أو الحاسوب؛ ألنه ال يستمتع بالقراءة سوى عرب هذه الوسيلة ،حتى إن
توافرت الوسائل األخرى فال تزال قوية وثابتة ،وإن تأثر سوق اإلعالن بوجود هذه التقنية
الحديثة لكنها ثابتة وقوية .ال شك أن هناك تأثريًا حدث من خالل وجود صحف إلكرتونية
جذبت جمهور الورقي لها ،لكن نسبة استخدام الحاسوب يف متابعة األخبار يف الوطن
صالح غريب
العربي قليلة ،وغالبية املستخدمني من جيل الشباب املراهق الذي يبحث عن مواقع معينة ليست لها عالقة بالصحف ،وإن تغري الوضع اآلن يف ظل دخول مرحلة جديدة. َ بالطبع حدث تغري ولم تعد الصحف الورقية يف الخليج بذلك الزخم السابق ،ومن ثم نلحظ أنه حدث تقليص يف عدد الصفحات
وتصغري الحجم بهدف تقليل املصروفات ،إضافة إىل التأثر املادي ،وتراجع نسب التوزيع الورقي ،وذلك بسبب ظهور الصحف واملواقع والبوابات اإللكرتونية .يف نظري سوف تستمر الصحافة الورقية صامدة إىل مدة طويلة قبل أن تتحول إىل إلكرتونية ،أو يتوقف إصدارها الورقي؛ ألن املواطن العربي ما زال مقبلاً عىل ذلك ،والحضور الجماهريي ملعارض الكتاب خري مثال عىل ذلك.
وهنا عىل الصحف الورقية أن تجد لها خطة بديلة ملواجهة هذا التغري واالهتمام مثل هذه املواقع ،عىل سبيل املثال معرفة فكر ً بعيدا من األسلوب التقليدي ،فلم يعد القارئ يف السبعينيات هو ذاته اليوم ،فإن البحث عن أفكار متطورة تواكب اهتمام القارئ
الشباب هو التحدي ملواجهة املستقبل.
إعالمي ورئيس القسم الثقايف يف صحيفة الشرق القطرية
39
الملف
الصحافة السعودية: من يديرون الصحف كانوا يضعون األموال في جيوبهم وهو ما جعل المستقبل مخيفً ا هدى الدغفق -فواز السيحاني
الجميع ليس متفائلاً على اإلطالقُ :كتاب ،ورؤساء تحرير ،ومحررون ،وأعضاء مجلس إدارة .غالبيتهم ُتكرر الجملة اآلتية :المستقبل مظلم ًّ تأت بعد .ليس جدا ،واآلثار األكثر إيالمً ا لم ِ
ً غرابة هو أن تلك غريبًا أن تكون الصحف الورقية محليًّا وعالميًّا على حافة الفناء ،لكن األكثر ً أحيانا إلى نصف مليار ريال سعودي األرباح الكبيرة التي كانت تجنيها بعض الصحف ،وقد تصل
40
في العام لصحيفة واحدة ،أصبحت هذه األرباح مثل اللبن المسكوب الذي لم يستفد منه؛ لقد كان من األجدر لهذه الصحف الثرية أن ُتخضع بعض تلك األموال الضخمة لالستثمار؛ كي
ً ً ً عوضا عن مواجهة مصير مأساوي مثل الذي تواجهه وأمانا، اطمئنانا تبني مستقبلاً صحفيًّا أكثر اليوم ،لكن ما الذي منع الصحف الثرية من االستثمار؟
العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
املحلل االقتصادي وابن أحد أكرب رؤساء التحرير يف اململكة مازن السديري ،ليس متفائلاً أمام واقع الصحف ومستقبلها محليًّا، وأكد يف حديث لـ«الــفيصل» عىل أنه ال أحد يمكنه إنكار أن الصحف
ملايل؛ «إال أن ما يميز بعضها الورقية حاليًّا يف أزمة عىل املستوى ا ّ مثل «الرياض» مثلاً ،هو توافر السيولة املادية لديها التي تستطيع أن تستخدمها يف أي وقت ،وهذا غري متاح لكثري من الصحف الورقية»،
مشريًا إىل أن األزمة التي تعانيها الصحف يف الوقت الراهن ليست فقط أزمة غياب املُعلِن« ،إنما أزمة عىل مستوى تنويع مصادر الدخل لتلك املؤسسة الصحفية ،وإن كان هذا التنويع عىل مستوى مصادر الدخل كان حاض ًرا يف بعض املؤسسات الصحفية إال أنه ً أيضا لم يجد نفعً ا كما حدث مع صحيفة «اليوم» ،لقد كان أعضاء مجلس إدارتها
هم يف األساس من رجال األعمال وأصحاب تفكري استثماري؛ ففي املايض القريب كان هناك حقائب اقتصادية استثمارية لها خارج إطار
اإلعالن ،إال أنها حاليًّا تعاين ما تعانيه الصحف املتبقية لكن بألم أقل». أيضا إىل أن بعض الصحف ّ السديري االبن لفت ً «فكرت يف االستثمار عىل مستوى شراء مطابع جديدة مثلما فعلت مثلاً
«صحيفة الجزيرة» إال أن هذا االستثمار يعد هدرًا ماليًّا ،ويعرب عن
غياب عقلية تقرأ مستقبل اإلعالم الورقي بشكل حقيقي!» .ويقول: إن هناك بعض الصحف حاليًّا تحتاج إىل اإلنقاذ املبكر؛ نظ ًرا لقرب
هاشم الجحدليُ :كتاب المجامالت المبالَغ فيها وكثرة المكاتب والمكافآت ُ مبان هائلة ،أسهم في لل ُكتاب وتشييد ٍ
تفاقم المشكلة
مازن السديري
عبدالله الكعيد
موتها كصحيفة «الوطن» تليها «الشرق» ،مؤكدًا أن الصحف «تحتاج فعلاً إىل عقلية استثمارية مختلفة؛ وأن ما يعنيه ليس االستثمار
عىل مواقع التواصل االجتماعي أو الحسابات التويرتية ،إنما استثمار مختلف بمعنى إبداعي وحقيقي يخلق أُ ً فقا جديدًا». تفكري ذو أفق قصري
من جهته ،يقول الكاتب الصحايف عبدالله الكعيد الذي كان يكتب
يف صحيفة الرياض ،وخرج منها غاضبًا بعد سلسلة من التغريدات
كتبها عىل حسابه الخاص :إن اإلشكالية الحقيقية تكمن يف مجالس إدارات هذه الصحف« ،إنها لم تكن تفكر أصلاً عىل املدى البعيد؛ بل إن
الجميع كان تفكريه ذا أفق قصري ولم يتجاوز كيفية تسويق الصحيفة عىل مستوى اإلعالنات لدى املعلن» .ويضيف الك ــعيد لـ«الفيصل» أن مجالس اإلدارة «لم تكن تأبه بمصري الصحف التي تقوم بإدارتها،
لقد كان من األجدى استثمار األموال من االحتياطيات التي تمتلكها ً عوضا عن أن يكون هذه الصحف واملوضوعة للتطوير ولألزمات،
بعض من هذه الصحف ليس لديه اآلن أرباح وال استثمار» ،موضحً ا أن غالبية أعضاء مجالس إدارات تلك الصحفّ ، جل ما يستطيعون
قينان الغامدي :تواضع المضمون وراء انصراف القراء أفضل ما يمكن أن تفعله الصحافة الورقية يف هذه الظروف أن تعزز مواقعها اإللكرتونية،
وتسلك يف ذلك سبيل الصحافة العاملية النابهة التي تنمو بصورة سريعة إلكرتونيًّا يف مقابل
استمرار هبوط توزيعها الورقي .هذا جانب والجانب اآلخر هو ضرورة االعتناء باملضمون؛ إذ هو البطل بغض النظر عن وسيلة اإلعالم سواء كانت ورقية أو إلكرتونية.
تستطيع الورقية أن تواكب الحدث محليًّا وعامليًّا من خالل موقعها اإللكرتوين ،وتركز
عىل الرأي والتحقيقات االستقصائية وما وراء األحداث يف نسختها الورقية ،حتى إذا حان موعد إيقاف الورق تنتقل الصحيفة بكاملها إىل وسيلة النشر اإللكرتوين ،وهي بكامل قوتها ولياقتها وحضورها.
قينان الغامدي
الصحافة الورقية أضاعت حتى اآلن زم ًنا طويلاً من دون عناية بمواقعها اإللكرتونية ،وال ننس تواضع املضمون الذي دفع ً مضمونا وأسرع توصيلاً .وال أظن أن هناك اختالفات جوهرية كبرية بني القارئ إىل اإلشاحة عنها والتحول إىل وسائل أقوى
الصحف العربية والخليجية والسعودية ،فهي يف املستوى نفسه تقريبًا من حيث الرتابة وعدم االلتفات للقفزات التي تحدث من حولها يف مجاالت وسائل التواصل والصحف اإللكرتونية.
صحايف وكاتب سعودي
41
الملف فعله هو انتظار األرباح «إليداعها يف حساباتهم الخاصة ،ومن ثم يذهبون إىل بيوتهم آمنني مطمئنني .مجلس اإلدارة ورئيس
مجلس اإلدارة املنتخب من الجمعية العمومية؛ من النادر أن يكون رجلاً اقتصاديًّا إنما هو مجرد إداري يدير مؤسسة فقط
كغريه من املديرين يف القطاعات الحكومية املختلفة! ال يوجد هناك أحد يفكر يف االستثمار يف املعرفة اإلعالمية رغم أهميتها، ُ ناس متخصصني يفهمون كيف يستثمرون وهي بحاج ٍة إىل أ ٍ ويطوّرون تلك الصحف؛ يك ال تواجه أزمة مخيفة كما يحدث اليوم .كان رئيس التحرير يف السابق هو من يدير املؤسسة وهو يف الغالب يفتقر لعقلية صناعة املال!!». حلول ال إنسانية
يكونوا يستثمرون األرباح السابقة ،وهذا هو الذي دمّر الصحف.
إنهم يأخذون األموال ويضعونها يف جيبوهم ،وهو ما جعل مستقبل ً مخيفا وخط ًرا ،وما سيرتتب عىل ذلك يحتاج إىل حديث الصحف طويل ،وتفنيد واستقراء يصعب اختصاره».
يف حني أوضح نائب رئيس تحرير صحيفة عكاظ هاشم الجحديل أن املشكلة التي تحدث اآلن يف الصحف «ليست من املُلاَّ ك وحدهم.
رئيس التحرير السابق عبدالوهاب الفايز كان تعليقه
يجب أن نعرف أن العقلية التجارية نفسها ما كانت عقلية استثمارية
لـ«الفيصل»« :من يديرون املؤسسات الصحفية الورقية لم
وتوزيع مكافآت ُ للكتاب مبالغ فيها ،إىل جانب استكتاب ُكتاب َ مبان هائلة كأن الصحف وزارات أو مجامل ًة ،إضافة إىل تشييد ٍ
مقتضبًا عىل ما يحدث من أزمة للصحافة الورقية؛ إذ قال
عبدالوهاب الفايز :من يديرون
42
عبدالوهاب الفايز
هاشم الجحدلي
المؤسسات الصحفية الورقية لم يكونوا يستثمرون األرباح السابقة دمر الصحف وهذا هو الذي ّ
حقيقية ،ومن ثم كان رئيس التحرير يريد مزيدًا من املكاتب ملحرريه،
إمرباطوريات ،كل ذلك أسهم يف تفاقم املشكلة؛ من ناحية زيادة املصاريف؛ ففي عكاظ مثلاً كانت أرباح إحدى السنوات نحو 500مليون ريالُ ، وخصم نحو 400مليون ريال مصاريف عىل املنشآت التي قامت ببنائها واملكاتب التي أسستها».
وأشار إىل أن القائمني عىل الصحافة الورقية «كانوا يضعون
محمد التونسي :ليست الحال سيئة إلى هذا الحد ثمة فرص ،وليست فرصة واحدة ،لتحافظ الصحافة الورقية عىل عالقتها بالقارئ
واملعلن معً ا .املحتوى سيد املوقف ،به تنهض الوسيلة أو تقع ،ليست الحال سيئة إىل هذا الحد بالنسبة للصحف الورقية ،فاملعلن ال يزال يثق بها ،والقارئ يبحث عنها .الفارق اآلن
هو هامش املنافسة الذي خلقته وسائل التواصل واملنصات اإللكرتونية التي تتفوق بالسبق
الخربي ،لكن األشكال الصحفية األخرى ال تزال حية وقادرة عىل إيجاد مكان لدى القارئ. وإن كان من فكرة غري املحتوى لتجويد املنتج ،فهي بال شك الحافزات البصرية يف اإلخراج، والصورة ،واإلنفوغرافيكس ،إىل جانب ربط الورق باملنتجات اإللكرتونية األخرى للوسيلة. لم تنت ِه الصحافة الورقية بعد لنتحدث عنها بصيغة الراحلة ،وإن كانت بعض
محمد التونسي
الصحف تمادت يف اعتقادها بعدم وجود منافس ،وهو ما أثر يف أرقام التوزيع ،لكنها حتى اللحظة ال تزال العبًا أساسً ا يف اإلعالم .القارئ الواعي موجود يف كل بقعة من العالم ،وهو ما تراهن عليه الوسيلة اإلعالمية ،تتشابه الوسائل ويتقاطع بعضها مع بعض ،لكنها تختلف ً وفقا لشكل املحتوى جغرافيًّا .النسخة الورقية من الصحف صارت متاحة للقارئ يف أقايص األرض ،وهو ما يحفز عىل البحث عن فرص يف أسواق مختلفة .تبقى الصحافة السعودية املساحة األوسع نظرًا للتنوع
املجتمعي والجغرايف قياسً ا بنظرياتها يف الخليج ،التي بذاتها أكرث استقرارًا من الصحافة العربية التي تخضع للمزاج السيايس، يف حني يشرتك جميعها يف إشكالية التمويل ،وإيجاد منافذ جديدة لالستثمار والربح.
رئيس تحرير صحيفة الرؤية اإلماراتية
العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
يف تفكريهم أن خصمهم الوحيد واألوحد هو الصحف اإللكرتونية؛ لذلك أخذوا بجهد وتكاليف قليلة استقطاب
عقليات تقنية إلنشاء مواقع متطورة؛ يك يدخلوا يف منافسة مع املواقع اإللكرتونية ،والذي حدث هو عكس
خالد الفرم :الصحافة السعودية سقطت في فخ الفردية في اإلدارة
ذلك تمامًا» ،مؤكدًا أن الصحف اإللكرتونية «هي نفسها
أول ال بد من اإلشارة إىل أن
التواصل االجتماعي وليس من بدائل الصحف الورقية مثل
إعالمية هو معدل التوزيع ،وال
الجحديل لـ«الفيصل» :إن خصم الصحافة الورقية اآلن «هو
والتقني أثرت بشكل كبري يف توزيع
يجب أن تواجه املشكلة ،وأن تعيد تكييف املصاريف ،وأن تكون الحلول املقدمة حلولاً م ّتزنة وواقعية وليست حلولاً
توزيعها إىل أكرث من ٪٥٠كما
أصبحت يف املأزق نفسه؛ ألن الضربة أتت من مواقع
املقياس الرئيس يف تقييم أي وسيلة
املواقع اإللكرتونية املتخصصة يف الجانب اإلعالمي» .ويقول
شك أن متغريات املشهد اإلعالمي
خصم متج ِّدد ومتغريٌ ،والصحف الورقية بكوادرها القيادية
الصحف السعودية التي تراجع فقدت أكرث من ٪٦٠من مداخيلها
خالد الفرم
ال إنسانية ،مثل فصل املحررين الذين أتت بهم الصحيفة ً ً مالية مغرية وهم يف السابق كانوا يف عروضا وقدمت لهم
يحقق وظائفه الرئيسة ،نحو توفري املعلومات وربط املجتمع بعضه
وذكر أن إعادة تكييف املصاريف والروافد األخرى يمثل
يف انتشار الشائعات والقلق االجتماعي وحالة عدم اليقني ،ومغادرة
وظائف أخرى».
اإلعالنية ،واألهم من ذلك هو حاجة املجتمع إىل نظام إعالمي فاعل، ببعض وتعزيز الثقة ،فنقص املعلومات يف النظام اإلعالمي يسهم
أحد الحلول املهمة ،علمًا بأن اإلعالن ال يزال وسيزال قائمًا،
الجمهور نحو اإلعالم البديل بعيدً ا من اإلعالم الوطني .الصحافة
الحل اآلن وفق رأي نائب رئيس تحرير صحيفة عكاظ، يجب أن يكون حلاًّ بالشراكة ،بمعنى أن يكون اإلعالن
شبكات التواصل االجتماعي ،بل بسبب هشاشة البنى الصحفية،
وهو ركيزة أساسية من ركائز التجارة.
الحكومي حاض ًرا ومدعومًا ،وأن تكون هناك مطابع تقام بالشراكة ً عوضا عن أن تقوم كل صحيفة بإنشاء مطبعتها
الخاصة التي تكلف الكثري من األموال.
الورقية تواجه تحديات عدة ،ليست بسبب سطوة التقنية وهيمنة
وتغري اقتصاديات اإلعالم ،وضعف إدارة املؤسسات اإلعالمية، وبخاصة مع غياب الصحافة االستقصائية ،وهيمنة األداء التقليدي يف
السياسات التحريرية للصحف الورقية التي تنتظرها تحديات اإلفالس وشبح اإلغالق خالل سنوات معدودة .والتوجهات الحديثة يف صناعة
الصحافة املعاصرة هي الرتكيز عىل الصحافة االستقصائية ،والتحول نحو التخصص باملعنى الجغرايف واملوضوعي ،وكذلك االستثمار يف اإلعالم الجديد من خالل دمج املنصات وغرف األخبار.
الصحافة السعودية أضاعت عىل نفسها فرصة تأسيس صناعة
صحافية وإعالمية راسخة ،فسقطت يف فخ الجمود والفردية يف إدارة املؤسسات الصحفية ،وهو ما أحدث تشوهات حادة يف أداء
املؤسسات الصحفية التي انعكست سلبًا عىل الصحفيني الذين هم
العنصر الرئيس يف العملية اإلعالمية ،وكذلك انعكست عىل األداء واملنتج الصحفي.
هناك تشابه بني الصحف السعودية والخليجية والعربية يف
التحديات ،واختالف يف املعالجات ،فالكثري من املؤسسات الصحفية ً وصحفا الخليجية أو العربية مؤسسات إعالمية شاملة ،تمتلك قنوات
وإذاعات ومواقع إلكرتونية ومطبوعات متعددة ،ومن ثم فهي َّ سلة ً هامشا كبريًا من الحركة من االستثمارات اإلعالمية ،وهو ما يتيح لها باملعنى اإلعالمي واالقتصادي ،بعكس الصحف السعودية أحادية االستثمار واملنتج.
أكاديمي وإعالمي سعودي
43
الملف
حل األزمة يكمن في التكيف مع المستجدات جعفر العقيلي
سكرتير التحرير في «الرأي» األردنية
ّ المحك ،ولو لم يكن األمر بهذه الخطورة لما بال شك ،مستقبل الصحافة الورقية على خصصت «الفيصل» ًّ ملفا لمناقشته .وإذا كان هناك من نظرة تشاؤمية تجاه المستقبل الذي الشرس ينتظر الصحافة الورقية ،فلهذه النظرة مشروعيتها في ظل اشتداد ُعود المنا ِفس ِ
المتمثل في النشر اإللكتروني .وربما لو أن نسبة مستخدمي اإلنترنت في المنطقة العربية أعلى
44
مما هي عليه ،لكانت الصحافة الورقية التي أنتمي إليها وأنحاز لها وجدانيًّا ،في مرحلة اإلنعاش
أو لكانت تلفظ أنفاسها األخيرة.
العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
وعىل الرغم من ذلك ،ربما استعجلت شركة «مايكروسوفت» قليلاً حني أعلنت منذ سنوات أن العالم
سيشهد طباعة آخر صحيفة ورقية يف عام 2018م .فمن الواضح أن األمر يحتاج إىل مدة أطول ،حتى يف الدول ً ُ عزوفا متزايدً ا عن االستطالعات فيها املتقدمة التي تؤكد الصحافة الورقية واملطبوعة واتجاهً ا أكرث نحو الصحافة اإللكرتونية لتلقي الخرب واملعلومة .فما بالك باملنطقة العربية
ٌ مساحات واسعة فيها انتشا َر األمّ ية التقنية (وإنْ التي تعاين
يكمن أحد المخارج ألزمة الصحافة الورقية في األردن ،في أن تعمل الحكومة على إعفاء مدخالت اإلنتاج (الورق والحبر ومعدات الطباعة) من الضرائب ،وزيادة عدد االشتراكات الحكومية ورفع حصة هذه الصحف من اإلعالنات الشرف الصحفي ،وعدم اللجوء إىل االبتزاز والتشهري
سب متفاوتة) ،وضعف البنية االتصالية التحتية فيها. بِ ِن َ أما ما َت ّ وقعه الخبري اإلعالمي «فيليب ماير» يف عام 2004م
والتجريح وإطالق اإلشاعة واإلساءة إىل كرامات األسر ّ والكف عن املمارسات التي تيسء ملصداقية اإلعالم. واألفراد،
ً ً واقعية من استطالع «مايكروسوفت» منطقية أو أنه أكرث
التخطيطّ ، وقلة املردود املتأيت من اإلعالن مقارنة بالصحف
ّ لتحل محلها من اختفاء جميع املطبوعات خالل ثالثني عامً ا مصادر األخبار اإللكرتونية ،فيبدو ُّ ّ محله ،رغم توقعً ا يف غري
ومن نافل القول :إن معظم الصحف اإللكرتونية تعاين هي ً أيضا صعوبات مالية تتعلق بالتمويل ،وغياب
السابق الذكر .لكن هل علينا أن نلقي بالالئمة عىل الصحافة
الورقية ،فما زال املعلِن يشعر بعدم الثقة بالصحافة
ال .فهناك أزمة مالية ضربت صناعة الصحافة يف العالم، فأُغلقت صحف ،وتحولت أخرى إىل الصيغة اإللكرتونية...
الشرائح التي يستهدفها .كما أن الصحافة اإللكرتونية تلجأ
سبب هذا املصري الذي ينتظرها؟ من املؤكد: الورقية بوصفها َ
وهناك صحف آثرت أن تصمد قليلاً ولو بكثري من التضحيات.
اإللكرتونية ،وال ينظر لها بجدّ ية كافية لتكون نافذته عىل كثريًا إىل االستنساخ من الصحف الورقية ووكاالت األنباء،
ويحدث هذا يف ظل غياب الرقابة واملحاسبة يف الغالب .وقد
ومن ذلك :إعادة الهيكلة ،واالستغناء عن موظفني ،وإغالق
فوسعت نقابة الصحفيني جرى االنتباه إىل هذه املسألة، ّ
وتخفيض مستوى الجودة يف الطباعة ...إلخ .ومن الواضح
الذي جرى منتصف عام 2014م ،ومن التعديالت املهمة عىل
مكاتب ،وإنهاء عقود مراسلني ،وتقليص عدد الصفحات،
األردنيني مظلة العضوية فيها يف التعديل األخري عىل قانونها
أن هذا املسار الحلزوين الذي تشهده الصحافة الورقية ليس َّ مرشح إىل املزيد من التدهور. مؤق ًتا ،وأنه
القانون واملرتبطة بالصحف اإللكرتونية ،يُشرتَط أن تنطبق ُ نفسها املطلوب توافرها يف الشروط عىل رئيس التحرير ُ
املتصفح استخدام أكرث من حاسة يف الوقت نفسه(املشاهدة ،والقراءة ،واالستماع ً أيضا) .وإذا كانت الصحافة
وإذا لم تتكيّف الصحافة الورقية مع املستجدات،
فستزداد أزمتها ،وربما تواجه ما يمكن دعوته «الداروينية
طريقة صياغة الخرب وشكله وأسلوب تحريره ،اعتمادًا عىل
البقاء ،وهو ما يعني يف النهاية أن البقاء لألقوى .ويكمن
ويف املقابل ،فإن الصحافة اإللكرتونية تتيح للقارئ
رئيس تحرير املطبوعة الورقية.
اإللكرتونية أسهمت عامليًّا يف إحداث ما يشبه االنقالب يف
اإلعالمية» ،أي أن يُطبَّق قانون «داروين» عليها؛ صراع
التكثيف واالختزال ،فإن هذه السمة تبدو غري متحققة يف عدد كبري من الصحف اإللكرتونية العربية ،فجُ ّل ما تنشره
أحد املخارج ألزمة الصحافة الورقية يف األردن ،بأن تعمل الحكومة عىل إعفاء مدخالت اإلنتاج (الورق والحرب
إىل املناقبية املهنية واألخالقية ،وهو ما دعا نقابة الصحفيني
الضرائب ،إضافة إىل زيادة عدد االشرتاكات الحكومية
املواقع اإلخبارية ال يلتزم بتقاليد العمل الصحايف ،ويفتقر
ومعدات الطباعة) من الضرائب ،أو عىل األقل تخفيض
األردنيني –عىل سبيل املثال -إىل إصدار بيان أواخر عام 2014م َ وسائل اإلعالم إىل ممارسة عملها يف إطار مواثيق دعت فيه
بالصحف الورقية ،ورفع حصة هذه الصحف من اإلعالنات، وتعزيز استقاللية املؤسسات الصحفية إداريًّا وتحريريًّا.
45
الملف
صحافة دول المغرب العربي.. نهايات مأساوية ..وأفق مسدود ميلود بن عمار
46
صحافي جزائري
قبل أسابيع ،خاض صحفيو جريدة «صوت األحرار» الجزائرية موجة من االحتجاجات؛ بسبب عدم ّ تلقيهم أجورهم لعدة أشهر .هذه األزمة ،دفعت هؤالء إلى االعتصام أمام مقر حزب جبهة التحرير الوطني ،وهو من أقوى األحزاب السياسية الجزائرية؛ لمطالبة رئيسه بالتدخل إلنقاذ هذه الصحيفة الناطقة بلسان الحزب من األوضاع المالية الصعبة التي أصبحت ُتنذر تأسست سنة 1998م. بإغالق هذه الصحيفة التي ّ
العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
ويف الحقيقة ،ال ُت ّ شكل وضعية هذه الصحيفة نشا ًزا ،بعدما ٌ صحف كثرية منذ بوادر األزمة االقتصادية التي تعيشها أفلست
الجزائر ،والبقية الباقية من الصحف األخرى تنئُّ تحت وطأة جملة من الظروف التي قد ُتعجّ ل بنهاية العهد الذهبي للصحافة
الورقية الجزائرية .وتتشابه أوضاع الصحافة الورقية يف الجزائر مع جارتها الشرقية (تونس) ،وجارتها الغربية (املغرب) ،مثلما
ما عجل بانحسار دور الصحافة الورقية في الجزائر االنتشار العددي ( 160عنوا ًنا يصدر يوم ًّيا) وعدم التطور من ناحية المهنية واالحترافية وصناعة المضمون
تتشابه األعراض التي أدّت إىل هذه النهاية
يُسمّى عندنا «الصحافة الجوارية» ،أي تلك التي تهتمُّ بنقل انشغاالت املواطنُ ، وتعنى
املأساوية التي تعيشها الصحف الورقية يف
بلدان املغرب العربي الثالث ،وهي األعراض
بشؤونه الحياتية املباشرة» .ومن األمور
التي عجّ لت بالدفع باتجاه هذا األفق املسدود.
األخرى التي عجّ لت بانحسار دور الصحافة
ويبدو أنّ هذا املشهد ،ما هو يف حقيقة األمر سوى رجع صدى ملا ُتعانيه الصحافة عرب
الورقية يف الجزائر ،بحسب نذير بولقرون،
االنتشار العددي إىل درجة «التعويم» (160 ً عنوانا يصدر يوميًّا) إضافة إىل كثري من
العالم بعد ظهور تقنية اإلنرتنت التي غيرّ ت
الكثري من املفاهيم ،ليس يف قطاع اإلعالم وحسبّ ،إنما يف مجاالت الحياة كافة. ولهذا حاولت مجلة «الفيصل» أن تستطلع
الدوريات األسبوعية والشهرية ،لك ّنها يف
نذير بولقرون
وجود هذه التخمة العددية« ،لم تتطوّر من ناحية املهنية واالحرتافية وصناعة املضمون
أحوال الصحافة الورقية يف بلدان املغرب العربي الثالث :الجزائر،
(املحتوى) ،كما كان من املفرتض أن تتحوّل الصحف الجزائرية الكربى إىل مؤسسات ،وهذا ما لم يحدثّ ، بكل أسف ،وبقي
السؤال الذي يج ُّر حتما إىل الحديث عن األسباب التي تقف وراء
الصحف».
وتونس ،واملغرب ،متسائلة عن حقيقة األخبار التي نطالعها يوميًّا
بخصوص أفول عناوين صحفية كثرية عجزت عن املقاومة ،وهو ذلك ،مع تقديم محاولة فهم جذور هذه األزمة من أفواه بعض رجاالت مهنة املتاعب يف الجزائر وتونس واملغرب.
االنتشار العددي للصحف ّ عجل بانحسار دورها
يرى نذير بولقرون ،مدير تحرير يومية «صوت األحرار» ،أنّ
الصحافة الورقية (املكتوبة) ،مه ّددة بخطر ،ليس فقط االنكماش، «ولكن الزوال ً أيضا ،وهذا األمر نتيجة لعوامل
الجانب التجاري هو الذي يفرض سلطته عىل أصحاب هذه
47
ُّ بالتجدد والبحث عن التمويل مطالب
من جانب آخر ،يُؤكد العربي ونوغي ،املدير العام لجريدة «املساء» الحكومية ،أنّ ثورة التكنولوجيات الحديثة ّأثرت يف أوضاع الصحافة املكتوبة يف العالم ،وليس الجزائر وحسب؛
بسبب كونها غري مكلفة ،فـ«يكفي أن تحمل بني يديك حاسوبًا ً مرتبطا باإلنرتنت ليكون أمامك العالم ّ كله»،
كثرية أهمُّها :انتشار الفضائيات وظهور تكنولوجيات االتصال الحديثة التي ُت ّ مكن
مدير «املساء» ،صار عملية مكلفة« ،وتحتاج
ّ مدعمً ا بالصوت والصورة ،وهذا ما يجعل
وعشرات املوظفني من صحفيني وإداريني
يف حني إصدار صحيفة ورقية ،مثلما يؤكد
إىل طباعة ،وشبكات توزيع ،وإدارة فعّ الة،
متابع األحداث من الوصول إىل الخرب يف حينه
الصحافة املكتوبة تعاين انحسار املقروئية،
وتقنيني ،وغري ذلك ،لتصل إىل القارئ يف
حتى يف الديمقراطيات العريقة ،حيث صارت
الوقت املناسب» .وعىل هذا األساس ،يرى مدير «املساء» ،أنّ الصحافة الورقية يف
الصحافة الورقية تعاين أزمات مالية بسبب ضعف اإلشهار .وقد عجّ ل ذلك بمحاولة كثري
من الصحف أن تتكيّف مع األوضاع الجديدة
من خالل مسارعتها إىل إنشاء طبعات إلكرتونية».
الجزائر «فقدت ،وهي تفقد يوميًّا ،املزيد من
قرائها لصالح اإلعالم اإللكرتوين والتلفزيوين وشبكات التواصل االجتماعي؛ إذ إنّ تلك الوسائط ّ توفر املعلومة
العربي ونوغي
وإلعطاء الصحف الورقية يف الجزائر جرعة من ُ األكسجني
ّ وبأقل التكاليف ،ومهما بعُ د مكان الشخص يف الوقت املناسب،
الرتكيز عىل صحافة الرأي ،وثانيهما االهتمام بشكل أساس بما
مجاالت حركة الصحافة الورقية ،تلك الصحف التي يُطلق عليها
ُتمدّد بعض اليشء يف دورة حياتها ،يؤكد مدير «صوت األحرار» ّأنه «من املمكن أن نطيل يف عمر الصحافة بأمرين اثنني :أولهما
الذي يطلبها». ّ وال يستثني العربي ونوغي من هذه القاعدة ،التي تقلص
الملف
48
يف الجزائر صفة «الصحافة العمومية» ،أي التابعة للدولة؛ ّ ألنها تخضع كغريها من املؤسسات ملنطق السوق ،عىل اعتبار ّأنها مؤسّ سات ذات طابع اقتصادي وتجاري؛ فهي تعتمد بشكل أساس عىل مداخيلها من اإلشهار ،وال تتم ّتع بأيّ دعم حكومي ،وهو ما يجعلها عرضة لالندثار واالختفاء
تحت طائلة اإلفالس كغريها من الصحف األخرى .ويُطالب
مدير يومية «املساء» هذه الصحف بضرورة «التجدُّد وإيجاد بدائل تمويلية إذا أرادت االستمرار والبقاء» ،ويضيف قائلاً « :نحن الصحيفة األوىل يف صحف القطاع العام سحبًا ومبيعات ،لك ّننا األضعف يف الحصول عىل اإلشهار
ُ رفعت راية النضال منذ تنصيبي قبل سنة العمومي؛ لذلك
عىل رأس هذه املؤسّ سة للمطالبة بوضع ميكانيزمات وآليات دقيقة يف توزيع اإلشهار الذي تستفيد منه ّ كل الصحف
عشرات الصحف اليومية واألسبوعية، التي ظهرت في تونس بعد ثورة 14يناير 2001م ،مستفيدة من إلغاء تراخيص اإلصدار السابقة التي اضطرت اعتمدها النظام السابق ،قد ّ ُّ والتوقف نهائ ًّيا عن إلى غلق أبوابها أدى بأصحابها إلى الصدور ،وهو ما ّ تسجيل خسائر مالية كبرى
الجزائرية ،سواء كانت عمومية أو خاصة ،وهذا باالعتماد عىل مقاييس السحب واملبيعات والتوزيع».
الصحافة الورقية تسري إىل زوال
يعتقد نجم الدين العكاري ،رئيس تحرير صحيفة «األنوار» األسبوعية ،أنّ أوضاع الصحافة الورقية يف تونس ُتشبه أوضاع
مثيالتها يف أغلب بلدان العالم؛ إذ تبدو ّ كأنها تسري إىل زوال،
لكن بخطوات بطيئة ،متأثرة بانتشار اإلنرتنت والهواتف الذكية
التي ق ّدمت خدمة كبرية للصحافة اإللكرتونية واملواقع اإلخبارية، واإلذاعات والقنوات التلفزيونية ً أيضا ،وكذلك مواقع التواصل االجتماعي وصحافة املواطن .وللتدليل عىل أزمة الصحافة الورقية يف تونس ،راه ًنا ،يؤكد نجم الدين العكاري ،عىل أنّ عشرات
الصحف اليومية واألسبوعية ،التي ظهرت بعد ثورة 14يناير
2001م ،مستفيدة من إلغاء تراخيص اإلصدار السابقة التي اعتمدها ُّ والتوقف نهائيًّا عن النظام السابق ،قد اضط ّرت إىل غلق أبوابها الصدور ،وهو ما أدّى بأصحابها إىل تسجيل خسائر مالية كربى.
ويرى العكاري أنّ أسباب إفالس هذه الصحف تعود أساسً ا
إىل ضعف مقروئية الصحف ،وضيق سوق اإلشهار نتيجة
األزمة االقتصادية ،واتجاه املستثمرين إىل الضغط عىل نفقاتهم بالتقليص يف ميزانية اإلشهار وتخصيص الجزء األكرب منها إىل اإلذاعات والتلفازات.
وللتدليل مرة أخرى عىل أنّ الصحافة الورقية يف تراجع،
يشمل حجم السحب والتوزيع وحجم التأثري يف الرأي العام،
العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
فإنه يُلحظ أنّ الصحافة الحزبية اختفت تمامً ا
عائدات اإلشهار ،وعائدات البيع ،وهو
أو تكاد؛ إذ إنّ البالد تضم نحو 210أحزاب،
ما دفع بالحكومة ،تحت ضغط نقابتي
هي «الفجر» تصدر بانتظام ،وهي تابعة
إىل تقديم مساعدات للمؤسسات بقصد
اإلعالميني ومديري املؤسسات اإلعالمية،
وال توجد فيها إال صحيفة أسبوعية واحدة
اإلبقاء عليها ،ومنها دفع مساهمتها يف
لحركة النهضة اإلسالمية ،يف حني تعتمد
صناديق الضمان االجتماعي ،وخاصة
بقية األحزاب ،ذات الحضور القويّ يف املشهد
أنّ عائداتها تراجعت بنسبة ثالثني باملئة. ُ ويتأسف العكاري يف نهاية تشريحه ألوضاع
السيايس ،عىل مواقع إخبارية تابعة لها
أو مموّلة جزئيًّا منها وصفحات الفيسبوك
للدعاية
ألنشطتها
والرتويج
ألفكارها.
وللتدليل للمرة الثالثة عىل ضعف مقروئية
نجم الدين العكاري
الصحف الورقية التونسية خالل السنوات األخرية يف بلد تعداد سكانه 11مليون نسمة ،ي ّ ُعلق رئيس تحرير صحيفة «األنوار» ،بأنّ الصحيفة األوىل انتشارًا ،وهي جريدة «الشروق» اليومية ،ال يزيد
سحبها عن 80ألف نسخة ،يف حني أنّ سحب يوميات وأسبوعيات ً أحيانا. أخرى ،ال يتعدّى عشرين ألف نسخة ،وال يصل إليها وقد تكون األزمة االقتصادية وتراجع القدرة الشرائية
واإلنفاقية للتونسيني وراء تراجع املبيعات؛ إذ إنّ سعر الصحيفة
يراوح بني 700و 800مليم ،أي تقريبًا ثلث دوالر ،وهو ما يعادل سعر ثالثة أرغفة خبز .إضافة إىل معاناة الصحف الورقية تراجعَ
الصحافة الورقية التونسية بقوله« :لم يتم
إىل اآلن البدء يف تنفيذ هذا القانون الذي
صادق عليه الربملان ،كما لم يتم إىل اآلن ،االتفاق عىل كيفية
توزيع اإلشهار العمومي عىل الصحف».
مخططا لدعم الحكومة المغربية وضعت ً قطاع الصحافة ،لك ّنه يبقى ،بحسب ٍ كاف ،وهذا ما يجعل صحافيين غير الصحف أمام خيارات محدودة لضمان البقاء واالستمرارية
49
الصحيفة في المغرب تحولت وسيلة تقليدية يرى حكيم بلمداحي ،مدير تحرير جريدة «األحداث املغربية» ،التي ُتص ّنف من
أوائل الصحف املستقلة يف املغرب ،وقادها يف بدايتها نخبة من الصحافيني ،كما
املبني عىل قيم الحداثة والديمقراطية ،بأنّ «الصحافة حافظت عىل خطها التحريري ّ ّ الورقية املغربية تعيش مرحلة صعبة؛ إذ قلت املبيعات بشكل كبري ًّ جدا .هذا األمر،
ّأثر بشكل كبري يف الصحافة ،التي هي أصلاً قيد التشكل .ومعظم الصحف الورقية باملغرب اليوم تعيش ضائقة مالية ،تؤثر يف العاملني ويف جودة اإلنتاج» .وما زاد
الطني بلة ،بالنسبة ألوضاع الصحف الورقية املغربية ،مثلما يُشري إىل ذلك حكيم
ري التقنيات الجديدة يف مجال التواصل الذي يعد من األمور التي ال بلمداحي« ،تأث ُ
يجب إغفالها؛ إذ كان لهذه التقنيات فعل الزلزال عىل الصحافة الورقية .هذا أم ٌر
حكيم بلمداحي
واضح؛ ألنّ معظم القراء املفرتضني يستعملون الهاتف النقال ملتابعة األخبار .يف املغرب اليوم ،يوجد نحو 18مليون مغربي
يستعملون اإلنرتنت .ومعظم القرّاء املفرتضني يستعملون الهاتف املحمول .بمعنى أنّ سلوك القراءة واملتابعة تغيرّ تماشيًا مع الجديد يف عالم التواصل .وهكذا أصبحت الجريدة وسيلة تقليدية تستعمل من جانب فئة قليلة ًّ جدا من الناس…».
ٍّ تدن ملموس .وأفضل جريدة ال ويُتابع مدير تحرير جريدة «األحداث املغربية» بأنّ «قراءة الجرائد يف املغرب يف تتجاوز سقف 50ألف نسخة يف السحب ،أمّ ا املبيعات فال تتجاوز ً 30 ألفا» .وأمام هذه األوضاع الصعبة التي تم ُّر بها ً مخططا لدعم قطاع الصحافة ،لك ّنه الصحافة الورقية املغربية ،يؤكد حكيم بلمداحي ،بأنّ الحكومة املغربية وضعت كاف« ،وهذا ما يجعل هذه الصحف أمام خيارات محدودة لضمان البقاء واالستمرارية؛ إذ يبقى يبقى ،بحسب رأيه ،غري ٍ ّ ّ اعتمادها من أجل تحقيق التوازنات املالية عىل اإلشهار وبعض الدعم الذي تتلقاه ،وهما يف كل األحوال ،ال يسمحان
ّ املهددة باالندثار». بظروف عمل جيّدة بالنسبة لهذه الصحف
الملف
اليمن.. عشرات الصحف توقفت والصحافيون تشتتوا بين المعتقالت والهجرة واالصطفاف الحربي لطف الصراري
50
صحافي يمني
يمر الحديث عن الصحافة الورقية في اليمن ،بسياقات إجبارية تتعلق بأمرين :صورتها التي ّ التخلق منذ النصف األخير لعقد التسعينيات ،وما صارت إليه في المشهد المأساوي كانت في طور الراهن .مسار منحشر بين زمنين؛ زمن تجسده صورة غير مكتملة التظهير ،وزمن يجسده مشهد انهيار مستمر للمناخ المالئم للعمل الصحفي .هكذا باتت الصحافة الورقية مثيرة لحنين قرائها على ّ قلتهم في هذا البلد .ذلك أن ما كان متاحً ا لهم من إصدارات صحفية يمارسون من خاللها متعة القراءة المتنوعة ،تالشى نهائيًّا .حنين لزمن كانت فيه الصحافة بدأت لتوها التنفس برئتي األلفية طقسا يوميًّا يحرصون على أدائه قبل الذهاب إلى العمل، الثالثة ،وكان المرور على أكشاك الصحف ً أو حين عودتهم ،متأبطين جريدة تحتوي ما يثير اهتمامهم ونقاشهم في جلسات المقيل.
العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
ً وفقا للمعايري الصحفية دوليًّا ،وعدد الصحف التي
يف زمن الصورة غري مكتملة التظهري ،عملت الصحف
تخطت املئة صحيفة يف عموم اليمن ،لم يكن زمن الصورة غري املكتملة ،زم ًنا ذهبيًّا لصحافة مزدهرة مهنيًّا .رغم ذلك ،قليل
بحيث تواكب االستفادة منه تجاريًّا .لكنها استفادة لم تتقدم
كذلك ،عرب تفعيل حق الحصول عىل املعلومة وكسر نمطية
األخبار العاجلة ،وفتح نافذة صغرية لإلعالنات .غري أن مواردها
من الصحف األهلية التي ظهرت بعد عام 2005م ،حاولت جعله
اإلعالم الحكومي والحزبي ،ورفع نسبة أجور الصحفيني إىل حد ما ،وانتهاج خط تحريري مغاير وغري متحيز .غري أن رئتي
األلفية الثالثة التي ساعدت الصحافة الورقية عىل التنفس
الورقية عىل تقليص الهوة التنافسية مع اإلعالم اإللكرتوين، أبعد من استيعاب أرشيف املادة املنشورة ورقيًّا ،ومقتطفات
األساسية ظلت معتمدة عىل اإلعالن الورقي ،واملبيعات املعتمدة بدورها عىل قلة من القراء اعتادوا املرور عىل املكتبات واألكشاك صباحً ا ،أو من يصادفون بائعً ا متجولاً لشراء صحيفة .أما
بشكل أفضل ،وإحراز تقدم نسبي يف مستوى املهنية والتوزيع والعمل املؤسيس إجمالاً ،ساعدت ً أيضا يف تصاعد حظوة
للصحف .ورغم أن هذا االنفتاح عىل الفضاء اإللكرتوين خلق
تقض تمامً ا عىل جاذبية الورق. ازدهرت الشاشة ،لكنها لم ِ
بحال ،إضافة إىل كونها ال تسدّ االحتياج املعييش.
اإلعالم اإللكرتوين .وشأن جميع وسائل اإلعالم يف العالم،
االشرتاكات السنوية ،فلم تكن تذكر ضمن املوارد األساسية فرص عمل محدودة للصحافيني ،فإنها فرص لم تكن مستقرة
51
الملف
أحد أسباب انهيار الصحافة الورقية .وهو سبب متفرع -حسب
انهيار مفاجئ
عائش -عن سبب رئيس تمثل يف «الكلفة املالية الكبرية التي كان عىل الصحافة تحملها بفعل الحصار وارتفاع أسعار الوقود
كان عام 2011م نقطة تحول للصحافة الورقية
والورق بصورة خيالية» .إضافة إىل ذلك ،فقد «تسببت الحرب
األزمة االقتصادية التي رافقت االضطراب السيايس إبان
التقطيع ألوصال البالد متعذرًا ،ما تسبب يف محدودية الطباعة
يف اليمن؛ فبعد أن توقفت معظم الصحف بسبب
احتجاجات «الربيع العربي» ،ما
بإغالق مدن وعزل مناطق ،وأصبح انتقال الصحف وسط هذا بحيث لم تعد العائدات كافية لإليفاء بكلفة النفقات» .وال يغفل عائش سببًا
لبثت أن عاودت الصدور مع بداية
رئيسا آخر تمثل يف األوضاع السياسية ً
مرحلة االنتقال السيايس ،الذي
واألمنية ،التي أفرزت انقسامً ا حادًّا
حظي بدعم دويل واسع .عدد
لدرجة أن «كل صحيفة لم يعد بإمكانها ّ مستقل» ذلك أن «تصنيف العمل بشكل
من الصحف األسبوعية تحول إىل
يومي ،إضافة إىل صدور صحف ّ
الصحف عىل هذا املعسكر أو ذاك يف ظل
يومية جديدة ،وصحف أخرى غري
هذه األوضاع ،هو مقدمة ألذى قد يلحق
منتظمة الصدور أفرزتها ساحات ً انتعاشا مفاج ًئا االعتصام .كان ذلك
يشبه اإلفاقة الحيوية ملريض عىل
وشك التعايف أو لفظ أنفاسه
االنقسام يف العمل الصحفي ،يرى
األخرية .تكوّن مشهد االنهيار املفاجئ للصحافة بالتزامن
عائش أن من يصدر صحيفة من صنعاء «ال يستطيع أن يقدم
جماعة الحويث عىل العاصمة صنعاء يف سبتمرب 2014م،
بدأت بعض الصحف باالحتجاب ،وتعرض بعضها
والحال نفسها لدى من يصدر من عدن أو من تعز ،فهو ال يستطيع أن يقدم عملاً إعالميًّا خارج ما تريده الجماعات
عىل خصوم الحوثيني ،ثم تضاعفت املأساة حني اندلعت
صحيفته «حديث املدينة» بشكل منتظم قبل عام 2011م ،ثم
مع انزالق التوتر السيايس نحو الحرب .ومنذ سيطرة
52
نائف حسان
الصحيفة والعاملني فيها». اسرتسالاً يف وصف تأثري حدة
لإلغالق ،وبخاصة الصحف الحزبية واألهلية املحسوبة
الحرب الشاملة يف مارس 2015م ،إذ تكاثرت العراقيل أمام
استمرار صدور الصحف ،األهلية عىل وجه الخصوص. عشرات من هذه الصحف ،يومية
صحافة حرة بعيدً ا من خطاب «التعبئة» لدى الطرف الحاكم...
املتعددة املسيطرة هناك» .يف تعز ،كان فكري قاسم يصدر عاد إلصدارها بصورة متقطعة عدة مرات حتى عادت تصدر
بانتظام يف موعدها األسبوعي .لكنها توقفت نهائيًّا ضمن التوقف الجماعي للصحف .يقول فكري، الذي اكتفى بالتنويه بأن استمراره يف
وأسبوعية ،توقفت ،يف حني تشتت
إصدار صحيفته «كان صعبًا جدًّ ا ألسباب
الصحافيون بني البطالة واملعتقالت
كثرية»« :من لحظة اندالع الحرب ،قررت
والهجرة ،واالصطفاف الحربي.
يختصر نائف حسان -رئيس
االبتعاد عن أجوائها وأكتب عن السالم
املشهد املأساوي الراهن للصحافة
الكراهية وتتعافى البالد .لقد مضيت يف
الذي يحتاجه اليمنيون؛ ليك يتعافوا من
تحرير صحيفة «الشارع» اليومية،
خطتي هذه إىل اليوم ككاتب صحفي». ً أيضا ،توقفت ويف مدينة تعز
يف اليمن ،بوصفه «مخاطرة كبرية
وأم ًرا غري مجدي» .فالصحف
املستمرة يف الصدور يف صنعاء، «تمثل وجهة نظر سياسية -حزب
محمد عائش
الصحيفة الحكومية «الجمهورية» عن اإلصدار ورقيًّا بصورة نهائية .ويقول
املؤتمر وجماعة الحويث» .ويضيف حسان« :الحرب
زكريا الكمايل ،الذي عمل مدي ًرا لقسم األخبار فيها قبل أن
العمل الصحفي ،وال بديل آخر لدينا إال انتظار توقفها».
نفسها« :لم نكن نتوقع أن يأيت يوم تتوقف فيه الصحافة
أجربتنا عىل التوقف عن الصدور ،والتوقف عن ممارسة
من زاوية أخرى ،يرى محمد عائش -رئيس تحرير
صحيفة «األوىل» اليومية ،أن «انهيار سوق املبيعات» كان
يتوىل رئاسة تحرير صحيفة «ماتش» الصادرة عن املؤسسة
الحكومية التي كانت تستمر حتى يف األعياد .منذ عميل يف مؤسسة الجمهورية يف عام 2005م لم أعرف التوقف عن
العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
فكري قاسم
العمل سوى لثالثة أيام خالل إجازة عيدي الفطر واألضحى،
أما حاليًّا ،فنعتمد عىل خدمة «ماتش موبايل» إلرسال أخبار
املباريات ونتائجها فقط».
لم يقتصر مشهد االنهيار املفاجئ للصحافة يف اليمن عىل
إغالق الصحف أو اضطرارها للتوقف عن اإلصدار؛ فمئات
الصحافيني الذين كانوا يعملون يف الصحف الورقية أو مواقعها عىل اإلنرتنت ،أو يف مواقع إلكرتونية أخرى ،وجدوا أنفسهم يف مواجهة بطالة مفتوحة ومزاج عام يف أقىص درجات التوتر .ال يتحدث معظم الصحافيني عن البدائل املعيشية التي اضطروا
لألخذ بها من أجل البقاء ،غري أن الصحايف ريان الشيباين يختزل يف السطور التالية ،ثقل الركام املتهاوي عىل الصحافيني
إثر فقدان أعمالهم« :تأثرت معيشتي بشكل مطلق ،وبخاصة
زكريا الكمالي
ريان الشيباني
منذ سيطرة جماعة الحوثي على العاصمة صنعاء ،بدأت بعض الصحف باالحتجاب، وتعرض بعضها لإلغالق ،وبخاصة الصحف الحزبية واألهلية المحسوبة على خصوم الحوثيين ،ثم تضاعفت المأساة حين اندلعت الحرب الشاملة ،فتكاثرت العراقيل أمام استمرار صدور الصحف ،وبخاصة األهلية آمال متفاوتة باالنبعاث
رغم أن األوضاع الراهنة تلقي بظالل شديدة القتامة عىل
توقعات عودة الصحافة الورقية يف اليمن عىل املدى القريب ،فإن كثريًا من الصحافيني لم يفقدوا األمل بالعودة ،حتى مع فارق
ثان أنني كنت أعتمد بشكل شبه كامل عىل عميل كمدير تحرير ٍ لصحيفة «األوىل» التي توقفت بفعل أزمة املشتقات النفطية،
سقف التوقعات .يؤكد نائف حسان أن استئناف اإلصدار بالنسبة
يف منظمة حقوقية ،بمبادرة شخصية من بعض األصدقاء».
بمستوى «االستقاللية واملهنية واملصداقية» ،الذي كان ملتزمًا به قبل التوقف ،يؤكد ً أيضا عىل ضرورة «تحسني الجودة» ،ويرى أن عودة
والجو العام الذي شحنته الحرب» .ويتابع ريان بمرارة« :فقدت مصدر رزقي ،وأصبحت عاطلاً ألكرث من عام .ثمّ انتقلت للعمل
لصحيفته ،مرهون بزوال أسباب التوقف .ويف حني يؤكد تمسكه
الصحافة الورقية وتعافيها مجددًا« ،يعتمد عىل الصحافيني
وطريقة ممارستهم ملهنتهم» .يف السياق ذاته ،يتوقع محمد عائش ،بدرجة تفاؤل عالية «أن تعود الصحافة املطبوعة إىل حالها من الحيوية واالزدهار وربما أفضل» .يف حني يربط فكري قاسم توقعه ملستوى انتشار أي مطبوعة مستقبلاً ، بقربها من ضحايا الحرب .وبنظرة مالمسة لواقع ما كانت
عليه الصحافة اليمنية وما صارت إليه ،يشري زكريا الكمايل إىل عاملني أساسني يرجحان أن َت ْل َقى الصحافة الورقية
صعوبات كبرية يف استئناف عملها؛ هما املبيعات واإلعالنات. فاملبيعات التي لم تكن مزدهرة باملستوى املطلوب يف املايض، لن تنتعش بسهولة مستقبلاً ،ولن يعود اإلعالن التجاري مثلما كان يف الظروف الطبيعية ً أيضا ،وذلك «بسبب هجرة
رؤوس األموال وتضرر البيوت التجارية».
53
مقال
إيمانويل ماكرون.. رئيس لزمن سياسي جديد يسار متطرف ،حاول كل منهما تقديم بديل للمتداولين ،ولم ينجح فيه قط ،إلى هذه االنتخابات الرئاسية التي عاشتها فرنسا رئيسا للجمهورية لم يكن ً بتاتا في وارد في عامنا هذا ،وأنجبت ً
ً مطلقا لدى المكونات السياسية المعروفة، أي تكهن أو حساب
أحمد المديني
روائي وكاتب مغربي
الشعبية الراسخة ،على امتداد ما يربو على نصف قرن .
لن نبالغ إن قلنا :إن فرنسا تعرف مع انتخاب رئيس
هل كان الرئيس فرانسوا هوالند ،وهو يدعو الشاب ماكرون، وهما في حفل عشاء ببيت صديق مشترك ،ليلتحق به أمي ًنا
شارل ديغول في نهاية يونيو من سنة 1958م بعد االستفتاء
عام في فرصة اهتزاز وتمرد لجناح من االشتراكيين ليحل محل
الجمهورية الجديد إيمانويل ماكرون أهم ثالث حدث مر حتى اآلن
في تاريخ ما يسمى «الجمهورية الخامسة» التي دشنها الجنرال الذي أوصله إلى الحكم وخول له سلطات واسعة ،جعلته يقود
54
بأيديولوجياتها ومراكز نفوذها وتجذرها التاريخي وتمثيلياتها
البالد باسم اليمين الجمهوري .الحدث الثاني هو وصول فرانسوا
ميتران إلى قصر اإلليزيه في مايو 1981م ،في محاولته االنتخابية ً تحديدا، الثانية باسم اليسار الفرنسي ،والحزب االشتراكي ليسقط هيمنة اليمين ويزيح خصمه الرئيس فاليري جيسكار رئيسا في سباعيتي حكم متواصلتين انتهت في ديستان ،ويبقى ً
مايو 1995م ،ليسترجع اليمين من جديد قصر اإلليزيه في شخص الرئيس جاك شيراك .وتستمر دورة الرئاسة بعد ذلك منتقلة
إلى ساركوزي ،اليميني دائمً ا ،ينتزعها منه فرانسوا هوالند باسم
الحزب االشتراكي.
ً مساعدا في قصر اإلليزيه ،قبل عامين فقط ،وليعينه بعد عامًّ ا
وزير االقتصاد المتمرد مونتبورغ؛ هل كان هوالند عندئذ يحسب
لحظة واحدة أن هذا الشاب الخجول ،المتكتم ،إنما المسلح بتكوين جامعي صلب ،ويمتلك أسلوب عيش خصوصي ،ويعرف
كيف يحرق المراكب دون دخان ،هو نفسه من سيودعه في
نهاية مدته الرئاسية بمدخل قصر الرئيس ،هو يغادر إلى الشارع العام ،والنزيل الجديد ،ماكرون ،يدلف بدلاً منه إلى عرين
الحكم ،ال ،ليس هذا وحسب ،بل إنه يدخل إلى قصر اإلليزيه
فوق حطام القوتين السياسيتين التقليديتين للبالد ،اللتين انهارتا معً ا ،وخسرتا في وجه مجموعة سياسية ُغفل وحديثة التأسيس
تسمى حركة «إلى األمام» أخطر رهان سياسي ،وهي التي لم َتر
الحدث الثالث في تاريخ الجمهورية الخامسة في فرنسا ،لن
النور إال في يوليو من العام الماضي ،ويحصل مؤسِّ ُسها وفريقه
1958م بين القوتين السياسيتين الكبريين في المجتمع الفرنسي،
من أصوات الناخبين في الدورة االنتخابية الثانية حول الرئاسة،
يمس بطبيعة الحال مبدأ ونمط تداول السلطة المعتاد منذ سنة ممثلتين بما سيصطلح عليه اليمين الديغولي ،كتلة متجانسة من عدة أطراف ،واليسار قوة مكونة من قوتين أساسيتين ببرنامجين
مختلفين ،الحزب االشتراكي ،والحزب الشيوعي ،اللذين تحالفا سنة 1981م حول برنامج واحد للحكم .يتمثل الحدث الثالث بقوة وإثارة غير مسبوقة ًّ حقا ،في وضع حد لما كان يبدو لدى أهل السياسة ،والرأي العام في فرنسا بمنزلة تحصيل حاصل، نعني حصر تداول السلطة بين هاتين القوتين وحدهما ،ودوام احتكارهما لمنصب رئاسة الجمهورية ،ومنه األغلبية البرلمانية
التي منها تتشكل الحكومة التنفيذية الموالية غالبًا للرئاسة.
نعم ،لقد وُجد دائمً ا يمين ووسط ،وتبلور يمين متطرف ،وكذلك العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
الصغير على أكثر من عشرين مليون صوت ناخب ،ونسبة %66
مقابل %33ونيف لحزب اليمين المتطرف بزعامة ماري لوبين الذي كان شبحه يهدد ًّ حقا بالفوز. الطريق الملكي
يحتاج األمر إلى عرض معطيات كثيرة لفهم ما جرى .لنختزل قائلين :إن هذه الفئة القليلة التي غلبت فئة كثيرة ًّ جدا عبرت في الزمن المنفلت لخسارة مشاريع القوى السياسية الكبرى ،وعجزها
عن تقديم حلول ناجعة في ميادين االقتصاد والتعليم والشغل، ولتخبطها بين اختيارات ليبرالية واشتراكية هجينة وتلفيقية، وخصوصا ألن ُ ً الفرقة دبَّت في أوصالها التنظيمية ،ففقدت
إيمانويل ماكرون ..رئيس لزمن سياسي جديد
البوصلة ،وفتحت هشاشتها الطريق «الملكي» لماكرون؛ كي
وهو تقليد لدى كبار الخريجين ،ليختطفه بنك روتشيلد الشهير،
وهذا ما يحتاج إلى وقفة خاصة ،برنامج عمل سياسي اقتصادي،
ضخمة ،فلمع نجمه في الوسط المصرفي ومجتمع ما يسمى
يعبر ويدخل اليوم إلى قصر اإلليزيه دخول الفاتحين .في جعبته،
جريء وصادم ،ليبرالي في جوهره ،واشتراكي واجتماعي وديمقراطي في خططه ومنهجه اإلصالحي .وضعته نخبة خلفية
من اقتصاديين وأرباب عمل ومقاوالت كبرى ،و«أوليغارشية» جديدة مضادة ألخرى سابقة عليها ،تريد العمل على رأب الصدع بين رأس المال والفئات االجتماعية المتضررة ،واستمالة الطبقة
الوسطى ،واستيعاب مطامح جيل جديد لم يعد يجد في اليمين ً مكانا وال تعبيرًا عن آماله وثقافته الجديدة واليسار التقليديين العولمية .هذا الجيل الذي انجذب إلى فتوة ماكرون ،وامتالكه
لشجاعة المبادرة وخلخلة البناء التقليدي «اإلستبلشمان» هو
الرصيد الشعبي األكبر الذي يراهن على ربح المستقبل ،وعلى
البقاء في االتحاد األوربي ،والحفاظ على عملة موحدة (األورو)،
وجعل فرنسا تسترجع مكانتها في سياق العولمة. ً خالفا لما ذكره بعض بتسرع وعدم فهم ،فإن الرئيس
الفرنسي الجديد لم يأت من عدم ،بل هو من ساللة سابقيه ،ومر بسلك التدريس والتكوين الذي عبر منه الرؤساء السابقون جميعً ا
تقريبًا ،ال بأس من اإلشارة إلى بعض العناصر والمعلومات التي
تفيد في معرفة الشخص والشخصية والمسار وتبلور المشروع
الذي هو قيد التكوين ،أي لم يكتسب بعد هوية واضحة ،وله اتصال وامتدادات في شعاب شتى من المجتمع ومكوناته
االجتماعية واالقتصادية والعرقية والثقافية والدينية ،وال شك
ً وخصوصا شارقة، في أن المسلمين وذوي األصول العربية ،مَ ِ مغاربيين ،في قلبها .وهو في التاسعة والثالثين يستطيع
إيمانويل ماكرون أن يفتخر بأنه حصل على الثانوية العامة في ليسيه لوي لو غران بباريس ،الذي يعد من أهم مشاتل إعداد
النخبة الفرنسية بأقسامه التحضيرية التي تهيئ لولوج
المدارس العليا ،وليس الجامعة المفتوحة للجميع، عبر مباريات صارمة ،ومنها االلتحاق بأقسام التكوين التي تقود إلى قيادة المصالح اإلستراتيجية للدولة.
هكذا التحق من الليسيه بمعهد العلوم السياسية
الباريسي ،الرفيع ،وبعده بالمدرسة الوطنية
لإلدارة ،شأن أسالفه جيسكار وشيراك وهوالند، وبعد التخرج رأسً ا إلى وزارة المالية مف ِّت ًشا للضرائب،
ويصبح من كبار أطره في مدة وجيزة حقق له مكاسب مالية
بصيادي الكفاءات ،وقد أشرنا للمصادفة التي حملته إلى العمل
بجانب الرئيس السابق هوالند ،وكانت أول خطوة له في طريق الحكم .هي إذن أرضية صلبة نشأ فوق أديمها هذا الشاب الذي بعد أن أثبت كفاءته ،وجد من يشحنه بطاقة جديدة ولمشروع
لم يكن في الحسبان.
نعم ،هو سليل المدرسة القديمة ،وفي الوقت نفسه ابن َّ ً طريقا يالئم مواهبه واستعداداته .فنيًّا ،هو واختط له جيله، عازف بيانو ،وهاوي مسرح ،وقارئ دؤوب ،بل مؤلف ،وكم
مرة أفصح أن قرة عينه في كتابة الرواية .ليس غريبًا والحال هذه أن يختاره الفيلسوف الهرمونيطيقي الفرنسي بول ريكور ً مساعدا له في تنظيم ليتخذه
أرشيفه وإعداد محاضراته، أمضى سنة بجواره ،وال شك أنه َّ تعلم الكثير من هذا األستاذ الذي ترك فرنسا وأصبح من
أعالم الجامعات األميركية،
55
مقال
خالل الثمانينيات والتسعينيات .هكذا تظهر صورة أخرى للرئيس الجديد ،بسيما المثقف والفنان ،والشغوف بتحديث بالده وتوثيق ُعراها بروابط التقدم والنمو العالمي .هذه القيمة المُ ضافة تربطه بفرانسوا ميتران ،الرئيس المثقف بحق ،الذي لم
يكن يفوته أسبوع من دون أن يطرق مكتبات الحي الالتيني وهو
رئيس ،يمشي إليها بقدميه ويقتني كتبه شأن أي قارئ عادي. إلحاح على العلمانية
هي ثقافة قانونية ،وسياسية ،وإدارية ،واقتصادية،
وأدبية ،وفلسفية ،وفنية ،تكاد إذن ،تصبح موسوعية ،على
غرار المثقفين الفرنسيين الكالسيكيين ،يمتلكها هذا الرئيس
الـشاب ،ولنقل :إنها من نسغ ليبرالي ،متعدد ومتفتح ومستنير.
وهو ما يجعله في خطبه وتصريحاته وأوراقه الصحفية ،ال يمل ّ وعدها النهج وال يكل من اإللحاح على الالئكية (العلمانية)، الفكري والحياتي والثقافي األنسب لفرنسا ،والضامن لتعايش
واحترام مكوناتها العرقية والدينية والفكرية المختلفة .وخالل
حملته االنتخابية تعرض لتشنيع وتهجم من اليمين المتطرف
وخصوم غيره ،بدعوى أنه يُمالئ الطوائف الدينية ،ومنهم
المسلمون خاصة ،وربط هذا االتهام بشبهة اإلرهاب ،الوصمة
56
التي أضحت لصيقة اليوم ،من أسف ،باإلسالم والمسلمين في
الغرب .كان ماكرون قد تعرض ألول هجوم عاصف من القوى اليمينية حين ندد بالحقبة االستعمارية الفرنسية للجزائر ،وأقر
بضرورة االعتراف بضراوة هذا االستعمار ،واعتذار فرنسا عنه، ً خالفا كبيرًا داخل الدولة الرسمية وبين األحزاب وهو ما يمثل
ماكرون ،عازف بيانو ،وهاوي مسرح، وقارئ دؤوب ،بل مؤلف ،وكم مرة أفصح أن قرة عينه في كتابة الرواية. غريبا والحال هذه أن يختاره ليس ً الفيلسوف الهرمونيطيقي الفرنسي مساعدا له في بول ريكور ليتخذه ً تنظيم أرشيفه وإعداد محاضراته المشهد الفرنسي مفتوح على احتماالت كثيرة
اآلن ،ينبغي لنا أن ننتظر نتائج االنتخابات التشريعية في
يونيو المقبل ،التي ستسفر عن والدة البرلمان الجديد وبأغلبية غير السابقة حتمً ا ،ال أحد قادر أن يتكهن من سيحصل عليها. هل سيتمكن ماكرون ،الذي نقل حركته إلى مستوى حزب سماه
«الجمهورية إلى األمام» ،وبها سيخوض هذه االنتخابات بتحالف
مع حزب الوسط لزعيمه بايرو ،وعلى جناح من اليمين الديغولي ممثلاً في عمدة بوردو آالن جوبي ،وفئات ممثلة للمجتمع المدني غير مسيَّسة على اإلطالق ،ويأمل التوافر على أغلبية تتيح له تطبيق برنامجه الرئاسي ،أم هو اليمين الديغولي ،الممثل
في حزب «الجمهوريون» الذي خسر مرشحه فيون في الدورة األولى للرئاسيات ،ويبدو الرئيس السابق ساركوزي من يقوده
خفية؛ الحزب الذي يدفع بالسيناتور فرانسوا باروان رأس حربة في حملته لالنتخابات التشريعية ،ويعول على حصد أغلبية البرلمان ،وبذا يستطيع تشكيل الحكومة وفرض برنامجه على
ّ مجتمعة .يعد تبني علمانية الدولة ،الذي ينهض على الفصل بين
رئيس الجمهورية ،وهو رهان صعب يريد من ورائه الديغوليون
منذ سنة 1905م وبناء عليه يُتعامَ ل مع جميع األديان ،هو منطق
فرنسا إلى الوراء ،أو إلى مربع ما قبل ماكرون.
هذه واألديان ،والمسألة الدينية عمومً ا ،حسب القانون الذي أقر ماكرون وحركة إلى األمام ،والمسلمون مشمولون به ،وحقوقهم ً خالفا لمناهضة اليمين المتطرف الدينية وشعائرهم مرعية وفقه،
التقليديون المتشددون أن ينتقموا لخسارتهم ،ويعيدوا ساعة هكذا ،يتبدى المشهد السياسي في فرنسا مفتوحً ا على
احتماالت شتى لهندسة شكله وتركيب فسيفسائه .غير أن ما
وعنصريته ،أو نفاق اليمين التقليدي الذي كثيرًا ما يمنع عمداء
ال يقبل الجدال ،وال يحتمل أي مناورة ،هو أن فرنسا انتقلت
موجة اإلرهاب التي ضربت فرنسا تسببت لدى االشتراكيين
يمين /يسار ،وانبثقت فيه قوى ليبرالية وسطية ،ويسارية شعبية
مدنه على المسلمين توفير مسجد وأماكن عبادة الئقة .بل إن أنفسهم في خلط األوراق من هذه الناحية ،ليصبحوا بدورهم وباسم مكافحة اإلرهاب مناوئين .عند ماكرون فإن الالئكية هي
صمام األمان ومقياس التعامل مع الدين وأهله .
إلى عهد حكم جديد ،تفككت فيه الثنائية التقليدية ،أو الزوج:
وشعبوية ،زيادة على تنامي قوة اليمين المتطرف .مشهد سيعرف مزيد تفكك وإعادة بناء المجتمع السياسي بتشكيل تنظيمات
مستجدة قادمة من قلب التنظيمات القديمة ،وإن بأطروحات
ويبقى ملف الهجرة والمهاجرين خاضعً ا لمقاييس اقتصادية
وبرامج تحاول أن تتالءم مع الواقع الراهن ،الداخلي واألوربي،
طابع وطني أو شوفيني ،متعصب ،كما هو الشأن مع اليمين
على الوحدة ،ودعم البناء األوربي والعملة األوربية األورو،
محضة ،ولسوق العمل ،من دون وجود أي توجيه سابق ذي المتطرف الذي يدعو إلى إغالق الحدود ،والتضييق على الحقوق
المدنية لألجانب وحرمانهم مكتسبات عديدة بشكل عنصري سافر ،باسم حق الفرنسيين أولاً . العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
والعولمي ،ومن المهم أنها -أغلبها -تلتقي حول ضرورة الحفاظ والمنافسة على الصعيد العالمي ،وعلى مستوى المبادئ إنعاش
قيم الجمهورية وتحصينها :الحرية والعدالة والمساواة .وهذا ما
التزم به بقوة الرئيس إيمانويل ماكرون.
إيمانويل ماكرون ..رئيس لزمن سياسي جديد نصوص
هواك ـن سـ ُّ وما َت ُ عبدالعزيز محيي الدين خوجة
شاعر سعودي
أح� � � � � ّب � � � � ـ� � � � � َ أك � � �ـ � � �ـ � � � ُّ�ن �ك ،ه� � � � ��ل ُت � � � ـ� � � � َ�ت � � � ـ� � � � ْرج � � � ـِ� � � � ُ�م م� � � � ��ا ِ
وه� � � � � � ��ل ي � � �ش � � �ف � � ��ي وص � � � � ـ� � � � � ُ �ال� � � � ��ك م � � � ـ� � � ��ا ُ أظ � � �ـ � � �ـ � � �ـ � � � ُّ�ن
إذا م � � � ��ا ِغ� � � �ب� � � �ـ � � � َ �ت ُي� � �ش� � �ـ � � ِ�ع � � ـ� � �ـ � � ُ�ل� � �ن � ��ي َح � � ِن � �ي � �ن � �ـ � �ـ � ��ي
َ وأح � � � �س � � � ـ� � � � ـ� � � � ُ �ب ِم � � � � � ��ن ح � �ن � �ي � �ـ � �ـ � �ن � ��ي ق� � � � ��د أُ َج � � � � ـ� � � � � ُّ�ن
�وم � � � � � ��ا ق � � � � ��د أظ � � � � � � ��ن ك� � � ـ� � � �س� � � ـ� � � �ـ � � � ُ وي � � � � � � ً �رت ق� � �ي � � ـ� � ��دي وح� � � �ـ � � � �ي� � � ��ن أراك أن � � � ـ� � � �س� � � �ـ � � ��ى ب� � � � � ��ل أحِ � � �ـ � � � ـ� � � �ـ � � � ُّ�ن وح � � � � � �ت � � � � � ��ى ح � � � �ـ � � � �ي � � � ��ن ت� � � �ه� � � �ج� � � �ـ � � � ـ� � � ��رن � � � ـ� � � ��ي م� � � �ل� � � � ًّي � � ��ا أت� � � � � � � �ـ � � � � � � � ُ ْ أض � � �ـ � � �ـ � � �ـ � � �ـ � � �ـ � � �ـ � � � ُّ�ن ألن أراك وال �وق ِ
ي � � �ق� � �ـ � � �ل � � � ُب � � �ن� � ��ي ال� � � � � �ن � � � � ��وى ش � � � �ـ � � � � ً �رق � � � ��ا وغ � � �ـ � � ـ� � � ـ� � ��رب� � � ـً� � ��ا
وأُجْ � � � � � � � � �ـ � � � � � � � � �رَحُ م� � � � � � � ْ�ن ج � � �ـ � � �ف � � �ـ � � �ـ � � � َ �اك وال أَئِ � � � � �ـ � � � � � ُّ�ن وأن � � � � � � � � � � َ �ت ال� � � � � � � َ�ك� � � � � � � ُ �ون ف � � � � ��ي ع � � �ي � � �ن � � ��ي ب� � �ه � � ـ� � �ـ � �ـ � � ـ� � �ـ � � ً �اء
وق� � � �ل� � � �ب� � � ��ي ف � � � � ��ي رح� � � � �ـ � � � ��ابِ� � � � �ـ � � � � َ �ك ُم� � � ْ�ط � � ـ� � � َ�م � � ـ� � �ئ � � ـ� � �ـ � � ـ� � � ُّ�ن ُخ� � � ـ� � � � ِل� � � �ق � � � ُ �ت م � � � ��ع ال� � � � �ه � � � ��وى وال � � � � �ح � � � � � ُّ �ب ِدي � � �ن � � ��ي
وأرض � � � � � � � � � � ��ى م� � � � � ��ن ه � � � � � � ـ� � � � � � � َ �واك ب � � � �م� � � ��ا َت � � � ُ �س � � � ـ� � � �ـ � � � ُّ�ن
57
دراسات
58
منعطفات العربية.. الرواية ّ منذ النكسة حتى احتالل العراق العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
يمنى العيد
ناقدة لبنانية
ُي ِّ حدد العنوان لمنعطفات الرواية العربيّة ،موضوع البحث ،زم ًنا تاريخيًّا يقع بين العاميْن
١٩٦٧و٢٠٠٣م ،أي بيْن هزيمتيْن هما هزيمة الجيش المصري أو ما ُع ِرف بالنكسة ،وهزيمة الجيش عالقة بين األدب والتاريخ ،أو العراقي أو احتالل العراق ،ما يعني أنَّ العنوان ُيضمر اإلشارة إلى ٍ ُ كنت هنا ،لست معنيّة بدراسة أثر يتركه الواقع التاريخي في األدب الذي هو هنا الرواية .ولئن إلى ٍ التاريخّ ، فإني ِّ أحدد سؤال الموضوع ،على النحو اآلتي:
ُّ تشكلها بنية روائي ًّة فنيّة؟ ما األثر المرجعي الذي ُتحيل إليه الرواية العربيّة (لدى القراءة) على
ِّ متفجريْن أو بصيغة أخرى :كيف نرى روائيّة الرواية العربيّة بين النكسة واالحتالل ،أي بين حدثيْن
وكارثيين ،أصابا بلديْن عربيّين كان للرواية العربيّة فيهما نتاجٌ ملحوظ ،وترك هذان الحدثان أثرهما في الكتابة الروائيّة العربيّة بشكل عام؟
ّ خاص ،هم بشكل لقد كان الروائيّون العرب ،المبدعون ٍ
أوّل مَ نْ أدرك أنَّ التقاليد الروائيّة السابقة (أو تقاليد الرواية ً قادرة على التعبير عن هذا الواقع الواقعيّة البسيطة) لم تعد التاريخي الجديد .هكذا طرح صنع الله إبراهيم سؤاله« :كيف
أع ِّب ُر عن الواقع ،كيف أكتب» ،مفصحً ا عن هاجسه في إيجاد
الشكل المالئم ،لكن ،على أساس أنْ تكون لحظة الكتابة، «تفسر وتب ِّرر وتسمح بفهم الواقع وإمكانيّة وكما يضيف ِّ تغييره في الوقت نفسه»( .)١وهكذا قال عبدالرحمن منيف :إنَّ
مسعاه هو أن يكتب رواية لها «مالمحنا ّ الخاصة» .أي :رواية تقول ،فنيًّا، ونكهتنا ٌ حكايتنا بما هي حكاية لها تاريخيًّا وعلى
بتجريبيّته ألنْ تبقى ،هذه التجريبيّة ،مفتوحة على التنوّع
والتعدّ د واالختالف ،فإنَّ المسعى الثاني مال بواقعيّته
الحداثيّة إلى ترسيخ تقاليد فنيّة للسرد الروائي العربي ترتبط
بخصوصيّة التاريخ وحكايات الواقع المعيش.
المسعى التجريبي -التحديثي َّ لعل من الالفت أنْ يكون نجيب محفوظ الذي أرسى
قواعد الرواية الواقعيّة العربيّة هو من أوائل ،إنْ لم يكن أو َّل من كسر هذه القواعد في روايته
«ميرامار» التي صدرت في عام النكسة ()٣
نفسه ،أي في عام ١٩٦٧م ،وكان ما
أرض الواقع خصوصيّتها( .)٢وما قاله صنع
حكت عنه هذه الرواية بمنزلة استباق
الله إبراهيم وعبدالرحمن منيف ،وسعَ يَا
يشير إلى الفساد الذي أدَّى إلى النكسة. ّ تشكل ويمكن القول :إنَّ رواية «ميرامار»
إلى تحقيقه فيما كانا يكتبانه من أعمال
ُّ التشكل الروائي نموذجً ا رائدً ا لبنية
روائيّة ،هو ما سعى إليه معظم الروائيّين العرب في تلك الحقبة الزمنيّة.
العربي الساعي إلى اختالفه وتميّزه حداثيًّا على أساس مِ نْ تعامله مع واقع
ويمكننا ،في هذا الصدد ،تمييز
مسعييْن بارزيْن النعطافة الرواية العربية: ً ّ بداية ،ولدى تمثل، مسعى أول
بعض ،فيما ُعرف بالتجريب الذي عنى
نجيب محفوظ
الثورة الناصريّة والمأزق الذي آل إليه ّ ولعل أول هذا الواقع ُقبيْل الهزيمة. ما يلفتنا في رواية «ميرامار» ،وباعتبار
تجاوز تقاليد السرد الروائي السابقة ،الواقعيّة ،التي ميّزها
ّ بنية الشكل ،هو التخلي عن قواعد الرواية الواقعيّة التي انبنت
القرن العشرين. ّ ثان تمثل ،لدى بعض آخر ،في االنتقال بالواقعيّة مسعى ٍ
من القرن العشرين ،وقد وُصفت هذه القواعد بالتقليديّة، ً وأحيانا ،بالكالسيكيّة. ووُصفت واقعيّتها بالواقعيّة البسيطة،
ورسَّ خها نجيب محفوظ في ثالثيّته أواخر النصف األول من
من بساطتها إلى حداثتها .لكن ،لئن كان المسعى األول نزع
عليها الرواية العربيّة في بداياتها حتى نهاية النصف األول
وقد ّ ّ وبخاصة فيما يتصل تمثلت هذه القواعد التقليديّة،
59
دراسات
بالسياق الخيْطي الم ّتسق وفق مقتضيات بزمن السرد، ّ
داخلي .إنَّ الدراما ذاتي، ّ وإنَّ المقتول هو قاتل نفسه ،والفاعل ّ
تجريبيًّا ،إلى حداثتها ،أي إلى ما يخوّل لها التعبير عمّ ا آل
دراما العالقة بين الثورة برموزها المتعدّ دة ،والشعب برمزه
العُ قدة وحبكتها والحل /النهاية .ففي «ميرامار» ،الساعية،
الساردون إليه واقعُ الثورة ،قبيْل النكسة ،يتعدّ د الرواة ِ ّ السرد ،بدل الحكاية للحكاية، ويتقطع زمن َّ الواحدة ثالث حكايات ُتروى من وجهات ّ تخص مقتل سرحان البحيري نظر مختلفة،
وكيل حسابات شركة اإلسكندريّة للغزل. ثالث حكايات للحكاية الواحدة ،يتناوب
الواحد زهرة .يمكن القول :إنّ التحديث الذي سعى إليه نجيب محفوظ في هذه الرواية ّ بشكل أساسي تمثل ٍ في تعدّ د الرواة ،وفي الحكاية المرويّة على ّ الخطي ،وفي الراوي قاعدة كسر الزمن
الشاهد .إن هذا المسعى التحديثي خوَّل له فعل َتعدَّ َد فاعل إلى نقل سبب النكسة من ٍ ٍ فاعلوه ،وهو بتعدُّ د فاعليه يحيل إلى األخالق
عليها ثالثة رواة شباب هم من أركان الثورة ِّ وحل الناصريّة ،وذلك ال لمعرفة القاتل
(سرقة سرحان البحيري المصنع ،وطموحات
السرد في رواية الواقعيّة البسيطة ،أو
قبل مصادرة أراضيه) أكثر ممّ ا يحيل إلى
ُعقدة الرواية وصولاً بها إلى نهايتها ،شأن
الكالسيكيّة /التقليديّة ،بل لمعرفة المقتول، سرحان البحيري ،وما يعنيه بشخصيّته
وبسلوكه وبفكره .أي بصفته ،ال الفرديّة ،بل
بصفته رم ًزا من رموز الثورة الناصريّة ،ويختزن أكثر من داللة. يؤدّي انعطاف رواية «ميرامار» الحداثي أكثر من وظيفة
60
التي يعيشها المقيمون في بنسيون ميرامار هي ،في الرواية،
دالليّة: ّ -تعدّ د وجهات النظر للحدث الواحد على قاعدة تعدّ د
الرواة والمنظور المختلف.
ِّ المؤلف الضمني الذي ي ّتخذ صفة الراوي -اإليهام بحياديّة
الشاهد .بدل أنْ يقف خلف البطل شأنه في الرواية الواقعيّة
البسيطة ،أو الكالسيكيّة التقليديّة ،رواية الصوت الواحد.
-التعريف برموز الثورة الثالثة ،رواة الحكاية ،بصفتهم مسؤولين وقيّمين على مؤسّ سات الدولة ،وم ّتهمين مفترضين بقتل زميلهم ،سرحان البحيري ،أحد نزالء بنسيون ميرامار
المقيمين فيه.
حسني عالم اإلقطاعي وحنينه إلى زمن ما
السيّاسة ،أو إلى السلطة ورأسها .كأنّ الرواية ٌ استشراف للنكسة التي رفض بعدها بذلك
الشعب المصري ّ تخلي عبدالناصر عن رئاسة ُ ٌ نهاية لروايةٍ ال خاتمة لها، مصر .وكأنَّ هذا االستشراف هو ٌ مرهون بوعي الناس احتمال نهاية مفتوحة على أكثر مِ ن ٍ ٍ
وبقدراتهم على التغيير .يتنوّع التجريب ،وهو في تنوُّعه بحث عنْ أساليب وتقنيّات جديدة تكتسب كان يبدو بمنزلة َ ٍ ُ الرواية القدرة الفنيّة على رواية حكاية الـ«نحن»؛ ذلك بها
أنَّ الرواية العربيّة ،كما أرى ،فنٌّ جديد في أدبنا وثقافتنا، يبدو معه الواقع االجتماعي التاريخي الذي لم يتشكل في
فس َر نشأة الرواية الغربيّة طبقات بمنزلة الحوض البديل لما َّ ٍ
(الثورة الصناعيّة ،تكوّن طبقة برجوازيّة ،وثقافة تتعدّ د وتتنوّع ُ حقولها المعرفيّة) ،فالتجربة الروائيّة العربيّة تعيش مراحلها
ّ الخاصة وهويّتها الفنيّة األولى ساعية إلى اكتساب مالمحها الحديثة ،من دون االنزالق إلى تقليد
السرد الدّاللي الذي -توسيع مجال ّ
حداثة الغرب.
ِّ أقدم وباعتبار التنوّع التجريبي
يكشف عن خيانة رموز الثورة وانتصارهم
المثاليْن اآلتيين:
المزيَّف لها.
-الكشف عن مأزق نظام العالقات
رواية السؤال (١٩٧٩م):
االجتماعية في زمن الثورة الناصريّة،
في هذه الرواية
وصياغة المعادلة بين الفاعل وفعله ،أو
()٤
بين السبب والنتيجة .كأنَّ سؤال الرواية سؤال آخر سابق ليس إلاّ جوابًا عن ٍ ومطروح عن فشل الثورة .والرواية نسيج
إلنتاج معرف ٍة تكشف عن الوجه الحقيقي ّ يستغلون مؤسّ سات لرموز الثورة الذين
الدولة التي يديرون شؤونها لتحقيق أحالمهم الخاصة… وهي
بذلك تو ّد أن تقول :إنَّ أصحاب الثورة يقضون على ثورتهم، العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
يتوسّ ل غالب
هلسا شخصيّة ترميزيّة هي شخصيّة الس ّفاح المع َّرف بفعله الذي هو ّ
غالب هلسا
القتل .القتل هو هويّته ،والجثثّ : جثة ّ ّ وجثة وجثة الفتاة منى، عبدالعليم، صديق مصطفىّ ، وجثة الفتاة التي تعمل
في شركة الطيران العربيّة… هي الشاهد على هذه الهويّة.
الس ّفاح ،في الرواية ،إلى كابوس يداهم مصطفى في يتحوّل ّ
العربية . .منذ النكسة حتى احتالل العراق منعطفات الرواية ّ
مناماته ،وتتحوّل المنامات إلى أحالم يقظة ُتشعر مصطفى ِّ المتمثل في سلطة بعجزه عن التح ّرر من سلطة الرمز األبوي
السياسة الحاكمة .لكن قيام السرد التاريخ الماضويّة وسلطة ّ على هذا المستوى الترميزي المتخيّل يعجز عن االستمرار بسرده على هذا المستوى ،أي يعجز عن إبداع مستوى متخيّل
كابوسي بديل للعالم المرجعي .فالسرد ،كما نلحظ ،يبقى
ً حريصا على العودة إلى عالم الواقع المرجعي ،أو على تذكيرنا ّ السفاح على مستوى البنية الفنيّة به ،وهذا يضعف وظيفة ّ ككل ،ويجعلها تبدو اعتراضيّة محدودة الوظيفة ،أو طارئة، الس ّفاح، ثانويّة ح ّتى ال نقول مستعارة؛ ذلك أنها ،أي وظيفة ّ
ال تغيِّر من طابع السرد ،أو من واقعيّته ،فيما هي توحي لنا ّ بأنها بصدد االختالف عنه ،أي عن طابعه ،بهدف تغييره. كذلك يتوسَّ ل غالب هلسا أحالم اليقظة ليعبِّر ،في
روايته «ثالثة وجوه لبغداد» (١٩٨٤م) ،عن ال معقوليّة ما يجري في بغداد في ّ ظل سلطة صدّ ام حسيْن؛ وهذا يضفي على السرد طابعً ا فانتازيًّا .لكنَّ هذه الفانتازيا َّ يتجذر به َ َّ عالم الرواية تبقى مج َّرد طابع ال
لم يكن التجريب هدفً ا بذاته بل مسعى ٍ لرواية تقول ،وعلى مستواها الف ّني الخاصة المميز ،حكايتها ّ ّ َ الرواية العربيّة في النصف األوّل من القرن العشرين .سوف لاً ِّ أقدمُ مثا آخر على هذا التجريب السردي الروائي ،التجريب
الذي توسَّ ل إدراج النصوص المقتبسة ،أو المدوَّنات ،في
المتن الروائي ،وقام بتحويل المدوَّنة إلى لعبةٍ مسرحيّة، ّ ألتوقف ،بعد ذلك ،عند رواية الحرب اللبنانيّة التي عبَّر بعضها عن انعطاف ٍة حداثيّة الفتة كما سأوضح. رواية شرف ( ١٩٩7م).
يقسم صنع الله إبراهيم الخطاب الروائي في هذه الروايةّ ،
الخطاب إلى ثالثة أقسام :في القسم األول تعتمد الرواية َ ()٥
السردي المحدّ د ،روائيًّا ،بقواعد
جنسه األدبي( ،التقليدي) ،فتحكي
َّ كعالم ال معقول .هكذا ليستقل بمتخيَّله ٍ
حكاية دخول أشرف عبدالعزبز سليمان ُ الرواية السجن .في القسم الثاني تترك
لتأويل يعود تبقى ذاكرة القراءة مدعوَّة ٍ بها إلى المرجع التاريخي وال تحملها ،هذه ُ موضوع اكتشافها. عالم هو الفانتازيا ،إلى ٍ
ألوراق الدكتور رمزي بطرس نصيف.
سعى إلى توليده التجريب في هاتيْن الس ّفاح الروايتيْن ،بتوسُّ ل شخصيّة ّ
هذه األوراق[ ،أو الخطاب /المدوَّنة،
هذا الخطاب السردي وقواعد جنسه
ومع هذا يمكن القول :إنَّ االلتباس الذي
هذه األوراق هي قصاصات صحف ِّ بخط اليد .تحكي ومجلاّ ت ومدوَّنات
وأحالم اليقظة الكابوسيّة ،من شأنه أن يؤدّي وظيفة التأويل المفتوح على تعدُّ د
القراءة واختالفها بدل الوضوح الداللي
الذي وسم الرواية التقليديّة ،وركز الداللة في العُ قدة والنهاية. إضافة إلى أنَّ التح ّرر من الحبكة والعقدة ،من شأنه ً أيضا أنْ
صنع الله إبراهيم
وبضمير األنا /الراوي] تجربة صاحبها ّ وتنقله ،بحكم الدكتور رمزي بطرس،
وظيفته في شركة ،بين عدّ ة بلدان من بلدان العالم الثالث .يدوّن الدكتور رمزي بطرس ما ّ يطلع عليه صفقات من أسرار الشركات ،وما تعقده هذه الشركات من ٍ
يتيح لهذا السرد التجريبي إمكانيّة التنويع على إقامة معماره
تجني من ورائها أرباحً ا طائلة ،إضافة إلى الخطاب /المدوَّنة،
يبدو التجريب عند غالب هلسا ،المطرود من وطنه (األردن)
مسرح الدمى ،الذي يديره الدكتور رمزي بعد أن حوَّل مدوَّنته
الروائي الفني وفق ما تقتضيه زمنيّة القول وشرطه التاريخي.
والمطارَد في أكثر من بلد عربي لجأ إليه ،يبدو هذا التجريب قادر على قول المعنى العميق بمنزلة بحث عن كيفيّة سرد ف ّني ٍ ّ لهذا الواقع التاريخي الذي غدا كابوسيًّا في ظل سلطة حاكمة
تتوسّ ل الرواية ،في هذا القسم الثاني ،العرض المسرحي ،أو إلى حوار مسرحي .يجري هذا العرض المسرحي في فناء عنبر ويقدمه السجناء الذين ّ ِّ يتولون لعبة تحريك الدمى، السجن،
وتقديم العرض بأصواتهم الحواريّة التي ّ تقلد أصوات أصحاب
تقمع وتسجن األدباء الذين يكتبون وينتقدون ويعبِّرون بحُ ريّة عن رؤاهم ومواقفهمّ .إنه همُّ القول وكيفيّته .قول الحكاية،
القبور .تقول« :نحن (أربعين) ألف قتيل سقطنا في حروب ،٤٨ و ،٥٦و ،67و ( »73ص .)٣٤٠ -٣٣٩كما ّ تقلد أصوات األسرى
بحُ ريّة وكرامة ،وتسعى ،في اآلن نفسه ،لكي يكون لها روايتها التي وإن كانت تستفيد من تجارب الغرب الروائيّة ،إلاّ َّأنها تو ُّد
أن يمطروهم بالرصاص (ص .)٣٤٠وكذلك أصوات المعوّقين
مجتمعات تعاني الحرمان وعيش حياتها حكايتنا ،نحنُ أناس ٍ
أنْ تتح ّرر من التقليد والمحاكاة للرواية الغربيّة ،أي ممّ ا وَسَ مَ
الذين أجبرهم جنود االحتالل على حفر قبورهم بأيديهم قبل الذين يسألون «مِ نْ أجل أي شيء كانت تضحياتنا» (ص.)٣٤٣ في القسم الثالث تعود الرواية إلى الخطاب السردي الذي
61
دراسات
توسّ لته في القسم األول، لتخبرنا بأنَّ الدكتور رمزي أعلن
ُضع في التأديب بسبب العرض إضرابه عن الطعام بعد أنْ و ِ
المسرحي الذي قدَّ مه. ً ِّ ُ تشكل أوراق رمزي بطرس خطابًا مختلفا ال يَمْ ت ِثل لقواعد السرد الروائي المعتمدة في القسميْن األول والثالث من الروايةَّ .إنه ،إذا صحَّ التعبير ،الخطاب /المدوَّنة الذي يخترق
راو الخطاب السردي وينقله مِ نْ سر ٍد مِ نَ الذاكرة يقدّ مه ٍ بضمير الغائب إلى قراءة المكتوب (المدوَّنة) بضمير الـ«أنا». يؤدّي الخطاب /المدوَّنة ،أو هذا ّ ً وظيفة دالليّة اللعب الف ّني، تدعم قول الحكاية؛ إذ تربط مدلوالت حكاية عالم السجن،
الداخلي ،الذي اقتيد إليه أشرف ،بعالم أوسع ،خارجي، تتوافر له أوراق الدكتور رمزي بطرس ،نزيل السجن ً أيضا. ُت ِّ شكل عملية التوثيق التي ت ّتسم بها المدوَّنة،
بارزين النعطافة مسعيين يمكننا تمييز ْ ْ الرواية العربية :األول تم ّثل فيما ُعرف بالتجريب الذي عنى تجاوز تقاليد السرد الروائي السابقة ،والثاني بالواقعية من يتم ّثل في االنتقال ّ بساطتها إلى حداثتها السرديّة التي منها الفنُّ الروائي .إن لفنيّة السرد الروائي في ّ ّ تخصه وتميّزه بصفته تشكله عالمً ا روائيًّا وقواعد وتقنيّات الروائيّة ،وتختلف عن فنيّة تشكل عالم المقامات مثلاً ،أو عن فنيّة بنية الحكايات الشعبيّة ،من دون أنْ يعني ذلك قطيعة بيْن فنِّ الرواية وهذه
وتتمثل في تقديم معلومات وأسماء أشخاص
62
وشركات وتواريخ وأحداث وحروب وأرقام… مرجعً ا ال يحتمل ّ الشك الذي يحتمله السرد بصفته متخ َّيلاً مرويًّا مِ نَ الذاكرة .كذلك
إفادة الرواية منها .هكذا ،فإنَّ الرواية، وبصفتها ف ًّنا وليدً ا ،كانت وال تزال (وربما
هو حوا ٌر مُ مَ س َرح يحيلً ، أيضا ،إلى خطاب
عليها؛ كي تبدع قولها (أو خطابها) الروائي، ِّ تشكل ،على مستواها الف ّني ،تيّارًا ومن َثمَّ
الفنون السرديّة األخرى ،أو عدم إمكانيّة
ِّ ّ ُ بدواله ومدلوالته، العرض المسرحي، يتشكل َ كخطاب ف ّني مختلف داخل الخطاب الروائي. ٍ
ما زالت حتى اليوم) تراكم تجربتها وتنوِّع
الخطاب/ داخلي له .يتشارك كمرجع المدوَّنات ُ ٍّ ٍ ُ والعرض المسرحي المدوَّنة بصفته التوثيقية،
يميّزها بانتمائها المجتمعي وهويّتها الثقافيّة. ً هدفا بذاته بل بهذا المعنى لم يكن التجريب
مسعى لرواي ٍة تقول ،وعلى مستواها الف ّني
بصفته الحواريّة ،أي الصوتيّة /السمعيّة،
وباعتماده المدوّنة مرجعً ا له ،في تدمير
المتخيَّل الروائي السردي (الواقعي التقليدي) وفي إعادة إنتاجه .لكن إعادة اإلنتاج هذه ليست مجرد لعب فني مجاني، َّ موظف لدعم الحكاية وتأكيد مصداقيّتها. بل هي لعب فني
هكذا ال تفارق رواية شرف ،ببنائها التجريبي هذا ،قواعد
الرواية الواقعيّة البسيطة وحسب ،بل تخلخل عالقة التوافق
المألوف بين القارئ والرواية التي اعتاد أن يقرأ .كما تخ ّرب إمكانيّة التواطؤ بينهما .وبذلك تبدو رواية شرف َّ كأنها تضع القارئ في مساحة التغريب ،وتطرح سؤالها على مفهوم النوع ً سابقا ،لجهة األدبي الروائي المتماسك بقواعده المعتمدة
ُ رواية شرف سؤالها استمرار صالحيّته لحكاية حكايتنا .تطرح
على الرواية ،ونطرح نحن سؤالنا عليها :هل قدّ مت هذه التجربة الروائيّة مثالاً حداثيًّا للرواية العربيّة ،أم أنها كانت
مج َّرد تجربة فرديّة لم تثبت ،حتى اليوم ،قابليّتها الحتذاء عامّ ؟ جوابًا نقول بأنّ الرواية فنٌّ وليد في األدب العربي ،ال تقاليد لها سابقة ،أو موروثة في التراث العربي األدبي؛ ّ ألنه
ٌ تراث سرديٌّ ،وكان بإمكان الرواية العربيّة أنْ لئن كان للعرب تفيد منه ،فإنَّ علينا ،كباحثين ّ ونقاد ،أنْ نميّز بين الفنون العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
ّ الخاصة .وبهذا المعنى المميّز ،حكايتها
ً أيضا ،يمكننا الكالم عن التجريب الروائي اللبناني الذي دعت ُ حرب مدمّ رة طرحت سؤالها على فنيّة الرواية التي حكاية إليه ٍ يكتبها اللبنانيّون بشكل خاص ،وعلى الرواية العربيّة بشكل عام .فقد كان ُّ كل ذلك يحدث في ذلك الزمن الواحد ،أي ما بيْن النكسة واحتالل العراق ،وفي َ عال ٍم يشترك في المعاناة
واألحالم ولغة التعبير وثقافة هذه اللغة وأدبها وتاريخها.
هوامش:
)1انظر مجلة مواقف ،عدد ،٦٩خريف عام ١٩٩٢م ،ص (.)٢٣ -21 )2المرجع السابق ،ص.٦٨ )٣انظر :يمنى العيد ،الرواية العربية المتخيل وبنيته الفنية ،دار الفارابي ،بيروت٢٠١١ ،م ،ص.٥٣ )4للتوسع انظر :يمنى العيد ،في معرفة النص ،الطبعة الرابعة، دار اآلداب ،بيروت ١٩٩٩م ،ص.١٩١ )5للتوسع انظر :يمنى العيد ،فن الرواية العربية بين خصوصية الحكاية وتميز الخطاب ،دار اآلداب ،بيروت١٩٩٨ ،م ،ص.١٩٣
العربية . .منذ النكسة حتى احتالل العراق منعطفات الرواية ّ نصوص
ِّ الش ْع ُر ماريان مور
شاعرة أميركية
ترجمة :محمد حلمي ال ِّريشة
أَ َنا ،أَي ً ْضا ،أَ ْن ُف ُر مِ ْن ُهُ :ه َن َ اك أَ ْشيَاءُ مُ ِهمَّ ٌة َورَاءَ ُك ِّل َ الغ ِّ هذا َ ش.
أَ ْقر َُؤ ُه ،وَل ِكنْ ،مَ َع ا ْز ِدرَاءٍ مِ َثال ٍِّي َل ُه ،وَمَ ر ًَّة أَ ْك َت ِش ُ ف فِيهِ ص َ بَعْ َد ُك ِّل َش ْيءٍ ،مَ َك ًانا لِألَ َ الةِ . َ األ ْيدِ ي َّال ِتي يُمْ ِك ُنهَ ا أَنْ َت ْن َق ِب َ ض ،و ُ َالع ُيونُ َّال ِتي يُمْ ِك ُنهَ ا أَنْ َت َّت ِس َع ،و َّ َالشعْ ُر َّالذِ ي يُمْ ِك ُن ُه أَنْ
َي ْر َت ِف َع ْس َ ضرُوريٌّ َ ،فإنَّ هذِ ِه َ ألنَّ األ ْشيَاءَ مُ ِهمَّ ٌةَ ،لي َ إِ َذا َ ِ ِ العال ِِّي يُمْ ِكنُ أَنْ ُي َ ْت َ َت ْف ِسي َر َّ وض َع َع َل ْيهَ ا، الصو ِ
بب أَ َّنهَ ا وَل ِكنْ بِ َس ِ ص ِبحُ َث َان ِويًّا ِج ًّدا بِحَ ي ُ مُ ِف َ يد ٌة .حِ ينَ ُي ْ صي ُر مُ ْبهَ مً ا، ْث َي ِ َو ُربَّمَ ا َي ُق ُ ول َّ الش ْيءَ َن ْف َس ُه َل َنا جَ مِ ً يعاَ ،وإِ َّن َنا لاَ ُنعْ جَ ُ ب بِمَ ا
َّ الخف ُ اش لاَ يُمْ ِك ُن َنا أَنْ َن ْفهَ مَ : ْ ب ،أَ ْو ِفي َسعْ ِيهِ إِ َلى َش ْيءٍ َي ُكونُ رَأ ًسا َع َلى َع ِق ٍ
ِليَأْ ُك َل ،و ْ َاندِ َف ُ اع ال ِفي ََلةِ ،وَالحِ َ صانُ الوَحْ ِش ُّي َيأْ ُخ ُذ َل َّف ًة ،و ِّ َالذ ْئ ُ ب َّالذِ ي لاَ َيك ُّ ِل َتحْ َ ت ْ ِير ُيوخِ ُز ِج ْل َد ُه مِ ْث َل َشجَ َر ٍة ،وَال َّنا ِق ُد َعدِ يمُ ال َّتأث ِ
حِ َ ان ص ٍ وثَ ،ومِ ْروَحَ ُة َي ْش ُع ُر بِ َب ْر ُغ ٍ
َاإلحْ َ صائ ُِّي- (ال ِب ْ يسب ِ ُول) ،و ِ
شاعر ومترجم فلسطيني
ْس َقا ِدرًا َلي َ َ يز َب ْينَ «الو ََثائ ِِق ِّ ار َّيةِ التجَ ِ َعلى ال َّتمْ ِي ِ َسيَّةِ »؛ ُك ُّل هذِ ِه َّ و ُ َاه ِر مُ ِهمَّ ٌة. الظو ِ ب المَ ْدر ِ َالك ُت ِ الوَاحِ ُد َي ِج ُ ب أَنْ يَعْ مَ َل َتمْ ِيي ًزا
ُّ َمع ذل َ و َ ور مَ َع ِن ْ ف ص ِ ِك :حِ ينَ َت ْنجَ ُّر َنحْ َو الظهُ ِ ُّ الش َعرَاءِ ،
َف ِإنَّ ال َّن ِتيجَ َة َلي ْ ْست ِشعْ رًا، ِلش َعرَاءِ َب ْي َننا أَنْ َي ُك ُ َوالَ يُمْ ِكنُ حَ َّتى ل ُّ ونوا «حِ َر ِفيِّي
َ َال»َ -فو َْق الخي ِ اهةِ َ ،ويُمْ ِك ُنهُ مْ أَنْ َي ُك ُ الو ََقاحَ ةِ وَال َّت َف َ اض ِرينَ ونوا حَ ِ ائق و َْهمِ ي ٌَّة مَ َع َ يش« ،حَ َد ُ ض َفاد َِع حَ ِقي ِقيَّةٍ لِل َّت ْف ِت ِ ِفيهَ ا»،
َو َي ِج ُ ب َع َل ْي َنا َ أَنْ َنأْ ُخ َذ بِهذِ ِهِ .في هذِ ِه األ ْث َناءِ ،إِ َذا ُك ْن َ ب مِ نْ ت َت ْط ُل ُ َناحِ يَةٍ ، الخامَّ ل ِّ المَ ا َّد َة َ ِلشعْ ِر ِفي ُك ِّل َق ْس َو ِتهَ ا، وَمَ ا ُه َو مِ نْ َناحِ يَةٍ أُ ْخرَى َ ت مُ ْه َتمٌّ بِ ِّ ص ٌ يلَ ،فأَ ْن َ الشعْ ِر. أ ِ
63
دراسات
الكتابة شع ًرا في نظم أبي تمام عمار العماري فضل بن ّ
64
باحث وأكاديمي سعودي
الغربي ،فطه حسين ،رأى فيه، برز موقف جديد ينحو بدراسة شعر أبي تمام نحو النقد ّ في قراءة عابرة ،ما رأى بول فاليري في ماالرميه ،وتبعه شوقي ضيف ،فقال« :إن هناك شبهً ا بين غموضه ومعانيه العويصة ،وغموض الرمزيين المتفرِّع عن البرناسيين الذين يعنون بالموسيقا والجمال المادي» .وجاء أدونيس ،بموقف الحداثة القائل« :إن أبا تمام انطلق من أولية اللغة الشعرية...أي خلق العالم باللغة...شعره يصدر عن «ضمير صنع .ليصل إلى أن الشعر «هو التطابق أو زواج الكلمة البكر بالعالم البكر» وهي مفاهيم مشتقة من ماالرميه وبودلير وفاليري» .وربط كمال أبو ديب بين شعر أبي تمام والشعر اإلنجليزي الميتافيزيقي في القرن السابع عشر الميالدي .ومن الغريب أن هذا الشعر الميتافيزيقي شعر الروحانيات والفلسفة ،كما عند -J. DonneوG. Herbert A. Marvellو Vaughan H .وهو خالف شعر القرن السابع عشر الشكسبيري -ال يتفق مع قوله الذي ّ خلط فيه، فجاء مشو ًَّها ،صورة أخرى من قراءة أدونيس: «الحداثة في شعر أبي تمام».
العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
شعرا في نظم أبي تمام الكتابة ً
وورد في دراسة إيليا حاوي ألبي تمام اسما ماالرميه ،ورامبو.
واألشد غرابة أن يقول عنه في موضع آخر« :الحقيقة...أن طبيعة شعره كانت تناقض التجربة الرمزية؛ ألنه من أصحاب االتجاه العقلي
ومن الذين يتفكرون على التجربة بقدر ما يعانونها ،وربما كان يتفكر بها أكثر مما يعانيها» .ولكنه كذلك ال يستبعده من البرناسيين. والعجب كل العجب أن عمَل حسين الواد -وإن كان أثر عبدالقادر
عملي الرباعي وكمال أبو ديب فيه واضحً ا ،وإن لم يذكر هنا -تطبيق ّ لما فهمه من انتهاج أدونيس نهج الرمزيين ،ولم يذكر أدونيس أيًّا من
أدونيس
كمال أبو ديب
فارق هو أسبقية الرؤية عند أدونيس وجمودها عند الواد. أولئك ،مع ٍ
تعبيرية أخرجها االنفعال ّ وولدها الخيال» ،و«اندماج الذات في
ألبي تمام منزلة في الشعر القديم شبيهة بمنزلة ماالرميه في الشعر
وكذلك« :كان أبو تمام في دراميته شبيهًا بـ(هاردي) وعلينا أن نلحظ الفرق بين المدرستين :المدرسة الرمزية ومدرسة ٍّ كل من شكسبير
يتفق الواد اآلن مع أدونيس ،حتى إنه يشير إليه وال يذكره في قوله: «وقد تأثر ك ّتاب الحداثة في البالد العربية بهذا المسلك حتى جعلوا الفرنسي لما لمسوه بين شعريهما من وجوه التشابه والتقارب».
الموضوع» ،و«في قصائده المدحية ...تشعر أنك فوق اللذة األرضية... كان يمتلك دائمًا انفعالاً قويًّا...إنه زحزح اللغة عن مواضعها».
ولهذا قال« :تأسر الناظر في شعر أبي تمام ،من ناحية اختياراته
وهاردي ،التي يحاول كل فريق أن ينسب أبا تمام إلى إحداها .وإذ أصبحت الجادَّة سالكة لشعر أبي تمامَ ، وآل إلى تلك النتيجة ،فإن
كبي ًرا ،فالتمسها في الموروث الشعري ،واستخلصها من مخبوء كالم
الوراء ،وكان علينا أن نتقدّم خطوات في دراسة أبي تمام ،فكان هنالك
اللغوية ،أول ما تأسره منه ،تلك اللغة األساسية المنتقاة التي تكاد
تنطق بلسان حال العالم .وهي لغة أنفق الشاعر في انتقائها مجهودًا العرب ،فأحدث بها المفاجأة التي تبعث على االندهاش ،وتستفز الحس ،وترجع بالمرء إلى التأمل في عالقة األسماء بالمسميات
في النظام اللغوي .ثم إن هذه االختيارات تجرجر معها قضايا لغوية ّ محل خالف لم يُحسم .»...والمهم أن الواد ،الذي لم يقدّم كانت
جديدًا ،عاد ،واعترف بتحصيل أدونيس ،بل نقض هذا التطبيق
عمومًا ،واضطرب ،فتورّط ،حين قال« :استعمل أبو تمام إلى جانب
هذه االختيارات التي تعتمد ،عادة ،في التمييز بين الكالم الفني
َّ فقص وسر َد والكالم العادي ،اللغة التي يكثر جريانها في المحاورة َّ ً ألفاظا من كالم «العامة وعلق شعره باليومي والتافه والراهن وأورد
وتعابيرهم» .بينما يقيم دراسته على إيجاد ّ حل الختيارات أبي تمام
اللغوية ،على أساس أن لغته لغة ليست مكتسبة أو مصطنعة. الشعر الفرنسي وأبو تمام
بل ابتدأ بالقول« :استعمل ...الكالم الغريب الوحشي والساذج ّ الغث السخيف المبتذل الذي ّ ويترفع عنه ُّ الشداة ُغربون يتنكبه الم ِ
المبتدئون ويتج ّنبه ِّ فهم الواد الشع َر الصغار من المتشاعرين»ِ . عل ــى أنه «فعل شعري» ،ولم يستقم له الربط بين «الواقع والحلم وواع ،فلو والخيال» ،فها هو يقول« :الفعل الشعري...فعل إرادي ٍ
لم يكن كذلك لكان هذيان المجانين وكالم الحمقى شع ًرا» .وسنرى أن هذا نقيض رأي الرباعي .وحيث ينحدر الشعر إلى اإلرادة والوعي، وال توضع قيمة للعاطفة في هذه العمل ،فإن المقارنة بين الشعر
الفرنسي الرمزي وشعر أبي تمام ال واقع لها .وإنما أخضع الواد شعر
أبي تمام له على ما بينهما من بون شاسع .وال عجب أن تتأسّ س دراسة الرباعي على «اإللهام الفطري» ،و«القصيدة عند أبي تمام ...شعرية
بعض أصحاب النقد الحديث رأى أنه لم يعد بع ُد مجال للعودة إلى طريقان :الطريق األول هو الطريق البنيوي ،على ما تمّ على يد يسرية المصري ،ثم الطريق الذي يجمع بين البنيوية والتأويل.
وقد أقام سعيد السريحي دراسة عن شعر أبي تمام ،على منهج
«جدلية األضداد» .وواضح من تحليالته أننا خرجنا من التحليل إلى ً صادقا« :إن الشعر عنده تجربة التأويل ،وليت ما قاله السريحي
مع اللغة تتفجر فيه أعماق طاقاتها ،وتترامى فيها الكلمات إلى َّ مؤخ ًرا ذكر للرمزية والميتافيزيقية .وقد آفاق قصوى» ..ورأينا منه ّ فيتمثل انعتاق السريحي أشاد الواد بالسريحي ،فقال« :أما عمليًّا
من الحِ رباويّة في اتجاه الباحث إلى فهم األبيات الشعرية في عالقة
مكوّناتها بعضها ببعض مع السعي إلى فهم اختيار الشاعر لها دون
سواها في اللفظ أو التركيب أو في العالقات التي تنسجها داخليًّا ّ وتدل بها خارجيًّا» .وليس هناك خالف يذكر بين السريحي والواد وستيتكيفيتش ،إال إيغال األخيرة في «البنية الطقوسية». التصنيع وتشويه الشعر
ً مجتزأة، لقد شوّه التصنيع شعر أبي تمام ،ولم يبق له إال الصور واأللفاظ َّ موق ً عة ،إذ لم يكن يهمّه إال ذلك الحشد .كان أبو تمام واعيًا
كل الوعي بالعملية الشعرية ،حاض ًرا كل الحضور في أثناء الصياغة
الشعرية ،فكانت هذه مفارقة حادّة بين الشعر والصناعة .وحتى يكون شع ًرا ال بد أن يتناغم مع سواه في جو انسجامي مشحون
بالعاطف والتنامي ،وأن يأتي متفج ًرا من أعماق نفسه .ولم تكن ّ الخفاقة ،بل كانت صياغات خياله معاني أبي تمام جزءًا من روحه المدرك ،من تفكيره .وهنا يتبيّن البون الشاسع بين الشعر الحلم ِ ّ التوقف كلية عن دراسة شعر أبي والصناعة الشعرية .وهنا ،علينا
65
دراسات
تمام دراسة فنية أو إبداعية ،وإن جاز لنا أن نقرأه أسلوبيًّا (لغة
وتراكيب) على أنه طريقة كتابية ،وليس شع ًرا .ومن ثم ،نتفق مع عبدالله التطاوي حين ساح مع نقد أبي تمام ،مائلاً إلى تقديمه،
ولكنه انتهى إلى القول« :التقت فيه العلوم ،وتبلورت المصطلحات ممّا أثقل كاهل العملية الفنية كموقف إبداعي التقى فيه الوجدان
بالعقل ،والفكر بالشعور ،والفن بالمنطق وبغيره من العلوم» .وإن خالف هذا بعد زمن ،فقال« :حالة العقل واالضطراب التي يعيشها الشاعر لحظة اإلبداع ليستجمع طاقته وليصوغ ف ّنه ،ومع محاولة
االضطراب -هذه -تتسع دائرة االنفعاالت األصيلة التي تحوّل المادة الواقعية إلى مادة فنية ،وتحيل الحقائق إلى رموز».
وماذا يبقى ألبي تمام ،إن وافقنا على مقولة عبده بدوي:
«الثابت أن موسيقا أبي تمام كانت ريّانة ،ومسترسلة حين يطلق ّ نحس بنوع من يتحكم فيها العقل العنان ولكن حين ّ لوجدانه ِ
الخفوت والرتوب الموسيقي» .فكيف يكون هذا شاع ًرا؟ ّ ولم يأت أبو تمام من فراغ ،بل جاء من ثقافة أدبية ،شكل أبو تمام قمتها ،أي :استخدام البديع ،وهكذاَّ ، سلم الجميع بأن هذا هو
نوع الشعر الذي يفرض نفسه .وبالتأكيد ،فإن هذا النوع من الشعر ّ كان ًّ المتعلمين ،ولم يكن يستهوي الشريحة خاصا بالطبقة العليا من الواسعة من الق ّراء ،حتى إنه كان مفصولاً
66
سعيد السريحي
حسين الواد
ليست الميتافيزيقية إال مغالطة وجهالة، فشعر أبي تمام أبعد ما يكون عنها ..وإن وضع شعره في مكانه المالئم له من صناعة البالغة العربية هو الوضع المناسب له ج ًّدا وصفا ً ً الئقا بما يفعل ،وأن الطبع فيه ضعيف الحظ» حتى وصفه
به ،وهو «الكالسيكي الجديد» .ولقد كان إخفاق دعاة الميتافيزيقية
الرمزية وكذلك الشكسبيرية -الهاردية اللتين قامت عليهما البنيوية من كونهما لم يقدّما نماذج عملية من الرمزية نفسها للقياس والمقارنة؛ ألن ذلك غير ممكن ،وإنما عرضوا
كلية عن الشعب .كان أبو تمام فاتر العاطفة،
انطباعية وذاتية ،فتحجّ رت البنيوية .ليست
«هو غاية اإلبداع الفني» .يقول بدوي« :إنه شاعر «ص ّناع» .ولقد قال العشماوي« :كان
تمام أبعد ما يكون عنها. ً ً أبياتا منتقاة؛ ألن وليست الرمزية
جامد اإلحساس .ويرى سيد األهل أن هذا:
الميتافيزيقية إال مغالطة وجهالة ،فشعر أبي
معظم محاوالته ضربًا من العناية بالشكل ً وإسرافا في التأنق والتزويق والزخرف»..
«الشعرية عند ماالرميه هي شعرية األحاسيس
الباطنية واالنفعاالت المتأجّ جة ال شعرية
ليست الشاعرية في الشعر «المحدَث» مسألة
إلهام وأحالم ،وإنما مسألة وعي وصناعة، ّ يتحقق في ذلك الشعر من وعلى مقدار ما غنائية وتأثير يكون استقبال ذلك الشعر،
بحيث لم يعد هناك أدنى معيار لما قاله أبو العتاهية ،أو ابن دريد، ّ أو ابن المعتز ،أو غيرهم من العلماء والفقهاءُ ، والنقاد، والك ّتاب، والفالسفة ،وهلمَّ ج ًّرا .وكان ّ النقاد األوائل قد وضعوا معيارًا فصلوا َّ و«المولدون» و«المحدَثون». به بين الشفوي والكتابي« :اإلسالميون»
القوالب اللغوية الجاهزة» .وإن وضع شعر أبي تمام في مكانه المالئم له من صناعة البالغة
ماالرميه
العربية هو الوضع المناسب له جدًّا .ولذا،
فإنه ال يسع المرء إال أن يدهش أشد الدهشة لهذا التحكم في تحويل الفنّ الكتابي إلى صناعة شعرية؛ وليته كان ف ًّنا
ً خالصا!! ومن ثمّ ،فإن أبا تمام باستعماله لغة ال يستخدمها، شعريًّا
وال تجاري عصره ،حتى في اللغة الفصحى المكتوبة في ذلك العصر،
يقع خارج العصر والزمان والطبيعة ،فهي إذن لغة -لغته األم -ال
والعجب أن يمجّ د نجيب البهبيتي هؤالء ،فيما نرى خالفه عنده، فيقول« :أما ما كتبه القدماء ،فأحكام مر َّكزة صادقة ،تقوم على علم
الفصحى سليقة هو الذي ج ّر إلى كل تلك المغالطات .أننتهي حسبما
يَغلون ،وال يف ّرطون ،وليس فيما كتبوه شيء من التخليط الذي هو
ألنه تمادى في اإلغراب والتخييل ،وإنما ألنه كان يستخدم اللغة بوعي
صحيح ،وإلمام سليم بدقائق فنّ أبي تمام ومذهبه ،وهم في ذلك ال الطابع البيّن لبعض الكتابات الحديثة.»...
وكان أولئك الدارسون قد ضربوا ُعرض الحائط بنقد محمد
مندور الذي لم يجد في شعر أبي تمام ،كي يكون تجديديًّا إال
«استعارة الهياكل»؛ ألنه أدب جزئيات «صادر عن صنعة ووعي العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
تصلح للدراسة على النحو السابق .والظن بأن أبا تمام كان يتكلم
يرى بسيوني عبدالفتاح بسيوني إلى أن موقفنا من شعر أبي تمام ليس تا ّم ،وهنا تكون المفارقة ،وليس ألن الشعر عنده «نتاج عبقرية؟ وهل نقبل رأي كامل حسن البصير القائل« :كثير هو دون ّ شك شعر أبي تمام الذي ال ّ يغذي في هذا العصر عقلاً وال عاطفة والذي إن دُرس فإنما يُدرس لغاية تاريخية».
شعرا في نظم أبي تمام الكتابة ً
67
دراسات
جدل الشعر والثورة في شعر حسن طلب
68
العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
يسري عبدالله
ناقد مصري
يعتمد ديوان «إنجيل الثورة وقرآنها -إصحاح الثورة» (المجلس األعلى للثقافة) للشاعر المصري حسن طلب ،على جدل السياسي والجمالي ،وعبر جدلهما الخالق تتشكل البنى المركزية للديوان، وتتحقق سمات خطابه الثوري ،حيث يعتمد الديوان في بنيته على ثيمتين مركزيتين هما :الحب، والحرية ،يتصالن اتصالاً ً وثيقا بجوهر الشعر والثورة في اآلن نفسه ،ويعبران عن المنحيين األساسيين داخل القصائد( :المنحى الرومانتيكي ،والمنحى الواقعي) كما تبدو اإلحالة إلى وقائع حقيقية ،وأحداث زمانية ومكانية محددة« :جمعة الغضب -جمعة الرحيل 2011م» ،من أهم اآلليات الجمالية التي يعتمدها ّ دوال مركزية في النص ومنحها أبعا ًدا جديدة تتجاوز أفقها الشاعر في نصه ،فضلاً عن االعتماد على المادي لتصل إلى فضاءات نفسية وإنسانية ،على نحو ما يصنع الشاعر مع مفردته األثيرة في الديوان ّ ً الدال للصيغ األسلوبية ذات الطابع اإلنشائي، مسكونا بالتوظيف «الميدان» ،في ديوان شعري بدا تارة ،واألسطورة ً المقدس ً َّ تارة وتتماس مع والواقعي، والصور البالغية التي تجدل ما بين المتخيَّل ّ ّ مستخدمة ذلك جميعه في التعبير الفني والداللي عن الثورة ،وتسعى هذه الدراسة إلى استجالء أخرى، ِ جماليات النص الشعري التي وظفها الشاعر في التعبير عن موضوعه المركزي هنا «الثورة». للديوان فواتح وخواتيم ،حيث يستهله الشاعر «باسم
الحب والحرية» ،وينهيه بعزمه على وصال المحبوبة في قصيدته
«سآتيك» ،وما بينهما جملة من النصوص الشعرية التي تطرح حالة ً أحيانا أسماء لوقائع زمانية فارقة ،على نحو ثورية بامتياز ،فتتخذ
ما نرى في العناوين التالية« :يرحب الميدان» ،و«جمعة الغضب»، و«جمعة الرحيل» ،أو تتخذ نزو ًعا ساخ ًرا على نحو ما نرى في« :قلة
مندسّ ة» ،و«حكماء األمة» ،أو تنحو عناوين القصائد صوب إقرار
حالة ما ،على نحو ما نرى في« :ترفرف الرايات» ،و«يزداد العدد»،
و«يختلف الهتاف» ،و«تمرض الثورة» ،أو تنحو صوب الفانتازيا مثلما نرى في قصيدتي« :على أجنحة الفراشة» و«تظهر إيزيس» ،أو تحيل إلى تلك الثقة في المستقبل« :غدًا سنرى» ،أو إجمالاً لمشهد
عام« :تلك هي القصة» ،وفي كل تتحرك نصوص الديوان بوصفها تعبي ًرا جماليًّا عن الثورة المصرية في لحظاتها المختلفة ،وتحوالتها
المتعددة في مرحلة مفصلية من عمرها ،يحددها الشاعر حين يضع
بين يدي ديوانه ذلك الزمن المرجع ،ويحدده بقوله« :كتبت قصائد
(إصحاح الثورة) في المدة ما بين يناير 2011م إلى يناير 2012م» ،ويعد ّ محل الدراسة من جهة، التحديد الزمني هنا حاكمًا لقراءة النصوص ً وكاشفا عن سياقاتها السياسية الثقافية من جهة ثانية.
يتشكل الديوان من ثالث وثالثين قصيدة شعرية ،تتفاوت فيما
بينها في الطول والقصر تبعً ا للحالة الشعورية التي يريد الشاعر أن يبثها إلى متلقيه ،حيث تبدو القصائد الساعية صوب تشكيل عالم
يمزج بين الثوري والرومانتيكي طويلة نسبيًّا على نحو ما نرى في
القصيدة األخيرة في الديوان «سآتيك» ،كما تبدو القصائد التي ترصد
69
دراسات
مشهدًا بعينه من مشاهد الثورة أو ً حدثا محددًا من حوادثها الفارقة قصيرة نسبيًّا على نحو ما نرى في قصيدتي« :جمعة الغضب»،
و«جمعة الرحيل» .يبرز في الديوان جدل الشعر والثورة ،حيث ً تأريخا للحظات مختلفة مرت بها يعد الديوان بقصائده جميعها ً عطفا على مشاهد حياتية مرت بها الجموع التي الثورة المصرية ،أو وتكريسا لعالقة الذات الشاعرة تحضر هنا بوصفها مجلى للعالم، ً
بالسياق السياسي الثقافي المحيط .يتجادل السياسي والجمالي
وباسم الحُ ّب :كي ال يُح َرمَ الشاع ُر مِن غاد ِتهَِ /ف ُترى مَن َغي ُر ُه باسمِي/ ِ لاَّ َ َ َ قيس لِليلى /وابنُ زيدونَ لو د ِتهِ». يُنش ُد ُكم /أروع مما قال ُه ٌ التاريخ المباشر للحدث
ويلجأ الشاعر في تثوير خطابه الشعري إلى االتكاء على التأريخ
المباشر للحدث ،والنصية على زمان حدوثه ،مثل قوله« :كانَ ثالثا ُء
في «باسم الحب والحرية» ،ويحضر الميدان منذ المفتتح ،ويبدو االستهالل الشعري اب ًنا لصيغة حكائية ،يتبناها الشاعر في نصه، ُ ُ «منذ أَنْ الحرية اليومَ /بِ ِزيّ امرأ ٍة ريان ِة القدّ/ أشرقت حيث يقول: ِ
َ فقصدنا األول /..ميعاد الصحوهْ. ِ ُ ُت ُ الحب/.. إلهات وطيوف حالفنا/ ّ ِ
الحُ ّب لصياد ِتهِ!» .ويعمق الشاعر بنيته الحكائية عبر توظيفه لفعل
في الديوان ،في محاولة فنية لرصد الواقع السياسي بتجلياته
ً ً َ ومياد ِتهِ! /أصبحَ الميدانُ ألوانا /وغ ّنى طائ ُر وضاع العط ُر بستانا/
القول «قالت» ،في إشارة منه إلى «الحرية» التي تتماهى في القصيدة ْ باب بي ِتي أصبحَ الميدانَ » ،بعد أن مع الميدان ،فيقول: «قالتُ / : ّ قدمت إليه كعروس بكر ،في استعمال دال لالستعارة المكنية في ْ ْ الثوار /نثرا ألقت على البكر /..مِن سَ ّل ِتها كالعروس «فتهادت النص: ِ ِ ِ
النار». مِن زهور ِ ِ
وتتواتر الصيغ اإلنشائية في القصيدة ،مثل« :فأجيبوه /اهتفوا/
وانسوا /فاهتفوا باسمي» ،وبما يفضي إلى مزيد من الحث لجمهرة
70
ميراث الشعر والحب والتضحية ً أيضا التي يمكن تلمُّسها في نصوص ُ «فاهتفوا وحكايات العاشقين :قيس وليلى ،وابن زيدون و َولاَّ دة:
المتلقين ،الذين يسعى الشاعر ألن يقفوا على حافة الفعل ،مثلما وقف المشاركون في الثورة في قلب الميدان .ويبدو المزج دالاًّ ما بين ثيمتي الحب والحرية في النص ،وبخاصة في المقطع األخير
الذي يستعير فيه الشاعر جزءًا من إرثه الشعري القديم ،حين يستحضر في متنه الشعري كلاًّ من قيس ليلى ،وابن زيدون ،وبما يعني ً أيضا انفتاح النص على جملة من الدالالت التي يستدعيها
الخامس والعشرينَ ِ /منَ الشهر ِ ِ َ كأنّ الميدانَ الرحمان مالئكة /.. ِ ُ ُ ّ ُ بوميض النخوهْ!» .وتتواتر الدوال الزمانية فتفيض عواطفنا/ صادفنا/ ُت ِ
المختلفة ،على نحو ما نرى في االستهالل الشعري لقصيدة «كان غلب القه ُر/ كذلك» ،التي يستهلها الشاعر قائلاً « :أمسي َنا / :ق ْد َ ً أحيانا إلى معارضة وأصبحنا :قد ن ِف َد الصب ُر!» .كما يلجأ الشاعر
الموروث ،ومحاولة صوغ وعي جديد يتسق والفعل الثوري ذاته ،بما
يحويه من وعي وجسارة حقيقيين ،فالعبارة الشهيرة« :دع المُلك للمالِك» يعارضها الشاعر في نصه ،بقوله« :لن َند ََع المُلك» ،ثم يحوّر العبارة ذاتها ،ويصوغها على نحو مختلف ،واصلاً لمعنى عميق
يعتمد ديوان »إنجيل الثورة«على جدل السياسي والجمالي ،وعبر جدلهما الخالق تتشكل البنى المركزية للديوان، وتتحقق سمات خطابه الثوري
مشاهدات حية من مكان الفعل الشعري تحضر «شهد» في قصيدة «جمعة الرحيل» من زاوية مختلفة عن تلك التي وجدناها في «جمعة الغضب» ،حيث يختفي
الظل الرومانتيكي نسبيًّا ،وتبدأ القصيدة بدعوة مباشرة من الذات الشاعرة لشخصيتها المتخيلة «شهد» كي تشهد جمعة ً رؤية من الداخل ،فالشاعر الرحيل ،وتصبح الدعوة مشفوعة بوعي الذي اقترب فرأى ،ومن َثم تبدو الرؤية الشعرية في النص
يقدم لنا مشاهداته الحية ،وينقل لنا ما يدور في مكان الفعل الشعري «الميدان» ،وتحضر «شهد» ً أيضا في القصيدة األخيرة من الديوان ،التي تحتل حي ًزا كميًّا من المتن الشعري للديوان أكبر من القصائد األخرى ،حيث تقع في ست عشرة صفحة،
وتصبح فيها «شهد» مرويًّا له في القصيدة ،حيث تتوجه الذات الشاعرة بخطابها إليها ،ومن خلفها جمهرة المتلقين على ً رصدا فنيًّا مجملاً لمشاهد من الثورة المصرية ذاتها ،فضلاً عن إشارات ذكية ذات طابع استشرافي تنويعاتهم ،وتبدو القصيدة «سآتيك /إال إذا ما سماسرة ِّ ين /خانوا اليمينَ /فهاجوا وماجوا علينا /على المؤمنات بحتمية للمصاعب التي ستواجهها: ِ الد ِ
بالسيوف /..أتوا بالعصي /..وعاجوا على المتحف الفرعوني ..في طرف ميداننا /ثم أهووا على الدولة المدنيةِ /والمؤمنينَ ! /أتوا ِ ْ ْ األوائل». القرون /وبادت كنور بالمعاول! /فضاع تراث ما رأوا من تماثيلِهِ / ِ «سآتيك» ،إشارة إلى وعد مسكون بالثقة قطعته الذات وتبدو داللة المستقبل التي يحملها حرف السين في الفعل ِ
الشاعرة على نفسها ،مفاده أنه مهما كانت التحديات ،ومهما حال حائل ،فإنها لن تتأخر عن الذهاب إلى «شهد» ووصالها،
العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
جدل الشعر والثورة في شعر حسن طلب
ً موظفا الجناس التام في جملته الشعرية: وجديد في اآلن نفسه، ُ «لن َ داللة «المالِك» في النص ندع المُلك وال المالِك» ،حيث ُتغايِر
الشعري هنا داللتها في الوجدان الجمعي ،ويصير المالك هنا بمعنى الحاكم ،ومن َثم لن يترك المصريون ال المُلك أي الحُ كم ،وال المالِك
أي الحاكم ،وبخاصة مع انفتاح النص على أفق تأويلي شفيف: «كذلك كانَ األم ُر ..فقل َنا :ال /...لن َ َ ندع الم َ َ المالك! كانَ األم ُر ُلك وال ْ َ َ فتوهجت الجَ ذوة». كذلك /..أشعلنا ثورت َنا /ثم هتف َنا/ ِ
ويحضر الشعار السياسي بقوة في الديوان ،ويعد أحد اآلليات
التي اعتمدها الشاعر في التعبير الجمالي عن الثورة ،ويمكن أن نرى ُ «العدالة ذلك في مقاطع عديدة من النص ،من أبرزها ،قول الشاعر:
ُ وباسم كرام ِة المصريّ /كانَ اإلنسان – أيًّا كانَ -غاي ُتنا/ حرية دي ُن َنا/ ِ ِ ُ هتاف َنا /وضمي ُرنا القائدْ!» .في «إصحاح الثورة» نرى تماهيًا بين الميدان والمجموع ،فيقدم الشاعر
الميدان بوصفه مثل ثواره ينشد الحرية، ً موظفا الصورة ويطلب العدل والكرامة، ً توظيفا دالاًّ ،فيقول: التشبيهية البالغية َ ّ َ أحس ما ه كأن نا!/ مثل «كأن ُه كانَ يعا ِني ّ
ُنحِ ّسهُ /أو وج َد الذي نجدْ» .ويصبح
«الميدان» بمنزلة الدال المركزي في
تحويل العالم االفتراضي المتخيل الساكن خلف شاشات الكمبيوتر
إلى عالم واقعي بامتياز ،وهذا ما نجده وفق شاهد نصي من الديوان ذلك الميدانُ /كنا ال ُ ذاته« :فنحنُ لوال َ الجهاز وح َدهُ/ نزال نلت ِقي /عب َر ِ ْ ُّ نحتل حي َز الفضاءِ االفتراضي /ورا َء الشاشة».
وتتحقق آليات تثوير الخطاب الشعري هنا عبر اإلحالة إلى أحداث
حقيقية في الواقع المعيش ،ثم صوغها جماليًّا ،على نحو ما رأينا في قصيدة« :ضابط يثور» ،التي يشير فيها إلى التحية العسكرية التي
قدمها أحد قادة المجلس العسكري للشهداء (المقصود هنا اللواء
محسن الفنجري الذي قدم التحية العسكرية للشهداء في مشهد
مهيب أذاعته القنوات المصرية والعالمية المختلفة) ،في إشارة بالغة الداللة تحيل إلى التالحم الحقيقي بين الشعب المصري وجيشه ْ الباسل« :إذ أدّى لروح ِالشهدا ِء َ بالتحية» .ويتحقق تثوير أروع األداءِ/
الخطاب الشعري أيضا عبر لجوء الشاعر إلى التنويع في األساليب اللغوية المستخدمة ،وما بين توظيف الصيغ الخبرية التي تفيد حالاً من اإلقرار واليقين بانتصار الثورة ،والصيغ اإلنشائية التي تتواتر في النصوص جميعها؛ ألنها
ترصد لحظات مرتبكة ومتحولة ومسكونة بالهواجس واألماني والغايات الكبرى ،ومن َثم سنجد حضورًا دالاًّ
الديوان ،ليس فقط لتواتر حضوره في
المتن الشعري للقصائد المختلفة ،وإنما
ألسلوب النداء في مقاطع عديدة، من أبرزها االستهالل
لمدلوالته الثرية التي يحملها ويحيل
إليها من مقوالت كبرى تتصل اتصالاً ً وثيقا بمعاني الحرية وإنسانية اإلنسان ،وإمكانية
حسن طلب
أساسا للنص الشعري فتتجادل الثيمتان المركزيتان في الديوان من جديد« :الحرية والحب» ،وتشكالن عبر جدلهما الخالق ً الثائر الذي يحمله الديوان ،ويرفده الشاعر بعناصر واقعية وأخرى رومانتيكية ،واألهم أنه يظل خطابا منفتحا على أسئلة ُ ُ الدورة؟/ الثورة؟ /هل تصمد كي تكتمل الشعر والثورة معا ،خاصة مع تقاطع التسجيلي والتخييلي في متنه« :هل تنجح
ٌ «شهد»؟ /أم تأتي ً ُ أسئلة تترى ..وما أكثرها! /كيف استطاع العاشق الثوريُّ /أن يجمع بين العشق والثورةِ!». غدا؟/ واليوم ستأتي
يستخدم الشاعر آلية التناص في أكثر من موضع داخل الديوان ،فتارة يستخدم التناص األسطوري مثلما يفعل في قصيدته «وتظهر إيزيس» ،والتي يستعيد فيها األسطورة الفرعونية القديمة ،بكل ما تحمله من حموالت معرفية وداللية ،وتارة يوظف الشاعر التناص القرآني ،ليصبح في مواضع عديدة أحد أهم آليات التعبير الجمالي عن الثورة في الديوان ،حيث يبدأ ديوانه بما
الميدان /..حيث يذهب الزبد!». أسماه «فاتحة» ،ويقول في موضع آخر« :ما ينفع الناس – كما قيل لكم / -يمكث في ِ َ َ َ َ ُ اس فيَمك ُ ويتناص الشاعر في المقطع السابق مع اآلية القرآنية الكريمةَ ﴿ :فأمَّ ا ال َّزب َُد َفي َ َذه ُ ث ب جُ فاءً ،وَأمَّ ا مَ ا يَنف ُع ال َّن َ َ رض﴾ (سورة الرعد ،اآلية ،)17ولكنه يجعل من «الميدان» أداة معيارية للحكم على ما ينفع الناس ،وعلى الزبد في اآلن ِفي األ ِ نفسه ،وكأن الميدان خط فاصل بين عالمين :أحدهما نافع ،واآلخر ال قيمة له .وبعد ..يعتمد الخطاب الشعري في «إنجيل
الثورة وقرآنها /إصحاح الثورة» على جدل التسجيلي والتخييلي ،فعبر تقاطع الوقائع واألحداث الحقيقية المختلفة وتداخلها مع مساحات الحلم والفنتازيا تتحقق شعرية النص ،وتبرز اإلحالة إلى الراهن المعيش بأبعاده الزمانية والمكانية الدالة على الثورة ،ثم محاولة صنع عالم تخييلي أساسه الصورة الشعرية وجوهره في آن.
71
دراسات
الشعري الذي يفتتح به الشاعر قصيدته «يزداد العدد» ،حيث يبدو طريقا للخالص« :يا َ ً أهل َنا /ال تتركونا وحد ََنا /ال اللجوء إلى المجموع
بد مِن أنْ نحتشدْ /لو اجتمعنا كلنا /فلن يردنا أحدْ /ال تتركونا نكتب
التاريخ وحدنا /فأنتم المداد والمددْ /يا أهلنا /ال ب َّد مِن أن نتحدْ». ويكشف النداء في المقطع السابق عن رغبة في االحتماء بالمجموع، من جهة ،ووعي بالدور الفاعل للمثقف صوب ناسه من جهة ثانية،
كما نرى حضورًا للجناس الناقص بين «المداد والمدد» ،وتسهم الصورة الشعرية هنا في تعميق الرؤية الكلية التي يحملها المقطع،
وتلعب الصورة التشبيهية «فأنتم المداد والمدد» ،دورًا مركزيًّا في ً وعونا هذا السياق؛ إذ تجعل من دعم المجموع حب ًرا يُك َتب به النصر، في الشدائد جميعها. َ َ ومثلما يبدأ الشاعر قصيدته «ويزداد العدد» بالنداء« :يا أهلنا»، أيضا ،في توظيف ّ فإنه يُنهيها به ً دال آللية البناء الدائريّ ،حيث يبدأ
النص من نقطة ما ،ثم يعود إليها في المُخ َت َتم ،فيصبح النداء
في النهاية بمنزلة الشحنة الشعورية واالنفعالية التي يريد الشاعر أن يبثها في متلقيه ،دافعً ا إياه إلى مزيد من المقاومة ،وبخاصة
حين يكسر أفق التوقع لدى قارئه في ختام القصيدة ،قائلاً « :يا ٌ إضافة! /يحدث أهلنا /ال تحزنوا مِن أجلنا /كل شهيد قد فقدناهُ/ :
72
ً َ أحيانا /فيزداد العددْ» .ويصبح ينقص المعدود في ملحمة /أن ً هذا التنويع األسلوبي سمة من أهم سمات الديوان ،وأداة
من أدوات التعبير الجمالي عن الثورة داخله ،وإن ً مهيمنة على النص ،ومشكلة ظلت الصيغ اإلنشائية ما يعرف بالمستوى المسيطر داخل الديوان ،حيث ً نرى ً توظيفا لصيغة التعجب الثانية ،وأعني بها أيضا َ صيغة «أجمِل بِـ» التي ال تستخدم كثي ًرا في الحياة والكتابة ،وتغاير في بنيتها صيغة «ما أَ َ جمل»، ّ مستهل قصيدته التعجبي في ويوظف الشاعر السياق ّ
ً مقترنا بامتداح الميدان ،القادر على «مدينة فاضلة»، َ َ عجب «أ فيقول: الديوان، طيلة واألسئلة إثارة الدهشة ِ َ بذلك الكيانْ ! /أح ِبب بكائن وليدٍ ّ / جل أن يسمى/ َ ْ انصهرت /جبلة اإلنسان عجب بتلك الكتلة العظمى /صارت بحيث أ ِ والمكان /ما أعجبنا ونحن في الميدانْ !». ِ االنتصار للقيم الفلسفية الكبرى
ثمة شخصية متخيَّلة «شهد» ،يستدعيها الشاعر في متن
تبدو الرؤية الشعرية في النص رؤية من الداخل ،فالشاعر يقدم لنا مشاهداته الحية ،وينقل لنا ما يدور في مكان الفعل الشعري الميدان جديدة على متن الجدل الخالق بين الحب والحرية ،وهما الثيمتان المركزيتان في الديوان ،واللتان تمتزجان في معظم قصائده .وعبر تقديم الشاعر لشخصيته المركزية في الديوان «شهد» تتكشف لنا
جملة من الدالالت المهمة ،ففي «جمعة الغضب» يبدو الشاعر ً خائفا على محبوبته التي يقدمها بوصفها شخصية متماهية مع المجموع الصامت الذي خشي عليه الشاعر من أن ينخدع بخطبة
جوفاء ،أو دمعة زائفة ،ويحضر النداء بوصفه خيارًا أسلوبيًّا يوظفه
َ صاحبة الوج ِه الكاتب دالليًّا وجماليًّا على نحو مائز« :يا شهدُ /..يا
الغضب /فإن بكى الطاغية والروح النزيهْ /اليوم جمعة الصبوح الح ِّر/ ْ ِ ِ السبب /دمعان ال تصدقيهما :فال اآلنَ /..فال تصدقيهْ /وف ّتشي عن ْ َ المنسكب /قد يرتدي سال /..وال دمع الطغاة التماسيح /إذا دمع ْ ِ المأزوم/ البطل قناع خلف يختفي/ قد ْ/ ه الفقي عباءة / الطاغية اليومَ ِ
ينسحب!». كي ال ْ
وفي «مجنون شهد» تحضر «شهد» من
جديد ،لكن على نحو مغاير ،حيث باتت حاضرة
في مشهد الثورة بطريقة أو بأخرى ،فالذات الشاعرة تستفسر عن سر ُّ تأخرها ،وكأنها قد استجابت لنداء الشاعر في «جمعة الغضب»
حين ناداها طالبًا منها المجيء ،وبما يعني أن ثمة تماسَّ ات رؤيوية ما بين نصوص الديوان
الميدان/.. المختلفة« :لم أ َر «شهد» أمس في ِ
واليوم مضى بي النهار كلهُ /لم أرها! /فما الذي ترى عن الثورة /قد أخرها؟ /في ساحة الميدان
كانوا يهتفونَ ( /يسقط النظامُ ) /لكن هتافي كانَ : ٌ ُ رفيق /كان الفراق!) /والرفاق يضحكونَ ! /لو (يسقط
ٌ مغلق /وذلك كلما هتفت باسمها /أخبرها! /فالهاتف المحمول ًّ الميدان ٌ ضيق /أما الجماهير فما أغفرها!» .إنه عاشق مختلف حقا، يبحث عن محبوبته ،ويعاني أثر الفراق ،فلم يعد ينهل من حبها المتجدد ،الذي أحاله إلى مجنون جديد يضاف إلى جملة العشاق
ديوانه ،فتحضر على نحو بارز في القصائد المركزية التالية« :جمعة
تماس بالغ الداللة مع الوجدان في تاريخ ثقافتنا العربية ،وفي ّ
«شهد» بوصفها الحبيبة تارة ،وشريكة النضال تارة أخرى ،والشاهدة
اآلن يقف أمام «مجنون شهد» ،الذي يرفع راية الثورة بيد، ّ الدال بينما يمسك باليد األخرى عشقه ،بما يعني أن التواشج
الغضب /مجنون شهد /جمعة الرحيل /سآتيك» ،ويقدم الشاعر
الغائبة تارة ثالثة ،والدافعة صوب االنتصار للقيم الفلسفية الكبرى: الحق /الخير /الجمال تارة رابعة ،وفي ٍّ كل تقترن شهد بالثورة،
وتعد وجهًا من وجوهها األصيلة والنبيلة في اآلن نفسه ،وتنويعة العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
الشعبي ،الذي عرف «مجنون ليلى» على سبيل المثال ،وها هو
بين ثيمتي الحرية والحب يعد األساس الذي اعتمدت عليه الرؤية الكلية للديوان.
جدل الشعر والثورة في شعر حسن طلب
73
alfaisalmag
alfaisalmag
www.alfaisalmag.com
@alfaisalmag
شخصيات
تركي السديري.. رمز صحافي لم يعش في منطقة الوسط هيا عبدالعزيز المنيع
أكاديمية وكاتبة سعودية
حين يرحل رجل بحجم تاريخ وعطاء تركي السديري فال بد أن يكون حجم الفقد كبيرًا ...فهذا الرجل
يمكن القول :إنه من أهم مؤسسي الصحافة السعودية الحديثة ...الحديث عن تاريخ تركي السديري الصحفي واإلداري واإلنساني تتسع مساحته باتساع وتميز عطائه في هذه المجاالت ...سأتوقف بين زوايا مختلفة لن
أتوقف كما يتوقع القارئ عند مفترق القسم النسائي بجريدة الرياض ،وهو :أي القسم الصحافي النسائي يمثل نقلة نوعية في تاريخ اإلعالم النسائي السعودي؛ حيث ُت ِّوجت هذه النقلة بخطوة الحقة وهي تفرغ عمل الصحفيات ،وهو ما يعني معه الخروج من دائرة الهواية للمهنية وااللتزام ،أي العمل المؤسسي. خالل عشرين عامً ا من العمل اليومي معه تلمس في هذا
نقاط القوة في منافسيه ،وبخاصة المميزين منهم ،كان يتحدث
عملي برئاسة القسم النسائي بجريدة الرياض عندما أردت
تميز عالية في المرحوم محمد أبا حسين حتى عندما ترك
الرجل عشق غير طبيعي للرياض الجريدة والمدينة .في بدايات
74
االستغناء عن صحافية عربية لم تشكل إضافة للقسم النسائي وافق على الفور ،موجهًا أول نصيحة« :اتخذي القرار وفق
معطيات ال تصنع أي خصومة مع شركاء العمل».
ومما لفت انتباهي وأثار اهتمامي في شخصيته أنه يرى
بإعجاب عن عثمان العمير وعبدالرحمن الراشد ويرى مساحة
الجريدة وذهب للصحيفة المنافسة (الجزيرة) كان يرى فيه مهنيًّا ممي ًزا لم ينتقده ولم يقم بتعداد سلبياته في لحظة غضب ...لم أسمعه يومً ا يقلل من هؤالء ،بل يتكلم عنهم بإعجاب واحترام.
تقديره وحماسه للمواهب الشابة ،وتبنيها بقوة وجدية،
عراب الصحافة النسائية
يعد الراحل عراب الصحافة النسائية بشكل خاص ،فهو من وضع للمرأة الصحافية إطارها المؤسسي في قانون وزارة العمل؛ وظيفي مقرر للمرأة السعودية العاملة في مجال الصحافة ّ فمكنها إعالميًّا وإداريًّا وتقنيًّا قبل إتاحة المجال إذ لم يكن هناك بند ّ
أمام الجامعيات السعوديات لدراسة اإلعالم في الجامعات السعودية .سعى الراحل منذ أكثر من 37عامً ا إلى أن تكون المرأة عنصرًا أساسيًّا يتكامل به العمل الصحافي ،فبعد سبعة أعوام من رئاسته تحرير صحيفة الرياض ،افتتح القسم النسائي في الجريدة عام 1980م ،الذي ُع َّد أول قسم تحرير على صعيد الصحافة السعودية ضم أكبر تجمع صحافي نسائي سعودي آنذاك. القفزة التي ستظل تدين بها الصحافيات السعوديات لعرابها ،بدأت باستحداث منصب أول مديرة تحرير نسائي غير متفرغة
في صحيفة سعودية يكتب اسمها ومنصبها على ترويسة الجريدة إلى جانب مديري التحرير ،وهي الدكتورة خيرية السقاف وهو
قرار حظي باهتمام كبير وتهنئة شخصية من األميرين الراحل نايف بن عبدالعزيز وزير الداخلية حينذاك ،وسلمان بن عبدالعزيز أمير الرياض آنذاك ً أيضا ،وتناولت خبر ذلك القرار التاريخي كبرى وكاالت األنباء العالمية والعربية وصحافتها. من ناحية ،لعل لقب «ملك الصحافة» الشهير الذي أطلقه عليه الملك عبدالله بن عبدالعزيز رحمه الله ،في إحدى لقاءاته
التاريخية األثيرة مع اإلعالميين السعوديين ،دليل قاطع على ذلك التفرد وتلك المهنية التي تمتع بها الراحل تركي السديري أحد أشهر الصحافيين السعوديين والخليجيين الذين ستبقى لهم بصماتهم المؤثرة ألجيال صحافية سعودية مقبلة .لم يكن ً وناقدا في المعنى الواسع والعميق مجرد صحافي أو رئيس تحرير عبر الحياة الصحافية إنما يمكن القول :إنه كان كاتبًا ومفكرًا
العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
ً ً ومتنوعا يتيح لهم االستزادة من التعليم مطلقا وتقديمه لهم دعمً ا
اإلعالم الصحافي أقوى داعم لتحريك ملف المرأة في ذلك الوقت
والتأهيل في جوانب كثيرة ،كم من صحافية من منسوبات القسم
تقريبًا (عام ٢٠٠٠ميالدية).
الزمالء مع إعطاء العاملين دورات في اللغة اإلنجليزية ،بل إن َ يخش في بعض الشباب اب ُتعث على حساب الجريدة ....تركي لم
لكنه في الوقت نفسه ال يجد صعوبة في تصحيح الموقف عمليًّا من دون
واعتبر دعمه للشباب والفتيات ممارسة واعية للوطنية بتوطين
المصاعب الصحية في السنوات
جريدة الرياض بأعلى نسبة بين الصحف السعودية.
عليه عالمات الضعف،
النسائي حصلت على شهادة عليا وهي على رأس العمل ،وكذلك
منافسا كبي ًرا أو شابًّا طموحً ا ،وتلك درجة عالية من الثقة. يوم ما ً
مهنة الصحافة بكفاءات مؤهلة ومدربة ،وقد تحقق ذلك في إداريًّا ،ميزته الصرامة والجدية ،ال تجده في منطقة الوسط
فهو حا ّد في مواقفه وقراراته ،ورغم ذلك فأنت أمام إنسان ال يبخل على ضعيف أو أن يف ِّرج ُكربة ،....ورأيت ذلك غير مرة مع
السديري ال توجد في قاموسه كلمة آسف،
أي كلمة اعتذار .عانى الكثير من
األخيرة ،لكن لم تظهر كان نموذجً ا للصبر
والتحدي واإلصرار.
بعض منسوبات القسم النسائي ،وكذلك مع الزمالء ...استفاد من وجاهته االجتماعية لمساعدة هذا أو هذه .
الرياض الصحيفة ،ماذا تعني لتركي السديري؟ في جدل
معتاد معه قال« :أنا أتابع الجريدة على مدار الساعة وال بد أن أتلقفها مع ساعات الصباح الباكرة كما يتابع األب ابنته في
أول يوم من زواجها باللهفة نفسها والحب والقلق ...لم يكن أبو عبدالله رئيس تحرير ينظر إلى ساعته وهو في العمل ،بل كانت تحركه عاطفة قوية تجاه الرياض الصحيفة والوطن .عندما قدمت
استقالتي في المرة األولى قال لي « :إن كان عملك في الرياض
ألسباب مؤقتة فأنت حرة في قرارك ،أما إن كان قناعة بأهمية اإلعالم في خدمة الوطن عمومًا ،ونسائه على وجه الخصوص،
فانسي االستقالة وأكملي المسير» .حينها عدت إلى قناعتي أن
ً وقارئا ممتا ًزا واسع االطالع .كان لقراءاته الواسعة أثر في تشكيل وعيه وأسلوبه صحافيًّا وثقافيًّا وفكريًّا فانعكست ثقافته للنقد،
األدبية على كتاباته الصحافية التي تفوقت على كثير من مقاالت الكتاب الرياضيين وغيرهم في ذلك الوقت .فلفت بقلمه الرشيق ورأيه المعتدل انتباه الملك سلمان بن عبدالعزيز ،يوم كان أميرًا للرياض ،غير أن الراحل مع اعتزازه بذلك القرب ووفائه له؛ فلم يطمح ألن يصبح مسؤولاً حكوميًّا أو وزيرًا أو سفيرًا ،بل سعى إلى أن يكون صحافيًّا حتى غيّبه الموت ورحل وهو «ملك
الصحافة السعودية».
في عام 1972م كان ميالد عموده الصحافي «لقاء» في العدد ،2300وكان العمود األطول عمرًا في تاريخ الصحافة السعودية؛
إذ استمر نحو 43 عامً ا ،ومنذ ذلك الحين أصبح «لقاء» البوابة التي تنفتح على التحوالت التي حدثت في السعودية واالنكسارات ّ وعد السديري والنجاحات العربية والعالمية حتى يومها األخير ،ووصف «لقاء» بالوثيقة التاريخية على المستوى السياسي،
ً شاهدا على العصر .فشرعت صحف من لندن ،واأليام من البحرين ،وغيرها في نشر «لقاء» متزامنة مع نشرها في جريدة الرياض. وكانت للسديري نظرته البعيدة وخبرته التي تنبأت بمرحلة ّ تفشي التيار الصحوي ،فهو قال في إحدى المناسبات« :لم توجد لديّ
قناعة في التفاهم معهم أو بالرد عليهم ،ال نحبهم وال هم يحبون صحيفتنا ،مشينا بالجريدة وحاربوها ومع ذلك لم ينجحوا في شيء» .السديري الذي حذر من ذلك الغول دعا إلى صده بكل الجهد والعزيمة؛ ألن المعركة معه معركة حياة أو موت.
قبيل وفاته سأل أحد الصحافيين :ماذا بقي من الصحافي تركي السديري بعد أكثر من ٥٠عامً ا من الكتابة والصحافة والتفاعل ً بسيطا ومع ِّبرًا« :كما بدأّ ، تبقى منه القارئ والمتابع لألحداث؛ لكن الفرق في أن تركي الشاب اليومي مع الناس؟ وجاء جوابه
كانت تنقصه الخبرة والدراية ،أما تركي المسنّ فكأنه على معرفة إلى أين ستتجه األحداث»!
75
مقال
إبراهيم عبدالمجيد روائي وكاتب مصري
جناية «الميديا» على األدب لماذا ًّ حقا تصدر روايات بأعداد هائلة في العالم
العربي؟ هذا سؤال يشغل الكثيرين ،وأقرب اإلجابات
عنه هي أن الجوائز العربية كانت سببًا في اإلقبال على
كتابة الرواية .في هذا جانب قليل من الحقيقة ،رغم أن
التحول إلى فن الرواية من الشعراء والنقاد والصحفيين ً ملحوظا بشدة .لكن والسياسيين وغيرهم صار أم ًرا ليست الجوائز هي ما وراء هذا .وراءه القارئ ً أيضا.
76
فقارئ الرواية اآلن هو األول بين القراء .ومن ثم هو األكثر وبدرجات تفاوت كبيرة جدًّ ا من ُقراء الشعر مثلاً
النوع من الروايات كان غائبًا عن القراء ،كما كان هذا النوع من الروايات غائبًا ً أيضا .وبالنسبة لكاتب مثلي ليست هناك
مشكلة في هذا النوع من الروايات فهو موجود ويتصدر
المبيعات في العالم كله .أذكر دائمً ا أن أغاثا كريستي الكاتبة البريطانية وزعت من رواياتها البوليسية في حياتها مليار
نسخة .وهو رقم لم يصل إليه أي كاتب إنجليزي شهير عبر تاريخه حيًّا ومي ًتا مثل جيمس جويس أو ديفيد هربرت لورانس أو غيرهما .وبالطبع وال كاتب فرنسي وال كاتب من
أي دولة من دول العالم .أقصد كاتب رواية بمعناها األدبي
أو ُقراء القصة القصيرة .تعرف ذلك بسهولة جدًّ ا حين
الحقيقي بعيدً ا من تشويق الرواية البوليسية وروايات البوب.
القصصية ،ففي الغالب يعتذر لك البائع عن عدم
يعدّ هذا النوع من الروايات هو األدب الحقيقي ويروِّج له
تسأل باعة الكتب عن دواوين الشعراء والمجموعات
وجودها .ويعاني الناشرون توزيع هذين الجنسين من
األدب إال للمشاهير من الشعراء والكتاب.
وإذا حدث وتطوع بائع كتب بعرض دواوين شعر
تكون المشكلة من اإلعالم المرئي والمسموع حين
ويحتفي بأصحابه فما دام لهم قراء كثر فهم أدباء كبار، وال يُشار إلى أن هذا النوع من الرواية هو للتسلية طوال
المعني بتقديم تاريخه ،وال يتداخل مع األدب الحقيقي ّ
جديدة فبالكاد لمدة أسبوع ،ثم يخفيها من المكتبة؛ ً مكانا يريده لكتاب أكثر مبيعً ا .وتكون الفرصة إذ تشغل
الوجود اإلنساني .وهكذا يظهر على الناحية األخرى من
للكتب لكنها ال تصل أبدً ا لفرصة الرواية .قيل منذ وقت
أو التقليل من شأن هذا النوع من األدب ،بينما حكمة الزمن
العربي فقط ،بل يشمل كل العالم .فاإلنسان مع
األدب الحقيقي الذي أشرت إليه .هذه إحدى جنايات الميديا
لهذين الجنسين األدبيين أكبر في المعارض العربية
بعيد :إن هذا زمن الرواية .واألمر ال يقتصر على العالم
التطور الرهيب للتقنيات الصناعية صار يبحث عن عالم ً وأيضا مع بشاعة التحوالت السياسية مواز من الخيال. ٍ ذهب إلى هذا العالم الموازي.
نوع روائي يتصدر المبيعات
في عالمنا العربي تعددت أنواع الروايات ،فظهرت
روايات أسميها روايات البوب آرت .أي روايات شعبية عادة ما تكون بوليسية أو خيالاً علميًّا أو مغامرات متخيلة في عالم الجاسوسية .ظهر قارئ كبير لهذا
العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
شكل جديد وقضايا إنسانية عابرة للزمان والمكان .قضايا ُ الكتاب الحقيقيين وبخاصة الشباب من يضيّع وقته في سب أن ذلك كله للتسلية وسيمضي ولن يمكث في األرض إال
الحقيقية .إنها ال تقسم الدعاية بين كل األنواع ،بل تركز
أكثر على التسلية طمعً ا في جمهور أكثر من المشاهدين ،ثم
تصف هذا النوع من الكتابة بأنه األدب الحقيقي.
لذلك أرى أنا عكس ما يراه الكثيرون أن الجوائز للرواية
محلية أو عربية هي فرصة أكثر إللقاء الضوء على األدب
الحقيقي رغم ما تثيره بعض الجوائز من لغط ال يستمر طويلاً .الجناية األخرى للميديا هي المواقع والصفحات األدبية التي ينشئها الكثير من الشباب .كثيرون منهم في مصر مثلاً
ً أحيانا التعليق .ولقد تفرغت بعض الوقت ألتابع يطلبون مني
بعضها فوجدت أكثر أصحابها يكتبون دون معرفة سابقة
بطبيعة الجنس األدبي ،رواية أو قصة أو شع ًرا وال تاريخه.
يكتفون بالحكاية .وال يفرقون حتى بين الحكاية كمادة
للتشويق وبين المقال فكثير من الحكايات تنتهي برأي أو عظة.
ولقد سألت بعضهم يومً ا هل قرأ كتابًا في فن القصة
فكانت اإلجابة وما أهمية ذلك وأنا أعرف الكتابة .بل هناك كاتبة أو كاتب شاب ال أذكر بالضبط تفاخره أنه يكتب وال يقرأ .لو كان عجو ًزا كنت غفرت له فقد يعزف الكبار عن
القراءة لكثرة ما قرؤوا .لألسف هذه الصفحات والمدونات
أكثرها على هذا النحو الساذج ولألسف هناك قراء ومعجبون
باآلالف لها. األمر يعكس ِّ تدنيًا بال شك في مستوى التلقي .لكنه أيضاً يعكس استسهالاً .فما الذي يجبر ً قارئا على أن يبحث عن معنى أعمق لما يقرأ؟ ولألسف هناك من النقاد من أشاع في حياتنا األدبية مصطلحات ال أعرف لها معنى وال قيمة مثل: القصة الومضة أو القصة القصيدة وهكذا .فتقرأ مثلاً من
ً مسرعا ممنيًا نفسي بلقائها ووصلت يقول« :خرجت من بيتي
تأت» إلى المقهى ،فجلست أنتظرها لكن خاب أملي ولم ِ
انتهت القصة الومضة كما يقولون والحقيقة أنها خبر ال يعني أحدً ا .وجدت حبيبتك أو لم تجدها هذا أمر يهمكما وال يهمنا أيضا غالبًا يمشون وراء نوع من ُ نحن! وبعض النقاد ً الكتاب
يعد مشكلة اإلعالم المرئي والمسموع أنه ّ هذا النوع من الروايات هو األدب الحقيقي ويروج له ويحتفي بأصحابه فما دام لهم قراء كثر فهم أدباء كبار وال ُيشار إلى أن هذا النوع من الرواية هو للتسلية
يخترع هذا الكالم فيحدثك عن القصة الشعرية بينما تاريخ
القصة منذ ثالثينيات القرن الماضي كان تاريخ التخلص من
شعرية اللغة مجسمً ا في المحسنات البديعية وغيرها. كتابة سهلة بال معنى
شعرية القصة تأتي من بنائها وتكوينها ولغات
شخصياتها وزمنها ومكانها ،وليست من لغة مجنحة
بالمحسنات والتشبيهات ..إلخ .لألسف تجد مؤتم ًرا يحاول
أن يدشن ذلك .ال أقف عند هذه األشياء وأعرف أن الزمن
سيمحوها وحده لكنها بال شك تترك وراءها كتابة سهلة ال
معنى لها .وتنتشر هذه الكتابة على صفحات الميديا ،وتخلق ً قارئا مرتاحً ا ال يريد أكثر من التسلية وهو يزداد كل يوم، وأنا عكس الجميع ال أرى أن هذا القارئ سينتقل كما يقولون
البداية ،وكثي ًرا جدًّ ا ما ألتقي شبابًا في الخامسة عشرة
والسادسة عشرة وأقل من ذلك في معرض الكتاب بالقاهرة يقرؤون لكتاب كبار مصريين وعرب؛ ُكتاب حقيقيين .شيء
آخر تفعله الميديا وهي نقل بعض سطور الحِ َكم واألمثال في الرواية بوصفها تخص الكاتب بينما هي في األغلب األعم من
حوار شخصيات الرواية وال عالقة للكاتب بها ،فالكاتب ليس كل شخصيات الرواية وال أيًّا منها إال على استحياء.
الرواية فن غير السيرة وهذا موضوع آخر! ووصل األمر
ببعض المواقع اإللكترونية أن تنشر أشعارًا لشعراء كبار
مثل :صالح جاهين ،ومحمود درويش ،والسياب وغيرهم،
والشعر ركيك تافه ال يمكن أن يقوله أيٌّ منهم .ال أعرف لماذا
إلى األدب الحقيقي فاإلنسان ابن العادة أو ما تعود عليه، ً غارقا فيه حتى يتوقف عن القراءة. وسيظل
هؤالء الشعراء .إنها مواقع يأخذ بعضها من بعض .هذه
جدًّ ا لألدب الرفيع .الذين يحبون األدب الرفيع يقرؤونه منذ
األشعار غير الحقيقية لهؤالء العظماء.
ال ينتقل من هذا النوع من القراءة إال نسبة ضئيلة
تفعل المواقع ذلك بينما يمكنها بسهولة العثور على دواوين جناية أخرى للميديا؛ ألنه مع الزمن سيظهر من يحفظ هذه
77
بورتريه
وداعا غويتيسولو.. ً
ضمير إسبانيا وصوت العرب في أوربا أحمد عبداللطيف
روائي ومترجم مصري يقيم في مدريد
في الرابع من يونيو الماضي ،في الساعة الثالثة عصرًا وفي مدينة مراكش المغربية ،و ّدع َ ً واحدا من أكثر ُ ً تورطا في الشأن السياسي ،ومن أكثر األصوات انتقا ًدا للسلطة اإلسبانية الك ّتاب العالم ً دفاعا عن الثقافة العربية اإلسالمية وقضايا المهاجرين :خوان غويتيسولو ،الذي اليمينية وأكثرها يعده بعض النقاد أهم كاتب إسباني في القرن العشرين ،ويراه بعض آخر أهم المجددين في السردية اإلسبانية منذ سيرفانتس ،بحسب ما ذكرت جريدة «الباييس» اإلسبانية الواسعة االنتشار. ولد خوان غويتيسولو في برشلونة عام 1931م ،وعاش في
إن «ابن الفارض» سبق في حداثيته الشعرية الحداثة الشعرية
1939م ،وماتت أمه بسببها جراء قذيفة من قوات الجنرال فرانكو.
التي استحضر فيها ابن عربي ،في لعبة سردية مزج فيها التصوف
طفولته أجواء الحرب األهلية اإلسبانية التي امتدت من 1936م إلى
78
يقول غويتيسولو« :لذلك ال أحب الحروب ،وأدافع عن سالم اإلنسان
في أي أرض» .ومبك ًرا جدًّا سيبدأ الطفل خوان في كتابة انطباعاته
وتأمالته ،وفي الرابعة والعشرين سيقرر الرحيل من إسبانيا إلى فرنسا؛ إذ لم يكن في وسعه تحمّل الرقابة الفرانكوية وتكميم أفواه المثقفين ومطاردتهم ،وفي باريس يبدأ مرحلة جديدة من حياته،
مرحلة نال فيها حريته وبدأ في انتقاد األوضاع في بالده ،وطالب في مقاالت نشرت في جرائد فرنسية بحُ رية الفكر والتعبير والعودة
للديمقراطية األوربية.
غويتيسولو والثقافة العربية
األوربية ،وسيؤثر التصوف العربي في أعماله وبخاصة «األربعينية» اإلسالمي بالتصوف المسيحي.
هذا االنتماء للثقافة العربية اإلسالمية لن يتوقف عند األثر
في الكتابة؛ إذ سيرتحل غويتيسولو عبر التاريخ ليعيد قراءة التاريخ اإلسباني ومن داخله التاريخ األندلسي ،ويتبنى ويدعم وجهة نظر تنتصر للثقافة اإلسالمية وأهميتها في انتقال إسبانيا من الجهل
إلى العلم ،في مواجهة أصوات يمينية تسعى لمحو الذاكرة بإخفاء
كل ما هو عربي بإسبانيا .وفي االحتفال بذكرى مرور 500سنة على «استرداد غرناطة» ،سيوجه غويتيسولو سهامه صوب السلطة التي تحتفي بتنصير المسلمين وتطبيق محاكم التفتيش عليهم
ثم تهجيرهم ،وهي اللقطة التي لم يلتقطها أحد حينها .وإذا كان
في باريس ،يلتقي خوان غويتيسولو «سارتر» و«ألبير كامو»، كما سيلتقي ُكتاب أميركا الالتينية المنفيين مثل :فارغاس يوسا،
المستعرب اإلسباني أميركو كاسترو أحد مؤسسي مدرسة الدفاع ِ عن التاريخ العربي األندلسي ،فالمؤكد أن غويتيسولو كان أنجب
الثورة الكوبية ومآالتها ،كما يقول يوسا الذي كان صديقه في هذه
وهو ما دفع في طريق إعادة قراءة دور العرب والثقافة اإلسالمية في
وخوليو كورتاثر ،وكابريرا إنفانتي ،وستشغله السياسة ،وبخاصة الحقبة ،وسيعيشان معً ا أجواء الثورة وخيبة األمل .لكن اهتمامات
غويتيسولو ستسير في اتجاه آخر؛ صوب العالم العربي .أول ما يلفت انتباهه لعالمنا هو قضية تحرير الجزائر ،التي سيسافر إليها في مهمة صحفية ،ثم سينضم ُ للك ّتاب الذين يطالبون بتحريرها .هذا
االهتمام بجنوب المتوسط ،بحسب غويتيسولو في حوار له ،سيفتح له الباب على ثقافة شديدة الثراء لم يكن قد انتبه إليها من قبل.
في بداية ثالثينياته ،سيُفتح أمامه باب مسحور سيترك أثره الكبير في كتابته وفي تفكيره؛ إذ سيؤسس غويتيسولو افتراضية تقول: العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
تالميذه ،بل إنه لشهرته وقوة حجته غدا أكثر تأثي ًرا من أستاذه،
الثقافة اإلسبانية واألخذ بيدها لدخول عصر األنوار.
إضافة إلى قيمته اإلنسانية والعلمية ،احتل غويتيسولو ،الذي أثار رفضه لجائزة القذافي جدلاً واسعً ا في المشهد الثقافي العربي، مكانة بارزة بوصفه روائيًّا من الطراز األول ،يقول غويتيسولو في
حوار له أجرته جريدة «البانغوارديا» اإلسبانية« :كتبت كتبي األولى بوصفي مواط ًنا ال كاتبًا» ،وهو ما يعني أنه انتصر في البداية للواقعية االجتماعية التي تميل لتوثيق األحداث القاسية التي عاشتها بالدها،
كان ذلك في إنتاجه الذي صدر في الخمسينيات .غير أنه وبداية
من رواية «ألعاب يدوية» تغيرت قناعاته الفنية وتصوراته عن فن
بجانب شعور كل منا باليتم لفقد األم مبك ًرا وأمام أعيننا .لكن الفارق
ومن هنا بدأ طريقه بوصفه كاتبًا كبي ًرا وطليعيًّا ،وخطا خطوات
األول ،وأول من يكتب عن كتبي .كان مايسترو ،كان كاتبًا كبي ًرا.
الرواية ،وهو ما دفعه للبحث عن «التجديد» واإلضافة لهذا الفن،
الجوهري بيننا أنه كان كريمًا دائمًا معي .كان يحب أن يكون قارئي
راسخة نحو تأسيس سردية إسبانية تتجنب الوقوع في فخ الواقعية
كانت حياته في المدينة جديرة بالتعرف إليها؛ إذ كان الجميع
السؤال الفلسفي بالسؤال الوجودي بالعوالم الصوفية ،أهَّ لته للفوز
«أمات» أنه قام مرة بدور الوسيط بين غويتيسولو ومجمع اللغة
والمباشرة .هذه الروايات ذات الطابع التجريبي ،التي امتزج فيها
يحبه ويقدر أعماله .كان سعيدًا هناك ،يمكن أن أؤكد ذلك» .يحكي
بجائزة سيرفانتس لآلداب عام 2014م ،وهي نوبل اآلداب اإلسبانية.
اإلسباني؛ إذ أراد المجمع ضم خوان له .إجابة خوان كانت قاطعة:
للسلطة ،لكن السلطة نفسها شعرت بالعار حين لم تمنح كاتبها
العرض بالرفض.
لقد تأخرت عليه الجائزة الكبرى كثي ًرا نظ ًرا لمواقفه المعادية األكبر جائزتها الكبرى .خطبة غويتيسولو عند تسلمه الجائزة تشير
إلى استغرابه من الفوز بها ،لكنها تركزت أكثر على الحياة في مراكش
وعلى عائلته المراكشية التي قرر أن يمنحها ثمن الجائزة .ولعل بقاء خوان في مراكش منذ عام 1997م دليل إضافي على حبه وشغفه
بالعالم العربي.
خبر رحيل الكاتب اإلسباني في مراكش أثار موجة من الحزن
والحداد في العالم اإلسباني ،وكتب عن وقع هذا الخبر كثير من ُ الك ّتاب الذين ارتبطوا بعالقة صداقة مع غويتيسولو ،كما كانوا من
محبي كتابته .كتب البيروني ماريو فرغاس يوسا ،الفائز بجائزة نوبل، مقالاً بعنوان «على طريقة سارتر» ،قال فيه« :تعرفت إلى خوان في
سنواتي بباريس ،واقتسمت معه القلق السياسي ،وبخاصة ما يتعلق بالثورة الكوبية .هذه الثورة التي أثارت حماستنا ،وأعتقد أنها أصابتنا
بخيبة األمل في الوقت نفسه .أتذكر كثي ًرا صعوبة المعركة التي
خضناها خالل ما سمي بـ ــ«حالة بادييا» التي دافعنا فيها عن وجهات
نظر متشابهة» .وأضاف« :منذ رحل إلى المغرب لم ألتقه كثي ًرا ،لكن لقاءاتنا كانت شديدة الدفء رغم تباعدها».
فيما كتب الكاتب الشهير أندريس سانتشيث روباينا أن
«غويتيسولو استطاع بوصفه روائيًّا تجنب الروافد األدبية اإلسبانية ً طريقا شقه بنفسه» .ويرى روباينا أن غويتيسولو في عصره ،واتبع
«كان ناقدًا ملتزمًا ،وهي صفة تالزم قليلاً من الكتاب» .وأشار الكاتب
إلى إعادة إحياء غويتيسولو للكتاب الكالسيكيين وإعادة قراءة التاريخ ،وختم بأننا «مدينون لخوان غويتيسولو سواء لسرديته الفريدة أو شهادته ذات الطابع االلتزامي األخالقي».
المستعربة اإلسبانية وفي مقال لها بجريدة «الباييس» كتبت ِ
الشهيرة لوث غوميث ،األكاديمية والمترجمة التي فازت بجائزة
الدولة عن ترجمتها لمحمود درويش« :في الوقت الذي بات فيه اإلسالم متهمًا والعالم العربي مرمى للشبهات ،جاء خوان غويتيسولو ليعارض هذا التيار» .وترى غوميث أن هذه المعارضة
جاءت عبر طريقين :األول دفاعه عن الثقافة اإلسالمية ،وثانيًا إقامته في بلد عربي ،وهو المغرب .وكتب الروائي الشهير نوريا أمات:
«جمعنى بـخوان غويتيسولو ،إضافة إلى التمرد على أي وضع حب األدب ،وحب الحرية والمساواة، سلطوي، ُّ
ال .وفي مرة أخرى أرادت مدينة برشلونة أن تمنحه جائزتها ،فقابل
جثمان خارج الوطن
على الرغم من خالفات غويتيسولو مع السلطة اإلسبانية
وانتقاده الدائم لها ،فإن الملك أعرب عن حزنه الشديد لفقد إسبانيا واحدًا من أكبر ُك ّتابها ،وسادت حالة من الحداد في البلد وفي جميع
الدوائر الثقافية .المفاجأة أن غويتيسولو لن يعود إلى بلده مي ًتا، كما تركها حيًّا؛ إذ ترك وصية مضمونها أن يدفن في مدينة العرائش المغربية .وسواء دفن في برشلونة ،أرض مولده ،أو في المغرب، األرض التي اختار الحياة فيها والموت فيها ،سيبقى غويتيسولو دائمًا
ُعارض لكل شرور العالم. في ذاكرة التاريخ كضمير لإلنسانية وم ِ
79
قضايا
ما الذي يشغل النخب الثقافية في إسرائيل؟ ّ
ّ قل ٌة من الباحثين العرب حاولت معرفة األفكار واأليديولوجيات والصراعات التي تعصف بإسرائيل من ً يمينا ويسارًا في الدولة العبرية ،والمحاوالت التي الداخل ،خارج ما نعرفه من سياسة وأحزاب ،وما يسمى
يمكن رصدها في هذا المجال قليلة ومحدودة االنتشار .فقد ساد في الصحافة العربية متخصصو التحليل السياسي للمفاوضات ،وسياسيُّو السالم والممانعة ،فيما يكاد يغيب عن المشهد أولئك العارفون بإسرائيل
من الداخل ،الذين كشفوا لنا أن هذا الكيان ليس جبهة صماء صامدة ومتماسكة.
في هذه القضية التي تنشرها «الفيصل» يستعرض كاتبان متخصصان صراع النخب داخل المجتمع
اإلسرائيلي وأبرز القضايا الفكرية المطروحة هناك؛ من حرب العبرية على العربية ،ومن رفض الوجود العربي
الفلسطيني في الداخل ثقافيًّا وديموغرافيًّا ،إضافة إلى المواجهة الطائفية بين الطغمة األشكنازية واليهود
الشرقيين ،ثم إيجاز بالعمل اإلسرائيلي الدائب على ترجمة األعمال األدبية العربية إلى اللغة العبرية.
80
العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
الثقافية في إسرائيل؟ ما الذي يشغل النخب ّ
مواجهة طائفية بين الشرقيين والغربيين في تل أبيب.. وصراع حول «العربية» والموسيقا عودة بشارات
روائي وكاتب فلسطيني
يحاول أساف غوالني ،مؤسس دار نشر مينرفا التي ُتعنى بنشر كتب تهتم بالثقافة الشرق أوسطية،
تقصي أسباب وجود عدد قليل من اليهود القادرين على استخدام اللغة العربية .ويعرض في مقاله توجهات عدة تميز حمالت تسويق تعليم اللغة العربية .يمكن اختصار هذه التوجهات في أن تعلم اللغة العربية هو أمر سهل؛ ألن اللغتين العبرية والعربية متشابهتان ،وأنه ما دامت اللغة العامية س ُتس َت َ خدم فال حاجة ُّ لتعلم قواعد اللغة العربية ،فقط معرفة االصطالحات واألمثال يساعد على إجادة العربية .من خالل المقال
من الممكن التحسس أن هنالك استهتارًا باللغة العربية ،من حيث االمتناع عن بذل الجهود لدراستها كما هي
الحال في اللغة اإلنجليزية .وفي كثير من األحيان يُتعامَ ل معها كأنها تجسيد لنزعة االنجذاب نحو الشرق، كما هو األمر لدى الحديث عن البهارات والمالبس وأدوات الزينة الشرقية وغير ذلك. محمود درويش وإيال غوالن
الجدير بالذكر أن املواجهة عىل أساس طائفي بني الشرقيني
يف املقابل هنالك عودة صاخبة يف إسرائيل إىل املوسيقا الشرقية.
والغربيني يف إسرائيل تطفو عىل السطح مرارًا؛ لتثري صخبًا يف البالد
أحد أيقونات الغناء اإلسرائييل الغربي ،وإيال غوالن نجم املوسيقا
بسطوة الثقافة الغربية ،من أدب وفن وموسيقا وشعر .ويف تلك
قبل أشهر عدة جرت مواجهة إعالمية حادة بني أفيف غيفن وهو
الشرقية .املهم يف األمر أنه بالرغم من املواجهة الحادة والبذيئة فقد التقى الخصمان يف نقطة مشرتكة واحدة بينهما وهي العداء للعرب. األول غيفن ،وهو ممثل الثقافة الغربية أراد الحط من غوالن فقال:
إن غوالن ومحمود درويش هما اليشء نفسه وما يفرق بينهما هو الختان .ومن جهته قال غوالن :إن نظرية غيفن هي النائبة حنني زعبي
من القائمة املشرتكة ،وما يميز أحدهما من اآلخر هو الفرق بني أسنان
ترافقه عودة إىل الجذور ،وإىل السنوات األوىل للدولة التي اتسمت السنوات اعتقد الشرقيون أن ثقافتهم تتسم بالدونية ،وأن الثقافة الغربية هي الثقافة املطلوب تب ِّنيها ،ويف املقابل التنكر لرتاثهم؛ ألنه
ال يتالءم مع مميزات الدولة الحديثة .منذ عدة سنوات هنالك نهضة
واسعة ضد هذه الهيمنة الثقافية الغربية ،وهنالك عودة للجذور
بتعلم اللغة العربية ،واستعادة مكانة الفولكلور الشرقي.
يف الحقبة املاضية ،ويف املجال نفسه ،جرت مواجهة حادة
مع أحد أقطاب اليسار يف إسرائيل ،الصحفي والسيايس العريق
غيفن األمامية .األمر املهم يف هذا السجال غري الدبلومايس بينهما أن غوالن سخر من نظريه أفيف غيفن قائلاً له« :أنت إنسان محبط ،ومن
أوري أفنريي ،الذي انتقد تماثل الجمهور الشرقي مع الجندي ذي
أن فناين املوسيقا الشرقية وأنا عىل رأسهم ،يستطيعون أن يملؤوا
يشكل خط ًرا عىل أحد .عنوان املقال أشار إىل املادة املتفجرة الكامنة:
السهل معرفة السبب .وأنا لو كنت مكانك سأتصرف باملثل ،إذا رأيت املدرج الروماين (يف قيسارية) ،وقاعة نوكيا وإستاد بلومفيلد (يف
القدس) وغريها ،بينما تقوم أنت بجمع الناس من البيوت من أجل مشاهدتك يف أمكنة الواحد منها أصغر من صالون بيتي».
األصول الشرقية ،اليؤور أزاريا ،الذي أجهز عىل فلسطيني جريح لم «كيف ومتى نشأ الشرخ بني اليهود الشرقيني واألشكناز؟» يتحدث أوري أفنريي عن عائلة هذا الجندي ومؤيديه الذين أنشدوا النشيد
القومي يف قاعة املحكمة معبرِّ ين عن رفضهم محاكمته وتماثلهم
التام مع فعلته يف قتل العربي الجريح ،فيقول :إن هذا الحدث
81
قضايا
كان بمنزلة «مظاهرة ضد املحكمة العسكرية ،ضد القيادة العليا
القادمني اليهود من روسيا» ،وهنا يوجّ ه ديمرتي شومسيك انتقادًا
«إعالن االستقالل لشعب إسرائيل مغاير .لقد أشار هذا الحدث
إلغاء اإلنسانية عن اآلخر ،أي العربي ،وهو ما يميّز مساحات واسعة
للجيش وضد الديمقراطية اإلسرائيلية بمجملها» ويميض أفنريي قائلاً ،بأن هنالك دالالت كربى لهذا الحدث ،فقد كان ذلك بمنزلة إىل تفكك املجتمع اإلسرائييل لشعبني ...املشرتك بني الشعبني آخذ
يف التضاؤل ،موقفهما من الدولة مختلف تمامًا ،بالنسبة ألسسها األخالقية وأليديولوجيتها وملبناها» ،ويواصل« :حتى اآلن اعتقدنا أنه
عىل األقل توجد مؤسسة واحدة نقدسها جميعً ا ،مؤسسة تقف فوق
من الخطاب اليهودي الشرقي اإلسرائييل». نفي الهوية القومية
من ناحية أخرى ،تحمل الباحثة مرياف ألوش ليفرون ،وهي ً موقفا مغاي ًرا ،فهي تهاجم من أصول شرقية -جزائرية وتونسية-
كل النقاشات وفوق كل االختالفات وهي الجيش .هذا األمر لم يعد قائمًا ،إن قضية أزاريا ِّ تعلمنا أن الرابط األخري الذي جمع بني أجزاء
املوقف العلماين -الليربايل لليسار األشكنازي الذي ينفي ،من خالل
املهم أن أفنريي ،يف مقاله هذا الذي أثار عاصفة من النقاش
ما ساهم ،حسب تقديرها ،يف تعزيز التوجهات اليمينة لدى الجمهور
املعسكران؟ وما املسبِّب لهذا االنقسام؟ ال مكان لاللتفاف عىل
الشرقيني والغربيني ،إىل الحديث عن تغيري النخب يف البالد .فمع توطد حكم اليمني يف إسرائيل املستمر ،بتقطع ملُدَد قصرية ،منذ
املجتمع اإلسرائييل قد انكسر».
يف إسرائيل ،حتى كان هنالك من دمغه بالعنصرية واالستعالء، لم يرتدد يف تسمية املُسمَّيات بأسمائها من وجهة نظره« :من هذان الحقيقة :إنه العامل اإلثني .يحاول الجميع الهروب من الحقيقة. جبال من التعابري املجمَّلة ُكتبت ل ُتخفيها ،لكن الحقيقة أن هنالك
82
الذ ًعا للمثقفني اليهود الشرقيني ،ذوي املواقف الليربالية ،إذ عليهم ً اعرتافا كاملاً بهذا األمر ،وعليهم أن يشجبوا بقوة مظاهر أن «يعرتفوا
استعالئه ،الهوية القومية الدينية للجمهور اليهودي الشرقي ،وهو اليهودي الشرقي .لكن األمور تأخذ أبعادًا أوسع من املساجلة بني
عام 1977م حتى اليوم ،تجري منذ سنوات تغيريات جوهرية يف
الخطاب الفكري السائد يف إسرائيل .يقول مدير برنامج القيادة السياسية االشرتاكية يف مؤسسة «موالد» ،رامي ليفني :إن إسرائيل
شعبني ،أحدهما يُدعى األشكناز (واملصدر هو االسم العربي القديم الذي أُطلق عىل أملانيا) ،الذي يجمع اإلسرائيليني من أصول أمريكية
خالل سنوات وجودها ،جعلت من «األونفرسالية» األوربية نهجها
ويف هذا اإلطار ،تعميق الكراهية للعرب بني الجماهري اليهودية
فقد أصغى الجميع إىل نشرات األخبار من اإلذاعة نفسها (الرسمية
غري مباشرة لتشويه صورة العرب من املؤسسة الصهيونية األشكنازية
املحاكم ،عبرّ وا عن ثقتهم بقائد أركان الجيش ،وخرجوا فيما بعد
وأوربية» .والشعب الثاين يُدعى الشرقيني.
الشرقية يف إسرائيل .يقول املؤرخ الدكتور ديمرتي شومسيك« :كنتيجة املسيطرة يف املايض ،فإن مظاهر كراهية العرب أصبحت مع الزمن من
األصوات املسيطرة يف صفوف الشرقيني يف إسرائيل الحالية ،ويمكن
أن تضاهي اليوم ،يف حجمها يف وسائل اإلعالم ،الظاهرة نفسها لدى
العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
الرسمي .وبالرغم من الشروخ واالنقسامات يف املجتمع اإلسرائييل، أو إذاعة الجيش) ،تعلموا يف الجامعات نفسها ،اعرتفوا بسلطة
ملشاهدة العروض املسرحية يف املسرح نفسه.
وفيما بعد يستعرض رامي ليفني الهجوم الذي ش َّنه اليمني
املتطرف عىل هذا النهج الرسمي الجامع .ففي الثمانينيات ،يقول:
الثقافية في إسرائيل؟ ما الذي يشغل النخب ّ
قام املستوطنون بإنشاء إذاعة خاصة بهم؟ وفيما بعد يف دورته الثانية
لرئاسة الحكومة عمل بنيامني نتنياهو عىل توطيد فكرة «تبديل النخب». وبالتعاون مع مدير مكتبه آنذاك أفيغدور ليربمان ،الذي يشغل اليوم منصب وزير دفاع إسرائيل ،عمل عىل
استيعاب شخصيات من «جماعتنا»
محمود درويش
ودفعهم للمراكز املهمة يف الدولة .ويف الوقت نفسه فقد أثار نتنياهو
األجواء بالحديث عن «الهيمنة اليسارية» يف مراكز القرار يف إسرائيل. وحسب ليفني فإن نتنياهو يحتقر «ما يع ّده قنا ًعا ً زائفا من الحيادية واملهنية؛ ألن العمل بموجب ذلك ،حسب اعتقاده ،يمنح خصومه السياسيني ً تفوقا غري نزيه عليه» ويواصل ليفني« :فقط يف عام 2016م،
نضجت الظروف للمرحلة املكشوفة واملعلنة للثورة ،بحيث ُيغيرَّ
اتجاه املؤسسات الفكرية املميزة للمجتمع اإلسرائييل نحو األسلوب
األمرييك» .ويضيف ليفني« :اليوم ال حيادية بعد ،ال مهنية بعد ،وال نزاهة بعد( .املذيعون) روين دانيال ،ويونيت ليفي ،وإيهود يعاري، ونائب قائد األركان ،واألساتذة يف لجنة التعليم العايل ،وعدد من
موظفي وزارة الخارجية ،واملمثلون يف مسرح الكامري ومسرح البيما -كل هؤالء الذين رافقونا طوال حياتنا -كلهم جزء من معسكر
اليسار» .ويخلص ليفني إىل أن هدف نتنياهو هو القضاء عىل القاسم املشرتك الثقايف القائم عىل أسس التقاليد التنويرية التي نشأت يف البالد .يمكن مالحظة الهوة الفكرية اآلخذة يف التعاظم يف إسرائيل،
ليس فقط بني اليمني واليسار التقليديني ،بل بني اليمني الكالسييك،
واليمني الجديد الذي يريد صبغ كل األجواء بألوانه املتطرفة. العربي الشفاف
إيال غوالن
أوري أفنيري
وسائل اإلعالم اإلسرائيلية ال تقوم بتغطية ما يجري على الساحة بين المواطنين العرب ،كأنهم هواء أو مخلوقات شفافة ال يمكن مالحظتها هي اللغة الرسمية الوحيدة (وبذلك أرادوا إلغاء القانون الذي ينص عىل أن العربية والعربية هما لغتا البالد الرسميتان) .يمكن الجزم بأن أحرف الهجاء العربية لن تنقص ً حرفا بسبب هذا الهجوم الحاقد
عىل العربية ،لغة املواطنني العرب الذين يشكلون أكرث من %20من
سكان الدولة .الخاسرون هم اليهود الذين سيواصلون العيش يف املنطقة يف ظالم دامس من دون معرفة لغتها التي تعكس تاريخها
وتراثها وحضارتها.
يقول الكاتب واملؤرخ اإلسرائييل مريون بنفنستي ،يف كتابه «حلم
اليهودي اإلسرائييل األبيض» :إن الرثاء املوجود يف األسماء التي أطلقها العرب عىل األماكن «مذهلة بجمالها ،يف تفاعلها مع جمال الطبيعة،
يف دقة التشخيص واختيار التشبيهات ..بدون احتفاظ العرب باألسماء
العربية -اآلرامية القديمة -لم يكن باستطاعة الصهيونيني تقيص أثر وبأس يضيف بنفنستي« :لكنهم كافؤوا العرب الخارطة العربية» ىً
يقرتن اسم الشرق األوسط باسم ال يقل أصالة :املشرق العربي.
بمحو كل األسماء العربية من الخارطة» .إن تغييب تاريخ الفلسطيني
عليه التأقلم مع هذا املشرق العربي وإال سيبقى ،مهما طال الزمن،
يف إسرائيل .إضافة إىل مصادرة غالبية أرايض الفلسطينيني يف
يسرائيل كاتس ،أعلن الحرب عىل األسماء األصلية للبلدات العربية،
جديدة لهم ،وغيابهم عن مشاريع التطوير وتوزيع املوارد أسوة بباقي
والقادم إىل هذه املنطقة ،غازيًا أو جانحً ا للسلم ،محبًّا أو حاقدًا،
نبتة غريبة عن مناخه وتضاريسه وأهله .وزير املواصالت اإلسرائييل، وعمل عىل تحويلها إىل أسماء عربية .أكرث من ذلك ،فقد أراد من
اللغة العربية أن ترسم االسم العربي بحروفها .يافة الناصرة الواقعة بجانب الناصرة يف الجليل ستصبح كما هي الحال يف العربية « َي ِف َّيع» ،وبالضبط بهذا الشكل ُكتبت عىل الالفتة يف مدخل البلدة،
ويف اليوم التايل محا عابر سبيل هذه الكلمة غريبة التزاوج .مدينة عكا يريدون أن ُتك َتب بالعربية «عكو» ،وأن ُتك َتب القدس «يروشاليم».
هو الطبقة الفوقية لتغييب الواقع املادي الذي يعيشه الفلسطينيون
إسرائيل ،وتقليص مساحة وجودهم ،وعدم إتاحة بناء بلدات السكان ،فالفلسطيني اإلسرائييل غائب تقريبًا عن أهم الساحات وهي
ساحة اإلعالم .هنالك ثالث قنوات تلفزيونية مركزية يف إسرائيل:
القناة األوىل والثانية والعاشرة .يف القنوات الثالث ال يوجد مراسلون عرب ،ال يوجد تقريبًا مذيعون عرب ،ال يوجد مق ِّدمو برامج عرب ،ال
يوجد ضيوف عرب يف الربامج التلفزيونية املختلفة .واألهم من ذلك أن
وسائل اإلعالم ال تقوم بتغطية ما يجري عىل الساحة بني املواطنني
ومن الفنانة اللبنانية فريوز مطلوب من اآلن فصاعدًا أن تغيرِّ مطلع
العرب كأنهم هواء أو مخلوقات شفافة ال يمكن مالحظتها .وحينما
من األحزاب اليمينية املتطرفة إىل سن قانون يقيض بأن اللغة العربية
الطلب منهم باستعالء استنكاره.
أغنيتها «القدس لنا» إىل «يروشاليم لنا» .فيما بعد بادر أعضاء برملان
يُستضاف عرب فإما لزجرهم بسبب عمل إرهابي قام به فلسطيني ،أو
83
قضايا
يف حني أنه ،ومن أجل مصادرة أرايض العرب ،سُ نَّ قانون خاص ُعرف فيما بعد باسم قانون «الحاضر غائب» ،يعني أن العربي
حاضر بجسده وغائب عن حقه بامتالك أمالكه التي صودرت منه. هذا القانون يطبق يف باقي املجاالت األخرى بتلقائية ،فالعربي حاضر
الجسد وغائب الحقوق .وهكذا فالغريب الذي يشاهد الربامج التلفزيونية واإلذاعية املختلفة سيعتقد أنه موجود يف دولة ال يوجد
فيها عرب .اليوم ،ردًّا عىل هذه الحالة العبثية ،يجري حراك جدي من
مؤسسات مدنية يهودية -عربية من أجل تعزيز الحضور العربي يف
وسائل اإلعالم املختلفة ،ويف السنة األخرية شهدنا ارتفا ًعا يف مشاركة
العرب ،يف موضوعات عامة وليس يف تلك التي تخص العرب فقط.
العرب يف الدول العربية دورًا بار ًزا يف حجب املعلومات عن الجمهور اليهودي؛ بسبب املوقف السلبي من التواصل الثقايف مع أوساط سالمية إسرائيلية .فمثلاً ترجمة الروايات العربية للغة العربية قليلة جدًّا .وهنالك من املهتمني اليهود ،ونسبتهم ال بأس بها بني املثقفني، الذين يعملون عىل تعريف القارئ اليهودي باألدب العربي يواجهون صعوبات يف الرتجمة ،يف األغلب بسبب رفض الك ّتاب أو الناشرين يف العالم العربي عمومًا التعامل مع دور نشر إسرائيلية .يف حني
الجهات الرسمية واالقتصادية حتى األمنية يف العديد من الدول
العربية تقيم صالت مع نظرياتها يف الجانب اإلسرائييل ،فإن األبواب
هذا التطور عىل محدوديته بالغ األهمية ،من حيث تغيري الصورة
النمطية عن العرب؛ ألن الفلسطيني اإلنسان الذي يمارس حياته
الشخصية بجوانبها كافة ،يعمل ويتعلم ويلعب ويتألم ،غائب عن املشهد اإلعالمي اإلسرائييل وغائب عن الثقافة اإلسرائيلية .الفلسطيني
الذي يشاهده اإلسرائيليون هو «املخرب»« ،القاتل» و«كاره اليهود». نموذج اإلنسان الفلسطيني هو ذلك ا َّ مللثم الذي يحمل حج ًرا أو سكي ًنا أو بندقية للقضاء عىل إسرائيل.
84
املثقف اليهودي والعرب
األهم من ذلك أن املثقف اليهودي ال يستمد معلوماته من العرب ً أوساطا ليربالية بني مما يكتبه العرب عن أنفسهم .ومع أن هنالك
املتخصصني يف الشؤون العربية يف اإلعالم اإلسرائييل ،فإن كثريين منهم يحمل الصورة النمطية عن العالم العربي ويحاول تعزيزها.
وال بد هنا من التنويه بأن املواطن اليهودي العادي ال يمكنه أن يقرأ ما يكتبه العرب؛ ألنه ال يعرف اللغة العربية .فاللغة العربية تدرس
بشكل محدود وهي غري متداولة بسبب هيمنة اللغة العربية عىل
جميع مجاالت الحياة .ويف هذا الصدد تجدر اإلشارة إىل أن للمثقفني
الربيع العربي يشعل حركة احتجاج ضخمة في تل أبيب ال يمكننا في هذا اإلطار إال التطرق لما ُسمي في حينه الربيع العربي .كان االفتراض السائد أن اعتماد الديمقراطية لدى
الشعوب العربية سيجلب الحركات األصولية إلى سدة الحكم ،مع كل ما يعني ذلك من خطر على إسرائيل وعلى وجودها .وفي المقابل فإن األنظمة الدكتاتورية في العالم العربي هي الضمان لمنع استيالء األصوليين على الحكم .بداية الربيع العربي ّ بشرت
بعهد جديد ،بأن العرب ،على عكس التوقعات ،ينهضون نحو ديمقراطية حقيقية في مركزها احترام كرامة اإلنسان .في تل أبيب مثلاً نهضت حركة احتجاج ضخمة في صيف عام 2011م متماهية مع التحركات الشعبية في ميدان التحرير في مصر .لكن منحى
التطور ،من حيث صعود داعش وعودة األنظمة العسكرية إلى السلطة أحدث ردة فعل مناقضة ،من حيث فقدان الثقة بقدرة العالم العربي على تذويب الديمقراطية بمفهومها العميق الذي يجيز التعددية ،لكن في الوقت نفسه يعتمد مرجعية قيادية
واحدة هي مؤسسات الدولة .أحداث السنوات األخيرة في العالم هي مادة إعالمية خصبة لليمين اإلسرائيلي في رفضه االنسحاب
وتحقيق تسوية مع الفلسطينيين ،بحجة أنه ال يمكن الثقة بالعالم العربي والدليل هو الحروب األهلية الطاحنة.
«خمس دقائق من كفار سابا» هو اصطالح إسرائيلي شائع ،أتى للداللة على البعد الجغرافي القصير بين قلقيلية الواقعة
العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
الثقافية في إسرائيل؟ ما الذي يشغل النخب ّ
موصدة يف املجال الفكري الثقايف ،وكل من يحاول اخرتاق هذا الجدار
يوصم بالخيانة .وهكذا ،فإن للتوجهات املنغلقة وغري املفهومة ملثقفني ودور نشر يف العالم العربي دورًا ً أيضا يف إبقاء صورة العربي أسرية أجواء الصراع والتشويه من األوساط املتطرفة يف إسرائيل. مجرد غرض ساكن
مشغول بالتفاصيل الصغرية التي يثريها اإلسرائيليون حول الرتتيبات األمنية التي يتوجب اتخاذها ،من حيث نقاط مراقبة ،ونصب منصات
إنذار ،والسيطرة عىل مرتفعات جبلية داخل املناطق الفلسطينية،
ومنع وصول قوات األمن الفلسطيني إىل الحدود الشرقية من الدولة العتيدة ،ومئات البنود األخرى .ويف خضمّ هذا املعمعان فأمن ً ً واحدة من متخذي القرارات. التفاتة الفلسطيني غائب كأنه ال يساوي
اليوم هنالك مثل بالغ الوضوح حول تغييب العرب عن
هذا النهج ،نهج الحوار اإلسرائييل الداخيل كأن اآلخر غري
ال حول له وال قوة ،وهو موضوع حل الدولة الواحدة ،وبخاصة
إخفاق قمة كامب ديفيد يف عام 2000م بني القيادات اإلسرائيلية
النقاشات املطروحة عىل بساط البحث ،وعدّهم مجرد غرض ساكن بعد تصريح الرئيس األمرييك دونالد ترمب يف املؤتمر الصحفي الذي
موجود ،عميق الجذور يف تاريخ الصراع العربي اإلسرائييل .يف أعقاب والفلسطينية واألمريكية« ،ق ّرر» اإلسرائيليون أنهم قدموا األفضل
لياسر عرفات وكان عليه أن يقبل هذه املقرتحات «السخيّة» .وبسبب
عقده مع رئيس الحكومة اإلسرائيلية بنيامني نتنياهو إبّان زيارة األخري واشنطن مؤخ ًرا ،حيث قال :إنه مستع ّد لحل الدولة ً أيضا إذا ما أراد
رفض عرفات هذا العرض نزعوا عنه الشرعية وادَّعوا أنه «ال يوجد
بني أناس جديني ،وقسم منهم معروف بمواقفه املتعاطفة مع
هذا يقول :إن االقرتاحات اإلسرائيلية سخية جدًّا ويجب ضبطها،
الطرفان ذلك .حول هذا املوضوع يجري اآلن نقاش يقظ يف إسرائيل الشعب الفلسطيني ،ويجري ذلك من دون أخذ رأي الفلسطينيني
أنفسهم يف موضوع يخص مصريهم .وهنالك مثقفون يهود يتساءلون
باستغراب واستهجان؛ كيف من املمكن إجراء هذا الحوار الساخن من دون استطالع رأي أصحاب الشأن؟ هذا التوجه الذي يضع مصلحة إسرائيل يف املركزُ ، وتتجاهَ ل املصلحة الفلسطينية هو نهج قديم ُّات ِبع لاً َ يف كل سجال إسرائييل فلسطيني .يف قضية األمن مث تجد أن العالم
يمكن مالحظة الهوة الفكرية اآلخذة في التعاظم في إسرائيل ،ليس فقط بين اليمين واليسار التقليديين ،بل بين اليمين الكالسيكي واليمين الجديد الذي يريد صبغ كل األجواء بألوانه المتطرفة
شريك فلسطيني» .العبثية يف األمر أن الصراع كان إسرائيليًّا داخليًّا؛
وذلك يقول :إنها معقولة ،أما أن يكون لعرفات رأي آخر فهذا يزجّ ه يف خانة التطرف والعداء لليهود .حتى يف قضية االنسحاب من املناطق
املحتلة ،فموقف الداعني لالنسحاب ليس نابعً ا من اعتبارات العدل والقانون الدويل ،بل هو نابع من اعتبارات املصلحة اإلسرائيلية ،بأن ضم املناطق الفلسطينية ،سي ّ ُخل بالتوازن الديمغرايف يف إسرائيل،
حيث سيصبح العرب نحو %50من السكان .ع ُّد العرب خط ًرا
ديمغرافيًّا هو موقف عنصري ،والسؤال هو :هل موقفهم سيكون مغاي ًرا لو لم ّ يشكل ضم املناطق الفلسطينية تهديدًا ديمغرافيًّا حسب
تسميتهم ؟ املثري يف األمر هو وجود أوساط معدودة عىل اليسار تتبنى هذا املوقف .وعندما ي َ ُناقش هذا األمر معهم يقولون :إنهم يعرفون أن وصف العرب بالخطر الديمغرايف هو أمر غري أخالقي ،لكنهم يقولون: إنها الطريقة الوحيدة التي من املمكن إقناع الجمهور اليهودي بضرورة
االنسحاب من الضفة.
اآلن تحت نفوذ السلطة الوطنية الفلسطينية والمدينة اإلسرائيلية كفار سابا .فعلاً ،المسافة قصيرة بين المدينتين ،لكنّ المسافة السياسية واالجتماعية واالقتصادية والنفسية بينهما تقدر بسنوات ضوئية .وهذه هي الحال اآلن ً أيضا داخل إسرائيل ،بين المواطنين العرب واليهود .إنهم يعيشون معً ا على قطعة األرض نفسها ،لكن كال المجتمعين منغلق على نفسه؛ ألن السياسة العامة تعمل على الفصل وتضييق مساحات االلتقاء بين الشعبين ،ومن َثمَّ خلق حالة من االغتراب بينهما .تنشط اليوم حركات يهودية عربية من أجل توطيد ما يدعونه «المجتمع المشترك» الذي يهدف إلى إيجاد نقاط التقاء مشتركة بين أبناء الشعبين، وخوض نضاالت حياتية مشتركة ضد التمييز ،ومعالجة قضايا حياتية مشتركة تواجه الشعبين .ومع ذلك فسياسة التمييز
الحكومية ضد العرب تعمل ،من دون إعالن ذلك ،على ضرب هذا التوجه الذي يقوده تقدميون من كال الشعبين؛ ألن العربي في نهاية المطاف يشعر أنه حتى في هذا اإلطار الصاخب بالنوايا الطيبة يوجد هنالك خلل ما ،فهؤالء الذين يريدون ًّ حقا َّ مد يدِ
التعاون يعيشون في بحبوحة من حيث مساحات األراضي وجودة الحياة ،بينما هم ،العرب ،يعيشون في ظروف سكنية بالغة
الصعوبة .فقط عندما تستطيع القوى المتنفذة في إسرائيل أن تجد الطريق لمصالحة مبنية على العدل بين المجتمعين العربي اليهودي في إسرائيل نفسها ،سيكون بإمكانها أن تطرح حلاًّ للصراع الدموي المستمر منذ عشرات السنين ،فمن ال يجد لغة مشتركة مع المواطنين العرب الذين يعيشون في الدولة التي يقودها ،كيف سيقيم عالقات سالم مع جيرانه العرب؟
85
قضايا
ترجمة إسرائيل األدب العربي.. الدوافع والمسارات والمآالت! كرم سعيد
باحث بمركز األهرام للدراسات السياسية واإلستراتيجية
بدأت إسرائيل منذ ستينيات القرن الماضي االهتمام بشكل ممنهج بترجمة األدب العربي،
وبخاصة الرواية التي يعتقد قطاع واسع من علماء االجتماع أنها باتت البديل األوثق لتشريح
المجتمعات ،ومرآة عاكسة لتطورها .واألرجح أن اإلبداع الفكري والثقافي والفني ألي مجتمع من
86
المجتمعات يمثل أحد أهم مالمح الهوية في هذا المجتمع ،فشخصية المجتمعات تتكون عبر مراحل التاريخ بما مر بها من أحداث ،وبما تصدره من ردود أفعال تجاهها من خالل ما يبدعه عقلها
الجمعي من إبداعات في ميادين الحياة واألنشطة اإلنسانية المختلفة.
العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
المثقفة في إسرائيل؟ الثقافية ماذا يشغل النخب ما الذي ّ
إذا سلمنا أن الصراع العربي اإلسرائييل هو من نوع
الصراعات االجتماعية املعقدة ،فإن البعد الثقايف يمثل جوهر هذا الصراع والجانب األكرث أهمية .ولذا أَوْىل ًّ خاصا، اإلسرائيليون قضايا الفكر والرتاث العربي اهتمامً ا
ال سيما بعد تفوقها العسكري واألمني .وسَ عَ ْ ت إسرائيل طوال األعوام التي خلت إىل استقطاب ُكتاب عرب بهدف ترجمة أعمالهم إىل اللغة العربية عرب دور نشر إسرائيلية،
وهو ما أثار أزمة بني املثقفني العرب حيث يعتربها بعض شكلاً من أشكال التطبيع .وتزامنت حركة الرتجمة إىل
العربية مع ظهور الحركة الصهيونية يف نهاية القرن التاسع عشر حيث ظهرت مجلة هشيلواح وأفردت صفحات كثرية أللف ليلة وليلة ومجلة هحداش التي تتضمن مقاالت
ودراسات مستشرقني وباحثني من الجامعة العربية
وغريها .وفى منتصف الثالثينيات من القرن العشرين بدأ التنفيذ الفعيل لرتجمة األعمال العربية الكربى مثل: (إعداد سجل ضخم للشعر العربي القديم) عام 1935م.
واألرجح أن حركة ترجمة األعمال العربية من نرث وشعر إىل
اللغة العربية حركة نشطة ومستمرة وال يوجد أديب عربي له شأن لم ترتجم العديد من أعماله إىل العربية فضلاً عن دراسات
وأطروحات علمية عن أدباء عرب.
واألمر لم يتوقف عند الرتجمة فقط ،بل تهتم األكاديميات
واملؤسسات البحثية اإلسرائيلية بدراسة املجتمع العربي ،وهناك
موسم الهجرة إلى الشمال
األرواح المتمردة
ال ينطلق االهتمام اإلسرائيلي بالفكر العربي بمختلف عصوره من رؤية علمية صرفة ،إنما من رؤية تستهدف التعرف على المجتمعات العربية التي تتعامل معها على أنها مجتمعات معادية السجالت املعرفية التي يمكن االستناد إليها يف استقاء املعلومات
من حصل عىل رسائل جامعية يف موضوعات أدبية وفكرية وغريها ،واس ُتفيد منهم يف تنسيق األنشطة يف األرايض املحتلة. رجمت عشرات األعمال العربية إىل العربية عىل صعيد متصل ُت ِ
يف أحيان كثرية رصدها عرب سائر املصادر املعرفية املباشرة من
عشيقتي السرية» ،لألديب عالء حليحل ،و«عمارة يعقوبيان»
السيد ياسني اهتمام املؤسسات البحثية اإلسرائيلية برتجمة
أبرزها كتاب« :قصص األنبياء» ،وكذلك كتاب «كارال بروين
للكاتب عالء األسواين ،التي أثارت الكثري من الجدل يف الشارع الثقايف ،ورواية «عزازيل» ليوسف زيدان عام 2009م .ومن رجمت رواية «موسم الهجرة إىل الشمال» الروايات العربية ُت ِ
عن التكوينات التحتية يف مجتمع من املجتمعات والتي يصعب كتابات سياسية واجتماعية وفلسفية» .ويفسر املفكر الراحل األدب العربي بمختلف عصوره بأن «أي أدب يرصد العمليات
االجتماعية التي تصاحب التغري االجتماعي وتلقى األضواء عليها وعىل مساراتها املتعددة وبصورة أكرث برو ًزا ووضوحً ا وحيوية
للسوداين الطيب صالح ،و«األرواح املتمردة» للبناين جربان
من كثري من البحوث العلمية .من هنا االهتمام برتجمة وتحليل
الشمس» للقاص اللبناين الكبري إلياس خوري ،ورواية «بنات
االجتماعي يف املجتمع وآثاره».
خليل جربان ،و«حكاية زهرة» للبنانية حنان الشيخ ،و«باب الرياض» للكاتبة السعودية رجاء الصانع. ترجمة الفكر العربي ملاذا؟
مضمون األعمال األدبية حتى يضعوا أيديهم عىل مفاتيح التغري يف املقابل ثمة عوامل أخرى وفرت بيئة دافعة لالهتمام
اإلسرائييل باألعمال األدبية عند العرب؛ أهمها: أولاً -وقوع الكيان اإلسرائييل وسط تجمع إقليمي عربي،
لقد كانت ترجمة الفكر العربي بمختلف أجناسه وعصوره
وما يتصل بهذا من تباينات يف الهوية وتعارضات عميقة يف بنيتي
يف التعرف عىل املجتمعات العربية ،وهو ما يؤكده الدكتور
ثانيًا -التعرف عىل مكامن القوة والضعف يف الطرف
أحد املجاالت املهمة والوسائل الحيوية التي يمكن أن تساعد إبراهيم البحراوي يف كتابه« :األدب الصهيوين بني حربي يونيو 67وأكتوبر »73بقوله« :إن األدب يمثل واحدً ا من أهم وأوثق
الكيان واملنطقة العربية.
العربي؛ إلدماج هذا الجانب يف أسس اإلسرتاتيجية اإلسرائيلية
العليا إزاء العرب ،ويف كيفية إدارة الصراع.
87
قضايا
ً ثالثا -التداخالت الرتاثية والتاريخية بني الحضارة العربية
والنتاجات الثقافية ليهود الدول العربية يف النسيج الثقايف العربي واإلسالمي العام.
ويحاول اإلسرائيليون اختزال دوافع هذا االهتمام، فيسوِّقون تربي ًرا ألسباب دعائية فمثلاً يعرب أوريال هايد (أحد
أساتذة الدراسات الشرقية يف الجامعأوة العربية بالقدس) يف دراسة له عام 1961م عن دافعني لالهتمام اإلسرائييل بالفكر والشؤون العربية هما :املتطلبات املستقبلية واستيعاب اليهود
الشرقيني .يقول هايد حول الدافع األول« :مهما يكن توجهنا
األدبي وعالقاتنا السياسية مع جرياننا ،فإنه ليس هناك من ينكر أن مستقبلنا القومي مرتبط بمستقبل الشرق األوسط،
وإىل حد ما بمستقبل دول آسيا وإفريقيا األكرث بعدً ا ،وهذه
الحقيقة ينبغي أن تضفي عىل اهتمامنا بالشرق األوسط أهمية خاصة وحيوية ووعيًا يزيد عما لدى الباحثني الغربيني». وبالنسبة للدافع الثاين يذكر هايد« :أن استيعاب العدد الكبري
من املهاجرين من دول الشرق إىل فلسطني يتطلب فهمً ا واسعً ا للظروف السائدة يف بلدانهم األصلية ،ودراسة تقاليدهم الخاصة ،وفى الوقت نفسه مساعدة مهمة للمعرفة العلمية وللفهم املتبادل بني الطوائف».
88
يف هذا السياق العام فإن االهتمام اإلسرائييل باآلداب
والفنون العربية يظل متمحورًا حول تطلع اإلسرائيليني إىل جعل أبحاثهم يف الفكر العربي بمنزلة مصدر إلحدى القوى التي
يتطلعون المتالكها :لتوظيفها من ناحية عىل صعيد تحقيق التوافق الداخيل يف الكيان الصهيوين ،وإذابة التناقضات اإلثنية والفوارق بني شرائح املستوطنني اليهود ،ولتوظيفها من ناحية
ثانية يف النطاق الخاص بكيفية التعامل مع املنطقة العربية، وكيفية إدارة الصراع وتخطيط شؤون املستقبل وذلك بمعزل
عاموس عوز
ديفيد غروسمان
التيارات األدبية فإن معلوماته عن اإلنسان العربي وعن عامله
ستكون مشوهة ومرتكزة عىل املعلومات الصحفية اليومية غري العميقة ،ويتعلم القارئ اإلسرائييل عن طريق متابعة األعمال
األدبية العربية يف مجال الرواية واملسرح والشعر كثريًا من
املفاهيم النفسية لإلنسان يف القاهرة ويف دمشق ويف بريوت وبغداد ،وحتى يف الريف املصري واللبناين والسوري ،ويتعرف
بهذه الوسيلة عىل مشاكل ومتاعب األديب العربي واإلنسان
العادي يف نفس الوقت .غري أن الواقع اإلسرائييل يعكس خالف ذلك ،فعىل سبيل املثال توتر الداخل اإلسرائييل عشية
قرار اتخذه يوىس ساريد زعيم حزب مرييتس عندما كان وزي ًرا
للتعليم ،يسمح بتدريس األعمال األدبية الخاصة بالشاعر الفلسطيني محمود درويش.
معاهد ومراكز متخصصة
يف سياق االهتمام اإلسرائييل بدراسة وترجمة أنشطة
الحركة األدبية والثقافية يف العالم العربي ،سعت إىل إنشاء املؤسسات واملراكز البحثية التي تهتم برتجمة ودراسة الفكر
العربي ،ويف محاولة لدفع أبحاث
عن الدعوات املزيفة التي تتحدث عن الرغبة يف االندماج يف
املنطقة ،وإقامة سالم مع العرب. دعاوى مزيفة
ال ينطلق االهتمام اإلسرائييل بالفكر العربي
بمختلف عصوره من رؤية علمية صرفة ،إنما من
رؤية تستهدف التعرف عىل املجتمعات العربية التي تتعامل معها عىل أنها مجتمعات معادية .وإذا كانت
إسرائيل تروِّج إىل أن اهتمامها بمتابعة وترجمة الفكر األدبي العربي ،يأيت يف سياق التكامل والتواصل
الثقايف املشرتك مع بيئتها اإلقليمية ،إذ يقول الباحث
اإلسرائييل الدكتور ساسون سوميخ :إن مطالعة
الفكر العربي الحديث ضرورة حياتية لكل مثقف
إسرائييل ولكل قارئ نبيه؛ إذ إنه دون ّ اطالعه عىل العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
عمارة يعقوبيان
عزازيل
الثقافية في إسرائيل؟ ما الذي يشغل النخب ّ
االستشراق إىل تحقيق األغراض املحددة لها .وتعد أقسام
اللغة العربية واألدب العربي من أهم أقسام كليات ومعاهد
الدراسات اإلنسانية يف إسرائيل .ومن أبرز الجهات :معهد الدراسات الشرقية ،عندما أنشئت مدرسة الدراسات الشرقية
مع املعاهد األوىل يف الجامعة العربية عام 1962م كانت الدراسات
العربية أهم مادة فيها ،وخالل السنوات األوىل تحولت املدرسة إىل معهد ِّ يعلم اللغة العربية القديمة والحضارة اإلسالمية،
وكذلك التاريخ القديم للبلدان اإلسالمية ،والتاريخ العربي يف
القرون الوسطى.
الجمعية الشرقية :مع تزايد االهتمام بالدراسات العربية بعد قيام دولة إسرائيل ،أُسِّ ست الجمعية الشرقية وهي
تعنى كما ذكر الربوفيسور جربيل باير (أستاذ تاريخ الشعوب
اإلسالمية بالجامعة العربية) بتنمية معرفة اللغة العربية. وتعنى الجمعية بالتطورات السياسية واالقتصادية واالجتماعية
والثقافية للبالد العربية ،ونشر مقاالت يف األدب والنقد األدبي.
مؤسسة أبحاث الشرق األوسط :استحدثت رئاسة الجامعة
العربية هذه املؤسسة يف منتصف السبعينيات ،والتحق بها
باحثون وأكاديميون من املعاهد واألقسام التابعة للجامعة. وتنشر املؤسسة سلسلة من الكتب ،إضافة إىل تقارير ونشرات
دورية باللغة العربية.
جامعة تل أبيب :تضم جامعة تل أبيب عدة مؤسسات
بحثية تعنى بالشؤون العربية؛ أبرزها معهد شيلواح للدراسات
الشرق أوسطية واإلفريقية .ويظل من الثابت أن تعدد املراكز
واملؤسسات البحثية التي تعنى بقضايا الفكر العربي بمختلف تشعباته وارتباطاته إنما يعكس مقدار األهمية التي ُتولِيها إسرائيل إىل معرفة املجتمعات العربية؛ إليجاد عالقات ارتباط
بني الواقع وبني الصور الذهنية التي يسعون إىل ترسيخها كما يعكس هذا التعدد من ناحية أخرى رغبة إسرائيلية يف امتالك املزيد من عناصر القوة الثقافية إىل جانب القوة العسكرية
واالقتصادية يف الصراع.
حماية الخصوصية الفكرية
بالنظر إىل غياب املوضوعية اإلسرائيلية يف تناول األعمال
األدبية واإلنتاج الثقايف العربي ،يبقى مهمًّ ا التفكري جديًّا يف حماية خصوصية أعمالنا الفكرية .والدعوة لحماية الحقوق
بنات الرياض
تُرجمت عشرات األعمال العربية إلى العبرية أبرزها كتاب« :قصص األنبياء»، و«عمارة يعقوبيان» للكاتب عالء األسواني ،و«موسم الهجرة إلى الشمال» للسوداني الطيب صالح، و«األرواح المتمردة» لجبران ،و«حكاية زهرة» للبنانية حنان الشيخ ،ورواية «بنات الرياض» للكاتبة السعودية رجاء الصانع الواردة فيها ،وبخاصة أن النزعة الصهيونية تبدو واضحة عند
تناول األعمال الفكرية العربية والعناصر البشرية العربية. الدفاع عن حقوق ُ الكتاب العرب واملصريني عن طريق
ً خصوصا أن بعض املؤلفني اإلسرائيليني الذين املنظمات العاملية، ُترجمت أعمالهم للعربية يفعلون ذلك ،ومنهم( ،ساميخ يزهار -عاموس كينان -عاموس عوز -يعل ديان -يسرائيل شاحاك-
ديفيد غروسمان) وغريهم.
الفكرية العربية ضد مخاطر الرتجمة العربية املزيفة يف أكرثها تعكس يف هذا اإلطار مدلولاً يعني أن هذه الحقوق أصبحت
بالتعاون بني كل املثقفني العرب املتخصصني؛ إذ ليس من
مواجهتها ،وسرعة االتفاق حول طرق تحقيق الحماية والردع،
تتعلق بلغتنا العربية وما تشتمل عليه بينما تقتصر معرفتنا
يف موقف يمثل درجة متقدمة من خطورة التعدي ال بد من ومن ذلك :جمع الرتاجم والدراسات املنقولة من العربية إىل
العربية ودراستها دراسة علمية ،والرد عىل الكثري من املغالطات
خلق مؤسسات عربية لرتجمة األعمال العربية واليهودية
املعقول أن يعرف أصحاب اللغة العربية كل صغرية وكبرية عىل املرتجمات من لغات أخرى غري العربية ويف القليل نجد
مرتجمات مباشرة عن العربية.
89
مقال
عبدالله البريدي كاتب وأكاديمي سعودي
نحو مقاربة ثقافية تنموية للترفيه في السعودية مفهوم الترفيه يشير -في إطاره العلمي العام -إلى
األنشطة التي من شأنها التسلية عن الناس في أوقات
فراغهم؛ وفق إطارهم الثقافي ،وأمزجتهم الخاصة .قد يكون من المناسب أن نركب مقاربتنا الثقافية التنموية للترفيه في
المجتمع السعودي على هذا المفهوم ،عبر عمليتي التحليل والتعليق على الكلمات المفتاحية الواردة في هذا المفهوم، وليكن ذلك في ثالثة محاور كبيرة.
90
ّ رفه عن نفسك بقدر إنتاجك!
وردت في المفهوم عبارة «في أوقات فراغهم» ،فماذا عساها تعني؟ ماذا عن أولئك العاطلين أصلاً الذين ال يعملون
وال ينتجون ،وكل أوقاتهم فراغ في فراغ ،هل هم بحاجة إلى ترفيه؟ أم أنهم يحتاجون بالدرجة األولى إلى العمل
واإلنتاج؟ هذه المسألة تجرنا إلى التأكيد على أن الترفيه هو
معوضا عنه ،وال ِّ ً مسليًا عن فقده أو نشاط مكمل لإلنتاج ،ال ً ضعفه .الترفيه ليس هدفا بحد ذاته ،بل هو مجرد وسيلة.
الترفيه ليس هو الطعام ،بل الملح الذي يزينه .لقد تشكل
لإلنسان المعاصر ليكون مندغمًا مع الترفيه وصادرًا عنه :أنا ّ أترفه،
إذن أنا موجود .وهذا ما يجعلنا نرى ترفيهًا تافهًا لمترفهين تافهين، ال ينتجون شي ًئا وال يقدمون إسهامًا لمجتمعاتهم. وتأسيسا على ما سبق ،أضع بعض النقاط التي أرى أن على ً
الهيئة العامة للترفيه التفكير حيالها: أولاً :إعادة النظر في االفتراضات األساسية التي تشكل الخطاطة
العامة للترفيه ،بحيث يكون المكون التنموي ركيزة تخطيطية،
إن في الغايات ،أو في المراحل ،أو في المشاريع ،أو في الميزانيات.
ثانيًا :الحاجة إلى الترفيه تزداد كلما نجحنا فعليًّا في توظيف
الشباب والشابات وجعلهم منتجين ،وزودناهم بمهارات العمل في المستقبل.
ً ثالثا :إيجاد تشريعات وآليات مشجعة على تبني الترفيه من قبل الشركات والمنظمات ،لترسيخ فكرة االرتباط بين الترفيه واإلنتاج.
ً رابعا :إدخال خبراء محليين في مجال الربط بين مسائل الترفيه
واألبعاد التنموية والمجتمعية ،وهذا يعين على إيجاد هندسة
وعي مجتمعي يقود إلى عدم القناعة بإنفاق األموال الطائلة
مجتمعية ذكية لبرامج الترفيه.
أو الوفاء باالحتياجات األساسية للناس .يخطئ كل من
وتسويقها في البرامج اإلعالمية والتوعوية.
على مشاريع ترفيهية على حساب تشغيل الطاقات الشابة
يعاند هذه الحقائق أو يتجاهلها ،وسيكون للترفية -حينها- حموالت سلبية كبيرة في المخيلة الشعبية ،وهذه خسارة
فادحة يسعنا تجنبها .ويتأكد خطورة ما قلناه ،بالنظر إلى
تنامي تطبيق فكر الليبرالية الجديدة في المسار االقتصادي
ً خامسا :تذويب أفكار «الترفيه التنموي» في المناهج والمقررات، ّ رفه عن نفسك َو ْفق ثقافتك!
لو جسدنا المعنى الوارد في هذا العنوان الفرعي ،لقلنا:
الترفيه صورة بروازها الثقافة .ال يستطيع الترفيه االنفالت من قبضة
المجتمعي في بيئاتنا العربية .إن الليبرالية الجديدة ال تؤمن
الثقافة؛ ال من حيث التشكيل األولي األصلي ،وال من جهة التطور
العوائد واألرباح ،ولو كان على حساب إشغال الناس
ّ مشكل حاكم .هذه المسألة نجدها في كل مجتمع ،وهي طبيعية
بفكرة ربط الترفيه بالعمل واإلنتاج ،بقدر ما تهتم بتحصيل
وإضعاف تفكيرهم وإنتاجهم ،وحقنهم بالتفاهة والسذاجة
(للمزيد يمكن القراءة حول مفهوم .)Tittytainmentلقد أفلحت هذه الليبرالية في إعادة تشكيل المكون الوجودي
العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
المرحلي المتتابع ،وال من زاوية ما يقبل وما يرفض منه .إنها إطار جدًّا ،غير أنها تمثل معضلة في المجتمع السعودي على وجه
التحديد؛ لماذا؟ ألن الثقافة مأزومة! نعم ،هي مأزومة من جراء
أسباب عديدة ذات طبيعة تراكمية معقدة .ومن أهمها السبب الذي
يعود إلى اشتباك «الثقافي المتنوع» بـ«الديني المنمط» في مسائل
الترفيه وبرامجه ومساراته .الديني المنمط (الفكر السلفي) يصدر «فتاوى جماعية حازمة» لمسائل مختلف حولها دينيًّا وفقهيًّا،
كمسائل المسرح والموسيقا والغناء ،ويجعلها في مرتبة عالية ً احتقانا شديدًا ُوجد في «هرم التدين السعودي» ،األمر الذي ي ِ لدى الفئات المحافظة إزاء البرامج التي تتضمن شي ًئا من هذا،
ويدفعهم إلى ممارسات احتجاجية فوضوية .الحقيقة عندي أن
الجميع يتحمل قدرًا من المسؤولية حيال ترسخ الذهنية الدينية المنمطة ،وعليهم جميعً ا (السياسي والمجتمعي) أن يعترفوا
بجسارة وشجاعة ،وأن يتقبلوا دفع التكاليف والقيام باالستحقاقات
الواجبة ،من خالل برامح إصالحية ذكية ممرحلة.
بدون هذا االعتراف وهات ِه البرامج ،لن يتطور المشهد الترفيهي
السعودي ،ولن يكون قادرًا على االنعتاق من اإلسار الديني الممانع. وللتدليل على ذلك ،أعود إلى خزانة الحكايا المجتمعية؛ ألستدعي قصة واقعية ظريفة حصلت في المعهد العلمي الديني في مدينة
بريدة قبل ما يقارب 50سنة (في حدود عام 1391هـ1971 /م) .هذي
الخزانة تقول :قامت ثلة من طلبة المعهد (ممن كانوا روادًا لمكتبة
حين ننظر إلى ردود األفعال المجتمعية لفئات محافظة عريضة حيال بعض برامج الترفيه في اآلونة األخيرة ،ندرك أن النهج الممانع في الخطاب الديني التقليدي ال يزال هو سيد المشهد على ٍّ كل ،سأطرح جملة من األفكار التي ربما تعين في حل
جزء من هذه اإلشكالية من زاوية أو أخرى .ويمكن لهيئة الترفيه مع الجهات المعنية النظر في كيفية تطبيق هذه األفكار: أولاً :تعزيز فكرة «دولة القانون» في المجتمع السعودي .قد يقال: ما د ْ َخل القانون في هذه المسألة التي قلنا عنها :إنها ذات
طبيعة دينية مجتمعية؟ باختصار ،أقول بأن كثي ًرا من مسائل الترفيه مختلف حولها دينيًّا ،ولهذا فإن الحاكم على ذلك
والضابط له ليس هو الرأي الفقهي لفئة مجتمعية معينة ،إنما
الثقافة العامة ببريدة ،وهذه لها قصة ثقافية يجب أن تروى) بإعداد
هو «القانون» ،فما دام القانون ال يعارض إقامة برامج ترفيهية
الناس ،ومنها حثهم على الكذب والغيبة والنميمة .اقترح أحدهم تسميتها بـ«برلمان إبليس»ُ .نفذت المسرحية على حين غفلة من
بمعارضة إقامتها باحتجاجاته الفعلية ،أما طرح اآلراء فقضية
مسرحية تدور حول األدوار الشريرة التي يلعبها الشيطان في حياة
شيوخ المعهد ،الذين علموا بها بعد ذلك ،وهو ما استدعى إصدار ً أحيانا إلى عقوبات تأديبية صارمة للطلبة المشاركين ،وقد وصلت َن ْف ِيهم إلى معاهد علمية خارج المدينة ُ(نفي بعضهم إلى المعهد
المناظر في الرياض) .وحين ننظر إلى ردود األفعال المجتمعية لفئات محافظة عريضة حيال بعض برامج الترفيه في اآلونة
األخيرة ،ندرك أن النهج الممانع في الخطاب الديني التقليدي ال
يزال هو سيد المشهد ،ولم تفلح السنوات الطوال في زحزحته نحو المرونة الفقهية الممارَسة في بقية الدول العربية واإلسالمية،
وهي المرونة التي تنتج تنو ًعا في الفتاوى واالجتهادات والتطبيقات. هناك إخفاق كبير في تشجيع الفئات المحافظة على إعادة الترتيب
للمسائل الجزئية في المنظومة الدينية وهرم التدين السعودي.
معالجة هذه المسألة في إطارها التفصيلي تخرج عن نطاق هذه
المقالة المختصرة؛ لذا سوف نعاود التركيز على مسائل الترفيه. ال أحسب أن الترفيه في السعودية سينجح في تخطي هذه العقبة َ الكأْداء دون تغيير في طريقة التعاطي معها ،من زاوية
التشخيص والتحليل والتخطيط والتنفيذ ،وعلى رأس ذلك االعتراف آنفا ،على أنني لست متفائلاً أومأت إليه ً ُ الجماعي الجسور الذي بحدوثه قريبًا؛ لضعف المؤشرات الدالة عليه ،ومنها عدم تبلور
القناعة الكافية بفك االشتباك بين السياسي والديني ،على نحو
يقذف بنا خارج أسوار السلفية المقيدة.
معينة نظ ًرا لصدوره عن رأي فقهي معين ،فإنه ال يُسمح ألحد حرية تعبير ،ويجب أن تكون مكفولة للجميع.
ثانيًا:صدور بيان من المؤسسات والشخصيات الدينية الرسمية وغير الرسمية تعزز هذه القضايا واألفكار ،وتحذر من السلوكيات ً قانونا. االحتجاجية على برامج الترفيه المصرح بها
ً ثالثا :ترسيخ هذه األفكار في المناهج والمقررات والبرامج اإلعالمية والتوعوية ،بما يتناسب مع الشرائح المستهدفة. ّ رفه عن نفسك َو ْفق مزاجك!
لكل مجتمع محلي مزاجه الخاص .هذا المزاج يُنتج طرائق
وأساليب محببة وأخرى غير محببة في مختلف جوانب الحياة،
ومن ذلك ما يتعلق بالترفيه .ومن هنا ،فإن من الواجب على هيئة
الترفيه التعرف على «المزاج الوطني الخاص» للسعوديين بشكل
عام ،بجانب «المزاج المحلي الخاص» في كل منطقة .المزاج العام
الوطني هو مزاج محافظ ،ولهذا فإنه من المهم مراعاة ذلك في
البرامج الترفيهية؛ بما في ذلك الموسيقا والمسرح والسينما؛ إذ إن المناسب للمجتمع السعودي هو الفن المحافظ ،وهو الفن الذي أراه أصيلاً وراقيًا في الوقت ذاته .الفن الهابط أو الرخيص أو الماجن
في كل تمظهراته -ال يصلح للمجتمع السعودي ،وإن كان ثمةطلب عليه من جانب بعض ممن ال يشكلون ً نسقا عامًّا .ليس هذا
فحسب ،بل تتعين اإلشارة إلى أنه من الطبيعي أن تشمل البرامج
الترفيهية ما يناسب الفئات المحافظة دينيًّا في جميع المسارات ،ال
91
مقال
سيما أنها تشكل نسبة كبيرة في المجتمع .للوفاء بمتطلبات
واالستشاري واللوجستي الالزم.
على تشغيل مكائن اإلبداع الفني المحلي ،الذي يتكئ على
لألمزجة واألذواق ،والتعريف بالمبدعين في هذا المجال.
المزاج الخاص الوطني والمحلي ،فإنه من الضروري العمل األبعاد المجتمعية والدينية والجغرافية .سيحقق هذا األمر
92
ميزة تنافسية للفن السعودي األصيل الذي ال يجده أحد إال في هذا البلد ،وهو المعبر عن روح البلد وعمقها الثقافي
الحضاري .وفي ضوء ذلك ،ال أرى أنه من المناسب -على
سبيل التمثيل -التوسع في استجالب فرق استعراضية دولية، ً عروضا ترفيهية؛ قد ال تكون قادرة على خلق الدهشة لتقدم
وال على إنبات االبتسامة لدى المجتمع .صحيح أن كل شيء
ً ثالثا :تنظيم مسابقات من شأنها تعزيز التنوع والتلبية المناسبة ً رابعا :سعي هيئة الترفيه ألن تنأى ببرامجها وطروحاتها عن التصريحات اإلعالمية غير المدروسة ،ومن المهم ً أيضا
النأي عن معالجات بعض الكتاب السعوديين المنتمين لما
يسمى بـ«التيار الليبرالي»؛ إذ إنهم يصوِّرون القضية على أنها
انتصار على خصومهم من السلفيين والصحويين ،وهذا يزيد
األوضاع اشتعالاً .باختصار :قوموا بعملكم بهدوء ،واطلبوا من أولئك الكتاب ّ الكف عن التهويل والمبالغة في خلق المعارك
قد تمت عولمته ،ومن ذلك الترفيه والنكت ،لكنه صحيح ً أيضا
الوهمية مع األطراف األخرى .قولوا للطرفين :لسنا بحاجة
القدر من «الضحك الجواني» ،في داللة على رسوخ البعد
في إعادة التفكير بالترفيه من منظور ثقافي تنموي ،يتأسس
أن ما يضحك هذا الشعب قد ال يضحك الشعب اآلخر بذات
ِّ سيمكن المحلي في الترفيه والنكتة .النهج المتعقل المتوازن
إلى صداعكم وتناحركم .آمل أن تسهم هاته المقاربة األولية
على الحقائق الصلبة .ويمكن لهيئة الترفيه أن تجعل مبادرة
الهيئة من جعل برامج الترفيه مالئمة ألمزجة الناس ومشبعة
مجلة «الفيصل» في استكتابي حول هذا الموضوع نواة إلقامة
لهذا انعكاسات إيجابية على تقويم أداء الهيئة وإنجازاتها.
االجتماعية واإلنسانية والشرعية؛ لطرح أبحاثهم حول المسائل
ألذواقهم ،وملبية لتطلعاتهم الوجدانية والنفسية ،وسيكون
وهنا أضع بعض األفكار العامة أمام هيئة الترفيه ،فلربما
تكون مفيدة في الجوانب التخطيطية والتنفيذية ،ومنها: أولاً :الحرص على تنويع البرامج الترفيهية المنفذة من جانب هيئة الترفيه ،ومن ذلك مراعاة احتياجات المناطق
المختلفة والفئات المحافظة ،والسعي لسدها بشكل كاف ،وبقوالب متوازنة. ٍ
ثانيًا :التشجيع على تأسيس معاهد فنية متنوعة ،من أجل صقل المواهب المحلية المبدعة في مجاالت الفن
والمسرح والعروض ونحوها ،مع تقديم الدعم المالي العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
ندوات علمية متتابعة ،يُد َعى إليها متخصصون في العلوم
واإلشكاليات المحيطة بقضية الترفيه ،وما أكثرها ،وما أعقدها، وما أحوجها لما أسميه بـ«الصدق الممنهج» .هذا الصدق هو
المعبر عن روح المثقف الحقيقي ،الذي يؤمن بأن الصدق وحده
هو ما يجعل مشاكل وطنه جزءًا من الماضي ال المستقبل. وأخي ًرا وبكل صراحة ،أقول :المسألة معقدة وتتطلب
معالجات علمية وفكرية معمقة؛ لتفكيك االشتباكات المعقدة
بين األنساق واألفكار والتيارات ،بين ذهنية الماضي وذهنية الحاضر والمستقبل .ال أحسب أن هيئة الترفيه ستفلح في تخطي العقبات والتحديات الكبار دون نهج علمي متعقل متوازن.
نصوص
مفكرة الحرب محمد الشلفي
شاعر يمني
خلسة يدلفون إلى المدينة
مرت الريح..
لرؤوس مفخخة بوصايا الموت
بما يكفي ألن نمضي بجراح غائرة
يجوبونها بأقدام مشققة
غير أننا انكسرنا
وأكتاف تتباهى بصورة القائد على البنادق...
سنوات قادمة.
ومفجوعين
أيها الوطن المقهور
البنادق التي ستحصد قتلى ومقهورين ونازحين
ومنافي كثيرة في الصدور!
***
أيتها الشوارع التي شهدت حبي
أشبعت نهمها االنتكاسات اسمعها نصيحة مني: ُخذ من سعادتك َ أل َلمِ ك
أمسك ل َِغدِك مِ ن ِ مِ ن يومِ ك َ مسك أل ِ
من لحظتك لك...
تجتاحك الميليشيا بأقدامها الغالظ
سيطول انتظارك لغفوة أخرى... ما أَ ِع ُدك به
كنت أتحدث في الحب
أنك ستكون..
كنت أحمل وردة
ويحملون رصاصة
ويتحدثون في الموت كنت أالحق النجوم
ويطاردون الجثث والخصوم
كنت أوزع عشقي على الكائنات
ويوزعون الكراهية على األرصفة
ال يحبون العصافير
يحبون دوي المدافع أكثر.
ستعلمين أيتها الشوارع الحزينة
أن صوت الحياة أعلى من دوي المدافع. ***
أنها ستأتي في نهاية المطاف
وسيبقى أثر الطعنة ال يفارقك.
93
حوار
مفكر بحريني أكد أنه في غياب األسس الحديثة لبناء الدولة العربية يتوجه الفرد العربي إلى قبيلته أو مذهبه
علي فخرو:
البترول فرصة تاريخية كبيرة أضاعها الخليجيون حاوره في المنامة :علي القميش أوضح المفكر العربي علي فخرو أن بناء الدولة العربية على أسس
حديثة لم يتم حتى اآلن؛ ما دفع باإلنسان العربي إلى التوجه إلى القبيلة أو المذهب .ويلفت إلى أن األفكار القوميّة والليبراليّة تراجعت ،ما أوجد ً نوعا
94
من الفراغ في الحياة السياسية العربية ،ليأتي اإلسالم السياسي ويحتله. وقال فخرو في حوار لـ«الفيصل» :إن الصراع الطائفي في المنطقة اآلن له تأثيراته البالغة في تفكير الشباب ،الذين ال يفكرون في العدالة االجتماعية
أو في حرية اإلنسان ،أو في المواطنة أو الدساتير أو القوانين ،إنما في قضية الشيعة والسنة .وذكر أن العرب ليس لديهم عقد اجتماعي ُّ ينص وينظم العالقة بين المواطنين بالتساوي ،مشيرًا إلى أن أكبر إهانة توجه للشعب العربي هو القول بأنه ألعوبة في أيادي كل من َ حدث في الربيع العربي هو زخم تاريخي هب ودب ،وأن ما حقيقي .وأكد أن دول الخليج
أضاعت فرصة تاريخية كبرى تتمثل في البترول ،مشد ًدا
على اتحاد دول الخليج ومعهم
العراق واليمن إذا ما أرادت عالقة أخوية وندية مع إيران.
العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
● ربما تكون من بين أكثر المراقبين لما يحدث في
ً تحديدا من بزوغ ظواهر مثل« :التوحش»، الشرق األوسط
و«التطرف» وتفلت «الكراهيات» ،مفردات بزغت في السنوات القليلة الماضية في منطقة الشرق األوسط ،ومن خاللها
عاشت المنطقة سلسلة من الصراعات القاتلة قادتها تنظيمات
كــ«داعش» أو ما يسمى «بالدولة اإلسالمية» ،و«النصرة»؛ كيف تقرأ تلك الظاهرة؟ وما الذي جعلها تتسع بهذا الشكل الخطر في منطقتنا؟ ■ باعتقادي تلك هي أخطر ظاهرة تواجه األرض العربية واإلسالمية في هذا القرن ،وال أعتقد أنها قد واجهت إمكانية تدمير كما هي اآلن ،ليس تدمي ًرا وحسب ،إنما ً أيضا وضعها
الصراع الطائفي في المنطقة اآلن له تأثيراته البالغة في تفكير الشباب، فهم ال يفكرون في العدالة االجتماعية أو في حرية اإلنسان ،إنما هم مشغولون بقضية الشيعة والسنة إذن من الناحية السياسية إنهم يكوِّنون فعلاً كتلة حرجة
وخطرة جدًّا ،اإلشكالية اآلن أن هؤالء إن هُ زموا في الموصل وفي الرقة وأُخرجوا من العراق أو ما عاد لهم وجود على األرض ،فإن علينا الوقوف أمام ظاهرة الذئاب الفردية التي ستنتقل بعد ذلك
أمام العالم موضع الخطر الدائم .حين تراقب ردود الفعل
لتكوين جماعات صغيرة ال تلتزم بقيادة واحدة ،بل بقيادات
يستعمل ورقة اإلسالميين ويشير إلى اإلسالميين المتطرفين
توجيهات داعش لشبابها وعناصرها ،ومن الممكن أن ينطبق هذا أيضا على اآلخرين ،بضرورة أن يهيئوا أنفسهم لحلق ِّ ً اللحى وارتداء
المتعددة لوصول ترامب لمنصب الرئاسة ،وقراراته العجيبة، ً وتوحشا ودائمً ا أوربا وترددها ،اليمين األوربي الذي يزداد قوة
العنيفين اإلرهابيين؛ فالتأثيرات هائلة وإذا استمرت لمدة طويلة في اعتقادي أنها ستكوّن أخطارًا رهيبة على هذه المنطقة كلها، لهذا السبب أصبحت اإلشكالية اآلن معقدة كثي ًرا ،ويمكننا النظر
إليها على مستويين؛ المستوى السياسي ،والمستوى الثقافي.
وأشكال مختلفة ،وفي هذه الظاهرة ال بد من االلتفات إلى
اللباس الغربي ،واستخدام العطور المشبَّعة بالكحول؛ كي ال
ً ً إطالقا ،فيسهل ترتيب أمورهم وانقضاضهم عرضة للشك يكونوا
بين الحين واآلخر ،يفجرون هنا ويقتلون هناك ،هذي الظاهرة
األخيرة هي أخطر ما في الموضوع؛ ألنها ال تنتهي ،تستطيع أن تستمر ألمدٍ بعيد .وهناك دائمًا مجموعات من الشباب الذين
في الواقع السياسي نحن أمام ظاهرة تتقلب وتتغير حسب ً أفغانا يحاربون ضد االتحاد السوفييتي الظروف ،بدأت بكونهم
يسهل اللعب بعقولهم وخديعتهم ليُجَ ُّروا لمثل هذه المصيدة.
تلك المشاعر والحركات الشبابية بخبث شديد من قبل ...CIA
الغرب عندهم مشاكل ،وهؤالء الشباب يريدون أن يحرروا هذه
الملحد من أجل الديمقراطية الغربية العظيمة ،استعملت
والقصة معروفة ،لكن االنتهازية األميركية ال يمكنها التوقف عند حد .سقط االتحاد السوفييتي؛ هل تتوقف هناك؟ بالطبع ال،
فهي تريد استعمالهم بكل األنواع ،جاءت فرصة العراق؛ احتالل العراق والمقاومة وسمح بصورة مؤكدة لهذه الحركة أن تنتقل من أفغانستان إلى العراق ،وهناك القصة ً أيضا معروفة ،كيف
أراض كثيرة، تطورت إلى أن وصلت إلى مرحلة االستيالء على ٍ ثلث العراق تقريبًا ،حتى تعقدت األمور وتداخلت معها بعض الدول األوربية .وال شك أن لالستخبارات اإلنجليزية دورها ً أيضا،
السؤال اآلن :هل األسباب فقط سياسية مختزلة في أن
األرض من ال ِّربْقة ،هذا الكالم غير صحيح؛ ال هؤالء معنيون بإخراج االستعمار ،وال معنيون ً أيضا بإسقاط الصهيوني في فلسطين .فلننظر اآلن إلى الجانب الثقافي؛ فهذه الظاهرة ال يمكن
أن تجتث فقط ما له تأثير بالجانب األمني أو السياسي أو وجود تحالفات بأشكال مختلفة ،هؤالء من المؤكد أنهم يستندون إلى
خلفية ثقافية إسالمية ،وهي خلفية لها تاريخ طويل جدًّا ،ومع األسف الشديد ،إنها ظاهرة قراءة فقهية وقرآنية خاطئة ،وبالتالي
ال ب ّد لنا اآلن أن نسأل :هل نحن قادرون على أن ندخل في حركة إصالحية للمجال الديني؟ أنا ال أقول حركة إصالحية للقرآن أو
حتى أصبحت بعد ذلك لعبة في يد بعض الدول العربية ،بعض دول الخليج من المؤكد ً أيضا أنها دخلت في اللعبة من أجل أن
للوحي الذي نزل لكنها حركة إصالحية تتوجه إلى ثالثة أشياء:
هؤالء في ليبيا ومن قبلهم استعملوا في اليمن وهلم ج ًّرا ،واآلن
األحاديث ضد اإلسالم واإلسرائيليات وغيرها ،وهذه يجب أن
تستعمل هؤالء ،واس ُتعمِ ل هؤالء في سوريا ،واآلن يُستعمَل
من الممكن أن تتمدد إلى أماكن أخرى كلما أرادوا أن يتدخلوا أو يسقطوا نظامً ا معي ًنا يستعملون األسلوب نفسه ،إذن اآلن
الشيء األول هو علوم الحديث ،وهي علوم اندست فيها ألوف تواجَ ه .ال نستطيع القول :إننا ال نعرف ما الصحيح وما الخطأ،
الخطأ هو كل ما يعارض ما جاء في القرآن الكريم ،وما يعارض
هؤالء أصبحوا جزءً ا من ظاهرة عالمية بالغة التعقيد؛ فيها
المقاصد الكبرى لإلسالم ،والخطأ هو كل ما يمس شخصية
تلعب أدوارًا من أجل أن تبيع السالح ،يطلبون السالح وبعض
الغيب ،ما يتكلم عن أمور من الواضح جدًّا أنها أدخلت الصراعات
استخبارات ،وفيها حكومات ،وفيها أموال هائلة ،وفيها شركات الدول تدفع الثمن.
الرسول صلى الله عليه وسلم ،وما يتكلم عن الغيب وهو ال يعرف السياسية السابقة :الشيعة والسنة واإلباضية ،هذا كله وأكثر.
95
حوار
الشيء الثاني ما يتعلق بعلوم الفقه؛ الذين اجتهدوا في
■ هناك ضمور في الثقافة السياسية؛ يعني في حقبة
حنيفة بشر ،والشافعي بشر ،وغيرهم جزاهم الله خي ًرا ألنهم اجتهدوا من أجل أن يوجدوا حلولاً ألوضاع مختلفة عن أيام
الفكر الحديث السياسي المتعلق بالدولة وبالقومية وبالوطنية وبالدساتير ،بدأ ينتعش شي ًئا فشي ًئا ،السقوط المذهل للمشروع
ّ كل المدارس الفقهية كانوا بش ًرا :جعفر الصادق بشر ،وأبو
الرسول صلى الله عليه وسلم ،وهذا شيء صحيح لكنهم كانوا
يستعملون علوم عصرهم ،وأفكار عصرهم ،وظروف عصرهم. الظروف اآلن كلها تغيرت ،ال يمكن القول بأنّ ما قاله الشافعي
أو جعفر الصادق يجب أن يؤخذ به اليوم ،الذي يجب أن يؤخذ
به هو وجوب إيجاد حركة إصالحية تقرأ الفقه من جديد ،وتقرأ ً ارتباطا ً وثيقا بين هذا المجال علوم األحاديث من جديد ،وتضع الديني اإلسالمي وبين علوم العصر ،هناك تحوالت كبرى في
اللسانيات وفي األنثروبولوجي ،وفي قراءة التاريخ ،وفي طرق النقل ،وفي قراءة الكلمة وإلى آخره ،ونحن ندرك ذلك كله،
وال نستطيع أن نتجاهل وتقول :ال ،ما قاله السلف هو الشيء ٍّ تحد ،إيجاد الصحيح ،هذه القضية في اعتقادي هي أكبر
أنفسهم حركة إصالحية للمجال الديني؛ كي ال يجد الشباب َ دس في عقولهم ادعاءات منسوبة إلى المقدَّ س متخبطين ُت ُّ فيأخذون بها ويعملون بها ،تلك قضايا معقدة تحتاج في تفكيكها لساعات طوال .
96
سقوط المشروعين :الناصري والبعثي
الخمسينيات من القرن الماضي ،أو حتى األربعينيات ظهر
القومي وتوحيد األمة العربية وغيره ،ولنكن أكثر وضوحً ا؛ مشروع الرئيس الراحل جمال عبدالناصر في مصر ،ومشروع حزب البعث الذي نشأ في سوريا وفي العراق ،الجميع فشل
ألسباب كثيرة ال يمكن الخوض فيها .ال الرئيس عبدالناصر استطاع أن يحقق تلك النظرة؛ قضية الوحدة والحرية
واالشتراكيّة ،وال حزب البعث استطاع أن يحقق ذلك ،وضيّع
االثنان مناسبات كثيرة جدًّا بسقوط المشروع القومي .حزب
البعث ارتكب حماقات ال أول لها وال آخر ويجب أن يق ّر بذلك، يكفي أن نذكر مثلاً واحدًا لفشل حزب البعث ،أولاً عندما وقف مع انفصال سوريا عن مصر ارتكب جريمة كبرى بحق ،وعندما كان يحكم سوريا والعراق كان يستطيع أن يوحّ د سوريا والعراق
في دولة قوية ،أقوى دولة عربية ،وأغنى دولة عربية ،وأقدر دولة عربية ،وأكثرها نموًّا في الزراعة وفي الصناعة وفي العلم،
إنما لم يفعل ذلك!
مع األسف فإنّ الشعارات التي رفعت لم تطبّق ،ولم يؤخذ
بها ،ودخل حزب البعث في المغامرات العسكريّة واألمنيّة ،إذن ذلك السقوط السياسي رافقه مباشرة سقوط ثقافي سياسي،
● كالمك يتقاطع مع الرؤية التي تذهب إلى أن حركات
تراجعت األفكار القوميّة ،وتراجعت األفكار الليبراليّة ،ووجد نوع من الفراغ في الحياة السياسية العربية ،هذا الفراغ ّ احتله اإلسالم
المنطقة سواء كانت دينية أو ثقافية ،ترى هل يعاني خطابنا
االشتراكي بعد سقوط االتحاد السوفييتي ،وإذا هناك فراغ هائل
التطرف في منطقة الشرق األوسط ودوائر التوحش ما هي إال صناعة استخباراتية ،ولكن هناك ً أيضا استثمار لدوائر الجهل في
السياسي ،تم ركن الفكر القومي ،والفكر الليبرالي ،وكذلك الفكر
العربي بشكل عام والديني بشكل خاص ضمورًا
في الساحة السياسية والثقافية العربية مألها اإلسالم السياسي،
خطِ رًا في مكوّناته الثقافية الحقيقية ، َ أشرت في حديثك بحيث أصبحنا كما أننا بحاجة إلى إعادة صياغة المك ِّون الثقافي والعمل على ترميمه؟
الذي مع األسف له إشكالياته؛ منها إشكالية عدم قدرته على
أن يقرأ قراءة حديثة لمنطوق الوحي من جهة ،وقراءة حديثة
للتراث الفقهي والتراث الحديثي من جهة أخرى ،والنتيجة رأيناها عندما استلم اإلخوان المسلمون الحكم في مصر ،كيف تخبطوا وأضاعوا فرصة العمر ...ال ب ّد من النظر اآلن إلى العمل السياسي
اإلسالمي في تونس الذي تعلم درسً ا وما زال يحاول ،وبالفعل ما زالت لدى حزب النهضة في تونس محاوالت لتطوير الفكر
السياسي اإلسالمي ،بحيث يتعايش أكثر مع العصر الحديث، لكنه تطوير محدود وتونس بلد صغير ال يمكن أن يؤثر كثي ًرا ،كان
المؤمل على الحركة اإلسالمية السياسية في مصر أن تقود ذلك.
● هل هناك فراغ ثقافي؟ ■ هناك نوع من المأساة الثقافية الحقيقية في داخل األرض
بتفكير ذاتي ،فكر حزب البعث العربية ،لماذا؟ ما أردناه نحن كان ٍ
كان تفكي ًرا ذاتيًّا عربيًّا ،والرئيس جمال عبدالناصر حركته كانت
العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
علي فخرو :البترول فرصة تاريخية كبيرة أضاعها الخليجيون
ذاتي ،واإلسالم السياسي كان من المفترض ً أيضا أن يكون بتفكير ٍّ ٍ
ذاتيًّا ،إنما اآلن دخلت علينا ثقافات أخرى لها تأثيراتها البالغة؛ ثقافة العولمة هي ثقافة جديدة ُتشدّد كثي ًرا على الفرديّة إلى
ح ّد أنها تمحو المجتمع في حياة اإلنسان ،وتمحو العائلة في حياة اإلنسان ،تشدد على االستهالك النهم الدائم ،تشدد على
الجانب االقتصادي البحت في حياة اإلنسان ،بل الجانب المالي
البحت ،وقد أوجدت اآلن وضعً ا ثقافيًّا اقتصاديًّا وسياسيًّا بالغ ّ محل انتقاد شديد في الوقت الحاضر .كل هذه التعقيد ،وهو األمور طبعً ا لها تأثيراتها البالغة على شباب األمة العربية ،فهم اآلن في حالة ضياع وتيه في فوضى هذا الفكر العولمي الذي ال
يستطيع أن يحل إشكالياتك المحليّة ،هو يخدم مصالح واضحة المعالم للدول الرأسمالية الكبيرة الغنية
جه للشعب العربي هو أكبر إهانة تُو َّ القول بأنه ألعوبة في أيادي كل من َ حدث في الربيع العربي هب ودب ،ما هو زخم تاريخي حقيقي انتخاب حكومة ظلمتني ،الحزب الذي ّ يمثلها في البرلمان ال أنتخبه ،حينئذٍ ال حاجة ألن يستعمل العنف أو يتوجه إلى أيّة جهة لتحميه ،هو قادر بصوته أن يُحدث ً فرقا كبي ًرا جدًّ ا،
لكننا لألسف ال نمتلك مثل هذه الوسائل والطرق التي يتوجه
لها اإلنسان فيضطر ألن يلجأ إلى العنف ،إذن القضية هي أن بناء الدولة العربية على أسس حديثة لم
والشركات الكبيرة ،أما أنت بوصفك فردًا فال. اليوم يشهد الغرب ً أيضا حركة تم ّرد بالنسبة
يتم حتى اآلن ،وما لم يتم ذلك فاإلنسان
العربي سيذهب ويتوجه إلى قبيلته أو
للفكر العولمي ،وهناك نقطة ال بد من
مذهبه أو إلى عرقه.
الدخول فيها؛ الصراع الطائفي في المنطقة
إرث استبدادي
اآلن له تأثيراته البالغة في تفكير الشباب
● ما الذي يمنع قيام الدولة العادلة؟
فهم ال يفكرون في العدالة االجتماعية أو في حرية اإلنسان ،وال في المواطنة أو الدساتير
أو القوانين؛ ألنهم ببساطة مشغولون جدًّا بقضية الشيعة والسنة.
جمال عبدالناصر
من خالل مسار التاريخ تجد أن النخب الحاكمة في المناطق العربية ُتبقي على
تلك النتوءات التي تضع طائفة ما في
مقابل طائفة أخرى ،وهل أنت مع من يذهب إلى أن السلطات
● في هذا السياق الخطاب الطائفي الذي استشرى في
تعمل على استثمار تلك النتوءات لصالحها؟ وهل هي فكرة صحيحة أصلاً للحكم هو أنني متى ما زرعت تلك الفرقة سيدوم
الدولة تحميهم من خالل القوانين والدساتير والتوزيع العادل
بعد سقوط الفترة الراشدية التي هي محاولة ألخذ رأي الناس في
منطقتنا وتحركت مفاعيله بالشكل المزعج والكارثي عائد بالدرجة األولى لغياب الدولة العربية العادلة؟ ■ تمامً ا ...الذين يسكنون في دولة ما إذا هم شعروا بأن
للثروة والمساواة وتكافؤ الفرص ،لن يحتاجوا إلى ارتباطاتهم الفرعية لتحميهم؛ ألن الدولة تحميهم.
عمر الحكم لدي؟ ■ أولاً أنت تسأل لماذا ،ألننا نمتلك ً إرثا تاريخيًّا استبداديًّا،
بشكل محدود ،حتى الحاكم الذي سيعين ،حتى لو كان ذلك ٍ جاء الحكم األموي وظهر (الملك) والم ُْلك ،استمر هذا معنا منذ ذلك الوقت ،إنه ما يسميه محمد عابد الجابري عقلية َ الغ َلبة؛
● وهنا ،أي في غياب الدولة ،يرتد الفرد إلى الجماعة... ■ تمامً ا ...عندما يشعر بأن الدولة ال تحميه فليس هناك
لعسكر وقد تكون ألجانب من الخارج .األرض العربية حكمت من
ال يستطيع أن يدافع عن نفسه ،يلجأ إلى انتماءاته الفرعية: ً أيضا أديان االنتماء القبلي ،والمذهبي ،والديني ،فهناك
يمكنك تغييره إلى نظام وأن الدولة هي ملكك أنت؟ ليست رعية
لكن الحياة الحزبية في األرض العربية تكاد تلفظ أنفاسها ،ما
كان ال بأس بها في زمانها ،لكنها ما عادت صالحة ،مع ذلك
مواطنة متساوية ،وال تكافؤ فرص ،فإلى أين يتوجه؟ هو وحده
أخرى ،وقد يكون االنتماء الحزبي؛ ألن الحزب ً أيضا يحميني،
عادت موجودة .إذن اإلنسان يتوجه أكثر ما يتوجه إلى القبيلة أو المذهب الطائفي من أجل أن يحميه ،أعطني في أي مكان في
األرض العربية أعطني قوانين عادلة ،وأعطني نظامً ا ديمقراطيًّا معقولاً يشعر فيه اإلنسان بأن هناك أملاً في أن أمتنع من
الذي يغلب هو الذي يحكم ،اآلن الغلبة قد تكون لقبيلة أو
قبل األتراك لمئات السنين إذن كان حكم الغلبة ،من يستطيع ومن لديه القوة هو من يحكم ،حس ًنا ،لديك هذا اإلرث كيف وراعيًا ،أنت مواطن وفكرة الرعية هي نفسها فكرة قديمة ربما
نجدها باقية مترسخة حتى اليوم ،هذا ما يتعلق بتاريخك .إذن
تاريخك يؤدي إلى االستبداد ،انقساماتك التي تحدثنا عنها تؤدي إلى االستبداد ،ثم أنت بالفعل مستهدف من الخارج وليس في
ذلك ذرّة شك ،يكفي أن نذكر سايكس بيكو ،التي قسمت البالد
97
حوار
العربية وجزأتها ووزعتها بخطوط .جلس مستر سايكس ومستر
بيكو وتقاسموا األرض ،كانت البالد العربية بالدًا واحدة واليوم الوجود الصهيوني داخل البالد العربية يقول بالحرف الواحد بأننا
مقسمة ،وال يقف ال يمكن أن نعيش إال إذا ظلت البالد العربية ّ المقسم ،حتى العراق يجب أن األمر عند التقسيم ،بل تقسيم ّ
يصبح ثالث دول ،وسوريا خمس دول ،ومصر وغيرها ،لن يسلم أحدٌ من هذا األمر في ّ ظل هذه الظروف .اإلرث التاريخي والوضع
الداخلي نفسه المبني على الغلبة ال على الشرعية الديمقراطية، أن أنتخبك يعني أنّ بيني وبينك عقدً ا اجتماعيًّا ،نحن في األرض
العربية ليس لدينا عقد اجتماعي ُّ ينص على أنّ (أنا وأنت) سنعيش
في هذه الدولة مستندين ألسس محددة ،هناك دستور وقوانين وكذا وكذا ،هناك انتخابات وتعددية ،نحن نفتقر ّ لكل ذلك ،إذن
كل تلك األمور هي التي أدت إلى أن الدولة العربية تصبح دولة ضعيفة وفاسدة في داخلها ،مع األسف.
● في هذا السياق ،سياق ُّ تدخل الخارج في شأن المنطقة،
ماذا عن الثورات العربية ،الربيع العربي ،هناك من يرى أنها
تأتي في سياق صراع السيطرة ،وأنها نتاج تلك المقدمات التي صاغتها فكرة الفوضى الخالقة وفكرة صناعة جغرافيا مغايرة
98
للمنطقة ،سأذكر في سنة 2005م حين تحدثت كونداليزا رايس
عن الشرق األوسط الجديد ،وعندما فشل في أعوام قريبة (2012م)ً ، أيضا مدير االستخبارات الفرنسية ،قال في مؤتمر لاً بواشنطن :إن دو عربية مثل العراق وسوريا لن تستعيد حدودها السابقة ً أبدا؛ هل الربيع العربي في حقيقته هو نتاج مطالب أبناء المجتمعات العربية بشكل خالص ،أم هو
صنيعة؛ كي يصلوا إلى ما تحدثت عنه من تقسيمات؟ ■ أعتقد أنّ أكبر إهانة توجه للشعب العربي هو القول بأنه
َ حدث هو زخم تاريخي ألعوبة في أيادي كل من هب ودب ،ما
حقيقي في المجتمعات العربية التي ملت االستبداد والفساد والظلمّ ، ملت التوزيع المزعج للثروة المعنوية والمادية وال شك في ذلك أبدً ا ،لنأخذ مصر مثلاً ،المصريون ملوا من حكم كان فاسدً ا واستبداديًّا ،تونس ً ِس على ذلك ،لكن أيضا ،وق ْ أبهرت العالم، مع األسف الشديد ،فتلك الثورات الرائعة التي ِ
ما زالت لدى حزب النهضة في تونس محاوالت لتطوير الفكر السياسي اإلسالمي ،بحيث يتعايش أكثر مع العصر الحديث ،لكنه تطوير محدود، كثيرا فتونس بلد صغير ال يمكن أن يؤثر ً على المستوى العربي العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
وأعتبرها ً نوعا من الثورات التي لم يمارسها أحد قبل العرب،
اعتماد وسائل التواصل والزخم واإلصرار اليومي إلى أن يسقط
النظام ،مثلما حدث في تونس وفي مصر ،أسقط جهدها ثالثة أشياء؛ الشيء األول هو قلة خبرة من قاموا بهذه الثورات من
الشباب ،فلم تكنْ لديهم الخبرة الكافية في الحياة السياسية، والدليل على ذلك في مصر وغير مصر أنّ الشباب بعد سقوط
النظام لم يسعوا ألنْ يتضافروا ،ويكونوا أحزابًا وحركات جديدة ،بل انقسموا وتوجهوا يمي ًنا وشمالاً ،هذه إذن قلة الخبرة .الشيء الثاني ال شك أبدً ا في أنّ الخارج قد خاف مما يجري ،القول بأنه كان يرحب باألمر هذا غير صحيح ،كان هناك
خوف من أن تد ّمر تلك الثورات كل المصالح الموجودة للخارج
في الداخل ،وبالتالي ترك تدخالته هنا ،نوع التدخل يختلف ألنه يعتمد على هذه البالد وتلك ،هذه الجماعة والجماعة األخرى .والجانب الثالث هو أن هناك ثورات مضادة؛ بمعنى أنك اليوم تمتلك قوة كبيرة جدًّا كانت مترسخة ،عندها قدرات مالية وقدرات اقتصادية ،وقدرات عسكرية وأمنية استطاعت أن
تسترجع أنفاسها بعد الصدمة الجديدة في أول سنة ،وتلملم نفسها ،وتعود وتهجم مرة أخرى والنتيجة كما ترى...
لكنّ السؤال :هل انتهت؟ أنا في اعتقادي أن ما بدأ في
سنة 2011م سيستمر في االنفجار بين الحين واآلخر إلى أن
يصل إلى مرحلة معينة من االستقرار عبر عشرات السنين في المستقبل ،الذين يعتقدون أن المجتمع العربي مات وانتهى أمره ،ووصل إلى مرحلة ،ولن يعود مرة أخرى هم مخطئون
علي فخرو :البترول فرصة تاريخية كبيرة أضاعها الخليجيون
ج ًّدا ،تاريخ المجتمعات العربية تاريخ مليء بالحركات الثورية،
مليء بالمحاوالت سواء على مستوى االستقالل الوطني من
قبل ،أو بالنسبة للثورات على أشكال من الخالفات .الخلفاء، أمراء المؤمنين هنا وهناك ،والشعب العربي من أكثر الشعوب التي ضحّ ت بماليين من البشر في ثورات مختلفة ،يكفينا مثلاً الجزائر التي دفعت أكثر من مليون شخص ثم ًنا لحريّتها ،إذن هذا الشعب ليس من الشعوب غير المستعدة لتقديم نفسها
من أجل االستقالل ومن أجل الحريّة ومن أجل المبادئ التي يؤمن بها ،إنما نحن اآلن مثل كل الثورات تصعد وتنزل ،ثم تبدأ
في الصعود من جديد ،وال أشعر بالخوف من أن لها عودة في
المستقبل ،النقطة المهمة أنّ الدول الكبيرة هي القادرة على ج ّر القاطرة العربية ،دول صغيرة ليس لها حول وال قوة ،اليوم مثلاً بالرغم من النجاح الكبير الذي حققته تونس مقارنة باآلخرين
لكنها بوزنها الصغير جغرافيًّا وسياسيًّا لم تكن فاعلة في التغيير َ حدث في مصر ،لكان الوضع العام ،تصور لو أن هذا النجاح قد ً مختلفا تمامًا بسبب ثقل البلد ،فأنا أعتقد بأن العربي اليوم
من شك في ّأنه ال يريد لهذه األمة أن تتوحد ،يخاف من توحدها، ً وسابقا كنا نقول :إن اإلنجليز ويريد أن يبقيها ممزقة ،اآلن
والفرنسيين أساسً ا ال يريدون لهذه البالد أن تتوحد ،اليوم دخل
عنصر ثالث بالغ الخطورة وهو العنصر الصهيوني ،ولك أن تقرأ
الكثير من كتاباتهم وأقوالهم التي تشير إلى استعدادهم التام إلى نسف وتدمير أي عنصر قد يستشعرون منه خط ًرا ما ولو في
يفسر لنا ذلك كيف دمروا إمكانية المستقبل البعيد جدًّا ،وقد ّ ً سابقا بمجرد بدء التفكير فيها ،ودمروا القدرات الذرية في العراق
اتحاد مصر وسوريا وساعدتهم دول عربية في تدمير ذلك، ومنعوا أي نوع من االتحاد الجدّي ،ويدخلون دائمً ا في قضايا إذا ما ّ تعلق األمر بذلك ،إذن على المستوى الخارجي ال توجد
ذرة من الشك ،لكن السؤال الذي يجب أن أطرحه؛ أنا شخصيًّا ال يهمني ما يريده الخارج ،أو ما يفعله وليس في يدي أن أغيره أو أحركه ،ما في يدي هو الداخل ،هل نحن اآلن نبني حركة أو ً متماسكا متناغمً ا بعضه تيارًا على مستوى األرض العربية كلها
مع بعض ،يفكر ضمن إستراتيجية في حدها األدنى على األقل؟
القول استهزاءً بأن الربيع انقلب إلى خريف هذا كالم فارغ ،هذا
إستراتيجية مشتركة من أجل أن يقف ضد الخارج وتدخالته ،من
وبالتالي يعاني ،إنما هو ربيع وسيأتي وقته.
من الديمقراطية ومزيد من العدالة.
الربيع نفسه هو الربيع ،ولكن تعتريه عواصف وشح في المطر
ً مدفوعا ● هناك ما يشي بأن اآلخر الغربي دائمً ا ما يكون
ألن يقسم العالم لمصالحه؟ ■ ليس هناك ذرة من الشك في أن الخارج يلعب دورًا ،وما
أجل أن يقف ضد االستبداد الداخلي ،من أجل أن يدفع نحو مزيد هذا ما ال يحدث لألسف ،واللوم هنا علينا نحن الشعوب تمكنت من ّ العربية ،فأنت ال تستطيع أن تمنع الخارج إال إذا ّ حل
ً أنماطا ال حصر لها وال مشكلة ضعف الداخل ،طالما أن لديك ع ّد من الضعف الداخلي ،على سبيل المثال فلننظر إلى الصراع
99
حوار
الطائفي ،الطائفيون هم الذين يذهبون إلى الخارج ويستعينون به ،وهذا معروف فهناك حركات شيعية وسنية وليبرالية ً أيضا كلها تستعين بالخارج ،حتى أولئك الذين ينضمون لجماعاتهم
على أسس عرقية مثل األمازيغ واألكراد وغيرهما ،كلهم يتوجهون إلى االستعانة بالخارج ،لماذا؟ ألنك أنت ضعيف،
وبالتالي هم يتوجهون للخارج ويستفيدون من ذلك ،فالقضية األساسية هي أنك إن لم َت ِسر ضمن حركة ما يسمى بالكتلة
االقتصاد الخليجي ،فعندما تبني مصالح اقتصادية تقل المخاطر
وتعود إليها ،يعني جمال عبدالناصر حاول أن يبني تلك الكتلة
ألف مرة ألن له مصالح ،نحن أمام وضع مع األسف مرة أخرى لم
التاريخية إذا لم يكنْ هناك كتلة تاريخية حقيقية تنطلق منها
التاريخية ،حزب البعث حاول أن يبني تلك الكتلة التاريخية
لكنهم لم يعرفوا كيف يبنونها ،وبالتالي كيف تستمر ،ما يجب االلتفات إليه اآلن في األرض العربية هو :هل نستطيع أن نبني
كتلة تاريخية تخرجنا من هذا الجحيم الذي نعيشه أم ال؟ هذه قضية ال أنا وال أنت نستطيع أن نجيب عليها ،مَنْ سيجيب عليها
هم من فجروا تلك الثورات منذ خمس سنوات ،ثم غلبوا على أمرهم ،هل يستطيعون العودة من جديد لتفجير ثورات جديدة وحركات جديدة؟
100
من المفترض أن تتحد دول الخليج؛ إذا كانت تريد أن تكون عالقتها أخوية لكن ندية مع إيران ّ
إيران والخليج
َ تحدثت فيه عن خطر إسرائيل ...اآلن ● في سياق سابق
في منطقة الخليج العربي هناك إيران في قبالة دول الخليج والمنطقة ،ومن خاللها برزت عناوين كثيرة مثل :صراع السيطرة على مفاصل حيوية في المنطقة كمضيق هرمز ،والحرب من
أجل استعادة الشرعية في اليمن ،كيف تقرأ ما يحدث اآلن؟ وهل بإمكان الصراع أن ينتج شي ًئا إيجابيًّا في مستقبل المنطقة؟ ■ أولاً أنا أعتقد أن مشكلتنا في الخليج هي أننا ال نضع إستراتيجيات طويلة المدى بالنسبة إلى موضوعات مثل :عالقة
السياسية ،فتفكر إيران ألف مرة ألن لها مصالح ،والخليج يفكر نبن حوارًا مع نعرف كيف نتص ّرف إزاءه ،ما أريد قوله هو أننا لم ِ إيران ،ولم ُندخلها في الحياة االقتصادية ،وليست لدينا محاولة
لحل اإلشكالية الفقهية التي تقسمنا ،وإيران تقف بفهمها البليد للقضية اإلسالمية ،ونحن كذلك ال نوفر جهدً ا في بالدة الفهم.
لنكن صريحين مع أنفسنا ،ماذا يعني إن كان الحق ألبي بكر
أم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما؟ وقد كانت القضية في
حينها ،وذلك ال يعني أن أبقى مجت ًّرا لهذه القضية بعد 1500سنة، لكننا بكل أسف ما زلنا على اجترارنا لها ،لماذا نسمح للتاريخ بأن
يحكم الحاضر؟ األمة البليدة وحدها هي التي تفعل ذلك ،علينا أن ّ ونتعلم منه ال أن نتركه يحكم حاضرنا ،وهذا ما نستفيد من التاريخ
يجري اآلن في إيران وفي أوطاننا ،نحتاج إلى عقالء يخرجون األمّة من هذه الدوامة ّ بكل بالدتها وتخبطها ،ال ب ّد لنا من الوصول إلى حالة ننظر فيها إلى ذكرى مأساة الحسين بوصفها بطوليّة وليست بكائية ،هذا الرجل الذي وقف من أجل مبادئه رجلاً ومات رجلاً ، ُ كتبت دون أن نختزل القصة في شربة ماء وحالة عطش .سبق أن
كثي ًرا في التاريخ وكيف صار يحكمنا ،نحن يجب أن نخرج من هذه الدائرةُ ، ونخرج القرآن من قبضة التاريخ ،وننأى عن تفسير اآليات بمزاجيّة ومذهبيّة ،دون أن نصنف مقاصد الله بحسب ما يخدم
أهواءنا ،وكأننا نريد أن نمسك رقبة القرآن بالتاريخ ،ال ب ّد لنا من
الدول العربية في الخليج بإيران ،والفكر اإلستراتيجي يقول ما َ يلي :إيران هي نصف الخليج؛ ّ الخليج ،اقتصادًا ال ضعفا سك ًانا ِ تقل عن دول الخليج ،لديها البترول ،بل أكثر فلديها إلى جانب
تطهير التاريخ ،تطهير الذاكرة الجمعيّة المملوءة باألمراض وهذه ّ والحكام ،ال سيّما مسؤوليتنا كلنا ،مسؤولية المفكرين والفقهاء
الجغرافي ،في الطرف اآلخر هناك واقع تاريخي ،قضية اإلسالم
هي التي تكتب التاريخ.
البترول الزراعة والصناعة وعندها كل شيء ،هذا هو الواقع
وعالقة إيران باإلسالم ،هي دولة إسالمية بغض النظر عن قصة المذهب ،فهذه ليست قضية كبرى .أرى أنه كان من المفترض
من دول الخليج أن تتحد؛ إذا كانت تريد أن تكون عالقتها أخوية لكن نديّة مع إيران .وكثي ًرا ما كتبت وقلت :إنه ليس فقط اتحاد
الدول الست بل معهم العراق واليمن ،عند ذاك أنت تبني دولة ً وكيانا مساويًا إليران ،ليس من أجل أن تضاد إيران مساوية
وتضعفها ،إنما من أجل أن تقول إليران نحن متساوون ،نحن أخوَان متساويان ،فال تعتدوا علينا وال نعتدي عليكم ،هذا جانب والجانب اآلخر في اعتقادي كان يجب أن تدمج إيران في العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
فقهاء السالطين ومن كتبوا التاريخ تزوي ًرا ،بالنهاية ولألسف القوّة الثقافة العربية عامرة بمحاوالت الكثير من المفكرين
العرب الذين كتبوا أشياء كثيرة جدًّا عن تغيير هذه الثقافة وعن تطهيرها ،اإلشكالية ليست هنا ،بل في أن كلها محاوالت
فرديّة ،والمحاوالت الفردية ال تصل إلى نتيجة ،نعود بحديثنا إلى اإلصالح الديني؛ مثلاً عندما بدأ محمد عبده بمحاولة
اإلصالح آنذاك بدأ يتكون تيار لكنه مع األسف لم يتمأسس، أناس محمد عبده في جهة ،واألفغاني في جهة ،ويأتي بعدهم ٌ
آخرون وهكذا ،المذهب الشيعي اليوم يشهد محاوالت حقيقية في إيران بالذات ،وفي لبنان ً أيضا نجد محاوالت حقيقية إلجراء
علي فخرو :البترول فرصة تاريخية كبيرة أضاعها الخليجيون
إصالح في المذهب الشيعي نفسه ،وكلنا يعرف أن قصة والية الفقيه مختلف عليها ،والتاريخ الفقهي مختلف عليه ،كما في
فيها جوانب سلوكية متخلفة ما زالت حتى اآلن سلوكيات قبلية بدائية ،مثلاً :ما زال هناك تخوّف من استعمال اليد ،العربي
المدارس السنية تمامً ا إنما دائمً ا على مستوى الفرد ،وهذا ال َ َ نحظ لتخلق تيارًا ،وهذا ما لم يكفي أنت تحتاج إلى مؤسسات
يأنف من االشتغال بيده ،انظر ً أيضا إلى جانب الكرم المبالغ فيه، والمظهرية ،أَ ُض ُّر بعائلتي وبوضعي ألبدو بمظهر الكريم وهذا
الثورة فما قاله فولتير وما قاله مونتسكيو وغيرهما انتهى في
أعضائها ال ينظرون لمن انتخبهم ،بل من يستطيع إعطاءهم
به مع األسف ،لو عدنا إلى الغرب لوجدنا تقاطع الفكر مع
ثورة ،الثورة الفرنسيّة التي اعتمدت على ذلك الفكر لتبني نفسها وبعدها مؤسسات ودساتير وبرلمان ،نحن لم نتبنَّ فك ًرا ونبني
عليه الثورة ،وهنا االختالف.
● تحدثت عن فشل كثير من الخطابات ،ومنها الخطاب
الديني والخطاب اليساري وغيرهما ،التي بشكل أو بآخر أسهمت في فشل الخطاب العربي الجامع ،لكن أال ترى أن الخطاب القومي ً أيضا كان من بينهم ،وربما كان أكثر الخطابات فشلاً في أطروحاته الحالمة؟ ■ منذ ما يقارب 30سنة كانت هناك صيغة للحوار القومي
اإلسالمي عبر المؤتمر الذي حمل اسم الفريقين؛ الحوار
القومي اإلسالمي ،الذي كان محاولة للتقارب والوقوف على نقاط االختالف والخالف وحقيقة الصراع القائم خالل حقبة
غير حقيقي .األمر ذاته في البرلمانات ،فهي غير فاعلة ،معظم االمتيازات .ال يقتصر األمر فقط على النفط ،تلك االمتيازات كانت
في برلمان سوريا وفي برلمان مصر ،من يعطيك االمتيازات هي الدولة ،التي تمسك بالمجتمع من رقبته ،بل أكثر من ذلك هي
ما أعبّر عنه بأن الدولة العربية الحديثة ابتلعت مجتمعاتها في جوفها ،أصبحت المجتمعات في جوف الدولة بدلاً من أن تكون
هي وسلطة الدولة.
هي ليست حديثة ،حديثة بمعنى االستقالل ،الحداثة نحن لم
نصل إليها بعد ،ومشكلة الحداثة هي مشكلة أخرى ،فحين تتحدث مع من يدعون إلى الحداثة ويريدونها ،تج ْد أنّ الحداثة بالنسبة لهم
هي الحداثة الغربية ،في حين أنها حداثة للغرب ،أنت يجب أن تبني حداثتك ،انظر مثلاً إلى الصين أو اليابان فهم يبنون حداثتهم، لديهم أشياء مختلفة عن الغرب ،هذا ال ينطبق علينا مع األسف
بالسلفي الذي يعتقد أن الحداثة هي الشديد ،فقد ابتلينا بشيئينّ ،
الخمسينيات والستينيات ،تبيّن أنّ %80من ال ِفكرين القومي واإلسالمي هي أفكار واحدة ال خالف عليها ،بقيت %20التي علينا
أن يغربونا بالقضاء على ذاتنا ،على إبداعنا ،يدفعون بنا لبناء ما ال
ذلك على السطح بعد أن حكم اإلسالم السياسي بعض البالد
فاإلسالم هو جزء ال يتجزأ من ثقافتنا وال يمكن القفز فوقه ألن
أن نطرحها على طاولة الحوار وما يمكن أن نفعله تجاهها ،طفح العربية ،وأقولها بصراحة :إن االنتهازية تبدت ،فبعض الذين
كانوا في المؤتمر القومي اإلسالمي وأكدوا على ضرورة التفاهم، تغير فكرهم تمامً ا بعد ُّ تسلم الحكم في مصر. ● هل هي أزمة ثقة؟ ُ ■ أزمة ثقة وأزمة استعجال .لنكنْ واقعيين ،الثقافة العربية
ما فعله اآلباء واألجداد ،السلف الصالح ،وبأولئك الذين يريدون يصلح لنا ،المطلوب هو حداثة عربية ،تأخذ من الثقافة اإلسالمية،
الماليين من العرب يؤمنون بذلك ،علينا أن نأخذ أفضل ما في الدين اإلسالمي ،خذ مثلاً فكرة العدالة؛ الدين اإلسالمي يسمي نفسه دين الحق والقسط والميزان هو قائم على ذلك ،خذ بهذه الفكرة وأدخلها بقوة وبشدة في ثقافتك السياسية .فهذا هو إرثنا
الحقيقي ،وليس استنادًا إلى ما قاله هوبز وفالن ،لدينا األسس
101
حوار
الحقيقية في قلب الدين اإلسالمي ،أنت هنا ال تنسب نفسك إلى َ وأنت المتدينين ،لكنّ دينك يعرض عليك فك ًرا مستني ًرا مفهومًا
ترفضه وتستعين بالفيلسوف الفالني ،ال يعني ذلك أال نستعين
بهم ،لكن لديّ ما يوازيه أو يفوقه فلمَ ال أعتمده أساسً ا ،ويكون
سواه مجرد عامل مساعد.
● فكرة أن الغربي كافر معضلة أنتجها خطاب ديني بائس... ■ فعلاً ...فالقضية معقدة كثي ًرا ،والوضع العربي كلما
أمعن اإلنسان فيه كلما أدرك أن الترقيعات لن تحل إشكاالته،
األمر يحتاج إلى أكثر من ترقيع. ● لبناء الدولة؟
■ نعم لبناء الدولة ،وهذه قضية كبرى ،األقليات التي تحكم لن تستطيع أن تفعل شي ًئا حتى لو أرادت ،أتاتورك في تركيا أراد
َ لديك مجتمع ،المجتمع نفسه هو وجماعته لكنّ هذا ال يكفي، يجب أن يتغير ،المجتمع التركي بدأ ينظر إلى نفسه ويقول
لديّ إرث إسالمي ال أستطيع التخلي عنه ،لك ّني ً أيضا أريد اإلرث
الحداثي الجديد ،وأريد أن أمزجَ بينهما ،لن تكون العملية سهلة فتطهير الماضي يأتي أولاً عن طريق منجزات الفكر الحديث
ومناهج الفكر الحديث ،المنهجية في تطهير الماضي وفي قراءة
التاريخ وفي قراءة الدين ،القضية معقدة جدًّا ،لذلك عليك أن تقرأ المحاوالت اإلصالحية ،نحن مثلاً في مركز دراسات الوحدة
العربية أوجدنا المشروع النهضوي القائم على ست نقاط ،حتى اآلن وبالرغم من غناه لكنه لم يبنَ على أسس فلسفية معرفية
بالغة العمق ،فيه نوع من التمنيات ،ينقصه التحليل القوي
الفلسفي الفكري العميق ،وهذا أم ٌر يحتاج إلى مفكرين ال أدري إن َ كنت على علم بهذا المشروع النهضوي المطروح ،لكنه ربما
أفضل ما توصلنا إليه ،هو محاولة لتحسين الفكر القومي.
● هل النخب الحاكمة على استعداد بأن تلقي نظرة...؟ ■ ال أبدًا ،ال تلقي نظرة فقصة الفجوة بين الحكم وبين الفكر
في األرض العربية كبيرة جدًّا.
الحاجة إلى فكر سياسي جديد في الخليج 102
● بعد نحو 8عقود على ظهور النفط في منطقة الخليج ،وعقب تحوالت حادة شهدتها المنطقة نفسها ،هل يمكن أن نتساءل اليوم عن انعكاس النفط على الخليج ثقافيًّا واجتماعيًّا ،لماذا بقي حضوره في األدب خجولاً ،هل أفاد الخليجيون من النفط في تشييد مدن ومؤسسات ثقافية مؤثرة في الوعي والوجدان والمجتمع وليس مجرد تشييد ً تحديدا ،من مبان ،ما الذي جعل النفط ينحصر فقط في بعده االقتصادي ،هل لذلك عالقة بالموقف العربي ،اليساري ٍ
النفط والبترودوالر ،رغم أنه ثروة طبيعية ال عالقة لها باأليديولوجيا ،كما يرى بعض الخليجيين؟
■ الخليج أضاع وما زال يضيع فرصة تاريخية كبرى وهي فرصة البترول ،فهو ال يستعمل البترول لبناء اقتصاد إنتاجي
نبن تنمية معرفي حقيقي ،بالغ القدرة على االستمرار في المستقبل ،بنينا نعم ،بنينا البنايات وأنشأنا المدارس ،لكننا لم ِ
شاملة مستمرة على المدى البعيد ،لذلك إن انتهى البترول في يوم ما فهذه المنطقة ستعاني كثيرًا .كثيرًا ما أشبه ذلك ّ فانصب الناس عليها ،بنيت فيها البيوت وصار فيها بما حدث في الغرب األميركي ،فبعض المناطق اك ُتشف فيها الذهب بهجة الحياة ،وشرب وأكل وإلى آخره من األمور الحياتية ،لكن ما إنْ انتهى ونضب حتى اختفت وأصبحت اآلن مدن ينعق
فيها الغراب واألشباح .أنت مهيأ لذلك في الخليج إذا لم تفتح عينيك بأسرع ما يمكن ،اآلن بعد أن بدأت أسعار البترول في
مصدر آخر ،وهذا ليس باألمر الهيّن ،دول تعتمد في %90من ميزانيتها على االنخفاض بدؤوا يفكرون في ضرورة البحث عن ٍ البترول ،وهذا يعني أنها إن نضبت فلن يكون بين يديك ما يفي مقدار رواتب الموظفين والعمّ ال ،وال ّ شك بأن دخل البترول
اآلن ما عاد كافيًا ألبسط األمور ،هذا جانب ،الجانب اآلخر؛ ما الذي يؤخر وحدة الخليج؟ كلها دويالت صغيرة تتحدث عن
التهديد األمني ،ما الذي يمنع قيام وحدة فيدرالية؟ لسنا نطالب باندماج تام ،استغرقنا 30سنة لتوحيد التعريفة الجمركية، واحدا فقط ،م ّر عشر سنوات ونحن نتحدث عن توحيد العملة النقدية ،وما زال األمر ّ ً معل ًقا، في حين هو أمر ال يستغرق عامً ا ال ّ بد لنا من التفكير الجاد في أن كلاًّ منا مجرد جزء وما سيبقى بالنهاية هو محيطك العربي ومحيطك اإلسالمي ،في حين
وبكل أسف ما يجري اآلن هو أن كل دولة في الخليج ترتبط بأخرى أجنبية لتحميها ،الشيء اآلخر هو أن الحكم كان قبليًّا، ويجب أن تنقله اآلن من النظام القبلي إلى النظام الديمقراطي ،أنت ّ تعلم الناس في المدارس والجامعات وتخرجهم ،ثم ً إطالقا ،نحن بحاجة ً أيضا إلى فكر سياسي جديد داخل الخليج ،يرى أن هناك شراكة تتعامل معهم كرعية ،هذا غير منطقي
حقيقية بين الحكم وبين المجتمع ،ليس هناك من يطالب بزوال الحكم ،لكن الجميع يطالب بإصالح الحكم.
العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
علي فخرو :البترول فرصة تاريخية كبيرة أضاعها الخليجيون
ﻣﺘﻮاﻓﺮة ﻓﻲ ﻣﺠﻠﺪ واﺣﺪ ﻟﻌﺎم
2016م 103
أﻛﺜﺮ ﻣﻦ 700ﻣﺎدة ﺛﻘﺎﻓﻴﺔ. ﻣﻘﺎﻻت وﺣﻮارات ﻣﻊ ﻛﺒﺎر اﻷدﺑﺎء واﻟﻤﺜﻘﻔﻴﻦ اﻟﺴﻌﻮدﻳﻴﻦ واﻟﻌﺮب. إﺿـﺎﻓـﺔ إﻟـﻰ ﻣـﻮاد وﻗـﺮاءات ﻓـﻲ اﻟـﻔـﻨﻮن ،وﺗﺮﺟﻤﺎت ﻣﻦ اﻟﺜﻘﺎﻓﺎت اﻟﻌﺎﻟﻤﻴﺔ. ﻣﻊ ﺧﻤﺴﺔ إﺻﺪارات ﻟ ـ )@alfaisalmag
( ﻟﻌﺎم 2016م ،ﻓﻲ ﻋﻠﺒﺔ ورﻗﻴﺔ. alfaisalmag
alfaisalmag.com
(+966 11) 4647851 :¢ùcÉa ,(+966 11) 4653027 :∞JÉ¡H ∫É°üJ’G áYƒªéª`dG ≈∏Y ∫ƒ`°üë∏d
مقال
آمال قرامي أكاديمية وباحثة تونسية
كرنفال داعشي تداولت وسائل اإلعالم العربية والغربية منذ 2016م،
خبر فرار أعداد كبيرة من مقاتلي «تنظيم داعش» من
المعركة ،وهو أمر يتعارض مع «السردية» التي سعى
التنظيم إلى الترويج لها منذ سنوات .فقد صوّرت
سنوات ،بل كان همّ هم األكبر النجاة حتى إن اقتضى األمر ِّ تغيير الهيئة والظهور في هيئة النسوان .وبعد أن أرسى منظرو
«تنظيم داعش» قواعد العيش في دولة الخالفة فحدّ دوا
«األدبيات الجهادية» الرجال التابعين لـ«تنظيم داعش» على ّأنهم األقدر على الفتك بـ«الطواغيت» واألكثر رغبة في
أشكال حضور النساء في الفضاء الخارجي ،ومعامالتهن مع الرجال ،وتشدّ دوا مع ّ كل من خالفت األوامر ها هي فئة من
بسير الصحابة والتابعين والغزاة والمناضلين بدءً ا بعمر بن الخطاب وصولاً إلى عمر المختار .ولم ّ تتوقف صناعة
السالمة تقتضي إتقان األدوار النسائية .وال حرج في ذلك ما
طلب الشهادة .وأشاد علماؤهم باقتداء الشبّان المقاتلين
104
لم يكترث الفارّون من المعارك بما قالوه أو فعلوه طيلة
األبطال وتشكيل المتخيّل «الجهادي» عند هذا الح ّد إذ ّ تكفل الجهاز اإلعالمي للتنظيم بصناعة األفالم الوثائقية واألناشيد «الجهادية» التي ُت َخ ِّلد ذِكر األسود ،وترسم
مالمح الرجولة «المتوحّ شة والمُرعبة» صاحبة اإلرادة التي
ال تعرف القهر والعزيمة الجبارة الكبرى تلك التي «تم ّزق الطاغوت والكفر» وال تهاب الموت.
ولكنّ األخبار والفيديوهات المتداولة بشأن «الدواعش
الفارّين» أقامت الدليل على زيف الخطاب الذي روّج له
التنظيم وتهافته .فالذين عبّروا عن «شوقهم إلى الجهاد»
ّ التنكر في أزياء نسائية مب ّررها في ذلك أنّ الفارّين ُتقبل على أَضمنَ طريق ٍة إلنقاذ الحياة هي في التزيِّي بزيّ النسوان ،وأنّ دامت الغاية تب ّرر الوسيلة. تعدد هيئات النساء
غير أنّ الالفت لالنتباه في «كرنفال الهروب» نوع أقنعة ّ التنكر «التي اختارها عدد من الرجال الذين وعدوا ّ بأنهم
«سيبقون ثابتين» وردّدوا طويلاً «حب الموت بالع ّز مرام». ّ فباالطالع على عدد من الصور والفيديوهات ننتبه إلى أنّ
الفارّين قد أق ّروا بتعدّ د هيئات النساء ،وميلهم إلى تنويع
أزيائهم بالرغم من حرص رجال الخالفة الشديد على فرض
ورغبتهم في «المنيّة» ،وبكوا وَجْ دًا وتاقوا إلى يوم يالقون فيه حور العين سرعان ما ّ ولوا أعقابهم ،وفروّا من المواجهة مُتجاهلين ّ كل الموروث الذي تجمّع حول
الملوَّن ،وذاك يبرز في الزي الباكستاني ،وهذا يلبس المالبس
ّ المترتبة عن وسلوكهم ....بل ّإنهم لم يكترثوا بالنتائج ّ ولعل أش ّد عقوبة يواجهها الفرار قانونيًّا واجتماعيًّا ورمزيًّا.
مكتنزة فيستعين بما ّ وفرته السلع الصينية من بضائع تفي ّ ّ بالغرض .والجدير بالذكر أنّ يتوقف عند التدقيق التنكر لم
تضمّنت كتب الغزوات والحروب أخبارًا تصف أشكال ّ وممثلي الرجولة استهزاء النساء بأشباه الرجال والجبناء
الذين أدَّبوا النساء على التشبّه بالمشركات والتغريبيات.
(فيديو هروب الدواعش بمالبس النساء في الموصل ،بتاريخ
الفارّين وتصوّر أساليب التعيير التي تعتمدها النساء لتأديب
وبودرة الخدين وتغيير أشكال الحواجب ...ضاعت معالم
الفروسية وأحكام الجهاد وصفات الجنود وأخالقهم
المنهزمون تلك التي ّ تسلطها النسوان على الرجال .فقد
ّ الهشة ،وحوت كتب األدب قصائد الهجاء التي ُتدين
من تج ّرد عن صفات الرجولة وارتمى في أحضان األنوثة.
العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
الهيئة المنمّ طة واللون األسود الموحّ د على جميع النساء. منهزم ِّ النقاب والعباءة ،وذاك يُؤثِر الثوب يفضل فهذا َ ِ
الداخلية فيضع الصدرية ،واآلخر يريد أن تكون له عجيزة
في اختيار األزياء بل عثرنا على رجال يتقنون التب ّرج وهم
22أكتوبر 2016م) .وبين المالبس «الخليعة» وأحمر الشفاه
الرجولة «الكاملة».
فتتمثل في ّ ّ تنكر أحد الفارّين أمّ ا أطرف قصص الفرار في هيئة عروس ّ تزف في ثوبها األبيض ،وتسدل الستار
على وجهها ّ تعف ًفا وحياءً ،وتحمل باقة الورد (فيديو لحظة
القبض على أحد الدواعش وهو متنكر بزي عروس ،بتاريخ 14
يونيو 2016م) ،وكأنّ بالفا ّر يشير إلى ما ترسّ خ من تمثالت في ِّ المتنكر لم تكتمل إذ سرعان المتخيّل الجمعي .ولكنّ فرحة ما «وقع» في يد الجيش العراقي ،فاس ُتقبل بالسخرية ّ ِّسا بتهمة والفكاهة والتندّ ر والتهكم بعد القبض عليه متلب ً التشبّه بالنسوان ،هذا فضلاً عن التهم الرئيسية كالذبح والتحريق ...وهكذا ّ تولى الجنود العراقيون وغيرهم من
المشاهدين تأديب من ضحّ وا بمبادئ الذكورة المهيمنة في سبيل حفظ ّ حق الحياة (نعثر على تعليقات كثيرة في هذا الصدد في فيديو ب ّ ُث بتاريخ 25مايو 2016م).
ولمّ ا كانت حفالت الكرنفال في الساحات العامة قائمة
على طقوس وشعائر هزلية ،فقد رضخ الفارّون لقوانين
الجنود فحُ لق الشعر الطويل أمام أعين المارّين بطريقة عنيفة ُتذ ِّكر بتضحيات سابقة .فقد ّ تخلص أغلب رجال «التنظيم» من الشوارب واللحى التي طالما اعتنوا بها تهذيبًا وتخضيبًا،
وكذا فعل بعضهم بالشعر الذي كثي ًرا ما تباهى به «أبطال
الخالفة» .وإذا اعتبرنا أنّ الكرنفال هو فعل تح ّرر من القيود ّ التشفي من الذي وانبعاث مخبر بوالدة جديدة ،فإنّ طقوس خان مقتضيات الرجولة تهدف إلى إهانته وإذالله .وما دام التصوّر الكرنفالي يجيز استعمال الكالم البذيء وقاموس الفحش فال مشاحة من توجيه الكالم النابي إلى الفارّين
وتأنيث أسمائهم (من داعشي إلى داعوشة) ومناداتهم بأسماء ً إمعانا في إذاللهم .وليس أشدّ على الرجل تطلق على النساء الذي أبدى كرهً ا للنساء واحتقارًا لألنوثة من أن يتموقع بعد إلقاء القبض عليه في مكانة المرأة التي تنسب لها الثقافة
مجموعة من الصفات السلبية كالجبن والضعف ...وتعكس ّ المتنكرين مدى انتشاء األغاني التي انتشرت بشأن هؤالء
القوم باالستهزاء والسخرية الالذعة من أشباه الرجال.
فهؤالء «أسود الخرافة الداعشية جبناء يهربون من الشهادة بمالبس نسائية» وعندما يمسك الجنود بهم ّ فإنهم يكونون
في «مالبس نعجة تركض وراءها الطليان»( ،فيديو الدواعش: أغنية «العب بيها يا بوجحيشة» ،بتاريخ 25يونيو 2016م). ولئن ادّعى المنتمون إلى تنظيم داعش ّأنهم يعملون
بالكتاب والس ّنة ويطبقون الشريعة بصرامةّ ، وأنهم خير ّ ممثلين لإلسالم والرجولة الكاملة ،فإنّ تصرفاتهم زمن ّ التحقق من الخطر الداهم تكشف النقاب عن أشكال
كرها أشد على الرجل الذي أبدى ليس ً ّ
واحتقارا لألنوثة من أن يتموقع للنساء ً بعد إلقاء القبض عليه في مكانة المرأة التي تنسب لها الثقافة مجموعة من الصفات السلبية كالجبن والضعف
التص ّرف في المرجعيّة وفق السياق .فقد أدّب فقهاء
التنظيم من تشبَّه بالنساء مستندين في ذلك إلى حديث
رواه ابن عباس -رضي الله عنهما -قال :لعن رسول الله
صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء،
والمتشبهات من النساء بالرجال( .صحيح البخاري) .ثمّ إنّ
المسؤولين عن الحسبة عاقبوا ّ كل من حلق لحيته وشاربه
ولم ّ يقصر مالبسه ،ولك ّنهم اليوم يتجاهلون حكم النهي أو ّ وكل الحجج التي قدّ موها. التحريم هيمنة التمثالت االجتماعية
تنمّ «حفالت» تأديب الرجل -المقاتل الذي تقمَّ ص
شخصية المرأة عن هيمنة التمثالت االجتماعية الخاصة
باألنوثة -الذكورة واستمرار المجتمعات المحافظة والتقليدية
في تبخيس األنوثة في مقابل إشادتها بالرجولة المهيمنة. ّ وليس العنف اللفظي والمادي المسلط على المتنكرين في زيّ النسوان إلاَّ عالمة دالة على أنّ المجتمع ال يرحم من
تعدّ ى الحدود الجندرية (المتعارف عليها بين الجنسين) ،فال
يمكن بأي حال من األحوال أن يضحّ ي الرجل بشرف الذكورة ّ بالتخلي عن امتيازات الرجولة .إنّ وتعاليها ،وأن يقبل
الموت أهون بكثير من التماهي مع النسوان :ناقصات العقل والدين ،وحبائل الشيطان وصاحبات الكيد.
وبالرغم من إيمان المجتمع الذكوري بهذه التصوّرات
فإنّ للحظة الحاسمة قوانينها .فعندما يمتلك الرعب
قلب المقاتل يرتدّ إلى حضن أمّ ه ،فيتماهى مع األنوثة زيًّا ومشاعر ،وهي مشاعر تتجاوز الحدود الجندرية الصارمة
التي تمنع الرجل من إبداء الخوف والخور واالنكسار وتقيّده تجب ما بمجموعة من القيود واألدوار ...إنّ لحظة االنكسار ّ سبق ...تقفز على المعايير والقيم والنظام ،وتؤ ّكد بما ال يدع مجالاً ّ للشك على أنّ الرجولة رجوالت وهي مسار من
االختبارات ولها صوالت وجوالت.
105
تحقيقات
االستشراق الجديد.. جنون هوياتي أم تكريس لكراهية العرب؟ خاص
106
كشف الغزو األميركي للعراق عام 2001م عن الدور البارز الذي لعبه االستشراق الجديد في تشكيل مخيلة الغرب نحو المنطقة العربية ،فعبر عدد من مراكز األبحاث وأقسام الجامعات ووسائل اإلعالم َّ صدق العالم أن العراق مقبل على إبادة البشرية .يومها وقف وزير الخارجية األميركي كولن باول يستعرض أمام مجلس األمن علبة صفيح قديمة بوصفها دليلاً على مدى تطور البرنامج النووي العراقي ،مطالبًا بتشكيل تحالف دولي النتزاع قوى الشر من مكمنها .هكذا صنعت أفكار برنارد لويس وصمويل هنتنغتون وجيوش من صحفيين وباحثين عاملين في مضمار ما يعرف باالستشراق الجديد رأ ًيا عامًّ ا بار َ َك احتالل العراق، فضلاً عن إلقاء آالف األطنان من المتفجرات على رؤوس أطفاله وشيوخه.
العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
االستشراق الجديد ..جنون هوياتي أم تكريس لكراهية العرب؟
سهَّلت القنوات الفضائية والشبكة العنكبوتية ومواقع
التواصل االجتماعي وأدوات االتصال الحديثة للمستشرقين الجدد عملهم في إنتاج مزيد من التصورات الخاطئة عن اإلسالم ومنطقة العالم العربي ،بدءً ا من أن انعدام
الديمقراطية في الشرق هو الذي أدى إلى خروج اإلسالميين
من بلدانهم لتهديد المجتمعات الغربية ،مرورًا بأن الحل يكمن في إحالل الديمقراطية األميركية ووصول اإلسالم
محمد عمري: صعود اليمين المتطرف والخطاب المعادي للهجرة ،دليل على قوة الفكر االستشراقي الجديد وفعله في صنع الرأي العام والقرار
ْ أطلت برأسها سعيد؟ ما غايات هذا االستشراق وأهدافه التي
ظهر في الخطاب الذي أوصل دونالد ترمب للرئاسة .وإلى
السياسي إلى سدة الحكم؛ كي ال تتكرر مأساة تفجير بُرجَ ِي التجارة العالمي من جديد ..هذه األفكار روَّجت إلعادة تقسيم
المنطقة العربية على أسس طائفية وعرقية ،وعجَّ لت بخلق جماعات تؤكد وجهة نظر الغرب في اإلسالم.
لكن السؤال :ما مالمح االستشراق الجديد؟ ما الذي ِّ المفكر الراحل إدوارد يختلف به عن االستشراق الذي فنده
مع احتالل العراق في مطلع األلفية الثالثة؟ أسئلة تطرحها
حد مهم دعم مصير الثورات العربية فكرة االستثناء العربي
يقول الباحث العراقي فاضل الربيعي في كتابه «ما بعد
كان يحملها قبل 2011م .ولذلك تواصلت الدعوات إلى الحلول األمنية والتدخل العسكري ومساندة «الحكام األقوياء» بدلاً
صياغة وعي الجمهور العام وآرائه ومواقفه ،كما كشف عن
في الغرب فلعل صعود اليمين المتطرف والخطاب المعادي
«الفيصل» على عدد من الباحثين والكتاب.
االستشراق» :إن غزو العراق كشف عن الدور المتنامي لمراكز
البحوث والجامعات ووسائل اإلعالم الغربية واألميركية في الدور المذهل الذي لعبه االستشراق الجديد في تكريس صورة نمطية ال سابق لها ،وهي جميعها ،كما يذكر الربيعي،
عناصر أساسية ساهمت في شيطنة مجتمعات بأكملها،
من بينها العراق الذي كان قبل غزوه طوال سنوات الحصار ً موضوعا أثي ًرا لدى جيل جديد من المستشرقين. الجائر ً موضوعا دراسيًّا ويرى الربيعي أن على العرب الذين أصبحوا ً ً دقيقا لذلك الكم الهائل تعريفا لالستشراق الجديد أن يقدموا
وعدم قدرة المنطقة على استيعاب الديمقراطية لدى من
من تدعيم الديمقراطية والمراهنة على القوى المعارضة .أما للهجرة ،وبخاصة في البلدان اإلسالمية ،دليل على قوة الفكر
االستشراقي الجديد وفعله في صنع الرأي العام والقرار.
أكاديمي تونسي أستاذ األدب المقارن بجامعة أكسفورد.
عبد الله الوهيبي :من االستشراق إلى التسطيح
«االستشراق الجديد» -وهو مصطلح ال يخلو من غموض؛
من الكتب والمقاالت والدراسات التي اهتمت بالعالم العربي
لقلة تداوله ولضبابية حدوده -تحوَّل تدريجيًّا لحالة سيول ٍة وتذ ٍّر ت .ففي الحقبة االستشراقية التي امتدت قرابة القرنين وتف ُّت ٍ
القديم الكالسيكي من مواد شبيهة مماثلة.
المشرق يتمحور في اإلنتاج في اللغويات والرحالت ،ثم تطور
السياسي والثقافي ،ورؤية طبيعة صلتها بما أنتجه االستشراق
محمد عمري :لماذا يكرهوننا؟
حتى أواخر القرن المنصرم كان اإلنتاج المعرفي الغربي تجاه
لدراسات أنثروبولوجية وسسيولوجية واقتصاد سياسي وغيرها
من المنهجيات ،وكان ذلك في العموم يصدر عن األكاديميات
ال أعتقد أن االستشراق الجديد موحّ د أو أنه استطاع إنتاج
الغربية بالدرجة األولى ،ومن المراكز العلمية والبحثية
الجديد بمعنى الخبرة األكاديمية في خدمة القرار السياسي
لشبكات االتصال الحديثة ابتداء من ذيوع القنوات ،ثم اإلنترنت،
المصالح في منطقة متقلبة .كما تواصل التركيز على ما
جديدة تسطيحية وكليشيهات ساذجة يصرح بها «خبير» في ّ «معلق» يعمل في مركز راند أو ما شابه، الجماعات اإلسالمية أو
معرفة جديدة حول المنطقة بعد 2011م .وإذا أخذنا االستشراق
الغربي ،فأغلب المجهود اتجه نحو كيفية المحافظة على
يسمى بالحرب على اإلرهاب ومحاولة إيجاد مواقع للتأثير في واقع متقلب ،كسوريا مثلاً .وتدعمت فكرة البحث في سؤال:
«لماذا يكرهوننا؟» ،وبخاصة في الواليات المتحدة ،باإلجابة عنها بعودة الشعبوية وتقديم المصلحة القومية أولاً ،كما
السياسية والمستقلة في مرحلة تالية ،ثم مع االنتشار الهائل
ثم الشبكات االجتماعية ،تحولت المعرفة االستشراقية ألنواع
كما صار من السهل مشاركة العربي والمسلم في إنتاج هذه
المعرفة ،لظروف كثرة الباحثين من أصول عربية في الغرب عمومً ا ،ولظروف تزايد الهجرة و… إلخ .فالتحول األحدث في
107
تحقيقات
عبدالله الوهيبي: االستشراق الجديد مصطلح ال يخلو من غموض؛ لقلة تداوله ولضبابية حدوده المعرفة المنتجة عن الشرق العربي هي هذه السمة التسطيحية
والتفتيتية ،فلم تعد األبحاث الجادة أو األطروحات العميقة هي المؤثرة أو لها األولوية في تكوين الصور والمواقف العمومية عن
حوادث المشرق وتداعيات األحداث في المنطقة العربية ،بل الخبير /المعلق /الصحفي الذي يقدم معرفة لالستهالك العاجل.
باحث سعودي أصدر كتاب
«حول االستشراق الجديد -مقدمات أولية»
108
فخري صالح :استشراق ذو أغراض وغايات أيديولوجية فاقعة إذا نظرنا إلى ما قدمه االستشراق خالل القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ،والنصف األول من القرن العشرين ،في
دراسة تاريخ الشرق ولغاته وتراثه ،فسنجد أن من الصعب تجاوز هذا الميراث الهائل من المعرفة االستشراقية حول
العالمين العربي واإلسالمي .وبغض النظر عن نقد االستشراق الذي مارسه مفكرون مثل أنور عبدالملك ،وإدوارد سعيد، وطالل أسد ،وضياء الدين ساردار وآخرين غيرهم ،فإن االستشراق الكالسيكي قام بدور عظيم في دراسة الشعوب الشرقية وميراثها .أما ما سميته في كتابي األخير «االستشراق الجديد» ،أو باألحرى «االستشراق الراهن» ،ممثلاً في كتب برنارد لويس الدعويَّة األخيرة ،وتنظيرات صمويل هنتنغتون ،وسياحة الكاتب الترينيدادي األصل ،والبريطاني الجنسية والثقافة :في .إس.
نايبول في العالم اإلسالمي ،فهو يتسم بالسطحية ،وتغلب عليه الصور النمطية ،والتحليالت المستمدة من مصادر ثانوية. إنه «استشراق» ذو أغراض وغايات أيديولوجية فاقعة ومفضوحة .فإذا كان االستشراق الكالسيكي واقعً ا في شرك
العالقة المعقدة بين المعرفة والخطاب والسلطة فإنه سعى ،في أعمال المستشرقين الكبار مثل المجري إغناتس
غولدتسيهر أو األلماني كارل بروكلمان ،إلى دراسة الميراث اإلسالمي العظيم ،وقراءة هذا الميراث في تاريخيته .أما النسل الجديد من المستشرقين الجدد لوزارة الخارجية األميركية ،وللسي آي إيه ،ومراكز صنع القرار في أميركا والغرب ،فوجدوا لتوفير معرفة نظرية يمكن من خاللها اتخاذ قرارات التدخل وشن الحروب على مناطق ذات أهمية حيوية بالنسبة للواليات
المتحدة .ال شك أن بعض االستشراق القديم كان في خدمة اإلمبراطورية ،لكنه لم يكن كذلك في معظمه ،أما ما كتبه برنارد لويس وتالمذته ،األقل منه ً شأنا ومعرفة دون أي شك ،منذ ثمانينيات القرن الماضي ،فال قيمة معرفية له ،بل هو
دعاية تشبه الدعاية الغربية ضد االتحاد السوفييتي أيام الحرب الباردة .إنها مجرد مواد إعالمية دعوية هدفها اصطناع عدو جديد للغرب وأميركا لغايات إستراتيجية ،وكذلك هوياتيَّة في مواجهة اآلخر :المسلم ،الذي يعتقد هؤالء أنه يهدد
هوية الغرب المسيحي –العلماني– الديمقراطي .يمكننا أن نرى اآلن هذا الجنون القومي –الهوياتي– المعادي لألجانب (وهم في األغلب :المسلمون) الذي يجتاح أميركا وأوربا ،لنفهم إلى أي حد أساء هؤالء المستشرقون الجدد إلى أميركا
والغرب قبل أن يسيؤوا إلى العرب والمسلمين .إننا مُ ق ِبلون على كارثة بعد أن أصبحت كراهية اإلسالم سياسة يعتنقها
العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
االستشراق الجديد ..جنون هوياتي أم تكريس لكراهية العرب؟
عمار علي حسن :االستغراب في مواجهة االستشراق
االستشراق هو المؤسسة المشتركة للتعامل مع الشرق،
بإصدار تقارير حوله ،وإجازة اآلراء فيه وإقرارها ،ووصفه، وتدريسه ،واالستقرار فيه ،وحكمه ،وهو أسلوب غربي
للسيطرة على الشرق ،واستبنائه ،وامتالك السيادة عليه... ْ استطاعت به الحضارة الغربية أن تتدبر الشرق - وهو إنشاء
بل حتى تنتجه ،سياسيًّا واجتماعيًّا وعسكريًّا وعقائديًّا وعلميًّا
وتخيليًّا ،حتى أصبح صعبًا على أي إنسان أن يكتب عن الشرق ،أو يفكر فيه ،أو يمارس فعلاً ً متعلقا به ،من دون أن يأخذ بعين االعتبار الحدود المعوقة التي فرضها االستشراق على الفكر والفعل ،وال يعني هذا أن االستشراق ،بمفرده،
يقرر ويحتم ما يمكن أن يقال عن الشرق ،بل إنه يشكل شبكة المصالح الكلية التي يستحضر تأثيرها بصورة ال مفر منها في
كل مناسبة ،يكون فيها الشرق موضعً ا للنقاش.
عمار علي حسن: صعبا على أي إنسان أن يكتب عن أصبح ً الشرق أو التفكير فيه ،من دون أن يأخذ بعين االعتبار الحدود المعوقة التي فرضها االستشراق على الفكر والفعل ً ً متدفقا مثل الذي أنتجه االستشراق ،وهي عريضا تنتج تيارًا ليست سوى جهود فردية متناثرة ،تضرب يمي ًنا ويسارًا ،بال
أما «االستغراب» فهو دعوة حالمة متفائلة لدراسة
هدف محدد ،وال خطة ناظمة .لكنها في كل األحوال ال تقوم
المتالك آليات فاعلة للتعامل معها .لكن هذه الدعوة لم
اإلسالمي ،مثل ما كتبه سيد قطب ومحمد قطب ،بل تنطوي
الغرب ،وتفكيك ثقافته وتوجهاته ،وفهمها وهضمها،
على تشويه الغرب ،اللهم إال في بعض كتابات أتباع التيار
الرئيس األميركي الجديد دونالد ترمب ومساعدوه في البيت األبيض. وال شك أن ذلك ينسحب على أوربا التي ستعاني كثيرًا بسبب السياسة
األميركية الجديدة التي تتجه بسرعة صاروخية إلى التقوقع حول هويتها البيضاء البروتستانتية الديانة ،اإلنجليزية الثقافة ،وهو ما َّ نظر له صمويل هنتنغتون في آخر كتبه «من نحن؟» (2004م) ،وهو الذي نبه من ُ قبل إلى خطر المسلمين ،ثم أضاف في كتابه األخير المهاجرين
من أميركا الالتينية الذين رأى أنهم يهددون هوية أميركا في بدايات القرن الحادي والعشرين .هذه الرؤى النظرية ،إذا اع ُت ِنقت ،قد تقود إلى حروب أهلية ومواجهات كونية ،وربما حروب عالمية .وها نحن
نرى دونالد ترمب يوقع مراسيم سياسية بإقامة جدار بين المكسيك والواليات المتحدة ،ويمنع دخول المسلمين إلى أميركا؛ ألنهم في
نظره إرهابيون .ومع أنني ال أومن أن األفكار وحدها يمكن أن تقود إلى
صناعة السياسات ،فثمة عوامل اقتصادية وسياسية وجيو-إستراتيجية وثقافية ،فإن أفكار لويس وهنتنغتون والمحافظين الجدد ،إضافة إلى
صحفيين وكتاب رأي وباحثين في بيوت الخبرة األميركية ،قد صنعت رأيًا عامًّ ا في األوساط اليمينية المتطرفة كانت نتيجته انتخاب رئيس
أميركي شعبوي ،جاهل ،معا ٍد للثقافة ،معا ٍد للتجربة الديمقراطية
األميركية ،كاره لألجانب ،محتقر للنساء ،قد يج ُّر العالم إلى كارثة، وربما مواجهة نووية.
ناقد ومترجم فلسطيني مؤلف كتاب «كراهية اإلسالم.. كيف يصور االستشراق الجديد العرب والمسلمين»
109
تحقيقات
في أغلبها على اإلعجاب به ،ومحاولة تمثله ،واالقتداء بما أنجزه في المعارف التطبيقية واإلنسانية والفنون ،وفي العمران البشري ،ال سيما في مجال الديمقراطية وحقوق اإلنسان .ويحتاج حوار الحضارات إلى تصحيح الصور النمطية
المغلوطة ،وإال ظل مجرد ترف نخبوي ،ورتوش مزيفة، وخطابات عالقات عامة ،تظهر وقت األزماتُ ، وتس َتخدم
مطية ألحوال السياسة وتقلباتها.
باحث مصري في علم االجتماع السياسي.
عبدالكريم المقداد :في مقعد الجواسيس
ال أرى في االستشراق الجديد إال نسخة أحط وأبشع
من االستشراق القديم ،الذي ك ّرس للشرق صورة نمطية ال تعكس سوى الجهل والهمجية وعبادة الشهوات .لطالما نظر
إلينا المستشرقون بنظرة المتعالي ،ووضعونا في خانة األدنى.
ولست أجافي الحقيقة إذ أقول :إن أغلبهم لم يبرح موقع الجاسوس في رصده للشرق ،وتركيزه على مسارب الضعف
التي تمكن الغرب من التسلل منها لالستحواذ على مواردنا وإرادتنا وقرارنا بصور خادعة زخرفها بمنمنمات فنية تحرف النظر عن خبث تلك الصور .لم تفلح كل المحاوالت العربية
110
واإلسالمية من خالل التواصل والتعايش مع الغرب بعد
ذلك في تغيير تلك الصورة ،التي التصقت في وعي وال وعي ّ ويلف الغرب ،وصارت مُ َس َّلمة ال ُتدحَ ض .كان الغرب يوارب
عبدالكريم المقداد: ال أرى في االستشراق الجديد إال نسخة أحط وأبشع من االستشراق القديم كرس للشرق صورة نمطية ال الذي ّ تعكس سوى الجهل والهمجية بصور وأوصاف للمسلمين والعرب أهون عناوينها الهمجية والجمال وال ّر ّق! حاول المستشرقون بعد والتوحش والبداوة ِ
بغاللة جديدة ،فكان االستشراق ذلك تغليف هذه النظرة ِ
الجديد ،وظهر صموئيل هنتنغتون وبرنارد لويس وأضرابهما.
تمت «مكيجة» الوسيلة فقط ،أما الهدف فلم يتغير:
االستحواذ على الشرق وثرواته وعدم تمكينه من أمره
وقراراته ،وإغراق مواطنيه في دوامة الركض خلف رغيف الخبز ،والحرص على جعل الحرية والعدالة والكرامة مجرد كماليات ال يستطيع اقترافها حتى في األحالم.
تماهى
ويدور لعدم الجهر عل ًنا بمفاهيمه عن الشرق ،لكن ما أن تلقى
المستشرقون مع القادة فخلقوا (القاعدة) ،وابتكروا بعدها
له في عام ١٩٧٣م حتى جهر بما كان يداري ،فاكتظ إعالمه
المسلمين بتقسيمهم إلى معتدلين ومتطرفين ،وبدأ اللعب
صدمة الملك فيصل بن عبدالعزيز في وقفه تصدير النفط
فزاعة اإلرهاب ،ثم شرعوا بشيطنة اإلسالم ،وراحوا يؤدلجون على أوتار المذهبية واإلثنية ،وسهلوا رئيسا في إليران أن تلعب دورًا ً
المسرحية ،فغرق شرقنا العتيد بالدماء .فهل نرجو من هذا الغرب
الذي بنى أيديولوجياته على أفكار المستشرقين الجدد األخطبوطية أن يسمح بنجاح الربيع العربي ،فنملك
أمرنا وموقفنا ونصبح أحرارًا؟ التجارب ماثلة أمامنا ،وما زالت تتفاعل في مصر والعراق وتونس واليمن وسوريا
وليبيا ،وما زال نهر الدم يتدفق بغزارة
منذ سنوات ،أما الغرب ،الذي يثور إذا ما عثر كلب في أحد أزقته ،فيواصل َ االستمتاع بمشاهدة مسلسل اإلبادة
في الشرق.
العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
ناقد وباحث سوري.
االستشراق الجديد ..جنون هوياتي أم تكريس لكراهية العرب؟
111
ﻗﻨﺎة
www.youtube.com/user/KFCRIS
ثقافات
خذلتهن الثورة اإلسالمية واليسار تخلى عنهن
الكاتبات اإليرانيات
ِ يعشن في جحيم مفتوح
اعتقاالت وتعذيب وتهجير ..في كل األزمنة
112
العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
متعب القرني
مترجم وأكاديمي سعودي
ّ يتسلى بنشر تغريداته عبر تويتر ،باغته حين كان الرئيس اإليراني حسن روحاني (1948م)- مؤسس تويتر جاك دورسي بسؤال على غير المتوقع« :هل يا سعادة الرئيس يستطيع الشعب اإليراني قراءة تغريداتك اآلن؟» ،في إشارة مُ لجمة إلى الحظر الذي فرضته الحكومة اإليرانية على وسائل التواصل االجتماعي منذ عام 2009م .كان هذا الرد كفيلاً ألن يفتح علبة من القضايا الساخنة التي ال تزال عالقة في كهوف الغيب عن مأساة النشر والتعبير بإيران ،ذلك البلد الذي استحال بعد الثورة اإلسالمية إلى شبكة من االعتقاالت واالغتياالت ،كانت سببًا في تهجير األدمغة المفكرة ودفعها لحالة دياسبورا مريرة ونوستالجيا تائهة بين خيارات المهاجر واألوطان. كان لهذا التنكيل بالشخصيات الناقدة تداعياته السلبية
على مالمح من هذا النضال النسوي ،وقصص اضطهادها
وأضعف النهضة العلمية من مواصلة تطلعاتها ،حتى صارت
آذار نفيسي على حلقاتها السرية في قراءة رواية «لوليتا»،
على البالد ،إذ تسبب في إخالء الجامعات اإليرانية من علمائها
إيران تستجدي تلك الشخصيات للعودة والمشاركة في التنمية والنهوض .يذكر الكاتب أوس الشمّ سان بأنه على هامش مؤتمر علمي بجامعة طهران ،سأل أحد الصحفيين أستاذ الصيدلة
بجامعة ألبرتا الكندية البروفيسور الكندي (اإليراني األصل) فخر الدين جمالي (1950م )-عن الوقت المناسب لمغادرة ً واقفا كندا والعودة إلى إيران ،فكانت إجابته« :عندما أبول
في حمام جامعة طهران!» مشيرًا إلى محنة زميله الذي ً واقفا ،وذلك في السنوات اعتقل من الجامعة بحجة البول األولى من انتصار الثورة .كانت الجامعة حينها تتربص بذلك
األستاذ وتحاول انتهاز الفرص لإلطاحة به ،فأسرّوا إلى جماعة ً ً مطالبة بفصله واقفا ،فرُفعت العرائض الباسيج بأنه يبول
لكونه يسيء لألمة اإليرانية ومبادئ الثورة اإلسالمية .استدعته مجلسا تأديبيًّا فطالبته الجامعة وأقامت ً ّ ً المغلظ بعدم البول واقفا ،فحلف بالحلف ً مؤكدا أن الثورة كسرت كل أمام لجنة حزبية المباول الواقفة في الحمامات لتطهير مظاهر
حكم الشاه الدكتاتوري .فقامت اللجنة بعد ذلك بالتشكيك في حلفه ،فلم يكد ينجو
من التهمة حتى أدلى ثالثة شهود عدول بشهادتهم مؤكدين أنهم الحقوا األستاذ أثناء
خلوته ولم يسمعوا شخشخة بوله ،ما يؤكد ً واقفا. عدم بوله
وحصارها ،بالعرض الروائي االستعراضي ،بدءً ا بمطاردات واعتقاالت الروائية بارسيبور على البروشورات والطابعات، وصولاً إلى تهديدات الكاتبة المسيحية نيمار نيمات وزواجها اإلكراهي من السجّ ان ،وانتهاءً بضحايا جُ دد ال تزال إلى اليوم تقضي فتراتها في السجون بال ُتهم! آذار نفيسي ..قراءة لوليتا في طهران
لم يعش الروائي الروسي فالديمير نابوكوف (1977-1899م) طويلاً كي يسمع بأن روايته «لوليتا »1955 ،قد حُ ظرت في إيران بعد الثورة اإلسالمية ،وال ليسمع بالمعاناة القاسية التي القتها
الطالبات اإليرانيات في سبيل قراءتها ،وال ليرى اسم روايته وهو
يتمحور كعنوان في مذكرات أستاذة األدب اإلنجليزي بجامعة جونز هوبكنز األميركية آذار نفيسي (1948م) حيث أوردت قصة
حلقاتها في مذكراتها الواقعية «قراءة لوليتا في طهران»2003 ، بأسلوب مدهش تركها على قائمة أفضل ٍ مبيعات النيويورك تايمز لسنتين متتابعتين، حتى ُترجمت لما يجاوز الثالثين لغة« .إن أحداث ومعطيات هذه القصة حقيقية إلى
أقصى مدى تستطيع أن تحمله ذاكرتي من ُ بذلت قصارى جهدي لئال أسيء صدق ،بيد ّأني
ألحد من أصدقائي وطلبتي ،فرُحْ ُ ت ِّ أعمدهم بأسماء جديدة وأقنعهم بأقنعة عديدة؛ كي
تكون أسرارهم في أمان».
لم يكن هذا التهجير و َْق ًفا على الرجال،
تستعيد نفيسي ذاكرتها حين عودتها إلى
دفعتها للهجرة وترك البالد .هنا نسلط الضوء
بين سهول أميركا وجبال سويسرا .تعود
فقد القت المرأة اإليرانية مضايقات واعتقاالت
طهران بعد 17عامً ا من العيش الحر المتقطع
113
ثقافات
لتجد والدها المثقف سجي ًنا بتهمة المعارضة بعد أن كان العمدة لمدينة طهران ،فتتزوج برجل ُسوقي ال يقرأ وال يقيم ً وزنا للقراءة« ،كان ال يشبهنا ،لم يكن يُعير أي اهتمام للكتب،
وكان يقول :مشكلتك أنت وأهلك أنكم تعيشون في الكتب أكثر مما تعيشون في الواقع!» .تضطر نفيسي بعد عام أن تسافر ِر َ فقة زوجها ألوكالهوما حيث درست األدب اإلنجليزي فزادت
مرارة اضطهادات زوجها عليها حتى أعلنت انفصالها وطالقها منه بعد سماعها خبر اإلفراج عن والدها.
عادت نفيسي بعد إنهاء دراستها إلى جامعة طهران، حيث كانت موئلاً لألنشطة السياسية الساخنة .هنالك بدأت
تعد الخطة الدراسية لمواد األدب ،ف ُتطعّ مها بعدة روايات
مثيرة ،من أهمها رواية «غاتسبي العظيم» للروائي األميركي فرنسيس سكوت فيتزجيرالد (1940-1896م) ،التي أثارت جدلاً في القسم وبين الطالب .تذكر نفيسي أن هذه الرواية وغيرها كان كثيرًا ما يخترق فصولها شظايا من أخبار االعتقاالت واإلعدامات التي ّ تنفذها الدولة ضد النشطاء ،على رأس ذلك خبر إعدام الطالب البريء عميد غريب بعد أن حُ كم عليه
بالسجن ثالث سنوات بتهمة التغربن وإبداء النزعات اليسارية
114
المضادة لتوجهات الدولة ،فلم يكمل السنتين في سجنه حتى أُعلن خبر إعدامه عام 1983م في ظروف غامضة .ظلت نفيسي
في جامعة طهران مناضلة ضد توجهات الدولة االستبدادية في فرض الحجاب اإلجباري على النساء ،وشاركت في عدة مظاهرات ضد تشريعاتها الجديدة؛ كتخفيض سن الزواج من
آذار نفيسي
استحالت إيران بعد الثورة إلى شبكة من سببا في االعتقاالت واالغتياالت ،كانت ً تهجير األدمغة المفكرة ودفعها لحالة دياسبورا مريرة ونوستالجيا تائهة بين خيارات المهاجر واألوطان حينما يكون أقصى اهتمام لمسؤولي الجامعة مُ َ نصبًّا على
18عامً ا إلى 9أعوام ،أو تشريع قانون الرجم بصفته عقوبة للزنى ،حتى ُطردت مع بعض زميالتها من الجامعة.
قد تطيش من تحت اإليشارب ،وليس على كفاءتنا في أداء
سويسرا» ،فإذا ما أسرعت طالبة لتلحق بالدرس ،عاقبوها
في خريف 1995م ،نالت نفيسي أخيرًا حريتها باستقالتها، فقامت بتكوين فصل دراسي خاص ي َ ُعقد كل خميس ،التقت
انتقلت نفيسي للتدريس بجامعة العالمة الطباطبائي، حيث ُتردد مقولة الحرس الثوري المتذمرة «إيران استحالت
على الهرولة؛ وإذا ضحكت عاقبوها على الضحك في الممرات، وإذا ما ُ ضبطت وهي تتحدث مع الجنس اآلخر عاقبوها بتهمة االختالط« .ذات يوم ،اقتحمت طالبتي ساناز قاعة الدرس قبل
ْ تأخرت ألن حارسات البوابة نهاية المحاضرة بقليل وهي تبكي، عثرنَ على أحمر الخدود في حقيبتها عند التفتيش ،وكنَّ قد حاولنَ إعادتها إلى البيت مع خطاب توبيخ!».
كانت مهمة الجامعة التضييق على كل األساتذة ممن
يبدي نزعات تقدمية ،بحجة وقوفها ضد مبادئ الثورة« .كانوا يراقبونني ويزيدون من مضايقتي ويقيدون حركتي بشتى
علي وعلى زوّاري ،أو بتحديد نشاطاتي، الوسائل :بالتجسس َّ أو بالمماطلة لسنوات في منحي استحقاقي بالتثبيت كأستاذة.
وحين قدمت استقالتي عمدوا إلى إغاظتي بادعاء التمسك بي ورفض االستقالة ...كيف لنا أن نقوم بالتدريس كما يجب العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
لون شفاهنا ،وعلى القابلية التدميرية لخصلة شعر يتيمة
واجباتنا العلمية؟!»
طالب أبدى فيه سبعً ا من طالباتها النجيبات باإلضافة إلى ٍ ً ً ُ «انتقيت طالباتي ولم أمعن النظر في ورغبة لالنضمام. مثابرة
خلفياتهن األيديولوجية والدينية ...كثي ٌر من طالباتي كنَّ أكثر
مثابرة ومواظبة في الحضور من طالباتي النظاميات الالئي متنفسا للحرية ،كان يحضرن ألجل الشهادة» .كان هذا الفصل ً ًّ «صفا يمنحني الحرية التي حُ رمت من ممارستها في الفصول
ُ قمت بتدريسها في الجمهورية». الدراسية التي
ورغم ذلك ،كان الوصول إلى الكتب من أشق المهمات، ال سيما وقد أُغلقت معظم المكتبات التي تبيع الكتب األجنبية بعد الثورة ،وكان االعتماد على مخزون كتب بعض األصدقاء هو الحل الوافر« .أما كتاب لوليتا فقد كان العثور عليه صعبًا
ًّ ً خصوصا الطبعة المزدانة بالهوامش ،التي كانت ترغب جدا،
فيها بناتي .وقد صورنا الرواية كاملة بصفحاتها الثالث مئة لكل
الكاتبات اإليرانياتِ .. يعشن في جحيم مفتوح
مسيرة نسائية بطهران ضد فرض الحجاب اإلجباري ،في اليوم العالمي للمرأة 8 ،مارس 1979م
من لم تستطع إيجاد تلك الطبعة .إن ما يبعث على اليأس في
ً أبدا ،ألنني لم أجد فتى أحالمي إال في الكتب» .كان هذا الفصل
عجوز قذر فحسب ،وإنما أن يصادر شخص حياة شخص آخر.
رقيب أعمى، عيني ّس ْ عند الطالبات «محاولة للهرب من تفر ِ ٍ
قصة لوليتا ليس اغتصاب فتاة في ربيعها الثاني عشر على يد
فهي رواية متفائلة من حيث إنها دفاع عن الجمال والحياة ،بكل
المتع اليومية الطبيعية التي حرمت منها لوليتا وحرمت منها طالبتي ياسي؛ ك َّنا جميعً ا مثل لوليتا نحاول أن ننأى بأنفسنا بحثا عن جيوب صغيرة للحرية ،ومثل لوليتا ً أيضا لم نكن ندخر ً جهدا للتمايل طربًا بتمردنا! كنا نظهر شي ًئا من خصالت شعرنا من تحت اإليشارب ،أو ندس قليلاً من اللون في ذلك التشابه
عند السلطة أشبه ما يكون بالخلية السرية الخطرة ،بينما كان
ولو لسويعات يتيمات كل أسبوع» .ظلت هذه الحلقة تنعقد
أسبوعيًّا لعامين متواصلين حتى تبرمت نفيسي من مراقبات ّ توعداتها لها باالعتقال بتهمة خرق القانون، السلطة ومن
فأعلنت هجرتها األبدية من إيران عام 1997م.
شهرنوش بارسيبورُ ..ق ٌ بالت على السيف
ّ مدت االستخبارات اإليرانية يدها الطولى لتصادر
الممل القائم في مظهرها أو نطيل أظافرنا أو نستمع لموسيقا ممنوعة ،أو ُنحب!»
الطابعات والمطبوعات ،وفرض العقوبات الشديدة على كل
رواية لوليتا وغاياتها وجمالياتها
في قصة ابنة أحد المحامين
ظلت هذه الحلقة الدراسية عن
تتم في أجواء سرية للغاية،
مع تحفظات وتحرّزات من أن ُتكشف أسرار األطراف المنضمين إليها فيخضعن جميعً ا للعقوبة
بالسجن أو اإلعدام .ولم تكن ً ً دراسية فحسب ،بل حلقة
مجلسا علميًّا يجمع البروفيسورة ً
وطالباتها المعجبات ،يتبادلن
من أخفاها أو امتلكها .يتجلى ذلك الشيرازيين ،الروائية اإليرانية
شهرنوش بارسيبور (1946م- ً قسطا وافرًا من ) التي نالت
االعتقاالت في مرحلتي ما قبل
الثورة وما بعدها .ففي عام
1974مّ ، قدمت الشابة بارسيبور ( 28عامً ا) استقالتها
فيه قضايا الحب واألدب ،والحلم
واألمل ،وطرائق الهروب من تلك
المعيشة الخانقة« .أتذكر إحدى
طالباتي وهي تقول :لن أتزوج ً أبدا
شهرنوش بارسيبور
115
ثقافات
ً معلنة إيقاف برنامجها من العمل في التلفزيون اإليراني،
ذات المعتقل الذي ُعذبت فيه المصورة زهرة كاظمي (-1948
واإلعدامات الالمسؤولة التي قادها الشاه محمد رضا بهلوي
ُسجنت بارسيبور شهرين بعهد الشاه بتهمة االستقالة، لكنها لم تتوقع ً أبدا أن َت ُزجَّ بها الثورة اإلسالمية مع شعاراتها
اإلسبوعي «النساء البدويات» احتجاجً ا على التعذيب الشنيع
(1980 -1919م) ضد الشعراء النشطاء على يد منظمة السافاك
التحريرية في السجن برفقة والدتها وأخيها لنحو خمس
(منظمة االستخبارات واألمن الوطنية) .وعلى هذا االحتجاج، أُودِ عت السجن بال تهمة .أُفرج عن بارسيبور بعد شهرين
سنوات كاملة ،فقط بسبب بروشورات وُجدت بالخطأ في
تعليمية متجددة؛ إذ كانت تدرس السوسيولوجيا بجامعة
«كان هناك عدد من السجناء ال يستطيعون المشي ،كانت
كاملين لتتزوج من رجل عامّ ي أضفى على حياتها ضغوطات طهران بسريّة مع عدد قليل من الطالبات آنذاك.
تخرجت بارسيبور من الجامعة ،فأعلنت تخفيف هذا ً متجهة التوتر األسري والسياسي بإعالن انفصالها عن زوجها إلكمال دراساتها العليا بجامعة السوربون بفرنسا ،حيث
درست الفلسفة الصينية في الفترة من عام 1976م إلى عام ُ «سافرت إلى فرنسا ،فأرهقتني االلتزامات المادية 1980م.
ُ فاضطررت إلرساله إلى أبيه وحاصرتني الوحدة أنا وطفلي، ً ٍّ ُ اقتصادي عجز ظللت أقاوم وحيدة في ليكمل دراسته بإيران… ٍ ُ وجدت كلي حتى عام 1980م .فمع مخاض الفوضى الثورية، ٍّ ُ فقررت العودة وما نفسي غير قادرة على الصمود واالستمرار، ُ كنت أعلم ما يخفيه الوطن لي من مأساة».
116
2003م) حتى ماتت متأثرة بجراحها عام 2003م.
خزانة سيارتهم .كان السجن يكتظ بالنساء من كل جانب أقدامهم متورمة بحجم البرتقال ،وكان من الصعب عليهم
استخدام حمامات القرفصاء الصينية» .في السجن «تمت
إعدامات كثيرة ،أعداد كبيرة من الناس تم إعدامهم ،ربما ستة أو سبعة آالف شخص ،فضلاً عن اإلعدامات التي
حدثت عام ١٩٨٨م ،كانت هذه السنون بحق مرعبة بما فيها من تعذيبات وتحقيقات .كدمات سوداء وزرقاء متفرقة على
أجساد السجناء ،حتى أصبحت السجينة تضطر ألن توقف
عذاباتها بإقامة عالقات حميمة مع السجان .ال أزال أتذكر
صديقتي اليسارية ذات البشرة الزيتونية شهين التي اعتقلت ْ تنبأت بإعدامها الوشيك؛ إذ بدأ المحقق ألجل طابعة! كانت قد
يتلمس نهديها في ليلة ما قبل اإلعدام .كان من المعروف أن
السجّ انين يتزوجون قسرًا بالسجينات في لياليهن األخيرة حتى
عادت بارسيبور مع انفجار الحرب بين إيران والعراق (-1980 ً مباشرة في السجن على غير المتوقع ،إذ 1988م) ،لتجد نفسها
ال يُدفنَّ أبكارًا .يقولون بأن الفتاة إذا ُقبرت بِكرًا فإنها تفتن شابًّا
بسجن إفين سيئ السمعة الذي شيَّده الشاه عام 1972م ،وهو
في اليوم التالي!».
قامت الثورة اإلسالمية بتصفية األحزاب سريعً ا وتكويم األعداد
العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
ْ توقعت شهين ذلك المصير ،فتم إعدامها وتغريه إلى قبرها.
الكاتبات اإليرانياتِ .. يعشن في جحيم مفتوح
ً متأثرة بمجموعة الروائي األميركي إرنست هيمنغوي
(1961 -1899م) «رجال بال نساء1927 ،م» ،خرجت بارسيبور من المعتقل لتكتب مجموعتها القصصية «نساء بال رجال» التي
احتفظت بتفاصيلها إلى حين نشرها عام 1990م قبل أن تتحول إلى فلم للمخرجة اإليرانية شيرين نيشات (1957م .)-تهاجم
بارسيبور في مجموعتها تداعيات النظام المؤسساتي للدولة الذكورية ،وتحكي آالم المرأة اإليرانية وما رافقها من اضطهاد جنسي عبر التاريخ ألجل رقعة بكارة« .كانت والدتي تخبرني
علو بأن البكارة ستارة ،فلتحذر الفتاة ،ربما إن قفزت من ٍّ تم ّزق بكارتها .إنها ستارة سهلة التمزق!» .أحدث هذا الكتاب ً ً إعالمية ،ما تسبب في حظره من التداول بإيران ،وإيداع ضجة
بارسيبور مجد ًدا في السجن بتهمة الخوض في موضوعات ثالث مراتُّ ، َ ُ كلها بال ُتهمة وال جريمة، جنت حساسة« .لقد ُس
فيما عدا الثالثة؛ كانت بتهمة مُ َّ لفقة لم يطل سكوت المحكمة
مارينا نيمات
حتى اعترفت بزيفها». ً مزيدا من الضربات والمالحقات أُفرج عن بارسيبور لتتلقى
) المولودة في طهران التي بسطت معالم تجربتها المريرة في
إلعالن هجرتها األبدية من إيران .ظلت بارسيبور في شتات ّ حطت رحالها المنفى بين أميركا وإنجلترا وألمانيا ،حتى
ً صدى إعالميًّا واسعً ا« .أغلب المسيحيات هاجرنَ إلى إيران
هنالك سطرت تفاصيل معاناتها في السجون في مذكراتها
بروسيا .وبعد الثورة الشيوعية عام 1917م ،اضطروا للهجرة
حثيث لتوريطها في قضايا جديدة ،ما دفعها أخيرًا سعي مع ٍ ٍ
بكاليفورنيا حيث نالت زمالة الكتاب العالمية بجامعة براون.
األخيرة «تقبيل السيف :مذكرات السجن »2013 ،وحكت فيها ً واصفة تداعيات غربتها على حياتها أحوال السجناء بدقة، وما رافقها من تردي صحي وعجز اقتصادي واضطهاد نفسي.
«خالل سنين السجن لم آخذ مالحظات ،ربما نسيت بعض
أسماء المساجين المظلومين ،فقد كان المحقق يقوم بتقطيع كل ما أكتب ،ولكني ً ُ دقيقة بقدر ما تسعفني الذاكرة في تبيان كنت تلك األهوال».
مارينا نيمات ..سجينة طهران
مذكراتها «سجينة طهران »2006 :و«ما بعد طهران :استعادة الحياة »2013 ،حيث ُترجم األول لما يفوق 13لغة بعد أن نال بسبب اقترا ِنهنَّ بأزواجهنَّ اإليرانيين الذين كانوا يعملون
إليران لكونهم معارضين للشيوعية وليسوا بروسيين ،فف َّر
معهم ّ جداتي المسيحيات المعارضات للشيوعية».
كان من نصيب الطالبة نيمات ( 17عامً ا) أن اع ُتقلت في الخامس عشر من يناير لعام 1982م ،وأُودِ عت سجن إفين مع زميالتها لسنتين كاملتين بعد أن عارضت إدخال قضايا السياسة في
حصص الرياضيات ،وقادت على إثر ذلك إضرابًا واحتجاجً ا جماعيًّا؛ كما شاركت
في مظاهرات ضد السياسات القمعية التي َ عدة أطلقتها الحكومة الثورية ،وكتبت
لم يكن الهجوم الثوري يستهدف المسلمات
مقاالت مناهضة للثورة في مجلة المدرسة. ٍ
من أمثال الكاتبة الروسية مارينا نيمات (1965م-
ُ فقلت :لم أفعل .كانوا قد سمعوا شيوعية باإلضراب الذي ُ بدأت ُه ضد المدرسة ،وكانوا
فحسب ،بل تعدى طوقه ليخنق المسيحيات
لم تتوقف سلسلة الترويع في السجون اإليرانية ضد النساء بعد العقود األولى من الثورة اإلسالمية ،بل استمرت في عقد حلقاتها الشائكة في القرن الحادي والعشرين
ُ كنت أعمل مع مجموعات «سألوني ما إذا
يرون من االستحالة لفردٍ بال عالقات مع ّ ينظم أحزاب سياسية غير قانونية أن
إضرابًا! أخبرتهم بأنني لم ّ أنظم شي ًئا ،وهي
ُ سألت مدرسة الرياضيات أن تدرّس الرياضيات الحقيقة .فقط ُ ْ وخرجت فخرجت بدلاً من السياسة ،فطردتني من الفصل؛
زميالتي خلفي ،فرفض الجميع العودة للمدرسة .لم يكن
117
ثقافات
يصدق ذلك؛ ْ إذ ّ ّ يدعي ورود معلومات بأن لي عالقة المحقق بمجموعات شيوعية».
حُ كم على نيمات باإلعدام بتهمة الشيوعية ،فالقت
في السجن صنوف األذى والعذاب« .كانت هناك صيحات مشبعة باأللم تمأل المكان .أصوات ثقيلة وعميقة ويائسة
تخترق جلدي ،وتنتشر بكل خلية في جسدي ،وكأنَّ لوحً ا
ْ قبلت نيمات عند األسرة الحاكمة إذ كان على عالقة مقربة بهم. العرض فدخلت اإلسالم َكر ًْها ،فتم استبدال حكمها باإلعدام بالسجن المؤبد .تزوجت نيمات من موسوي وعاشت معه كل
معالم الزواج في السجن ،وكان يهددها بأذ ّيةِ أسرتها وحبيبها إن هي خالفت أوامره ،حتى تم اغتياله من األحزاب المعارضة ً مرمية عند عتبات منزله« .لقد استطاعت الثورة ووُجدت جث ُته
بشخص يجرني من الرصاص يجثم على صدري ...فجأة وإذا ٍ لخطوات ،ثم يلقيني بالحبل الذي ُعقد على يديَّ ،ويجرني ٍ ُ ٌ رجل في عصابة عيني ،ثم يج ُّر عصابتي على األرض فتسقط
مواجهات بينية ،فال هم الذين يستطيعون الخروج جميعً ا على ٍ
ما هو أشد وأقوى» ،ثم وضع الحديد على يدي… إنَّ السجناء
في أحضان الغازي األميركي المزعوم!» ُ أسرة علي موسوي بكل جهودها لإلفراج عن سعت
األربعينيات في غرفة خالية من كل شيء فيما عدا سرير خشبي ووسادة حديدة ،قائلاً « :الحبل ال يكفي ،سنستخدم السياسيين يتعرضون دائمً ا لصنوف منوعة من العذاب ،يكفي
اإلسالمية أن تمزق اإليرانيين جميعهم بشعاراتها وتضعهم في
النظام الشمولي الخميني ،وال هم الذين يستطيعون العيش
زوجة ابنهم -نيمات -بعد اغتياله حتى نجحت ،فخرجت
من سماعها أن تصيبك بالغثيان .ذات ليلة استيقظنا جميعً ا
نيمات أخيرًا لتتزوج من حبيبها المسيحي أندريه نيمات،
كل رصاصة كانت تعني حياة ضائعة ،نفس حبيب وعزيز
مدت االستخبارات اإليرانية يدها الطولى ّ
قبور بال شواهد وال شهود». في ٍ
العقوبات الشديدة على كل من أخفاها
ُ فنهضت مع الفتيات وحدقنا من النوافذ. على صوت إطالق نار
تتمزق بينما تنتظره أسرته وتتأمل عودته .سوف يُدفن القتلى
118
ً عارضا عليها اإلسالم والزواج ،لِقاءَ التوسط لها فرقة إطالق النار
وعندما كانت نيمات تستعد كغيرها لإلعدام ،وقع سجّ انها ّ فتدخل سريعً ا إلنقاذها من ومحققها علي موسوي في غرامها،
لتصادر الطابعات والمطبوعات ،وفرض
أو امتلكها
جدد هودفار وآرايي ..ضحايا ُ لم تتوقف هذه السلسلة من الترويع في السجون اإليرانية ضد النساء بعد العقود األولى من الثورة اإلسالمية ،بل استمرت في عقد حلقاتها الشائكة في القرن الحادي والعشرين ،متمثلاً ذلك في اعتقال البروفيسورة الكندية (اإليرانية األصل)
بجامعة مونتريال هوما هودفار (1951م )-عام 2016م .أُودعت هودفار سجن إفين ألربعة أشهر بتهمة االشتغال بالحركة النسوية ُ «قررت كأنثروبولوجية أن أكون بطلة ،وأن واالنخراط في القضايا األمنية ،حتى أفرج عنها بعد أن طلبت كندا وساطة ُعمانية.
ً ً ُ فكتبت عنه» .قامت هودفار بتحليل مشروعا اختارني مشروعا اخترته بل لعمل أنثربولوجي ،لم يكن أحوّل السجن إلى ميدان ٍ ً ً ْ فقدمت دراسة رصينة عن طرائق تهديداتهم واختياراتهم لكلماتهم ،حتى «طريقة 30حوارًا تحقيقيًّا أخضعها لها المحققون،
استخدامهم لموسيقا جنازة زوجي التي وجدوها بهاتفي منذ عام 2014م؛ كانوا يقومون بتشغيلها مرارًا وتكرارًا في زنزانتي بُغية نقل من زنزانتها الصغيرة إلى زنزانة أكبرِ ،ر َ كسري روحيًّا» .خرجت هودفار في ذات العام بعد أربعة شهر وقبل أن ُت َ فقة الكاتبة البريطانية (اإليرانية األصل) نازنین زاغري رتکلیف (1978م )-التي اعتقلت مع طفلتها في إبريل في ذات العام ،وال تزال إلى اليوم
في بدايات تنفيذ حكمها بالسجن لخمس سنوات.
كما تواجه الكاتبة غولورخ إبراهيمي آرايي (1980م )-هذه األيام حُ كمً ا بالسجن لخمس سنوات على خلفية كتابتها قصة قصيرة (لم ُتنشر بعد) تناقش قضية «الرجم حتى الموت» وذلك بتهمة انتهاك المقدسات والتأليب على النظام الحاكم؛ وقد ُع ِثر على قصتها في شقة زوجها الناشط أراش صديقي (1986م )-الذي يمضي حكمً ا بالسجن لـ 19عامً ا ،وقد تسبب الحرس
الثوري في وفاة والدته بأزمة قلبية بعد مداهم ٍة شديد ٍة لمنزلهم« .أصبح منزلنا كالجحيم ،يخبرني والدي دومً ا بأنني ُ كنت سببًا
في قتل أمي وأنه ال يريدني مجددًا في المنزل ،أنا أفضل أن أعود إلى السجن! تذكر زوجته آرايي بأنها كتبت قصتها القصيرة لبعث التساؤالت عن هذه العقوبة البشعة ،ورفع معاناة السجينة فاريبا كاريغي التي حُ كم عليها بـ«الرجم حتى الموت» بتهمة
العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
الكاتبات اإليرانياتِ .. يعشن في جحيم مفتوح
ثم لتعلن هجرتها النهائية من إيران عام 1991م إلى كندا مع
إيراني ،كمحاضرة في جامعة تورونتو الكندية ومقدمة لدروس
وكأنما التاريخ يصر على تخريج دفعات من المهاجرين من نير
عن تلك التي أتذكرها في إيران ،إنها ذات ظالل داكنة من الزرقة
زوجها الجديد وطفليها الصغيرين .هاجرت نيمات فرارًا من ً أسوة بفرار جداتها من روسيا الشيوعية، إيران الخمينية األيديولوجيات .ظلت نيمات 22سنة بكندا ،حيث مهجر 70ألف
خاصة في فن كتابة المذكرات« .هناك مثل فارسي قديم يقول: ُ تختلف السماء بذات اللون حيثما تكون ،ولكن السماء الكندية وتبدو بال حدود؛ كأنما تتحدى اآلفاق».
أحد االحتجاجات النسائية بطهران ،أكتوبر 2007م
التورط في عالقة جنسية مع قاتل زوجها، وال تزال تقضي فترة سجنها منذ عام 2013م.
ربما القت المرأة اإليرانية في سبيل
خياراتها الخاصة شدائد متوقعة من األحزاب
اإلسالمية المتطرفة ،غير أن هذه الشدائد ُ وجدت ُه من خذالن ال ترقى لمستوى ما الحركات اليسارية ،الحليف األول للحركات النسوية في عهد الشاه .تذكر الباحثة
والناشطة اإليرانية بارڤين بيدر (2005 -1949م)
هوما هودفار
غولورخ إبراهيمي آرايي
في كتابها« :نساء في عصر الحداثة »1995 ،أنه ورغم كسب التيارات اليسارية لعدد من النساء في عهد الشاه باسم تحرير َّ المرأة ،فقد قلبوا لهنَّ ظه َر المِ جَ نِّ وتخلوْا عنهن متخذين الثورة الخمينية بدلاً ،بل كانوا يرون النساء المناضالت ضحايا
للتقليد الغربي ومطايا لتحقيق المؤامرة اإلمبريالية ضد إيران.
كان اليساريون جزءً ا أساسيًّا من المجتمع البطريركي اإليراني ،بل تأ ّزم الحال حين أصبحت المرأة اليسارية نفسها في
مواجه ٍة شرس ٍة مع قريناتها ،متجليًا ذلك في عضوة حزب توده الشيوعي الناشطة مريم فيروز (2008 -1914م) التي ما فتأت تخلع المدائح على الخميني وتصفه بأنه أعظم مناصر لحقوق المرأة في التاريخ .لم يطل إعجاب فيروز حتى وقع زوجها نور
الدين كيانوري (1999 -1915م) ضحية للخميني ،ف ُزجَّ به في السجن بتهمة التجسس لصالح السوفييت حتى مات في محبسه، ثم أُمر بإعدام غالب أعضاء حزب توده ،وأخضعت مريم نفسها وهي ذات السبعين عامً ا تحت السجن القسري ببيتها وتحت الرقابة السياسية حتى وفاتها عام 2008م.
119
ثقافات
المنفيون روبرتو بوالنيو
كاتب وشاعر تشيلي
الزماي ترجمة :عبدالله ّ
قاص ومترجم سعودي
كونك منفيًّا ال يعني أن تختفي ولكنك تتقلص ،فتصبح أصغر فأصغر ببطء أو بسرعة حتى تصل
إلى طولك الحقيقي ،الطول الحقيقي للذات ،كانت سويفت –سيدة المنفيين– تعلم ذلك ً جيدا ،وبالنسبة
لها كان «المنفى» هو الكلمة السرية للرحلة ،هذا التعبير الذي سيرفضه العديد من المنفيين الذين ُيشحَ نون بقدر من المعاناة يتجاوز أسباب الرحيل .يحمل األدب كله المنفى بداخله ،سواء كان الكاتب قد جمع أغراضه ورحل في سن العشرين أو لم يغادر موطنه قط. ربما كان أول المنفيين على اإلطالق هما آدم وحواء ،هذا أمر ال
مدريد ،وبعد عشرين عامًا قام بنشر «ال أروكانا» -أفضل قصيدة
منفيين؟ هل من الممكن أن كل واحد منا يجوب األرض غريبًا؟ إن
القدماء واإلسبان بالتعاطف الواضح مع الهنود الحمر ،هل كان
جدال فيه ،كما أنه يثير بعض األسئلة :هل يمكن أن نكون جميعً ا
120
مفهوم «األراضي الغريبة» (مثلها في ذلك مثل «أرض الوطن») لديه
بعض الثغرات ،التي تطرح أسئلة جديدة :هل «األراضي الغريبة»
هي واقع جغرافي موضوعي أم أنها تصور عقلي في تغير مستمر؟ دعونا نتذكر «ألونسو دي إرثييا»( .شاعر وجندي إسباني اشتهر بقصيدته الملحمية «ال أروكانا») بعد رحالت قليلة عبر أوربا ،يسافر إرثييا ،وهو جندي وسيد نبيل ،إلى تشيلي ويحارب الهنود الحمر
القدماء تحت راية «ألديريتي» (جيرونيمو دي ألديريتي وهو قائد إسباني عيِّن حاكمًا لتشيلي ،لكنه توفي عام 1556م قبل أن يتولى
منصبه) .وفي عام 1561م قبل أن يبلغ سن الثالثين ،عاد واستقر في
العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
ملحمية في عصره ،التي قام فيها بربط الصدام بين الهنود الحمر «إرثييا» في المنفى خالل فترة الشتات األميركي عبر أراضي تشيلي
وبيرو؟ أم أنه شعر بالنفي عندما عاد إلى المحكمة؟ وهل كانت ملحمة «ال أروكانا» ثمرة ذلك الداء السوداوي لوعيه الشغوف بالمملكة الضائعة؟ وإذا كانت هذه هي الحال ،وهو ما ال أستطيع أن أقطع به على وجه اليقين ،ما الذي فقده «إرثييا» في عام
1589م ،قبل خمس سنوات فقط من وفاته ،بخالف الشباب؟ ومع
شبابه ،الرحلة الشاقة ،التجربة اإلنسانية التي خاضها من خالل التعرض لعناصر قارة هائلة وغير معروفة ،وجوالت طويلة على
ظهور الخيل ،ومناوشات مع الهنود والمعارك ضد «وتارو» (أحد
المنفيون
قادة المقاومة ضد الغزو واالستعمار اإلسباني .قتل عام 1557م)
المهاجر والبدوي والمسافر والسائر نائمًا كلهم موجودون ،بعكس
وتارو) التي الحت في األفق الواسع مع مرور الوقت وتحدثت إليه،
األدب ،وكل قارئ يصبح منفيًّا ببساطة عن طريق فتح كتاب .لقد
و«كوبوليكان» ( قائد عسكري تحولت له قيادة المقاومة بعد مقتل إلى «إرثييا» ،الشاعر الوحيد والناجي الوحيد من أمر ما ،حينما ُت َ وضع على الورق ،سوف تصبح قصيدة ،لكنها في ذاكرة الشاعر
القديم هي مجرد حياة أو عدة حيوات ،تصل إلى الشيء ذاته .وما
الذي تركه الدهر إلرثييا قبل أن يكتب «ال أروكانا» ويموت؟ ترك
المنفى؛ ألن كل كاتب يصبح منفيًّا ببساطة عن طريق الخوض في
ذهب كل الكتاب التشيليين تقريبًا في مرحلة ما من حياتهم إلى المنفىُ ، ً متبوعا بإصرار من قبل شبح وضبط العديد منهم ممن ظل تشيلي وإعادتهم إلى الحظيرة ،بينما تمكن آخرون من زعزعة الشبح
واالختباء ،في حين غيَّر آخرون أسماءهم وطرقهم ،ونسيتهم
تشيلي لحسن الحظ.
«إرثييا» بشيء ما يمتلكه جميع الشعراء – حتى إن كان في الشكل ً تطرفا وغرابة ،لقد ترك له الشجاعة ،الشجاعة ال تساوي األكثر
حينما كنت في الخامسة عشرة ،في عام 1968م ،غادرت
لكنها تمنع الشعراء من إلقاء أنفسهم من أعلى الجرف أو االنتحار
سيتي» مثل الحدود ،تلك األرض غير الموجودة والواسعة حيث
المتواضع من الكتابة.
ذلك لم ُيمْحَ ظل وطني األم قط ،وفي أعماق قلبي الغبي استمر
شي ًئا في سن الشيخوخة ،مثلما كانت تساوي في سن الشباب،
برصاصة في الرأس ،وفي وجود صفحة بيضاء ،تخدم الغرض
مناف مدى الحياة ٍ
المنفى هو الشجاعة .المنفى الحقيقي هو المقياس الحقيقي
تشيلي إلى المكسيك ،بالنسبة لي في ذلك الوقت ،كانت «مكسيكو الحرية واالستحالة هي العملة الشائعة .على الرغم من كل اليقين أن قدري كان يقبع هناك .عدت إلى تشيلي حينما كنت في
كاف من الحظ السيئ حيث العشرين للمشاركة في الثورة ،بقدر ٍ
لكل كاتب .عند هذه النقطة أود أن أقول على األقل عندما يتعلق األمر باألدب ،فأنا ال أومن بالمنفى ،إن المنفى هو مسألة أذواق
والشخصيات ،إعجاب وعدم إعجاب ،بالنسبة لبعض الكتاب المنفى يعني مغادرة منزل العائلة ،وبالنسبة آلخرين هو مغادرة
121
البلد أو المدينة التي نشأ بها ،وبالنسبة آلخرين يعد المنفى بصورة ً مناف تستمر مدى الحياة، تعمقا هو النمو والنضج ،ثمة أكثر ٍ بينما تستمر غيرها لنهاية األسبوع فقط« ،بارتبلي» (هو أحد أبطال
«هيرمان ميلفيل» في قصته الشهيرة «بارتلبي النساخ») الذي لم يكن يفضل الترحال كان مثالاً للمنفى المطلق ،كما لو كان كائ ًنا فضائيًّا على وجه األرض ،أما «ميلفيل» الذي كان دائم التنقل والترحال ،لم يختبر يومًا أو لم يتأثر سلبًا ببرودة كلمة المنفى،
أما فيليب ديك (روائي وكاتب أميركي ،توفي عام 1982م) فقد عرف
أكثر من أي شخص آخر كيفية التعرف على اضطرابات المنفى، وكان «وليام بوروزو»( كاتب وروائي أميركي اشتهر بروايات تتحدث عن المخدرات والشذوذ الجنسي ،توفي عام 1997م) تجسيدًا لكل
واحدة من تلك االضطرابات.
ربما كنا جميعً ا ،كتابًا وقرا ًء على حد سواء ،نعيش في
المنفى ،أو على األقل في نوع معين من المنفى ،حينما تركنا
الطفولة وراءنا ،األمر الذي من شأنه أن يؤدي إلى استنتاج مفاده
أنه ال يوجد شخص منفي أو فئة منفية ال سيما فيما يتعلق باألدب،
كل كاتب يصبح منف ًّيا ببساطة عن طريق الخوض في األدب ،وكل قارئ يصبح منف ًّيا ببساطة عن طريق فتح كتاب
روبرتو بوالنيو
ثقافات
جاء االنقالب بعد وصولي إلى «سانتياغو»
بأيام قليلة واستولى الجيش على السلطة، ً وأحيانا أفكر كانت رحلتي إلى تشيلي طويلة، لو أنني قضيت وق ًتا أطول في «هندوراس» على سبيل المثال ،أو انتظرت قليلاً قبل أن اإلبحار من «بنما» ،ربما كان االنقالب
ليحدث قبل وصولي إلى تشيلي والختلف
مصيري تمامًا.
على أية حال ،وبالرغم من المصائب
الجماعية ومصيبتي الشخصية الصغيرة، أتذكر األيام بعد االنقالب كأيام كاملة،
مكتظة بالطاقة ،مفعمة باإلثارة الجنسية ،األيام والليالي التي يمكن أن يحدث بها أي شيء ،ليس ثمة طريقة كنت أرغب أن يقضي ابني عامه العشرين بها ،لكن ينبغي ً أيضا أن أعترف أنه
كان عا ًما ال ينسى ،تجربة الحب والسخرية السوداء والصداقة
والسجن والتهديد بالقتل كانت مكثفة فيما ال يزيد على خمسة أشهر غير متناهية ،كنت أعيش فيها حالة من الدهشة واإللحاح،
كتبت خالل ذلك الوقت قصيدة واحدة ،لم تكن بنفس القدر من السوء مقارنة بالقصائد األخرى التي كتبتها في ذلك الوقت ،وكلها
122
كانت سيئة بشكل موجع ،عندما انقضت تلك األشهر الخمسة كنت قد غادرت تشيلي مرة أخرى ولم أعد إليها منذ ذلك الحين.
كان ذلك بداية منفاي ،أو ما يعرف عادة كمنفى ،على الرغم
من أنني لم أكن أراه على هذا النحو في الحقيقة .يعني المنفى ً أحيانا ببساطة أن يخبرني التشيليون أنني أتحدث مثل اإلسبان،
توماس مان
جيمس جويس
المنفى خيار أدبي
والمنفى في معظم الحاالت قرار طوعي ،لم يجبر أحد
توماس مان على الذهاب للمنفى ،كما لم يجبر أحد جيمس
جويس على الذهاب للمنفى ،وبالعودة إلى أيام جويس ،ربما
لم يكن األيرلندي ليهتم بالبقاء في دبلن أو الرحيل ،أو أن يصبح كاه ًنا أو يقتل نفسه ،المنفى –في أفضل الحاالت -خيار أدبي، على غرار خيار الكتابة ،ال أحد يجبرك على الكتابة ،يدخل الكاتب
المتاهة ً طوعا –ألسباب كثيرة بالطبع ألنه ال يريد أن يموت ،أو ألنه
يريد أن يكون محبوبًا ...إلخ -لكنه ال يجبر على ذلك ،في نهاية
المطاف فهو ليس مرغمًا سوى بقدر ما كان السياسي مرغمًا على الخوض في السياسة ،أو كان المحامي مرغمًا على دخول كلية الحقوق ،مع ميزة عظيمة للكاتب عن المحامي أو السياسي حيث
إن كليهما خارج بلدهما األصلي يميالن إلى التعثر مثل سمكة
وأن يخبرني المكسيكيون أنني أتحدث مثل التشيليين ،ويخبرني
خارج الماء ،على األقل لفترة من الوقت ،في حين يبدو أن الكاتب
المصائر التي اختيرت من قبل أولئك الذين ذهبوا إلى المنفى غالبًا
أخرى ،ماذا يفعل السياسي في السجن؟ ماذا يفعل المحامي في
اإلسبان أنني أتحدث مثل األرجنتينيين ،إنها مسألة لهجات .إن غريبة ،بعد االنقالب التشيلي في عام 1973م ،أتذكر أن عددًا قليلاً من الالجئين السياسيين شقوا طريقهم إلى سفارات بلغاريا
أو رومانيا على سبيل المثال ،في حين كانت فرنسا وإيطاليا هي
الدول المفضلة من قبل الكثيرين ،وبالرغم من ذلك كما أذكر، فقد ذهب علية القوم إلى المكسيك والسويد ً أيضا ،وهما دولتان مختلفتان تمامًا بحيث إنهما ربما استقرا في الالوعي الجماعي
التشيلي كاثنين من مظاهر الرغبة المتناقضة ،على الرغم من أن الكفة في ذلك الوقت كانت تميل نحو الجانب المكسيكي،
وبدأ العديد ممن ذهبوا إلى المنفى في السويد العودة إلى المكسيك ،فقد ظل غيرهم الكثير في ستوكهولم أو غوتنبورغ، وكنت أصادفهم حين كنت أقيم في إسبانيا كل صيف في اإلجازة، وكان التحدث باإلسبانية مذهلاً على األقل بالنسبة لي؛ ألنها كانت
اإلسبانية التي كنا نتحدث بها في تشيلي عام 1973م ،وال يتحدث بها الناس اآلن في أي مكان سوى السويد.
العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
خارج وطنه تنمو له أجنحة ،ينطبق الشيء نفسه على مواقف
المنفيون
المستشفى؟ أي شيء إال العمل ،وفي المقابل ماذا يفعل الكاتب ً أحيانا يعمل أكثر في المستشفى أو في السجن؟ إنه يعمل ،بل من المعتاد ،وناهيك عن ذكر الشعراء في ذلك الموقف ،وبطبيعة الحال ربما يرتفع زعم بأن المكتبات في السجن ليست جيدة ،وفي
المستشفى ال وجود لها غالبًا ،وربما يدفع في معظم الحاالت بأن المنفى يعني َف ْق َد الكاتب لكتبه من بين خسائر مادية أخرى ،حتى في بعض الحاالت فقدان أوراقه ومسوداته ومشاريعه ورسائله
التي لم تكتمل ،وما المشكلة في ذلك ،فأن تفقد المسودات أفضل من أن تفقد حياتك ،على أية حال ،فإن الفكرة تكمن في أن
الكاتب يعمل أينما كان ،حتى حينما يكون نائمًا ،وهو ما ال ينطبق
على المهن األخرى ،يمكن أن يقال :إن الممثل يعمل باستمرار، واع للكتابة ،في حين لكنه ليس بقدر الكاتب ،فالكاتب يكتب وهو ٍ
يكتفي الممثل بالنحيب ،تحت تهديد السجن ،رجال الشرطة دائمًا هم رجال شرطة ،لكن ذلك ليس متشابهًا ً أيضا؛ ألنه «أن تكون»
شيء و«أن تعمل» شيء مختلف تمامًا ،والكاتب يكون ويعمل في أي موقف ،أما الشرطي فإنه يكون فقط ،وينطبق الشيء نفسه
على القاتل المحترف والجندي والمصرفي والعاهرة ،ربما يقترب أي منهم في ممارسة مهنته من ممارسة األدب.
يعني المنفى أحيا ًنا ببساطة أن يخبرني التشيليون أنني أتحدث مثل اإلسبان ،وأن يخبرني المكسيكيون أنني أتحدث مثل التشيليين ،ويخبرني اإلسبان أنني أتحدث مثل األرجنتينيين ،إنها مسألة لهجات أحد ساكني جبال سايان
اصطدم اليوم بدرعي فألقيته ً أرضا خلف شجيرة وركضت حينما حمي الوطيس
بدت الحياة بطريقة ما أكثر قيمة لقد كان ً درعا جميل
عرفت أين يمكنني شراء درع آخر مثله ً تماما ،بنفس االستدارة
وقد كتب الباحث الكالسيكي كارلوس غارسيا غوال عن
أرخيلوخس :إنه اضطر إلى مغادرة الجزيرة التي ولد فيها ليكسب ُقوته بحربته ،كجندي مرتزق ،عرف أن الحرب ما هي إال عمل
الشاعر اليوناني أرخيلوخس من القرن السابع قبل الميالد،
روتيني مجهد ،ليس بوصفها مجالاً لألعمال البطولية ،حظي
نتصور أن حياته انقضت في التجول في مدن اليونان .وفي أحد
فيها كيف هرب من ساحة المعركة بعد أن ألقى درعه بعيدًا ،لقد كان انفتاحه على االعتراف بمثل هذا العمل المشين الف ًتا للنظر ،في
هو خير مثال على هذه الظاهرة ،حيث ولد في جزيرة «باروس»، وكان ً وفقا لألسطورة من المرتزقة ومات في القتال ،ويمكننا أن المقاطع التي كتبها ،ال يتردد «أرخيلوخس» في االعتراف بأنه في
خضم المعركة ،وربما في مناوشة ،أسقط ذراعه وذهب يجري، التي كانت بالنسبة لإلغريق عمو ًما دون شك أكبر وصمة عار، ناهيك عن الجندي الذي يكسب ُقوته اليومي من شجاعته في القتال ،ويقول أرخيلوخس:
بشهرة لنزعته التشاؤمية التي ظهرت في أسطر قليلة من النثر حكى
تكتيكات الهوبليت (مقاتلون في اليونان القديمة في القرن الخامس
قبل الميالد) ،الدرع هو السالح الذي يحمي خاصرة الجندي ،إنه رمز الشجاعة ،شيء ال يمكن أن يفقد« ،إما أن تعود بالدرع أو تهلك دونه» هذا ما كان يقال في سبارتا ،جل ما كان يهتم به الشاعر
الواقعي هو إنقاذ حياته ،لم يكن يهتم بالمجد أو ميثاق الشرف.
ساحة أرماس ،الساحة الرئيسية في سانتياغو ،عاصمة شيلي
123
ثقافات
من الشعر الهولندي المعاصر
ريمكو كمبرت..
وضع المجتمع في صلب قصائده تقديم وترجمة :صالح حسن -شاعر ومترجم عراقي
ريمكو كمبرت (1929م) أحد الشعراء المؤسسين في الشعر الهولندي الحديث ،والده يان كمبرت شاعر ً خصوصا قصيدته وكاتب ،اشتهر منذ أول ظهور له الذائعة الصيت «أغنية القتلى الثمانية عشر» .اعتقلته القوات النازية في أثناء الحرب العالمية الثانية ،ومات في معتقالتها وهو في سن األربعين .والدة ريمكو كمبرت « يوكيه بروديلت» هي ً أيضا من المشاهير ،فقد كانت ممثلة مسرحية ،ولعبت أدوارًا كثيرة على مسارح هولندا .انفصل والداه وهو في سن الثالثة ،فذهب ليعيش في بيت جده ،وفي سنة 1943م عاد ليعيش مع أمه في مدينة أمستردام .في سن السادسة عشرة ترك الدراسة مؤق ًتا ،وقرر أن يصبح كاتبًا مثل والده، وفي عام 1952م تزوج من صديقته فريدي روتخرز حيث َّ ودب الخالف بينهما ما عاشا في باريس مدة قصيرة، جعل فريدي تعود إلى هولندا لتعيش مع الشاعر خيرت كاونار وهو صديق كمبرت الحميم .بعدها تزوج أكثر من مرة ،لكن كل زيجاته فشلت؛ وهذا دفعه إلى الكتابة ً ورواية. عن هذه العالقات شعرًا
124
العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
شكل ريمكو كمبرت مع مجايليه لوشبير وكاونار وسيمون
فنكناوخ وبعض الشعراء اآلخرين من جيل الخمسينيات تيارًا تجريبيًّا ،ونشروا تجاربهم في نهاية األربعينيات عبر
مجلتي «براك» و«بلورب» كأصوات جديدة ذات اللغة
حضورا يحضر الموت في قصائد كمبرت ً طاغيا كما تحضر الحياة بكل صخبها ً وجمالها إذا كنت سأموت
الحية والتعابير المُ وحِ ية .أراد هؤالء الشعراء أن يكون الشعر حيويًّا واضحً ا وف ًّنا ب َّر ً اقا يعبِّر عن الحياة ،فعزفوا عن
آمل أن تكوني بقربي
إلى تحرير اللغة نحوًا وأسلوبًا ومزجها بالحواس ،ووضع
إلي ِ وأنت تنظرين َّ
الشعر التقليدي الذي كان سائدً ا في تلك المرحلة ،وسعوا المجتمع في صلب قصائدهم ،على أن تكون التجربة الذاتية
عمودها الفقري .ظل ريمكو كمبرت مُ خل ً ِصا لتجربة الشعراء الخمسينيين منذ ديوانه األول الذي صدر في عام 1951م حتى هذه اللحظة ،وفي هذه المختارات سيجد القارئ أن طريقته في تناول موضوعات قصائده لم تتغير كثي ًرا ،بل إنه في
قصائده األخيرة تحوَّل إلى الكتابة اليومية التي تتناول الواقع
كما هو ،لكن بطريقة تصويرية ولغة صافية كالماء الزالل. وألنه ملتصق بالواقع فإن موضوعاته تتناول الموت والحياة والطبيعة واألسرة ،وغالبًا ما تمتزج هذه الموضوعات بعضها
مع بعض إلى درجة ال يمكننا التفريق بينها تمامً ا.
يكتب كمبرت عن الحب ً أيضا ،وعن الفقد من خالل
تجاربه الكثيرة التي عاشها في أكثر من مكان وزمان في باريس
وانتفيربن البلجيكية ،وبعض المدن األلمانية الصغيرة التي
عاش فيها مدة قصيرة .كما أنه يكتب عن الحرب والحرية وال يفوته أن يعبر عن كل هذه األفكار بلغة واقعية شفافة تكاد تالمس الواقع المعيش أو تكاد تتطابق معه لكن بصيغة فنية ً أحيانا بقلب هذا الواقع من خالل اإلشارة تصويرية ،تقوم
إلى أحداث لم يتناولها الشعراء اآلخرون في قصائدهم وهي ً صالحة شعريًّا. األشياء المهملة التي لم تعد طغيان الموت
يحضر الموت في قصائد كمبرت حضورًا طاغيًا كما
تحضر الحياة بكل صخبها وجمالها ،وتحضر الطبيعة ً أيضا بنفس القدر .يتجسد الموت بفقدان األحبَّة واألصدقاء في
نصوص كمبرت كحدث ال بد منه وكقدر واقع على الجميع،
مراث طنانة عبر لغة سلسة لكنه يمر بهدوء وبدون بكاء أو ٍ ً تجعل من هذا الموت المرعب حدثا كغيره من األحداث اليومية كما في هذه القصيدة التي كتبها لزوجته ديبورا:
أنظر إليك
وأستطيع أن ألمس يدك.
عندها سأموت بهدوء
علي أحد.. ولن يحزن َّ ً محظوظا. سأكون
غالبًا ما تتجسد الحياة في الطبيعة ،وفي شعر ريمكو كمبرت
تمتزج الطبيعة بالحياة ،أو تصبح صورة أخرى لها عبر أنسنة األشياء والجماد والماء ،حتى الصخور السوداء تجد حضورها،
الحي: ويتم ّنى لها أن تكون صخورًا زرقاء من خالل الماء ّ ً مياها تالطم الصخور ال أريد
ً مياها تمضي إلى الصخور بل
الصخرة السوداء الجافة تصبح زرقاء،
صخرة ماء.
يعكس شعر ريمكو كمبرت حياة المجتمع الهولندي منذ
خمسينيات القرن الماضي إلى يومنا هذا من خالل تلقائيته
وتداعياته ولغته الغنائية الصافية ،ليس في شعره فقط، لكن من خالل روايته وقصصه ً أيضا .أصدر الشاعر كمبرت أكثر من ستين كتابًا في الشعر والرواية والقصةُ ، رجمت وت ِ ُ نصوصه إلى اإلنجليزية والفرنسية واأللمانية واإلسبانية، ً كثيرة في هولندا وبلجيكا على مجمل أعماله. وحاز جوائ َز ال يضاهى
في الصباح الباكر
سار شعراء كثيرون
عبر أمعاء المدينة المنهكة
125
ثقافات
بعيون حمقاء ومالبس مثل رايات مبللة
كفندق كبير
نساء مثل كنائس القرى
ومياه تشبه النبيذ..
ثملين بنظاراتهم،
126
فندق (ترمناوس) بنوافذ مفتوحة
ال يتعبن من الوقوف قرب رجال
في كل غرفة حيوان
سائقو الدراجات الهوائية يتساءلون
على األرصفة واألسفلت
إلى أين؟
دموعها الصباحية والضباب المتالشي
شرطة نحاسيين،
وعازف الهارمونيكا
ودرس منهجي عن الناس والرجال. بكت المدينة،
على الميناء حيث الحزم الزرقاء
من الدخان والدم
بعيون مثل أوراق الذهب
جعل الفضاء يتوهج بالناس.
كانت الشمس ِّ تلون المشهد.
من الضجيج والمحبة
وفم مفتوح رائع كالخريف
السير في الصباح الباكر
ساعات الشوارع قذفت األمراض
عبر المدينة،
الهواء طوى الخضرة فوق أيديهم
تحت أجنحة الشعر المظلمة
ومنازل (هاملين)* وزعت
يتحدثون حديث الريش
حدق بهم الفضاء. على سمعهم
الشارع كشف عظام أقدامهم
أطفالها في الطريق في الصباح الباكر
سار شعراء كثيرون
أضالعهم غنت إلى أقصى ما تستطيع
أجسادهم التي من أرائك وأحجار
العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
قبل أن تصحو الطيور والعجالت الشعراء الذين يعيشون مرة واحدة
ال يضاهون إلى األبد: ويطيرون بالزغب
يعيشون ويحاربون
بالكلمات التي تمنح األنفاس. * مدينة ألمانية.
ريمكو كمبرت ..وضع المجتمع في صلب قصائده
كنائس *
«في كل مكان»
ال تريد له أن يحلم بمعركة
مجزرة.
الكنائس ما زالت موجودة
ال يريدون ذلك؟ وأنا؟
ً دائما امرأة أو اثنتين يجد المرء
أكتب ورق الورد
أو من أجل جحيمهن الشخصي
ساخط مثل إغفاءة اللوز
باردة ً أيضا هي الكنائس
مثل رائحة ال تزول
ما زالت تبنى
تصليان من أجل األحفاد
صمت في الكنائس ً صمتا من رياح الطبيعة. أكثر صامتة وباردة
يقول الناس :إنها هادئة.
في ساعات اللقاء يمكن أن تغني. الكنائس في المدن والقرى مشتتة في البالد
أنا شاعر أكتب ورق الورد. ببطء يد مليئة بالغضب،
ولكنني ال أبصق. ً معلقا حولك سوف أبقى أبني من ورق الورد ً سجنا
وأخط كلماتي حوله كاألحجار.
أفكاري جرائم قتل. سوف أُنهي حياتي في قصيدة
مثل محطات تعبئة الوقود
وأترك سمائي فوق ساحة
أي شخص يمكنه
يتمدد الجنرال في سريره
وفي كل مكان
أن يلمع زجاج سيارته
صغيرة للحب.
بينما جنوده يرزحون،
ويمألها بالوقود ثم يدفع الثمن
هذه األمنية لي
ليطالع الجريدة.
يتخلل عقله وقلبه ويجعله خاملاً
ويمضي إلى داخل السيارة
حلم مثل غاز سام
* أصبحت الكنائس في أوربا فارغة مثل محطات تعبئة
حلم كالكراهية
إلكترونيًّا.
أكتب ورق الورد
الوقود الجديدة التي ال تحتاج إلى عمال ألنها تعمل
موقف
حلم ناعم.
في الليل ..نعم
أصنع اإليمان..
ينام الجنرال في فراشه متقلبًا.
ّ وأصم، أنا أعمى وأحمق والجنرال ً أيضا..
أرض الحكايات حيث (ليغسطور)*
حارسه ّ يئن بينما
والوحل الثقيل تحت قدميك.
نوما ً ً قلقا.
البعوض والصراصير والضفادع،
* نبات قوي الرائحة
حصان يصهل في إسطبل بعيد في أرض غير موجودة،
ما زال يبعث رائحته
الطنين يقلق نوم الجنرال
ألن جنوده يموتون، هو ينام
127
تقارير
عبدالقادر عبداللي.. ترجمان األلسنة يغيب في روايته األخيرة سامر إسماعيل
صحافي سوري
ال يعرف أورهان باموق كيف سيتدبر أمره بعد اآلن ،فقد غاب الكاتب ال المترجم ،ربما اختلط األمر
على األديب التركي ،ربما راوده السؤال :من فينا الكاتب ومن فينا المترجم ،أنا أم عبدالقادر عبداللي؟
سؤال ال نبالغ إن كرّسناه في هذا التقرير ،ملتفتين إلى إرث صاحب «اسمي أحمر» وقد دخلنا سوق النقاشين التركي ،حاملين معنا لغو األلسن وعجمتها ،فليس اللسان هنا شي ًئا أمام براعة تقليبه وتقمص
حركاته وأحرفه اللثوية ،ليست الشفاه وال مخارج الحروف وال نبرات الكالم وتصاعده وهذيانه ،بل هي
الترجمة بكل أبعادها الثقافية واالجتماعية والسياسية التي نقلها المترجم السوري الراحل من التركية إلى العربية ،ناقلاً معها أقصى خلجات أدبائها وأشد حاالتها المفارقة ،متمثلة في ترجمة السخرية.
128
مهلاً ..وهل نستطيع ترجمة السخرية؟ أجل لقد فعلها
عبدالقادر عبد اللي ،الذي انطفأ مؤخ ًرا عن ستين عامً ا قضى جُ َّلها في الترجمة ،ال تنطحً ا وال تطاولاً على أدب عزيز نيسين ،بل من باب معرفته بالشيء ،وغوصه العميق في الشيفرا الثقافية
التركية التي كان خبرها عن قرب أثناء دراسته فنون المسرح والمشهد في «جامعة المعمار سنان» في إسطنبول .من هناك
اقترب ابن مدينة إدلب (شمال غرب سوريا) من المعيش التركي، مقتحمً ا أسواقه وجلسات مثقفيه وشوارعهم ،مطلاًّ على الثراء
الحياتي للشعب التركي ،وناهلاً من معين حِ َرفهم وتقاليدهم
وطرفهم اليومية ،ليتبلور هذا الوعي ال باللغة وحسب ،بل بالكالم كمادة تصوغ الفكر والمنطوق ،وتوازن بين الفصيح والشعبي ،بين المكتوب والمحكي.
هكذا فعلها (عبد اللي) هو الترجمان الصميم الذي ما فتئ
يصيغ خيمياء اللغة على ميزان ذهب ،مص ِّدرًا أدب األناضول إلى ً كاشفا الحجاب عن روايات وقصص (نيسين) المكتبة العربية،
أورهان باموق
ناظم حكمت
تأليف هذه النصوص للقارئ العربي ،ال خيانتها بل توضيبها من
داخلها للنفاذ إلى ظرف زمان ومكان األدب التركي ،إن كان قصة أو رواية أو قصيدة.
صنعات أدبية وفنية
هذه الحرفة التي أتقنها (عبد اللي) كما يعرف الجميع لم تكن
ويشار كمال ،وخلدون طانر ،وإليف شافاق ،وذلك بعد أن ترجم
الوحيدة في رصيده؛ بل جمع المترجم الراحل بين صنعات أدبية ً مستنبطا وفنية عديدة ،فعمل بصمت على لوحته التشكيلية،
حكمت .تراجم حملت تلك التوازنات النصية المعقدة والمركبة
التي نستطيع أن نرى تقاطعاتها مع عبقريته في الترجمة،
العديد من أشعار تلك البالد ،كان رأسها األعمال الكاملة لناظم بسالسة ولين ،وجرأة فنية الفتة في إيجاد حلول لغوية وتراكيب
ماهرة ،سبك (عبدالقادر) عبرها جواهر األدب التركي ،منافحً ا عن
روح ساخرة ومريرة في البنية النصية التي قدمها ،مجاهِ ًرا مع كل
ترجمة يخترعها باللغة عن معين فياض ودفق ال نهائي في إعادة العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
ً مرادفا ألجواء أعماله التشكيلية زيت وزيتون مسقط رأسه ليكون وإدراكه الرهيف أن توزيع عناصر اللوحة وتوازنات بؤرها اللونية، وتوليف مناخاتها بين الرطوبة واليبوسة ،ال يقل ً شأنا عن مادته
األصلية في فن الترجمة الذي خبر دهاليزه ،مستوحيًا ذلك من تمارينه اليومية في الكتابة للصحافة ،مط ِّورًا بذلك ً نمطا جديدً ا
موسوعي يختفي
بهذا يكون عبدالقادر عبد اللي واحدً ا من هؤالء الموسوعيين
الكبار الذين اختفوا في عصور التخصص ،عصر ثقافة التخصص
تلك التي ك ّرست األميّة الثقافية ،وجعلت من ثقافة العمق ً قفصا ً مطلقا لم يكن هذا الكاتب والمترجم والفنان للمعارف الجزئية، والصحفي لينضم إليها ،غير قانع بمعارف التكنوقراط الجديدة،
عزيز نيسين
إليف شافاق
من المترجمين دائمي السعي نحو رشاقة الجملة والتنويع عليها
والخروج بها من سجنها اللغوي األم -إن صح التعبير -إلى لغته
العربية .لقد أبعد هذا الرجل مخاوف عديدة تكتنف الكثير من مترجمي العربية ،متك ًئا في ذلك على األديب الذي في داخله، فلم يكن تقنيًّا ينقل حذافير العبارات ميكانيكيًّا ،بل شدد على
روح النص ،مسترشدً ا بسيمياء عالية الجودة ،ليشتغل على
بل مثاب ًرا على الدوام على أبحاثه اللغوية العميقة ،مط ِّورًا معارف
اجتماعية من خالل معمله اللغوي والتشكيلي الذي أفل باك ًرا قبر بعيد من بالده في مدينة أضنة التركية. ليغيب في ٍ يبقى أن نقول ما وصل إليه عبد اللي كان ً غيضا من فيض أنشطته السياسية ،وعمله الدائب على تحقيق مطالب التحرر
والكرامة والعدالة االجتماعية ،وتشهد لذلك مقاالته الجريئة ونزعته الدفينة ببالد أكثر عدلاً ومساواة ،فالمترجم الذي أمضى سحابة عمره خلف أوراقه ونصوصه ،لم يكن يدعي أدوارًا لنفسه، بل كان عمله الف ًتا في ترجمة نتاج العديد من األدباء األتراك،
طزاجة غير معهودة في تنميق تراجمه وتخفيف غلظتها عبر االستعانة بعلوم اإلشارة والداللة ،لكن بعفوية نادرة ّ واطالع واسع على مرادفات الجمل والتراكيب ،وصولاً إلى الوقت الذي
اليسار ،مع ميله عقائديًّا لهذا األخير ،فال تحزب لتيار محافظ
قد ال نسوق مديحً ا هنا إن قلنا :إن (عبدالقادر) كان بحق
النص بري ًئا من كل هذه اإلحاالت واإلنشاءات العقائدية ،وهذا برأيي ما جعل منه مترجمً ا مستقلاًّ ،ولعله
أصبح فيه هذا المترجم األديب (شيخ المترجمين) من التركية إلى العربية ،محتلاًّ المرتبة األولى عند أدباء أتراك كبار ،آثروا أن يكون (عبد اللي) سفيرهم المخلص إلى لغة الضاد.
سفي ًرا فوق العادة لألدب التركي في العالم العربي ،ومرشدً ا نزيهًا لرواياته ،فالثقة التي حازها الراحل الكبير جعلت منه رجلاً
ومن المشارب السياسية كافة .من أقصى اليمين إلى أقصى وليبرالي أو شيوعي ،وال إهمال ألدب الهامش التركي ،بل كان المتن لدى عبد اللي هو النص ،بغض النظر عن اتجاهات ك ّتابه.
يستحق بذلك مناصفة باموق على ً عريضا نوبل ،ويفتح الباب
بحجم مؤسسة ،ال سيما مكانته التي انتزعها لدى األكاديميين
على حقوقه المهدورة
تجربة (عبد اللي) والتمحيص في مختبرها اللغوي الهائل ،الذي استطاع تنقية هذا َ الك َدر بين ثقافتينَ ،ل َطالما كانتا على طرفي
السياسية والثقافية
األتراك في بحوثهم الجامعية التي تعمل اليوم على دراسة
نقيض بفعل النزعات القومية والتاريخ االستعماري الطويل منذ االحتالل العثماني للبالد العربية ،فالجهود التي بذلها هذا
الرجل الموهوب لم تتوقف على لغة المنقول عنه ،بل دراية
لدى األوساط التركية التي لم تصنع ما
يليق بوداع رجل من هذا الطراز الرفيع.
ً منصاعا إلى جذور األسماء عميقة حصلها الراحل في لغته األم، واألفعال ،ومهندسً ا لكنايات واستعارات وتوريات حاذقة ،أعاد
ً خالصا إلى اشتغاالت عدة عبدالقادر إحياءها في النص المترجم، نقلته فيما بعد إلى ترجمة أعمال سينمائية ودرامية (أبرزها وادي الذئاب) إلى محطات البث العربية.
سفيرا فوق كان عبدالقادر عبد اللي بحق ً العادة لألدب التركي في العالم العربي نزيها لرواياته ،فالثقة التي حازها ومرشدا ً ً الراحل الكبير جعلت منه رجال بحجم مؤسسة عبدالقادر عبداللي
129
إصدارات
الكتاب :األسس الثقافية للتحليل النفسي السياسي المؤلف :بول روزان المترجم :سارة اللحيدان ،ويوسف الصمعان الناشر :جداول
يشرح المؤلف بول روزان أبرز مؤرخي حركة التحليل النفسي الصلة بين السياسة وعلم ِّ المنظرين السياسيين؛ أمثال ميكافيللي وروسو وبيرك وتوكوفيل قبل النفس في عمل
الفرويدية أو بعدها مثل إيزايا برلين .ويخص حنة آرندت التي رفضت أفكار التحليل النفسي بفصل منفرد.
الكتاب :إشكالية السلطة والدين في العالم العربي المؤلف :قاسم حسين صالح الناشر :دار العرب للنشر والتوزيع
ال تزال إشكالية السلطة والدين تثير جدلاً واسعً ا في العالم العربي ،يتحدد هذا في
الكتابات القديمة والحديثة؛ من نقد الدين إلى نقد النص ،إلى نقد العقل ،إلى نقد المشروعات األصولية والعقائد االصطفائية ..وسواها من أفكار وطروحات شائكة ،لكن المؤلف اختار أن
يقدم مقاربة جديدة عن «إشكالية السلطة والدين» تستند إلى (تحليل سيكوبولتك) ،يحاول
130
من خالله تفسير العالقة بين السياسي والديني عبر «تساؤالت محرجة». الكتاب :مبادرة الحزام والطريق المؤلف :وانغ ييواي الناشر :الدار العربية للعلوم
ً موثوقا لمبادرة الحزام والطريق المعروفة بطريق الحرير من يقدم هذا الكتاب تفسي ًرا
جانب البروفيسور وانغ ييواي ،وهو خبير متميز في القضايا الدولية .وهو يشير إلى أن طريق الحرير يجسد المنطق الكامن النفتاح الصين على جميع األصعدة ويمثل تحول الصين
مشاركة في العولمة إلى صانعة لها. األساس من كونها ِ
الكتاب - 1900 :مونولوج عازف البيانو في المحيط ِساندرو باريكُّو المؤلف :أل َّ
المترجم :معاوية عبدالمجيد
الناشر :منشورات المتوسط
قصة الكتاب كما رواها صديق ،عازف ترومبيت ،على شكل مونولوج ،عن داني
بوودمان ،عازف البيانو على متن عابرة المحيطات فيرجينيان ،تلك الباخرة التي كانت تتنقل
بين أميركا وأوربا محملة بأصحاب المليارات وبالمهاجرين في الوقت نفسه .وعلى متنها كل مساء ،عازف بيانو استثنائي ،صاحب تقنيات هائلة في العزف ،يعزف هناك ،لألغنياء
وللفقراء .يقولون :إن قصته مجنونة جدًّ ا ،وإنه وُلد على متن الباخرة ،وإنه لم يطأ األرض أبدً ا ،وال أحد يعرف لماذا!
العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
الكتاب :ذكريات ...سيرة لم تكتمل المؤلف :قسطنطين زريق الناشر :مركز دراسات الوحدة العربية
كتب قسطنطين زريق هذه الذكريات في األيام األخيرة من حياته .ولم تمهله األيام
ليتمّ ها كما كان ينوي؛ لذلك اقتصرت ذكرياته على أيام طفولته وشبابه ،ولم يحدثنا ،كما أشار ،عن مواقفه وآرائه ،وكيف تبلورت عندما نضجت وعالجت القضايا الكبرى لألمة
العربية ،ولم يحدثنا عن نضاله من أجل تنشئة جيل عربي ملتزم ،وتربية عربية رصينة، وواعية وفاضلة؛ لذلك فإن هذه الذكريات ،التي تنشر ألول مرة ،هي ذات شأن مميّز، فهي تلقي الضوء على مسيرة أحد أبرز المفكرين العرب في القرن العشرين ،وأثر التجارب
ني بها في هذه المسيرة. المريرة والهزائم والنكبات التي مُ َ
الكتاب :اإلرهاب كما نشرحه ألوالدنا المؤلف :الطاهر بن جلون الناشر :الساقي
يحاول الطاهر بن جلون ،في حوار عميق وحقيقي مع ابنته ،أن يجيب عن أسئلة كثيرة
تتبادر إلى ذهننا عند حدوث أي عمل إرهابي .ويستعرض تاريخ كلمة «إرهاب» منذ األحداث األكثر دموية في الثورة الفرنسية وصولاً إلى ما يشهده الوضع الحالي من انفالت األصولية
اإلسالمية من عقالها.
وأمام قلق ابنته التي تطالبه ببريق أمل بسيط ،يؤ ّكد ابن جلون أن الرهان هو على
التربية ،على أمل المساهمة في نشأة جيل من الشباب متح ِّرر من األوهام التي تجعله يصدّ ق أي شيء.
الكتاب :سجالت المحكمة الشرعية «الحقبة العثمانية» المنهج والمصطلح المؤلف :خالد زيادة الناشر :المركز العربي لألبحاث
يجمع الباحث خالد زيادة أعمالاً أعدَّ ها أثناء اشتغاله على وثائق محكمة طرابلس
الشرعية ،التي يبتدئ تاريخها في عام 1077هـ1666 /م .وانطلق في بحثه المستفيض من أن ّ تحتل موقعً ا ممي ًزا بين مجموعات الوثائق التي يمكن أن يستند وثائق المحاكم الشرعية
إليها المشتغلون بالتاريخ في الحقبة العثمانية ،مثل :الوثائق القنصلية والتجارية والكنسية وغيرها ،مع تميز وثائق المحاكم الشرعية باتساع موضوعاتها لتشمل جميع جوانب الحياة
االجتماعية واالقتصادية ،إضافة إلى حفظها ما كان يرد من عاصمة الدولة العثمانية من فرمانات ومراسالت.
131
كتب
المشترك والمختلف بين الديانات الثالث القاهرة
132
ال تكاد الديانات السماوية الثالث يختلف بعضها عن بعض في األطر األساسية لجميع المؤمنين بها ،فجميعها تعامل مع أتباعه بالمنهج نفسه؛ أنهم خير األمم ،وأنها خير الرساالت ،وهو ما منحهم ً نوعا من التميز عن التابعين ألي من هذه الرساالت األخرى ،لكنه ً أيضا وضعهم على طريق التصادم الحتمي مع اآلخرين ،كما جعلهم يبدون للمتابع من الخارج كما لو أن بعضهم َّ تأثر ببعض في حركات اإلحياء والعودة إلى األصول ،وفي مقدمتها الحركات السياسية التي قامت على مبادئ دينية. هذا ما انتهى إليه الباحثان هدى الفيتوري وعبدالرحمن
فرحات يف كتابهما املهم «التأثري اليهودي عىل الحركات
اإلسالمية -اإلخوان املسلمون والسلفية الجهادية نموذجان» ً حديثا عن دار أروقة للنشر بالقاهرة. الصادر يف هذا الكتاب استعرض الباحثان تاريخ الحركات
اإلسالمية السياسية ،مؤكدين أن التاريخ اإلسالمي ميلء
بالعديد من الحركات السياسية التي قامت عىل أسس دينية، يف مقدمتها حركات القرامطة والشيعة والخوارج يف العصور
الوسطى ،ويف العصور الحديثة ظهرت الوهابية يف الجزيرة العربية ،والسنوسية يف شمال إفريقيا ،واملهدية يف السودان، والدهلوية يف الهند ،لكن هذه الحركات لم تكن األساس الذي
قام عليه كتاب الفيتوري وفرحات ،فقد كان التعانق بني جماعة اإلخوان املسلمني والسلفية الجهادية أساس ظهور
جماعات الخروج املتوالية يف العصر الحديث ،بداية من الجهاد والتكفري والهجرة وصولاً إىل القاعدة وداعش وجيش النصرة، فقد كانت أفكار حسن البنا وسيد قطب الركيزة التي انطلقت العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
منها هذه الجماعات التكفريية يف سبعينيات القرن املايض ،وما
زالت تؤيت أكلها حتى اآلن يف الجسد العربي الذي تحلل من كرثة الخروق فيه.
الجماعات األكرث تشد ًدا
قسم الباحثان كتابيهما ثالثة فصول :درسا يف الفصل
األول ما سمياه مفاهيم الدراسة؛ إذ توقفا أمام مصطلحات
«الدين» و«األصولية» و«السلفية» و«اإلصالح» ،مقارنني بينها
من املنظورين العربي والغربي ،ففي الوقت الذي تعارف فيه الغرب أن كلمة أصولية تعود إىل املتمسكني بالتفسري الحريف
للكتاب املقدس ،سواء لدى الربوتستانت أو الكاثوليك ،وهو املفهوم الذي تحول إىل مذهب باسم األصولية املسيحية يف
بداية القرن العشرين ،وأخذ عىل عاتقه معاداة املجتمعات
العلمانية ،فإن املنظور العربي ال يكاد يوجد يف معاجمه اللغوية مقابل واضح لكلمة أصولية ،وكل ما هنالك هو كلمة «أصل»، وقد اختلف العلماء يف تفسري املصطلح؛ إذ ربط بعضهم داللته
بالبنية الثقافية التي تستخدمه كما فعلت رابعة جلبي ،لكنهم يف العموم ربطوه بالفضاء الديني وقصروه عىل الجماعات األكرث تشددًا.
يف الفصل الثالث سعى املؤلفان إىل إيجاد تماسات بني
الديانات الثالث وأتباعها فيما يخص العمل السيايس القائم عىل أساس ديني ،وكانت الصهيونية اليهودية أبرز هذه
أما مصطلح السلف فقد قصروه عىل القرون الثالثة األوىل
الحركات ،فقد نشأت يف البدء كحركة علمانية تسعى إىل
عرفها محمد عبده بأنها (فهم الدين عىل طريقة سلف األمة
بأن الشتات سيستمر إىل أن يظهر املسيح اليهودي ويطهر
من عمر الحضارة اإلسالمية ،ومنه جاء مصطلح السلفية التي
قبل ظهور الخالف ،والرجوع يف كسب معارفه إىل منابعها
األوىل) ،ومن ثم فكل ما يعود إىل هذه القرون هو من قبيل
السلف ،لكن هذا املصطلح لم تظهر بوادره إال يف القرن الرابع
الهجري؛ إذ ظهر من يغلبون ظاهر النص عىل التأويل والقياس
والرأي ،وكان أولهم اإلمام أحمد بن حنبل الذي يُعَ د حجر
األساس فيما عرف بالسلفية النصوصية ،تلك التي تطورت مع
ابن تيمية إىل السلفية العقالنية ،ثم جاءت السلفية النجدية عىل يد محمد بن عبدالوهاب ،التي رفضت البدع والخرافات
التي طرأت عىل اإلسالم ،لكن بداوة البيئة الحاضنة لها خلقت
ً نوعا من الحذر الشديد من املدنية ومفرداتها.
يف الفصل الثاين رصد الباحثان تطور فكر اإلسالم السيايس
وجماعاته ،بداية من جمال الدين األفغاين الذي سعى إىل إنجاز عمل سيايس عرب اإلصالح الديني ،وقد تأثر به مفكرون كرث يف
مقدمتهم تلميذه محمد عبده الذي جمع بني عباءة األزهر من
جانب وعباءة الفكر األوربي الذي عايشه مع أستاذه األفغاين، فقدّ م رؤية خرج منها من أراد التقدم عىل أساس الشك
إقامة وطن لليهود ،وهو األمر الذي يناقض املعتقد اليهودي األرض ويقيم العدل ويحكم ألف عام قبل أن تأيت القيامة،
لكن أقطاب الصهيونية وقادتها استطاعوا ترويض معارضيهم من الحاخامات واملفكرين اليهود املرتبطني بما جاء يف التوراة
والتلمود ،وساعدت الهولوكوست الصهاينة يف التفوق عىل
خصومهم الذين أضعفتهم املحرقة ،فتحول املعارضون إىل موالني متشددين ،ثم إىل حركات متشددة داخل اإلطار
الصهيوين ،هكذا قامت الدولة الصهيونية ،وهكذا تحول الجدل بني العلمانيني والدينيني إىل إقامة دولة تمزج ما بني
العلمانية والدين املتشدد يف إطار واحد. ً بعيدا من األصولية الغرب ليس
لم يكن الغرب ببعيد من الفكرة السلفية واألصولية ،فقد
نشأت الربوتستانتية عىل أساس العودة إىل النص اإلنجييل
فقط ،وال حاجة إىل تفسريات وتأويالت البابوات والكهنة، وانتصر الربوتستانت نظ ًرا لرغبة األمراء وامللوك يف تقليص
سلطات الكنيسة الكاثوليكية ،لكن الربوتستانت الثوريني
تحولت رؤاهم فيما بعد إىل تكلس حريف يف شرح النصوص
والتنوير الغربي؛ أمثال طه حسني وعيل عبدالرازق وعباس محمود العقاد وغريهم ،كما خرج ً أيضا املتشددون الذين رأوا
والتعامل معها ،وسرعان ما ظهرت جماعات أصولية تدعو إىل
رضا الذي فنت به حسن البنا ،فظهرت عىل يديه جماعة اإلخوان
يف الديانات الثالث هو اإليمان بأنهم خري أمة ،وأن فكرتهم هي
يف منهج السلف طريقهم القويم ،يف مقدمتهم الشيخ رشيد
املسلمني يف ظل سقوط الخالفة يف تركيا ،فغازل البنا امللك
فؤاد ومن بعده ابنه فاروق األول بأن يكون خليفة املسلمني،
لكن ثورة يوليو التي قامت عىل أكتاف الشيوعيني واإلسالميني معً ا سرعان ما انقلبت عىل الجميع ،فدخل اإلخوان السجون
التمسك الحريف بالنص ،وكان الطرح املشرتك لدى املتشددين
الفكرة الجامعة املانعة ،وأنهم نهاية التاريخ أو الديانات ،وأن
ما سيأيت هو املهدي أو املسيح الذي سينتصر عىل الظلم ويقيم العدل ،وأن النص ليس بحاجة إىل تأويل أو قياس.
هكذا تشابهت اليهودية مع املسيحية مع اإلسالم يف
وكتب سيد قطب كتابة «معالم يف الطريق» الذي استقاه من
البنيات األساسية املنتجة للمتشددين الراغبني يف إحياء أصول
بأفكاره الكثريون ،فظهرت يف مصر جماعات الجهاد والتكفري
القوية ،وهكذا كان الضعف والقلق وعدم الشعور بالرضا عما
أفكار أبي األعىل املودودي يف باكستان ،هذا الكتاب الذي آمن
الدين ،والعودة إىل السلف الصالح ،إلقامة دولة العدل آلت إليه حال الديانة وأتباعها هو الدافع نحو ظهور التشدد،
والهجرة والجماعة اإلسالمية والفنية العسكرية وغريها من ّ املسلح عىل الجماعات التي رأت يف السبعينيات ضرورة الخروج
والرغبة يف بعث السلف الصالح من مرقدهم عرب تمثل أقوالهم
ثم وصول اإلخوان إىل الحكم يف مصر عقب ثورة 25يناير،
بأن ثمة تأثريًا واضحً ا من اليهودية واملسيحية يف حركات
املجتمع ،وانتهى األمر بظهور جماعة القاعدة يف الثمانينيات، لكنهم سرعان ما فقدوه ألخطاء عديدة يف التجربة وعدم التماس مع أرض الواقع. ّ
وأفعالهم وطرائق تعاملهم مع الحياة ،لكن ذلك كله ال يقول
اإلسالم السيايس ،وإن كان ثمة تشابه يف املقدمات والنتائج
التي ظهرت مع أتباع كل ديانة.
133
كتب
أيضا من األمة».. «نحن ً المؤس َسة لفوبيا اإلسالم رصد عميق لآلليات ِّ نزهة صادق
134
باحثة مغربية
يحلل الكاتب المصري الفرنسي محمد مروان ظاهرة اإلسالموفوبيا من عمق واقع تمكن من الغوص في حيثياته بشكل عملي وجلي .فعندما قرر مروان نشر كتابه «نحن ً أيضا من األمة؛ لماذا يتوجب مناهضة اإلسالموفوبيا؟» (الصادر عن «منشورات الديكوفيرت» باريس 2017م) كان على علم عميق بالتغيرات الجلية التي عرفها المجتمع الفرنسي ،ولم يقتصر الفحص الدقيق على مستوى الساحة اإلعالمية والسياسية للظاهرة ،بل حاول تفكيك اآلليات المؤسِّ سة لفوبيا اإلسالم ،واإلجابة عن السؤال العميق؛ لماذا يجب محاربة اإلسالموفوبيا؟ ويتميز كتاب «نحن ً أيضا من األمة :لماذا يتوجب مناهضة اإلسالموفوبيا؟» بقدرته على رسم معالم مؤسِّ سة لدور ومصلحة المسلمين في محاربة العنصرية واإلسالموفوبيا؛ للخروج من الفخ الذي يحيط بالمجتمع الفرنسي برمته ،كما يمكن القارئ من تعرف وضعية فوبيا اإلسالم ومستوياته في النسق الفرنسي عن قرب ،وذلك من خالل خمسة فصول أساسية مع عناوين فرعية. سافر الكاتب محمد مروان في الفصل األول من الكتاب
المؤسسة الكاثوليكية لم يكن إال إليمانها بقدرة مبادئ الجمهورية
تشكل نموذجً ا للتعددية وللتنوع؛ فمن طفل ولد في باريس من
وقبل أن يسبر مروان في الفصل الثاني وعنوانه« :صراع الجمعية
والموسوم بـ« ليس تمامًا مثل اآلخرين» بالقارئ بين ثنايا قصته التي
والدين مهاجرين أب مصري وأم جزائرية ،إلى إطار وشخصية مهمة في المجتمع الفرنسي ،تمكن مروان من سرد قصته المتميزة التي توجت بالنجاح إليمانه بالدور المعرفي .في كل محطة يرصدها،
أكد مروان أن اختيارات أمه المستقلة لوضع الحجاب ،أو تدين أبيه، ما هي إال اختيارات شخصية ال تدعو إلى تحويل فرنسا إلى أرض اإلسالم ،بل هي قناعات تتفاعل مع السياق الفرنسي من منطلق
مبادئ الجمهورية التي تؤمن باالختالف وبحُ ِّريَّة االعتقاد والدين، ولعل ِذ ْكر الكاتب لتعلمه في المدرسة العمومية الكاثوليكية أبلغ
دليل على ذلك ،فعندما قررت أم مروان ،التي لها صالحية كبيرة وحرية في اتخاذ قرارات البيت ،بحجابها أو بغيره ،تسجيل ابنها في العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
على ترسيخ قيم التعايش.
الفرنسية لمناهضة اإلسالموفوبيا» أغوار الدور الرئيس الذي تلعبه الجمعية ،طرح في البداية أرضية مفاهيمية لمفهوم اإلسالموفوبيا، مشي ًرا إلى األعمال التي سبقته ومنها ،أعمال الكاتبين عبدالعالي
حاجات ومروان محمد ،وهو سوسيولوجي يحمل اسم الكاتب نفسه. كما أشار في هذا الفصل إلى أن الكاتبين عالجا ظاهرة
اإلسالموفوبيا (الخوف من اإلسالم) من منظور سياسي وثقافي
معرفي وسوسيولوجي غير مسبوق ،كما نسخا المفاهيم
المغلوطة لإلسالموفوبيا ،وبخاصة مفهوم الكاتبة كارولين
فوريست وباسكال بروكنر اللذين قاال :إن أصل مفهوم اإلسالموفوبيا يعود إلى عام 1970م ،وهو باألساس خلق لمنع
أي انتقاد لإلسالم .في حديثه عن «الجمعية الفرنسية لمناهضة اإلسالموفوبيا» التي يرأسها ،لم يقتصر مروان على رصد فلسفة
الجمعية والضرورة التاريخية التي فرضتها ،بل أكد على دورها
األساس في المجتمع الفرنسي الذي على الرغم من أنه ينبني على قوانين تحترم حقوق اإلنسان ،فإن ما يعيشه المسلمون من
عنصرية ،ال تتم معالجته باألهمية نفسها المحددة لخطورته؛ وهو ما يستدعي التدخل القانوني والحقوقي للجمعية لمتابعة
شكاوى المحكمة التي تتوزع بين العنف اللفظي والجسدي. اليسار والمسلمون
تتجلى أهمية مناهضة اإلسالموفوبيا في نزع القناع عن الثمن الذي تدفعه فئات المسلمين اجتماع ًّيا وسياس ًّيا وإعالم ًّيا؛ إذ ال يمكن حصرها في عالقات شخصية بين األفراد وعلى الرغم من ثقة اليسار في المسلمين فإن محمد مروان
يقول« :لم تكن تعيش تنظيمات اليسار في غالب األحيان نفس التوترات التي يمر منها المجتمع الفرنسي فقط ،بل تفاعلت معها
في الفصل الثالث الموسوم بـ«تعليمات حول تفكيك
من خالل ردود أفعال حماسية ،ويعد نموذج رئيس المجلس
ًّ خاصا في السياق الفرنسي ،وأكد من خالل العودة للتاريخ الذي
تاريخيًّا معب ًرا عن هذا التفاعل ،ففي 24ديسمبر عام 1980م أمر بول ً مخصصا لـ 320عاملاً ماليًّا .ويتضح في هذا الفصل، بهدم مبنى كان
األيديولوجيات المعادية لإلسالم» ،استطاع الكاتب توضيح كيف ً تاريخا أن األوضاع تغيرت لألسوأ ،على الرغم من أن لإلسالموفوبيا بصم عالقة المسلمين بالسياسات الفرنسية
البلدي (فيتري -سور -سين) االشتراكي بول ميرسيسا نموذجً ا
أن الكاتب تمكن من خالل هذه األحداث أن
أنه «ال يمكننا أن نكون متطرفين بما أننا
يوضح للقارئ أن تطور العنصرية وتصاعدها
يساريون» .وقد عبر عن هذه العالقة بكون
ضد المهاجرين والمسلمين ليست نتاجً ا
العديد من مسلمي فرنسا ،وبخاصة الفئة التي
إلعادة إحياء اليمين المتطرف كحزب ذي
تحيا في المناطق المهمَّشة ،التي تشكل فئة
أغلبية في فرنسا ،بل يعود إلى حقائق سابقة
األسد من مجموع مسلمي فرنسا ،يتعاطف
الوجود على مستوى الخطابات وتفعيلها ً أيضا ،وأن ما يعيشه المسلمون اليوم ما
مع اليسار نظ ًرا للتاريخ الذي جمع بين اليسار والمسلمين ،الذي يتجلى في التأطير اإلداري أو
االجتماعي لمنظمات المجتمع المدني اليسارية للمسلمين .وأضاف مروان أنه من أجل أسباب
هو إال استمرارية لتاريخ اليسار ،وما يعتري محمد مروان
خطابه من توترات حول موضوع اإلسالم
والمسلمين والهجرة.
سوسيولوجية محضة عاش مسلمو فرنسا تحت وصاية اليسار،
تتجلى أهمية مناهضة اإلسالموفوبيا في نزع القناع عن الثمن
عام 1980م ،نظ ًرا ألن هذا األخير منحهم شرعية في فرنسا ودافع عن
يمكن حصرها في عالقات شخصية بين األفراد ،األمر الذي خصص
ورحب عدد كبير منهم بتولي الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتيران الرئاسة
الذي تدفعه فئات المسلمين اجتماعيًّا ،وسياسيًّا ،وإعالميًّا؛ إذ ال
وجودهم ،وتميز بنشره لخطاب يؤمن باالختالف ويعترف بالجالية
له الكاتب محمد مروان الفصلين الرابع والخامس من الكتاب
التي كانت معبر تواصل بامتياز في تلك الحقبة ،من إلقاء خطابات
هابي المسلمين ،ومراجعة خطابات الدولة التي تثبت الفكر ال ُّر ّ ضد اإلسالم من خالل الخطابات السياسية ،وعلى سبيل المثال ال الحصر نجد خطاب مانويل فالز الذي َع ّد محاربة الحجاب «نضالاً
العربية ،حيث إن ميتيران تمكن من خالل التلفزة الفرنسية ،الوسيلة
بالغية متميزة أبهرت المتلقي المسلم ،ويعد الخطاب الذي ألقاه
في ندوة في جامعة السوربون من أهم رسائله ،حيث قال« :نحن
الفرنسيون وأجدادنا المتجذرون من جبال الغال ما هم إال مزيج من القليل من الرومان ،واأللمان ،واليهود ،واإليطاليين واإلسبان،
والبولنديين ،حتى العرب» ،وبذلك أكد الرئيس الفرنسي أن فرنسا
داعيًا الدولة الفرنسية للتدخل للحد من االضطهاد الذي يطول
حقيقيًّا للجمهورية».
ما يميز كتاب «نحن ً أيضا من األمة ،لماذا يجب مناهضة
اإلسالموفويبا؟» أنه ال يعد اعتذارًا ،وال هجاء وال حتى تصفية
تتميز بكونها بلد التعددية الثقافية بامتياز؛ إذ إن الثقافة الفرنسية ما هي إال خليط ،كما شكلت جملته الشهيرة هذه نموذجً ا متمي ًزا
برواية ،وال مقال ،هو مجرد محاولة للغوص في واقع فائِر ،ال
الكاتب أن التاريخ القوي بين اليسار والمسلمين ،يتجلى في إيمان
الكافية للتعبير على كل األصوات التي تسكنه ،وال يتحدث إلى
لمحاربة التعصب ومواجهة أفكاره التي تتبنى الحقد والكراهية .وبيّن األحزاب اليسارية بقدرة المسلمين على المشاركة السياسية الفعالة
التي تتميز بالموضوعية وباالستجابة الذاتية.
حسابات ،وهو ليس دعوة للعنف ،وال للسالم ،كما أنه ليس يتحدث فيه المتحدث باسم المسلمين ،كونه ال يتوافر على القدرة المسلمين؛ ألن ما يقوله يهم المجتمع الفرنسي كافة ،كما جاء
على لسان محمد مروان.
135
كتب
التقنية السردية والصوت غير الطبيعي في «موت صغير» مبارك الخالدي
ناقد سعودي
في البدء ال بد من التنويه بأنني ال أنظر إلى محيي الدين
ابن عربي في «موت صغير» للروائي محمد حسن علوان ،الفائز بجائزة الرواية العربية «البوكر» إلاّ كشخصيةٍ مُ َت َخيَّلةٍ ُت َ ول ُد وتحيا َ عالقة لها بابن عربي الكائن الصوفي عالم تخييلي ،ال وتموت في ٍ الحقيقي التاريخي .من هذه الفكرة المبدئية تنطلق محاولتي تحليل التقنية السردية في الرواية ،بدءً ا بتفحص السلوك السردي البن
وض ِعه في عربي كأنا /ذات ساردة ،لغايةِ التعرف على شخصيته ومَ ِ تصنيفات النظرية السردية للرواة ،ثم النظر إلى طبيعة العالقة بينه
136
كذات ساردة وكأنا /ذات مسرودة في عالم التجربة التخييلي في
الرواية -وتقصي تأثير تلك العالقة في تمثيله وتشكيل صورته. في أثناء سرده قصة حياته ،ال يظهر ابن عربي قط وهو يواجه،
ولو للحظة خاطفة ،أية موجة من الشك واهتزاز الثقة في تذكره لألحداث التي يرويها من قبل والدته إلى ما بعد مماته؛ وال يتوقف ً ّ ليحك رأسه كيما يستحث محتوى ذاكرته على االنثيال ،أو يقف ثانية
ً مرتبكا ومتلعثمًا بسبب ضبابية أو عتمة َغ َشت رك ًنا من ذاكرته،
ً متفقا بضمير المتكلم في التخييل السردي الواقعي التقليدي ،فجاء ً ً وعمقا مع مُح ِّددات ومواضعات السرد ومتسقا في معرفته حجمًا الواقعي؛ إذ ينحصر سرده في حدود ما يتهيأ له معرفته عبر تجربته
وحفرت فجوة في تتابع األحداث ،ليواجه بالتالي ضرورة التفكير في
الشخصية ،وما يقع في مدار إدراكه ،أو ما تسنح له فرصة معرفته
ما قبل تلك العتمة أو الضبابية بما بعدها .ال شيء من هذا القبيل ً ُ ذاكرة ذات قوة غير عادية، يحمل في رأسه يحدث ،فابن عربي سار ٌد
وزيادة في اإليضاح أضيف أن ابن عربي ال يشبه ،مثلاً ،ديفيد كوبرفيلد في رواية تشارلز ديكنز «ديفيد كوبرفيلد» ،الذي يعزو َّ كل
تجسير تلك الفجوة بشيء من الظن ،أو التخمين ،أو االحتمال ليربط
حتى كأنما األحداث التي يرويها كانت قد َنحَ َت ْت َن ْف َسها في ذاكرته نح ًتا ال يطوله االنمحاء والتآكل مع تقادم الزمن به. ُ ذاكرة ابن عربي قوتها ونشاطها ،على نحو خاص ،في تكشف
عن طريق آخرين.
ما تحويه حكايته إلى دقة مالحظته كطفل وإلى قوة ذاكرته .ي َ ُستش ُّف
من خالل تنويه ديفيد كوبرفيلد حرص ديكنز على تعزيز البعد
المحاكاتي الواقعي لحكاية ديفيد ولضمان استمرار التزام القارئ
التقديمات المشهدية للحوارات بين الشخصيات التي يبسطها أمام
بعقد «إيقاف عدم التصديق» .وعلى الرغم من احتمال خروج ابن
بضمير المتكلم .ابن عربي سار ٌد بضمير المتكلم َبيْد أنه يختلف عن
من خذالن ذاكرته مثل السارد فيها حين يروي تاريخ ميالد «بطلها»:
أعين القارئ ،كأنه سارد كلي المعرفة يخفي وجهه بقناع السارد
نظرائه بصفات وامتيازات السارد كلي المعرفة؛ لهذا السبب يختلف على سبيل المثال عن نظيره هاني محفوظ -الشخصية الساردة-
الذي جاوره في رواية محمد عبد النبي «في غرفة العنكبوت» على
قائمتي البوكر العربية الطويلة والقصيرة .هاني محفوظ سارد بضمير المتكلم ابتكره عبد النبي بمهارة إبداعية عالية على نموذج السارد العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
عربي من «المعطف» لنيكوالي غوغول ،فإنه غير مسكون بالخشية
«وهذا ما حصل :ولد أكاكي أكاكيفيتش في ليلة 22مارس ،إن لم
تخني ذاكرتي» (ت .الخزاعي .)11 ،إن ابن عربي سارد غير عاديّ ،
وصوت من األصوات السردية «الشاذة» والمتجاوزة للنمطين التقليديين (السارد بضمير الغائب ،والسارد بضمير المتكلم)؛ تلك ً «أصواتا غير األصوات التي يسميها برايان ريتشاردسون اصطالحً ا
طبيعية» في كتابه «أصوات غير طبيعية» (2006م) .في هذا الكتاب، يتناول ريتشاردسون تنظي ًرا وتحليل ما ُيم َِّث ُل من زاوي ِة رؤي ِت ِه إحدى
الخصائص األكثر أهمية للسرد الحداثي المتأخر والطليعي وما بعد الحداثي :خاصية خلق األصوات السردية ،وتشظيها ،ثم تركيبها (أو تكوينها) من جديد .بتعبير آخر ،يُع َنى ريتشاردسون في «أصوات غير طبيعية» بتقصي تحوالت السارد ،وتحوالت أدواره ووظائفه. ابن عربي السارد في «موت صغير» ُم َر َّك ٌب من السارد بضمير
ُ ُ ومعرفة ولسانه، الغائب والسارد بضمير المتكلم؛ له وج ُه األخير عيان لها ،كما ال يوجد أحداث ال يكون شاه َد األول ،وامتيا ُز سر ِد ٍ ٍ في المتن الحكائي أدنى ما يوحي بأن أخبارها وصلت إليه عن طريق
آخرين .بهويته المزدوجة غير الطبيعية هذه ،يلتقي ابن عربي مع ما سميتها الساردة المر ّكبة في رواية بدرية البشر «غراميات شارع
األعشى» ،التي تسرد بضمير المتكلم في خمسة من فصول الرواية،
وتنفذ إلى أعماق الشخصيات ووعيها ،كما ينفذ السارد العليم، ل ُتحَ ِّد َث عمّا يَعْ َتم ُ ِل في داخلها .إنها صوت سردي غير طبيعي ،هي األخرى ،في ضوء تنظير ريتشاردسون؛ وربما هي كابن عربي ،ممن
خرجوا من «معطف» غوغول.
وتمثل العالقة بين ابن عربي ساردًا ومسرودًا موضعً ا تتجلى
فيه سمة أخرى من سماته كصوت غير طبيعي؛ إذ يظهر في بعض
المواقف السردية كسارد «غير ثقة» أو «غير جدير بالثقة» ،وهو
ما يستدعي الحذر وعدم االنخداع في بعض ما يقول .ومنشأ هذه
الخاصية حالة التماهي واالتفاق شبه المطلق بين الذات الساردة والذات المسرودة .إن حالة التماهي هذهَ ،تحُ ُ ول ،إال في مواقف قليلة ،دون تشكل مسافة بين الذاتين تتيح للذات الساردة تأم َُّل نظيرتها في عالم الرواية ،وتقويمها ،والحكم على تصرفاتها .إن
انعدام هذه المسافة النقدية ،إذا صح التعبير ،واقترانها بحالة
التناغم ورضا الخارج عن الداخل أ َّديَا إلى ظهور مفارقات وتناقضات
ً مضاعفا لما وجد فيه ذريعة للسفر من إشبيلية إلى مراكش بزينب بمفرده ،مرغمًا زوجته ،رغم رغبتها في السفر معه ،على البقاء من
أجل االعتناء بفاطمة بنت المثنى .ال يكتفي السارد بمكة سببًا للجفوة بين مريم وابن عربي ،بل يتهم مريم بسحب حبها «مريم تسترد حبها وترحل بعيدًا» ،ويوسّ ع دائرة اإلسقاط لتشمل القدر «هكذا شاء الله».
ال مناص من دور المشيئة اإللهية في الحدث ،لكن السارد نفسه هو ُخرجُ مريم من الخطاب السردي ليضعها وراء ظهره .فبعد حديثه من ي ِ
عن الوداع الخالي من القبالت ،وغياب ناقة مريم وراء خط األفق،
يقفز السارد إلى المستقبل ليروي أنها ماتت بعد ست عشرة سنة في بجاية« :استأنفت الناقة سيرها بعد قليل وغابت في األفق .ولم أ َر مريم بعد ذلك إال في المنام .عادت إلى بجاية وأقامت مع أهلها ست عشرة سنة ثم ماتت وجاءني من يعزيني بها بعد أشهر طويلة». َ مستقبل الخطاب السردي من بهذا االستباق ،ي ُْفرغ السارد
مريم ومن موتها باستدعاء خروجها من الحياة إلى حاضر السرد ليتزامنَ ويتجاو َر في الخطاب مع خروجها من حياته كذات مسرودة.
بكلمات أخرى ،تتعرض مريم للكنس إلى خارج الخطاب ليخلو وجه ُ األفق مريم ،وي ُْخرجُ ها السارد لنظام بنت زاهر والحديث عنها .يغيّب
السارد عبر االستباق من الخطاب في لحظات .ال يستمر السارد إلى أن
يصل في سرده إلى موتها في موقعه في التسلل الزمني/الكرونولوجي
لألحداث ،بل ينتزعه من سياقه ويجره إلى الحاضر ليروي عنه في سطور قليلة ،لتصبح مريم بعد ذلك نسيًا منسيًّا إال ً طيفا في الحلم: «ولم أ َر مريم بعد ذلك إلاّ في المنام».
قبل زواجهما ،كان السارد يهيئ القارئ لحياة غنية أدبيًّا وعلميًّا
بين فردين متوائمين بوصفه مريم على لسان فاطمة بنت المثنى بأنها «أديبة خلوقة عالمة أريبةً ، وأيضا جميلة» .بيد أن الحياة الغنية ً إطالقا .فما المثرية أدبيًّا وعلميًّا للطرفين على السواء لم تتحقق يتحقق بالفعل هو غياب مريم األديبة والعالمة األريبة ،وحضور
بين تلفظات الذات الساردة وتصرفات وابن عربي وأفعاله في
مريم ،المرأة الجميلة والمهملة التي تسافر لمسافة طويلة بصحبة
بعض ما يحدث في الداخل .في هذا السياق أرى أن قصة زواج ابن
بموت ابنتها في الطريق؛ أو تحضر جسدًا يتغنى زوجها بجماله:
الداخل ،إضافة إلى لجوء ابن عربي في الخارج إلى تبرير وتمويه عربي من مريم بنت عبدون وانهيار زواجهما مثال مهمّ ومناسب
للبرهنة على تأثير العالقة بين الخارج والداخل في السلوك السردي لألنا الساردة ،وبالتالي في تشكل صورة ابن عربي كذات مسرودة. الخروج من الخطاب السردي
بعد قرار مريم بنت عبدون الرجوع إلى بجاية (المغرب) من مكة، يُعلق السارد أن الحب أو بعضه ال ينمو في أي بالد ،محملاً بالتالي
مكة المسؤولية عن افتراقهما «وهكذا أرادت لنا مكة» ،من دون أن ً لحظة ليتساءل ،مثلاً ،عن دور موت ابنتها في فتور يفكر في التوقف
العالقة بينهما ،وعن دور عوامل أخرى مثل إدراك مريم أنها أقل
أهمية في حياة زوجها من أوتاده ،زوجها الذي كان ابتهاجه بحملها
ابنتها وعبد سابق وآخر جديد إلى زوجها البعيد في مكة ،وتفجع
«أحببت مريم .ذقنها الحاد وعيناها الوثابتان وجسدها المائل لالمتالءّ ، وكفاها السمينتان اللتان كانت تخجل منهما»« ،ما أجمل
جسد مريم وما أنعمه وأصفاه...جسمها ريّان بسمنة خفيفة» .وبعد ْال ِتمام شملهما في مكة ،وفي أول خلوة بينهما بعد انتهاء العزاء بموت زينب ،يكون جسم مريم ً هدفا لعيونه المتفحصة« :خلوت
بها أخي ًرا فإذا بها تغيرت علي .زادت شحومها وكأنها لم تسافر
ولم تثكل» .والكالم عن مريم خاتمة الكالم في هذه المقاربة التي ربما أصابت بعض النجاح في تحليل التقنية السردية في «موت
صغير» واستكشاف طبيعة ابن عربي ساردًا ،وتبيان خصائص أسلوبه
السردي ،وتأثير عالقته بالذات المسرودة في تشكيل صورة األخير، وتحديد المالمح الفنية لسرده.
137
كتب
«بذلة الغوص والفراشة» جون دومينيك بوبي.. متخيلة ذاكرة منكوبة ترتحل في جغرافيات ّ هيثم حسين
سوري مقيم في بريطانيا وروائي كاتب ّ ّ
ّ يركز الفرنسي جون دومينيك بوبي في روايته «بذلة
الغوص والفراشة» على قوّة اإلرادة الكامنة لدى اإلنسان ،ودورها ً ّ غارقا فيها في رحلة حياته، تخطي المآسي التي يجد نفسه في ّ والمستجدات مهما وضرورة البحث عن سبل للتأقلم مع الوقائع
138
كانت قاسية أو مضنية ،وذلك في مسعى لعقد نوع من المصالح
ّ ً التندب بعيدا من مع الذات والعالم ،وتقبّل األمور كما هي ّ يستهل دومينيك روايته (منشورات والتحسر والتباكي والرثاء. ّ مسكيلياني ،تونس ،ترجمة شوقي برنوصي2017 ،م) بتظهيره
مشاعره وأحاسيسه بوجع يداهمه ،ورأسه مثل السندان، وجسمه كما لو أن بذلة غوص تقيده بالكامل .ينظر إلى غرفته حين يدخلها ضوء النهار ،يتمعن في صور أحبائه ،وما يحيط به
من ملصقات تشير إلى أحداث وتواريخ لها صدى في ذاكرته. يقول دومينيك الذي كان رئيس تحرير مجلة نسائية في باريس :إنه لم يحتج للتفكير طويلاً ليعرف أين هو ،ويتذ ّكر
أنّ حياته قد انقلبت رأسً ا على عقب قبل شهور حين تع ّرض
يطير في الفضاء أو عبر الزمن ،أن يرتحل إلى أرض النار أو فناء
قصر الملك ميداس .يمكن أن يزور المرأة التي يحب ،ينزلق إلى السرير بجانبها ويداعب وجهها وهي نائمة .بإمكانه بناء
لحادث سيارة ،وقبل ذلك لم يكن قد سمع بجذع الدماغ،
قصور في إسبانيا ،واالستيالء على الصوف الذهبي ،واكتشاف
الداخلي ،حين وضعتها أزمة قلبية حادة خارج اإلنسان ّ
يقول :إن عليه أن يؤلف داخل رأسه الصفحات األولى لرحلته المتخيلة الكتابية الخالية من الحركة؛ كي يكون جاه ًزا
وحينها اكتشف ما يصفها بالقطعة المحورية لحاسوب
الخدمة .أصيب الكاتب بمتالزمة المنحبس ،التي تكون عبارة عن حالة يكون فيها المريض برغم وعيه التام مشلولاً من كل عضالت جسمه ما عدا عضلة العينين .يشعر أنه بمرور ً ضيقا ،ويمكن للروح أن الشهور أصبحت بذلة الغوص أقل
ّ تتسكع مثل فراشة .يقول :إن هنالك الكثير ليفعله .يمكن أن العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
أطالنطس ،وتحقيق أحالم الطفل ومنامات الكهل.
عندما يأتي مبعوث ناشره ليأخذها عن طريق اإلمالء .يذكر أنه
يعجن كل جملة عشر مرات ،يحذف ويضيف ،يحفظ نصه عن ظهر قلب فقرة بعد أخرى .يحكي عن عزلته ووحشته،
وصدمته حين تمّ حمله على كرسي نقال ،واكتشافه عدم
السابقة ،ينطلق في عالم األحالم التي يبقي نفسه من خاللها
قدرته على الحركة والكالم ،وأن ال أحد رسم له صورة تامة لحالته ،ومن خالل األقاويل الملتقطة نحت لنفسه يقي ًنا
على صلة باآلمال التي يعقدها عليها لتسعفه في محنته
روحه الجامحة هيأت ألف مشروع أدبي وحياتي .يلفت إلى أن
دي مونت كريستو» أللكسندر دوما ،وكانت تلك الشخصية
بأنه لن يلبث أن يعود سريعً ا للحركة والكالم ،ويؤكد أن صدمته تلك شفته من أوهامه بالتماثل القريب للشفاء .صارت
األمور أكثر وضوحً ا .كف عن بناء المشاريع الوهمية ،واستطاع
أن يحرر األصدقاء من صمتهم ،وكانوا قد بنوا من حوله سدًّ ا
عاطفيًّا منذ وقوع الحادث. اختراع أبجدية
يخترع بوبي أبجديته الخاصة به ،يسرد أنه حين يبقى
وحيدً ا ويجن الليل ،وال يبقى من أثر للحياة سوى النقطة
الصغيرة الحمراء المنبعثة من التلفزيون المغلق ،وهي إشارة ً عشقا على سريان الكهرباء فيه ،يمتلئ
المريرة .يتماهى مع شخصية الجد نوارتييه في رواية «الكونت الحالة الوحيدة التي ظهرت في األدب تعاني متالزمة المنحبس.
ويجد أنه ما إن تخلص وعيه من العتمة الحالكة التي ألقى به
الحادث فيها ،حتى راح يفكر بالجد نوارتييه ،ومن ثمّ بدأ في إعادة قراءة الرواية مرة أخرى في خياله ،ليجد نفسه في قلب ً اعتباطا ،بل كان الكتاب ،ويذكر أنه لم يعد قراءة تلك الرواية لديه مشروع ،يصفه بمحطم للتماثيل ،يتمثل في إعادة كتابة
الرواية بطريقة معاصرة. ّ يعيد رسم صورة مدينة باريس في خياله ،كأنه يعيد اكتشافها من جديد وهو على سرير المرض ،يقول ّإنه يبتعد ببطء ،لكن بثقة ،مثل بحّ ار يتابع من
عرض البحر اختفاء الساحل الذي انطلق
لحروف أبجديته .حروف صامتة وصائتة
يحس بماضيه يتالشى ،ال تزال حياته منه، ّ
تتراقص ألجله بإيقاعات مميزة .أبجديته ّ ليتمكن من التواصل مع الخاصة كانت
القديمة موقدة في داخله ،ولكنها بصدد التحول شي ًئا فشي ًئا إلى رماد للذكرى.
الخارجي ،يصف األسلوب بأنه كان العالم ّ بدائيًّا جدًّ ا ،لك ّنه كان مجديًا وفعّ الاً .إذ ُتنثرَ
ويعترف بأسى ّأنه منذ أن استوطن بذلة غوصه ،قام برحلتين خاطفتين إلى باريس ،ويصف نظرته المختلفة ّ كل م ّرة
الحروف عليه بالترتيب إلى أن يستوقف محدّ ثه برمشة عين واحدة للكلمة التي
يوجب تسجيلها –عينه اليسرى هي ّ التحكم به من العضو الوحيد الذي يمكنه
وكيف ّأنها بدت كما هي ،لك ّنه هو الذي
جسمه– ثم يُك َّرر األمر نفسه لتحصيل األحرف التالية .وبعد
تغيّر وأصبح خارجها .يشعر بالفراشات ّ تحلق من حوله ،يشعر بأنّ روحه فراشة ّ تتنقل من زهرة إلى
النظرية تتمثل في طريقة االستعمال والدليل التفسيري .يشير ّ الشاقة ،إذ إلى الصعوبات التي كانت تكتنف عملية التدوين
قدر ما يبقيه على قيد األمل ،يتحدّ ى الصمم الذي يجتاح أذنه، ّ المتبقية لديه على السمع ،يقول: ويقوّي تلك الطاقة البسيطة
جهد يتحصلون على كلمة ،ثم مقاطع جمل واضحة .كانت
كان يرتبك بعض في حين يحسن آخرون اإلدراك ،ولم يكونوا
جميعً ا متساوين أمام شيفرته الخاصة ،طريقته بترجمة
ً أشخاصا كان أفكاره .يسوح في جغرافيا متخيلة ،يلتقي
يعرفهم ،يحاورهم في خياالته ،يتنقل من مكان آلخر بروحه المتماهية مع فراشة حرة في حركتها وحريتها ،يرى انعكاس
صورته في المرايا ،يكتئب وينتكب ثمّ يواسي نفسه ،يتعامل ً أحيانا مع شكله الجديد وحالته البائسة بنوع من السخرية،
يقول :إنه شعَ َر بغبطة غريبة مثيرة للتعجّ ب ،لم يكن منفيًّا ومشلولاً وأبكم ونصف أصمّ ومحرومً ا من الملذات كافة، ومختص ًرا في كيان قنديل بحر فحسب ،بل كان عالوة على ذلك كله بشعً ا. يصف ذاكرته بالمنكوبة ،يستعيد كثي ًرا من المشاهد
والتفاصيل والذكريات ،يحاول إحياءها بخياله ومواساة نفسه
من خاللها ،أو إبقاء نفسه على صلة بعالمه الماضي وحياته
جون دومينيك بوبي
أخرى ،يكون الماضي بالنسبة إليه حقل زهور رحب ينهل منه
ً أحيانا في المشفى، إنه بعيدً ا من الجلبة التي كانت تحيط به
وفي الصمت الذي استعاد كان يمكنه االستماع إلى الفراشات
الطائرة عبر رأسه .كان األمر يتطلب منه كثي ًرا من االنتباه
والتأمّ ل؛ ألنّ خفقات أجنحتها تكاد ال تدرك ،وأنه كان يكفي ّ ّ ليغطيهاّ ، تحسن وأنه ألمر مذهل ّأنه رغم عدم تنفس قويّ ّ
سمعه كان يسمعها أفضل وأفضل.
سينمائي يختم دومينيك روايته؛ التي تحوّلت إلى فلم ّ من إخراج جوليان شنايبل ،بتوصيفه حالته وهو يشرد في
تأمّ ل مناظر متخيّلة مستعادة ويغرق في التفكير ،يتساءل: «هل هناك في هذا الفضاء مفاتيح ألفتح بذلة غوصي؟ ّ خط ّ محطة وصول؟ عملة قوية بما يكفي ألشتري مترو دون ح ّريتي من جديد؟ يجب أن أبحث في مكان آخر .سأذهب ً إيذانا بانتهاء رحلته الحياتيّة وتح ّرر روحه إليه» .ويكون ذلك من قيود جسده.
139
كتب
مقهى صغير ألرامل ماركس..
محنة الشعر ..أم محنة األيديولوجيا؟ محمود قرني
140
شاعر وكاتب مصري
بقدر ما أنتجت الرمزية من التباسات، َ خفض فإنها أنتجت في المقابل نظامً ا للعالمات من سطوع الواقعية وغباء المحاربين باسمها. وفي الديوان الضخم ( 464صفحة) «مقهى صغير ألرامل ماركس» للشاعر أشرف يوسف الصادر بالتعاون بين داري العين وشرقيات ،يبدو أمر ً تعقيدا مما تصوره ماالرميه صاحب الرمزية أكثر أبرز بياناتها .فيوسف الذي استفاد تقريبًا من المذاهب الشعرية كافة في ديوانه يبدو على وعي تام بمرجعية تلك الهلوسات التي سارت شعرية الديوان تحت وطأتها ،فتشكلت على هيئة زمن دائري قوامه اللغة الهشة والمناخات الغرائبية، لكن هذا الزمن الدائري الذي يبدأ منه األلم وال ينتهي ال يسعى لعالج مرضاه ،بل يستقصي طاقات لوعتهم وبقايا ظاللهم التي تركوها في أماكن غارقة في عتمتها السحرية. وتبدو رسالة الشاعر هنا بين أعلى التعبيرات الكاشفة للكثير من زيف
الديوان اسمه ،تجوهر حول صورة مفارقة عندما ربطه الشاعر بأنه
كواحد من عشرات الحقائق العارية .وقد شكلت شعرية الديوان أكبر
كامل من الحروب العقائدية ،ومع ذلك لم تتجاوز تعبيرات تلك
لحظته .فالعصر الذي بدا متصالحً ا مع قضاياه الكلية بدا في الديوان افتضاح ممكن للمأزق اإلنساني عبر تلك التمثيالت التي استغرقها
ضمير المؤنث الذي غلب على معظم قصائد الديوان .وربما كانت درجات السخرية المتفاوتة من األيديولوجيا واحدة من أبرز تلك التعبيرات .فالمقهى الصغير ذو المالمح االعتيادية ،الذي حمل العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
مقهى «ألرامل ماركس» على ما تحمله التسمية من انتهاك لعصر الحروب كونها أحد تمثيالت انهيار اليقين .المقهى هنا لم يعد مالئمًا
لالعتراف بالحب ص ،382كما أنه يمثل «ذلك الركن المعتم» الذي يبدو الذهاب إليه قدرًا مقدورًا ص ،232وفي موضع أكثر جال ًء يقول
أشرف يوسف« :كيف أقتل اشتياقي الحار /لصوته في مقهى صغير
يدعى أرامل ماركس /ولست مهتمة على اإلطالق بهذا الماركس وال بأرامله» وسيتبدى ذلك ً أيضا في قصيدته «امرأة يهودية» التي يتعامل
فيها بخفة مماثلة مع ليون تروتسكي ص .199 مضامين أكثر سوداوية
لذلك ليس غريبًا أن يكون المفتتح الفاتن للديوان نعيًا لـ«مؤلف َ «تعال يا مؤلف الكتب/ الكتب» الذي يخاطبه الشاعر ممتل ًئا باالزدراء:
أيها الرجل المغرور /سآخذك معي في صياعة منتصف الليل/
وسأسليك بتلك الخواطر التي يقال :إنها حياتي» .إن انعدام الثقة في مؤلف الكتب هنا تجد معادالتها في مشاهد عدة تعكسها معرفية
تناثرت في أرجاء الديوان بين أسماء تمثل نو ًعا من الغوث بالنسبة
للشاعر مثل بول شاؤول ،ومحمود درويش ،وإدوارد سعيد ،جان
دمو ،وغيرهم ،هذا من ناحية .ومن ناحية أخرى بدت مضامين
الشاعر أشرف يوسف
السرد الشعري أكثر سوداوية من أن تحتويها لغة ،فتحولت تلك َ للعالم المعيش ولتعبيراته االستغاثات إلى نوع من الرفض المطرد
القدسية بالمعنى الصوفي .في الوقت نفسه بدت األجزاء التي
بشكل ظاهر في تلك التناصات المستخفة غالبًا ،بنصوص تاريخية
األول من الديوان وبعض القصائد األخرى مثل« :قري ،حلم بداخل
الثقافية التي تبدت في رفض الكثير من مقوالته ،وتبرز تلك التجليات مثل التوراة واإلنجيل وبعض المأثورات المنقولة عن فقهاء و ُو َّعاظ و ُكتاب وعوامّ ،وسنرى ذلك في المفارقة التي يرصدها الشاعر ص 290 عندما يقول :ال زال لديّ رأس يفكر /وقلب لشاعرة من بالد فارس
كأنه خريطة /ويؤمن على طريقته أن لويز فيديليو عاهرة /بخمسة فرنكات ولديها طريق واحدة لكسب المال /باإلكثار من الحديث عن
األخالق في الفن».
خلصت إلى الشعرية المحضة أكثر من فاتنة ،يتبدى ذلك في القسم فلم ،النشيد الـأول والنشيد الثاني». رمزية النص الجديد
وال شك أن الشعرية الطافرة ،الغنية والمكتنزة في ديوان
«مقهى صغير ألرامل ماركس» في تجاوزاتها وقفزاتها خارج األسوار
الواطئة التي ارتضتها لنفسها قصيدة النثر تبدو تعبي ًرا عن قيمتين
تتراوح شعرية ديوان أشرف يوسف بين السردية المحضة في
رئيستي ِْن لدى الشاعر أشرف يوسف .األولى :إدراكه أن رمزية النص
واألبنية ال سيما في «أتون وردة ألنثاه االفتراضية» ،و«وجوه يناير» وقصائد أخرى ،فبدت جزءًا فاعلاً في متواليته الشعرية ،كذلك
االستفادة من معظم القيم التاريخية على امتداد التراث اإلنساني، من هنا بدا الديوان مستفيدًا من غالبية المذاهب الشعرية دون أن
الديوان ال سيما في النشيد الثاني وفي قصيدته أساطير التي يقول
ثانيًا :تبدو قناعات أشرف يوسف بوظيفة الفن مرتبطة بشكل
قصائد ليست قليلة حتى بدا بعضها كأعمال قصصية رفيعة السرد
تبدت تلك المراوحات في الغنائية التي غلفت أجزاء ليست قليلة من
في مطلعها« :يا جبلنا العظيم أنا إيزيس العاشقة ،جئت ألمسح رأسي في ترابك وأشفي» ثم في قصيدة الفتى حيث التناص التوراتي
«يا ابنة جبل األطياب ،ياحبيبتي ،يا جميلة وزنجية ..كوني تقية»،
وكذلك أنسنة التشيؤ في قصيدته «كتالوج لغسالة كهربائية» ،ثم
االجتراءات اللغوية الفريدة في قصائد عدة أبرزها في قصيدة «نبية الليل» ص ،178وهي تمثل واحدة من مراتب التماهي في مدارج
شكلت شعرية الديوان أكبر افتضاح ممكن للمأزق اإلنساني عبر تلك التمثيالت التي استغرقها ضمير المؤنث الذي غلب على معظم القصائد
الجديد ال تعني تحويل الكائنات الشعرية إلى أوثان ،بل تعني
يعني ذلك فقدانه للرؤية.
ما بوظيفته االجتماعية رغم المناخات اإلنسانية المضطربة التي َّ تتخل تلك الشعرية عن تعكسها حركة السرد الشعري؛ لذلك لم
قارئها ،أعني أنها لم تمتهن حواسّ ه ،من هنا بدا وعي الشاعر متجاو ًزا
للكثير من التصورات المجانية التي أشاعها شعراء يؤمنون بمذهب
الفن للفن .وبقي القول :إن تلك المجانية التي بدت عليها استطرادات التخييل وكثافات الصور الشعرية في القصائد التي مالت إلى النثرية ً إخالصا للرمزية في صيغتيها الغربية والشرقية ،ولعل المحضة أكثر نموذجها البارز لدينا يمثله نص الشاعر اللبناني وديع سعادة لكنها
شعرية ،على أية حال ،لم تكن ناجزة لخصائص مؤثرة في مسارات قصيدة النثر الرتباطها بحالة تطهرية أقرب إلى الالهوتية التي عرفتها
لغة النثر الفرانكفوني في القرن الثامن عشر ،وربما لذلك تجوهرت شعرية هذا الديوان المهمّ في مواقع بعيدة من تلك القصائد.
141
نصوص
طرد بريدي إلى أقرب مكتب أعياد أشجان هندي
شاعرة سعودية
مرارة!
أغمس أصابعي علي أن َ كم مرَّة ّ النسيان؛ ريق في مرار ِة ِ ِ َ َ الزمن؟! ألقلب صفحة ِ علي أن أغمسها وكم مرة ّ جوف الجرأةِ؛ في مرار ِة ِ َ َ الطاولة ألقلب رأس الذكريات؟! على ِ
142
ضربة شمس
ُ الحارقة.. الشمس ُ ّ ُ المرور؛ تتوقف عند إشار ِة ال ِ ُ والحياة باردة!
ُ الصاخبة.. والمشاع ُر َ ٍّ ُ جليدي؛ خوف خلف تختبئ ٍ شمس هربًا من ضربةِ ٍ عاريةٍ من الصحّ ة!
لندن 2014م
لندن فبراير 2014م
اسم على غير ُم ّ سمى
ُ صانع األقنعة
أسمي ُت َ ك الحلوَ، ونقع ُت َ ك في الشهدِ مرارًا؛ تغيَّر اسمُ َ ك،
وطعمُ مرارت َ ِك
لمّ ا يزل يجرحُ حلقي! لندن أغسطس 2016م
ّ بريدي َط ْر ٌد
ُ سر ُ الزينة في زين ِتها، ف حين ُت ِ ُ وتصبغ األشجا ُر وجهَ ها األبيض، بالثلج ِ ِ
وشفاههَ ا بحُ مر ِة َ َ الكرَز؛ أُ ّ غل ُ بحرير ورديّ ، ف قلبي ٍ وأُ ُ رسل ُه دونَ طابع بريديّ ٍ
مكتب أعياد. أقرب إلى ِ ِ جدة 1مايو 2011م العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
تأملت طويلاً ُ َ صانع األقنعةِ ؛ وجوهنا البر َ َ ُ ّاقة الملوّنة يصنع وهو لاً ُ تأملت ُه طوي ، ُ تساءلت كثيرًا: و
لو َ ُ صانع األقنعةِ ؛ مات ُ سنعرف بعضنا البعض؟! كيف مارس 2017م
ُخصوصيّة
باب الحجرة األبويّةِ عند ِ النقوش الباليةِ ، ذات ِ ِ والجدران العاليةِ ، ِ
والساعةِ المُ ّ ذهبةِ التي
تسي ُر عقاربُها برتابة أبديّة
عكس الوقت؛ َ ف ّت ْ شت في جيوب الصمت؛ عن اللحظةِ التي
تحوّل فيها المفتاحُ ٍّ فوالذي قفل إلى ٍ
بنكهةِ الخصوصيّة! لندن 2014م
جينات
ُ القصيدة التي ُتغطي وجهَ ها، ويتصب ُ ّب َعر َُقها
خجل
ُ القصيدة التي ُتغ ّي ُر َ لونها، ومِ شي َتها:
تحسبًا ُّ ُ القصيدة التي أنفاسها، َتعُ ُّد َ
ّ وتتلف ُ ت ً خوفا؛
ال يَضمُّ ها ديوان، ُ توارث جيناتها ذاكرة! وال َت
لندن أغسطس 2016م
س ـ ـ ـ ـ ـ ٌّر على الجمر! ِ
فلمّ ا تدانى الغيمُ دندنَ وارتقىّ ، البرق من راحةِ َ َ ُ الق ْط ِر فسال تجلى؛ ٌ وإني ُ َ عليلة؛ فقالّ : مثل َ ُ ذلك لو يدري فقلت: ومال على نحري؛ الضلوع منازلاً ،وأَ َ ُ َ سكنَ آهات المُ ح ّبينَ في صدري. العشق الختا َر بي ِ َ
ُ فقلت له :عشقي ،ورُوحي ،وسيدي ،وقيدي الذي يسري بأوجاعهِ أسري،
وسرّي ،وبوحُ الور ِد إن جاء باكيًا؛ يُخب ُّئ لونَ البوح في ريشةِ ِّ الس ِر، ِ والضحى ،أنايَ َّ ، ُّ وأناتي ،وذاتي ،وال غيري: الشمس ،والعصرُ، وفجري ،ونو ُر ِ
الساكنات ُّ ُ َ َ ُ العطر الغريقة في الصباحات فدتك تلط ًفا، فدتك الليالي ِ ِ َ ُ عشق َ ك المخبوءَ في ِّ َف َد ْ هر خد زهر ٍة ت حقول الهوى الغافي على لوعةِ ال َّز ِ فدي ُت َ ُ صبر للصبر من اآلهات أبقت ك :ما أبقى النوى غير دمعةٍ ،وما ِ ِ ِ َ َ َ َ خلف الضوءِ خب ُ دونك ذا جمري. دنياك ّأت نارنا؛ فإن أظلمت لنرحل: جدة 2015م
143
مخطوطات
144
مخطوط :نزهة المشتاق في اختراق اآلفاق ،أو :روض الفرج ونزهة المهج. المؤلف الجغرافي المغربي :محمد بن محمد اإلدريسي الشريف (ت 560هـ).
العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
145
نسخة من القرن الثالث عشر الهجري .اشتملت على خرائط مصوّرة وملوّنة بألوان ّ عدة.
من مقتنيات مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية.
فضاءات
«اآلخر» لم يعد أجنب ًّيا..
مجرد مرايا متعددة لـ«أنا» مركَّبة 146
العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
يوسف بزي -شاعر وكاتب لبناني
في يوم ربيعي من عام 2007م ،كنا مجموعة
من ك ّتاب وصحافيين في روما ،نجلس على طاولة
رصيف لمطعم يهودي إيطالي ،متكئين على منزل من القرون الوسطى تقول دكنته وانطوائيته تلك العتمة
التي عاشتها أوربا مع الخوف والجوائح والحروب .لكنها
اآلن تبدو كديكور سينمائي رومانسي .وأمامنا على بعد
مترين ينتصب معبد روماني بجبروت عتيق وحجري، ّ يطل مشهد الفاتيكان الكاثوليكي .نحن ومن ورائه الزبائن« ،مسلمون» و«مسيحيون» ،عرب وأوربيون، على طاولة مطعم لعائلة يهودية ،يديره مهاجر مصري،
مسلم ،يتحدث اإليطالية والعربية .الفتاة الجزائرية
ال تجيد سوى الفرنسية (وال كلمة بالعربية) .الشابة اإليطالية تتحدث العربية بطالقة وباللهجة المصرية، اللبنانيان يفضالن التحدث باإلنجليزية .الصحافية الفرنسية تختار التحدث باإليطالية .والطاولة «حوارات»
وترجمات متبادلة .اليابانيون ،بالقرب منا ،اإلسبان ً أيضا ،األميركيون ُك ُثر ،جنسيات العالم تقريبًا في مئة
متر مربع ،حيث مهرجان اللغات -الثقافات ،من وراء األطلسي إلى قلب آسيا ،هنا في هذه المدينة المتوسطية .في ال ُّزقاق الضيق ذي اإلنارة الشاحبة كما لو أنه مضاء بالشموع. ونحن ال نفعل شي ًئا سوى تداول هذه «العجينة» من اللغات الخائنة لهوياتها.
حنان الشيخ
هيام يارد
في خريف عام 2016م ،كنا مجموعة من أربعة ك َّتاب هولنديين (منهم كاتب من أصل ليبيري) ،ولبنانيين ُك ُثر (بينهم كاتبة فرانكفونية)
وكاتب بولندي متخصص بالشؤون التركية ،وكاتبة هندية .على المائدة أربع لغات :العربية ،والفرنسية ،والهولندية ،إضافة إلى اإلنجليزية كلغة وسيطة ،ركيكة في األغلبً . أيضا ،ثمة ثالث لغات :البولندية
(والتركية) والهندية يحتفظ بها أصحابها .بين اللبنانيين الكاتب فادي
الطفيلي وزوجته الفنانة التشكيلية منيرة الصلح اللذان يعيشان في
أمستردام ويُت ِقنان اللغة الهولندية .الكاتبة الهولندية ديوك بوبينغا تدريسا وترجمة .يحدث أني عشت في متخصصة باألدب العربي، ً
ليبيريا وعملت في الكويت ،والكاتب الليبيري فامبا شريف الذي عاش في ليبيريا والكويت ً أيضا يقول لي« :هذه المرة ،اذهب أنت إلى هولندا ودعني أنا في بيروت ،هكذا نكمل الدائرة» .كان ترمب ،المرشح للرئاسة األميركية حينها هو نجم السهرة .القلق من الوجهة التي
ستسلكها أوربا بعد أزمة المهاجرين والبريكست البريطاني يسيطر على
األحاديث .الكاتب الهولندي الشاب مارتين كنول يفاجئني بالسؤال عن حركة «بيروت مدينتي»؛ كيف له أن يعرف بتفصيل محلي لالنتخابات
البلدية في العاصمة اللبنانية؟ مآالت «الربيع العربي» والكوارث التي َّ حلت بالشرق األوسط تختلط بالكالم عن رحلتي إلى «غوا» في أثناء
حديثي مع الكاتبة الهندية أوشا كونيغا راماسوامي .كنا نجلس على
شرفة مطعم هو باألساس منزل لبناني قديم بهندسة هجينة محلية وإيطالية وعناصر من العمارة الكولونيالية الفرنسية ،نطل على خرائب
بيوت حجرية باقية من زمن الحرب ،وعلى برج سكني حديث يشبه تلك النابتة في دبي أو هونغ كونغ« .هوياتنا» مسيحية (كاثوليكية،
بروتستانتية) ،وإسالمية (سنية ،وشيعية ،ودرزية) ،وهندوسية..
ومعظمنا على ما أظن علمانيُّو النزعة والقيم. وعود ليبرالية
بهذا المعنى ،كانت الطاولة نموذجً ا صغي ًرا عما حققته
الوعود الليبرالية في العقدين الماضيين :عولمة في القيم واألفكار
والمعلومات والحساسية األخالقية ،وهي اليوم مهددة بارتدادات عنصرية وشوفينية وأنواع من رهاب األجنبي والمختلف .المجموعة نفسها كانت في صباح اليوم ذاته قد تالقت ألول مرة ،داخل قاعة في
147
فضاءات
الجامعة األميركية ببيروت التي يعود تأسيسها إلى أكثر من 150سنة. والمدهش أن اللقاء كان فرصة ليس للتعرف إلى هؤالء الك ّتاب األجانب َ وحسب ،بل ً الكاتبة اللبنانية حنان الشيخ التي أيضا كي ألتقي ألول مرة
عمليًّا ،خالل العشرين سنة الماضية ،ورغم األحداث االستثنائية
ألتق به منذ عشرين عامًا .ربما هذا هو األمر :نحن ال نتعرف الذي لم ِ إلى اآلخرين بل إلى أنفسنا عبر اآلخرين .هم ً أيضا يفعلون ذلك .سرعان
بسرعة أكبر من القدرة على االستيعاب .وبعيدًا من السياحة عبر
عجينة لغاتنا ،كما فعلت على نحو مبهج الكاتبة اللبنانية الفرانكفونية
القول :إن منسوب الجهل باإلسالم وبالعرب بات أقل في الغرب،
تعيش في لندن ،والكاتب اللبناني عيسى مخلوف المقيم في باريس،
ما تجاهلنا خدمة الترجمة الفورية ،طالما أننا عفويًّا رحنا نتداول هيام يارد ،وراحت عباراتها تتقافز بين عربية ركيكة وفرنسية راقية
وإنجليزية متقنة .كذا كانت الكاتبة الهولندية ديوك بين عبارات عربية بلهجة مصرية وإنجليزية صافية.
واستشراء «نقد الحداثة» في الغرب (ما بعد الحداثة).
( 9سبتمبر 2001م ،غزو العراق ،واإلرهاب العالمي ،واألزمة االقتصادية.. إلخ) ،أجد أن السفر واإلنترنت خلقا َ ً وأحيانا عالمًا شديد التواصل، التكنولوجيا أو عبر المطارات ،وبسبب الوقائع الثقيلة الوطأة ،يمكن ومن جهة أخرى أصبح الغرب أكثر قربًا من العرب والمسلمين ،ليس فقط بسبب جاليات المهاجرين ،بل ً أيضا بسبب التعليم وحركة الترجمة وسهولة التنقل والتلفزيونات الفضائية واإلنترنت ،وأدوات
أتينا للقاء تحت عنوان «طرق الحوار» ،وكل منا لديه ما أسميه
التواصل الفوري ،والتعامل التجاري الواسع النطاق والمعاشرة
كأن نتلفظ بكلمات «االنفتاح» و«التسامح» و«التنوع» بوصفها عناوين
الذين باتوا اليوم وبسبب هذا الفزع تحديدًا «جهاديين» انتحاريين.
«أوراق اعتماد» كتلك التي يقدمها السفراء ،أفكار جاهزة بنوايا جيدة، للصواب السياسي والثقافي واألخالقي الذي يتوجب علينا التقيد به. وهذا صحيح وحقيقي تقريبًا في عالم الك ّتاب حول العالم ،فالمثقفون اليمينيون واليساريون والليبراليون وما بين بين ،بات لديهم «مرجعية»
ما بعد األيديولوجيات ،إنسانوية إذا صح التعبير .وعلى هذا النحو، كنا في اللقاء الصباحي نردد كل هذا الذي نؤمن به ،أي ّ ترفعنا على
148
الطريق ،هناك عند تقاطع بروز نخبة ليبرالية عربية بعد عام 2000م،
القوميات والفوارق الدينية والعرقية والثقافية ،نحتفل باختالفاتنا
بوصفها التنوع اإلنساني ومصدرًا للغنى الثقافي.
خالل ثالثين عامًا من تمرسي في العمل الصحافي واألدبي ،غالبًا
ما كان يتسم أي لقاء أوربي – عربي (شرق أوسطي تحديدًا) باستنفار سجالي ،يضمر شعور التفوق ّ من جهة وشعور الدونية من
جهة أخرى ،ويستحضر الماضي
االستعماري عند العرب ،والخطاب
االعتذاري عند األوربي (أو التبرؤ من التاريخ اإلمبريالي) ،عدا طبعً ا
منسوب الجهل باآلخر واألفكار
شبه اليومية ،إلى حد انتفاء المسافة على نحو أصاب الفزع أولئك ويمكنني االدعاء أن أيديولوجيا اإلرهاب اإلسالمي ولدت من شعور حقيقي بأن الحدود انتفت مع الغرب ،بالضبط كما حركات اليمين المتطرف في أوربا نهضت من شعور حقيقي بأن الحدود مع الشرق
انتفت .ثمة حرص عند متطرفي جانبي الحدود على إرث الكراهية
ً حرصا والعداء المتناسل ربما منذ الحروب الصليبية .هو ما أسميه على «البقاء في التاريخ» ،إعادة تدوير للماضي. األدب طريق إلى الحوار
أعود إلى ذاك الصباح في منتصف نوفمبر 2016م ،في حضن
يتسم أي لقاء أوربي – عربي باستنفار سجالي ،يضمر شعور التفوق من جهة وشعور الدونية من جهة أخرى، ويستحضر الماضي االستعماري عند العرب ،والخطاب االعتذاري عند األوربي
النمطية ووطأة «مركزية الغرب»
ومسألة الصراع العربي – اإلسرائيلي ..إلخ .وكان أكثر ما يغيظ المثقفين العرب هو أنهم مطلعون على أبرز نتاجات الغرب األدبية والفكرية
والفنية ،في حين –إذا استثنينا المستشرقين والمستعربين– ال دراية للكاتب األوربي عمومًا بما ينتجه العالم العربي أدبًا وف ًّنا وفك ًرا .ويضاف
إلى ذلك ،التفاوت االقتصادي واختالف نمط العيش والسلوك والمظهر والتقاليد واألعراف االجتماعية .كان هذا النوع من اللقاءات المغلفة
بالدماثة تتسم بالنفور والتكاذب أو الجفاء أو الحذر الدبلوماسي .أظن أن ذلك تضاءَل إلى حد كبير ،بزخم من حركتين كبيرتين حدثتا تحت
جناح «العولمة» :حركة الفكر ما بعد الكولونيالية في الغرب ،وحركة
الفكر ما بعد القومية في العالم العربي .التقت الحركتان في منتصف العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
الجامعة األميركية ببيروت .كل منا يقدم نفسه ويتكلم عن أفضل سبيل لـ«الحوار» ،أي تجسير العالقة مع «اآلخر» .وبإيمان ثابت،
الجميع تقريبًا يرى في األدب، ً طريقا رحبًا والقراءة ،والفن..
وواضحً ا لهذا الـ«حوار» .شخصيًّا،
أنتبه إلى أن اآلخر هو مجرد ذريعة
كي يحاور واحدنا نفسه ،يكتشف ذاته أكثر« .اآلخر» موجود طبعً ا، لكنه بات أقل َ آخروية بكثير مما كانه في الماضي .أقصد أن اآلخر فق َد ً خصوصا في األدب .ذاكرتي األدبية اختالفه ،فما من أحد أجنبي تمامًا، قائمة على قراءات معظم روايات أميركا الالتينية .ما من رواية أميركية بارزة إال وكلنا قرأناها (كل شعراء الواليات المتحدة منذ وولت ويتمان
الروائي لهم حضورهم في القصيدة العربية الحديثة!) .ويليام فوكنر هو ّ المفضل عندي .األدب الياباني ليس غريبًا ويمكننا أن نعدد 15روائيًّا يابانيًّا نعرفهم مترجمين إلى أكثر من عشرين لغة على األقل .نشأنا
على قراءة نتاج األدب الفرنسي ،واأللماني ،والتشيكي ،والروسي،
واإلسباني ،بل حتى العالمات البارزة في األدب الهندي واإلفريقي
«اآلخر» لم يعد أجنب ًّيا ..مجرد مرايا متعددة لـ«أنا» مركَّبة
والصيني ..إلخ .أقرأ في هذه
األيام رواية «فتيان الزنك» للكاتبة
البيالروسية سفيتالنا أليكسيفيتش.
ربما يجوز التحسر على الماضي
حين كان ثمة «غريب» و«إكزوتيكي»
و«أجنبي» ينبغي اكتشافه والتمتع
بسحر الغرابة والتعجب والدهشة. كل هذا خسرناه .العالم بات ً أليفا
عيسى مخلوف
إلى درجة محبطة .ما من جغرافيا َ مجهولة بعد اليوم ،وعلى األرجح ما من «محلية» صافية .حين َق َرأ ِت ُ َ نصوصها ،تلقفنا على الفور وعلى الروائية الهندية أوشا راماسوامي
نحو اعتيادي حيلتها األدبية وأسلوبيتها ومصدر تخييلها ومسعاها في استثمار اإلرث الديني واألسطوري في مواجهة الوقائع اليومية ومغزاها الدرامي .لم يكن «أجنبيًّا» نص مارتين كنول الكئيب ،السينمائي النزعة، ومنحاه الوجودي الغارق بأرق الوحدة والجوع العاطفي والفردانية
المعاصرة .شعرنا بألفة فائقة مع نص ويتولد جابلوسكي وهواجسه السياسية وسخريته الالذعة ،طالما أننا كأدباء من الشرق األوسط ال
نفعل سوى التفكير بالسياسة والسخرية ومقارعة الفساد واليأس.
فامبا شريف ،قرأ مقاطع من روايته ،المكتوبة بأسلوب يتقاطع فيه الذاتي مع التاريخي ،ونستوعب تمامًا تلك «المعلومات» التي يضمرها
السرد ووجهة الحكاية .نعرف تمامًا أن مأزق الهوية هو الحافز والعصب
في كتابته ..تمامًا كما في كتاباتنا .هكذا نحن جميعً ا ،أصبحنا أوالد «تقاليد» أدبية معولمةً .إذا ،ما من «آخر» لكن مجرد مرايا متعددة لـ«أنا» مر َّكبة ،باتت معتادة حتى على مستوى اللغة .منذ اليوم األول،
لزم األمر ساعة ،ودردشات جانبية في استراحة القهوة ،أو في أثناء الغداء ،مستأنفين السجال «الرسمي» الذي دار في الجلسات ،ال لكي نستعرض مهاراتنا الفكرية أو النقدية ،لكن كي ِّ نوطد لحظات
التواطؤ الشخصي ونحوِّلها إلى صداقة .هذا ما حدث لي مثلاً مع مارتين كنول ،حينها رحنا باستمرار ننتحي جانبًا بالحديث ،أو نختار الجلوس متجاورين .أو أن ننقسم في المساء إلى مجموعتين :مدخنين وغير
مدخنين .وتصير هذه الصفة «حزبًا اجتماعيًّا» .أو عندما ننتهي من يوم
حافل بالجلسات والنقاشات والقراءات ،وننقسم في سهرنا بين هواة
«الكارايوكي» والنافرين منه. عامل استيقاظ
أذكر أن إيمان حميدان ،رئيسة جمعية القلم الثقافية في لبنان، حين راحت تشرح لي مشروع استضافة ُ الك َّتاب األجانب في بيروت ضمن
برنامج «طرق الحوار» ،لم أكن مقتنعً ا كفاية بالجدوى الثقافية منه. لكن ،حدث في اليوم الثالث للنشاط ،حين ذهبنا جميعنا إلى مدينة َّ وتحلق حولنا في منتدى المدينة جمعٌ غفير من الجمهور ،من صور، بينهم طبيب هندي وزوجته ،وصاروا يناقشون الكاتبة الهندية والكاتب
أوشار اماسوامي
فامبا شريف
ربما يجوز التحسر على الماضي حين كان ثمة «غريب» و«إكزوتيكي» و«أجنبي» ينبغي اكتشافه والتمتع بسحر الغرابة والتعجب والدهشة .كل هذا خسرناه. العالم بات أليفً ا إلى درجة محبطة الهولندي ،عبر الترجمة الفورية ،انتبهت إلى «المعنى» من حضور
«الضيوف األجانب» .إنهم عامل استيقاظ .ما أن يأتوا حتى نجتمع
ونبدأ بالعمل الجماعي ،ونتواطأ على اإلصغاء وعلى تقديم أفضل ما عندنا ونشحذ همتنا ،ونبرز ما نظنه فضائلنا .بوجودهم تس َّنى لي ألول
مرة أن أصغي للشعراء اللبنانيين :فوزي يمّين ،ومحمد ناصر الدين،
وللكاتبات اللبنانيات :سحر مندور ،وحنان الشيخ ،وزينة الخليل، وهيام يارد .مرة أخرى« :األجنبي» ذريعة للتعرف إلى «الذات» .األفضل من ألفة الك ّتاب فيما بينهم ،هي األلفة الفورية بين الجمهور ُ والك َّتاب
ً خصوصا في المدن خارج العاصمة :طرابلس ،وبعلبك، الضيوف،
وصور ،وبعقلين ..ثم هناك في المدارس مع الطالب .ربما التعليم المتعدد اللغات في لبنان (الفرنسية واإلنجليزية والعربية) سهل األمر
كثي ًرا ،لكن ما نسمِّيه « Pop cultureالثقافة الشعبية» (السينما،
والتلفزيون ،والموضة ،الموسيقا )..ال تخلو من معرفة أدبية غير ً وأحيانا الخيال وطرائق مباشرة ،تسهم في توحيد الذائقة والمرجعية،
التعبير وقاموس المجاز .تجربة األسبوع من المعاشرة والقراءة ومشاركة الطعام والسجائر وتداول األفكار ..منحت ُ الك َّتاب الضيوف معرفة حسية ومباشرة من تنويعات األدب اللبناني ،من الحياة
اللبنانية .اكتسبوا دراية سياسية بالتعايش الصعب والمنازعات الخفية بين الجماعات والطوائف هنا ،وهو ما قد يستثمرونه ً أيضا في بلدانهم بمواجهة األسئلة الملحَّ ة اليوم في أوربا إزاء مسألة الهجرة والتنوع الديني والتعصب العرقي أو القومي.
بالنسبة لي ،كان مشهد روما عام 2007م ،الذي ذكرته في
البداية ،يتوِّج إنجازات الزمن المبتدئ منذ انهيار جدار برلين .ومشهد ِّ يشكل فِعل مقاومة ضد «تسونامي» االنعزالية بيروت 2016م،
المتفاقمة في كل مكان.
149
فضاءات
عن مستقبل قصيدة النثر العربية..
ً ثالثة أحتاج عينًا ألرى الغيب منذر مصري -شاعر سوري
150
لم أسأل يومً ا ،بالرغم من أنني أحد شعرائها ،الذين قضوا جل حياتهم يكتبونها ،ويدافعون عنها ،ويبشرون بها« :ما مستقبل قصيدة النثر العربية؟» إلاّ وأبديت بعض التردد ،لدرجة أبدو بها كأني غير راغب باإلجابة .ولكن ،مرة ،وأنا أحاول التهرب كعادتي ،بحجة أني لست الشخص المناسب لتقديم الجواب الشافي على هذا السؤال ،واجهني صديقي الشاعر عباس بيضون بسؤال آخر ،من النوع الذي يحار المرء مهما بلغت حجته كيف يرد عليه« :لماذا ال؟»ًّ . حقا ،لماذا ال؟! وها أنذا أفعل .ولكن ذلك لن يحول دون ذكري األسباب التي كانت تدفعني للتردد ،وهي مثلها مثل كل شيء نبرر به ما نفعله وما ال نفعله ،تنقسم إلى، أسباب خاصة ،داخلة بي ،وأسباب أخرى خارجة عني ،عامة، داخلة في الموضوع نفسه:
العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
الفرح ليس مهنتي ..والنقد كذلك :أولاً ،مشي ًرا إلى ظاهرة،
أن عامة المشتغلين في نقد الشعر عندنا ،هم الشعراء أنفسهم. عملاً بالقول الجاري« :أهل مكة أدرى بشعابها» ،فذلك يستدعي
أول ما يستدعي السؤال :ما إذا كان الشعراء حياديين عند الحكم على أنفسهم أو على نتاج أقرانهم؟ أو ما إذا كانوا مؤهلين؟ أو هل
يمتلكون الحق؟! وال أظن التذكير بمكانة ص .ت .كولريدج كناقد ،أو شارل بودلير ،أو بول فاليري أو ت .س .إليوت ،أو أرشيبالد ماكليش
صاحب كتاب «الشعر والتجربة» ،وغيرهم من الشعراء الذين ُعرفوا
بكتاباتهم التنظيرية والنقدية عن الشعر والشعراء ،يصلح كإجابة داحضة لهذه التساؤالت .ذلك أنهم ،كانوا أقرب إلى المنظرين لمدارس ومناهج ورؤى شعرية جديدة ،منهم إلى نقاد مختصين. كما أنهم أقرب ألن يشكلوا ظاهرة الفتة وليس قاعدة عامة.
عامة المشتغلين في نقد الشعر عندنا ،هم الشعراء أنفسهم ،وذلك يستدعي السؤال ما إذا كان الشعراء حياديين عند الحكم على أنفسهم أو على نتاج أقرانهم؟ أو ما إذا كانوا مؤهلين؟ أو هل يمتلكون الحق؟! استثنائي ،خرافي ،يملك المقدرة على معرفة الغيب ..ما أستطيع
االدعاء أني أعرفه ،هو ما مضى ،ما عبَر من أمامي وتنبَّهت له ،فقد كنت أردد قولاً ،ال أذكر من قاله« :ال أكتب إلاَّ عمّا رأيت وسمعت». وهو قول أصلح للقصاصين والرواة منه للشعراء. ً ثالثا -يحتاج البحث في مستقبل قصيدة النثر العربية ،متابعة
ً وحديثا ،من وفي المقابل لم أجد عند الشعراء العرب ،قديمًا
حثيثة ،ومن ثم معرفة واسعة ،لألنسال الجديدة التي تدخل مضمار قصيدة النثر في البالد العربية وخارجها ،األمر الذي ُشفيت منه وما
والعديد من كتبه حول الشعرية والحداثة وغير ذلك ،لم يقم بأي
يعنيني إن لم أقل كل ما يعنيني ،أما عن حرصي على االطالع على
أعطى شعر اآلخرين ما يكفي من الوقت والجهد ،للحد المطلوب من
الناقد .فأدونيس رغم الحجم الكبير لدراسته في «الثابت والمتحول» دراسة نقدية لشاعر ،إال بعض المقدمات لعدد من المختارات
الشعرية ،كمختاراته من قصائد يوسف الخال إصدار دار مجلة شعر 1962م .فجوهر عمل أدونيس حول الشعر تنظيري استشرافي أكثر
منه نقدي .وكذلك ،بطريقة ما ،الدكتور كمال أبو ديب .وعشرات
الشعراء العرب الذين إذا كان لهم مساهمات نقدية نظرية أم تطبيقية ،فهي ال تزيد عن كونها اجتهادات جاءت لتمأل الفراغ النقدي
الذي يشكو منه الجميع .أما بالنسبة لي ،أنا الذي يحاول اآلن معرفة
المآل الذي ستمضي إليه قصيدة النثر في المستقبل ،فيومًا لم أَ َت َن َّطع ألكون دارسً ا لحركة شعرية ما ،أو لجيل شعري محدد! ويومًا
عاد شغلي الشاغل منذ زمن ،فما أقوم بفعله اليوم هو أكثر ما ما يكتبه اآلخرون؛ األسماء التي أتابع تجاربها ألهميتها المؤكدة،
واألسماء التي يتناهى لي بعض التصفيق لها وهي تدلف الساحة، الشعراء الجدد الذين يتواصلون معي ،فلم يكن يومًا بدافع المقارنة
والحكم .وقد يستغرب المرء كيف له أن يجد مف ًّرا من إجراء
المقارنات والتوصل إلى ،إن لم يكن إلى أحكام ،فليكن إلى آراء،
إال أنني في الحقيقة أفعل هذا لمنفعتي الشخصية ،وبوجوه عدة، أهمها ،أني أغذي به ذلك المزاج الذي أحتاجه لالستمرار والمتابعة. مفرد بصيغة الجمع ..وجمع بصيغة المفرد
لم أعمل على جمع مقدمات ،أو معطيات ،أستطيع أن أستنتج
أول -ليس فقط ألني شفيت من حمّى قراءة كل شيء ،بل ألنه
فلطالما آمنت ببراءة الجميع ،وصدقت بما يسوقونه من مبررات
صحيحة عن واقع قصيدة النثر العربية .وهذا ما يمكن له أن يجعل
بواسطتها خالصة ما .وكنت دائمًا أفتقد القدرة على إصدار أحكام، وأدلة غياب .أما عن كوني ،مثلي مثل الكثيرين ،قد كتبت عددًا من المراجعات النقدية لمجموعات ولتجارب شعرية كنت أعرفها عن قرب ،بطريقة أو بأخرى ،فهذا شيء ،والقدرة على تقديم خالصات
أو تعميمات ،شيء آخر.
أصلاً ال يتوافر بين يدي ما يكفي أللقي نظرة متفحصة ولتكوين فكرة
من الكتابة في هذا الموضوع ،إن لم يكن قفزة في الظالم ،فهو وقوع في السياج الشائكة الكثيرة التي تقيمها الكتابة باللغة العربية التي
ينطق بها ما يقارب ثالث مئة مليون إنسان ،ولكن بنسبة أمية عالية، ونسبة قراءة متدنية لدرجة كارثية ،يتوزعون على عشرين بلدًا ،يتصل
ثانيًا -كنت أهزأ ،من بين األشياء الكثيرة التي كنت أهزأ منها،
بعضها ببعض على شكل سلسلة ذات حلقات مغلقة .فما يكتب في
اليمامة أو كاهنة معبد دلفي ،ومن أنهم يتمتعون بقدرة سحرية على
بلدًا متاخمًا له كسوريا ،وأغلب ما يكتب في سوريا ال يُع َرف إال في
من أن للشعر ملكة التنبؤ بالمستقبل ،كتشبه الشعراء بزرقاء رؤية ما سيأتي في الغد ،وأشياء أخرى من هذا القبيل .فيومًا لم أقرأ شاع ًرا عربيًّا أو غير عربي بلغ به الخبل ألن يقول« :سوف يحدث كذا، وتنبهوا من كذا ،في المكان كذا ،والزمان كذا» .ذلك أني ال أصدق ً إنسانا عاقلاً ،شاع ًرا كان أم غير شاعر ،يمكنه أن يدعي بأنه كائن أن
األردن ال يتخطى األردن ،فال كتب وال مجالت وال صحف أردنية تدخل سوريا .حتى في داخل سوريا ،البلد الذي اتصف باالستقرار لعقود
سنين طويلة ،ذي التطور االجتماعي والتقاليد الثقافية الفاعلة،
نجد أن شعراء مدينة حلب ،حتى أصحاب المجموعات الشعرية ً وأيضا في العاصمة دمشق منهم ،مجهولون في الالذقية وحمص
151
فضاءات
شارل بودلير
عباس بيضون
يصب فيها كل شيء ،إال إذا حدث وانتقل أحدهم حيث يفترض أن ّ
بل ً أيضا الروايات والقصص القصيرة حتى الكتب المترجمة ،أما ما
على نحو شخصي ،وبخاصة بعد أن تعففت دور النشر المهمة عن
يصلنا من مجالت ودوريات ثقافية ،ال أدري إن كانت توزع في أنحاء
على حسابهم عددًا ليس كبي ًرا من النسخ ،تضاءل في العقدين
فإنك سرعان ما سوف تنساه ،وذلك لكثرة األسماء ،الداخلة الخارجة
طباعة كتب الشعر إال لألسماء المستطيرة! وصار الشعراء يطبعون
األخيرين من ألفي نسخة إلى ألف ،ثم إلى خمس مئة ،ثم إلى ال أكثر من مئتي نسخة!! يوزعها الشاعر على أصدقائه وأقاربه وعلى ً وأحيانا على الشعراء الذين يستطيع الوصول إليهم شعراء مدينته،
الوطن العربي كافة أم ال ،فإنك حتى إن قرأت قصائد لشاعر ما،
في ساحة الشعر .وهذا ما حدث لي عندما كتبت عن الشاعر العراقي الراحل رعد عبدالقادر ،فقد ظننت أن قصيدته التي قمت بدراستها
في ر ِّدي على ما كتبه سعدي يوسف عنها أول عمل أقرؤه له ،مع أن
ً أحيانا للسفر بنفسه، في مدن أخرى ضمن بلده؛ األمر الذي يضطره
عددًا من قصائده كان منشورًا منذ مدة ليس بعيدة ،على الصفحة
بلد عربي مجاور ،فكيف إلى بلد عربي يأتي في السلسلة على بعد
ثانيًا -هناك اآلن ،ال بد من االستدراك ،مصادر أخرى متاحة
وغالبًا ما يكون من المتعذر عليه أن يقوم بذلك إليصالها إلى شعراء خمس حلقات!!
152
عالء خالد
سعدي يوسف
قاسم حداد
المقابلة لقصائد لي في مجلة نزوى العمانية.
لالطالع والمتابعة ،إذا كان لدى المرء الرغبة والوقت وجهاز كمبيوتر
وأحسب أنه قد حدث للعديد من الشعراء أن اجتمعوا في
موصول بشبكة اإلنترنت .مواقع ثقافية مثل موقع «جهة الشعر»
وهم لم يسمعوا بمجرد أسمائهم ،ثم إن كانوا قد سمعوا بهم
بإشراف ،ال أدري بماذا أصفه ،الشاعر والروائي والناشر العراقي
مهرجان ما مع شعراء عرب آخرين من جيلهم أو من جيل سبقهم، سما ًعا ،فهم ليسوا على أي اطالع على نتاجهم .فأول مرة سمعت باسم عالء خالد مثلاً كان عند لقائنا في مهرجان كافاال في اليونان عام 2002م ،أما جرجس شكري ،المصري اآلخر فقد عرفته فقط في مهرجان جرش عام 2004م .وال أخجل إن قلت في ذلك المهرجان
عرفت ألول مرة أن رئيس اتحاد الكتاب في المغرب هو الشاعر حسن نجمي ،ولم أستطع أن أحدد ما إذا كنت قد سمعت باسمه
في السابق أم ال ..في سوريا ال تستطيع أن تحصل على المجموعات الشعرية المهمة التي تميزت بها دار الجديد البيروتية ،في الثمانينيات والتسعينيات ،فكيف لك أن تحصل على أعمال لشعراء تونسيين أو
جزائريين أو يمنيين ،يومًا لم تقع عيناي ال في المكتبات السورية
وال اللبنانية على كتاب سوداني أو تونسي أو ليبي ،والسؤال هو :أال
يطبعون كتبًا في السودان وتونس وليبيا والجزائر والصومال واليمن
وقطر والبحرين على اإلطالق؟! وهذا ال يقتصر على الشعر وحده،
العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
الذي يشرف عليه الشاعر البحريني قاسم حداد ،وموقع «كيكا»
صموئيل شمعون ،وموقع عراقي آخر هو «اإلمبراطور» يشرف عليه شاعر عراقي آخر هو أسعد الجبوري وهناك ً أيضا عدة مواقع سورية جديدة مثل« :الجدار» و «ألف» و«أبابيل» و«أوكسجين» هذه كلها
يغلب فيها النتاج الشعري ،إال أن موقعً ا كـ«قصيدة النثر المصرية»
الذي يشرف عليه الشاعر المصري عماد فؤاد يسمح على نحو استثنائي باالطالع الوافي على حال هذه القصيدة في بلد عربي كبير تأخر فيه ظهورها نسبيًّا عن لبنان والعراق وسوريا ،حيث يتضمن ًّ ملفا عن كل من سبعة وستين شاع ًرا وشاعرة من األجيال الثالثة
الماضية للقرن المنصرم .كما أنه يتوافر على صفحات «الفيسبوك» عشرات المواقع الفردية لشعراء من كافة البلدان العربية. ً ثالثا -ما يربك هنا هو ،ليس الكثرة والتنوع فحسب ،بل أيضاً
مستوى النتاج ،التراكم الكمي الذي يبدو كأنه استطاع الهروب من ً الحقا حتمية أن التغير الكمي يؤدي إلى تغيير نوعي ،وكأن ما يأتي
عن مستقبل قصيدة النثر العربية..
ً سابقا ،أو كأن ال يقوم على محو ما أتى َّ كل شيء يبدأ بنفسه على نحو ما ،ذلك
رافقتهم حركة نقدية الفتة بالمقارنة مع
قصيدة النثر ،ال يعرفون توفيق الصايغ
في أفضل األحوال سوى بمتابعات
تطرقت للرواد على نحو أساسي ،فقد من جاء بعدهم ،أولئك الذين لم يحظوا
أني التقيت شعراء شبابًا كثيرين يكتبون
لمجموعاتهم الشعرية في الصحف
وال شوقي أبي شقرا وال عصام محفوظ وال حتى أنسي الحاج ،أما في سوريا فسليمان عواد األب الروحي لـمحمد
محمد الماغوط
شوقي أبوشقرا
والدوريات التي تصدر هنا وهناك ،تجمع ً أحيانا في كتاب ،وغالبًا ما تهمل .ولكن
ماغوط شبه نكرة ،وإذا كان عواد شاع ًرا ظهر في الخمسينيات،
منذ فترة وجيزة ،نتيجة لهذا النقص وهذه الحاجة بدأت تظهر بعض
مثل نوري الجراح الذي أصدر أعماله الشعرية بمجلدين سميكين
اتفق على تسميته أنطولوجيات شعرية صدرت كلها بلغات أجنبية.
فماذا يقال عن شاعر سوري آخر هو بدوره شبه مجهول في بلده، منذ ثماني سنوات؟ رغم ما يعرف عني من حرص على رؤية األشياء
من الزاوية الجيدة ،وتصديقي بأن الرسامين والشعراء والموسيقيين يشتهرون بفضل عد ٍد من أحسن أعمالهم وليس بأعمالهم كلها،
ورفضي لفكرة القراءة بهدف إصدار األحكام والبحث عن أدلة ،وذلك لحرصي بالمقابل على االستمتاع بهذا الفن الذي وصم حياتي، ً غارقا بشعور معاكس تمامًا ،أقرب للشعور بهدر الوقت أجدني
وإضاعة الجهد واألحاسيس ،منه للمتعة والفائدة ،وصولاً إلى الشعور باإلحباط والخيبة.
المحاوالت لرصد حركة الشعر العربي الحديث ،ومن الغرابة أن ما
ماضي األيام التي لن تأتي
ً انطالقا مما ذكرت ،يمكن أن يرسل المرء نظره إلى مستقبل
قصيدة النثر في اتجاهين مختلفين ،األول :هل سيكون لقصيدة النثر مستقبل؟ والثاني :ماذا ستكون عليه قصيدة النثر في المستقبل؟ كيف ستكتب؟ وبأية أشكال ستوجد؟ وأحسب أن البحث في كال األمرين على تكاملهما الصوري ،يشبه ًّ حقا الرجم بالغيب ،وبخاصة في بالد كبالدنا ،ال أحد ،حتى المنجمون ،يستطيع أن يخمن
أسماء كثيرة ،ومجموعات شعرية كثيرة كثيرة ،وقصائد
مستقبلها ،التي لم تجد في بحثها عن نقطة انطالق إال أن تعود
ذلك التراكم الذي ال يحتاجه أحد ،وقليلها يستحق أن يتوقف المرء عنده ،ويعيد قراءته محاولاً أن يبقيه في ذاكرته .ولكن ،ولكن ،يأتيني
العربية هو مستقبل الشعر العربي ،أو جزء من مستقبل الشعر
كثيرة كثيرة كثيرة ،نستطيع قراءتها هنا وهناك ،ال تصنع سوى
القهقرى لما وراء نقطة الصفر .وإذا اعتبرت أن مستقبل قصيدة النثر
العربي ،فكثي ًرا ما قرأت ،أن مستقبل هذا الشعر ،يتوقف أساسً ا
صوت ،وسؤال« :أليس هذه هي الحال دائمًا ،أليس دائمًا هناك تلك
على مستقبل اإلنسان العربي نفسه ،الناطق باللغة العربية .ثم يأتي
ً رابعا -أحسب أن أي محاولة تبصرية لمعرفة مستقبل حركة
بأنه ما دام هناك عرب سيكون هناك لغة عربية ،وما دامت هناك
القلة التي يُعوَّل عليها بأن تقوم بصناعة الفرق؟!».
أدبية ما ،تحتاج إضافة الجتهاد صاحبها ،وقدراته ،أن يتوافر لديه بعض المراجع والدراسات التي سبق وقدمت تصورًا ،صغي ًرا أو
ذلك االستنتاج ،الذي ال تعيبه عموميته بالقدر الذي تعيبه شاعريته، لغة عربية فسيكون هناك شعر عربي؟! ولكن ما نع ّده اليوم شع ًرا ونفكر فيما يمكن أن يكون مستقبله ،قد يختلف لدرجة يصير بها ف ًّنا
كبي ًرا لموضوع البحث .وهنا مرة أخرى ،تعترضنا إعاقة قاسية
من جنس آخر ،باختالف كبير في الطرائق واألدوات كما في األغراض
بحركة نقدية حقيقية ،نظرية وتطبيقية .مع اعترافي بأنه يساورني
الشعر وتزداد هامشيته ،حتى ينقرض .عندها يمد رأسه ذلك السؤال
في بدن الحركة الشعرية العربية الحديثة ،وهي عدم مواكبتها قدر كبير من الشك ما إذا كان الشعر العربي اليوم يدين ،سلبًا أم إيجابًا ،لهذا الغياب النقدي ،حيث أكتفي بترجمة بعض المراجع والمنطلقات النظرية التي مهَّدت لقصيدة النثر عالميًّا ،مع محاولة
بسيطة وساذجة لتأصيلها ،بوصف النص القرآني والسرديات العربية بأنواعها ،جذورًا لها .أما تطبيقيًّا فلم يزد األمر عن عدة كتب نقدية
يحتاج البحث في مستقبل قصيدة النثر العربية ،متابعة حثيثة ،ومن ثم معرفة واسعة ،لألنسال الجديدة التي تدخل مضمار قصيدة النثر في البالد العربية وخارجها
والمآرب ،ال بل قد يأتي يوم ليس بهذا البعد كما يبدو ،تزداد به عزلة الصفيق« :ومن قال :إن البشر ،ال يستطيعون الحياة بدون الشعر؟».
ففي العالم اليوم ،يولد ويحيا ويموت الماليين من البشر ،عربًا وغير عرب ،محرومين أم ّ مرفهين ،متخلفين أم متحضرين ،أكلة كافيار
أم نابشي حاويات قمامة ،دون أدنى اعتبار لوجود الفن التشكيلي أو المسرح أو ...الشعر .وبخاصة بعد أن دفع باألخير أصحابه الشعراء،
لسبب أو بدون سبب ،ليصير إلى هذه النصوص المربكة التي يتعذر فهمها وتقديرها إال من قبل أهل الكار أنفسهم ،أي أولئك الذين
بدوافع جيدة أو سيئة هم األقل مصلحة في هذه العملية.
153
فضاءات
بيت في الصحراء.. بح ًثا عن نقطة األصل كتابة :عالء خالد
شاعر وكاتب مصري
فوتوغرافيا :سلوى رشاد
فوتوغرافية مصرية
بدأت تتشكل رحلة عالقتي بواحة سيوة عام 1992م ،عندما لجأت إليها فارًّا من موت أبي
ومن مشكالتي النفسية التي أورثتني إياها عالقات المدينة وزحامها الذي يختزل الموت وآثاره، ويضيِّعه داخل ثنايا العادة والتكرار والملل والسأم .المدينة التي تختزل أي مسافة ،وتضعك في عراك مع حافة جسمك ،ومن دون أي براح إضافي ،تنتقل فيه أنت وحياتك ومشكالتك وموتك الشخصي إلى مكان جديد .كانت صحراء سيوة في مخيلتي هي المكان الذي ال مكان بعده،
وسأجد فيه نفسي ،كونه يقع في أبعد نقطة من مدينة اإلسكندرية ،على الحافة من كوني
154
الخاص ،والوصول إليه يعني أن أج ّر معي حياتي ولو لعدة أيام باتجاه هذه الحافة .كما كنا نتخيل صغارًا ،حافة الكرة األرضية ،التي بعدها يمكن أن ننزلق ،أو نبدأ من جديد.
العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
ثم دخلت في كتابي «خطوط الضعف» محاولاً تلمس
العالقة بين الصحراء ،أو الواحة ،بوصفها ملتقى خطوط الضعف بين عدة كتل صخرية ،وسيرتي الذاتية ،التي كنت أراها تمثيلاً جيدً ا لهذا التعريف؛ ملتقى خطوط الضعف لعدة
كتل صخرية تمثل ترسبات السلطة األبوية في تاريخنا .في تلك الزيارة ،والكتاب ،ركزت على فكرة «الزوال» التي تحوط هذا المجتمع الصحراوي؛ بسبب التحوالت المدينية وطرق
التحديث الخاطئة ،نتيجة للطريق األسفلتي الذي ربطها بالمدينة ،وأفقدها عزلتها التي حافظت على جوهرها آالف
السنين .وإن هذا التحديث الخاطئ ،سوف يقضى على الواحة،
وليس الصحراء ،أو على األقل سوف يؤثر في استمرارها، واستمرار أشكال الحياة فيها.
َتقادم ،ثابتة في َقدم وال ت َ الصحراء ال ت ُ الزمن ،ال يظهر عليها العجز ،المكان أيضا بال الذي ننسى فيه أعمارنا ألنها ً عمر ،كوالدة ُأولى ونهائية ،نقطة األصل األرضية التي جئنا منها ،تضع بيننا وبين مرور العمر ستارة من الرمال ،لتحجبه الطعام ،وهذا خلق مفارقات كثيرة .نصبح أصدقاء بقوة قانون الحياة واإلنبات ،وليس بالفعل .هذا الحق المكتسب ،لهم ولنا،
جاء بقانون سابق علينا فرضته الصحراء ،قانون الالملكية ،حتى
خالل زياراتي التي تكررت ،قل شعوري بالزوال ،وتعرفنا
في الوقت ،الذي يخضع للمصادفة والسمر والثرثرة والغناء والنميمة وقليل من أعمال الفالحة .هناك؛ ُّ كل ما تملك ليس
غرف ال مرئية للحشيش .لم نر بعضنا جيدً ا ،لكن استمع كل
ً دقيقا وربما من الصعب أن تجد س ًّرا ألحد أهالي الواحة،
هناك إلى أصدقاء بعدد شعر رأسنا ،تحدثنا أغلب الوقت في
الظالم ،أكثر من النهارات ،فوق رمال الصحراء الساخنة ،وسط منا لصوت اآلخر بقوة ،على أجهزة كشف الكذب القلبية ،وكوَّن
كل منا لآلخر مالمح من هذه الذبذبات .كل من نقابله من أهل ً صديقا لنا ،وله حق علينا ،ولنا حق عليه ،كما الواحة يصبح تملي أعرافهم .كل من نقابله ولو مرة واحدة يصبح علي لو جئت مرة أخرى أن من الواجب َّ
أسأل عنه وربما أشاركه
لك :ال الوقت وال المال وال الضحك وال األسرار.
جارحً ا؛ ال يعرفه الجميع ،ويتداولونه في جلساتهم بكل أريحية،
155
فضاءات
وال يعني هذا عالقة بالنميمة أو رغبة في تجريح صاحبهم ،ولكن تخطى «السر» حاج ًزا ما إنسانيًّا .أصبحت وظيفته أن يعري وال
156
عار في حكاياتهم به العديد من يكشف فقط .كأن جسد الواحة ٍ
الجروح التي ستظل تنزف من دون توقف أو اندمال .كل شيء مشاع حتى األسرار.
المكان الذي ال نعود مُ ميزين فيه طبقيًّا وجنسيًّا .تشعرك ِك لها ألنها ليست ً ً الصحراء بأنك مال ٌ وأيضا تشعرك ملكا ألحد،
كأن جسد الواحة عارٍ في حكاياتهم ،به العديد من الجروح التي ستظل تنزف من دون توقف أو اندمال .كل شيء مشاع حتى األسرار الصحراوي الذي يحجب أي إضاءات زائدة ،لكنه في الوقت
بأنها تملك كل شيء وأنت ال تملك شي ًئا .تتبادل معك كل صيغ
نبن هذا البيت حتى نفسه ال يحجب أضواء الحياة األساسية .لم ِ
قومي أو عنصري .يقول ويلفرد ثيسجر ،وهو أحد المتخصصين
يربطنا أكثر بالمكان .بيت الرمال الذي يوجد فقط في الخيال،
الملكية والسلب والوهب .وألنها بال حدود تذوِّب تمامً ا أي حس
في الصحراء العربية ،وأول من قام برحلة في صحراء الربع الخالي القاسية عام 1945م ،ولمدة خمس سنوات ،قال عندما عاش وسط البدو هناك« :لم أشعر بالدونية إال وأنا وسط البدو». جئتها منذ خمسة وعشرين عامً ا ً بحثا عن هوية ،أو باألدق
ً نسيانا لهاْ ، وأنستني واستوعبت غضبي ومنحتني بي ًتا ثانيًا من
اآلن ،منذ فكرنا فيه عام 2000م .لكن هذا البيت المؤجل أصبح ويكبر داخله دون أن ينهار.
أعرف تمامً ا أن هذا البيت ،لو بنيناه ،لن يكون ً ملكا لنا
وحدنا أنا وسلوى .سيشاركنا فيه كل السيويين من األصدقاء. نحن طارئون على حياتهم وصحرائهم ،وسيقتسمون معنا أي شبر باعوه من صحرائهم؛ ألنهم تحملوا ،هم وأجدادهم،
صعوبة العيش في الصحراء وعلى حوافها .هذا هو القانون
رمال ،ألجأ إليه كلما زادت الحياة من وطأتها .ذهبت وعدت منها مرارًا .واشترينا هناك ،أنا وسلوى زوجتيً ، أرضا وسط الصحراء
العادل للحياة .يعرفون وربما يضحكون في أكمامهم ،عندما
من نباتات وأشجار الصحراء والمدينة والعالم .كان هذا البيت
في النهاية لهم وألوالدهم ،أو على األقل سيقتسمونها مع أصحابها بوصفهم أحد الورثة األصليين؛ ألنهم األطول َ نف ًسا
بالقرب من تالل الرمال ،ونوينا بناء بيت سيوي بداخلها ،مع ً خليطا حفر عين للمياه ،ويحوطهما مساحة خضراء ،تخيلناها
بمنزلة البيت الصحراوي لتصفية النفس من متاعب رحلة الحياة بأكملها .دائمً ا ما نحلم بأن نقضي فيه سنوات مختلفة عن سنوات المدينة وضوضائها وأضوائها ،والدهون العالقة
بعزالتها .الصمت هناك يبتلع أي ضوضاء داخلية .الغشاء العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
يرون كل هذه األراضي واألمالك والفيالت المبيعة ستعود
في صراع الحياة واالستمرار ،والخاسرون من البداية ،الذين
تعرضوا لضغوط شديدة طوال حياتهم عوَّدتهم على أن يربضوا ويقرفصوا في انتظار لحظة االنطالق للقبض على الغنيمة ،مهما
زاد زمن القرفصة واالنتظار.
بيت في الصحراء ..بحثًا عن نقطة األصل
في زيارتي األخيرة لسيوة ،منذ شهر تقريبًا ،بدأت تتكون
ُ كنت أحمل نظرة جديدة غير تلك التي كونتها عن الواحة .ربما معي في حقيبة السفر في الماضي أسطورة «نهاية العالم»،
التي سيطرت على نظرتي تجاه الحياة ونفسي.
خالفت الواحة توقعاتنا ،ربما تغيرت أشياء كثيرة داخل لقد ِ
من اقترب منها ،فهو يقدم على مغامرة تستخدم هذه األفعال الخاصة :يرتاد ،يقتحم ،يغزو ،يعبر .كون الصحراء ً كونا منيعً ا مكتفيًا بذاته .وال يمكن أن تعيش عمرك غازيًا ،أو مقتحمً ا ،أو
مرتادًا ،أو عاب ًرا .إما أن تصبح أحد أبنائها ،وهو اختيار صعب للغاية ،أو ترحل كما يرحل الغزاة والمستعمرون.
نطاق الحياة اليومية ،ولكن ال يزال هناك فالحون يقضون النهار
عندما سافرت إلى سيوة للمرة األولى عام 1992م كنت أبحث
عربة الكاروصة التي يجرها حمار .ما زال هناك أطفال يلعبون
تحول لحزن شفاف ليس له مركز محدد ،يمكن أن يذوب وال
كله في األرض ،ويعودون مع مغرب الشمس إلى بيوتهم فوق في عتمة الحواري المتربة وال يحلمون إال بالذهاب مع آبائهم للحقول والعودة معهم مع المغارب فوق «الكاروصة» التي تهتز
باستمرار ،وتتحول لمرجيحة ألحالمهم الطفولية .ومجرد عدو
بعضهم وراء بعض ،وإثارة التراب ،ومالمسة أقدامهم الحافية؛ أحد مصادر سعادتهم .ولم ينعزلوا بعد في غرف أمام شاشات مضيئة أو ألعاب رقمية.
ما زالت في هذه المدن القديمة عناصر استقرار وبقاء ً أحيانا على عناصر التحول والتغيير والمسخ. تعادل أو تتفوق هناك شيء قديم وجوهري في المكان هو الذي يحافظ على
ذكريات وآثار الناس ،شبيه بالعنصر المشعّ في االنشطار النووي
الذي يقضي عمره كله في نشاط ،وربما لن يدرك لحظة هموده، ربما الصحراء نفسها هي هذا الشيء القديم والجوهري.
الصحراء فضاء الذي ال يقبل التحول ،لتم ُّنعه وصعوبة
السكن فيه .إنه لإلقامة المؤقتة العابرة ،مهما طال زمنها .كل
عن عراء يهزم حزني المديني والمكرر .لم أفقد الحزن هناك لكنه
يكون به سواك .كل ما كنت أهرب منه :الحزن ،الموت ،الملل،
الزهق ،تضخم ذاتي ،الفقد؛ وجدته هناك ،لكن مصحوبًا بسعادة إضافية بعد أن ُص ِّفي من شوائب المدينة ،بعد أن عاد ألصله الكوني مجردًا وذائبًا في فضاء ال تصنيفات طبقية أو عمرية أو اجتماعية له .من دون ملوثات المدينة وأفكارها المنصبة على الصراع والخناق والتنافر والتزاحم والصعود
الطبقي .عاد الحزن هناك مثل الرمح المسنون حادًّا وواضحً ا وصريحً ا ومؤلمً ا ً أيضا.
الصحراء ال َتقدُ م وال َتتقادَم ،ثابتة في الزمن ،ال يظهر عليها العجز ،المكان الذي ننسى فيه أعمارنا ألنها ً أيضا بال عمر ،كوالدة أُولى ونهائية ،نقطة األصل األرضية التي جئنا
منها ،تضع بيننا وبين مرور العمر ستارة من الرمال ،لتحجبه. ُحسب بحركة الكثبان ،بنمو الهضاب والسهول، العمر داخلها ي َ
بتآكل الجبال ،بلمعان عظام الحيوانات التي نفقت بها كأنها
157
فضاءات
عظام بالستيكية ،بتحول الصخور إلى صخور ملساء يمكن
158
أن تغني ،بدوران الريح ،باالنتقال من نقطة إلى أخرى داخل هذا الكيان غير المحدود ،بصورة البحر المعكوسة بداخلها، بالغرق والتيه وسط بحر الرمال .الكيان الذي يمتد عمره قبل ميالد اإلنسان ،لذا هو يسبق في ذاكرتنا نقطة األصل حيث
وُلدنا ،إنه الستارة الرملية التي تقف خلف نقطة األصل مثل
شالل من الرمال .الموت بدون جثة أو شاهد ،هذا االتساع
الالنهائي هو الشاهد .البصر يسقط من التعب قبل أن ينتهي األفق ،قبل أن تكون النهاية.
من دون ملوثات المدينة وأفكارها المنصبة على الصراع والخناق والتنافر والتزاحم والصعود الطبقي .عاد الحزن هناك مثل الرمح المسنون حا ًّدا أيضا وصريحا وواضحا ومؤلما ً ً ً ً سوى نفسها ،وال تمتلئ بأحد ،إال نفسها .صاحبة العصمة،
وال سابق لصورتك بها؛ لذا تشعر بنفس اندهاشك األول في
يقدم مايكل أشر ،الرحَّ الة اإلنجليزي ،وأحد أهم مرتادي
كل مرة تزورها ،كأنك غريب عنها ،وال رفقة مشتركة بينكما. ِّ تضخم وال تزورها كل مرة بروح الغريب .ليست مرآة ألحد ،ال ّ ِّ تشف صورتك ،تتجاوزها إلى ما يقبع وراء المرآة. تصغر ،لكنها
والسودان ومصر؛ يقدم الكتاب بأبيات للشاعر األميركي ت .س. إليوت :أبدً ا لن نكف عن التجوال ً بحثا عن أماكن أخرى /وليكن
المتضخمة ،ويسحبها كذبيحة داخل هذا الصمت بكل ثقله
الصحراء العربية واإلفريقية في القرن العشرين في كتابه
«الرحلة المستحيلة» الذي يروي فيه رحلته الطويلة مع زوجته
عبر الصحراء بالجمال من موريتانيا مرورًا بمالي والنيجر وتشاد
ال تعكس سوى الصمت بداخلك الذي يخفي بدوره تلك الذات
وإزاحاته الممكنة وقدسيته.
آخر ما نستكشفه /هي تلك النقطة التي بدأنا منها /عندها فقط
أصبحت سيوة ،والمدن المشابهة ،خط رجعة لنا ،نحن
بالفعل غاية أي رحلة أن نستكشف نقطة األصل ،التي
للمالجئ الجماعية وقت الحروب .هؤالء المتمسكون بجمرة
وتظل هذه النقطة عالقة بنا وتتحرك معنا في انتظار أن نعود
كشافات اإلضاءة وسط ظالم صاالت السينما .سيكونون قادتنا
سنتعرف على هذا المكان /كأننا نراه ألول مرة.
عادة ما نغادرها بعد والدتنا ونضجنا لنبحث عن أماكن أخرى،
إليها ونكتشفها .ال شك أن الصحراء أحد نقاط األصل بجانب
الموطن ،والبيت ،والقبر ،ورحم األم. ً الصحراء بطبيعتها غير مجاملة ألنها ال تعكس شيئا، العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
أبناء المدن ،لنوع من الحياة التي سنلجأ إليها يومً ا ما كما نلجأ هذه الحياة ،هم قادتنا في المستقبل .هم الذين سيحملون لنا من دون ادعاء ومن دون أي رغبة في القيادة ،إنها اضطرارات نهايات العالم ،أو بمعنى آخر :بداياته.
اإلسكندرية 17مايو 2017م
بيت في الصحراء ..بحثًا عن نقطة األصل
159
مقال
محمد سبيال مفكر مغربي
العرب والتقدم مفهوم التقدم هو مفهوم حديث ،فهو يقوم على نظرة
مقارنة ضمنية بين درجات تطور المجتمعات على خط تاريخي
واحد هو الخط (االفتراضي) للتطور العالمي الذي يتضمن
ويفترض تفاوتات على الخط العام ،وتفاوتات قطاعية ً أيضا.
مجاالت التطور التي يفترضها هذا المفهوم هي التطور التاريخي عبر مفاصل أصغر هي التطور االقتصادي ،والتطور االجتماعي،
والتطور السياسي ،والتطور التقني.
يمكن أن نرى كل هذه المفاصل إما من المنظور الكمي أو
160
كثيرة ،أهمها وحدة اللغة وهيمنة معتقد ديني يأخذ تلوينات مختلفة، وثقافة مشتركة ذات جذور تاريخية متجذرة. دينامية الصراع
تاريخ العرب الحديث هو تاريخ تحكمه دينامية قوية هي دينامية
التحديث أو على الوجه األصح دينامية الصراع بين التقليد والتحديث،
وذلك منذ أن هبَّت أول رياح التحديث على المنطقة العربية منذ أواسط
القرن التاسع عشر ،وعلى وجه التحديد منذ غزو نابليون لمصر .فالقانون
األساسي الذي يحكم تاريخ العرب الحديث هو بندول النهوض والسقوط،
من المنظور الكيفي .فالتطور أو التقدم الكمي هو حساب درجة التطور االقتصادي مثلاً من خالل عوامل أو مفاعيل كالناتج
والمراوحة بين هذين الحدين :إرادة النهوض وعوامل السقوط.
واإلنتاج والتصدير ،ومؤشر النمو االقتصادي .كما يمكن أن تقاس
أن العرب صنعوا فترة من التاريخ العالمي ،وبلغوا ذروة التاريخ بين
الخام الوطني ،ومنسوب كل فرد سنويًّا ،ومستوى االستهالك
درجة التطور أو التقدم التقني من خالل مستوى التصنيع إنتاجً ا واستهال ًكا ونسبة توزيع واستعمال اآلالت على المستوى الوطني. بل إن القياسات الكمية للتطور بدأت تطول المجاالت كافة،
فالتقدم السياسي يقاس اليوم بدرجة االندراج في السيرورة الديمقراطية التي بدورها تقاس بمعيار الحريات والحقوق
السياسية ،واألحزاب السياسية ،والنقابات المهنية ،والمؤسسات
تعود إرادة النهوض عند العرب إلى إرث تاريخي قوي يتمثل في
القرنين التاسع والثالث عشر عبر علومهم وآدابهم وتمددهم الجغرافي. لكن التاريخ م ٌّد وجزر .وظل هذا الحلم التاريخي يراود حسهم ووعيهم رغم كل االنكسارات والخيبات .يتمثل االمتحان التاريخي العسير الذي
تعرض له العرب في العصر الحديث في سيرورة الحداثة التي انطلقت من أوربا وانتشرت عالميًّا خلسة وقوة ،وأصبحت تمثل ً شرطا أساسيًّا للوجود في العالم ولالنتماء إلى العصر .ورغم ما للعوامل الخارجية
المتمثلة في االستعمار واإلمبريالية وإرادة الهيمنة الغربية ،فإن المآالت
التمثيلية السياسية المحلية والوطنية ...حتى التقدم الثقافي على الرغم من سمته الكيفية األساسية فقد أصبح قابلاً للقياس من
السلبية يمكن أن تفسر بدينامية وأهمية الكوابح الداخلية التي يتحايل
للكتب والمجالت والصحف ،وقد أضيف إليه اليوم االطالع على
ماكر من حيث إنه يمارس ويؤسِّ س للتضليل الذاتي بإسقاط ما هو
خالل حرية الصحافة ومستوى القراءة واإلنتاج والتوزيع الثقافي المصادر الثقافية في الشبكة العنكبوتية ،إلى غير ذلك من المؤشرات.
من المؤكد إذن أن عالقة العرب بالتقدم يمكن أن تخضع
الوعي العربي على نفيها أو تذويبها وإنكارها؛ ألن الوعي التاريخي وعي داخلي على ما هو خارجي ،أو ما هو رُوحي على ما هو عقلي ،وما هو
ذاتي على ما هو موضوعي أو تاريخي في مراوَحة حادة بين االستهداء
والتيه .اكتشف العرب العصر الحديث تدريجيًّا عبر مسلسل اكتشافات
كانت كلها صدمات خادشة وجارحة للشعور بالذات أو بما سمِّي
لتقديرات كمية كما يمكن أن تخضع لرؤية كيفية ،تتطلب النظرة األولى تجميعً ا للمؤشرات الكمية ُ الق ْطرية والقطاعية إال أنها تظل
بالنرجسية وبالجروح النرجسية المؤلمة.
ومن خالل االعتماد على رؤية دينامية تاريخية شاملة ال تخلو
والتاريخية الكبرى هي صدمة غزو نابليون لمصر (1801 -1799م) وصدمة
في حاجة إلى رؤية شمولية على مستوى من التعميم والتجديد،
من افتراضات وتقديرات كيفية .يشكل العرب اليوم كتلة بشرية يجمعها تاريخ يلحمها تجمع مكاني وروابط تاريخية ومعنوية
العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
مر اكتشاف الحداثة عبر صدمات متالحقة معالمها الحديثة
االستعمار ابتدا ًء من 1820م ،وصدمة سقوط الخالفة 1928م ،وصدمة احتالل فلسطين 1948م ،والهجوم الثالثي 1956م ،والهزيمة 1967م،
واحتالل العراق 2003م ...وهي كلها صدمات ذات وجهين :العنف
والتحديث ،صدمات مزدوجة أو مركبة ،سطحها حداثي وتاريخها،
وعمقها فكري وثقافي.
ردود الفعل المختلفة التي واجهت هذه الصدمات هي أشكال
متباينة من الوعي المراوح بين الوعي المغلوط أو المماوه والوعي
التاريخي الحاد والجارح ،وكذلك ردود أفعال من إرادة النهوض لدرجة
تسمح بالقول بأن تاريخ العرب الحديث هو تاريخ النهوض والسقوط
المستمر .وهو القانون نفسه الذي يحكم أشكال حركية الوعي العربي
المراوح بين االرتداد واالنفتاح ،بين النكوص واالستجماع؛ ولعل الوعي التاريخي العربي الحديث هو وعي ظل يراوح بين استلهام األصولية
من المؤكد أن العرب يتقدمون وإن كان هذا التقدم ،بناءً على المؤشرات الكونية، تقدما سلحفات ًّيا على وجه العموم ،وبسرعة ً مختلفة داخل البلد الواحد ،وغير متكافئ بين المكونة للمجموعة العربية الدول ()22 ِّ
اإلسالمية ،أو استنشاق بعض هواءات الحداثة كما تمثل ذلك النزعة
وحقوق اإلنسان ،وحرية المعتقد) إلى المؤشرات االجتماعية ،ونسب
للوعي العربي ظل بمنزلة حركية جيبية تراوح بين النزعة اإلسالمية
اإلنسان (النساء ،واألطفال ،والعمال ،وذوي االحتياجات الخاصة)
القومية في صيغتها الليبرالية واالشتراكية ،بل إن المنحنى التاريخي (أوائل القرن التاسع عشر في مصر والجزيرة) والنزعة القومية/
االشتراكية (ابتداء من أربعينيات القرن العشرين إلى سبعينياته) ثم العودة القوية للتيارات اإلسالمية بعد هزيمة 1967م وبداية الثورة
اإلسالمية اإليرانية (1979م) ،أي في مراوحة مستمرة بين وعي تقليدي ووعي تحديثي تتخلله مزاوجات وتطعيمات ،تسويات وتطرفات ذات
اليمين أو ذات الشمال.
ورغم أن التضخم التدريجي لتيارات التطرف والعنف التي
استمر تدرجها في سُ َّلم تب ِّني العنف الداخلي والخارجي بوصفه في
الفقر ،وعتبة الفقر ،وتوزيع الثروة الوطنية ،واألمل في الحياة ،وحقوق
والبطالة ،والسجون ،واإلجرام ،والتمدرس ،والخصوبة .فقد أصبحت
المؤسسات الدولية هي الساهرة ضمنيًّا على عملية التحديث التي اتخذت بالتدريج طابعً ا كونيًّا.
من المؤكد أن العرب يتقدمون ،وإن كان هذا التقدم بناء على
المؤشرات الكونية ،تقدمًا سلحفاتيًّا على وجه العموم ،وبسرعة
مختلفة داخل البلد الواحد ،وغير متكافئ بين الدول ( )22المكوّنة
للمجموعة العربية .إذا كانت مشكالت التقدم ومشكالت التحديث
أو وتائره (وهما متداخلتان في المؤشرات الكونية) متفاوتة داخليًّا،
نظرها السبيل األمثل لتحقيق األهداف التي تبلورت في الوعي العربي
فهي أيضا متفاوتة َبيْنيًّا .فعلى العموم إذا ما ميَّزنا بين مستويات ثالث
الثقافية والسياسية للوعي العربي استعادة التحكم في هذا التوجه
وتيرة متسارعة قياسً ا إلى غيرها ،في حين نلحظ أن التقدم التنظيمي في
والقبول باالختالف والتعدد على المستويات كافة ،واستيعاب تغيرات العالم فهمًا وتعاملاً ،وذلك في اتجاه التصالح مع تحوالت العصور
بط ًئا؛ ألنه يصطدم بمقاومات ثقافية ومؤسسية عضوية أو أهلية.
اإلسالمي ،وتحوَّل ذلك إلى مشكل عالمي ،فإن بإمكان القيادات
المتطرف بإعادة تدوير الدفة الثقافية للنواة األصلية نحو االنفتاح
الحديثة والقبول ببعض سياقاتها ودالالتها ومنظوراتها .تدخل كل هذه
المخاضات ضمن ما يمكن تسميته مخاضات الحداثة والتحديث التي
هي دينامية أو ديناميات تفرض نفسها بشكل موضوعي بع ّد العالم كله
قد ركب قطار الحداثة منذ انتشار آلية التحديث عالميًّا التي بدأت مع مرحلة االستعمار ،واتخذت بعد ذلك أشكالاً أكثر شبكية. رعاية مخاضات التحديث
لقد عهد إلى المؤسسات الدولية المختلفة السياسية والتقنية
للتحديث أو التقدم ،فإننا نلحظ أن سرعة التحديث التقني هي ذات
وجهيه التقني (المعمار وتنظيم المدن والطرق )...والتنظيمي (السياسي: الدسترة والتمثيلية السياسية والمأسسة والديمقراطية) يسير ً بخطا أكثر أما على المستوى الثالث (المستوى الثقافي) فوتائر التقدم تتباطأ
أكثر؛ إذ «تسير» بسرعة سلحفاتية في أحسن األحوال ألن المستوى الثقافي الكوني هو األكثر تشعبًا وتمثلاً للبنية الثقافية والفكرية للحداثة، ومن حيث إن التحديث الكوني هو تعريف للمقولة المركزية للحداثة
والمتمثلة في فصل الديني عن الدنيوي ،والروحي عن المادي ،والمقدس عن التاريخ ،أو ما يصطلح عليه بالتمييز الواضح بين السياسة والدين
مؤسسيًّا وفكريًّا .هذا إضافة إلى شحنات الحرية واألنسنة التي تحملها
والثقافية الوصية برعاية مخاضات التحديث على المستوى العالمي
الشرعة الكونية لحقوق اإلنسان فيما تتضمنه من حقوق (فئوية ونوعية) َ والمعتقد). أهمها (حقوق اإلنسان) والحريات (لعل من أبرزها حرية الرأي
كافة ابتداء من المؤشرات الثقافية (نِسَ ب األمية واإلنتاج واالستهالك
ألنه يدخل في احتكاك حاد مع المكونات الميتافيزيقية للبنية الثقافية
وتقليص الحصة االجتماعية في اإلنفاق العام ،والناتج الوطني الخام)... والمؤشرات السياسية (نسب المشاركة ،والتمثيلية ،وفصل السُّ َلط،
الجوهري ،ويفترض تحويل النواة الثقافية من نواة جامدة وحيدة
بمتابعة ومراقبة سيرورات ومؤشرات النمو على مستويات التطور
الثقافي) إلى المؤشرات االقتصادية (نسب النمو ،والموازنة المالية،
فعلى هذا المستوى يبدو بندول التقدم العربي أكثر بط ًئا وترددًا؛
التقليدية ،ويفرض ممارسة نوع من العقل التأويلي على العقل المعنى إلى سلسلة تأويالت وتكيفات وقوى تاريخية دافعة.
161
نصوص
قصائد ابن الورد عمر شبانة
شاعر أردني
٭
أمشي ورا َء اسْ مي، ّ َ الكتابة والغناءَ، أعلمُ ه وخلف ُه أمشيّ ، ْ َ الحياة يعلمني
٭ ُ َ الدرب نحو اسْ مي، عرفت ُ ُ تحملني إليهِ، عرفت :الرّيحُ
ُ عرفت أشال َء المُ غ ّني في َدمي، َ ُ سوف أجمعُ ها، وعرفت ّأني
162
َ ألكتب ِسيرتي األولى، َ َ وأجمع مِن شظاياها.. َ اسمي حروف ْ
٭ ُ َ الدرب نح َو اسْ مي، عرفت ُ ومشيت، قرأْ ُت ُدرو َب ُه ُ القلب مِصبــاحي كان ُّ ُ رأيت دمً ا على الطرُقات،
ً ظِ ّلي كان مَ شنوقا على الحِ يطان،..
كان اسْ مي ً ْ بعثرتها الريحُ ، بار حُ روفا مِن ُغ ٍ في مُ ُدن ّ فيح، الص ِ يام، وفي الخِ ِ ُ طارات الغروب، وفي ِق ِ تاءات بال نار، وفي ِش ٍ
٭ ُ أريد اسْ مً ا يُخ ّب ُئني، ِشتائيًّا ثقيلاً َكي ي ِّ ُدف َئني، ْ
ويَحميني مِن ال ّنيران ّ والط ْ لقات ِ ً ُ أريد اسْ مً ا ربِيعيًّا خفيفا، اللوز، مِن ُزهور ِ خيل ..الحُ ّْر واسْ مً ا لل ّن ِ
٭ َ وك َتب ُ ّبيع ْت أسْ ما َء الر ِ ْت أسْ ما َء َ ك َتب ُ ريف، الخ ِ ْت أسْ مائي ْ ك َتب ُ وأشالئي،
ْ ألع ِرف مَ نْ أكونُ أنــا، ْت ،وما َعر َْف ُ َك َتب ُ ت،..
َك َتب ُ ْت أيّامي ُفصول ّ َّ باح/ وللظهي َرةِ /والمَ ســاءِ للص ِ َ ْ اعات /واأليّامَ ألع ِرف ّ الس ِ أهذي /أو َ ْ أغ ّني /
َك ْي أرانـ ْـي أو سأك ُت ُ ب أيَّ حُ ْل ٍم ب ُ ُالت واألحالمَ أ ْك ُت ُ القب ِ ب َ ْ أك ُت ُ واق ك المَ ْخمو َر ليل ِ باألش ِ ُكوني َك ْي أكونَ ،نكونَ عاش ٌق ل َ ِلكونْ ّإني ِ
وشمس دونما مأوى.. ٍ
العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
٭
طويلاً ..
ُ حفرت على اسْ ٍم يُالئمني، وعمي ًـقا حفـ ُ ـرت ألرسُ مَ ـ ُه،
َ ُ ُ رسمت، حفرت، عام ألف ٍ بت العواصمَ ح ّتى اه َت ُ وجُ ُ ديت، ُ ُ ُ وتهت، ابتعدت، وأيقنت ّأني َ ُ لب» وأدركت «بالق ِ
ّأني أنا اسْ مي
٭ في الدرب جَ ّدي /جَ ّدتي ّ َ ُ وكأنما الـطوفانُ البيوت، يقتلع
ّ ُ َ كأنما الحيتانُ الآللئ والشواطئ تبتلع في الدرب كان أبي وأمّ ي،
كانت الغربانُ ُ تنعب في الخرائب، كانت األوطانُ تمشي في ّاتجاه
المَ وت، ُ قواميس تأخذنا إلى أسماءِ مَ ن صاغوا َ
ال ِبال ِد من األساطير، ْ الطريق إلى الفراغّ ، كأننا استفقنا في ِ ِ أعداؤنا ،نمشي إلينا، ثمّ ُعدنا ،عادت الروحُ العليّة ،من سَ ماوات َ جحيم األرض، الخواء إلى ِ
ُعدنا ،كي ُن َ عيد إلى الطبيع ِة ما تشا ُء من العُ ذوبة َّ والغناءِ ّ ، وظلت والطهارة ِ ْ دارت بِمَ ن سَ بَقوا، الدنيا تدو ُر بنا كما
ُ فدرنا في الهَبا ْء
٭ إلي، مِن أينَ جا َء اسْ مي ّ
بال، أنا المُ شرّد في البَراري ِ والج ِ ولمْ َ راب، أع ِّمر في ال ِبالد ِسوى َخ ٍ
األرض أيُّ ِعمــار ٍة آوي إليها ليس لي في ِ عندما َتجتاحني ريح ّ الشمال، عام ُدونما اسْ م أنا الذي ،من ْأل ِ ف ٍ ّ علي قلبي، يدل ّ
ُّ ُوح أسَ مّ يها ..بِالديْ أو يدل دمي على ر ٍ
٭ ِمنْ أينَ يأتي اسْ مي إذا لمْ َت ْزرَعي ِه في ثِيابِك،
َو ْر َد ًة في َص ْد ِر ِك َّ الشجَ ريِّ ، ـك ي َْد ُف ُق، الع ْط ُر ِمنْ َن ْه َريـ ِ واسْ مي ِ ْك، قول ي ََدي ِ و َْه َو حَ ْق ٌل ِمنْ حُ ِ
َظ َّل َلني ُق ً ك ِّ السحْ ريِّ ، رونا بِاسْ مِ ِ أبيض مُ َتو ِّ َس ٍط ْض ٍ ي َْغمُ رُني بِحَ و ٍ َكحَ دِ َ ِلع ْش ِق، يق ٍة ِسرّي ٍة ل ِ ْك واسْ مي َنجْ مَ ٌة ِمنْ َضوْءِ َع ْي َني ِ ين، المُ بار ََك َت ِ
ك سَ وف ْ أصعَ ُد سُ َّلمَ األسْ ماءِ ، باسْ مِ ِ ُ َ ك سَ وف ْ أه ِبط بِئ َر أسْ مائي باسْ مِ ِ وأنه ُ ْ َل،
وف ْ ِك سَ َ أقطِ ُ ف َو ْر َد أسْ مائي.. ِمن حُ قول ِ راب َ ْ وأنحَ ـ ُ ب أسْ مـا َء الرَّبي ْـع الق ْـل ِ ـت ِمنْ ُت ِ واسْ مي الذي، ين «حَ ّتا»* رُوحُ ُه، ِمنْ طِ ِ
ئرها أمْ طا ُر ُه وسَ نابِ ُل ْه ِمنْ بِ ِ َ يا ِتينَ أسْ مائي ويا َزيْتونها ال َبرِّيّ ، ُي ْز ِه ُر في َدمي ال ُّنوّارُ، السماءِ بَالبِ ُل ْه ُت ْز ِه ُر في َّ
واسْ مي الذي من ور ِد قلبي جاءني في الحُ ْل ِم، أعطاني حِ كاياتي وأسمائي: يتون، ين وال َّز ِ بال ُد ال ّت ِ واسْ مي مِن بال ِد الناي، ٌ ٌ وغابات ،مُ حيطات، ْأنها ٌر
الم، واسْ مي سأ ْك ُت ُب ُه ِمنَ األحْ ِ بي، ين ِ كالغابات في َق ْل ْ ِمنْ َع ْي َن ِ و ِمنْ َع َس ٍـل وجُ ٍّ ـوري و ..شــامْ ناؤك في ّ الصباحْ واسْ مي ِغ ِ
والسْ مي ُ ألف فلاّ ٍح و َب ّناءٍ ، الس ُل ْه وفي َق ْلبي ُتشا ُد سَ ِ
أنا مَ نْ رأى في ّ ام َض ْو َء ِدمَ ْش ِقها الش ِ ّام أنا مَ نْ يرى فيها َندى األي ِ
واسْ مي ال َّزمانُ ُ ، كان، أخو المَ ِ وسيقا ،و َز ْع َت ْر و ُبرْجُ أضواءٍ ومُ ِ
إليك يا شامُ عا َد ِ
واسْ مي َعلى جَ ب ٍَل َصباحً ا،
في المَ ساءِ يكونُ في الواديْ ، و َب ْي َنهما أنا سَ ه ٌ ْل ،وحَ ّنونٌ ،و َبي َْد ْر واسْ مي أنا َبحْ ٌر ومِينائي مُ ٌ حيط هائجٌ ،
وسأرس ُـل األمـواجَ ، ِ َ َ َبيع ْك أمواجي ،لتهبط في ر ِ
و َْهجُ الياسَ مينُ ّ الشامي هلاّ َتعــو ُد ل ِِع ْطـ ِـرها ..أ ّيــامي؟
في ّ ُ أشرب َقهْوتي الصالحيّة ُع ْد ُت األحالم في باب ُتوما َز ْهر َُة ِ طيني الفلس وأنا ْ ُّ َ ـام دمـ ْـي ِمنْ شـ ٍ َ ْ و ِدمَ ْشــق قلب ـ ْـي رأيت ّ وأنا ُ الشامَ َت ْصعَ ُد
َبيع للحَ ْ واسْ مي ر ٌ دائق واسْ مي حُ ٌ قول لل َّز ْ نابق
والرّياحُ تطي ُر مِن أعطا ِفها ُقبَل
س أسْ مائي َف ْل َتحْ َفظي يا َشمْ ُ احْ َفظي يا أر ُ ْض
واسْ مي بال ُد ّ الشامْ
قامَ ِت َي الجَ َ ميل َة واحْ َفظيني يا سَ ما ُء الق ْ بِ ُك ِّل أيّامي َ ليلة واسْ مي أنا..
ما اسْ مي إذا جُ نَّ ال َّنهارُ؟
وما اسْ مُ مُ وسيقايَ في ُ القب َِل.. األغاني؟ ْ
كأنَّ َّ الرب َي ْرسمُ وَجْ هَها
ِمنْ أينَ أبدأ يا بالديْ ؟
163
تراث
مقامات بديع الزمان الهمذاني: نص ال ينضب اكتشافات جديدةّ ، 164
العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
بالل األرفه لي
باحث لبناني
ّ ً موضوعا شكلت مقامات بديع الزمان الهمذاني (ت 398هـ1008 /م)
شغل بال عدد كبير من المؤلفين العرب والمستشرقين في حقل الدراسات العربية .والهمذاني هو مبدع هذا الفن الذي ترك أثرًا كبيرًا في األدب العربي والعالمي عامة على مدى أكثر من ألف سنة ،ولذا فإن مقاماته تكتسب أهمية
العالمي .لكن منذ صدور طبعة محمد عبده لمقامات الهمذاني خاصة في التراث ّ
سنة 1889م ،لم تطرح الدراسات عن المقامات أسئلة عن التاريخ النصي لهذا العمل؛ فقد ساد االعتقاد أن محمد عبده ّ عدل النص في مواضع قليلة ليتوافق
مع العرف األخالقي السائد في عصره ،وفيما عدا ذلك رسخ في أذهان الدارسين أن النص المطبوع ّ يمثل ما قاله الهمذاني ،وبذلك أضحى نص محمد عبده، ّ بكل سلبياته وأخطائه ،في الغالب ،المرجع المعتمد عند الحديث عن مقامات ً نظرة ّ الهمذاني .لكنّ متأنية في عشرات المخطوطات التي وصلتنا تشير إلى أنّ
نص المقامات قد قام برحلة مذهلة قبل أن يصلنا ّ ّ شكلت معالمه وغيّرته. تمثل عند ّ غالب الظن أن مقامات الهمذاني لم تكن ّ مؤلفها عملاً أدبيًّا متكاملاً ،على األقل في المرحلة األولى من تأليفها؛ فالشاعر مثلاً يبدأ بنظم القصائد ومن ثم يجمعها في ديوان حين ّ كاف منها ،ويمكن للشاعر أن يضيف قصائد يتشكل لديه عدد ٍ إلى ديوانه المجموع في مرحلة الحقة .وغالبًا ما يجمع الديوانَ
أحدُ المق ّربين من الشاعر أو رُواته في حياته أو بعد وفاته .هذا ّ األمر يصحّ ً ولعله األقرب إلى أيضا في دواوين الرسائل والخطب،
ّ الصواب ً يتعلق بمقامات الهمذاني وجمعها ،فنحن ال أيضا فيما
نعرف على وجه التحديد كم مقامة كتب الهمذاني أو ترك لنا،
وال نعرف ما إذا كان هو صاحب جميع المقامات المنسوبة له. ً مخطوطا لمجموع ويمكن بالعودة إلى أكثر من أربعين مقامات الهمذاني ،تقسيم مخطوطات المجموع إلى ثالث
مجموعات: ّ تجانسا ،تتألف المجموعة األولى :وهي أكثر المجموعات ً من المخطوطات الخمسة األقدم ،وهي :فاتح ،4097ومدرسة
اللغات الشرقية واإلفريقية ،47280ويال -سالسبري ،63وآيا
صوفيا ،4283وباريس .3923 ً المجموعة الثانية :مكوّنة من 20مخطوطا تعود إلى ما بين القرن الحادي عشر الهجري (السابع عشر الميالدي) إلى
القرن الثالث عشر الهجري (التاسع عشر الميالدي) .تعتمد هذه المخطوطات ترتيب مخطوط فاتح ،1097وتتضمن عددًا آخر من المقامات والمُ َلح ،من بينها الهمذانية والشريفية والخاتمية. ً مخطوطا تعود إلى ما بين المجموعة الثالثة :تتضمن 15
القرن العاشر الهجري (القرن السادس عشر الميالدي) والقرن
الثالث عشر الهجري (التاسع عشر الميالدي) .ترتيب المقامات في هذه المجموعة هو الترتيب الذي نجده في طبعة محمد ً إضافة إلى المقامات الموجودة في مخطوط عبده ،وتتضمن،
فاتح ،المقامات التالية :المغزلية ،والناجمية ،والخلفية، والنيسابورية ،والعلمية ،والشعرية ،والملوكية ،والصفرية،
والسارية ،والتميمية ،والخمرية.
مواد لم تتضمنها طبعة محمد عبده: المقامة الشامية
هذه المقامة مثبتة في بعض طبعات المقامات ،وال ي ّ ُشك بصحة نسبتها إلى الهمذاني .صحيح أن محمد عبده لم لاّ دواع أخالقية بحتة؛ إذ يضمنها طبعته ،إ أن ذلك مردّه إلى ٍ إنه يقول في مقدّ مة طبعته (مقامات بديع الزمان الهمذاني،
تحقيق محمد عبده ،ص« :)2وههنا ما ينبغي التنبيه عليه وهو ّ ً افتنانا في المؤلف من مقامات البديع -رحمه الله- أن في هذا أنواع من الكالم كثيرة ،ربّما كان منها ما يستحي األديب من
ّ بالسذج أن قراءته .ويخجل مثلي من شرح عبارته .وال يحمل
يستشعروا معناه .أو تنساق أذهانهم إلى مغزاه .وأعوذ بالله أن أرمي صاحب المقامات بالئمة تنقص من قدره .أو أعيبه ّ ّ ّ يحط من أمره .ولكنْ ولكل خيال مجال. زمان مقال. لكل بما ٍ
وهذا عذرنا في ترك المقامة الشامية .وإغفال بعض جمل من
المقامة الرصافية .وكلمات من مقامة أخرى مع التنبيه على ذلك في مواضعه .واإلشارة إلى السبب في مواقعه» .ي ّتخذ قاض في بالد الراوية عيسى بن هشام في هذه المقامة دو َر ٍ
165
تراث
الشام يختصم إليه رجل هو اإلسكندري وامرأتان ،األولى تدّ عي ً ً طالقا ونفقة .يستمع القاضي إلى ادّعاء صداقا ،والثانية تلتمس
الرجل في ته ّربه من صداق األولى ،ثم يسمع ردّها ،ثم دفاع الرجل الذي يتبيّن كذبه .بعدئذٍ تطلب المرأة الثانية اإلمساك
بالمعروف أو التسريح بإحسان ،فيحكم القاضي للمرأة بنفقة قدرها «مئة» في الشهر .إلاّ أن اإلسكندري يجد أن هذا فوق الطاقة ،فيهدّ ده القاضي بإبرام الطالق .يعود اإلسكندري بعد
شهرين ليلتمس تخفيف النفقة فينذره القاضي بإبرام الطالق مجدّ دًا ،عند ذلك ينشد اإلسكندري ً أبياتا في هجائه. المقامة الطبّية
موضوع هذه المقامة ،الموجودة حص ًرا في مخطوط
الطب والصيدلة .يقص راوي يال -سالسبري ،63هو ّ ً مغامرة لطبيب في مدينة المقامات المعتاد عيسى بن هشام الدونق مع رفقة من مدينة األهواز .بعد تعداد بارع ومسجّ ع لألمراض النادرة والعقاقير التي تشفيها ،يستطيع الطبيب،
بمساعدة ابنه ،أن يخدع هذه الرفقة ويحصل منهم رزقه.
وكما هي العادة في مقامات الهمذاني األخرى ،يكشف
166
الراوي قناع أبي الفتح اإلسكندري في نهاية المقامة .وقد ُ ناقشت وموريس بومرانتز في مقالة ُنشرت في مجلة أرابكا
بكل سلبياته أضحى نص محمد عبده، ّ
وأخطائه ،في الغالب ،المرجع المعتمد عند الحديث عن مقامات الهمذاني. لكن نظرةً متأ ّنية في عشرات ّ أن المخطوطات التي وصلتنا تشير إلى ّ نص المقامات قد قام برحلة مذهلة ّ
وغيرته قبل أن يصلنا ش ّكلت معالمه ّ صحّ َة نسبة هذه المقامة إلى الهمذاني اعتمادًا على األسلوب والشكل ،مؤ ّكدَ ين أن وجودها ضمن هذا المجموع القديم يجعلها أكثر موثوقية من ُخمس المقامات المنشورة في
طبعة محمد عبده.
المقامة الهمذانية
وصلتنا هذه المقامة والمقامتان التاليتان في أكثر من ً ّ ُ نشرتها وموريس بومرانتز في مخطوطا أحد عشر مجلة
الدراسات العبّاسيّة .ومضمون المقامة الهمذانية أن عيسى
ابن هشام يصل إلى مدينة همذان الخاضعة لزعامة شخص يدعوه الشريف الحسني .يلتحق عيسى ً شخصا بمجلس الحسني ويلتقي
«ينتمي البن المش ّرف الكاتب» ،وآخر
«بالدسكرة قد عا َو َد الدَّ ْعوة األولى ْ وان َتمى لبغداذ» .يبدأ [العبّاسية] هذا الرجل بإنشاد شعر يحنّ فيه
إلى الزمن الماضي ،ذاك ًرا الشيب
والشباب ،وبعد ذلك ينتقل إلى تعداد
المناطق البغدادية والمناطق القريبة
منها .يخلص الشاعر بعدها إلى مدح الشريف الحسني بالجود والعطاء واإلحسان ،وهي صفات ّ تمكن الشاعر
ّ التغلب على «ريب الزمان» .وفي من
البيتين األخيرين يشير الرجل إلى سفره واختباره بخل الناس وَجودهم قبل أن
ينصرف إلى حضرة الشريف .وفي ختام المقامة يتع ّرف الشاعر إلى هوية الراوي عيسى بن هشام ،فينشد بي ًتا في الغزل ينمّ عن هذا التع ّرف ويتداركه ببيت آخر
المقامة الطبّية في مخطوط يال-سالسبري ،ورقة 29أ30-ب
العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
ببيت يستره ،فير ّد عيسى بن هشام ٍ يعدُ الشاع َر بكتمان س ّره. ِ
نص ال ينضب مقامات بديع الزمان الهمذاني ..اكتشافات جديدةّ ،
المقامة الشريفية في مخطوط مجلس ّ ملي ،2/5764ورقة 124ب125-أ
المقامة الشريفية
راوية هذه المقامة هو ابن عيسى بن هشام ،واسمه
محمد .يروي محمد أنه شهد أبا الفتح اإلسكندري يكتب ً نيابة عن طاهر بن محمد اإلسكندري ،وأن للشريف الحسني
فحوى ما كتبه رغبته في العودة إلى حضرة الشريف ومدحه بعد أن اضط ّرته صروف الدهر إلى ترك تلك الحضرة .ينتقل كاتب المقامة بعد ذلك إلى وصف ما لقيه في بُعده من شقاء
وقلق وسهاد وبخل الباخلين ،ليمدح الشريف مجدّ دًا في الختام.
المقامة الخاتمية
يروي عيسى بن هشام في هذه المقامة قصة خالف حول
«زوجَ ْي خاتم» بينه وبين أبي سعد القائجاني ،وكان أبو سعيد قد قايض أحد الزوجين بـ«توزيع» ناله من األستاذ أبي علي
الحسن بن أحمد ،ولكنه ندم بعد أن عرف قيمة الخاتمين. عند ذلك يتحدّ ى القائجاني الراويَ في لعبة شطرنج يكون ّ يغش في الخاتمان فيها من نصيب الرابح ،فإذا بالقائجاني
المقامة الخاتمية في مخطوط مدرسة اللغات الشرقية واإلفريقية ،47280ورقة 122ب123-أ
اللعب م ّرتين .وكان القائجاني أقرع ال يتجاسر أحدٌ على ذكر
الرأس أو القرع في حضوره ،فإذا بالراوي ينظم شع ًرا ينذر فيه
القائجاني ويذكر رأسه ألنه رفض تسليم الخاتمين اآلخرين. وتستمر المكاتبة والخالف وذكر َ الق َرع إلى أن يجتمع االثنان إلى مائدة أبي الحسن بن أحمد .إلاّ أن الراوي يمتنع عن الطعام
أبياتا يهجوه مع ّر ً ً ضا برأسه بسبب حضور القائجاني ،وينشد
األقرع .ولما استغرب أبو الحسن هذا الفعل على المائدة، قص عليه عيسى بن هشام ما حدث .في إثر ذلك تناول أبو
الحسن الخاتمين من القائجاني وأعطاهما لعيسى وسأله أن ّ يتوقف عن الهجاء .وتنتهي المقامة بأبيات من الشعر ألحد
الك ّتاب يمدح فيها عيسى بن هشام لهجائه القاسي للقائجاني. غير أن القائجاني شكا هذا األمر إلى األستاذ أبي الحسن ،فر ّد عيسى بشعر يذ ّكر فيه القائجاني بأنه كان قد ّ حذره من مغبّة فعله.
خاتمة
أسّ س الهمذاني في مقاماته لفنٍّ ترك أث ًرا كبي ًرا في األدب
العربي والعالمي ،غير أن نص الهمذاني نص مفتوح لكثير ّ تتعلق بتأويله فحسب ،بل ً من األسئلة التي ال أيضا بجمعه وتكوينه وتاريخه وتداوله .ويبدو أن مجموع مقامات الهمذاني ّ َّ المؤلف، تشكل على صورة كتاب في مرحلة الحقة من حياة
وذلك بتأثير من مجموع مقامات الحريري الذي تضمن خمسين مقامة .ولما كان ثمة مجموع ّ مبكر لمقامات الهمذاني نساخ مقامات قيد التداول يتضمن أربعين مقامة ،فالظاهر أن ّ
الهمذاني وجامعيها أضافوا مقامات إلى هذا المجموع ليصل
المجموع إلى خمسين .وال يعنينا في هذا المقام صحة نسبة
هذه القطع األدبية إلى الهمذاني بقدر ما يعنينا أن إضافتها إلى
مخطوطة فاتح 4097وهي المخطوطة األقدم لمجموع مقامات الهمذاني
مجموع مقامات الهمذاني دليل على أنها همذانية الطابع ،وأن ّ التشكل ح ّتى القرن السادس مجموع مقاماته كان ال يزال قيد
الهجري (الثاني عشر الميالدي) على أقل تقدير.
167
مقال
شكري المبخوت أكاديمي وروائي تونسي
توفيق ب ّكار.. العربي القارئ العاشق لعيون األدب ّ ّ ّ والمثقف التونسي الجامعي والناقد مثل رحيل ّ توفيق ّ بكار (2007 - 1927م ) ،خسارة كبرى لرمز من
أهمّ رموز الثقافة التونسيّة وخسارة أكبر للجامعة التي غادرها منذ ما يناهز العقود الثالثة ،لك ّنه ّ ظل من فرسان العلم فيها بنصوصه ّ واتجاهه في النقد ،وأثره
في تدريس األدب فيها .وليس من باب الصدفة أن ّ والمثقفين واألدباء تشيّعه نخبة متنوّعة من الجامعيّين
168
والسياسي المدني والف ّنانين والفاعلين في المجتمعين ّ ّ التونسي من جميع األطياف األيديولوجيّة يتقدّ مهم ّ
رئيس الحكومة ووزيرا التعليم العالي والثقافة ،إضافة
إلى عدد من رؤساء الجامعات .ولهذا اإلجماع على شخص توفيق ّ بكار بوصفه رم ًزا أسباب كثيرة نكتفي منها األدبي. بإسهامه في تجديد الدرس ّ ينتمي توفيق ّ بكار إلى النخبة التي ساهمت في
تأسيس الجامعة التونسيّة وتطوير الثقافة الوطنيّة. ّ متحصلاً على فما إن أتمّ دراسته الجامعيّة بالسوربون
التبريز في اللغة العربيّة وآدابها أواخر الخمسينيات من القرن الماضي ح ّتى عاد إلى تونس للتدريس بجامعتها.
وفي هذا السياق نفهم جوانب كثيرة من مآثره .فقد ً توثيقا له ،وإبرا ًزا لألصوات القويّة التونسي اهتمّ باألدب ّ العربي .فكان يدرّس فيه ،وتنزيلاً له منزلته من األدب ّ
إلى طلبته نصوص محمود المسعدي وعلي الدوعاجي
ّ يستحق التدريس ،بل التونسي في جامعة لم تكن ترى فيه ما تكمن أساسً ا في أن أصبح توفيق ّ بكار يُع َرف بمناهج الدراسات األدبيّة .فقد أنشأ وحدة للتدريس تعتمد على تكوين طلبة
شعبة العربيّة في المناهج النقديّة الحديثة .ويقصد بها آنذاك
ما أفرزه النقد الجديد في فرنسا ،متأث ًرا بالشكالنيّين الروس أساسً ا ،من نظريّات وما صاغه من مفاهيم في ّاتجاهات ّ والنصانيّة (بارت) سمِّ يت الشعريّة والبنيويّة (تودوروف)
والبنيويّة التوليديّة (غولدمان) .وإذا علمنا أنّ هذه التيّارات
النقديّة كانت تخوض آنذاك في الجامعات الفرنسيّة معركة
ضدّ التصوّرات النقديّة الكالسيكيّة أدركنا حجم المغامرة الشجاعة التي أقدم عليها توفيق ّ بكار بنقلها إلى الجامعة
التونسيّة الفتيّة .ولوال تكوينه المتين في اللسانين والثقافتين
العربيّة القديمة والفرنسيّة واالحترام الذي كان يحظى به
من زمالئه لما أمكنه أن ينجح في مغامرة استنبات النقد
الحديث في الجامعة التونسيّة .لقد كان من القالئل الذين استطاعوا إقناع زمالئه بأهمّ يّة أن يكون ّ التونسي حظ الطالب ّ مماثلاً ّ الفرنسي في االطالع على تيّارات نقديّة لحظ الطالب ّ
معاصرة لم تستق ّر بعد االستقرار الذي يقنع أساتذة درسوا عن المستشرقين علمً ا كان يقدّ م بمناهج كالسيكيّة.
الجامعة مختب ًرا للقراءة لم تكن دروس توفيق ّ بكار بالنسبة إلى طلبته إمالء بليدً ا،
المدني ومحمّ د العريبي والشابّي وحسن نصر وعز الدين ّ وغيرهم على قدم المساواة مع نصوص كبار الك ّتاب
وال محاضرات منقولة من الكتب يستشهد فيها بمن يعتقد ّأنهم أئمّ ة النقد .بل يشهد طلبته الذين اختلفوا إلى تلك
الذاكرة الثقافيّة التونسيّة من خالل األدب ضمن مشروع
يقنع إلاّ ً ّ العقلي .ولكنّ هذه منطلقا ومادّة لالستدالل بالنص ّ الدروس كانت ً أيضا فرصة للتم ّتع بفصاحة نادرة فاتنة ُعرف
العرب من أمثال :نجيب محفوظ والطيب صالح وإميل حبيبي .وفي هذا كان ّ بكار يساهم مع أبناء جيله في بناء أكبر هو بلورة الذاتيّة التونسيّة مع دولة االستقالل.
بيد أنّ إضافته األساسيّة ال تكمن في االهتمام باألدب
العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
الدروس ّأنها كانت دروسً ا في المنهج« :كيف ّ نحلل ًّ نصا؟»، ّ ّ األدبي شع ًرا ونث ًرا على نحو مدقق ال تعلمهم مراس الكالم ّ
بها هذا األستاذ الهادئ الرصين ذو الصوت الخافت الذي
يتجوّل بين المقاعد ّ مفك ًرا ينحت قوله نح ًتا ،فتخرج الجُ مَ ل من فمه ّ موقعة سلِسلة تأخذ األلبابّ .إنه بعض من سحر توفيق ّ بكار الذي تجد أثره حتى في الفصول التي جمعها
في كتب بداية من السنوات األلفين .لقد كانت قاعة الدرس عند ّ بكار مخب ًرا يشتغل فيه مع طلبته على نصوص كثيرة
ّ المقفع ،والجاحظ، من عيون األدب العربي القديم (ابن والهمذاني ،واألصفهانيّ ، وبشار ،وعنترة ،وأبو نواس ...إلخ) والحديث (المسعدي ،والشابّي ،والدوعاجي ،ومحفوظ، والطيب صالح ،ودرويش ...إلخ) .فالتالزم بين التدريس والبحث عنده كالتالزم بين التنظيرّ ، اط ً العا على دقيق
المقاربات وجليل المفاهيم ،والتطبيق ،تحليلاً لخصائص
المباني ومميّزات المعاني ،هما عمدة هذه التوجّ ه االختباريّ
توفيق بكار
الذي كان يلحّ عليه توفيق ّ بكار غير مؤمن بإطالقيّة المنهج ما ّ وييسر النص وخفايا المعنى فيه، لم يساعد على اإلصغاء إلى ّ الكشف عن أدبيّته .إنّ هذا المختبر النقديّ هو فضاء القراءة الجمالي الذي بالحس العلمي المعرفي التي يتفاعل فيها ّ ّ ّ ّ ّ النص ً ّ بحثا عن فرادته بين النصوص. يمكن من تتبّع دقائق منهج ّ بكار في القراءة
ليس من المبالغة في شيء إذا قلنا :إنّ ّ لبكار منهجه النص .فهو ّ ّ ّ يسلم ،بادئ ذي بدء ،بأنّ الخاص في ممارسة
ّ النص بعالماته وشكله ومبناه أساس التحليل .لك ّنه ال يقيّد نفسه بمدرسة في النقد أو منهج دون غيره ،وإن ك ّنا نجد في أعطاف كتاباته ّ ّ ً اط ً يتملكون دقيقا عليها .فهو من الذين العا المنهج ويطوّعون المفاهيم ّ لفك شفرات النصوص وإعادة لاّ ً تركيبها حتى يخرجوها مخرجً ا طريفا ال يعرف س ّره إ الف ّنان
ّ النص بين يديه المتذوّق لجيّد النصوص مثله .إذ يستحيل ّ ّ النص وقد قرأه الواحد م ّنا دون شرح بكار له. شي ًئا آخر غير يكفي دليلاً على ما نزعم أن تقرأ المسعدي أو الطيب صالح
أو إميل حبيبي من دون مقدّ مة من ّ ّ األدبي عنده فالنص بكار. ّ لاً يصبح فضاء للترحال في المعاني ومجا للتفاعل بين ذات ّ للنص الذي يصيب قارئه المبدع وذات الناقد الف ّنان العاشق بعدوى هذا العشق .ومَ نْ خبر نصوص ّ بكار يجده يعتمد
فلسفي على ما يسمّ يه الجدليّات التي اقتبسها من تصوّر ّ يعدّ ّ النص ،شأنه شأن الظواهر جميعً ا ،مؤسّ ًسا على
صراع النقيضين .وهما ،عند التثبّت ،قطبان دالليّان يشدّ ان ّ ّ ويمثالن عمودًا لتناسق مكوّناته الشكليّة والدالليّة النص
توفيق بكار من الذين يتملّكون المنهج لفك شفرات ويطوعون المفاهيم ّ ِّ النصوص وإعادة تركيبها حتى يخرجوها سره إ الف ّنان مخرجا طريفً ا ال يعرف ً ّ لاّ لجيد النصوص مثله ق المتذو ِّ ّ المنهج في النظر تحاليل ّ بكار من الرتابة التي نلمسها في كثير من المقاربات التي تعتمد منوالاً واحدً ا ال يفضي ،في
األغلب األعمّ ،إلاّ إلى التشابه والتكرار .ولك ّننا نجد فيما كتبه ّ بكار سعيًا واضحً ا إلى وضع اليد على الخصائص المفردة للنصوص وما به تتميّز عمّ ا يندرج في جنسها سواء أكان
نادرة أم مقامة أم خب ًرا أم رواية أم قصيدة .فنحن دائمً ا أمام ناقد يرهف السمع إلى النصوصّ ، يتأنى في تتبّع ّ أدق
تفاصيلها ومكوّناتها ،ال يرضى بردّها إلى أشباهها ،بل يعمل على تبيّن وقعها المختلف ونغمتها ّ الفذة. لقد كان ّ ِّ مجددًا كما تشهد على ذلك كتبه بكار
التي جمعها في «قصصيّات عربيّة» و«شعريّات عربيّة» و«مقدّ مات» .وكان مح ِّر ً ضا لنخبة من طلبته على التجديد
منذ بداية السبعينيات قبل أن تنتشر البنيويّة في العالم العربي ،ومنهم حسين الواد وسالم ونيس ،لك ّنه كان في ّ
ومستوياته مع ًنى ومغ ًنى أو خب ًرا وخطابًا .لذلك كثي ًرا ما يختار في عناوين النصوص التي ّ يحللها عبارات ّ تمثل جوهر
أسلوب مقاربته وطريقته في تخريج المباني والدالالت أمّ ة برأسها جمع إلى روح العالم الخبير بالنظريّات روح الف ّنان ّ المثقف واسع االطالع والمعرفة بالنصوص األدبيّة. وروح
واألقوال» ،أو «األدب والذهب» وغيرها كثير .وقد أخرج هذا
ويفتن.
التحليل من قبيل «جدليّة الحكمة والسلطان» ،أو «المال
ً عاشقا لألدب يحلل فرائده وعيونه فيتف ّنن لقد كان
169
سينما
شياطين الثورة الرقمية..
ماذا فعلوا بسينما الكائن اإلنساني المتفرد؟ فجر يعقوب
سينمائي وروائي فلسطيني
من المؤكد أن عباقرة الفن السابع الكبار يتحسرون على األيام التي
مضت حين كانت الكاميرا الثقيلة وحدها سيدة المشهد ،وسيدة الفكرة والصورة
170
والمحتوى .اليوم ال يبدو أن االحتالل الرقمي للسينما قد صنع المعجزات بخصوص اللغة السينمائية التي طورها هؤالء الكبار من وراء كراسيهم ،وصنعوا أمجاد النجوم والنجمات من خاللها .ليس سهلاً التسليم بهزيمة من أي نوع هنا .لكن السينما تتغير باسم «األثر المزيف» للصورة التي يشتغل عليها شياطين الثورة
الرقمية من دون أن يضطر أحد لمعرفة أسمائهم ،وهذا قد ينطبق على صناع أفالم من مثل «ماتريكس» حين يقوم البطل (كيانو ريفز) بإعادة إنتاج نفسه متجاو ًزا
فكرة الموت نفسها .ويسود اعتقاد قوي أنه بعد فترة من الزمن قد ال نرغب حتى بمعرفة أي من هؤالء الشياطين يقف وراء هذه «الملحمة البصرية» أو تلك.
العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
جل ما سنعرفه ،أو تعرفه األجيال الالحقة سيكون بمستوى
بوابة الفن الفسيحة حين تفقد السينما أهم مميزات اللغة التي
البصرية الفانتازية ،وهذا هو أخطر ما في االنقالب الذي شهدته
دون أن تفقد النضارة واألبعاد النفسية والفنية لكل ما هو جديد
الحلول الرقمية التي ال يدركها عقل حساس إال من خالل اللعبة السينما في العقود األخيرة ،حين انحرف بها سدنة مختلفون
في أمزجتهم ورُؤاهم عن الطريق الذي شيده الكبار ،وحرصوا
دومًا على مالقاة المشاهدين في منتصف الطريق :لغة خاصة
سبق وانتمت إليها نظريات مجيدة لعبت دورًا كبي ًرا بتطويرها من
ومؤهل ألن يلعب دورًا كبي ًرا في مجرى هذا الفن الكبير. مآالت رقمية ال حدود لها
ال تستنفد البعد الذهني للصورة التي تراكم في عقولهم ما يجب
إن المنظومات الفنية الحديثة التي انتهت إلى مآالت رقمية
المالحم البصرية الحديثة التي استفادت من االنقالب التقني
بخصوص إعادة إنتاج المهارات التي تشكلت منها مسيرة اإلنسان
بأخطر عملية إعدام في تاريخ الفن السابع لما سبق وراكمه ِّ منظرو هذا الفن عبر أكثر من قرن .كل الكتابات التي تح َّرت نوع
فرانسيس فورد كوبوال حين أطلق أول فلم موسيقي إلكتروني عام 1984م متنب ًئا بحلول الفلم الرقمي مكان الفلم الذي نعرفه.
قوله واستنطاقه على الدوام.
الرقمي تغفل هذا البعد .أفالم مثل (آفاتار – سيد الخواتم) تقوم
هذه الرؤية وق َّدمت مساهمات جليلة في إعادة إنتاج الطريق
التي تعبر منها حلقات متماسكة نظريًّا وإبداعيًّا صارت في مرمى خطر ،متقلب ،يؤسس لما هو أبعد من انقالب في نوع التقبل والتلقي الذي ُت َشيَّد منه المحاكاة الرقمية ألبطال وبطالت بال
ال حدود لها تمثل أكبر انتصار للعقل اإلنساني حتى اللحظة نفسه .ربما أدرك هذا المآل بحس إبداعي ملهم المخرج األميركي
بعد ذلك سوف يطلق جورج لوكاس أول فلم روائي طويل مصور
بكاميرات رقمية بعنوان« :حرب النجوم» 2002م.
هذا الوضوح والتجلي الرقمي الذي يعد بمنزلة انتصار ساحق
لجملة مفاهيم دافع عنها العلم المعاصر يغفل رغم انتصاراته
مالمح ،وأبعاد نفسية وعاطفية كانت حتى عهد قريب أساس
غير المحدودة إمكان تعلم الحفاظ على مهارات النوع من التالشي وراء نظريات علمية حديثة تقلل ً أيضا من فرادة وتميز كل صاحب
ناصرها ودافع عنها مخرجون كبار ،كانوا يدركون في نفس الوقت
قناة خاصة بهذا الفن السابع مثل منظومة الصوت -الدولبي،
اللغة السينمائية والمعاشرة النظرية الفذة لمآالت ال يمكن الحكم
عليها إال من خالل األبعاد النفسية والرمزية للصورة التي طالما نوع المراهنة النظرية التي يستخلصون منها الدروس والعبر .قد ال تكتفي هذا المقدمة بتوضيح األبعاد التاريخية واالجتماعية التي دفعت بهذا التطور التقني غير المسبوق إلى حشر اللغة
السينمائية في مربعات رقمية ال نهايات أمامها ،وال نهايات لها،
وكل ما تفعله ،هو أنها تقدم منحنيات جديدة أمام هذه اللغة ال يعود ممك ًنا معها التكهن بالمآالت التي تقود المشاهد إلى كل ما هو معاد لها.
إن إبداء القلق بخصوص الوضع الصحي للسينما إن جاز
التعبير ال يعود كافيًا ،فمحاكاة األلعاب الفيديوية تنتصر تدريجيًّا، وليس أدل على ذلك من فلم -على سبيل المثال ً أيضا( -إنذار ِّ بورن النهائي) 2007م؛ إذ ال يبدو أنه بمستطاع أحد من «المنظرين
الجدد» الذين ال نعرف أسماءهم في الواقع ،شأنهم شأن شياطين الثورة الرقمية الذين قادوا هذا االنقالب من وراء الشاشات،
االدعاء بأن نظرية واحدة سوف تجمع كل ما يقدم رقميًّا من
بعض أسلوبيات هذا الفن هي شأن أيضا ،وليست شأ ًنا جمال ًّيا كما أخالقي ً قد يتخيل بعض ،وعليه فإن االنتصار للسينما التي نعرفها ،هو احتفاء بالكائن اإلنساني المتفرد
مشروع إبداعي على حدة حتى تبدو الطرق الصناعية في إنتاج كل واألبعاد الثنائية والثالثية في الصورة ،وتقنيات حفر الغرافيكس،
والنثر الرقمي الذي يهز شعرية السينما في مهدها ،يخلق في الواقع أبعادًا خطرة على صعيد إنتاج الصورة السينمائية التي
يجب أن تتجمع في نقطة واضحة طبيعية على الشاشة ،حتى
171
سينما
يمكن القول بثقة :إن هذه األقنية الصاخبة المتفجرة تصبح خط ًرا
يعبر إدغار موران ،فإنها عملت ً أيضا على بعث هذا الحس في
تصبح هي مصدر إنتاجها ،ومصدر إنتاج القلق اإلنساني أن ما
النقطة – البؤرة الحقيقية للصورة ،حين ينكمش النجوم على
حقيقيًّا على نوع النظرية التي يجب أن ترافق هذا التطور حين يحدث على هذه الشاشة يتعدى نوع الفن السابع الذي ع ّرفه الكبار
في أعمالهم ونظرياتهم ،وهذا قد يبرر في جانب صعود السينما
الوثائقية على الصعيد العالمي على حساب السينما الروائية التي تحفل باإلبهار والتقلبات الفيزيائية في نوع الرؤية ومستواها
وبياناتها المعهودة؛ ذلك أن السينما هنا بمفهومها الشائع تصبح
السينما التي يصنعها الجميع ،والتي سيعرفها الجميع ،فألن االنقالب الرقمي قد صنع هذه االنعطافة على صعيد السينما
الروائية التي يموت معها منظومة النجوم في نفس الوقت كما
التجريب الوثائقي مع بشر عاديين يريدون أن يروا أنفسهم في أنفسهم عبر تقنيات رقمية ال تكف عن نفث اإلبهار إلى ما بعد
اللياقات العقلية اإلنسانية.
ما تفعله السينما الرقمية ،مع تسجيل أكبر اعتراف بأنها
تقود المشاهد إلى مثل ما بعد اللياقات العقلية اإلنسانية قد تصبح في الوقت نفسه طاردة لمعظم ما قيل من نظريات في
هذا المضمار ،وبالتالي تصبح عرضة لخطر االنزالق في تسميات
وتوصيفات قد تكون خط ًرا على الفن السابع نفسه حين ال
يمكنه التماهي فيها ،إنما الدوران المغلق حول «خوارزميات
172
فلم سيد الخواتم
الفن السابع إلى مجاهل غامضة ليس ببعيد أن تعلن السينما الوثائقية –مثلاً – عن فتوحات خاصة بها في مواجهة هذا االنفالت الرقمي الذي يقود الفن
السابع إلى مجاهل غامضة ،ليس من باب أن المرء بطبعه عدو ما يجهل؛ ذلك أن ما يحدث في مسيرة الكائن البشري غير مسبوق ،وال يمكن التكهن به ،وقد يترك وراءه ً نوعا من األسئلة األخالقية الملتبسة؛ ألن بعض أسلوبيات هذا الفن التي أيضا ،وليست ً نعرفها هي شأن أخالقي ً شأنا جماليًّا بح ًتا كما قد يتخيل بعض ،وعليه فإن االنتصار للسينما التي نعرفها ،بما تحمله من احتفاء بالجمال والبساطة التي ال تعرف هذا البذخ الرقمي هي احتفاء بالكائن اإلنساني المتفرد الذي يترك وراءه ً عنوانا واسمً ا المعين في فضاء اإلبداع ،وما تعوزه السينما في هذا الظرف هو االنفتاح على مرتكزات هذا الفن ومدارسه،
وليس التنكر له.
فمن المؤكد أن المالحم البصرية الرقمية التي يجري إنتاجها من وراء الحواسيب ،وتطرح أسئلة رقمية ليس هناك إجابات
عليها؛ ألنها تفتقد كل ما من شأنه إعادة إنتاجه في قوالب لغوية تسمح بتأكيد األبعاد التي نشأت عليها الصورة السينمائية ً أحيانا ألسباب تجارية في معظم األحيان ،وشجعت بما تحمله من ابتكارات أسلوبية قللت من «التخابث» البصري الذي ينشأ
العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
شياطين الثورة الرقمية ..ماذا فعلوا بسينما الكائن اإلنساني المتفرد؟
معقدة» دفع لها شياطين يقبعون في الظل حتى تصل بهذا
الكالم ليس قولاً ناش ًئا في معاداة مفهوم التطور ،ولكنه مجرد
منه أن نظريات الفن السابع الشائعة التي عرفناها من خالل أسماء كبيرة المعة سوف تتنازل عن كرسيها ً أيضا لحساب
اللذين ميزا الفن السابع عبر العقود الماضية ،فكل ابتعاد من البعد الذهني للصورة ،أو تفريغ لمحتواه تحت أي اسم أو فعل
هذا الفن التي ال يعود يتدخل بها اإلنسان نفسه ،كما كان يفعل
الذي تكونت منه السينما.
الفن إلى هذا المستوى المعقد من التطور .هذا يعني في جانب
«تنظيرات» جديدة غير معهودة ترتبط بها تقنيًّا وتعزل جماليات في الصعيد ذاته حين كان ينتصر للغة السينمائية وجمالياتها
تحسب من تطور غير محسوب ينفي عن اإلبداع تميزه وفرادته
تقني يقود نحو تكسير هذا الفن ومعاداة طقس المشاهدة األثير
التي تخص كل مبدع على حدة. المبدع يخسر موقعه
يكاد المبدع هنا يخسر موقعه في كل «ملحمة» بصرية
مبهرة .هذا قول خطير بطبيعة الحال ينال من مكانة هذا الفن، وربما ينال من مراكمات جمالية امتدت على أكثر من قرن ،ويكاد يلغي المسافات بين تلك النظريات التي اعتدنا عليها في تصحيح
نوع الرؤية وطرق التعود في تقبل الصورة السينمائية بأسلوبيات مختلفة دفعت بأساطين السينما إلى التفرد وتخصيص مساحات ملهمة لكل فلم جديد ،فيما يبدو أن تناسخ الصور هنا يفعل فعله
في استغباء المشاهدين ،وربما في استعدائهم على المراكمة البصرية التي حدثت في الماضي وصنعت مُشاهِ دً ا متم ِّي ًزا يعرف أين يكمن الطقس السينمائي ،وما حدود الغفلة التي تنتابه
حين يغادر الصالة بال ضجيج وصخب غير طبيعيين .تبدو الحالة ً أيضا مريعة حين تتقلص اإلمكانات النظرية في مواجهة هذا االنقالب الرقمي :كيف يمكن اإلمساك بالبعد الذهني للصورة،
وكيف يمكن التوقف عن مزاحمة البعد الجمالي بألوان وخلفيات غرافيكية ال تحتمل قول شيء في تعريفها ،وهي تغير ً أيضا من طريقة الكتابة السينمائية التي تنحو باتجاه أفعال مستمدة من
هذا االنقالب غير المسبوق في تعريف األشياء بأسمائها ،وهذا
فلم حرب النجوم
السينما تتغير باسم «األثر المزيف» للصورة التي يشتغل عليها شياطين الثورة الرقمية من دون أن يضطر أحد لمعرفة أسمائهم
عليه الثورة اإلعالمية الرقمية في مختلف الصعد ،وهي ال شك تدفع إلى والدة مفاهيم جديدة سيتربى عليها إنسان القرن الـ21
وقد تدفع إلى حدوث انقالب مضاد ،وهذا متوقع كما أسلفنا على صعيد نمو السينما الوثائقية وتفتحها التي تعيد تعريف هذا
اإلنسان في مجاهل هذا القرن الرقمي ،وهذا ما سيحتاجه مخرجو الموجات ما بعد الجديدة التي قد تتبلور كرد فعل على االنقالب الرقمي الذي قاد الفن السابع نحو مالحم بصرية غير مكتملة وإن بدا أنها وصلت في نوع من التطرف غير المسبوق إلى
قول كل ما يمكن أن يقال حتى لو لم يرد الكائن البشري قوله في سياق فلم أو مشهد مما يتاح صنعه في مثل هذه المالحم.
كل ما قيل ً آنفا ،هو محاولة في توصيف هذه الواحة البصرية غير النهائية ،التي يقف اإلنسان أمامها حائ ًرا وقد انزلقت بها
األشباح المرئية إلى أعماق ال يمكن التكهن بقرارها ،أو هي من غير أعماق وال يمكن معرفة حقيقة المشاعر التي تنبثق منها؛ إذ تبدو من غير مشاعر وتستغرق بقول كل ما ال يمكن أن نريد قوله ،ولذا فإن محاوالت توصيف هذه المالحم البصرية يمكن ً أن تأخذ منحى أخالقيًّا ً الحقا عنها في كتابات قد ال نعرف من يقف وراءها ،وقد ال يمكن أيضا ،وهنا تكمن أهمية ما سيقال الجزم بنوع الصورة التي يبحث عنها هؤالء ،وقد أطلقوا العنان لمخيالت تبدو من دون حدود ،ولكن مع شيء من التركيز في تلك النقطة الوحيدة الواضحة التي ينبثق منها الفلم السينمائي سيمكن القول :إن هذه المخيالت أسيرة واقع رقمي معقد ال
يمكن التكهن بمعرفته ،أو التنظير الجمالي للدوافع التي ينطلق منها في محاكاة هذا الفن العظيم.
173
مسرح
مداخل نظرية إلى السردية المابعد الدرامية
التحول في مفهوم الفرجة وقصدية القطع مع صيغ الحكي التقليدية عبدالرحيم اإلدريسي
174
باحث مغربي
تتأسس العالقة بين السرد والمسرح على مسافة تحمي دومً ا تحولها؛ ذلك أن هذه ُّ وتبدلِها ،بغية العالقة ملتبسة بحكم سيرورة التحققات المسرحية ،وبحكم تجدد القراءة ضمان حيوية السرد في العروض المسرحية .فمن دون هذه الحيوية ،يصبح المنعطف السردي في المسرح المعاصر ،بما يفتحه من أفق متحول ومستمر ،منذورًا الستسهال تداخل األنواع أو تجاور اإلمكانات الدرامية وغير الدرامية المفتوحة.
جان المبير وايل -موت ٓادم
العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
وإن هذا االستسهال ال يمكن دفعه إال بمداخل نظرية،
أهمها:
أول -يعد الدرامي أصل بناء الحكي .Le recitوالحكي
ال يشير إلى الخطاب ،بل إلى المؤ َّدى السردي ،بخالف
السرد الذي يضطلع بتعيين محفل األداء والتلفظ ويدل على فعل السرد الذي له طبيعة تداولية تستند إلى تحققات نصية وغير نصية مفتوحة ،وتجعل الحكي المسرحي
غير اللغة مثل األداء المسرحي يتحقق بوسائل أخرى ِ والصورة والوثيقة .ويبدو من الصعب في الفرجات
ُ عرض فعل من دون أن نحكي شي ًئا ،وال يُهم أن المعاصرة ً يكون األثر السردي حكاية مبنية أو مجر َد مُ َس َّودة حكاية.
في كل تجربة درامية أو ما بعد درامية نكتشف بداية محكي أو إمكانية حكاية يُقدم المتفرج على إكمالهما أو تخيلهما.
إننا دائمً ا نحكي شي ًئا.
ً خاصية ثانيًا -نفترض نظريًّا السر َد Narration
غير حكائية (الشعر قد ترد في نصوص تخييلية مختلفة ِ غير تخييلية (اإلشهار ،والتاريخ، والمسرح والسينما) ،أو ِ والوثيقة ،ومحضر حول واقعة أو اعتراف ،وقصاصات ِصحافية وتحقيقات…) .وال يمكن بموجب هذا الحد ّ عدُ السرد عنص ًرا حاسمً ا في تحديد هوية النوع المسرحي،
إنما يمكن أن يتساوى مع مكونات أخرى في هذا التحديد، ويرسمَ طريقة تجريبية ملموسة في التمثيل ،تتسع فيه دوائر التخييل والالتخييل وتتنوع أشكالها. ً ثالثا -إن فعالية السرد في مسرح ما بعد الدراما تتحقق
من أعمال وجدي معوض
في كل تجربة درامية أو ما بعد درامية نكتشف بداية محكي أو إمكانية حكاية ُيقدم المتفرج على إكمالهما أو دائما نحكي شي ًئا تخيلهما ،إننا ً في العرض من حرية ومن إمكان االستهداء إلى الذاكرة
ً وسيلة أساسً ا لها .وتكتسب هذه في خبرة تتخذ من التخييل
واالشتباه بين الواقع والتخييل.
وثقافي ال تتسع للحكايات الكبرى واألنساق المغلقة .وهذا
االحتفاء بانهيار المعنى
وإدراك معرفي الخبرة صبغة تمثيل Représentation ٍ
عروض الفرجات وفي هذا السياق اتخذت مصاحبة ِ البديلة منحيين:
أمر بالغ الداللة في الفنون األدائية ،فالتمثيل السردي في ً ً إحالة على عوالم خلقا لوهم المركزية أو المسرح ليس يمكن أن ُتنكرها «الحقائق الخاصة» ،بل هو تخييل يقوم على
(Anne Monfort. Après le postdramatique:
(صيغتا الواقع والتخييل) ما يؤدي إلى خلق طبقات تخييلية
théâtre néo-dramatique. Mondes en narration
ووضعه بين صيغتين االنتقاء والفصل وعزل عالم مصغر ِ فرجوية تحكمها «مرجعيات مفتوحة» ،هي المرجعيات التي تستند إليها دراماتورجيا المتفرج وتسقط التخييل على
الواقع .لذلك ،فإن األداء ،من هذه الزاوية ،وهو يسعى
للتخلص من أسبقية المعايير الدرامية ،ال يشكو من «انكفاء الفعل» وال يحرص على مركزيته ،فهو في كل مكان ،لكنه
(األداء) يحتاج إلى «محكيات جزئية» يحولها إلى عالم
مكتف بذاته ومنشغل بسؤال الكتابة وما يشترطه فرجوي ٍ
narration et fiction entre écriture de plateau et )N.3 | 2009.
يقوم المنحى األول على رصد تصور هذه الفرجات
تتبعها في المنجز للسرد كلغة وإمكانية قبل تحقق ِ المسرحي ،أفضى هذا التتبع إلى استنتاج أساسه أن
المسرح المابعد الدرامي يستند إلى السرد في تركيب انشطاري ّ دال على قصدٍ في عدم االنشغال بتأمين الوشائج بين مِ فصل السرد ومفاصل أخرى ،بقدر ما هو حريص
175
مسرح
من أعمال وجدي معوض
على استنبات التدمير الذاتي واالحتفاءِ بانهيار المعنى
176
واألشكال المعهودة ،بقطعها وإعادة بنائها بالمجاورة،
وتمكين السرد من عرض التخييلي والالتخييلي .أما المنحى ِ
فعل السرد في الفرجات البديلة من الثاني فيتغيا تأمل ِ خارج سياقه النوعي (السرديات اللغوية) بما يتيح تحليل
لخصائص الفرجات البديلة التي ال تتحقق بين الكتابة صور ِ ٍ والعرض ،إنما تنبني سيرورتها المشهدية عبر الفرجة وفي أثنائها .هذان المنحيان يقودان إلى صلب األسئلة المربكة، من قبيل :لماذا المسرح المابعد الدرامي مثلاً انعطف إلى
االنحياز إلى إِشكال ،سواء من منظور مشروعه الدراماتورجي
كفعل فرجوي أو من منظور التلقي المسرحي. منذ عشر سنوات َت َّ شكل في الفرجات األوربية توجهان
يمكن أن يوصفا كتحقق للمسرح المابعد الدرامي:
األول :الكتابة ال ُّركحية « » Lécriture de plateau كما يحددها
Bruno Tackels (Tackels, Bruno (2001) : Fragments .)d’un théâtre amoureux.Les Solitaires intempestifs
التي حوَّلت مفهوم الكتابة السردية إلى مركز المشروع الدراماتورجي بمكوناته البصرية والكوريغرافية ،فتؤ َّدى الكتابة ُالسردية من خالل
إن الفرجة المابعد الدرامية أكدت قصدية القطع مع
مجموع الوسائط المكونة للفرجة ،ويتحكم في هذه الكتابة وضعٌ ِ خاص على مستوى التلقي ،مثلاً في السرد البصري يُصبح من الالزم
محكيات التراجيديا القديمة أو الحكي الداخلي في عمل
الصورة من خطها البصري كلغة إلى الحقل الذهني؛ الستيعاب
السرد ،على الرغم من حضوره في المسرح الدرامي؟
كل صيغ الحكي التي تشير إلى األشكال الدرامية التقليدية، ومفهوم السرد هنا غي ُر أشكال الحكي التي تصنعها مثلاً
درامي ،بل سرد ينظر إليه من جهة حصيلته األدائية ،حيث إن الفرجة انحازت إلى سردية فرجوية َتحوَّل معها هذا
العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
ُ إخراجُ الصور من مستواها البصري إلى سياقها الفني المسرحي، وال يمكن لهذه الخطوة أن تتحقق إال بوجود ٍّ متلق قادر على تحويل ممكنات ظهور المعنى لدى المشاهد ،فنكون في هذا المستوى أمام فرجة تتحول العين معها من اإلبصار إلى النظر.
التحول في مفهوم الفرجة ..وقصدية القطع مع صيغ الحكي التقليدية
الثاني :مفهوم مسرح الدراما الجديدة «Théâtre néo-
»dramatiqueوهو تمسرح يقوم فيه نص الشخصيات
والتخييل على أساس عمل مشهدي Travail scénique ُ النص وحُ ِّطمت الشخصيات ،وصار التخييل حتى لو ُقوِّض ّ محل سؤال ،وبخاصة أمام تدفق الموضوع الوثائقي وانتفاءِ التخييلي من السردي (مجدي معوض) ،مثلما نرى في
الكاتب -المخرج -الممثل ذاتُه ليس سوى نسخة ،أما األصل فموجود في مكان آخر ،هو الشخصية ،الصوت الخفي الظاهر الذي يكتب أو يؤدي حكاياتالممثلين بطريقته الخاصة
محكيات القول الصحافي .في ضوء هذا التصور ترى «آن مونفور »Anne Monfortفي مقارنتها بين مفهومي الكتابة
الركحية ومسرح الدراما الجديدة ،أنهما معً ا يتجهان إلى
يخص حجم «الحقيقة» ،بل يدل على صيغة في تصورها.
إعادة النظر في المقوالت الكالسيكية للمحاكاة والحكي بما
إن الوهم هو ما يأتي من الواقع ،أما الحقيقة فموجودة
بالمقابل ،داخل التمثيل المسرحي المعاصر بضمان التحول
لذلك ،فالمؤدي ال يفكر في «سيرته» ،كصورة طبق ً صوغا سرديًّا من صنع «ذاكرته» ،ال من صنع األصل ،بل يريد
أنهما يتأرجحان بين االفتراضية والواقعية ،فيتكفل الحكي، من خالل مستجدات األحداث ،ويصبح الجمهور أمام عالم
مستمر الدوران السردي الذي به يصل المتلقي إلى تشكيل صورته التخييلية الخاصة. الوهم الواقعي
بين مكونات العرض المتعددة والمفتوحة.
الوقائع فقط .وذاك ما تدعو إليه الفرجة وتقوم بالتمثيل له من خالل كل محكياتها؛ فالكاتب -المخرج -الممثل ُ ذاته
ليس سوى نسخة ،أما األصل فموجود في مكان آخر ،هو الشخصية ،الصوت الخفي -الظاهر الذي يكتب أو يؤدي
أشكال كثيرة للكتابة الركحية مثلما في الرقص لكن في ِ
حكايات الممثلين بطريقته الخاصة .لكن هذا األمر ال يعني تقابلاً بين «واقع» و«خيال» ،بل نحن أمام تأرجح بين «أنا»
مفهوم التخييل الذاتي من الكاتب إلى الممثل ،أو أن يؤدي ُ الممثل فيه محكياتِه الذاتية باسمه كسارد ،فيتقلب دوره
والتمثيل الالحق الذي سيُحول الوقائعَ االشتباه التخييلي ِ الحياتية إلى محكيات مسرحية ،توهم بالقطعية ،وهي ،تبعً ا ٌ مدرجة ضمن «ميثاق واقعي» يضمنه اسم المؤ ِّدي، لذلك،
المعاصر أو الفرجة يصبح التخييل الذاتي أو الجماعي إبدالاً سرديًّا ،كأن يضع الكاتب َ ذاته في المشهد حين يمر
ً ً فجوة كامنة في محدثا بذلك كس ًرا - بين التمثيل واألداء،
العرض بين التخييل والالتخييل ،هذه الوضعية عكست لدى «ليمان» سؤالاً مؤسسا للمسرح المابعد الدرامي ً تتحين فيه من خالل هذا الكسر الكامن ،صو ُر التعايش أو
التجاور بين مستويات التخييل والالتخييلLehmann. . ِ ) )P.205وهذا هو مصدر «الوهم الواقعي»؛ ألن العرض يحكي «الواقع» من خالل التخييل ،وال يمكنه أن يستند إلى
التخييل إال من خالل إسقاط الواقعي المرئي والمحسوس وبعض إحاالتهما هنا وهناك. عبر اسم الكاتب أو الممثل ِ فال يمكن لمحكيات «واقعية» أن توجَ د إال من خالل ممكنات التخييل ذاتِه لإليهام بحدث درامي .وهذا الوضع ال
اليقين الواقعي في حكايات الممثلين من جهة ،وبين «أنا»
من حيث ّ ُ توقعُ وتقطعات صور من حياته دوره في الكتابة ِ
حكي واقعي ،هو في األصل جزء من انسيابية داخل حاالت ِ
إيقاع مألوف ،لكن التحويل المابعد الدرامي يقطع تحبيك هذا اإليقاع ويوقف سريانه بما أنه نسيج بنائي تقليدي رابط.
إن اإليحاء بواقعية الحكاية هو الذي يسوغ تخييلية السرد
التي يواجه األداءُ المسرحي تعذرها تحت ضغط نفور مسرح َ مكون ِي «الحدث» و«الحكاية» fable ما بعد الدراما من واستنا ِده إلى سردية «موقف» أو حالة .وذاك هو مصدر ُ وقيمة «الصنعة» السردية في هذه الممارسة المسرحية المضاف فيها ً أيضا.
177
تشكيل
ذكر أن أعمال كبار الرسامين المصريين مهددة بالخطر
أحمد الجنايني: مهمتنا أال يتحول أتيليه القاهرة إلى مركز ثقافي إسرائيلي القاهرة
178
ال تكاد تشعر به ،لكن أثره موجود في كل مكان ،تراه في مقدمة صفوف الفنانين التشكيليين، حيث يشغل منصب رئيس مجلس إدار أتيليه القاهرة للفنانين واألدباء ،هذا المكان الذي أسسه المصور المصري الكبير محمد ناجي عام 1953م ،ليصبح منارة ثقافية تدافع عن التشكيل واألدب ً معا ،إنه الفنان المصري أحمد الجنايني (1954م) الذي تتلمذ على يد الفنان المصري الكبير حامد عويس عام 1979 - 1978م ،وبعدها درس الفن في ألمانيا في المدة 1981 : 1980م ،وكتب الشعر والرواية ،وصمَّ م أغلفة العديد من سالسل الكتب ،وأنشأ دار نشر ،ورأس تحرير مجلة «الخيال» المعنيَّة بالفنون البصرية ،وهو القائل :إن تاريخ مصر التشكيلي في خطر« .الفيصل» حاورته حول تجربته إضافة إلى قضايا أخرى. مارسْ َت الفن التشكيلي والشعر والكتابة الروائية؛ فما رؤيتك
األساسية للفن؟
ُ كنت واضحً ا منذ البداية مع نفسي في أنه ال يوجد غرف مغلقة
للصنوف اإلبداعية ،لكن كل اإلبداعات تشكيلية أو موسيقية أو شعرية أو مسرحية ...،جميعها يشتبك معً ا ،كان هذا عمود أستند إليه في رؤيتي لمشروعي اإلبداعي ،كما أن مثلث اإلبداع ال بد أن
يكون موهبة -خبرة -ثقافة ،وأنه ال يمكن حذف أو إلغاء أي من العناصر الثالثة ،وال يمكن أن يقدَّم عمل إبداعي بضلعين من دون الثالث.
ال تنتمي اللوحة لديك إلى سياق مدرسة فنية بعينها ،وربما
تكون مزيجً ا من مدارس مختلفة ،فما المؤثرات التي تدفعك لذلك؟
العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
من أعمال الجنايني
أحمد الجنايني ..مهمتنا أال يتحول أتيليه القاهرة إلى مركز ثقافي إسرائيلي
ممارسة العمل اإلبداعي تشكيليًّا تعتمد على ماهية اللغة
استفدت منه كثي ًرا في المراحل األولى من تكويني ،فإذا أضفنا
البطل ،وماهية لغة التشكيل هي اللون -الخط -الكتلة -الفراغ -
ذلك إلى حكايات القرية وألعاب األوالد والبنات الشعبية التي كنا
بصريًّا ،رغم إمكانية اشتباكه مع الموسيقا أو الشعر .وبالنسبة لي ِ فإنني أعتمد الجسد اإلنساني ،أو بمعنى أدق ،اإلنسانَ بطلاً للغتي
ذاكرتي البصرية.
المساحة .أي جميع العناصر المرئية بصريًّا ،لذا سيكون البطل دائمًا
لونا أو ًّ التشكيلية ،أحمله بكل المضامين التشكيلية سواء أكانت ً خطا مسافة أو ً ً كتلة أو ً فراغا ،لكن الهم اإلنساني يكون حاف ًزا لطاقتي أو التشكيلية ،وأنا ممن يؤمنون بموسيقا اللون ،وبالتالي فإن لغة اللون
عندي تعتمد كلية على فهمي الواعي للعالقات اللونية سواء أكانت
التضاد أو الهارموني أو غيرهما ،المهم عندي أن أرى الموسيقا من خالل اللون ،وهذا يمنح العمل جاذبية للتلقي ،ويأخذ المشاهد إلى أبعاد أخرى ترتبط جميعها رغم مضامينها المختلفة بجماليات المشهد ،ولكي أحقق هذا كان ال بد لي أن أمارس التشكيل بعيدًا من
نمارسها بحب وفرح رغم ظلمة الشوارع التي لم تكن تعتمد إال على المصابيح النفطية في ذلك الوقت ،كل هذا َّ شكل جزءًا كبي ًرا من
َ مارست فن تصميم األغلفة لعدد من سالسل الكتب ،فإلى
أي مدى أسهم الكمبيوتر وما أتاحه من خيال جديد وبرامج عديدة في تشكيلك اللوحة وعالمها؟
ال تربطني أي عالقة بما نسميه فن الكمبيوتر أو العمل الفني
من خالل الكمبيوتر ،أنا أمارس الفن التشكيلي بأطراف أصابعي معتمدًا اللون بمختلف خاماته ،سواء أكانت زيتية أو أكريلِك أو ً ألوانا
مائية ،وأنا من الفنانين الذين ال يؤمنون بتحضير اللوحة من خالل رسم إسكتشات ثم بعد ذلك نقل اإلسكتش ليكون لوحة ،أنا أومن
صناديق المدارس التشكيلية الجاهزة ،فأنا أومن بحرية التعبير وحرية استخدام الفنان للغته الخاصة؛ إذ ليس من الضروري أن يكون ً واقفا
منذ بداياتي بأن الشخصية األولى هي اللوحة؛ لذلك تكون عالقتي
من هنا كانت تجاربي مزجً ا بين مدارس تشكيلية مختلفة ،فالتجريد
ضربة الفرشة األولى في اللوحة هي بمنزلة الطلقة األولى التي تفتح
داخل صندوق مدرسة معينة ،ويغلق على نفسه هذا الصندوق،
امتزج بسوريالية اللون ،والتعبيرية امتزجت بدراما التجريد ،وهكذا. كيف تشكلت الذاكرة البصرية لدى أحمد الجنايني؟
أنا ابن قرية تنام في حضن النيل ،حيث فرع دمياط؛ لذا فمنذ
طفولتي كنت أشكل الطمي وأتعامل مع مفردات النهر ومفردات
الطبيعة بوصفها المخزون الوجداني والثقافي والبصري ،ورغمًا عني
مباشرة مع سطح اللوحة ،من دون االتكاء على عمل إسكتشات، لي سردابًا ال أعرف ما الذي يسكنه ،لكنني أعرف تمامًا أنني ال بد أن
أعبُر من هذا السرداب ،هذه هي عالقتي الحقيقية بالعمل التشكيلي. كيف ترى واقع الحركة التشكيلية في
مصر اآلن؟
الحركة التشكيلية يشوبها
مارست ذلك من دون أن أفهم ذلك بوعي ،ابن القرية الذي رسم
الكثير من العالقات التي غيَّبت
التربية الفنية في المرحلة اإلعدادية مع الطبيعة ،حيث كان يطلب
وأقصد بها عالقة وزارات التربية
بالطبشور على جدران المنزل وأبواب الغرف ،وتعامل في «حصة» منا مدرس الرسم على السبورة أمام الزمالء ،وهذا ما شجعني على
ممارسة التشكيل.
هناك جانب آخر مهم وهو مكتبة أخي األكبر التي كانت تضم
كتبًا مهمة منها كتاب التشريح للفنانين -مؤلفه يوجن وولف -الذي
بدأ الصراع في أتيليه القاهرة حين تواطأ مجلس إدارة األتيليه األسبق عام 2008م مع من يمتلكون عقار أتيليه القاهرة، وهم ورثة ليندا كوهينكا اليهودية، المقر على أن وذلك بعدم دفعهم إيجار ّ َصدر ويست َ يقاضي الورثة مجلس اإلدارة ُ قرار من المحكمة بطرد جمعية األتيليه، وتسليم العقار للورثة
المفهوم
الحقيقي
لإلبداع،
والتعليم والثقافة واإلعالم بمفهوم التشكيل والثقافة
البصرية وأهميتهما ،لقد اختلطت هذه المفاهيم عند
القنوات الثالث ،فغابت
المفاهيم
الحقيقية
179
تشكيل
ليس من الضروري أن يكون الفنان واقفً ا داخل صندوق مدرسة معينة ،ويغلق على نفسه هذا الصندوق ،من هنا مزجا بين مدارس تشكيلية كانت تجاربي ً مختلفة ،فالتجريد امتزج بسوريالية اللون ،والتعبيرية امتزجت بدراما التجريد فنية كبيرة من رواد الفن في مصر منهم :محمود سعيد ،وسيف
وانلي ،والجزار ،وحامد ندا وغيرهم ،يفقد الفن التشكيلي في مصر
مصداقيته وجالله ،وهذه مشكلة كبيرة طرحت وفاحت رائحتها في معرض السورياليين الذي أقيم في قصر الفنون بدار األوبرا بالتعاون
بين وزارة الثقافة وجهات خاصة أتت بكم هائل من اللوحات المزيفة، وحشرتها داخل المعرض فقط لتأخذ مشروعيتها في المزادات التي
يقوم بها هذا اللوبي.
180
من أعمال الجنايني
بوصفك رئيس أتيليه القاهرة ،ما حقيقة الصراع الدائر على
في المراحل التعليمية ،وهمشت في الثقافة ،وتكاد تكون ألغيت
بدأ الصراع في أتيليه القاهرة حين تواطأ مجلس إدارة األتيليه
يعد باإلمكان القبض على مفاهيم جمالية تقدم على أرضية حقيقية
ليندا كوهينكا اليهودية ،وذلك بعدم دفعهم إيجار المق ّر مدة أربع أو خمس سنوات ،على أن يقاضي الورثة مجلس اإلدارة ويُس َتص َدر
التشكيلي ،وبالتالي فالفنان التشكيلي الحقيقي ال يستطيع في المجتمع المصري بل العربي ككل أن يمارس حياته بصفته ً فنانا،
بقرار من وزارة التضامن االجتماعي ،ثم فصلهم من األتيليه بقرار
في اإلعالم ،وبالتالي فهذه الجزر المنعزلة والمنوط بها رفع مستوى الثقافة البصرية ال تقدم شي ًئا حقيقيًّا لتنمية الثقافة البصرية ،ولم
للمواطن العادي ،ومن ثم انفصل المجتمع بكليته عما يسمى الفن
ممارسة الفن لن تكون داعمة له لممارسة حياته بشكل طبيعي ،من ناحية أخرى ،وهي األهم ،إنه لكي ُتق ِّدم عملاً إبداعيًّا من خالل كونك ً فنانا ال بد أن تمتلك رؤية لهذا العمل ،وهذا ما نفتقده في كثير من
األحوال ،نحن في حاجة ماسّ ة إلى الثقافة اإلبداعية سواء أكانت إبدا ًعا أو ممارسة.
المق ّر منذ سنوات؟
األسبق عام 2008م مع من يمتلكون عقار أتيليه القاهرة ،وهم ورثة
قرار من المحكمة بطرد جمعية األتيليه ،وتسليم العقار للورثة ،كان هذا أساس المشكلة ،وأُوقِفت هذه اإلجراءات و ُعزل هذا المجلس من الجمعية العمومية ،لكن بعد خمس سنوات تغيرت الخريطة، وفوجئ مجلس اإلدارة الحالي بخطابات َت ِر ُد إليه من مدير التضامن االجتماعي ُتطالِب المجلس بإعادة األعضاء المفصولين بوصفهم لم يفصلوا ،وبدا المشهد مأساويًّا حين َت َّ كشفت خيوط التعاون بين إدارة
التضامن وعناصر من المجلس المفصول ،لنكتشف أن كل ما تسعى َّ يتمكن له وزارة التضامن هو إعادة الوضع إلى ما كان عليه ،بحيث
َ قلت في مقال :إن تاريخ التشكيل المصري في خطر؛ فكيف
المجلس المعزول من تسليم المق ّر إلى الورثة ،وهذا ما وقفنا ضده،
التاريخ المصري يضع مصر رغمًا عن أي شيء في مقدمة ً تاريخا إبداعيًّا حقيقيًّا ،لكن ما يحدث اآلن ربما الدول التي تمتلك
حكم القضاء ،وال يهمّنا إال أن نحافظ على كيان أتيليه القاهرة من
ذلك؟
يؤثر بشكل كبير في هذا التاريخ ،حيث إن هناك «لوبي» -وأعني بها معناها الحقيقي -يعمل ضد الفن بتب ِّنيه أعمالاً ال قيمة لها؛ كي تكون ً رهانا على تشويه وتشويش اإلبداع .ويتواصل في سوق المزادات مع ذلك الترويج لألعمال الفنية المزيفة التي شاع التسويق لها،
مما أفقد المتاحف الفنية الكثير من هيبتها ،فأعمال مزيفة لرموز العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
وقاضينا وزيرة التضامن ومحافظ القاهرة السابق ،ونحن في انتظار
أيدي العابثين الذين يسعون لتحويله إلى مركز ثقافي إسرائيلي ،أو على أقل تقدير إطفاء شعلته الثقافية التي أسسها المصوِّر المصري الكبير محمد ناجي في مارس 1953م ،وال يؤسفني في نضالنا هذا إال
تخاذل الكثير من المثقفين عن الدفاع عن هذا الصرح وتاريخه ،وعلى رأسهم وزير الثقافة الذي لم يح ِّرك ساك ًنا رغم أنني وضعت الملف كاملاً على مكتبه ،لكنه آثر الصمت البليغ.
أحمد الجنايني ..مهمتنا أال يتحول أتيليه القاهرة إلى مركز ثقافي إسرائيلي
181
نصوص
مرآة ال تريني وجهي مسفر الغامدي
شاعر سعودي
مقهى
ٌ سريع... الوقت الوقت بطيءٌ ...
ً سريعا... ليس بطي ًئا وال
182
و... غمامة عقيمة تظلل رؤوسنا دون أن نعيرها ً انتباها
نحن نتدحرج فيه كصخرة ،أو نتدفق كسيل
يمضي الليل
جارف.
تأتي اللحظة الحاسمة لصياغة البيان الختامي
الوقت هو اآلن ،ما نحن عليه في هذه اللحظة
للجلسة
فقط...
المتحدث الرسمي يتلو البيان بنبرة دبلوماسية
ليس هناك من وقت خارج اللحظة التي
تصالحية هادئة:
نعيشها... يمضي الليل
تتخلله أصوات أخرى:
ِّ معلق رياضي يمزق آذاننا بسكينه الحادة
الوقت ليس بطي ًئا
ً سريعا الوقت ليس الوقت بطيء وسريع في نفس الوقت. حسين
طلقات مدوية لحبات الدومينو على طاولة
أشعر بالذنب
مجاورة طلبات الزبائن التي ال تنقطع
كلما أحسست أنني أتفق معك في رأي ما ليس ألن ما تقوله خطأٌ
صراخ العاملين الذي ال يتوقف
ٌ صواب وما أقوله ولكن ألنني اخترت منذ البداية أن تكون نقيضي
و... شتائمنا ،لعناتنا ،تبرمنا ،ضحكاتنا ،بكاؤنا، أحالمنا ،أغانينا ،استغاثاتنا ،احتجاجنا... العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
المرآة التي ال تريني وجهي اآلن
بل الوجه الذي ضيع ُته منذ زمن بعيد!
ضياء
كمن يريد أن يقفز إلى المستقبل مباشرة سألني: متى سأتعلم القيادة؟ أجبته من خلف المقود: عندما تصبح السيارة جزءً ا منك قدمَ ك التي تمشي عليها َ يدك التي تمسك بها
ُّ التفت إليه في حبور ألرى الدهشة في عينيه ً ومرتبكا لكنه بدا حائرًا
أظنه كان يخفي عبارة من نوع: أنت غبي ًّ جدا يا أبي...
لماذا ِّ ّ الحد؟! تعقد األمور إلى هذا
عي َنك التي ترى بها
َ لسانك الذي تنطق به...
183
مقال
سعد البازعي ناقد سعودي
ترف الحرية استوقفتني عبارة للمفكر الفرنسي جان بودريار وردت
في كتابه «كرب القوة» .العبارة ستفاجئ البعض وتحزن ً وترفا لم البعض اآلخر .هي عبارة تتضمن شكوى لم نألفها
القدرة على تغيير شيء ،مع أنها استفادت من االستعمار
والنهب الذي مارسته حكوماتها ،وإن لم يشر بودريار إلى ذلك. حروب التحرر
يمر بنا :ترف الحرية .هكذا سيراه من يبحث عن فتات من تلك المحلوم بها أبدً ا ،الحرية ،تمامً ا كما هو شعور الجماهير
وعالم االجتماع الفرنسي حين قال« :كل حروب التحرر
تحت نافذة القصر اإلمبراطوري التي يقال :إن ماري أنطوانيت َّ ً كعكا ،أو أطلت منها لتقول عبارتها الشهيرة :لِمَ ال يأكلون
من السيطرة لم تزد على أن مهدت الطريق للهيمنة ،أي
قبل إيراد العبارة من الضروري معرفة السياق .جاءت
شيء بات مح َّررًا» .التبادل العام هو اقتصاد السوق حيث
كما قالت .فماذا قال بودريار؟ العبارة ضمن مناقشة بودريار
184
ذلك كله يقف وراء النتيجة التي توصل إليها المفكر
عهد التبادل العام – التي ال مجال للثورة عليها؛ ألن كل تبادل السلع واألفكار وغيرها،
لما وصفه باالنتقال في تاريخ
العالم الغربي من مرحلة السيطرة ( )dominationإلى مرحلة
الهيمنة ( ،)hegemonyاألولى
هي مرحلة العبودية أو السيطرة
المباشرة التي سادت في الماضي، والثانية هي مرحلة الخضوع غير
المحسوس والمشاركة في عملية اإلخضاع نفسها .وهذه الثانية
هي المرحلة الحالية التي يسيطر فيها اقتصاد السوق والعولمة أو
السوق التي تعولمت ولم يعد
الواقعون تحت السيطرة أو الهيمنة ليسوا محصورين في أهل العالم غير الغربي ،الذين استُعمروا و ُنهبوا طوال قرون ،إنما
ممك ًنا السيطرة عليها ،بل
التي باتت هي ،حسب بودريار تسيطر على الناس .في تلك
السوق لم يعد مجال لثورة ألنه لم يعد هناك متسلط واضح
أيضا الشعوب الغربية نفسها هم ً
يمكن الثورة عليه.
سياسية واقتصادية واجتماعية
لشعوب كثيرة حول العالم
أيضا بقوى التي ظلت محكومة ً الطبقي وبأوضاع من التفاوت ّ
عملية التبادل التجاري الطاغي
لكن هذا لن يبدو مقنعً ا
تعرف المتسلطين ،شعوب ما
زالت في مرحلة تسبق تلك التي رأى بودريار أن العالم وصل
على كل شيء .ثم يشير إلى أن مرحلة العبودية أدّت في ذروتها
إليها ،مرحلة يهيمن فيها فرد مستبدّ أو عسكر ،أو أقلية
لكنها اتسمت بأفكار واضحة وقادة مرئيين ،أما الثانية فال
ألولئك سيبدو كالم بودريار ً ترفا ال معنى له .ثمة أولويات
إلى حركة تحرر سواء أكان سياسيًّا أم جنسيًّا أم غير ذلك،
تسمح ،كما يقول ،بالثورة عليها ،وقبل إيضاح السبب وراء
أو مجموعة من المتزمتين أو المؤدلجين أو أو .بالنسبة
تسبق العولمة .غير أن المشكلة لن تقف عند ذلك الحد.
ذلك يلزم القول بأن الواقعين سواء تحت السيطرة أو الهيمنة
ستبدو المشكلة مضاعفة حين تكتشف تلك الشعوب أن
غير الغربي ،شعوب آسيا وإفريقيا ...إلخ ،الذين اس ُتعمروا ُ ونهبوا طوال قرون ،ليسوا أولئك فقط ،إنما هم ً أيضا الشعوب
من خالل اقتصاد السوق وهيمنة االستهالك قوة طاغية ً أيضا .صحيح أن بودريار لم يلتفت إلى تلك السلطة
ليسوا محصورين ،كما قد يظن ألول وهلة ،في أهل العالم
الغربية نفسها التي ظلت محكومة ً أيضا بقوى سياسية
واقتصادية واجتماعية ،وبأوضاع من التفاوت الطبقي وعدم
ما يقوله المفكر الفرنسي ال يخلو من صحة ،أن العولمة
المضاعفة لكن ذلك ليس متوقعً ا منه ،فااللتفات هنا هو ِّ مفكري العالم غير الغربي فِعله. ما يجب على
العددان 490 - 489شوال -ذو القعدة 1438هـ /يوليو -أغسطس 2017م
ُﻏﺼﺛّﻡ #ﻄﺎﺗﺷ_ﺍﻝﻑﻐﺧﻀ ﻝﻂﻑﻆ ﺍﻝﺳﺭﺏﻎ ﺍ�ﺠﻘﻄﻎ ﻇﻡﺍﺫﺝ ﻄﻆ ﺍﻝﻡﺔﻡﻌﺲﺋ ﺍﻝﻑﻈﻐﺋ ﺍﻝﺎﻎ ﻏﺼﺎﻈﻐﻋﺍ ﺍﻝﻡﺭﺾﺞ ﻄﻆ ﺥﻘﻝ ﺻﺍﺲﺎﻐﻆ
أوﻗﺎت اﻟﺰﻳﺎرة ﻣﻦ ﺍﻷﺣﺪ ﺇﳳ ﺍﻟﺨﻤﻴﺲ:
* * اﻟﻘﺎﻋﺔ اﻟﺜﺎﻧﻴﺔ :ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﺼﺎﺣﻒ ﻣﺨﻄﻮﻃﺔ وﻣﻄﺒﻮﻋﺔ ﻓﺮﻳﺪة. اﻟﻘﺎﻋﺔ ا وﻟﻰ :ﻗﻄﻊ ﺗﺮاﺛﻴﺔ ﻧﺎدرة ﻣﻦ اﻟﻔﻦ اﻟﻌﺮﺑﻲ ا ﺳﻼﻣﻲ.
ﻣﻦ 9ﺻﺒﺎﺣﺎ ﺇﳳ 3ﻋﺼﺮﺍ – ﻭﻣﻦ 5ﻣﺴﺎﺀ ﺇﳳ 9ﻣﺴﺎﺀ
ﻳﻮﻡ ﺍﻟﺴﺒﺖ :ﻣﻦ 5ﻣﺴﺎﺀ ﺇﳳ 9ﻣﺴﺎﺀ ﻳﺴﺘﻤﺮ ﺍﳴﻌﺮﺽ ﺣﺘﻰ ﻧﻬﺎﻳﺔ ﺷﻬﺮ ﺫﻱ ﺍﻟﺤﺠﺔ 1438ﻫـ ،ﺍﳴﻮﺍﻓﻖ 20ﺳﺒﺘﻤﺮﺒ 2017ﻡ
ﺃﻛﺜﺮ ﻣﻦ 200ﻗﻄﻌﺔ ﺗﺮﺍﺛﻴﺔ ﻧﺎﺩﺭﺓ ﻭﻣﺼﺎﺣﻒ ﺗﺎﺭﻳﺨﻴﺔ ﻓﺮﻳﺪﺓ ﻣﺨﻄﻮﻃﺔ ﻭﻣﻄﺒﻮﻋﺔ )ﻣﺼﺎﺣﻒ ﺍﻷﻣﺼﺎﺭ( ﻣﻦ ﺍﻟﻘﺮﻥ ﺍﻟﺜﺎﻧﻲ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻘﺮﻥ ﺍﻟﺮﺍﺑﻊ ﻋﺸﺮ ﺍﻟﻬﺠﺮﻱ
ﺹ.ﺏ 51049ﺍﻟﺮﻳﺎﺽ 11543ﺍﻟﻤﻤﻠﻜﺔ ﺍﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ﺍﻟﺴﻌﻮﺩﻳﺔ ﻫﺎﺗﻒ (+966 11) 4652255 :ﺗﺤﻮﻳﻠﺔ - 6759 :ﻓﺎﻛﺲ(+966 11) 4659993 : ﺑﺮﻳﺪ ﺇﻟﻜﺘﺮﻭﻧﻲpublish@kfcris.com :
KFCRIS_SA
kfcris_sa
KFCRISKSA
@kfcris_sa
www.kfcris.com
King Faisal Foundation
(+ 96611)4656524 :¢ù``cÉa (+96611)4652255 :∞JÉ``g á`` ` ` ` jOƒ`©` `°ù`dG á`` ` ` «Hô`` ©` dG á`` ` ` ` µ` ∏ª`ŸG 11411 :¢VÉ`` `jô``dG 352 :Ü .¢U
P.O.Box 352 Riyadh 11411 Kingdom of Saudi Arabia Tel: (+966 11) 4652255 Fax: (+966 11) 4656524
www.kff.com