issuu476:475 مجلة الفيصل

Page 1

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬

‫العرب في مواجهة الشتات‬

‫رقما‬ ‫أنا لست‬ ‫ً‬

‫أليكسييفيتش‪:‬بوتين أنفق‬ ‫أموال النفط على الجيش‬ ‫برهان غليون‪ :‬أدونيس‬ ‫يخاف من الجماهير!‬

‫صورة المثقف‬ ‫العربي بعد الثورات‬ ‫‪www.alfaisalmag.com‬‬

‫بنيس‪ :‬يا أصحاب‬ ‫القرار التخافوا منا!‬ ‫تصاميم زها حديد‬ ‫أعمال فنية‬


k É`ã``jó``M Qó`°U

ô``jô`ë`J  á``ª`Lô`J 

´Gô°üdG AÉ£Z â– Ée ∞°ûµj ÜÉàc øª«dG ‘ á«∏Ñ≤dGh á«°SÉ«°ùdG ÖîædG ÚH  www. research.kfcris.org research@kfcris.com


«

» ‫ﺗﺠﻮل ﻓﻲ ﻣﻮﻗﻊ‬

‫ﻣﻘﺎﻻت ﻟﻨﺨﺒﺔ ﻣﻦ أﻫﻢ اﻟﻜﺘﺎب‬ ‫ﻣﻠﻔﺎت وﺗﺤﻘﻴﻘﺎت وﻗﻀﺎﻳﺎ ﻋﻦ اﻟﺮاﻫﻦ اﻟﺜﻘﺎﻓﻲ واﻟﺴﻴﺎﺳﻲ‬ ‫ﻣﻊ إﻃﻼﻟﺔ ﻋﻠﻰ اﻹﺑﺪاع ﻓﻲ ﻣﺨﺘﻠﻒ اﻟﻔﻨﻮن‬

alfaisalmag @alfaisalmag www.alfaisalmag.com editorial@alfaisalmag.com




‫أسسها عام ‪1397‬هـ‪1977/‬م‬

‫األمير خالد الفيصل‬ ‫يصدرها‬

‫رئيس مجلس اإلدارة‬

‫األمير تركي الفيصل‬ ‫العددان ‪ - 476-475‬السنة الحادية واألربعون‬

‫الناشر‬

‫الثقافية‬

‫دار‬

‫رئيس التحرير‬

‫ماجد الحجيالن‬ ‫‪editorinchief@alfaisalmag.com‬‬ ‫تعبر عن وجهة نظر‬ ‫ اآلراء المنشورة ّ‬‫كتَّابها‪ ،‬وال تم ِّثل رأي مجلة الفيصل‪.‬‬ ‫ تكفل المجلة حرية التعليق على‬‫موضوعاتها المنشورة شريطة االلتزام‬ ‫بالموضوعية‪.‬‬ ‫ تحتفظ المجلة بحقوق ملكيتها للمواد‬‫المنشورة فيها‪ ،‬ويتطلب إعادة نشر أي‬ ‫ورقيا الحصول على‬ ‫إلكترونيا أو‬ ‫مادة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫موافقة المجلة مع اإلشارة إلى المصدر‪.‬‬ ‫ ترسل المواد إلى بريد المجلة‬‫اإللكتروني‪:‬‬

‫‪editorial@alfaisalmag.com‬‬ ‫ لالطالع على سياسة النشر يرجى زيارة‬‫الموقع اإللكتروني‬

‫‪www.alfaisalmag.com‬‬ ‫ردمد‬ ‫‪٨٥٢٠ - ٠٤١١‬‬ ‫رقم اإليداع‬ ‫مكتبة الملك فهد الوطنية ‪41/2450‬‬ ‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬

‫في هذا العدد‬ ‫نورة بنت تركي‪ :‬المملكة وسياسة النفط‬

‫‪10‬‬

‫السفارة السعودية تعود إلى بغداد‬

‫‪52‬‬

‫محمد عبدالمطلب‪ :‬العرب نقلة ال مبتكرون‬

‫‪60‬‬

‫علي الدميني‪ :‬الصوت واألجراس‬

‫‪66‬‬

‫موجة ثالثة في الرواية السودانية‬

‫‪70‬‬

‫من عصفور إلى النمنم‪ ..‬مدرستان وتسع وزارات‬

‫‪108‬‬

‫رؤية ثقافية لمجابهة التطرف‬

‫‪130‬‬

‫لطفية الدليمي‪ :‬تحويل األحالم إلى أفعال‬

‫‪138‬‬

‫هيثم حسين‪ :‬البحث عن الحب عبر الخرافة‬

‫‪142‬‬

‫عبد العزيز العريفي‪ :‬قصور الطين‬

‫‪146‬‬

‫أين الثقافة في التلفزيون المعاصر؟‬

‫‪152‬‬

‫فنانون يخلطون بين الحداثة والمفاهيمية‬

‫‪166‬‬

‫مقاالت‬ ‫آمال موسى‬

‫‪78‬‬

‫هاني نقشبندي‬

‫‪88‬‬

‫محمد بنيــس‬

‫‪112‬‬

‫علي الشدوي‬

‫‪144‬‬

‫عباس بيضون‬

‫‪184‬‬


‫تقارير‬

‫دراسات‬

‫‪56‬‬

‫‪74‬‬

‫المثقفون اليمنيون‬

‫الظواهر الجديدة لدى شعراء‬

‫من تسويق الموت إلى‬ ‫«الهروب الجميل»‬

‫شباب من السعودية والخليج‬

‫شخصيات‬

‫ثقافات‬

‫‪126‬‬

‫‪134‬‬

‫جورج طرابيشي‪ ..‬أخرج‬

‫اإلشكالية اللغوية‬

‫«العربي» إلى رحاب الحداثة‬

‫في الجزائر‬

‫‪ 104‬قضايا‬

‫عالقة‬

‫الدين بالفنون‬

‫ملف العدد‬

‫العرب في مواجهة الشتات‬ ‫شارك في ملف هذا العدد‪:‬‬ ‫ نبيل سليمان‬‫ أحمد إبراهيم الفقيه‬‫ غوالي ظاظا‬‫ دنى غالي‬‫ صهيب أيوب‬‫ رنا نجار‬‫ رحب علواني‬‫ أسامة أمين‬‫‪ -‬جعفر العقيلي‬

‫‪14‬‬


‫المركز‬

‫بعد عقدين من اإلنجازات‬

‫ابن جنيد يغادر األمانة العامة للمركز‬ ‫أعرب رئيس مجلس إدارة مركز الملك‬

‫فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية األمير تركي‬ ‫الفيصل عن شكره وتقديره البالغ لألستاذ الدكتور‬ ‫يحيى محمود بن جنيد األمين العام للمركز الذي‬

‫ترجّ ل من منصبه مطلع شهر رجب ‪1437‬هـ مختتما‬ ‫بذلك مسيرة حافلة في األمانة العامة للمركز‪،‬‬ ‫وأكد األمير تركي الفيصل أن الدكتور ابن جنيد‬

‫حقق إنجازات علمية وبحثية نفخر بها‪ ،‬مشددا‬ ‫على أن المركز سيظل يستفيد من رأي الدكتور‬ ‫يحيى بن جنيد ومشورته وأبحاثه‪ ،‬بما يمتلكه‬

‫‪4‬‬

‫من مكانة أكاديمية وملكة في البحث والتحقيق‪،‬‬

‫حيث أسهمت معرفته الواسعة وعالقاته العلمية‬

‫في استقطاب أبرز األسماء الثقافية السعودية والعربية والعالمية التي شاركت في محاضرات المركز‬

‫وأبحاثه وإصداراته المتنوعة‪.‬‬

‫وكان الدكتور ابن جنيد قد تولى األمانة العامة للمركز منذ عام ‪1418‬هـ‪1998/‬م وعمل على تطوير‬

‫أعمال المركز والتخطيط لبرامجه وفعالياته؛ حتى أضحى أحد أهم الصروح الثقافية ال على مستوى‬

‫المملكة فحسب‪ ،‬وإنما على مستوى العالم العربي‪ ،‬من خالل أنشطته المتخصصة التي وجدت التقدير‬ ‫من الوسط الثقافي العربي‪ ،‬ونال على تميز تلك البرامج واألنشطة جوائز كثيرة‪.‬‬

‫ومن الجهود المميزة التي بذلها الدكتور يحيى في المركز اإلعداد واإلشراف على البحوث العلمية‪،‬‬

‫وتحديث المكتبة وتطوير قواعد المعلومات والعناية بالمخطوطات العربية واإلسالمية النادرة‪ ،‬هذا إلى‬ ‫جانب رئاسة تحرير مجلة الفيصل العريقة التي أضاف إلى إصداراتها «الفيصل األدبية» ثم ترأس تحرير‬

‫«الفيصل العلمية» التي تصدر بالتعاون بين المركز ومدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية‪ ،‬كما‬ ‫أسس ابن جنيد مجلة «اإلسالم والعالم المعاصر» وترأس تحريرها‪ ،‬باإلضافة إلى مجلة «الدراسات‬

‫اللغوية» ومجلة (عالم الكتب) التي يرأس تحريرها منذ عام ‪ 1400‬هـ‪ ،‬ومجلة عالم المخطوطات والنوادر ‪.‬‬ ‫يذكر أن الدكتور يحيى‪ ،‬الذي حاز جائزة الملك فيصل العالمية‪ ،‬عمل مستشار مكتبة الملك فهد‬

‫الوطنية والمشرف على مرحلة التشغيل من ‪ 1407‬حتى ‪1410‬هـ‪ .‬وأيضا أمين مكتبة الملك فهد الوطنية‬ ‫المكلف من ‪1410‬هـ إلى منتصف ‪1416‬هـ‪ ،‬وله ما يربو على ستين كتابا وبحثا ودراسة ألفها في مجاالت‬

‫اهتمامه المتنوعة ما بين التحقيق والتاريخ والمكتبات والرحالت والحضارة اإلسالمية‪.‬‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬


‫مئة مخطوطة «نادرة» في معرض المخطوطات العربية‬ ‫في مناسبة يوم المخطوط العربي‬

‫دشن‬

‫مركز‬

‫الملك‬

‫فيصل‬

‫للبحوث‬

‫والدراسات اإلسالمية بالتنسيق مع المعهد‬ ‫ً‬ ‫معرضا بعنوان‪« :‬يوم‬ ‫العربي بالقاهرة‪،‬‬ ‫المخطوطات العربية» تحت شعار «قيم‬ ‫الثقافة وثقافة القيم»‪ .‬وضم المعرض الذي‬

‫انطلق في إبريل الماضي نحو مئة مخطوطة‬

‫نادرة‪ ،‬يعود بعضها إلى القرن الثالث‬ ‫الهجري‪ ،‬وتشمل عددًا من الفنون والعلوم‬ ‫مثل‪ :‬الطب‪ ،‬والقانون‪ ،‬والمنطق‪ ،‬إضافة‬

‫إلى الهندسة والتراث اإلسالمي‪.‬‬ ‫ومن‬

‫المخطوطات‬

‫النادرة‪،‬‬

‫التي‬

‫عرضت في المعرض‪ ،‬مخطوطة كتاب‬

‫«أخبار النساء» ألسامة بن منقذ‪ ،‬وهي‬ ‫النسخة الوحيدة في العالم‪ .‬والكتاب‬

‫يختلف عن الكتب التي ألفت في أحكام‬ ‫النساء من الناحية الفقهية‪ ،‬مثل كتاب‬

‫ابن الجوزي وغيره‪ ،‬وجاء ترتيب الكتاب‬ ‫ً‬ ‫شائقا للقراءة‪ ،‬وسلك فيه المؤلف أسلوبًا‬

‫أدبيًّا‪ ،‬من ناحية اإلتيان باألشعار والنقول األدبية من كبار األدباء‪ .‬ومن‬

‫المخطوطات النادرة التي ضمها المعرض‪« :‬فقه اللغة» للثعالبي‪،‬‬

‫وهي أقدم نسخة في العالم وجدت حاليًا‪ ،‬منسوخة في حياة المؤلف‬ ‫وقبل وفاته بثالثين سنة‪ .‬ومن المقتنيات مصحف مملوكي عمره نحو‬

‫‪ 700‬سنة‪ ،‬وهو منسوخ في القرن الثامن الهجري‪ ،‬وقد أوقفته حدق‬

‫القهرمانية المشهورة بالست مسكة‪ ،‬وهي معتقة السلطان محمد بن‬ ‫قالوون‪ .‬وكانت مربية ابنه السلطان حسن بن محمد بن قالوون‪.‬‬

‫«اإلسالم والعالم المعاصر» و«الدراسات اللغوية»‬ ‫صدر العدد الجديد من «اإلسالم والعالم المعاصر»‪ ،‬وهو دورية نصف‬

‫سنوية تصدر عن المركز‪ ،‬وتعنى بقضايا اإلسالم والعالم المعاصر‪ ،‬ويرأس‬

‫تحريرها الدكتور يحيى محمود بن جنيد‪ .‬ومن أهم المواد التي ضمها العدد‪:‬‬

‫سلفية تونس‪ :‬حداثة النشأة وتعدد المسارات‪ ،‬بن عيسى الدمني‪ .‬محددات‬

‫السياسي والديني في خطاب إسالميي المشاركة بالمغرب‪ ،‬البشير المتاقي‪.‬‬ ‫مذكرات حاج إيراني في عهد الملك عبدالعزيز‪ ،‬أبو الفضل حاذقي‪ .‬المسلمون‬ ‫في رومانيا‪ :‬حرية المعتقد واختالف الثقافات‪ ،‬بركة الله محمد أبو األنوار‬

‫سليمان‪ .‬يهود العراق ودورهم في التاريخ العراقي‪ ،‬محمد حيان حافظ‪.‬‬

‫كما صدر العدد الجديد من مجلة «الدراسات اللغوية» التي تصدر عن‬

‫المركز ويرأس تحريرها الدكتور تركي بن سهو‪ ،‬وتضمن العدد باقة من‬

‫الدراسات واألبحاث‪ ،‬منها‪ :‬المصطلح النحوي (التركيبي) عند برجشتراسر‪،‬‬ ‫عبدالله بن شهاب‪ .‬مسألة تعدد ما بعد (إال) البن هشام األنصاري‪ ،‬سعيد‬ ‫الغامدي‪ .‬نقض الهاذور ألبي علي الفارسي‪ ،‬لمشعان بن نازل‪ .‬ائتالف الصوامت‬

‫في بنية الكلمة العربية عند اللغويين القدماء‪ ،‬خالد المساعفة‪ .‬االنحراف‬ ‫اللغوي في العربية المعاصرة‪ ،‬عاطف إبراهيم‪.‬‬

‫‪5‬‬


‫المركز‬

‫تطوير مكتبة المركز‬ ‫تشهد مكتبة مركز الملك فيصل‬

‫للبحوث‬

‫والدراسات‬

‫اإلسالمية‬

‫خطوات تطويرية عدة‪ ،‬منها مشروع‬

‫الرقمنة‪ ،‬ويهدف إلى إنشاء مكتبة‬

‫رقمية‬

‫داخل‬

‫المركز‪،‬‬

‫وإتاحتها‬

‫للباحثين والدارسين‪ .‬وتطوير قاعدة‬

‫الرسائل الجامعية في المركز التي‬

‫تقوم باستقطاب الرسائل الجامعية أو‬ ‫القوائم الببليوغرافية من الجامعات‬ ‫للباحثين والدارسين بما يمثل النتاج‬ ‫الفكري في الجامعات السعودية‬

‫والعربية‪ ،‬وضمها تحت قاعدة تسمى‬ ‫قاعدة الرسائل الجامعية‪ ،‬وذلك‬ ‫لتسهيل‬

‫‪6‬‬

‫الوصول‬

‫إلى‬

‫المعلومة‬

‫الببليوغرافية عن الرسائل الجامعية‬

‫الممنوحة أو المسجلة في الجامعات السعودية والعربية‪ ،‬سعيًا إلى عدم تكرار كتابة الرسالة الجامعية‪ ،‬للحصول‬ ‫على درجة الماجستير والدكتوراه‪ .‬وقد بلغ عدد الرسائل الجامعية المسجلة في القاعدة ‪ 139772‬رسالة‪ .‬والمركز‬ ‫يفيد الطالب بأن الموضوع سبق بحثه أم ال‪.‬‬

‫من ناحية أخرى‪ّ ،‬‬ ‫أمد مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية المكتبة الرئيسة بأكثر من ‪ 1500‬عنوان‪،‬‬

‫من معرض الرياض الدولي للكتاب‪ .‬وتغطي العناوين مجاالت متنوعة؛ علمية وفكرية وأدبية وإبداعية وتربوية‬

‫واقتصادية وسياسية واجتماعية‪ .‬ويتوقع أن تلبي هذه العناوين الجديدة مطالب رواد المكتبة الذين ال يقتصرون‬ ‫على سكان مدينة الرياض فحسب‪ ،‬إنما يشملون طالبي المعرفة من خارج الرياض‪ ،‬فمكتبة المركز ّ‬ ‫تعد واحدة من‬ ‫أهم المكتبات في السعودية والعالم العربي‪ ،‬نظرًا إلى ما تضمه من آالف الكتب المهمة واألساسية في المجاالت‬

‫المختلفة‪ .‬ويمكن التواصل مع خدمة المعلومات في المركز على البريد اإللكتروني‪is@kfcris.com :‬‬

‫حسين يغادر «الفيصل»‬ ‫غادر الزميل مدير تحرير مجلة الفيصل الدكتور حسين حسن حسين إلى موقع آخر‪،‬‬ ‫بعد مسيرة عملية طويلة بدأت عام ‪1994‬م أثبت خاللها مهنية عالية في كل مجاالت‬

‫العمل الصحافي توّجها بنيله جائزة الصحافة العربية من نادي دبي للصحافة‪ .‬وكان‬ ‫الدكتور حسين أشرف خالل عمله على عدد كبير من اإلصدارات والمالحق الصادرة عن‬ ‫دار الفيصل الثقافية‪ ،‬كما تولى ً‬ ‫أيضا إدارة محتوى موقع المجلة‪ ،‬وشارك في إعداد‬

‫العدد التذكاري الخاص بثالثينية المركز‪ .‬وتولى ً‬ ‫أيضا إدارة تحرير مجلة الفيصل األدبية‪،‬‬

‫ويعمل حاليًا مدي ًرا لتحرير مجلة الفيصل العلمية‪ .‬الزميل حسين تميز في كل األعمال‬ ‫التي ّ‬ ‫كلف بها بروح الجد واإلخالص والتعاون مع رؤسائه وزمالئه‪.‬‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬


‫‪7‬‬

‫كاريكاتير‬


‫فعاليات‬

‫تركي الفيصل‪:‬‬ ‫استفحل اإلرهاب ألن البشرية‬ ‫لم تجهد في البحث عن جذوره‬ ‫الرياض‬

‫قدم رئيس مجلس إدارة مركز الملك‬

‫فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية األمير‬

‫‪8‬‬

‫تركي الفيصل في ‪ 5‬رجب ‪1437‬هـ (‪ 12‬إبريل‬

‫‪2016‬م) محاضرة في جامعة اإلمام محمد بن‬

‫سعود اإلسالمية بالرياض‪ .‬ضمن اللقاء الدوري‬

‫لكراسي البحث العلمي‪.‬‬ ‫وتناولت‬

‫محاضرته‬

‫التعليم‬

‫الجامعي‬

‫والبعد األخالقي والتربوي‪ ،‬وتطرق إلى ما تمر‬ ‫به المجتمعات العربية من إرهاب‪ ،‬كما توقف‬

‫عند التصنيفات الفكرية التي تعصف بالمجتمع‪،‬‬ ‫طارحً ا عد ًدا من المقترحات من أجل التصدي‬

‫لذلك‪.‬‬

‫واستهل األمير تركي المحاضرة بالتأكيد على أن النظام‬

‫وتوقف طويلاً عند الجانب األخالقي‪ ،‬ليذكر أن أقوال‬

‫التعليم الجامعي»‪ ،‬مشي ًرا إلى تفرد الحضارة العربية‬

‫قيم مُ ثلى‬ ‫والتربوي للجانب التعليمي؛ «ألن العلم من دون ٍ‬ ‫ً‬ ‫ووسيلة ال أكثر ّ‬ ‫تحميه يصبح مطي ًّة ّ‬ ‫لكل صاحب‬ ‫لكل غرض‪،‬‬

‫ً‬ ‫خصوصا‬ ‫التعليمي في أيّ أمة «هو مقياس تقدّ مها وتطورها‪،‬‬ ‫واإلسالمية بوجود الجامعات فيها طوال ثالثة قرون‪« ،‬قبل‬

‫أن يبدأ األوربيون بإنشاء أول جامعة لهم»‪ .‬وقال‪ :‬إن النظام‬

‫التعليمي في عصور ازدهار األمة امتاز «بأنه لم يكن نظامً ا‬ ‫جامدً ا ال يهتمّ إال بإيصال المعلومة وتدريسها‪ ،‬وإنما أَو َْلى‬ ‫البناء األخالقي والتربوي للطالب ّ‬ ‫جل اهتمامه‪ ،‬وهو ما ساهم‬ ‫بسياج تربويٍّ منيع‬ ‫في بناء المجتمع أخالقيًّا‪ ،‬وإحاطة أبنائه‬ ‫ٍ‬

‫يحمي قيم المجتمع‪ ،‬ويسهم في رقيّه»‪.‬‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬

‫سلف األمة وعلمائها تواترت على أسبقية الجانب األخالقي‬

‫هوًى»‪ .‬وخاطب قيادات الجامعة بقوله‪ :‬إنه إذا كانت مسؤولية‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫شاملة أخالقيًّا‬ ‫مسؤولية‬ ‫الجامعة في عصور ازدهار األمة‬

‫ّ‬ ‫ً‬ ‫مسؤولية‬ ‫الموقرة تتحمّ ل‬ ‫وتربويًّا وتعليميًّا «فإن جامعتكم‬ ‫ً‬ ‫ضاعفة في هذا الشأن؛ ألنها تأسّ ست في بلد اإلسالم األول‪،‬‬ ‫مُ‬

‫وتحمل في اسمها صفة (اإلسالمية)؛ لذلك فعليها أن تعكس‬ ‫َ‬ ‫الواضحة‪ ،‬وأن تكون‬ ‫للعالم صورة اإلسالم الصافية‪ ،‬و ِقيَمَ ه‬


‫ً‬ ‫خصوصا أن الجامعة‬ ‫نبراسً ا واضحً ا في طريق الحق والنور‪،‬‬

‫بين جماعة المسلمين‪ ،‬والحمد لله رب العالمين»‪ .‬وقال‬

‫تؤدي رسالتها في زمن تراجعت فيه القيم‪ ،‬وأصبح إسالمنا‬ ‫ّ‬ ‫محل ّاتهام؛ بسبب شرذم ٍة قليل ٍة من بني جلدتنا‪ ،‬ال‬ ‫العظيم‬ ‫لاًّ‬ ‫ً‬ ‫يرقبون فينا وفي إسالمنا إ وال ذمة»‪.‬‬

‫األمير تركي مخاطبًا الحضور‪« :‬ال يخفى عليكم أن االنفتاح‬ ‫ً‬ ‫رسوخا‪ ،‬والعقل مضاءً ؛‬ ‫على الحضارات األخرى يزيد القلب‬ ‫لذلك كانت المملكة سب ً‬ ‫ّاقة إلى بذل الجهود في مجال الحوار‬

‫االبتعاد من التصنيفات‬ ‫ّ‬ ‫ودعا الجامعة إلى أن تحقق معنى االجتماع الذي يشير‬ ‫إليه اسمها على أرض الواقع؛ «فتكون رم ًزا لوحدة الجماعة‬

‫وأضاف‪« :‬لقد استفحل اإلرهاب‪ ،‬وازدادت قدراته؛ ألن‬ ‫ً‬ ‫جاهدة عن جذوره‪ ،‬بل يساعد النظام‬ ‫البشرية لم تبحث‬

‫الوطنية وتالحمها‪ ،‬وأن تبتعد عن التصنيفات الفكرية‬

‫التي قسمت العالم اإلسالمي وشوّهته‪ ،‬وأدّت بنا إلى حال‬

‫مزري ٍة‪ ...‬تلك التصنيفات التي حذر منها الملك عبدالله بن‬

‫بين الحضارات والثقافات»‪.‬‬

‫الدولي بما يشهده من صراعات مكتومة أو مُ علنة بين قواه‬

‫الدولية على تنامي اإلرهاب»‪ ،‬مشي ًرا إلى أن ما يحدث في‬ ‫الساحة السورية خير دليل على ذلك‪ .‬وذكر أن عدم تب ّني‬ ‫المجتمع الدولي خيار الشعب السوري منذ البداية‪ ،‬وسكوته‬

‫عبدالعزيز ‪-‬رحمه الله‪ -‬في مناسبات مختلفة؛ فأدرك بعمق‬

‫عن دعم المحور (الروسي‪ -‬اإليراني‪ -‬ومعهم الميليشيات‬

‫فقال‪« :‬سبق لي أن ُ‬ ‫قلت‪ ،‬وأك ّرر أمامكم اآلن‪ ،‬أن هناك أمرين‬

‫حدَب وصوب‪ .‬ولم يقتصر‬ ‫ساحة القتال المتطرفين من كل‬ ‫ٍ‬ ‫الوضع الكارثي على الساحة السورية فقط‪ ،‬بل امتدت آثاره إلى‬

‫وعيه‪ ،‬وبُعد نظره‪ ،‬خطورتها على أمن البلد واستقراره؛‬ ‫ال يمكن التساهل فيهما‪ ،‬وهما‪ :‬شريعتنا اإلسالمية‪ ،‬ووحدة‬

‫هذا الوطن‪ .‬وأصارحكم القول‪ :‬إنني أرى أنه ال يتناسب مع‬ ‫قواعد الشريعة السمحة‪ ،‬وال مع متطلبات الوحدة الوطنية‪،‬‬

‫بجهل‪ ،‬أو بسوء ني ٍة‪ ،‬بتقسيم المواطنين‬ ‫أن يقوم البعض‬ ‫ٍ‬ ‫إلى تصنيفات ما أنزل الله بها من سلطان؛ فهذا علماني‪،‬‬

‫وهذا ليبرالي‪ ،‬وهذا منافق‪ ،‬وهذا إسالمي متطرف‪ ،‬وغيرها‬ ‫من التسميات‪ .»...‬وفي محاضرته عول األمير تركي كثي ًرا‬ ‫على جامعة اإلمام في أن تكون نموذجً ا جليًّا لجامعات في‬

‫أزهى العصور اإلسالمية‪« ،‬نريد لها أن تكون منب ًرا للبحث‬ ‫ً‬ ‫رافعة لواء الحوار الب ّناء‪،‬‬ ‫العلمي الجا ّد في مختلف العلوم‪،‬‬ ‫ً‬ ‫متوقفا‬ ‫الذي عرفه التاريخ اإلسالمي باسم «المناظرة»‪،‬‬ ‫عند الكلمات التي ختم بها «الملك المؤسِّ س عبدالعزيز بن‬

‫عبدالرحمن آل سعود ‪-‬طيّب الله ثراه‪ -‬كلمته التي افتتح‬ ‫بها المؤتمر اإلسالمي األول‪ ،‬الذي ُعقد في مكة المكرمة‬

‫سنة ‪1344‬هـ؛ إذ قال‪« :‬إن المسلمين قد أهلكهم التف ُّرق في‬ ‫المذاهب والمشارب‪َ ،‬ف ْ‬ ‫ائ َتمِ ُروا في التأليف بينهم‪ ،‬والتعاون‬ ‫على مصالحهم ومنافعهم العامة المشتركة‪ ،‬وعدم جعل‬

‫اختالف المذاهب واألجناس سببًا للعداوة بينهم‪ ...‬وأسأل‬ ‫وجل أن ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الحق‪ ،‬وخدمة‬ ‫يوفقني وإيّاكم إلقامة دينه‬ ‫الله عز‬

‫حرمه وحرم رسوله صلوات الله وسالمه عليه‪ ،‬والتأليف‬

‫عدم تب ّني المجتمع الدولي خيار‬ ‫الشعب السوري منذ البداية؛ أفرز لنا‬ ‫وضعا كارث ًّيا جذب إلى ساحة القتال‬ ‫ً‬ ‫ب وصوب‬ ‫حد ٍ‬ ‫المتطرفين من كل َ‬

‫الطائفية) لبقاء نظام األسد؛ «أفرز لنا وضعً ا كارثيًّا جذب إلى‬

‫أوربا نفسها‪ ،‬من خالل أزمة الالجئين التي تهدّ د أوربا كلها‪...‬‬ ‫ً‬ ‫صارخا إلغفال المجتمع‬ ‫وتبقى القضية الفلسطينية نموذجً ا‬ ‫الدولي البحث عن منابع اإلرهاب وتجفيفها»‪.‬‬ ‫تغول اإلرهاب‬

‫ولم يجد األمير تركي ما يختم به محاضرته‪« ،‬أفضل‬

‫من تلك الكلمات الجامعة لسيدي خادم الحرمين الشريفين‬

‫الملك سلمان بن عبدالعزيز ‪-‬حفظه الله‪ -‬في افتتاح المؤتمر‬ ‫العالمي «اإلسالم ومحاربة اإلرهاب»‪ ،‬الذي ّ‬ ‫نظمته رابطة‬ ‫العالم اإلسالمي بمق ّرها في مكة المكرمة في ربيع اآلخر‬

‫سنة ‪1436‬هـ؛ فقال ‪-‬أيّده الله‪ -‬مخاطبًا ضيوف المؤتمر‪:‬‬

‫جلل يهدّ د أمتنا اإلسالمية‬ ‫«إنكم لتجتمعون اليوم على أمر‬ ‫ٍ‬ ‫والعالم أجمع بعظيم الخطر ج ّراء تغوّل اإلرهاب المتأسلم‬ ‫بالقتل والغصب والنهب وألوان شتى من العدوان اآلثم في‬

‫كثير من األرجاء‪ ،‬جاوزت جرائمه حدود عالمنا اإلسالمي‬ ‫ً‬ ‫وبهتانا‪ ،‬وهو منه براء‪ ...‬المملكة‬ ‫متمترسً ا براية اإلسالم زورًا‬

‫العربية السعودية ‪-‬كما تعلمون‪ -‬لم تدّ خر جهدً ا في مكافحة‬ ‫ً‬ ‫بكل الحزم‪ ،‬وعلى ّ‬ ‫ّ‬ ‫كل األصعدة‪...‬‬ ‫وممارسة‬ ‫اإلرهاب فك ًرا‬ ‫تصدّ ى علماؤنا األفاضل بالر ّد الحاسم على ما ّ‬ ‫يبثه اإلرهابيون‬ ‫من مسوّغات دينية باطلة يخدعون بها الناس‪ ،‬وبيّنوا تحذير‬ ‫اإلسالم من العنف والتطرف والغلو في الدين‪ ،‬وتحزيب األمة‪،‬‬ ‫والخروج على والة أمرها‪ ،‬وأن الوسطية واالعتدال والسماحة‬

‫هي سمات اإلسالم ومنهاجه القويم‪ ،‬وأن مَ ن حا َد عن هذا‬ ‫المنهاج ال يمكن أن يخدم األمة‪ ،‬وال يجلب لها إال الشقاء‬

‫والفرقة والبغضاء»‪ ،‬مشددًا على أن الملك سلمان وضع‬ ‫الخطوط العريضة‪« ،‬وليس علينا سوى التنفيذ»‪.‬‬

‫‪9‬‬


‫فعاليات‬

‫الرد على المزاعم حول‬ ‫ّ‬ ‫دوافع المملكة وسياستها‬ ‫في سوق النفط‬ ‫نورة بنت تركي آل سعود‬ ‫باحث رئيس ‪ -‬مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية‬

‫‪10‬‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬


‫عقد مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية حلقتي نقاش في إبريل الماضي‪ ،‬تتعلقان‬

‫بالطاقة والنفط‪ ،‬بحضور عدد من كبار االقتصاديين واختصاصيي نفط محليين‪ ،‬وعدد من رؤساء‬ ‫شركات النفط‪ ،‬إضافة إلى سفراء كل من الصين واليابان وروسيا‪ ،‬ورئيس مركز دراسات الطاقة في‬

‫جامعة كولومبيا في نيويورك الدكتور جيسون بوردوف‪.‬‬

‫وهذا المقال هو ورقة تقدمت بها الباحثة إلى إدارة البحوث في المركز‪ ،‬وأعد بناء على معطيات‬ ‫ً‬ ‫تفنيدا للمزاعم حول دور المملكة العربية‬ ‫السوق النفطية في شهر أكتوبر من عام ‪2015‬م‪ ،‬وتضمن‬ ‫السعودية في ارتفاع أو هبوط أسعار النفط‪ ،‬وألن ً‬ ‫بحثا كهذا يكتسي أهمية مضاعفة في ضوء ما تشهده‬ ‫سوق النفط حاليًا من جدال اقتصادي وسياسي؛ فإن الفيصل تنشره كاملاً ‪:‬‬ ‫ازدادت التنبّؤات بشأن قرارات المملكة العربية السعودية‬

‫في سوق النفط منذ انخفاض أسعار النفط في خريف عام ‪2014‬م؛‬ ‫ً‬ ‫عادة على أنها المنقذ لسوق النفط؛ فقد‬ ‫فالمملكة يُنظر إليها‬

‫ّ‬ ‫وتقلبات األسعار منذ ازدهار‬ ‫تحمّ لت عبء اضطرابات سوق النفط‬ ‫صناعة النفط فيها‪ ،‬وهو ما ّاتضح بجالء في السنوات التي تلت‬ ‫حظر النفط العربي في سبعينيات القرن الماضي‪ .‬وتغيّر هذا التوجّ ه‬ ‫ّ‬ ‫تخلت المملكة العربية السعودية عن‬ ‫خالل العام الماضي؛ إذ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫رافضة أن‬ ‫المتمثل في العمل على استقرار السوق‪،‬‬ ‫دورها المعتاد‪،‬‬

‫تتحمّ ل وحدها عبء حماية األسعار‪ .‬وقد أثارت هذه الخطوة غير‬ ‫ً‬ ‫ضجة حول احتمال اندالع حرب نفطية عالمية‪ّ ،‬‬ ‫هامات‬ ‫وات‬ ‫المسوّغة‬ ‫ٍ‬

‫بأن المملكة ضالعة في إستراتيجيات تسعير مض ّرة‪ ،‬وشكو ًكا حول‬

‫نيّتها استخدام النفط سالحً ا سياسيًّا للضغط على الحكومات األخرى‬ ‫كي تذعن لها‪.‬‬

‫في الواقع‪ ،‬ما حدث هو تحوّل كبير في أسواق النفط العالمية؛‬

‫إذ تغيّرت األدوار التقليدية‪ ،‬فدخلت دول منتجة جديدة في السوق‪،‬‬ ‫وتحوّلت بعض الدول المستوردة للنفط إلى دول مصدّ رة‪ ،‬وما زال‬ ‫المصدّ رون التقليديون الذين يعملون في بيئات سياسية وأمنية‬

‫حساسة مستم ّرين في تحدّ ي التوقعات‪ ،‬وإثبات مرونة صناعات‬ ‫ّ‬ ‫النفط لديهم من خالل زيادة حجم اإلنتاج‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫وبينما كان الهبوط في أسعار النفط أم ًرا مفاجئا وغير متوقع‬ ‫كان زخم اإلنتاج يتصاعد بجالء حسب تأرجح مستويات اإلنتاج‪،‬‬

‫واستجابة المنتجين لذلك؛ فقد أدّى االنحسار المؤقت لإلمدادات‬ ‫في الشرق األوسط وشرق إفريقيا ووسطها‪ ،‬الذي ُقوبل بزيادة‬

‫المعروض من النفط الصخري في أميركا الشمالية‪ ،‬إلى إيجاد بيئة‬ ‫أسعار مستقرة لم ت ّتضح معالمها آنذاك‪ ،‬وأدّى هذا الوضع المبهم‬ ‫إلى تراكم كميات النفط في السوق شي ًئا فشي ًئا‪ ،‬وأصبح السوق‬ ‫ً‬ ‫متخمً ا بالنفط في نهاية المطاف‪ ،‬وأصبح ّ‬ ‫استجابة للتهديدات‬ ‫أقل‬ ‫ّ‬ ‫وتعطل اإلمدادات‪.‬‬ ‫اإلقليمية‬

‫‪11‬‬


‫فعاليات‬

‫وعندما أصبح الوضع جليًّا‪ ،‬وبدأت األسباب تعبّر عن‬

‫نفسها‪ ،‬بدأ منتجو النفط يدعون إلى (إصالحات) تقليدية‬

‫لمواجهة هذه المشكلة‪ ،‬وتحوّلت جميع األنظار إلى السعودية‬ ‫ّ‬ ‫مترق ً‬ ‫تخفض إنتاجها‪ .‬لم يكن مستغربًا ً‬ ‫بة أن ّ‬ ‫إذا‪ -‬أن يكون قرار‬‫المملكة الحفاظ على مستويات إنتاجها خالل اجتماع أوبك في‬ ‫ً‬ ‫خطوة تهدف إلى الحفاظ على حصتها في‬ ‫نوفمبر عام ‪2014‬م‬

‫المتحدة األميركية من السوق‪ ،‬وهو ما أطلقت عليه وسائل‬

‫اإلعالم «حرب النفط»‪.‬‬

‫وعلى الرغم مما سبق فإنه من باب تسطيح األمور أن‬

‫نحكم على النوايا‪ ،‬وأن نرى أن مثل هذه الوسائل تعود بفوائد‬ ‫خالصة‪ ،‬أو ّ‬ ‫تحقق النتائج المرغوبة؛ فقد استم ّر المنتجون في‬

‫السوق تقودها خبرة وتجربة أذهلت العالم في ظروف مماثلة‬

‫الواليات المتحدة في استخراج النفط على الرغم من انخفاض‬ ‫مستوى اإلنتاج وصناعة المعدات‪ ،‬وهي ظروف ُتعزى من دون‬

‫ً‬ ‫مقتصرة على السعودية‪ ،‬أسعار النفط إلى مزيدٍ من‬ ‫تكن‬

‫كما تواصل السعودية السحب من احتياطياتها المالية‬

‫في منتصف ثمانينيات القرن الماضي؛ فقد قادت إستراتيجية‬ ‫«د َْعه يعمل‪ ..‬د َْعه يم ّر»‪ ،‬التي ّاتخذها جميع المنتجين‪ ،‬ولم‬

‫ٍّ‬ ‫شك إلى قوى السوق التي تعمل وفق ما ُتمليه عليها مصالحها‪.‬‬

‫السقوط الحر‪.‬‬

‫اإلستراتيجية؛ إذ تناضل من أجل زيادة ّ‬ ‫حصتها في السوق‪،‬‬

‫إن أهم تغيير في السوق كان الصعود غير المحسوب‬

‫ويواصل االنفصاليون في شبه جزيرة القرم القتال تحت رعاية‬

‫االقتصادية المواتية‪ ،‬التي دفعت إمدادات النفط في السوق‬ ‫ّ‬ ‫التدفقات النفطية في السوق في‬ ‫إلى زيادات جديدة‪ ،‬وجعلت‬

‫فاعل واحد‪ ،‬أو (اتحاد احتكاري للمنتجين‪ -‬كارتل)‪ ،‬لديه القدرة‬ ‫ّ‬ ‫التحكم بشكل انفرادي في أسعار النفط‪ ،‬أو في استقرار‬ ‫على‬

‫لكميات إنتاج النفط الصخري في الواليات المتحدة األميركية‪،‬‬ ‫الذي أصبح ممك ًنا بفضل التقدّ م التكنولوجي والظروف‬

‫حالة تغيير مستمر‪ .‬ومن المثير لالهتمام أنه على الرغم من أن‬

‫الطفرة النفطية األميركية الواضحة منحت الواليات المتحدة‬

‫‪12‬‬

‫المملكة المتعمّ دة إلخراج النفط الصخري الذي تنتجه الواليات‬

‫الفرصة الستعادة دورها التاريخي بأن تكون (المُ ن ِتج البديل أو‬ ‫ً‬ ‫إضافة‬ ‫المرجّ ح) بحكم وجود كميات جديدة متاحة اقتصاديًّا‪،‬‬ ‫إلى الخصائص الفريدة إلنتاج النفط الصخري الذي يسمح لها‬ ‫ّ‬ ‫بتدفق إنتاجها ووقفه بسهولة‪ ،‬إال أن كثي ًرا من العاملين في‬

‫ميدان الطاقة وغيرهم من المراقبين ال يزالون يرون السعودية‬

‫الكيان الرئيس الذي يقع على كاهله تصحيح مسار األسعار‪.‬‬ ‫حرب النفط‬

‫بدأ ترويج الدعاية والتنبّؤات على نطاق واسع بشأن‬

‫برنامج العمل السعودي األميركي للضغط على روسيا في إطار‬

‫االهتمامات المشتركة والفردية (مثل‪ :‬ضمّ شبه جزيرة القرم‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫المتعلقة بجهود‬ ‫واألنشطة الروسية في سوريا)‪ ،‬والمزاعم‬

‫دافع سياسة الطاقة السعودية‬ ‫عامةً هو الحاجة األساسية إلى تأمين‬ ‫الطاقة‪ ،‬وضمان المصالح االقتصادية‬ ‫لمواطنيها على المدى البعيد ال‬ ‫يوجد فاعل واحد لديه القدرة على‬ ‫التح ّكم بشكل انفرادي في أسعار‬ ‫النفط‪ ،‬أو في استقرار السوق‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬

‫روسيا‪ ،‬وبوتين مستمر في دعم حكومة األسد في سوريا‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫واضحة لسوق متطوّرة؛ إذ ال يوجد‬ ‫صورة‬ ‫ترسم هذه األمور‬

‫السوق‪ ،‬أو الرغبة في ذلك‪ ،‬بل العمل باألحرى في ميدان‬ ‫يعمل فيه الفاعلون في ّ‬ ‫ظل شروط وظروف سوق حرة حيث‬

‫المنافسة هي التي تحدّ د السلوك‪ .‬وي ّتضح هذا الموقف ً‬ ‫أيضا في‬

‫قرار المملكة عدم خفض اإلنتاج من جانب واحد؛ لمنع تراجع‬

‫أسعار النفط‪.‬‬

‫إن انخفاض تكلفة اإلنتاج لدى شركة أرامكو السعودية‪،‬‬ ‫واالحتياطيات األجنبية الكبيرة في المملكة؛ جعال المملكة ت ّتخذ‬ ‫قرارها السليم بعد التحليل بتب ّني موقف ّ‬ ‫يمكنها من تحمّ ل إنتاج‬ ‫تلك الكميات من النفط في ّ‬ ‫ظل ظروف انخفاض السعر الحالي‬ ‫َّ‬ ‫يشل اقتصادها بشكل كبير‪ ،‬ومع ذلك فإن مدى‬ ‫من دون أن‬

‫استمرار المملكة على هذا النحو له حدود‪.‬‬ ‫وبعد ّ‬ ‫أقل من عام من بدء التنبّؤات األوّلية عاود الخطاب‬

‫ذاته الظهور اليوم حول النفط السعودي الذي يُشحن إلى‬ ‫ّ‬ ‫تسلط الضوء على‬ ‫بولندا؛ فالبيانات والتصريحات القوية التي‬ ‫مصطلحات مثل‪« :‬اإلغراق» في قضية بيع النفط لبولندا‪،‬‬ ‫و«حرب النفط»‪ ،‬ظهرت ً‬ ‫مرة أخرى في وسائل اإلعالم‪ ،‬ومثل‬ ‫هذا الخطاب يتناقض مع المبادئ األساسية لعمليات السوق‬

‫التي يهيمن فيها التنافس المحموم على المشهد‪.‬‬

‫في الواقع‪ ،‬كان بيع النفط السعودي لبولندا قرارًا ثنائيًّا‪،‬‬

‫على أساس الهدف الجيوإستراتيجي لالتحاد األوربي؛ للحدّ‬

‫من اعتماده على الطاقة الروسية من جهة‪ ،‬ورغبة السعودية‬

‫في توسيع ّ‬ ‫حصتها في السوق من جهة أخرى‪ .‬وكان االتحاد‬ ‫األوربي قد ّاتخذ تدابير للتخفيف من حدّ ة االضطرابات‪ ،‬وتعزيز‬ ‫مرونة قطاع الطاقة لديه‪ ،‬حتى قبل انضمام شبه جزيرة القرم‬

‫إلى روسيا؛ ردًّا على إساءة استخدام روسيا الغاز كأداة ضغط‬


‫الرد على المزاعم حول دوافع المملكة وسياستها في سوق النفط‬ ‫ّ‬

‫إلجباره على إبرام اتفاق سياسي أو اقتصادي من خالل وقف‬

‫بكثير المنافع المحتملة على المدى القصير من دفاعها عن‬

‫وكانت خطوة االتحاد األوربي تنطلق في األساس من حاجته‬

‫ثانيًا‪ -‬تعمل أرامكو السعودية‪ ،‬وهي شركة النفط‬ ‫الحكومية‪ ،‬في ّ‬ ‫ظل ظروف عمل صارمة ت ّتضح في ممارساتها‬ ‫المهنية‪ ،‬ومعامالتها التجارية‪ .‬وتسترشد الشركة في ّاتخاذ‬

‫بالطاقة؛ ففي فبراير عام ‪2015‬م اقترح رئيس الوزراء البولندي‬

‫ّ‬ ‫ومخصصات معدّ ة لمواجهة متغيّرات السوق‪ ،‬تدفعها‬ ‫صارمة‪،‬‬

‫الصادرات الروسية‪.‬‬

‫الماسة إلى تقليل اعتماده على الغاز الروسي‪ ،‬وصعّ د المجلس‬ ‫األوربي ً‬ ‫أيضا من تدابيره الرامية إلى االبتعاد من االعتماد على‬

‫ّ‬ ‫المتعلقة‬ ‫النفط الروسي ضمن غيرها من التدابير واالهتمامات‬ ‫رئيس المجلس األوربي اآلن‪ -‬إطارًا لتعزيز مرونة الطاقة لدى‬‫االتحاد األوربي في مواجهة انعدام أمن الطاقة الناتج من ّ‬ ‫تعطل‬

‫االستيراد والفجوات في سوق الطاقة‪ .‬وشدّد اإلطار على تعزيز‬

‫أسعار النفط‪.‬‬

‫قراراتها إلنتاج النفط وتسويقه وبيعه بتوجيهات حكومية‬

‫قيمها األساسية‪ ،‬والمنافسة‪ ،‬وزيادة أرباح القيمة المضافة‬ ‫لمصلحة مساهميها؛ ألن الهدف اإلستراتيجي للشركة ‪-‬كما هو‬ ‫ّ‬ ‫موضح على موقعها على شبكة اإلنترنت‪ -‬هو أن تصبح بحلول‬

‫والمضي قدمً ا في الجهود‬ ‫تدابير الكفاءة‪ ،‬وتكامل األسواق‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الرامية إلى خفض نسبة انبعاثات ثاني أكسيد الكربون‪ ،‬وعرض‬ ‫خيار االستفادة من بيئة انخفاض السعر حاليًا فيما أُطلق عليه‬

‫المستديم والمتنوّع القتصاد المملكة‪ ،‬وتمكين قطاع الطاقة‬

‫الثالثة األولى في قائمة مستوردي النفط الروسي في االتحاد‬ ‫األوربي‪ .‬وبسبب هذه الظروف فإن لدى هذه الدول ّ‬ ‫كل‬

‫لدى أرامكو السعودية‪ ،‬وهي تتيح لها خيار تقديم نفطها بأسعار‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫مقارنة مع مورّدين آخرين‪ ،‬وتستند بشكل رئيس إلى‬ ‫مخفضة‬

‫كانت تستورد معظم احتياجاتها من النفط عبر خط أنابيب‬ ‫من روسيا‪ ،‬بمعدل ‪ 424‬برميلاً في اليوم عام ‪2014‬م‪ ،‬وهو ما‬

‫ضمن أمور أخرى‪ .‬وتسمح هذه اإلستراتيجية للشركة ببيع‬

‫(الفرصة التاريخية)‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫في عام ‪2014‬م كانت ألمانيا وهولندا وبولندا تحتل المراكز‬

‫الحوافز للتنويع؛ فبولندا التي تنتج القليل من النفط محليًّا‬

‫ّ‬ ‫يمثل نحو ‪ ٪90‬من طاقة التكرير‪ ،‬وأكثر من ‪ ٪80‬من الطلب في‬ ‫البالد‪ً .‬‬ ‫بمستغرب عليها‪.‬‬ ‫إذا‪ ،‬فاالنتقال إلى التنويع ليس‬ ‫ٍ‬

‫وهناك جانب آخر مهم يُؤخذ في الحسبان‪ ،‬وهو أن‬ ‫أعمالاً من هذا القبيل ليست من جانب واحد؛ فروسيا ً‬ ‫أيضا‬ ‫زادت شحنات التصدير إلى بلدان آسيا؛ إذ تسعى إلى ضمان‬

‫وصولها إلى األسواق الكبرى في الشرق‪ ،‬وتعويض األسواق‬ ‫التي فقدتها في األميركيتين‪ ،‬والحدّ في نهاية المطاف من‬

‫اعتمادها على السوق األوربية‪ ،‬التي تصدّ ر إليها حاليًا أكثر‬

‫من ‪ ٪70‬من إجمالي صادراتها النفطية‪ .‬وبين عامي ‪2013‬‬ ‫و‪2014‬م زادت الصادرات الروسية إلى الصين واليابان بنسبة‬ ‫‪ ٪5‬و‪ ٪3‬على الترتيب‪ ،‬وتراجعت صادراتها إلى أوكرانيا إلى‬ ‫النصف‪ ،‬وانخفضت صادراتها إلى بولندا كذلك بنسبة ‪.%1‬‬

‫تأمين الطاقة‬ ‫ً‬ ‫وألن هناك آراء مختلفة بشأن السلوك السعودي في سوق‬

‫بمكان أخذ بعض النقاط األساسية اآلتية في‬ ‫النفط فمن األهمية‬ ‫ٍ‬

‫عام ‪2020‬م «شركة الطاقة والمواد الكيميائية المتكاملة الرائدة‬ ‫في العالم‪ ،‬مر ّك ً‬ ‫زة في تعظيم الدخل‪ ،‬وتسهيل سُ بُل التوسّ ع‬ ‫السعودي النابض بالحياة من المنافسة عالميًّا»‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ثالثا‪ -‬فروق األسعار هي التي تحدّد إستراتيجية التسعير‬

‫تكلفة الشحن‪ ،‬وجودة الخام (النوعية‪ ،‬ومحتوى الكبريت)‪،‬‬ ‫نفطها الخام إلى مصافي التكرير بأسعار تنافسية (صافي الدخل‬

‫المرجّ ع)‪.‬‬ ‫ً‬ ‫رابعا‪ -‬أثبتت التجارب السابقة أن السعودية ال يمكنها‬

‫السيطرة على أسعار النفط؛ ألن القرارات التي تعود بأرباح‬

‫صافية على المدى القصير تشهد غالبًا انتكاسات على المدى‬

‫الطويل‪ .‬وقد دفعت تجربة السعودية في ثمانينيات القرن‬ ‫الماضي ‪-‬بوصفها أحد األمثلة الدقيقة‪ -‬إلى ّاتخاذ مزيدٍ من‬ ‫ّ‬ ‫المتعقلة اليوم؛ إذ أدّت زيادة المعروض‪ ،‬وتراجع‬ ‫الخطوات‬ ‫الطلب في المقام األول‪ ،‬إلى انخفاض تدريجي تاله انهيار‬ ‫لألسعار في ثمانينيات القرن الماضي‪ُ ،‬قوبل بخفض كبير‬ ‫ً‬ ‫وسيلة لتحقيق التوازن في السوق‪ .‬وألن‬ ‫إلنتاج المملكة بوصفه‬

‫تلك اإلستراتيجية استم ّرت في السنوات التالية‪ ،‬فقد شهدت‬ ‫ً‬ ‫انخفاضا في حصتها‬ ‫المملكة‪ ،‬التي عملت وحدها منتجً ا بديلاً ‪،‬‬

‫في سوق النفط العالمية‪ ،‬وتع ّرضت لضائقة اقتصادية؛ إذ‬ ‫استم ّرت األسعار تهوي مع دوامة االنهيار‪ ،‬فغيّرت المملكة‬ ‫مسارها في أواخر عام ‪1985‬م‪ .‬ومع أن المملكة سعت خالل‬ ‫األشهر الالحقة إلى استعادة حصتها التي فقدتها في السوق‪،‬‬

‫الحسبان‪:‬‬ ‫اً‬ ‫ً‬ ‫عامة هو الحاجة‬ ‫أول‪ -‬دافع سياسة الطاقة السعودية‬

‫فإنه الحت في األفق بوادر انهيار لألسعار من ج ّراء ذلك‪ ،‬حتى‬

‫لمواطنيها على المدى البعيد‪ .‬وفي الوضع الحالي‪ ،‬فإن تأمين‬

‫دوالرات أميركية وعشرة للبرميل بحلول عام ‪1986‬م‪ ،‬وهو‬

‫األساسية إلى تأمين الطاقة‪ ،‬وضمان المصالح االقتصادية‬ ‫النسبة التي ترغب فيها المملكة من حصتها في السوق تفوق‬

‫على الرغم من احتدام المنافسة بين المورّدين لزيادة اإلنتاج‪،‬‬ ‫وصلت األسعار إلى أدنى مستوياتها‪ ،‬فراوحت بين تسعة‬

‫انخفاض وصل إلى ‪ ٪29‬من سعر الذروة في عام ‪1980‬م‪.‬‬

‫‪13‬‬


‫ملف العدد‬

‫العرب في مواجهة الشتات‬

‫رقما»‬ ‫«أنا لست‬ ‫ً‬

‫فجأة لم يعد هناك وطن‪ .‬تحول محض كلمة في بطاقة الهوية‪ ،‬مفردة في دفاتر الهجرة والجوازات‪.‬‬

‫الوطن الذي كان في األمس‪ ،‬أصبح جحيمً ا مفتوحة‪ ،‬تلتهم الجميع‪ .‬في غياب الوطن ال وجود ألي شيء‬ ‫ً‬ ‫خوفا من التعرض لالضطهاد بسبب‬ ‫سوى التيه والشتات‪ .‬ماليين البشر اضطروا للخروج من أوطانهم؛‬

‫انتماءاتهم العرقية أو الدينية أو القومية أو االجتماعية‪ ،‬أو بسبب توجهاتهم السياسية‪ ،‬وبعد أن كان‬

‫‪14‬‬

‫لكل منهم حياته الشخصية‪ ،‬ومكانته االجتماعية‪ ،‬ومنصبه الرفيع‪ ،‬أو مهنته التي توفر له حياة كريمة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫جميعا يحملون الصفة نفسها‪« :‬الجئ»‪ ،‬تلك التسمية التي تحمل في طياتها االنكسار‪ ،‬والحاجة‬ ‫أصبحوا‬

‫ً‬ ‫جميعا أرقامً ا في‬ ‫للمساعدة‪ ،‬والرغبة في اقتسام الطعام والسكن مع مواطني البلد المضيف‪ .‬أصبحوا‬

‫جداول وتقارير دولية‪.‬‬

‫في الشتات يجد الالجئ من ينظر إليه بشفقة وعطف‪ ،‬فتقتل هذه النظرة كبرياءه‪ ،‬أو يرى نظرة‬

‫الكراهية‪ ،‬والدعوة للعودة من حيث جاء‪ ،‬فتضيق عليه األرض بما رحبت‪.‬‬

‫سوريون وعراقيون‪ ،‬ليبيون ويمنيون‪ ،‬وغيرهم من جنسيات أخرى‪ ،‬قرروا أن يخرجوا من ديارهم‪ .‬انتهى‬ ‫المطاف ببعضهم في دولة مجاورة‪ ،‬ولكن آخرين قصدوا بال ًدا بعيدة‪ ،‬ذات ثقافات وعادات ولغات غريبة؛‬ ‫ألنهم سمعوا مثلاً أن ألمانيا تخصص ‪ 40‬إلى ‪ 50‬ألف يورو سنويًّا لرعاية الطفل الواحد‪ ،‬الذي يهاجر من‬

‫دون أهله‪ .‬لكن هل تعوض هذه األموال الطفل عن اقتالع جذور انتمائه لوطنه؟ هل تستحق أن يلقي شاب‬ ‫في السابعة عشرة من عمره بنفسه من القطار؛ خشية إعادته إلى بلده الذي هرب منه‪ ،‬ليموت في جنة‬ ‫الغرب‪ ،‬بدلاً من العيش في جحيم وطنه؟‬

‫الشعار الذي وضعته األونروا لمسابقة التصوير الفوتوغرافي «أنا لست رقمً ا»‪ ،‬ويستهدف تسجيل‬

‫لحظات خاصة في حياة الالجئين الفلسطينيين‪ ،‬يمكن استعماله في أحوال وحاالت كثيرة‪ ،‬تنطبق اليوم‬

‫على أوضاع الالجئين العرب في شكل عام‪ ،‬هؤالء الذين ليسوا أرقامً ا بالتأكيد‪ ،‬إنما عواطف وحيوات‬

‫وتطلعات‪ ،‬هؤالء ليسوا أرقامً ا إنما آباء وأمهات وإخوة وأخوات وشباب وشابات‪ ،‬فيهم الطبيب والمثقف‬ ‫والفنان والنحات والمهندس والموظف الكادح‪.‬‬

‫في هذا الملف الذي تتبناه «الفيصل»‪ ،‬مقاربة واسعة ومتنوعة ألحوال «العربي» في لحظة مفصلية‬ ‫من تاريخه؛ إذ األحالم بصباحات جديدة ترتد تنكيلاً ثم تهجيرًا‪ .‬والهجرة هر ًبا من الموت ال تنتهي سوى إلى‬ ‫الموت‪ .‬ولئن طغى حضور الالجئ السوري في هذا الملف‪ ،‬فإن الجئين حضروا ً‬ ‫أيضا بقصصهم وتفاصيل‬ ‫يومياتهم التي تراوح بين الـ«هنا» والـ«هناك»‪.‬‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬


15


‫الالجئون العرب في ألمانيا‬

‫ضيوف أم أصحاب بيت؟‬ ‫أسامة أمين‬ ‫صحفي مصري مقيم في ألمانيا‬

‫‪16‬‬

‫أجلس في القطار الذي يربط مدينة بون بمدينة ساربروكن‪ ،‬وأقرأ في كتاب باللغة األلمانية‪،‬‬

‫يصعد ثالثة شبان وشابتان‪ ،‬كلهم عرب‪ ،‬يرتدون بنطلونات جينز‪ ،‬وجواكت سوداء‪ ،‬وكأنه زي‬ ‫مدرسي موحد للجنسين‪ ،‬باستثناء الفتاتين كانتا محجبتين‪ ،‬يجلسون في المقاعد المقابلة‬

‫والمجاورة لي‪ ،‬كل واحد يحمل هاتفه الحديث‪ ،‬يتحدث فيه أو يكتب رسائل‪ ،‬عيونهم حمراء‬ ‫بلون الدم‪ ،‬ويبدو عليهم اإلرهاق البالغ‪ .‬بعد دقائق قليلة‪ ،‬يغلبهم النعاس‪ ،‬ويبقى واحد منهم‬ ‫ً‬ ‫مستيقظا للحفاظ على أمتعتهم القليلة المتواضعة‪.‬‬ ‫فقط‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬


‫يرن الهاتف‪ ،‬ويرد أحدهم وصوته مختنق من الغضب‬ ‫والتعب‪ ،‬قائلاً ‪« :‬نعم ركبنا القطار الخطأ‪ ،‬وضاعت ساعات‬

‫بتدليل األهل لهم‪ ،‬واالنتظام في دراستهم‪ ،‬والعيش في دارهم؟‬

‫عشرة‪ ،‬من قطار آلخر‪ ،‬نحن اآلن في القطار الصحيح‪ ،‬لكني ال‬

‫صلفة؟ هل هؤالء من يخاف األلمان أن يغيروا نمط معيشتهم‪،‬‬

‫حتى انتبهنا إلى ذلك‪ ،‬من الساعة الثانية صباحً ا‪ ،‬حتى الحادية‬ ‫أعرف المحطة‪ ،‬وأخاف أن نضيع مرة أخرى‪ ،»...‬قاطعته وقلت‬

‫إلي‬ ‫له‪ :‬إنني سأدله على المحطة‪ .‬أنهى المكالمة فورًا‪ ،‬ونظر ّ‬ ‫مذهولاً ‪ ،‬وفتح البقية عيونهم‪ ،‬وتساءلوا في نفس واحد‪« :‬أنت‬ ‫عربي؟ لقد تكلمنا طوال الوقت من دون انتباه؛ ألننا حسبناك‬

‫ألمانيًّا‪ ،‬بسبب الكتاب الذي تقرؤه‪ ،‬وعدم ظهور أي انفعاالت‬

‫على وجهك من حديثنا»‪ .‬أكدت لهم أني لم أنصت إليهم؛ ألني‬ ‫كنت مشغولاً بالقراءة‪ .‬وسألتهم عما بهم‪ ،‬فقالوا‪ :‬إنهم وصلوا‬

‫الظروف؟ هل حرمتهم الحرب طفولتهم وشبابهم‪ ،‬واالستمتاع‬ ‫هل يعرفون ما ينتظرهم في معسكرات الالجئين من حياة‬ ‫وأن يجعلوا من بالدهم (جمهورية ألمانيا اإلسالمية)؟‬ ‫ليسوا مجرد أرقام‬

‫يلقون أطفالهم في البحر‪ ،‬مثل أم موسى عليه السالم‪،‬‬

‫ويدعون الله أن تلتقطهم قوات حرس السواحل‪ ،‬وتنقلهم إلى‬

‫الليلة الماضية‪ ،‬بعد رحلة استغرقت أسابيع‪ ،‬من سوريا إلى‬

‫ألمانيا‪ ،‬وإن بعض مرافقيهم لم يكمل الرحلة من فرط العناء‪،‬‬ ‫واضطروا هم لمواصلة الرحلة بدونهم‪.‬‬

‫للمرة األولى ألتقي الجئين سوريين فور وصولهم‪ ،‬وقبل أن‬

‫يذوبوا في المجتمع العربي الذي يوجد في ألمانيا منذ سنين‬ ‫طويلة‪ ،‬أدركت للمرة األولى أن الالجئين ليسوا أعدادًا‪ ،‬بل‬

‫بش ًرا‪ ،‬يحمل كل واحد منهم أحالمه‪ ،‬وآماله في حياة أفضل‪،‬‬ ‫وأن التفكير فيهم باعتبارهم مثل (الطوفان)‪ ،‬هو أمر يفتقد إلى‬ ‫الحس اإلنساني‪ .‬كانت معي زجاجة ماء زمزم‪ ،‬أخرجتها من‬

‫حقيبتي‪ ،‬وقدمتها لهم‪ ،‬وطلبت منهم أن يشربوا منها‪ ،‬ويدعوا‬ ‫الله أن ييسر لهم أمورهم‪ ،‬فرأيت فرحة غامرة‪ ،‬وكأن ذلك آخر‬

‫‪17‬‬

‫ما كان يخطر على بالهم‪ ،‬أن يحصلوا على ماء زمزم في قطار‬

‫ألماني‪ ،‬لكنهم بالرغم من ذلك كانوا حذرين للغاية‪ ،‬إذا تحدثوا‬ ‫بينهم خفضوا أصواتهم؛ حتى ال أسمع‪ .‬يبدو أن الرحلة القاسية‬

‫التي قطعوها علمتهم أال يثقوا فيمن ال يعرفونه‪.‬‬

‫هل كان أهل هؤالء الشباب والفتيات سيقبلون أن يتركوهم‬

‫يسافرون بمفردهم كل هذه اآلالف من الكيلو مترات في غير هذه‬

‫ملف العدد‬


‫الشاطئ األوربي‪ ،‬ويقولون‪ :‬الموت ً‬ ‫غرقا أفضل من الموت أشالء‬

‫لم يأت كل السوريين في قوارب متهالكة في عرض البحر‬

‫حتى إذا ما وصل األطفال إلى هناك‪ ،‬وجدوا الرعاية واالهتمام‪،‬‬

‫دلوهم على المناطق الحدودية التي يتسللون من خاللها من‬

‫جراء القنابل المتفجرة‪ ،‬التي تلقيها الطائرات المتوحشة‪،‬‬

‫وطلبوا (لمّ الشمل)‪ ،‬وجلبوا آباءهم وأمهاتهم وبقية إخوتهم‪.‬‬

‫األبيض المتوسط‪ ،‬ولم يعتمدوا جميعً ا على المهربين الذين‬ ‫دولة ألخرى‪ ،‬بل حصل بعضهم على تأشيرة دخول‪ ،‬وجاء‬

‫ثم قررت أسر بأكملها أن تحمل أرواحها على أكفها‪ ،‬وتقطع‬

‫بالطائرة‪ ،‬ولم يجد أي صعوبة في الدخول مثل أي سائح أو‬

‫القطار بالترحاب‪ ،‬ثم زاد عددهم فغاب المرحبون‪ ،‬ثم زاد‬

‫ال يرغب فيهم أحد‪ ،‬وبين القلة التي تفتح لها األبواب؟‬

‫الطريق بأي وسيلة ممكنة؛ لتجد من يستقبلها على محطات‬

‫ضيف‪ .‬فما الفرق بين مئات اآلالف من السوريين المعذبين الذين‬

‫عددهم أكثر‪ ،‬فوجدوا من يسد الطريق‪ ،‬ويطلب منهم العودة‬ ‫من حيث جاؤوا‪ ،‬وكأن هناك بي ًتا يمكن أن يعودوا إليه‪.‬‬

‫المسافات بين الصفوف؛ ألن عدد رواد المسجد قد تضاعف‬

‫وبدلاً من أن يتحدث الناس عن الطقس‪ ،‬أو السؤال عن الصحة‪،‬‬

‫سوريا‪ ،‬ثم استأنف خطبته مطالبًا بأن نقدم لهم يد العون‪ ،‬وأال‬

‫لم يعد هناك ما يشغل بال األلمان مثل قضية الالجئين‪،‬‬

‫أصبحوا يتحدثون عن هذا الفيضان البشري الذي غطى ربوع‬ ‫بالدهم‪ ،‬وبعد أن كانت مستشارة ألمانيا‪ ،‬أنغيال ميركل‪ ،‬أكثر‬

‫السياسيين شعبية في بالدها‪ ،‬فقد مُ ِني حزبها بخسائر فادحة‬

‫في االنتخابات المحلية في ثالث واليات‪ ،‬بعد استياء كثير من‬ ‫الناخبين من تمسكها باستقبال الالجئين السوريين‪ ،‬ورفضها‬ ‫إغالق الحدود في وجههم‪ ،‬أو وضع حد أقصى ألعداد الالجئين‬

‫التي ستستقبلها ألمانيا‪ ،‬وفي المقابل حققت األحزاب الرافضة‬

‫‪18‬‬

‫الطبيب السوري يعالج األلمان‬

‫الستقبال الالجئين مكاسب ضخمة‪ .‬فهل يعيد المهاجرون‬ ‫العرب رسم خريطة ألمانيا السياسية‪ ،‬واالجتماعية والدينية؟‬

‫يقطع خطيب الجمعة حديثه‪ ،‬ليطالبنا بأن نتزاحم‪ ،‬ونضيق‬

‫خالل األسابيع الماضية‪ ،‬بعد قدوم اإلخوة واألخوات من‬ ‫نتركهم يواجهون نفس الصعوبات التي مررنا بها عند وصولنا‬

‫إلى ألمانيا‪ ،‬وحذرنا من األنانية‪ ،‬وبخاصة أن بعضنا يقول‪ :‬إن‬ ‫هؤالء الالجئين السوريين كثير منهم يملك المال في بالده‪،‬‬

‫وعاش دومًا حياة رغدة‪ ،‬عكس غيرهم من الذين جاؤوا من‬ ‫قبلهم من دول العالم األخرى‪.‬‬

‫وما كادت الصالة تنتهي حتى جاء صديقي طبيب األسنان‬ ‫ً‬ ‫شخصا آخر لم أره من قبل‪ ،‬قائلاً ‪:‬‬ ‫السوري الشهير‪ ،‬وقدم لي‬ ‫إنه طبيب أنف وأذن وحنجرة‪ ،‬جاء األسبوع الماضي من سوريا‪،‬‬

‫وسيعمل في مستشفى بون‪ ،‬ويحتاج إلى ممارسة اللغة‬

‫مليون شخص دخلوا ألمانيا في العام الماضي‪ ،‬احتل‬

‫األلمانية‪ ،‬حتى يتمكن من التفاهم مع المرضى‪ ،‬وهذا هو الشرط‬

‫‪ 377‬ألف سوري في المدة من يناير إلى سبتمبر من العام‬

‫السوريين‪ ،‬المعروف عنهم االجتهاد‪ ،‬والمستوى العلمي الذي‬

‫السوريون المرتبة األولى بينهم‪ ،‬وقد سجلت السلطات األلمانية‬ ‫الماضي‪ ،‬ويمثل الالجئون السوريون في ألمانيا ‪ %5‬فقط من‬

‫إجمالي السوريين الالجئين في مختلف دول العالم‪ .‬فهل يشكل‬ ‫هؤالء فعلاً‬ ‫ً‬ ‫فيضانا يجتاح هذه البالد؟‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬

‫األساسي لكي يمارس عمله‪ .‬اتضح أن ألمانيا ترحب باألطباء‬ ‫ال يقل عن نظرائهم األلمان؛ لذلك يحصلون بسهولة على‬ ‫تأشيرة دخول إلى األراضي األلمانية‪ ،‬وتصريح عمل‪ ،‬وغالبًا‬

‫يجدون وظائف في انتظارهم؛ ألن المستشفيات األلمانية دومً ا‬


‫في حاجة إلى أطباء‪ .‬ومرة أخرى هي الحرب التي جعلت طبيبًا‬

‫سوريًّا يحتاج إليه آالف المرضى والجرحى في بالده‪ ،‬يضطر‬

‫إلى السفر إلى الخارج؛ ليضمن أن يبقى على قيد الحياة‪ ،‬وأن‬

‫بعد أن يتخلص من المعاناة التي لم تعد تطاق‪.‬‬

‫الجئ‬

‫سور ي‬

‫جنس‬

‫ألتقيه في شهر رمضان‪ ،‬وأستمع له‪ ،‬وهو يتحدث عن‬

‫‪2‬‬

‫ي‬ ‫ات أ‬ ‫خر ى‬

‫‪6‬‬

‫يكتسب المزيد من الخبرة‪ ،‬لعله يعود يومً ا ويعالج بني وطنه‪،‬‬

‫‪0‬‬

‫‪3 77 ٫ 0 0‬‬

‫‪0‬‬ ‫‪3٫00‬‬

‫اإلفطار في بالده‪ ،‬مع أفراد أسرته المشتتين حاليًا في داخل‬

‫سوريا وخارجها‪ ،‬وكيف كانت الحياة رغدة في بيت والده الطبيب‬

‫الشهير‪ ،‬والمزرعة الكبيرة المطلة على البحر‪ ،‬ثم االنتقال إلى‬ ‫العاصمة دمشق‪ ،‬بعد أن وقعت مدينتهم الساحلية في يد هذا‬

‫التنظيم أو ذاك‪ ،‬ثم قصف الجيش السوري‪ .‬كل ذلك دفعه‬

‫للهجرة‪ ،‬والعيش اآلن في غرفة متواضعة‪ ،‬لم يكن يتخيل يومً ا‬ ‫أنه سيعرف هذا الصنف من الحياة‪.‬‬

‫الالجئون الذين دخلوا ألمانيا عام ‪2015‬م‬ ‫لكنه فعلاً مضطر‪ ،‬وال يفكر فيما يغضب الله‪ ،‬ويضيف قائلاً ‪:‬‬

‫«هذا ثمن العيش في هذه البالد!» تمر أسابيع قليلة ثم يأتيه‬

‫حصل على االعتراف بدراسته‪ ،‬وتصريح مزاولة المهنة‬

‫عرض جيد بوظيفة كاملة‪ ،‬وبراتب يسمح له أن يستأجر شقة‬

‫للعمل في عيادة في مدينة ميونيخ‪ ،‬صحيح أن الراتب ليس‬

‫ألنه قرر أن يكمل نصف دينه‪ ،‬وكانت النهاية التي تبدو سعيدة‪،‬‬

‫كطبيب كامل التأهيل مثل أي طبيب ألماني‪ ،‬وانتقل من بون‬

‫بدون فتاة فرنسية فيها‪ ،‬بل له وحده‪ ،‬ولزوجته السورية مثله؛‬

‫راض‪ .‬اضطر للسكن في شقة مع‬ ‫جيدً ا‪ ،‬والمدينة غالية‪ ،‬لكنه ٍ‬

‫لكنه يصر على أنه ال يعرف طعم السعادة‪ ،‬خارج بالده‪.‬‬

‫شاب ألماني‪ ،‬وفتاة فرنسية؛ مما أغضب أهله‪ ،‬لكنه ال يجد‬ ‫بديلاً بإيجار معقول‪ ،‬يعد والديه أن يراعي الله في كل شيء‪،‬‬

‫‪19‬‬

‫رفيق شامي يرفض العودة كي ال يصافح‬ ‫أشخاصا أيديهم ملطخة بالدماء‬ ‫ً‬

‫رفيق شامي‬

‫األديب رفيق شامي هو بالتأكيد أشهر سوري في ألمانيا‪ ،‬جاء إلى هذه البالد قبل أكثر من أربعين عامً ا‪ ،‬وأصبح اآلن أحد‬ ‫أهم األدباء األلمان‪ ،‬ومن أكثرهم شعبية وشهرة‪ّ ،‬ألف ‪ 62‬كتابًا‪ ،‬عدد صفحات أحدها يبلغ ‪ 900‬صفحة‪ ،‬وهو رواية «الجانب‬

‫المظلم من الحب»‪ ،‬ولعله األديب الوحيد القادر على أن يحكي قصصه من دون أن يقرأ من كتاب أو ورقة‪ ،‬فيبهر مستمعيه‪،‬‬

‫وهو يستخدم لغة ألمانية ذات صور شرقية‪ ،‬جعلت األلمان يعرفون حواري دمشق‪ ،‬بل قرية معلولة التي جاء منها هذا المهاجر‬ ‫السوري‪ .‬يقول‪ :‬إن كل مهاجر يتملكه الحنين للعودة إلى مكان طفولته‪ ،‬لكنه وهم يجعل المهاجر يرسم صورة وردية لهذا‬

‫المكان‪ ،‬حتى إذا عاد يومً ا وجده غير الصورة التي رسمها له في مخيلته‪ ،‬وإذا تحدث مع الناس‪ ،‬اكتشف أنه لم يعد قادرًا على‬ ‫التفاهم معهم؛ ألنهم سيتكلمون معه عن أمور سطحية‪ ،‬لكن ً‬ ‫أحدا لن يطرح عليه السؤال الجوهري‪ ،‬وهو‪ :‬ما الذي جعله‬

‫يرحل؟ يقول‪ :‬إن المهاجر يحتاج إلى الصبر والضحك‪ ،‬فالضحك هو الزاد الذي يجعل المهاجر قادرًا على التحمل والمقاومة‪،‬‬ ‫والعيش طويلاً في المنفى‪ ،‬والضحك هو مصدر القوة‪ ،‬وهو الذي يجعل العقل منفتحً ا على القضايا الصعبة‪.‬‬ ‫ذكر رفيق شامي أن السفير السوري في ألمانيا عرض عليه عام ‪2009‬م‪ ،‬أن يعود إلى بالده‪ ،‬وأن يحصل على مركز ثقافي يحمل‬

‫ً‬ ‫أشخاصا أيديهم ملطخة بالدماء‪ .‬وانتقد المثقفين المزعومين‬ ‫اسمه‪ ،‬ولكنه رفض هذه الفكرة؛ ألن ذلك سيعني أن يصافح‬

‫الذين يقبلون نفاق الزعماء الذين قتلوا شعوبهم‪ ،‬وروى ما شاهده في التلفزيون السوري من وقائع مؤتمر للشعراء‪ ،‬وقف‬ ‫أحدهم يمدح األسد قائلاً ‪ :‬إن سوريا صغيرة عليه‪ ،‬وإنه يستحق أن يكون ً‬ ‫قائدا للعالم أجمع‪ ،‬وليس لسوريا وحدها‪.‬‬ ‫يرسم رفيق شامي البسمة على وجوه األلمان‪ ،‬ويضع مرآة أمام عيونهم؛ ليسخروا من أنفسهم‪ ،‬ولذلك ال نستغرب أن‬

‫يصنع األمر نفسه مع بني جلدته‪ ،‬وعلى الرغم من تناوله لقضايا سياسية في أعماله األدبية‪ ،‬ومقابالته الصحفية‪ ،‬فإنه يرفض‬ ‫أن يقوم بدور سياسي‪ ،‬ويأبى أن تستغله وسائل اإلعالم؛ لكي ينشر الخوف من المسلمين باعتباره مسيحيًّا‪.‬‬

‫ملف العدد‬


‫مقيمون ال الجئون‬

‫سوريون ويمنيون يفضلون‬ ‫القاهرة على أوربا‬ ‫«ال يوجد في مصر الجئون سوريون» هكذا قالت الشاعرة السورية‬ ‫رشا عمران وهي تحدثنا عن أوضاع السوريين في مصر‪ ،‬موضحة أن‬

‫‪20‬‬ ‫القاهرة‬

‫مصر البلد الوحيد الذي لم ينشئ معسكرات للسوريين على أرضه‪،‬‬ ‫جميعا نعيش ً‬ ‫ً‬ ‫معا‪ ،‬وال أشعر أنني‬ ‫ولم يعزلهم عن أبنائه‪« ،‬نحن‬

‫غريبة عن وطني‪ ،‬حتى إنني فضلت البقاء في مصر على الذهاب إلى‬ ‫أوربا‪ ،‬فمن الصعوبة االندماج مع أبناء وطن ليس لهم نفس اللغة‬

‫والتاريخ والقيم‪ ،‬وكل ذلك متحقق بالنسبة لي في مصر‪ ،‬وال أعاني‬ ‫ً‬ ‫جميعا في حياتهم اليومية»‪.‬‬ ‫أي مشكالت سوى ما يعانيه المصريون‬

‫ال يختلف وضع اليمنيين العالقين في مصر عن‬

‫ذلك؛ إذ إنهم ال يعانون سوى غالء المعيشة وكثرة‬ ‫اإلجراءات الحكومية‪ ،‬فضلاً عن ازدحام القاهرة‬ ‫وضجيجها‪ ،‬بحسب ما أوضح ناصر األرياني‪ .‬األرياني‬

‫وهو أحد الدارسين في جامعة القاهرة‪ ،‬يرى أن المركز‬ ‫الرئيسي لليمنيين هو حي الدقي بالقاهرة‪ ،‬ففيه العديد‬ ‫من فنادق الدرجة الثالثة التي ينزلون بها في البداية‪،‬‬

‫وسرعان ما يحصلون على شقة أو ما شابه عبر مساعدة‬ ‫أصدقائهم وذويهم الذين سبقوهم في المجيء‪ ،‬لكن‬

‫اليمنيين ال يعملون في مهن كثيرة‪ ،‬وأغلبهم جاء‬

‫للتجارة أو التعليم أو العمل مع أحد أقاربه في القاهرة‪.‬‬ ‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬

‫رشا عمران‬


‫‪21‬‬

‫تعيش القاهرة ما يبدو‬ ‫أنه عصرها اإلمبراطوري‪،‬‬ ‫حيث الحضور القوي لغير‬ ‫المصريين‪ ،‬وحيث يعيش‬ ‫الجميع كمواطنين من دون‬ ‫حضور لثقل كلمة الجئ‪ ،‬أو‬ ‫فكرة معسكر يحول بينهم‬ ‫وبين اندماجهم‬

‫ملف العدد‬


‫ومن ثم فجميعهم مرتبط بالدقي بشكل رئيسي‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ضجيجا‬ ‫سوريون يفضلون المدن األقل‬

‫باحثين عن عمل في المدن األقل سرعة وضجيجً ا‪.‬‬

‫كان زياد قد جاء إلى القاهرة ليقيم مع بعض من‬

‫أهله وجيرانه الذين سبقوه إليها‪ ،‬في البدء كانت القاهرة‬

‫على النقيض من ذلك يذهب زياد الصالحي‪ ،‬وهو‬

‫محطتهم األولى‪ ،‬لكن غالء السكن وقلة العمل المتوافر‬

‫المصرية اآلن‪ ،‬فهم يبتعدون عن زحام القاهرة وغالئها‬

‫لتاكسي‪ .‬ويقول زياد‪ :‬إنه يقيم في مصر منذ عامين وال‬ ‫يعرف حتى اآلن عن مفوضية حقوق الالجئين شي ًئا‪ ،‬وال‬

‫شاب سوري في الخامسة والثالثين من عمره‪ ،‬ويعمل‬ ‫ً‬ ‫سائقا لتاكسي‪ ،‬إلى أن السوريين ينتشرون في أغلب المدن‬

‫‪ 350‬ألف سوري يعيشون في مصر‬ ‫مسجلين لدى المفوضية السامية‬ ‫غير‬ ‫َّ‬ ‫لشؤون الالجئين‪ ،‬وعدد المستفيدين‬ ‫من المعونة المالية الشهرية واحد‬

‫بها دفعهم للذهاب إلى طنطا‪ ،‬وهي مدينة إقليمية تتوسط‬ ‫ً‬ ‫سائقا‬ ‫المسافة بين القاهرة واإلسكندرية‪ ،‬هناك عمل زياد‬

‫يرى أحدً ا ممن ذهبوا إليها‪ ،‬موضحً ا أنها ال تفيد إال في‬ ‫الحصول على إقامة‪.‬‬

‫وأكد زياد أن المصريين يرون أن السوريين في بعض‬

‫األحيان يزاحمونهم في فرص العمل‪ ،‬لكنهم ال يقدرون‬ ‫الظروف السيئة التي يعيشونها‪.‬‬

‫وفي الوقت الذي تكاد تنعدم فيه األرقام عن اليمنيين‬

‫وثالثون ألفً ا فقط‬

‫المقيمين في مصر؛ بسبب توتر األوضاع في اليمن‪،‬‬

‫ورغم صدور بيان من السفارة اليمنية في القاهرة عقب‬

‫‪22‬‬

‫يوم واحد‬ ‫صالح‬ ‫للحياة‬

‫بدء العمليات العسكرية في شهر مايو الماضي يوضح‬ ‫أن عدد اليمنيين الذين لم يستطيعوا العودة إلى بالدهم‬

‫يقدر بنحو خمسة آالف مواطن‪ ،‬لكن هذا الرقم ال يمكن‬ ‫التأكد منه بشكل واضح‪ ،‬ولم تعمل الجمعيات األهلية‬

‫علي المقري‬

‫يقول الشاعر والكاتب اليمني علي المقري‪ ،‬الذي‬

‫تمكن من الوصول إلى القاهرة قبل سفره إلى فرنسا‬ ‫ليتسلم جائزة هناك‪ :‬إنه خرج بمعاناة شديدة من‬

‫صنعاء إلى عدن‪ ،‬ومنها إلى جيبوتي عبر البحر‪ ،‬ليمر‬

‫من أمام سفن القراصنة ويقيم بين جماعات متشددة‬ ‫في جيبوتي لمدة شهرين‪ ،‬شاع ًرا بأن الخطر مُ حدق به‬

‫كل لحظة‪ ،‬وهو ال يستطيع االتصال بأهله في اليمن وال‬ ‫العودة إليهم‪ ،‬وال حتى الخروج من جيبوتي؛ ألنه ليس‬ ‫ً‬ ‫معروفا متى ستتوافر الطائرة التي ستقله إلى القاهرة‪.‬‬ ‫علي الذي حصل أخي ًرا على إقامة تؤهله للجوء كامل‬ ‫إلى باريس‪ ،‬يحصل على دوالرات عدة في الشهر من‬

‫مفوضية الالجئين هناك‪ ،‬ويتمنى العودة إلى القاهرة؛‬

‫ليقيم بين أصدقائه بها‪ ،‬لكنه يتمنى أكثر أن توقف آلة‬

‫الحرب عملها في بلده؛ كي يتمكن من رؤية يوم واحد‬ ‫صالح للحياة‪.‬‬

‫وال المؤسسات الرسمية على التحقق منه‪ ،‬إال أن ذلك ال‬

‫يدعونا إلى المبالغة؛ إذ إن المعاناة التي يالقيها أي من‬

‫اليمنيين حال تفكيره في المجيء من اليمن إلى مصر ال‬ ‫تجعل القاهرة وجهته األولى‪.‬‬

‫من ناحية أخرى‪ ،‬تتوافر الكثير من األرقام عن‬

‫السوريين‪ ،‬ففي الوقت الذي قالت فيه رئيس مجلس‬ ‫إدارة مؤسسة «فرد» األهلية رشا أبو المعاطي‪ :‬إن ستين‬

‫ألف طالب سوري مسجّ لون في المفوضية‪ ،‬من بينهم‬ ‫ألفا يذهبون إلى المدارس‪ ،‬وعشرون ً‬ ‫أربعون ً‬ ‫ألفا يجلسون‬

‫في المنازل بال تعليم‪ ،‬فإن رئيسة إدارة المرأة واألسرة‬ ‫والطفولة بجامعة الدول العربية السفيرة إيناس مكاوي‬

‫أكدت أن ما يقارب ‪ 350‬ألف سوري يعيشون بمصر غير‬ ‫َّ‬ ‫مسجلين لدى المفوضية السامية لشؤون الالجئين‪ ،‬وأن‬ ‫عدد من يستفيد من المعونة المالية الشهرية الخاصة‬ ‫بالمفوضية هم واحد وثالثون ً‬ ‫ألفا فقط‪ ،‬يتقاضى كل منهم‬

‫ً‬ ‫مبلغا ماليًّا قيمته تراوح بين أربع مئة جنيه‪ ،‬وألف وخمس‬

‫مئة جنيه مصري‪ ،‬وذلك حسب عدد أفراد العائلة التي‬

‫يعولها‪.‬‬

‫يحرص اليمنيون ذوو الوجود األقدم في القاهرة على‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬


‫التجمع بمطاعم خاصة بهم‪ ،‬وما أكثر المطاعم‬

‫التي تحمل اسم حضرموت‪ ،‬مثلما تنتشر سلسلة‬ ‫مطاعم ياقوت الحموي السورية في القاهرة‬

‫‪31.000 350.000‬‬ ‫يعيشون في مصر وغير‬ ‫مسجلين لدى مفوضية‬ ‫الالجئين‬

‫المستفيدون من المعونة‬ ‫المالية الشهرية (‪ 400‬إلى‪)1500‬‬ ‫جنيه للفرد‬

‫والمدن اإلقليمية‪ ،‬لكننا في بعض المطاعم‬

‫ً‬ ‫وأنوعا من‬ ‫اليمنية سنجد األواني القديمة‬ ‫األطعمة الجبلية الحريفة‪ ،‬سنجد مناخاً‬ ‫يشعرنا أننا انتقلنا إلى اليمن بهضابها‬

‫‪60.000‬‬

‫وجبالها‪ ،‬أو أن الهضاب والجبال بمأكوالتها قد‬

‫هبطت إلينا‪.‬‬ ‫ً‬ ‫لكننا مع السوريين الوافدين حديثا على‬

‫طالب سوري‬ ‫مسجل في‬ ‫المفوضية‬

‫الجئون سوريون‬ ‫في مصر‬

‫‪20.000‬‬

‫يجلسون في‬ ‫المنازل‬ ‫بال تعليم‬

‫يذهبون إلى المدارس‬

‫القاهرة‪ ،‬سنلحظ أنهم جميعً ا في حالة انتظار للعودة‪،‬‬

‫‪40.000‬‬

‫فعلى الرغم من توزعهم على العديد من الحرف واألعمال‬

‫إال أنهم لم يشعروا بعد باالندماج الكامل في المجتمع‬ ‫على نحو ما حدث لليمنيين‪ ،‬وما زالت الغربة بادية على‬

‫وجوههم‪ ،‬رغم أن القاهرة تبدو كما لو أنها تعيش عصرها‬

‫بخالف اليمنيين لم يشعر السوريون‬ ‫بعد باالندماج الكامل في المجتمع‬ ‫ُ‬ ‫المصري‬

‫اإلمبراطوري‪ ،‬حيث الحضور القوي لغير المصريين‪،‬‬ ‫وحيث يعيش الجميع كمواطنين من دون حضور لثقل‬

‫كلمة الجئ‪ ،‬أو فكرة معسكر يحول بينهم وبين اندماجهم‬ ‫في المكان‪.‬‬

‫‪23‬‬

‫ملف العدد‬


‫التغريبة الجديدة‪..‬‬ ‫المثقف السوري الجئا‬

‫‪24‬‬

‫نبيل سليمان‬ ‫ناقد وروائي سوري‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬


‫ربما لم تكن (الدياسبورا السورية) بأوجع الكلمات التي رمتنا بها سنوات الزلزال الخمس الماضية‪.‬‬ ‫والدياسبورا‪ ،‬كما هو معلوم‪ ،‬كلمة يونانية تعني الشتات‪ ،‬وقد ارتبطت تاريخ ًّيا باليهود‪ ،‬فكانت الدياسبورا‬ ‫اليهودية‪ ،‬أي يهود الشتات‪ ،‬بعد الزلزال البابلي عام ‪ 586‬ق‪.‬م‪ .‬وإذا كانت الحرب العالمية الثانية قد أنعمت‬ ‫ً‬ ‫مليونا بالتهجير واللجوء‪ ،‬فلم تكد الحرب تهدأ حتى كانت الدياسبورا الفلسطينية عام‬ ‫على ستة وعشرين‬

‫‪1948‬م‪ ،‬والتي تجددت عام ‪1967‬م‪ ،‬كما أعلن ذلك العام عن والدة الدياسبورا السورية بمن لجؤوا من الجوالن‬

‫إلى أرجاء سوريا بعد االحتالل اإلسرائيلي‪.‬‬ ‫لاً‬ ‫ً‬ ‫خافتا‪ ،‬فقد تفجر حديث الدياسبورا العراقية بفضل‬ ‫وإذا كان الحديث عن الدياسبورا األمازيغية ‪-‬مث – يظل‬

‫الدكتاتورية وبفضل الحرب‪ ،‬حتى نيَّف عدد الالجئين العراقيين في أرض المنافي والشتات على أربعة ماليين‪،‬‬ ‫لكن كل ذلك يبقى ً‬ ‫هينا أمام هذا الذي ال يصدق من الدياسبورا السورية‪ ،‬وخالل زمن قياسي!‬

‫‪25‬‬

‫لوحة للفنان السوري مصطفى يعقوب‬

‫ملف العدد‬


‫لسبب لغوي على األقل‪ ،‬أفضل أن أقول (التغريبة السورية)‬

‫بدلاً من الدياسبورا‪ .‬تذكروا تغريبة بني هالل في التاريخ‬ ‫وفي األدب الشعبي‪ .‬وتذكروا المسلسل التلفزيوني السوري‬

‫الموجع والبديع الذي أخرجه حاتم علي‪ :‬التغريبة الفلسطينية‪.‬‬ ‫وألنها التغريبة السورية‪ ،‬حسبي هنا أن أشير إلى ما للمثقف‬

‫فيها‪ .‬وقد كان أول ذلك في اللجوء أو النزوح الداخلي‪ ،‬حين‬ ‫أخذت ألتقي في الالذقية‪ ،‬بأصدقاء مثقفين فارين من الرقة‬ ‫أو حلب‪ .‬واتسعت الدائرة حين بدأ التواصل هاتف ًّيا مع آخرين‬

‫في طرطوس أو دمشق‪ ،‬قادمين من تينك المدينتين أو من‬ ‫سواهما‪ :‬األكاديمي والمترجم فؤاد مرعي والروائي محمد أبو‬

‫معتوق من حلب‪ ،‬الروائي ممدوح عزام من قريته المتاخمة‬ ‫للسويداء إلى السويداء نفسها‪ ،‬الفنان إسماعيل العجيلي‬ ‫والروائية نجاح إبراهيم والباحث منير الحافظ من الرقة‪...‬‬

‫ومنهم من كان اللقاء به في لجّ ة مئات اآلالف من الذين لجؤوا‬ ‫إلى الالذقية‪ ،‬وبخاصة من حلب وإدلب‪ ،‬وبأقل من الرقة‬ ‫وحمص وحماة‪ً ،‬‬ ‫مدنا ومحافظات‪ .‬وبالطبع‪ ،‬فقد كان لكل لقاء‬ ‫مرارته التي تفجرها الذكريات‪ ،‬كما يفجرها االختالف‪ ،‬فمن‬ ‫موال ً‬ ‫أيضا‪،‬‬ ‫المثقفين الالجئين داخل سوريا وخارجها من هو‬ ‫ٍ‬

‫وإن يكن فقد بيته أو ذويه أو عمله أو‪!...‬‬

‫‪26‬‬

‫ذكريات ومرارات‬

‫غير أن كل ذلك يظل هي ًنا جدًّ ا إزاء ما يجري هناك‪ ،‬بعيدً ا‬

‫قريب‪ .‬ومن األصدقاء األكراد‪ ،‬هو ذا الباحث إبراهيم محمود‬

‫في بيروت‪ ،‬أن هذه الطفلة أو هذه الشابة اللتين (تشحذان)‬

‫سنوات اللجوء بمؤلفاته الجديدة‪ :‬الجسد البغيض للمرأة‪،‬‬

‫أو أبعد‪ .‬هكذا‪ ،‬ما كان لي أن أصدق‪ ،‬وأنا أسير في شارع الحمرا‬ ‫من العابرين‪ ،‬سوريتان مهاجرتان‪ .‬ثم ما كان لي أن أصدق‬

‫األمسية التي جمعتني بأصدقاء ف ّروا من عنت النظام‪ :‬الباحث‬

‫حسان عباس‪ ،‬والشاعر والطبيب محمد فؤاد‪ ،‬واإلعالمية ديما‬ ‫ونوس‪ ...‬ومن بعد ستشتبك اللقاءات والذكريات والمرارات‬

‫واالختالف‪ ،‬من فضاء إلى آخر‪ .‬فبنعمة الهاتف والواتساب‬ ‫والفيبر والبريد اإللكتروني‪ ،‬عانقت األصدقاء الذين عمّ دت‬ ‫ّ‬ ‫تخفى في‬ ‫صداقتي معهم مياه الفرات في الرقة‪ ،‬ومنهم من‬

‫دمشق بعدما صار مطلوبًا من األمن‪ ،‬ثم ف ّر من دوما حيث‬ ‫اختطفت زوجته‪ ،‬ولم يظهر لها ولمن اختطف معها أثر حتى‬ ‫اليوم‪ ،‬وكان فرار هذا الذي ّ‬ ‫لقب منذ الشهور األولى بحكيم‬ ‫الثورة‪ ،‬إلى مدينته الرقة التي كانت الرايات السود فيها قد‬

‫اعتقلت شقيقه‪.‬‬

‫ومن الرقة ف ّر الحكيم إلى تركيا‪ ،‬حيث سبقه أو لحق‬

‫الذي ف ّر وأسرته من القامشلي إلى دهوك‪ ،‬ومنها زودني في‬ ‫بروق‪ :‬سيرة فكرية‪ ،‬أبراج بابل‪ ،‬والروائي حليم يوسف الذي‬ ‫سبق إلى ألمانيا‪ ،‬والصحفي والروائي إبراهيم اليوسف الذي‬

‫زودني من ملجئه األلماني بسيرته «ممحاة المسافة»‪.‬‬

‫ومن المثقفين الفلسطينيين الذين عاشوا في سوريا –‬

‫ومنهم من ولد فيها– حتى دفعتهم سنوات الحرب السورية‬ ‫إلى تغريبتها‪ ،‬كأن لم تكفهم التغريبة الفلسطينية‪ ،‬فالروائية‬ ‫نعمة خالد تطوحت من تركيا إلى ألمانيا‪ ،‬والقاصة سلوى‬

‫الرفاعي تطوحت من تركيا إلى النرويج‪ ،‬أما المفكر الفلسطيني‬ ‫دبي بلقائه مرارًا‪ ،‬كما أنعمت‬ ‫علي ّ‬ ‫أحمد برقاوي فقد أنعمت ّ‬

‫علي بلقاء االقتصادي عارف دليلة‪ ،‬والفنانة واحة الراهب‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫والمخرجين مأمون البني ووليد القوتلي‪ .‬وممن لم أكن‬ ‫علي اإلمارات ً‬ ‫أيضا بلقاء الكاتبين‬ ‫أعرفهم من قبل أنعمت‬ ‫ّ‬ ‫إسالم أبو شكير وعبدالله مكسور‪.‬‬

‫أما القاهرة فمن نعمها الكثيرة لقاء الشاعرة رشا عمران‬

‫به الفارّون من جحيم داعش وأخواتها‪ :‬ماجد رشيد العويد‬ ‫وإبراهيم العلوَش من ك ّتاب الرواية والقصة‪ ،‬وأيمن ناصر‬

‫والباحث الفلسطيني سالمة كيلة‪ .‬وقد تضاعفت هذه النعمة‬

‫ومنحوتاته في شوارع الرقة‪ ،‬كما اعتقلت ابنه حتى أمس‬

‫صبحي حديدي الذي أربت سنوات منفاه على الثالثين‪ ،‬ومثله‬

‫الفنان التشكيلي والروائي الذي حطمت داعش مرسمه‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬

‫أثناء مؤتمر الرواية في القاهرة (آذار – مارس ‪2015‬م) بلقاء‬


‫سمر يزبك‬

‫خليل النعيمي وسلوى النعيمي وبطرس حالق القادمون من‬

‫باريس‪ ،‬وزادتهم سنوات الزلزال نفيًا على نفي‪ .‬وألن القائمة‬ ‫تطول‪ ،‬حسبي أن أجدد شكري لوسائل االتصال التي تجعلني‬ ‫أسمع صوت صديق أو صديقة من المثقفين أو المثقفات‬

‫الذين توزعتهم المالجئ‪ :‬هيثم حقي‪ ،‬وهالة محمد‪ ،‬وراتب‬ ‫شعبو‪ ،‬وسمر يزبك في فرنسا‪ ،‬وروزا ياسين حسن في ألمانيا‪،‬‬

‫وخطيب بدلة في تركيا‪ ،‬وغازي أبو عقل في الكويت‪ ،‬ووفيق‬ ‫خنسة في لوس أنجلس‪ ،‬ومحمد جمال باروت في الدوحة‪،‬‬

‫ومنذر بدر حلوم في موسكو‪ ،‬ومحمد حبيب في النرويج‪...‬‬ ‫براءات الذمة الوطنية‬

‫وهكذا‪ ،‬هكذا ضرب المثقف (ة) السوري (ة) في اآلفاق‪،‬‬

‫الشاعر والروائي والباحث والممثل والمخرج والصحفي‪،‬‬

‫ودائمً ا ينبغي أن نضيف الـ (ة)‪ .‬ومن أوالء من ولد عمله األول‬

‫في بلد اللجوء‪ ،‬ومنهم من كان نجمً ا قبل اللجوء‪ ،‬لكن‬ ‫سنوات اللجوء ّ‬ ‫عطلت إنتاجه‪ .‬ومن أوالء ً‬ ‫أيضا من لم يدفعه‬ ‫دافع من نظام أو من معارضات مسلحة إلى اللجوء‪ ،‬لكنه‬

‫آثر الخروج‪ ،‬ومنهم من كان حتى بعدما زلزلت سوريا زلزالها‬

‫ذا شأن في اإلدارة الثقافية أو السياسية للنظام‪ ،‬وإذا به في‬ ‫ً‬ ‫معارضا‪ ،‬يوزع من الشاشات براءات الذمة‬ ‫غمضة عين نجمً ا‬

‫روزا حسن‬

‫واحة الراهب‬

‫هيثم حقي‬

‫‪27‬‬

‫ما كان لي أن أصدق‪ ،‬وأنا أسير في‬ ‫شارع الحمرا في بيروت‪ ،‬أن هذه‬ ‫الطفلة أو هذه الشابة اللتين (تشحذان)‬ ‫من العابرين‪ ،‬سوريتان مهاجرتان‬ ‫الوطنية‪ ،‬وبخاصة على من لم يغادروا البلد‪ ،‬ومنهم من ناله‬ ‫ما ناله من شر النظام أو من شر الرايات السود‪ ،‬أو منهما معً ا‪.‬‬

‫ال أحسب أنني بحاجة إلى أن أشدد على أن معاناة أي‬

‫مثقف الجئ ال تقاس بمعاناة طفلة (تشحذ) في شارع الحمرا‬ ‫في بيروت‪ ،‬أو الجئ في مخيم الزعتري‪ ،‬أو الجئة في عينتاب‪...‬‬

‫ومع ذلك‪ ،‬فمن مثقفي ومثقفات اللجوء من يتعالى على‬ ‫أوالء ويم ّنن الجميع‪ ،‬في المالجئ ومن هم تحت القصف أو‬ ‫أسرى الرايات السود‪ ،‬بتفضله على الجميع باللجوء‪ .‬وكما‬ ‫يقال ًّ‬ ‫حقا‪ :‬الغربة ّ‬ ‫كشافة‪ ،‬وتهتك األقنعة‪ ،‬وقد كشف مواطن‬

‫اللجوء زيف عدد غير قليل من المثقفين والمثقفات‪ .‬ويبقى‬ ‫الرهان على مثقف (ة) لم يرتهن لبريق مالي أو سياسي‪ ،‬بل‬ ‫يصرف زمن اللجوء في اإلبداع والنشاط اللذين يقربان اليوم‬

‫الموعود بالعودة إلى الوطن الحر واآلمن‪.‬‬

‫ملف العدد‬


‫الجئون‬

‫يحومون‬ ‫حول بيوتهم البعيدة‬ ‫جعفر العقيلي‬ ‫صحفي ‪ -‬عمان‬

‫يأخذ تعريف اللجوء واالبتعاد من الوطن المعنى نفسه تقريبًا‪ ،‬سواء عند شاعرة ومثقفة مثل‬

‫‪28‬‬

‫الشاعرة السورية المقيمة في باريس مرام المصري التي تقول‪« :‬نحن المغتربين‪ ،‬نحوم حول‬

‫بيوتنا البعيدة‪ ،‬كما تحوم العاشقات حول السجن؛ ليلمحن ظالل أحبتهن»‪ .‬أو عند امرأة شبه‬ ‫بسيطة مثل أم معتصم‪ ،‬الالجئة في مخيم الزعتري‪ ،‬فمهما كان شكل اللجوء وطبيعته‪ ،‬فهو‬

‫عندها ليس سوى «موت بطيء»‪ .‬أم معتصم لم تستطع أن تحبس دموعها وهي تروي حكاية‬ ‫لجوئها إلى األردن هر ًبا من الحرب الدائرة في بلدها‪ ،‬فبعد مقتل زوجها في إحدى المظاهرات‬ ‫ً‬ ‫ولديها‪ ،‬كان عليها أن تنجو بمن ّ‬ ‫واعتقال َ‬ ‫عابرة بهم الحدود‬ ‫تبقى من عائلتها‪( :‬ولدان وبنت)‪،‬‬ ‫مشيًا على األقدام‪.‬‬

‫لم تكن هذه المرأة األربعينية لتأبه ّ‬ ‫بكل ما سيواجهها‬ ‫ُ‬ ‫وشغلها الشاغل أن تنجو‬ ‫خالل رحلة األلم‪ ،‬فهمُّ ها‬

‫مخيم الزعتري الذي يضم أكثر من ‪ 45‬ألف أسرة‬

‫غدا اليوم كأنه مدينة داخل المدينة‪ ،‬وبخاصة مع إطالق‬

‫بـ«صيصانها» على حد تعبيرها وهي تروي قصتها‪ .‬وهو ما‬ ‫ّ‬ ‫تحقق لها في النهاية رغم النيران المجهولة المصدر التي‬

‫ً‬ ‫وخصوصا األطفال منهم‪ ،‬ومن‬ ‫من مصاب الالجئين‬

‫أربعة أشهر قضتها «أم معتصم» في مخيم الزعتري‬

‫الثقافة والفنون وأشكال اإلبداع األخرى وسيلة للتخفيف‬

‫ُ‬ ‫متاعها خيمة ال تقي بر َد الشتاء وال ح ّر الصيف‪ ،‬والقليل‬

‫ومساعدتهم على تخطي األزمات التي تعترض طريق‬

‫كانت تحيطها من كل جانب خالل الساعات الثالث التي‬ ‫استغرقتها المغامرة غير المحسوبة النتائج‪.‬‬

‫المتاخم للحدود السورية األردنية‪ ،‬وكان تحت التأسيس‪،‬‬ ‫من الطعام‪.‬‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬

‫آالف المشاريع والحمالت اإلنسانية بهدف التخفيف‬

‫ذلك افتتاح مكتبة «القلب الكبير» التي تضمنت زهاء‬ ‫ثالثة آالف كتاب‪ .‬كما أُطلقت مبادرات متنوعة تتخذ من‬ ‫عن هؤالء األطفال‪ ،‬وتمكينهم من التعبير عن أنفسهم‪،‬‬ ‫طفولتهم‪.‬‬


‫مخيم الزعتري الذي يضم أكثر من‬ ‫‪ 45‬ألف أسرة غدا اليوم كأنه مدينة‬ ‫داخل المدينة‪ ،‬وبخاصة مع إطالق آالف‬ ‫المشاريع والحمالت اإلنسانية بهدف‬ ‫وخصوصا‬ ‫التخفيف من مصاب الالجئين‬ ‫ً‬ ‫األطفال منهم‬

‫‪29‬‬

‫ملف العدد‬


‫الفنان والمخرج نوار بلبل الذي يدير مبادرة تحمل اسم‬

‫ً‬ ‫وخصوصا في مجال األطعمة والمأكوالت‬ ‫في التنقل والعمل‪،‬‬

‫أمام األطفال لممارسة هواياتهم في الرسم‪ ،‬أو حضور عروض‬

‫حتى بات يُخيّل للما ّر من شارع المدينة المنورة في العاصمة‬

‫«خيمة شكسبير»‪ ،‬قال‪ :‬إن الهدف من «الخيمة» فتح المجال‬ ‫مسرحية مستوحاة من أعمال شكسبير‪ .‬كما قامت مجموعة‬ ‫من الفنانين من الالجئين بإطالق مبادرة لرسم لوحات فنية على‬

‫جدران البيوت المتنقلة (الكرفانات)؛ إلكساب المكان لمسة‬ ‫جمالية فنية‪ ،‬تبعث على األمل والفرح‪.‬‬

‫«الحمد لله‪ ،‬وضعنا في المخيم يتحسن بمرور الوقت»‬ ‫يقول الستيني أبو خليل‪ ،‬مثم ًنا الخدمات التي تقدم لالجئين من‬

‫إنشاء مشفى‪ ،‬ومدارس للطلبة السوريين في المخيم‪ ،‬ومؤكدً ا‬

‫األردنية عمّان أنه في أحد شوارع دمشق؛ لكثرة فروع المطاعم‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬ ‫فروع حملت أسماء‬ ‫ومحال الحلويات والعصائر السورية فيه‪،‬‬ ‫توقد الحنين‪.‬‬

‫يحاول الالجئون السوريون التعويض عن نمط الحياة‬

‫الذي اعتادوا عيشه في بلدهم‪ ،‬بأن يحتفظوا ببعض العادات‬ ‫ّ‬ ‫متنفسا لهم من الضغوطات على اختالف‬ ‫وشكلت‬ ‫التي ألفوها‪،‬‬ ‫ً‬ ‫أنواعها‪ ،‬ومع حلول الربيع بدأ الكثير منهم القيام بنزهات‬

‫أن تأسيس مخيم «مريجيب الفهود» على الحدود الشمالية‬ ‫الشرقية لألردن الذي يسع ستين ً‬ ‫ألفا‪ ،‬خفف الضغط الذي كان‬

‫غوطة دمشق وفي األرياف عمومً ا كل يوم جمعة‪ ،‬يقول الالجئ‬

‫هذين المخيمين؛ ليستقروا في المدن والضواحي والقرى‪،‬‬

‫والدمار في بلدنا‪ ،‬وبالرغم من األوضاع االقتصادية الصعبة‬

‫يعانيه «الزعتري»‪ .‬عدد كبير من الالجئين استطاعوا مغادرة‬

‫وبخاصة شمال األردن ووسطه‪ ،‬وهو ما أتاح لهم حرية كبيرة‬

‫مرام المصري‪ :‬نحن المغتربين‪،‬‬ ‫نحوم حول بيوتنا البعيدة‪ ،‬كما تحوم‬

‫‪30‬‬

‫بمختلف أصنافها ‪-‬وهو مجال اشتهرت «دمشق» به منذ القدم‪-‬‬

‫العاشقات حول السجن ليلمحن ظالل‬ ‫أحبتهن‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬

‫أسبوعية تشابه طقس «السيَران» الذي كانوا يقومون به في‬ ‫عدنان الشامي‪« :‬مع كل هذا األلم الذي تعرضنا له نتيجة الحرب‬

‫التي نعيشها هنا‪ ،‬إال أنني وعائلتي ال نفوّت فرصة للخروج إلى‬

‫الطبيعة للتنفيس عن ضغوطاتنا»‪.‬‬

‫ً‬ ‫مليونا و‪350‬‬ ‫وحملت موجة اللجوء السوري إلى األردن‬

‫ألف الجئ يعيش ‪ %15‬منهم فقط في المخيمات‪ ،‬والباقي في‬ ‫المجتمعات المضيفة‪ ،‬وشكلت حالة العيش المشترك بين‬ ‫المجتمعين الكثير من المفردات والمصطلحات من اللهجة‬

‫السورية المستخدمة في الحياة اليومية؛ فبات الكثير من‬


‫األردنيين يستخدمونها‪ ،‬وهو أم ٌر َعزاه الباحث االجتماعي‬

‫موسى العموش إلى اندماج السوريين في سوق العمل‬ ‫األردني‪ ،‬والقرب الجغرافي والديمغرافي بين البلدين‪.‬‬

‫ويضيف العموش‪« :‬على المقلب اآلخر‪ ،‬تنتشر اللهجة‬ ‫األردنية بشكل كبير في أوساط السوريين‪ ،‬وبخاصة‬

‫فراس الريموني‪ :‬األردن خسرت «فرصة‬ ‫ذهبية» الستقطاب الفنانين والمثقفين‬ ‫السوريين‬

‫األطفال منهم‪ ،‬الذين التحقوا بالمدارس األردنية‪ ،‬إلى‬ ‫درجة يصعب معها في كثير من األحيان‪ ،‬تمييز الطالب‬

‫السوري عن زميله األردني»‪.‬‬

‫وبالعودة إلى السورية «أمّ معتصم» التي استطاعت‬

‫أن تؤمن كفاف يومها عبر إعداد المأكوالت البسيطة‪ ،‬فإن‬ ‫هذه المرأة تعدّ أسرتها محظوظة مقارنة بغيرها من األسر‬

‫الالجئة التي ال تستطيع تأمين قوتها اليومي إال بمساعدة‬ ‫ّ‬ ‫تخلت عنهم المفوضية‪َ ،‬‬ ‫أهل الخير بعدما‬ ‫وشحَّ عطاء‬ ‫أغلب الجمعيات الخيرية‪ .‬وها هي تتضرع إلى الله رافعة‬ ‫يديها أن يكون الحل قريبًا؛ ليعود الالجئون إلى ديارهم‬

‫التي تركوها‪ ،‬وأن يمنّ الله عليها برؤية منزلها وترميمه‬ ‫بعدما رأت ما ّ‬ ‫صور أرسلها‬ ‫دمار وتخريب في‬ ‫حل به من‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫إليها جيرانها عبر وسائل التواصل االجتماعي‪.‬‬

‫‪31‬‬

‫مثقفون يواجهون صعوبات في العمل‬ ‫يواجه الالجئون المشتغلون في المجال الثقافي واإلعالمي على وجه التحديد‪ ،‬صعوبات كبيرة في العمل؛ بسبب‬ ‫ّ‬ ‫فيفضل كثير منهم المغادرة دون عودة‪ ،‬وهو أمر أ ّكده الفنان والكاتب‬ ‫امتناع الحكومة األردنية عن إصدار تصاريح عمل لهم‪،‬‬ ‫المسرحي السوري وائل قدور‪ ،‬موضحً ا‪« :‬أتمنى ألاّ يُغادر المثقفون السوريون الذين بقوا في األردن‪ ،‬بمن فيهم أنا‪ ،‬وأتمنى‬ ‫أن تتم إعادة النظر في وضعهم بحيث يتم تسهيل حركتهم وتمكينهم من السفر والعودة؛ ألن ذلك مهم ّ‬ ‫جدً ا بالنسبة لهم‬ ‫حتى يتمكنوا من المشاركة ويُصبحوا جزءً ا من الصورة األكبر»‪ .‬ويلفت قدور إلى أن مُ شاركة المثقفين السوريين في معظم‬

‫الفعاليات تواجه العديد من الصعوبات؛ بسبب القيود المفروضة على زيارة السوريين وسفرهم‪ .‬وعلى الرغم من أن هناك‬ ‫تفهّمً ا لما يبديه األردن من تخوفات أمنية‪ ،‬وبخاصة تسلل عناصر من تنظيم «داعش» اإلرهابي‪ ،‬إال أن النظر إلى المسألة‬ ‫ً‬ ‫مختلفا عند الحديث عن المُ ثقفين والفنانين؛ فاحتياجات هذه الفئة تنحصر في حصولها على صفة قانونيةٍ‪،‬‬ ‫ينبغي أن يكون‬ ‫ً‬ ‫إضافة إلى حرية الحركة من األردن وإليه‪ .‬ويدعو قدور وزارة الثقافة األردنية إلى «االستثمار‬ ‫وإدماجها في المشاريع الثقافية‪،‬‬

‫في الفنانين والمثقفين السوريين الموجودين‪ ،‬والعمل معهم على مشاريع ثقافية ضمن إطار احترافي»‪.‬‬ ‫وفي هذا السياق يؤ ّكد المخرج المسرحي األردني الدكتور فراس الريموني أن الدولة خسرت «فرصة ذهبية» الستقطاب‬ ‫الفنانين والمثقفين السوريين‪ ،‬على عكس ما حدث مع موجة اللجوء العراقي األولى في التسعينيات؛ إذ استطاع المثقفون‬

‫العراقيون حينها العمل بأريحية كبيرة‪ ،‬فأغنوا المشهد الثقافي‪ ،‬وأسسوا عددًا من دور النشر وشركات اإلنتاج الفني‪ ،‬وتم‬ ‫قبول بعضهم أعضاء في رابطة الكتاب األردنيين‪ ،‬أما الموجة الثانية من اللجوء العراقي في عام ‪2003‬م‪ ،‬فكانت على عكس‬

‫األولى؛ إذ كان أصحابها من ذوي رؤوس األموال الضخمة‪ ،‬واشتغل معظمهم بالتجارة‪ ،‬ال سيّما تجارة العقارات‪ .‬وجاءت‬

‫موجة اللجوء العراقي الثالثة مختلفة عن سابقتيها؛ إذ غلب عليها البعد الديني‪ ،‬فكانت تتشكل في معظمها من المسيحيين‬ ‫واإليزيديين الذين هربوا بعد سيطرة «داعش» على الموصل ونينوى في شمال العراق‪ ،‬وكان األردن بالنسبة لهم بلد العبور؛ إذ‬

‫تمت إعادة توطين غالبيتهم في بلدان أوربا وأميركا‪ ،‬بعد أن أقاموا في األردن ألشهر عدّ ة فقط‪ ،‬بحسب ما أفاد به عمر عبوي‪،‬‬

‫مدير البرامج في جمعية «الكاريتاس»‪.‬‬

‫ملف العدد‬


‫مواسم الهجرة‬ ‫القاتلة إلى الشمال‬ ‫تفاقمت مشكلة الهجرة غير المقننة (وال أقول غير الشرعية) من‬ ‫دول الجنوب إلى دول الشمال‪ ،‬في السنوات األخيرة‪ ،‬ووصلت أعداد‬ ‫المهاجرين إلى أرقام مهولة‪ ،‬فقد بلغت هذه األعداد خالل أربعة‬

‫عقود بعد الحرب العالمية الثانية‪ ،‬ما يزيد عن ثالثين مليون مهاجر‪،‬‬

‫وقفزت في العقد األخير فقط إلى رقم مضاعف أي أكثر من ستين‬ ‫ً‬ ‫مليونا‪ ،‬أما أخطر ما رافق هذا التزايد في الهجرة فهو قوارب الموت؛‬ ‫إذ لم يكن التسلل من بالد إلى بالد‪ ،‬يتسبب في هذا الموت الجماعي‬

‫‪32‬‬

‫للمهاجرين‪ ،‬كما يحدث مع قوارب الموت وإحصائياتها المفزعة‪.‬‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬


‫مطاطية قابلة للعطب والغرق‪ ،‬بعد أن تسلبهم مدخراتهم‪،‬‬ ‫وحوادث نصب كثيرة تحدث‪ ،‬يجد فيها المهاجر المسكين‬

‫أحمد إبراهيم الفقيه‬ ‫روائي وكاتب ليبي‬

‫كان خطر الهجرة غير المقننة محدودًا جدًّ ا‪ ،‬وال يصل‬

‫إلى موت المهاجر أثناء عبوره للحدود‪ ،‬إال عدد قليل‬ ‫وحاالت فردية‪ ،‬نادرة الحدوث‪ ،‬مثل تلك التي جعل منها‬ ‫ً‬ ‫موضوعا لروايته‬ ‫الكاتب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني‬

‫الشهيرة التي احتفت بها السينما «رجال في الشمس»؛ إذ‬ ‫فقدت مجموعة من المتسللين عبر الصحراء في طريقها إلى‬ ‫الكويت حياتها؛ ألنها اختفت داخل خزان ماء فارغ موضوع‬

‫فوق سيارة لشحن الماء‪ ،‬نتيجة لسوء تصرف قائد الرحلة‪،‬‬ ‫الذي لم ينتبه إلى دقات الرجال داخل الخزان‪ ،‬ولم يستطع‬

‫تقدير الخطورة التي يمثلها القيظ في الصحراء على زبائنه‬

‫داخل صندوق حديد‪.‬‬

‫وسجلت أعمال أدبية غربية‪ ،‬وبخاصة في األدب‬

‫األلماني مثل هذه الحاالت الفردية‪ ،‬ورصد بعضها ما يتعرض‬ ‫له المهاجرون تسللاً عبر حائط برلين من ألمانيا الشرقية‬ ‫إلى الجزء الغربي من المدينة‪ ،‬وكيف كان بعضهم يسقط‬

‫تحت رصاص الحراس‪ ،‬ولعل أكبر أعداد من المهاجرين‬

‫في األزمنة الماضية كانت تلك التي تسللت بشكل سري إلى‬ ‫أميركا عبر حدودها من المكسيك‪ ،‬وهي ً‬ ‫أيضا كانت موضع‬ ‫أعمال أدبية أميركية‪.‬‬ ‫قوارب الموت‬

‫نفسه يدور في حلقة مفرغة؛ مثل‪ :‬حاالت حصلت في ليبيا‪،‬‬ ‫تنقله العصابة من شاطئ البحر في جزء من الشاطئ الليبي‪،‬‬

‫وتضعه في جزء آخر من نفس الشاطئ‪ ،‬باعتباره وصل‬

‫إلى جزيرة إيطالية‪ ،‬بينما هو ال يزال في ليبيا وقد عاد إلى‬ ‫المربع صفر بعد أن فقد كل ما يملك من أموال أعدها ثم ًنا‬ ‫للحصول على الهجرة‪.‬‬

‫وتشكل بالدي ليبيا في سنواتها الخمس األخيرة‪ ،‬التي‬ ‫ً‬ ‫مكانا‬ ‫أعقبت ثورتها على نظام الطغيان العسكري االنقالبي‪،‬‬ ‫مثاليًّا لعصابات المتاجرة بالمهاجرين السريين‪ ،‬وتهجيرهم‬

‫عن طريق البحر األبيض المتوسط‪ ،‬فلليبيا حدود مفتوحة‬ ‫مع العمق اإلفريقي؛ إذ هي تتاخم مناطق دارفور السودانية‪،‬‬ ‫وتربطها حدود طويلة مع تشاد ومع النيجر‪ ،‬وهذه البلدان‬

‫نفسها ترتبط بعالقات عشائرية مع بلدان أخرى تتاخمها؛‬

‫مثل‪ :‬نيجيريا ومالي‪ ،‬وهناك حركة حرة لهذه العشائر‪،‬‬ ‫تسهل لعناصرها الدخول إلى ليبيا‪ ،‬وبخاصة بعد أن غابت‬

‫الدولة‪ ،‬وصارت الحدود الليبية مع الجوار اإلفريقي قابلة‬ ‫لالنتهاك لضعف الرقابة‪ ،‬وانهيار اإلدارة‪ ،‬وضعف مؤسستي‬

‫األمن والجيش‪ ،‬وانتشرت بجوار عصابات المتاجرة بالبشر‪،‬‬

‫عصابات التطرف اإلسالمي؛ مثل‪ :‬داعش والقاعدة‪ ،‬وهي‬

‫عصابات تستحل لنفسها ما حرم الله؛ من أجل تمويل‬ ‫ً‬ ‫أيضا في تهريب البشر‪ ،‬وتهريب‬ ‫نفسها‪ ،‬فدخلت هي‬

‫السالح‪ ،‬وتهريب العملة‪ ،‬وتهريب البضائع الممنوعة؛ مثل‪:‬‬

‫الحشيش وغيره من المخدرات‪ ،‬وصارت ليبيا بسبب حالة‬

‫الفوضى التي تعيشها مصدرًا من مصادر التوتر في العالم‪،‬‬

‫غير ذلك فإنها ظاهرة حديثة جدًّ ا هذه التي جعلت‬

‫ونقطة انطالق للهجرة غير المقننة‪ ،‬ومحطة للهاربين من‬ ‫ً‬ ‫ضغطا على‬ ‫العدالة من مجرمين وإرهابيين‪ ،‬وهو أمر يضع‬

‫والمهولة التي حصلت في البحر األبيض المتوسط‪ ،‬المتمثلة‬

‫بانهيار الدولة‪ ،‬وحالة االحتراب القائمة بين الميليشيات‪،‬‬

‫الموت جزءً ا من المغامرة‪ ،‬وجعلت الفواجع الكبيرة‬ ‫في قوارب الموت‪ ،‬تستنفر الضمير العالمي‪ ،‬وتفزع كل‬

‫كائن يملك قلبًا ينبض‪ ،‬وتتصاعد األصوات من مختلف‬

‫أنحاء العالم‪ ،‬بل ومن قلب الغرب المستهدف بالهجرة‪،‬‬ ‫تطالب بوجود صيغة أكثر رحمة وأكثر إنسانية للتعامل مع‬

‫الهجرة التي يسمونها خطأ هجرة غير شرعية‪ ،‬ويقترحون لها‬ ‫اسمً ا آخر مثل طالبي اللجوء‪ ،‬أو الهجرة غير المنظمة‪ ،‬وأن‬

‫يسعى المجتمع الدولي النتزاعها من براثن العصابات التي‬ ‫تتاجر بالبشر‪ ،‬وهي التي تحملهم بأكداس بشرية فوق قوارب‬

‫‪33‬‬

‫أهل الحراك السياسي؛ من أجل معالجة الفراغ الذي تسبب‬

‫وهناك ضغط عالمي وجهد تقوم به األمم المتحدة؛ من أجل‬ ‫وجود صيغة تؤمن ً‬ ‫نوعا من الحل الذي يؤدي إلى قيام الدولة‬ ‫بكامل مؤسساتها الدستورية واألمنية العسكرية والقضائية؛‬

‫لقطع الفرصة على هذه العصابات‪ ،‬ومحاصرتها‪ ،‬وإنهاء‬

‫وجودها فوق التراب الليبي‪.‬‬ ‫وليبيا تعطي مثالاً واضحً ا لكيف أن الهجرة غير المقننة‪،‬‬ ‫صارت جزءً ا من منظومة اإلجرام العالمي التي تدخل فيها‬

‫عصابات المخدرات‪ ،‬وعصابات تهريب العملة‪ ،‬وعصابات‬

‫ملف العدد‬


‫تهريب السالح‪ ،‬ثم أخي ًرا عصابات اإلرهاب الديني وأهل‬

‫السالم في هذا الجزء من العالم الذي ابتاله الله بحروب‬

‫من الدين‪ ،‬والدين منهم براء‪.‬‬

‫الموت يطوف في الشوارع‪ ،‬فكانت الهجرة عملية هروب‬ ‫ً‬ ‫وأحيانا عملية هروب من الموت‪ ،‬حتى لو كان‬ ‫من الفاقة‪،‬‬

‫التطرف والمغاالة من أهل الجرائم الذين يتلمسون غطاء‬

‫حروب أفرغت البلدان من مواطنيها‬

‫أفرغت بلدانه من مواطنيها‪ ،‬وأغلقت مصادر الرزق‪ ،‬وجعلت‬

‫المهاجر يعرف أنه يخوض عملية خطرة قد تنتهي بالموت؛‬ ‫ألن ً‬ ‫موتا محتملاً في البحر أفضل من موت مؤكد في شوارع‬

‫ولهذا فإن الحل لمشكلة أو ظاهرة الهجرة غير المقننة‪،‬‬ ‫ليس فقط حلاًّ أمنيًّا‪ ،‬وال حلولاً تقتصر على قوارب إنقاذ‬

‫مدينته‪.‬‬

‫تبدأ بالبحث عن أسباب الهجرة‪ ،‬وتجفيف مواردها‪ ،‬بدءً ا‬

‫المسلحة‪ ،‬الحالة االقتصادية المتردية‪ ،‬وبخاصة في بعض‬

‫تبحث عن الغرقى وتحاول إنقاذهم‪ ،‬إنما حلول جوهرية‪،‬‬ ‫بإنهاء الفتن والنزاعات والحروب األهلية‪ ،‬وخلق حالة من‬

‫وهناك غير الحرب والقالقل الناتجة عن الصراعات‬

‫الدول اإلفريقية؛ مما يستوجب جهدً ا إنسانيًّا عالميًّا لخلق‬ ‫نوع من التوازن الحضاري‪ ،‬بين شمال العالم وجنوبه‪،‬‬

‫وإنشاء صناديق دعم لبعض األقطار الفقيرة في القارة‬

‫الهجرة عملية هروب من الفاقة‪،‬‬ ‫وأحيا ًنا عملية هروب من الموت‪ ،‬حتى‬ ‫لو كان المهاجر يعرف أنه يخوض‬ ‫عملية خطرة قد تنتهي بالموت؛ ألن‬

‫‪34‬‬

‫موتًا محتمال في البحر أفضل من موت‬ ‫مؤكد في شوارع مدينته‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬

‫السمراء‪ ،‬وصناديق أخرى؛ لخلق عمل لبعض العاطلين‬

‫داخل بلدانهم‪ ،‬وتنمية مواردهم؛ مما يمنع عنهم العوز‪،‬‬ ‫وينهي البطالة‪ ،‬التي تدفعهم إلى الهجرة‪ ،‬وضمان حزمة‬ ‫اإلجراءات المطلوبة إنسانيًّا‪ ،‬وتسهيل قواعد الهجرة‪ ،‬وخلق‬

‫مسارات قانونية تجعل الهجرة أقل خط ًرا مما هي اآلن‪،‬‬ ‫ويمكن لكل دولة تحصين نفسها بجملة من القوانين التي‬ ‫تحقق رفع الضرر عن المهاجر‪ ،‬وفي نفس الوقت تأمين‬

‫الوطن المستهدف بالهجرة من األزمات‪ ،‬والمشاكل التي‬

‫تحدث بسبب هؤالء المهاجرين‪.‬‬


‫مقابر على امتداد الذاكرة‪...‬‬

‫وإسطنبول تخفف‬ ‫من آالم المنفى‬ ‫غوالي ظاظا‬ ‫صحافية سورية تقيم في إسطنبول‬

‫‪35‬‬

‫ملف العدد‬


‫قبل خمس سنوات قرر السوريون بناء وطن أفضل‪ ،‬وبعد خمس سنوات ما زال كفاح السوريين يدور‬ ‫حول الهدف نفسه بثبات وآالم كبيرة‪ ،‬مع دخول شرط آخر الستمرارية الهدف األول‪ :‬البحث عن منفى‬ ‫أفضل‪ ،‬تارة عبر االنتقال من بلد إلى آخر‪ ،‬وتارة أخرى بتحويل االضطرار (اللجوء إلى تركيا) اختيارًا‪ .‬تركيا‬

‫التي يقيم فيها قرابة مليوني سوري والذين باتوا مرة أخرى مادة تجارية في لعبة األمم خارج بالدهم‪.‬‬

‫بين الوطن القريب والمنفى الجديد مساحة شاسعة آلالم تنهش يوميات السوريين وذاكرتهم‪ ،‬وحاضر‬ ‫مسكون بالهلع قانونيًّا ونفسيًّا‪ .‬انطباعات رحلة الخروج األولى المفترض أن تكون قصيرة‪ّ ،‬‬ ‫حتمت عليهم‬ ‫ّ‬ ‫عملية تكيّف مرهقة عبر إعادة تعريف دائم لكافة مناحي الحياة‪ ،‬تعريفات تتحايل على «المؤقت»‬

‫لتشمل خمس سنوات وما يأتي من بعده‪ ،‬وتتحايل على الديمومة حتى حين باتت مقابر السوريين‬ ‫ممن فارقوا الحياة في تركيا بمساحة بلدات سورية كبيرة‪ ،‬على أمل أن يتحول درب اآلالم الذي سلكوه‬ ‫إلى الخارج هو نفسه طريق الحرير الذي سيعيدهم إلى الداخل‪ .‬إسطنبول بهذا المعنى منفى أعاد‬

‫السوريون بناء صورته لتطويعه‪ ،‬بحيث يخفف من وطأة شعور السوري بأنه «غريب»‪ .‬ويشكل البحث‬ ‫ً‬ ‫موضوعا فكريًّا‪ ،‬فإسطنبول بالنسبة للشاعر والكاتب علي سفر‪ :‬منفى‪،‬‬ ‫عن الخصائص المرغوبة للمكان‬

‫لكن في الوقت نفسه «هذا المنفى نفسه حادث وليس اختيارًا‪ ،‬مثل أي شخص يتعرض لحادث ما»‪.‬‬ ‫المنفي قليلاً ‪« ،‬فهي مدينة‬ ‫ويروي سفر لـ«الفيصل» بعض مزايا هذه المدينة؛ منها أنها تخفف عن‬ ‫ّ‬ ‫مانحة للطاقة‪ ،‬تدفع بفتنتها إلى العقل‪ ،‬وتجبر اإلنسان على الغرق فيها وبتفاصيلها»‪.‬‬

‫‪36‬‬

‫العالج بالكتابة‬

‫ويرصد الكاتب والشاعر السوري علي سفر الكيفية التي‬

‫تخفف بها إسطنبول من وطأة آالم المنفى فهي المدينة «القريبة‬ ‫جدًّا من دمشق حيث يلمح السوري صورته في الكثير من‬

‫ً‬ ‫مطلقا قبل الثورة‪ ،‬فاألولوية ترتبط بـ«مسألة العودة‪ ،‬وكل‬ ‫المخططات الشخصية مبنية على مفترقات الطرق السياسية»‪.‬‬ ‫حق العودة‬

‫لكن انخراط المثقف في العمل السياسي يعني ً‬ ‫أيضا‬

‫زوايا المدينة وحاراتها ومعالمها التاريخية‪ ،‬ويمكن للمصابين‬ ‫بالنوستالجيا أن يجدوا ُق ً‬ ‫وتا لمعاناتهم‪ ،‬وهي المدينة التي تنقل‬

‫ظهور خصوم جدد وقتلة محترفين أمامه‪ ،‬فالكاتب السوري‬

‫يقترن بالحداثة‪ ،‬وإمكانية الحفاظ على التراث بالتجاور مع غزو‬

‫النظام‪ ،‬وأضيف اليوم إلى سلسلة خصومه من يسميهم‪:‬‬

‫السوري من أنموذجه الذهني‪ ،‬إلى شكل آخر لمعنى المدينة‪،‬‬ ‫حداثي»‪ .‬ال خالف على أنّ هناك قسمً ا كبي ًرا من السوريين في‬

‫خطيب بدلة‪ ،‬خرج من سوريا في عام ‪2012‬م مرغمً ا بسبب‬ ‫اللصوص والمتطرفون‪ ،‬ومطلوب من جهات عدة‪ .‬ومن بين‬

‫تركيا قرروا عدم ترك المكان حتى لو أتيحت لهم فرصة الهجرة‬ ‫إلى أوربا‪ ،‬وهؤالء بالضرورة أكثر أملاً ‪ ،‬وأمهر في تطويع األلم‪،‬‬

‫المتأقلمين مع الحياة الجديدة في إسطنبول مستندً ا في ذلك‬

‫وال تفوته اإلشارة إلى أن «األمكنة المشتهاة ليست بعيدة‪،‬‬

‫إنه قابل للتكيّف مع األماكن الجديدة بسرعة‪ ،‬ويفسر ذلك‬

‫وكما يقول سفر‪ :‬إن «الكتابة عن األمكنة جزء من العالج»‪،‬‬ ‫وإحاالتها تقترن اآلن بالموت‪ ،‬ولهذا يصبح التفكير باألمكنة‬

‫الجديدة هو تفكير بالحياة‪ ،‬لهذا ليس لدي خيار سوى أن أنتمي‬ ‫للمكان الجديد»‪ .‬وتحتضن تركيا الجزء األكبر من المؤسسات‬ ‫السياسية المعارضة للنظام السوري‪ ،‬وكذلك أنشطة المنظمات‬

‫العيّنة الثقافية التي التقتها «الفيصل» يعد خطيب بدلة أكثر‬ ‫على عنصر أساسي وفرته له تركيا وهو األمان واالحترام‪ .‬ويقول‪:‬‬

‫بتنقله المتكرر أثناء الثورة بين عدة مدن وقرى وبيوت وبيئات‪،‬‬ ‫وفي تركيا عاش في الريحانية وغازي عنتاب وإسطنبول‪.‬‬ ‫ويضيف‪« :‬في الريحانية‪ ،‬حيث الحياة بسيطة والوقت طويل‪،‬‬

‫ُ‬ ‫أنجزت كتابين ومجلة كش ملك‪ ،‬وفتحت مشاريع أخرى‪ .‬في‬

‫غير الحكومية المنتشرة بكثافة في الواليات الحدودية‪ .‬ونظ ًرا‬ ‫ألن فكرة العودة إلى الوطن باتت ً‬ ‫شأنا سياسيًّا‪ ،‬فإن الشاعر‬

‫واإلبداعي»‪ .‬ويعمل بدلة حاليًا على مشروع قصة طويلة‬

‫الثقافي‪ ،‬بات يكتب في الشؤون السياسية‪ ،‬وهو ما لم يفعله‬

‫العيش في ألمانيا‪ ،‬وأقام شهرين في ريف هامبورغ‪ ،‬لكن‬

‫علي سفر‪ ،‬مثله مثل الكثير من السوريين البارزين في الحقل‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬

‫إسطنبول أوزع الوقت القليل بين العمل السياسي‪ ،‬واإلعالمي‬

‫بعنوان‪« :‬صعود نجم عبدالحميد الفارط»‪.‬كما حاول تجربة‬


‫«الحياة في ألمانيا تخلو من المشاكل على نحو مرعب‪ ،‬ولذلك‬

‫ُ‬ ‫عدت إلى تركيا»‪ .‬لكن هل تركيا هي المحطة األخيرة؟ يجيب‬ ‫بدلة بأنه قبل أيام قليلة طالب المعارضة السورية بأن ترفع‬

‫شعار «عودة السوريين إلى ديارهم»‪.‬‬ ‫الذاكرة المزدوجة‬

‫الحديث عن الذاكرة لدى السوريين المقيمين خارج‬

‫خطيب بدلة‬

‫بالدهم بات يشبه الحديث عن المقبرة‪ ،‬وبقدر المجازر التي‬ ‫ارتكبها النظام‪ ،‬يواجه السوريون آالم الذاكرة الشخصية ً‬ ‫أيضا‬

‫كل منها في ملف مستقل مثل أي ملف على جهاز الكومبيوتر‬

‫تفاصيل «الشخص السابق» الذي «كانه»‪ .‬استدعاء أي تفصيل‬ ‫للحظات يعني عويلاً مُ ًّرا‪ .‬الغرق في هذه الحالة كفيل بحفر‬

‫ً‬ ‫ّ‬ ‫لحثي على‬ ‫محتفظا باألرصفة وأعمدة الكهرباء وصياح أمّ ي‬

‫المؤلم مجرد اجتماع للعائلة حول مائدة الطعام‪ .‬أمام هذه‬

‫بحوارات الواتساب مع دمشق وجلسات السكايب في ساعات‬

‫علي سفر‬

‫بمجازر من نوع آخر‪ ،‬فيها الكثير من المكابرة المثمرة في طرد‬

‫«الذاكرة الدمشقية في ملف‪ ،‬والذاكرة اإلسطنبولية في ملف‬ ‫َ‬ ‫«توقف التحميل على الملف األول‪ ،‬وبقي‬ ‫آخر»‪ .‬وتضيف‪:‬‬

‫خطوط على الوجه على مسار الدموع‪ .‬قد يكون التفصيل‬

‫االستيقاظ المبكر‪ ،‬أما الملف الثاني (اإلسطنبولي) فمليء‬

‫الحالة لجأت الكاتبة فاطمة ياسين إلى اعتماد ذاكرة مزدوجة‪،‬‬

‫توافر الكهرباء هناك»‪.‬‬

‫عقدت فاطمة «هدنة طويلة األمد مع المدينة الجميلة‬

‫باتت مقابر السوريين ممن فارقوا‬ ‫الحياة في تركيا بمساحة بلدات‬

‫بشقيها األوربي واآلسيوي» وتحاول اكتشاف الجانب الدمشقي‬

‫في إسطنبول‪ ،‬لكن تبقى جوانب ال يمكن تعويضها‪ ،‬فهنا‬ ‫للبحث والتناص المكاني حدود «إذ ال غوطة هنا»‪ .‬وما الذي‬

‫سورية كبيرة‪ ،‬على أمل أن يتحول درب‬

‫أخذته منها سوريا؟ تجيب فاطمة‪« :‬الكثير من المالبس التي‬

‫نفسه طريق الحرير الذي سيعيدهم‬

‫لرياض الصالح الحسين‪ ،‬تخليت عنها على أمل العودة‬

‫اآلالم الذي سلكوه إلى الخارج هو‬ ‫إلى الداخل‬

‫لم أستطع حشرها في الحقيبة الوحيدة‪ ،‬ومجموعة شعرية‬

‫‪37‬‬

‫السريعة لمطالعتها»‪ .‬ورغم الصعوبات البيروقراطية في‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫بيئة‬ ‫شكلت إسطنبول على مدار سنوات‬ ‫المجال اإلداري‪،‬‬

‫ملف العدد‬


‫لتقديم العديد من السوريين أنفسهم بطريقة أفضل مما كانوا‬

‫وصفها‪ .‬والمفارقة أن اإلعالمية الشابة تخشى من فكرة أن‬ ‫َّ‬ ‫توثق كالجئة في أوربا‪ ،‬ورغم إقامتها الطويلة في تركيا إال أنه‬

‫على الكاتبة فاطمة ياسين التي أتاح وجودها في إسطنبول‬

‫ً‬ ‫الذعا لمن يصوّر السوريين في تركيا‬ ‫البحر‪ .‬وتوجه والء نقدً ا‬

‫ً‬ ‫خصوصا في مجاالت إبداعية‪ ،‬وينطبق األمر‬ ‫عليها في سوريا‪،‬‬

‫ولقاءاتها مع المثقفين السوريين بأن تدخل عالم الكتابة‪،‬‬ ‫وتتناول مجاالت السياسة واألدب في صحف عربية مرموقة‪.‬‬ ‫تناقص الصحون‬

‫يبقى الموت هو الجزء األكثر هلعً ا في آالم السوريين‪ .‬أن‬

‫يموت أحد أفراد العائلة داخل سوريا‪ ،‬فتسمع خبر الوفاة‬

‫عبر مكالمة أو رسالة‪ ،‬فيدفن الفقيد فيما أقرب الناس إليه‬ ‫ال يعرف حتى كيف سارت طقوس الدفن‪ ،‬فيكون الموت في‬ ‫دمشق والتعازي في إسطنبول‪ .‬هذا السيناريو بات يتكرر في‬

‫وكأنهم يعيشون على حساب الرئيس التركي أو معوناته‪،‬‬ ‫بل ترى أن هؤالء قاموا بضخ أموال هائلة في سوق العمل‬

‫التركي‪ ،‬ولم يحصل السوريون إلى اآلن على وثيقة عمل‬ ‫لضمان حقوقهم التي تتعرض لالنتهاك‪ ،‬فضلاً عن القوانين‬

‫غير السلسة بخصوص اإلقامة‪.‬‬ ‫خزان المياه‬

‫مهما بلغت درجة «السالم الداخلي» للسوريين في تركيا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مبعثا لحالة خوف وقلق‬ ‫تبقى الجوانب اإلدارية في هذا االنتقال‬

‫حياة السوريين في الخارج‪ .‬والتقت «الفيصل» حالتين من‬ ‫ً‬ ‫وأيضا اإلعالمية (والء‪ )...‬التي‬ ‫هذه الفواجع‪ :‬فاطمة ياسين‬

‫ً‬ ‫خصوصا لمن ال يتقن اللغة التركية‪ ،‬وهي‬ ‫ال يمكن اإلحاطة بها‪،‬‬

‫وتقول‪« :‬اليوم اختفى هذا الصحن‪ ،‬وكذلك صحن أبي‪،‬‬

‫يكشف منصور عن ّ‬ ‫غصة يشعر بها بتركه البلد‪« :‬تركنا تاريخنا‬

‫كان على طاولة عائلتها في دمشق صحن زائد دائمً ا للضيف‪.‬‬

‫وسُ رقت الطاولة»‪ .‬أتاح وجود والء في إسطنبول خوض مجال‬ ‫عمل جديد في اإلعالم‪ ،‬وتعتقد أنه ما كان لها أن تنال هذه‬

‫‪38‬‬

‫ال شيء يثبت رسميًّا أنها الجئة فضلاً عن هاجس الغرق في‬

‫الفرصة في سوريا‪ .‬وتكتشف في إسطنبول أن الجاذبية األرضية‬

‫خفيفة أثناء سيرها في أزقة هذه المدينة مقارنة بدمشق‪ ،‬وهي‬ ‫التي كان يالحقها وصف «النازحة الجوالنية» طيلة حياتها في‬

‫سوريا‪ .‬هي ال تنتمي إلى هذا المكان الذي يتوسط آسيا وأوربا‬ ‫مستأجرة‪:‬‬ ‫حيث تختبر ألول مرة «حياة اإلقامات»‪ ،‬هنا تعيش‬ ‫ِ‬ ‫تستأجر أسرة وعملاً ومنزلاً وأصدقاء‪ .‬ومثلها مثل كل من‬

‫التقتهم «الفيصل»‪ ،‬لم تتعلم حتى اآلن اللغة التركية‪ ،‬وتبرر‬ ‫ذلك بأن هذه اللغة يلزمها عمق أكبر لتكون أخف على اللسان‪.‬‬ ‫الكثيرون ممن رفضوا التوجه إلى أوربا رغم الموجة‬

‫المثيرة للجدل من الالجئين‪ ،‬يحصون األيام من أجل العودة‬ ‫إلى سوريا‪ .‬وتركيا بلد جيد للعودة السريعة كما تقول والء‪،‬‬

‫حتى لو لم تمتلك ثمن تذكرة الطائرة‪ ،‬فإن خبرة السوريين‬ ‫في اجتياز األسالك الحدودية تسهل من األمر كثي ًرا‪ ،‬على حد‬

‫مهما بلغت درجة «السالم الداخلي»‬ ‫للسوريين في تركيا‪ ،‬تبقى الجوانب‬ ‫اإلدارية في هذا االنتقال مبع ًثا‬ ‫لحالة خوف وقلق وتوتر دائم‪ ،‬وكل‬ ‫فترة تصدر قوانين جديدة بخصوص‬ ‫السوريين ال يمكن اإلحاطة بها‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬

‫وتوتر دائم‪ ،‬وكل فترة تصدر قوانين جديدة بخصوص السوريين‬ ‫حال معظم السوريين‪ ،‬ومن بينهم اإلعالمي مهند منصور‪.‬‬ ‫وماضينا هناك‪ ،‬لدي ملفات عملي القديم وبدايات مهنتي‪،‬‬

‫فيديوهات وبرامج وملفات ومجموعة من الكتب‪ ،‬جاءت عناصر‬ ‫األمن إلى المنزل ولم أكن حينها هناك‪ ،‬فقام أخي برمي جهاز‬ ‫كومبيوتري الذي يحتوي على كل هذه الملفات‪ ،‬في خزان‬ ‫المياه‪ ..‬ليتني استطعت أن أجلب معي خزان المياه ذاك»‪.‬‬

‫األلفة مع إسطنبول «ألفة خجولة» وكثير منه ادعاء باأللفة‬ ‫كما يقول اإلعالمي السوري‪ .‬اإلحساس باإلقامة المؤقتة تبرر له‬ ‫عدم قيامه بمتطلبات المقيم الدائم مثل تعلم اللغة التركية‪.‬‬

‫بإمكان منصور االتخاذ من إسطنبول قاعدة لنشاطه المهني‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مكانا للمساهمة في ثورة شعبه ضد األسد‪ .‬ويقول‪ :‬إنه‬ ‫وأيضا‬

‫بالرغم من وجوده في إسطنبول‪ ،‬لكنه يشعر بأنه على حدود‬

‫الوطن‪« .‬هنا رائحة الشرق‪ ،‬أما الذهاب إلى أوربا يعني نهاية‬ ‫حلم العودة»‪ .‬وينتقد منصور الذي يعمل في حقل اإلعالم منذ‬

‫عشر سنوات‪ ،‬حالة االنفالت اإلعالمي في أوساط المعارضة‬

‫السورية‪ ،‬المتحررة من االنضباط والمعايير المهنية‪ .‬عن سؤاله‪:‬‬ ‫أين الوطن الحقيقي؟ يجيب منصور‪« :‬حيث لك أموات وطنك‬ ‫الحقيقي»‪ .‬ورغم أن اإلجابة تضمر احتمالاً واحدً ا‪ ،‬وهو سوريا‪،‬‬

‫إال أن طول إقامة السوريين في المنافي االضطرارية جعلت‬ ‫مقابرهم تمتد على قارات العالم أجمع‪.‬‬ ‫جمهورية الغرق‬

‫ليس الثبات في تركيا ديْدَ ن السوريين طالما أنهم كانوا‬

‫مادة ألكبر موجة لجوء إلى أوربا تسببت انعكاساتها بأزمة ما‬

‫زالت تهدد وجود االتحاد األوربي نفسه‪ .‬في تجربة المنافي‬


‫يرسم عارف حمزة مشهد عودة‬ ‫السوريين كما يتمنى بصورة شعرية‪:‬‬ ‫«أن يعودوا في نفس اللحظة إلى‬ ‫ْ‬ ‫أن يدخل فجأة‬ ‫داخل البلد البعيد‪ْ .‬‬ ‫خمسة ماليين شخص دفعة واحدة؛‬ ‫والء عواد‬

‫فاطمة ياسين‬

‫المتعددة‪ ،‬يرصد الشاعر عارف حمزة ً‬ ‫نوعا من إعادة بناء‬

‫الهوية السورية في الخارج‪ .‬ويقول الشاعر المقيم في ألمانيا‪:‬‬ ‫«حكمنا أناس لعشرات السنوات لم يجعلوا من مواطني هذا‬ ‫البلد أهلاً لبعضهم حتى تحدث هذه الحرب األهليّة‪ .‬ولكن‬

‫كنا أهلاً لبعضنا في المنفى وخالل الغرق في البحر األبيض‬

‫لرفع أنقاض هذا البلد الوحيد»‬ ‫منبوذي هذه األرض»‪ .‬لم ينقطع حمزة عن كتابة الشعر سواء‬ ‫ً‬ ‫سابقا إلى‬ ‫في تركيا أو ألمانيا رغم أنّ استدراج ما تخلى عنه‬ ‫األماكن الجديدة صار أم ًرا مري ًرا‪ .‬ويوضح ذلك بالقول‪« :‬لم‬

‫المتوسط»‪ .‬ويحسب حمزة للنظام السوري حسنة وحيدة‬

‫علي شيء بالنسبة لكتابة الشعر‪ .‬هناك صور جديدة‬ ‫يتغيّر‬ ‫ّ‬ ‫حولي؛ نعم‪ ،‬وعمران وطبيعة وحجارة سميكة بسبب الحياة‪،‬‬

‫المنفى وهو داخل سوريا؛ مما جعل خروجه إلى تركيا في‬

‫أعرف قصصهم‪ ،‬ولم أنجح في مراقبة حياتهم الخفيفة‪ .‬ليس‬

‫انعكست عليه إيجابيًّا‪ ،‬وهي منحه اإلحساس بأنه عاش في‬

‫األول من سبتمبر عام ‪2013‬م «خفيف الوطأة»‪ .‬ويروي كيف‬

‫أنه كان يحرص على االحتفاظ بتخطيطات الرسامين من‬ ‫ُ‬ ‫غادرت إلى أوربا‬ ‫أجل الكتابة عند العودة للبلد‪ ،‬لكن «فجأة‬ ‫ّ‬ ‫وظل‬ ‫وحدي‪ .‬وهناك استقبلني المنفى بذراعين واسعتين‪.‬‬ ‫صاحبي الصامت في ّ‬ ‫كل مكان‪ .‬حتى ّإنه ي ّ‬ ‫ُشغل المنامات التي‬ ‫علي رؤيتها هنا وأنا ّ‬ ‫أتقلب في سرير نام عليه شعب كامل من‬ ‫ّ‬

‫ولكن ال أفهم معاناة الناس الذين يسكنون هذه البالد‪ ،‬ال‬

‫هناك كلمات جديدة أحصل عليها حتى اآلن‪ ،‬بقدر ما صارت‬ ‫كلماتي القديمة تعيش حياتها هنا ً‬ ‫أيضا‪ ،‬ولكن بروح قد تبدو‬ ‫مغايرة»‪ .‬يرسم عارف حمزة مشهد عودة السوريين كما يتمنى‬ ‫بصورة شعرية‪« :‬أنْ يعودوا في نفس اللحظة إلى داخل البلد‬ ‫البعيد‪ .‬أنْ يدخل فجأة خمسة ماليين شخص دفعة واحدة؛‬

‫‪39‬‬

‫لرفع أنقاض هذا البلد الوحيد»‪.‬‬

‫ملف العدد‬


‫أنظر بشجن إلى البصرة‬

‫من منفاي الدنماركي البعيد‬

‫ليس هناك من خيار على الدوام في القرار‪ .‬وهي لم تكن هجرة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مرغما على‬ ‫الحقا‪ .‬حين وجد أبي نفسه‬ ‫ومصطلح «المغتربين» جاء‬

‫ترك العراق في عام ‪1979‬م من ضمن المئات واآلالف الذين الحقتهم‬

‫سلطة البعث‪ ،‬ولم تترك للكثير منهم فرصة حتى لتوديع أحبتهم‬ ‫اختار أبي الكويت‪ .‬إنها على الحدود‪ ،‬قريبًا من مدينته البصرة‪،‬‬ ‫المسافة قصيرة‪ ،‬والمشوار ال يتجاوز الساعتين‪ .‬فكر حينها أن األمر‬

‫‪40‬‬

‫دنى غالي‬ ‫روائية عراقية تقيم في الدنمارك‬

‫لن يتعدى ربما شهورًا ويعود‪ ،‬والوعد الذي كان يردده يوميًّا بالنوم‬

‫على سطح البيت من جديد‪ ،‬دام ألكثر من ثالثين سنة‪ .‬طبيعة‬ ‫المناخ في الكويت ال تسمح بتحقق الحلم البسيط‪( ،‬وال أظنها‬

‫تسمح اليوم في العراق كذلك)‪ .‬ولم يكن هناك من خيار في مواصلة‬ ‫الرحلة من مكان إلى آخر حتى االستقرار في دولة من دول المنفى‪.‬‬

‫عشرات النصوص واألغاني والجلسات التي جمعت‬

‫اجتماعي إثني سيكولوجي‪ .‬مع دخول األميركان أو ضده‪،‬‬

‫اختلف اليوم فقد وجدنا أنفسنا بحاجة إلى تعريف جديد‬

‫والتوقيع على عشرات البيانات‪ ،‬واالنضمام إلى عشرات‬

‫الفنانين والرسامين واألدباء كلها كانت تبكي الوطن‪ .‬كل ذلك‬ ‫ألنفسنا‪ .‬ذلك الحلم البعيد تحقق ولكن ما الذي تغير‪ ،‬ذلك‬ ‫التوق والشعور بالنفي وفكرة الحرمان من الوطن صار محض‬ ‫اختيار اآلن ولكن‪ ...‬حدث خلل عظيم في واقع األمة بغالبها‪،‬‬ ‫والتجارب تعددت وتباينت من شخص آلخر‪ ،‬ومن عائلة‬

‫ألخرى‪ ،‬على اختالف المنابت واألديان والمذاهب واهتمامات‬ ‫دول العالم الكبرى بنا‪ .‬ما الوطن؟ ما االنتماء؟ وجلدك هل‬

‫تسلخه لتتجدد وتنفض عنك ما تكلس وسكن القمل بين‬ ‫حراشفه‪ ،‬أم تحافظ عليه لئال تفقد توازنك وتتهاوى في مكانك؟‬ ‫السياسة تسري في عروقنا‬ ‫ّ‬ ‫اختلفنا فيما بيننا؛ كاتبات وكتاب‪ ،‬اكتشفنا أن السياسة‬

‫تسري في عروقنا‪ ،‬وصرنا متخصصي تحليل جغرافي سياسي‬ ‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬

‫مع المحور الروسي أو ضده‪ ،‬والية الفقيه والتكنوقراط‪،‬‬ ‫المنظمات‪ ،‬والمشاركة في التظاهرات‪ .‬انفجار في المحطات‬ ‫الفضائية والصحف اإللكترونية‪ ،‬ومن ثم ّ‬ ‫حلت سيول وسائل‬ ‫التواصل االجتماعي حتى أغرقتنا تمامً ا في وحول التطرف‬

‫والتخوين والتقسيمات‪ .‬انتشرت األمراض‪ ،‬وصرنا بانتظار‬

‫اكتشاف لقاح يقضي على وباء نشعر بعجز تام عن مقاومته‪.‬‬ ‫رحنا نكتب عشرات الصفحات في تأملنا لتلك البقعة‬

‫من مكاننا في المنفى‪ ،‬بعضنا تمرد على مرجعياته‪ ،‬واآلخر‬

‫واصل على خطاها‪ .‬األدب كان الوعاء الذي احتوى نزفنا‪،‬‬

‫وقيحنا‪ ،‬ودموعنا؛ امتزج كل ذلك بخيوط من مرابع الطفولة‬ ‫ونقائها؛ نخيل‪ ،‬وأنهر‪ ،‬وأسماك‪ ،‬وصديقات‪ ،‬وأصدقاء‪،‬‬ ‫وجارات‪ ،‬وجدات‪ .‬إنها بكل ما فيها بمنزلة لحظات صفاء‬

‫نادرة‪ ،‬مراجعة وتوثيق إنساني حقيقي لزمن متسارع غريب‪،‬‬


‫‪41‬‬

‫ال يمكن اللحاق بإيقاعه مع كل المتغيرات التي تحدث‬

‫خالله‪ .‬األدب هو المرآة واآللة الصادقة لتسجيل ما مررنا به‪،‬‬ ‫وما زلنا نمر به‪.‬‬ ‫من أنا؟‬

‫وأنا ما الذي حاولت قوله في كل ما كتبت؟ أين كنت حين‬

‫كتبت ما كتبته؟ من أنا؟ الكاتب الروائي العراقي والباحث‬

‫سالم عبود يرى أني «أنظر إلى المنفى المزمن من بصراي‬ ‫التي لم أفارقها قط»‪ ،‬والكاتب والقاص العراقي محمد‬ ‫خضير يراني «أنظر بشجن إلى البصرة من منفاي الدنماركي‬

‫البعيد»‪ .‬في المنفى تصدعت الصور‪ ،‬وذهبت بجزء كبير من‬

‫براءتنا‪ ،‬ولكنها يقظة ال بد منها لنقع على الخلل المشترك‬ ‫الذي نشكو منه‪ .‬يدٌ تضرب على يد بجسدٍ واحد‪ ،‬أذنٌ تكذب‬ ‫ً‬ ‫أذنا في ذات الجسد‪ ،‬عين ترى الجمال‪ ،‬وأخرى ترى الزيف‬ ‫ال غيره‪ ،‬والقلب موزع‪ ،‬يواصل في جسد‪ ،‬ويعلن اعتزاله في‬

‫حدث خلل عظيم في واقع األمة‬ ‫بغالبها‪ ،‬والتجارب تعددت وتباينت من‬ ‫شخص آلخر‪ ،‬ومن عائلة ألخرى على‬ ‫اختالف المنابت واألديان والمذاهب‬ ‫واهتمامات دول العالم الكبرى بنا‬ ‫آخر‪ .‬ولكني كما الحياة التي تبدأ بحلم أود أن أختم بحلم‪ ،‬أن‬

‫أكتب رواية حب خالصة‪ .‬لست معنية بالتاريخ في ماضيه وال‬

‫حاضره‪ ،‬هذا الكره والحقد في العالم‪ ،‬ال أحب مرأى الدم‪،‬‬

‫وشبعت من األخبار العاجلة السيئة‪ .‬لن أكتب عن الحرب‬

‫بعد ذلك‪ ،‬لن أكتب عن المنفى‪ ،‬سأكتب من مكان متخيل‬ ‫حيادي ال جذور لي فيه‪ ،‬وال هواء مشترك‪ .‬أن أكتب بقلم‬

‫قادر على مسح كل المعلومات المدرجة في هويته‪.‬‬

‫ملف العدد‬


‫اللجوء في حياة الفنانين الشباب‪..‬‬

‫أسئلة الحنين والحريات‬ ‫صهيب أيوب‬ ‫صحافي ‪ -‬باريس‬

‫‪42‬‬

‫إيبي إبراهيم‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬


‫إيبي ويوميات الهجرة القسرية‬

‫هذا ال يخفف من وطأة الغياب‪ ،‬وال يؤنس الوقت‪ ،‬إال أنه‬

‫حين غادر المصور والمخرج اليمني إيبي إبراهيم‬

‫يمرر جزءً ا من الشوق‪ .‬لكن ما يدفعه إلى التفاؤل دومً ا أنه‬

‫فنية داخل مبنى «سيتيه دو آرت»‪ .‬لم يفكر يومها أن يمنه‬

‫الكاملة»‪ ،‬وفق ما يقول في مقابلة مع مجلة «الفيصل»‪ .‬إال‬

‫صنعاء‪ ،‬كانت وجهته باريس‪ .‬قضى ثالثة أشهر في إقامة‬

‫يمارس هنا فنه بكثير من الحرية‪« .‬الحياة تمنحك هنا الحرية‬

‫السعيد سيتحول إلى جحيم‪ .‬كان كل شيء يبدو طبيعيًّا إلى‬ ‫أن ّ‬ ‫حط رحاله في برلين‪ ،‬واندلعت الحرب‪ .‬فكر مليًّا بالعودة‪،‬‬

‫بين انتماءات عدّ ة‪ ،‬ومشاعر صاخبة‪ ،‬تحل في ثيمات أعماله‪.‬‬

‫حيث هو اليوم‪ .‬بعيدً ا من ألم صنعاء‪ ،‬الذي يحمله كهواء‬

‫الذي يرى أن مشاركتها للعالم عبر أعمال بصرية وتشكيلية‬

‫عال شارك رفاقه هذا الهم‪ .‬كانت النصيحة بأن يبقى‬ ‫وبصوت ٍ‬ ‫ثقيل في يوميات هجرته القسرية‪.‬‬

‫يتجاوز إيبي بصعوبة مشاعر الحنين والخيبة المباغتة‬

‫في مدينة باردة‪ .‬ال تشبه بشيء صنعاء التي عاش فيها‬ ‫طفولته ومراهقته‪ ،‬قبل أن يتعلم في الواليات المتحدة‪،‬‬

‫ويقرر استخدام «فعل الفن» في مكان تنغلق فيه سبل الحياة‬ ‫والتجربة الح ّرة بما فيها من آفاق لفنان شاب وثائر‪ .‬يقول إيبي‪:‬‬ ‫إن قرار عدم عودته كان صعبًا‪ ،‬ولم يفكر يومً ا في أن يغادر‬

‫مرسمه الواسع وسط «الحي السياسي» في صنعاء؛ ليتركه‬ ‫منهوبًا لعصابات الحرب والقتلة الجوالين‪ .‬إال أن الحرب‬ ‫تفرض مسارات أخرى‪ ،‬وهي على قدر ما تؤلم ناسها‪ ،‬تكون‬

‫«مضاعفة» على الفنان نفسه‪ .‬فتشكيل الحياة ويومياتها‪،‬‬

‫والعيش في زمنين ومكانين‪ ،‬يخلق في الفنان عوالم هشة‪.‬‬

‫يتعامل إيبي مع حياته بشيء من الخفة‪ .‬كأن يبادر إلى‬ ‫ً‬ ‫تزيين جدران غرفته بأقمشة يمنية‪ ،‬أو يعدّ‬ ‫طبقا تقليديًّا‪،‬‬

‫أو يحتسي القهوة العدنية‪ ،‬ويستمع إلى أغنيات فيروز‪ .‬كل‬

‫أن هذه الحياة «ناقصة»‪ ،‬وتكبر في الفنان «هوّة» صارخة‪،‬‬ ‫فالحرب وهولها وهوامشها عوالم حاضرة في أعمال إيبي‪،‬‬

‫وتجريبية أمر في غاية األهمية‪« .‬اليمن حاضر في كل‬ ‫أعمالي‪ .‬وهو بالنسبة لي ليس وط ًنا أو جنسية بل هو صديق‪.‬‬ ‫علي مساعدته بكل الطرق الممكنة والموارد‬ ‫صديق يعاني؛‬ ‫َّ‬ ‫المتاحة»‪ .‬ويضيف أن صعوبات كثيرة واجهته‪ ،‬وتواجهه في‬

‫ً‬ ‫فرصا‪ ،‬عليه اقتناصها ليتحدى‬ ‫مكانه الجديد‪ ،‬إال أنها تشكل‬ ‫نفسه‪« ،‬أريد أن أجعل اليمن فخورًا بي‪ ،‬فخورًا بما أنتج عنه‪.‬‬

‫إني أحمل اليمن في كل أعمالي وعروضي»‪.‬‬

‫أيضا بحالة من االنعتاق‬ ‫المنافي ترتبط ً‬ ‫والتحرر من قيود الذاكرة‪ .‬االنعتاق‬ ‫مما مضى‪ ،‬من الـ«هناك»‪ ،‬هو تجربة‬

‫‪43‬‬

‫لمتخيل‪،‬‬ ‫تحرر لألقصى‪ ،‬الذاكرة تتحول‬ ‫ّ‬ ‫لتجربة سردية‬

‫أحد أعمال إيبي‬

‫ملف العدد‬


‫مغني الهيب هوب‬

‫وانتقاد واقعها»‪ .‬وحين قرر اللجوء إلى فرنسا‪ ،‬كانت لحظة‬

‫لم تكن رحلة اللجوء بالنسبة لمغني الـ«هيب هوب»‬

‫ثابتة وحتمية‪ .‬فبيروت والقوانين المجحفة فيها بحق‬

‫كما يحصل مع معظم الهاربين من الحرب‪ .‬هو ال يصنف‬

‫لهجرة معظم الفنانين السوريين إلى بالد أوربا‪ .‬وجهة «وتر»‬

‫السوري خيري البش‪ ،‬المعروف بـ«وتر» شاقة بطبيعة الحال‪،‬‬ ‫نفسه هاربًا؛ إنها الوجهة االضطرارية‪ ،‬التي تحمل معاني‬

‫السوريين الالجئين وعدم تجديد إقاماتهم‪ ،‬سبب رئيسي‬

‫االضطرارية‪ ،‬لم تتضح مساراتها بعد بالنسبة له؛ «ألني جديد‬

‫القسوة‪ ،‬لكنها ليست هروبًا‪ .‬كانت بيروت إحدى محطات‬

‫ولم يتعدّ وصولي أشه ًرا فقط‪ .‬لكن ما هو واضح بالنسبة‬

‫آت من زمن المذبحة السورية‪،‬‬ ‫كانت بيروت لفنان سوري ٍ‬ ‫ً‬ ‫أنيسا لخوض غمار تجربة في مخاض الـ«أندرغراوند»‬ ‫مكانا‬ ‫ً‬

‫حكاياتنا وغضبنا نحن‪ ،‬إضافة إلى أن وجودي داخل الحدث‬

‫«وتر» باستعجال بين مسارح وأرصفة تضج بالثورة وأفكارها‪.‬‬

‫الفرنسيين له ولقصة ثورتنا وقضايانا»‪ .‬أما بالنسبة للجوء‪،‬‬

‫خيري ومكان تألقه وتجريبه كتابة األغاني واألداء‪ .‬يومها‬

‫العربي‪ ،‬قبل استقراره اليوم في فرنسا‪ .‬تجربة انتقل فيها‬

‫لي هو صعوبة التواصل مع الناس هنا عبر الموسيقا؛ ألن‬ ‫الكالم الذي أكتبه هو عربي لهجة ولح ًنا ً‬ ‫أيضا‪ .‬ومغزاه يتناول‬

‫السوري وفهمي له وفهم معاناته يختلف تمامً ا عن نظر‬

‫يومها كانت الثورة السورية جزءً ا من محاكاة جيل شاب‪ ،‬إال‬ ‫أنها ً‬ ‫أيضا غربة من نوع آخر‪.‬‬

‫أن أثر اللجوء مختلف عليهم‪ .‬يقول‪ :‬إن «الفنان هو إنسان‬

‫زال في الفرقة‪ ،‬ويلقب بـ«أبو كلثوم»‪ .‬وبدأت هذه الفرقة‬

‫وتفصيل األمور والتحدث بلسان الناس العاديين‪ .‬وهذا ما‬

‫أسس خيري فرقة «لتلتة» مع صديقين له‪ ،‬أحدهما ما‬

‫تنتشر منذ عام ‪2011‬م‪ ،‬وكانت السياسة أهم ثيماتها‪« .‬حين‬

‫بدأنا لم نكن منخرطين‪ ،‬أو نهدف لالنخراط في الثورة أو‬ ‫السياسة‪ ،‬لكن الهيب هوب هو في الواقع مجاراة للسياسة‬

‫فنظرة خيري تختلف كثي ًرا عن معظم الفنانين‪ ،‬الذين يرون‬

‫عادي‪ .‬لكن الفرق أن الفنان قادر على التعبير وتوضيح‬ ‫يخلق جمهورًا يستمع إلى الكالم والموسيقا‪ .‬ولكن اإلحساس‬ ‫باللجوء أو الغربة اإلجبارية هو شعور واحد ومشترك لدى‬

‫كل الالجئين»‪.‬‬

‫‪44‬‬

‫خيري البش‬ ‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬


‫يقول عمار‪ ،‬الذي انتقل منذ عام تقريبًا إلى باريس‪ :‬إن‬

‫المنتج الفني بخصائصه الفنية يتداعى‪ ،‬ويتم تجاهله أمام‬ ‫مفهوم «الشفقة»‪ .‬الرؤية المرتبطة بـ«الغريب» بوصفه‬ ‫مهمّ ًشا يختزن فانتازيا إلى جانب تراجيديا جبل عليها‪ .‬لهذا‬ ‫يتم النظر إلى صاحبه بوصفه قادرًا على اإلنتاج‪ ،‬بل وإثارة‬

‫اإلعجاب‪ ،‬الموضوع حساس لكنه منتشر بكثرة»‪.‬‬

‫وال ينكر المأمون‪ ،‬الذي يعدّ من أبرز األصوات السورية‬

‫جرأة ونقدً ا‪ ،‬ويملك كتابة شابة ومطواعة في المسرح‬

‫والنقد األدبي‪ ،‬أن األبواب والقنوات الجديدة «مفتوحة»‬ ‫أمام المهاجر‪ ،‬ال تقدر بثمن‪ ،‬صحيح أن أنظمة المؤسسات‬ ‫في الـ«هنا» ً‬ ‫أيضا خاضعة لسياسات وأجندات‪ ،‬لكن ال يمكن‬

‫إنكار خبرتها التاريخيّة»‪.‬‬

‫ويوضح المأمون‪ ،‬الذي عاش طوال حياته في دمشق‪،‬‬

‫واشتغل في مسارحها ثم عمل في الصحافة البيروتية كناقد‬ ‫فني وأدبي‪ ،‬وانتقل إلى الصحافة الدولية‪ ،‬ونشرت له مقاالت‬

‫مترجمة في «ال كورييه إنترناسيونال»‪ ،‬أن «المنافي ترتبط‬ ‫ً‬ ‫أيضا بحالة من االنعتاق والتحرر من قيود الذاكرة‪ .‬االنعتاق‬ ‫عمار المأمون‬

‫الحرب وهولها وهوامشها عوالم‬ ‫حاضرة في أعمال إيبي إبراهيم‪ ،‬الذي‬ ‫يرى أن مشاركتها للعالم عبر أعمال‬ ‫بصرية وتشكيلية وتجريبية أمر في‬ ‫غاية األهمية‬ ‫انشطار «األنا» بين «هنا» و«هناك»‬

‫يبدو أن تجربة المنفى والعمل الفني واألدبي المرتبط‬

‫بها‪ ،‬تستدعي الوقوف على حافة الالحسم‪ ،‬بين أن تحضر‬ ‫«هنا» في الجغرافيات الجديدة وبين الـ«هناك» الماضي‬ ‫والجغرافيات التي تتحول إلى ذاكرة متخيّلة‪ .‬فبالنسبة‬

‫مما مضى‪ ،‬من الـ«هناك»‪ ،‬هو تجربة تحرر لألقصى‪ ،‬الذاكرة‬

‫تتحول لمتخيّل‪ ،‬لتجربة سردية‪ .‬تتالشى النظرة الرومانسيّة‬ ‫في التعامل مع الماضي؛ ألنها محكومة بالخيال ال بالتجربة‬

‫الجغرافية»‪.‬‬

‫‪45‬‬

‫ويؤكد المأمون‪ ،‬الذي يسكن اليوم في شقة صغيرة في‬

‫باريس‪ ،‬ويقضي وقته بين الكتابة واالستماع إلى موسيقا‬ ‫«الجاز» و«األوبرا»‪ ،‬ومتنقلاً بين مسارح المدينة وعروضها‪،‬‬

‫أن «تجربة المنافي والرحيل ترتبط بالجسد‪ ،‬بالتجربة‬ ‫الفيزيائية داخل جغرافيات جديدة‪ ،‬ال ذاكرة سابقة عن‬ ‫المكان‪ ،‬وإعادة تكوين لعالقات جديدة مع المكان لتكوين‬

‫الذاكرة‪ ،‬لتكوين حساسيات جديدة‪ ،‬هناك قطيعة ال بد‬ ‫منها مع الماضي‪ ،‬ال بد من انتصابات جديدة‪ ،‬إعادة تكوين‬

‫لحساسيات مع المكان‪ ،‬ال يعني هذا النسيان‪ ،‬يعني إعادة‬

‫تكوين حضور جديد»‪.‬‬

‫للمسرحي والكاتب السوري عمار المأمون‪ ،‬الذي يعدّ كتابًا‬

‫عن «أنطولوجيا الدكتاتور»‪ ،‬ويعمل على كتابة أعمال‬ ‫مسرحية باللغة العربية‪ ،‬ترتبط صعوبات اللجوء‪ ،‬بـ«المنتج‬

‫الفني والمسرحي»‪ ،‬وهو ما يستدعي إعادة التفكير بالتجربة‬ ‫الذاتية نفسها‪ ،‬فالـ«أنا» تنشطر بين «هنا» حيث «المركز»‪،‬‬ ‫حيث تغيب الخبرة بطبيعة عمل المؤسسة الثقافية والفنية‬

‫(بغض النظر عن انتمائها)‪ ،‬و«هناك» جغرافيات الصمت‬ ‫والعنف‪ ،‬واألهم ما يرتبط بتلقي المنتج الفني (األجنبي ‪-‬‬

‫المهاجر) بوصفه فانتازيا في الكثير من األحيان‪.‬‬

‫ملف العدد‬


‫ربيع بيروت الثقافي‬ ‫يصنعه الجئون سوريون‬ ‫رنا نجار‬ ‫صحافية لبنانية ‪ -‬بيروت‬

‫‪46‬‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬


‫يبتكر الالجئون السوريون في لبنان حياة جديدة مواجهين الموت والمنفى والتيه‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مؤقتا وقد يصبح بديلاً !‬ ‫باحثين عن ذات جديدة‪ ،‬وعن عمل جديد‪ ،‬وعن وطن قد يكون‬ ‫بيروت ودمشق اللتان طالما تقاسمتا الهموم والمعاناة والقضايا السياسية نفسها (كما‬

‫طرابلس وبعلبك وصيدا وشتورا وحلب وحمص ومدن الساحل السوري) تواجهان اليوم‬ ‫الموت ً‬ ‫معا‪ .‬لكن للثورة واللجوء السوريين فضل على بيروت اليوم‪ ،‬على عكس ما كانت‬

‫دمشق وسوريا عامة مدينة لمناخ بيروت الديمقراطي والثقافي الح ّر في رفع صوتها‬ ‫ً‬ ‫عمدا لعقود طويلة‪.‬‬ ‫«المخنوق»‬ ‫لبنان الذي يستضيف اليوم‪ ،‬بحسب األمين العام لألمم المتحدة‪ ،‬أكبر‬

‫عدد من الالجئين في العالم بالنسبة إلى الفرد الواحد‪ ،‬فيه اليوم ما يربو‬

‫على مليون الجئ مسجّ ل فقط‪ .‬وهناك تخمينات تقول‪ :‬إن في لبنان نحو‬

‫مليوني سوري‪ ،‬من مقيم وعامل والجئ ومقيم مؤقت‪ .‬وهذه القضية التي‬ ‫تثير مخاوف الدولة اللبنانية وبعض األحزاب العنصرية‪ ،‬أدت إلى خوف‬ ‫البعض من هذا العدد الهائل من البشر الذي يحتاج إلى مأكل ومشرب‬

‫ومسكن وطبابة ومدارس في بلد يفتقد فيه مواطنوه أدنى حقوقهم المدنية‬ ‫والصحية والمعيشية عامة‪ .‬لكن اقتصرت اعتراضاتهم على تعليقات هنا‬ ‫وحركات هناك‪ .‬فلبنان كان وال يزال ً‬ ‫أرضا خصبة الستقبال الالجئين مهما‬ ‫كانت جنسيتهم‪ ،‬وليست تلك العنصرية التي يمارسها البعض على الشعب‬

‫السوري إال «حركات صبيانية» يح ّركها أحزاب وسياسيون لمآربهم الخاصة‬

‫‪47‬‬

‫ويستثمرونها لحساباتهم الشخصية‪.‬‬ ‫روح بيروت وفراشاتها‬

‫بينما على الصعيد الثقافي‪ ،‬يختلف األمر تمامً ا؛ إذ عرف المثقفون‬

‫اللبنانيون أن زمالءهم السوريين هم روح بيروت وفراشاتها التي تزيدها‬ ‫ً‬ ‫رونقا‪ ،‬فحضنوهم وأسسوا معهم مشاريع ثقافية رائدة‪ .‬لكن المشكلة تكمن‬

‫في الدعم الرسمي لهذه النخبة السورية التي تحتاج ً‬ ‫أيضا إلى مسكن ومأكل‬ ‫ومشرب وحماية من الموالين للنظام السوري‪ ،‬وال ننسى أن الفنانين والكتاب‬

‫كانوا مدعومين من الدولة في سوريا بشكل أو بآخر‪ ،‬أما في لبنان فالثقافة‬ ‫ً‬ ‫وخصوصا التهديد األمني‬ ‫هي مبادرة فردية محض‪ .‬على الرغم من كل ذلك‪،‬‬

‫للمثقفين السوريين المعارضين‪ ،‬فقد بقيت بيروت مالذهم المفضل‪ ،‬إال‬

‫أرضا خصبة الستقبال‬ ‫لبنان كان وال يزال ً‬ ‫الالجئين مهما كانت جنسيتهم‪ ،‬وليست تلك‬ ‫العنصرية التي يمارسها البعض على الشعب‬ ‫يحركها أحزاب‬ ‫السوري إال «حركات صبيانية» ّ‬ ‫وسياسيون لمآربهم الخاصة‬

‫ملف العدد‬


‫رئيسا لتفاعل ثقافة‬ ‫في حاالت معينة‪ .‬فبيروت باتت مختب ًرا‬ ‫ً‬

‫مسلسل «روبي» اللبناني‪ -‬السوري‪ -‬المصري المشترك‪ .‬وهذا‬

‫والتظاهرات الموسيقية‪ ،‬وشركات اإلنتاج الدرامية‪ ،‬والفنانين‬

‫اللبنانية وردّها إلى حلبة المنافسة مع «لو»‪ ،‬و«اإلخوة»‪،‬‬

‫الشتات السورية؛ إذ احتضنت المسارح‪ ،‬وصاالت العرض‪،‬‬ ‫السوريين الذين أضافوا إلى المشهد الثقافي اللبناني نكهة‬

‫ذكية تفاعلية‪ ،‬ح ّركت الساحة‪ .‬في البدء لم يتأقلم الفنانون‬ ‫السوريون‪ ،‬وغالبيتهم من الشباب‪ ،‬مع الجو الثقافي اللبناني‪،‬‬

‫لكن سرعان ما اندمجوا فيه‪ ،‬وأغنوا فضاءاته‪ ،‬مفضلين‬ ‫ً‬ ‫أحيانا‬ ‫اإلقامة في ديار الجار الذي يفهم لغتهم وإن اختلفت‬ ‫وجهات النظر والمواقف السياسية مع بعضهم‪ .‬وهنا نتحدث‬ ‫عاكسا نظرته‬ ‫عن جيل الثورة الذي أتى حاملاً رؤاه وأساليبه‬ ‫ً‬ ‫إلى الواقع‪ ،‬في أعمال تشكيلية لتمام عزام وفادي اليازجي‬

‫وسبهان آدم وياسر صافي ومحمد عمران على سبيل المثال‪،‬‬ ‫وأعمال موسيقية‪ ،‬مثل‪ :‬مغني الراب هاني السواح‪ ،‬وفرقتي‬ ‫«طنجرة ضغط» و«لتلتة»‪ ،‬وأعمال مسرحية لوائل قدور‪،‬‬

‫ومحمد العطار‪ ،‬وعبدالله الكفري‪،‬‬ ‫ويامن محمد‪ ،‬وأسامة حالل‪ ،‬وأمل‬

‫عمران‪ ،‬وغيرهم كثر‪.‬‬

‫‪48‬‬

‫الدراما اللبنانية ونكبة السوريين‬

‫في لبنان جار «الرضا»‪ ،‬خلطت‬

‫األزمة السورية األوراق في اإلنتاج‬ ‫الثقافي كما في السياسة‪ .‬وعلى نقيض‬ ‫الفوضى والتوترات األمنية واالقتصادية‬ ‫والتهجير والفقر واالنقسامات التي‬

‫الثراء‪ ،‬وإن كان تأثيره محدودًا‪ ،‬استطاع انتشال المسلسالت‬

‫و«لعبة الموت»‪ ،‬و«روبي»‪ ،‬وغيرها‪.‬‬

‫ً‬ ‫مضاعفا مع أعمال‬ ‫في عامي ‪ 2015‬و‪2016‬م كان التأثير‬

‫مشتركة تحصد جماهيرية عالية‪ ،‬مثل‪« :‬تشيللو»‪ ،‬و«‪24‬‬

‫قيراط»‪ ،‬و«العراب» بنسختيه‪ ،‬و«بنت الشهبندر»‪ ،‬و«درب‬

‫الياسمين»‪ ،‬و«عين الجوزة»‪ ،‬وأخي ًرا «سوا»‪ .‬وبهذه الحالة‪،‬‬ ‫بات من غير المنطقي تصنيف غالبية المسلسالت التي ُتصوَّر‬ ‫في لبنان‪ ،‬على أنها لبنانية محض أو سورية محض‪ .‬فمسلسل‬

‫«غدً ا نلتقي» لرامي حنا الذي تربّع على عرش المسلسالت‬ ‫ً‬ ‫صدقا وتجسيدً ا‬ ‫العربية في شهر رمضان الماضي؛ ألنه األكثر‬

‫للتغريبة السورية‪ ،‬يُصوَّر في بيروت مع فريق عمل لبناني‪-‬‬ ‫سوري مشترك‪ ،‬وإن كان الممثلون كلهم سوريين‪ .‬من هنا‪،‬‬ ‫تأتي «وحدة المسار والمصير» متالحمة‬ ‫بين البلدين على الصعيد الدرامي‪،‬‬ ‫ولصالح لبنان‪ ،‬ربما‪ ،‬من حيث تحريك‬ ‫سوق الدراما‪ ،‬وإيجاد فرص عمل‬

‫أكبر للتقنيين والمصورين والمديرين‬

‫الفنيين‪ ،‬هذا ما عدا استفادة الممثلين‬ ‫اللبنانيين من خبرة السوريين الذين لمع‬

‫نجم مسلسالتهم عاليًا‪.‬‬

‫ولكن‪ ،‬في النهاية ال بدّ من اإلشارة‬

‫اللبناني‪ -‬السوري المشترك (مسرح‪ ،‬وتشكيل‪ ،‬وسينما‪،‬‬

‫إلى أن الفنان أو المثقف أو المناضل‬ ‫هاني السواح يبحث ً‬ ‫أيضا عن مستقبل أفضل‪ ،‬وعن‬ ‫ّ‬ ‫المرفه؛ لذا كان‬ ‫األمن واألمان‪ ،‬وعن المستوى المعيشي‬

‫ِعدّ ة‪ ،‬منذ سنين طوال‪ ،‬هي األكثر استفادة من «نكبة» الدراما‬

‫يقول المسرحي محمد العطار‪ ،‬ترك لبنان؛ للبحث عن ملجأ‬ ‫آمن يحترم اإلنسان وحقوقه ويؤمّ ن له دعمً ا ماد ًّيا ومعنويًّا‬

‫تحدثها السياسة‪ ،‬يأتي اإلنتاج الثقافي‬

‫ودراما‪ ،‬وبرامج تلفزيونية‪ ،‬وموسيقا) بعد الثورة‪ ،‬إيجابيًّا‪.‬‬ ‫ومما ال ّ‬ ‫شك فيه‪ ،‬أن الدراما اللبنانية التي تعاني أزمات تشرذم‬

‫السورية المتأثرة باألزمة السياسية واألمنية‪ .‬فنزوح ممثلين‬

‫ومخرجين وعاملين في الحقل الدرامي السوري إلى بيروت‪،‬‬ ‫أَثرى هذا القطاع الذي كاد يموت قبل ارتفاع أسهمه مع‬

‫احتضنت المسارح وصاالت العرض‬ ‫والتظاهرات الموسيقية وشركات‬ ‫اإلنتاج الدرامية في بيروت‪ ،‬الفنانين‬ ‫السوريين الذين أضافوا إلى المشهد‬ ‫الثقافي اللبناني نكهة ذكية تفاعلية‪،‬‬ ‫حركت الساحة‬ ‫ّ‬ ‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬

‫لبنان لهؤالء صعبًا وقاه ًرا‪ ،‬فقرر جزء منهم «مكرهً ا» كما‬

‫ّ‬ ‫محطة مؤقتة لجزء‬ ‫لمشاريعه الثقافية‪ .‬وال ننسى أن لبنان‬ ‫كبير من السوريين‪ ،‬وليس للمثقفين فقط‪.‬‬ ‫ٍّ‬ ‫مغن يستثمر اللجوء‬ ‫هاني السواح‬

‫ليست بيروت أفضل مدينة لالجئين‪ ،‬لكنها قد تكون‬

‫فأل خير‪ ،‬أو قد تعطي مساحة إيجابية إلنتاج مشروع فني أو‬ ‫ثقافي‪ .‬هاني السواح الذي نزح من سوريا‪ ،‬اختار بيروت لتكون‬

‫ملجأه بغض النظر عما يعانيه أبناء بلده هنا من عنصرية أو‬

‫معاناة‪ .‬هاني السواح (الملقب بالدرويش) هو مغني راب‪،‬‬

‫ومهندس صوت‪ ،‬وشاعر يكتب أغاني وقصائد بالمحكية‬ ‫السورية‪ .‬صدر له أخي ًرا ألبوم بعنوان‪« :‬أرض السمك»‪ ،‬كتب‬ ‫عنه النقاد والموسيقيون بإيجابية عالية‪ ،‬ويمكننا القول‪ :‬إن‬


‫هذا األلبوم الذي ُطبخ وسجّ ل في‬

‫شوارع بيروت‪ ،‬رسّ خ اسم هاني‬ ‫السواح كفنان موهوب في عالم‬

‫الراب أو الشعر الشعبي واإليقاع‪.‬‬

‫وهو األلبوم األول البن حمص التي‬ ‫استفزت ثورتها موهبته المكبوتة‪،‬‬ ‫ونقلته كتابة شعاراتها من طفل‬ ‫غاضب إلى ناضج يعرف كيف ومتى‬

‫وأين يص ّرف هذا الغضب‪ ،‬ليؤلف‬ ‫منه أغنية‪ ،‬ويوصل هواجسه إلى‬ ‫الناس‪ .‬السواح الذي ترعرع في‬

‫ج ّو عائلي ملمّ بالثقافة واألدب‪،‬‬ ‫يلجأ إلى الشعر الشعبي واإليقاع؛‬

‫لوصف‬

‫األحداث‬

‫السياسية‬

‫واالجتماعية السورية المتسارعة‪،‬‬

‫ونقدها بلغة شخصية حميمة‪،‬‬

‫تنطلق من األنا لتصل مع موسيقا‬ ‫اللبناني مازن السيد (الراس) إلى‬ ‫النحن والهُمْ ّ‬ ‫وكلنا‪...‬‬ ‫مجلة‬

‫«الفيصل»‬

‫التقت‬

‫السواح بوصفه نموذجً ا ناجحً ا لالجئ ومثقف سوري لم‬ ‫توقفه الحرب ولم تكبّله بيروت‪ .‬عن االندماج يقول‪« :‬أنا‬

‫ال أعتبر نفسي مندمجً ا مع المجتمع اللبناني‪ ،‬وال أعتبر‬

‫أن «الدمج» هو ما نبحث عنه‪ ،‬فهو ما يحدث عندما ينوي‬ ‫الـ«الجئ» البقاء في البلد المضيف‪ ،‬وعن نفسي أنتظر‬

‫وقت ممكن»‪.‬‬ ‫الفرصة المناسبة ألعود إلى سوريا في أقرب‬ ‫ٍ‬

‫‪49‬‬ ‫ليست بيروت أفضل مدينة لالجئين‪،‬‬ ‫لكنها قد تكون فأل خير‪ ،‬أو قد تعطي‬ ‫مساحة إيجابية إلنتاج مشروع فني أو‬ ‫ثقافي‬

‫ويضيف‪« :‬في بيروت مؤسسات تحاول دعم الفن المستقل‬

‫بغض النظر عن جنسية الفنان‪ .‬فإيجابيات الوجود في بيروت‬ ‫هي المساحة التي تمنحها هذه المدينة لمريدي اإلنتاج»‪.‬‬

‫صوت مستقلاًّ‬ ‫يعمل السواح إضافة إلى الفن خبير‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫أحيانا‬ ‫للسينما والتلفزيون‪ ،‬وهذا ليس ثاب ًتا‪ ،‬قد «ألجأ‬

‫بأجر ثابت»‪ .‬أما عن الدعم المادي للغناء‬ ‫إلى وظيفة ثابتة‬ ‫ٍ‬ ‫والكتابة‪ ،‬فهو كما يفيد‪« ،‬في األحيان الكثيرة يكون من‬ ‫ً‬ ‫وأحيانا ُتقدم مؤسسة دعمها أو مساهمتها‬ ‫حسابنا الخاص‪،‬‬ ‫كما فعلت «آفاق» مع ألبوم أرض السمك حين ساهمت‬ ‫باإلنتاج»‪.‬‬

‫من مجرد وجوده هنا في بيروت‪ ،‬وهل يواجه عنصرية؟ بصدق‬ ‫ُ‬ ‫«لست حزي ًنا‪ ،‬فاألصدقاء في بيروت أكثر من‬ ‫يجيب السواح‪:‬‬ ‫العنصريين‪ ،‬وتع ّرضت فيها للدعم النفسي والمعنوي من‬ ‫أشخاص أكثر مما تع ّرضت للعنصرية‪ ،‬لكنني من المحظوظين‬

‫القالئل‪ ،‬وبرأيي هذا السؤال جوابه بديهي في دولة وزير‬

‫خارجيتها جبران باسيل يحمل راية الخطاب العنصري ليرميه‬ ‫منبر يقدم له»‪.‬‬ ‫على أي‬ ‫ٍ‬

‫جملة هاني السواح األخيرة كفيلة لتوضح الفرق بين‬

‫ً‬ ‫مناخا‬ ‫ولكن هل تعتبر أن بيروت أعطتك شي ًئا إيجابيًّا‪ ،‬أو‬

‫احتواء الشعب اللبناني ومثقفيه للسوريين‪ ،‬وبين السياسة‬

‫يجيب السواح الوسيم والهادئ‪« :‬طبعً ا‪ ،‬إيجابيات الوجود‬

‫الشخصي‪ .‬لكن بيروت تبقى هنا بالقرب من الشام لتقول‪ :‬ال‬

‫ما لتنتج ألبومً ا‪ ،‬وتشارك في إنتاجات وأغنيات راب مع غيرك؟‬

‫في بيروت هي المساحة التي تمنحها للذين يريدون أن يكونوا‬ ‫منتجين وأن يعملوا بجدية»‪ .‬من ناحية‪ ،‬هل يشعر بالحزن‬

‫أو بعض السياسيين الذين يستغلون أي قضية لصالحهم‬ ‫للعنصرية‪ ،‬ونعم للحرية وللعودة إلى البلد األم الذي قد يبدو‬ ‫مشهده ً‬ ‫أيضا صعبًا وبعيدً ا‪ ،‬إنما نحن محكومون باألمل‪.‬‬

‫ملف العدد‬


‫الرقة‪..‬‬

‫جنازة مؤجلةعلى‬ ‫ضفاف الفرات‬

‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫النعش‪ ،‬بل‬ ‫قوم فيها يحملون‬ ‫جنازة‪ ،‬ال‬ ‫الفرات‬ ‫مثل أمواج‬ ‫تسري ببطءٍ‬ ‫ِ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫وأموات ً‬ ‫في النعش أحياءٌ‬ ‫والنعش‬ ‫معا‪ ،‬أكفانهم سودا ُء كالحة كإعتام الدجى‬

‫رحب علواني‬ ‫كاتبة سورية‬

‫‪50‬‬

‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫بحجم مدينةٍ ٌ‬ ‫ْ‬ ‫بثقل‬ ‫برم‬ ‫نعش‬ ‫السحاب‪.‬‬ ‫متن‬ ‫طيف على‬ ‫يجري سابحً ا وكأنه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫المكلوم عصرًا‪ ،‬يستبيحُ الفائت َ‬ ‫َ‬ ‫نسي يوقظه‬ ‫الم‬ ‫يعص ُر قلبك‬ ‫حمولته‪َ ..‬مرآه‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫أوتار ُ‬ ‫ْ‬ ‫ٌ‬ ‫ناي‬ ‫يستغيث‬ ‫رأس‬ ‫بالغياب‪ .‬في النعش‬ ‫المسجّ ى‬ ‫فوق‬ ‫ويخطو‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫بصوت ٍ‬ ‫يستفيق الدفُّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫عميق‬ ‫نوم‬ ‫أشباههِ ‪،‬‬ ‫مختنق‪ ،‬يرنو إلى‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫يستنهض األنغام من ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫تنتحب‪ ،‬تتوسلُ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ظبي‬ ‫يضرب ال صدى يأتي وال‬ ‫لحن يجيب‪ ..‬وربابة من جلدِ‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫القوس الضري َر لينفض الحزن المغشى من غبار الوقت أو ليعانق األوتار‬

‫َ‬ ‫والصوت الغريب‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫الليل يا َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫الفرات أال‬ ‫ليل‬ ‫ترنيمة بدوية ثكلى تناجي‬ ‫استجب! جس ُر الرشيدِ‬ ‫ِ‬ ‫سكران معقوفَ‬ ‫هناك في أقصى اليسار ّ‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫تقطعت أوصاله و«الزل» يغفو تحته‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫وحيدا‬ ‫أقدام فتيّة‪ ..‬يبدو‬ ‫ضرب‬ ‫المعكر تحته من‬ ‫النهاية ينحني ليغازل الماء‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫الجناة الجاثمين على‬ ‫السرب الحزين كأنه لم يدر أن الموت قد ترك‬ ‫خارج‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫واغتصب الضحيّة‪.‬‬ ‫الحق‬ ‫صدور‬ ‫ِ‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬


‫ٌ‬ ‫في مركز النعش ُ‬ ‫ْ‬ ‫الزمن‪ ..‬إذ أدركت أن الوجوه تبدلت وغزاة هذي‬ ‫ساعة قد أعلنت إضرابها عن رصد دقات‬ ‫المسجّ ى‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫معاندة جحافل حقدهم‪،‬‬ ‫قلب ساحتها‬ ‫وبنت ُه‪،‬‬ ‫األرض قد جمعوا ليغتالوا الفرات‬ ‫مختارة وجه السماء كشاهدٍ‬ ‫فتسمرت في ِ‬

‫يأبى الرضوخ لسلطة السيف الملطخ بالدماء‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫وأنا هنا وحدي على ذاتي أصلي يا أبي‪ ..‬فجنازتي ال َ‬ ‫ملح وماء‪..‬‬ ‫إنس فيها‪ ،‬مثل نعش مدينتي‪ ،‬والصورة اكتملت بال ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬ ‫العمر َ‬ ‫َ‬ ‫قبل والد ٍة وهميّةِ األطوار واألبعا ِد‬ ‫سنين‬ ‫ضربت‬ ‫ها‬ ‫وكأن‬ ‫ٍ‪،‬‬ ‫ة‬ ‫قصيد‬ ‫بألف‬ ‫شيخوخة تجتاحُ عشريني ًّة في حجر ٍة حُ بلى‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ضرب لي ترانيم ّ‬ ‫ُ‬ ‫باب هذي ّ‬ ‫ُ‬ ‫يطرق َ‬ ‫ُ‬ ‫ار‬ ‫والعتم‬ ‫الشقاء وال كمنجة ههنا‪..‬‬ ‫لصاحبها سوى َشرَف الهويّة! ال ُعو َد َي‬ ‫لم تمنح‬ ‫ِ‬ ‫الد ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫وأجمع سائ َر‬ ‫طب الغبيّة‪ .‬وأنا أر ّبي وحدتي وحدي‬ ‫برسائل الن‬ ‫الجبين كأنه ساعي بريدٍ مثقل‬ ‫مخسوف‬ ‫ِ‬ ‫كبات واآلهات والخ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫مترين من سجّ اد ٍة منقوشةٍ باألحمر القاني ُت ّ‬ ‫ُ‬ ‫بحفل‬ ‫ذكرني‬ ‫وأصارع الشكوى على‬ ‫متكامل‪،‬‬ ‫كامل‬ ‫الخيبات في جيبي ببط ٍء‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫راقص أو بركةٍ لدماء طفل لم ينله من الحكايةِ ِّ‬ ‫دور ّ‬ ‫ٌ‬ ‫الضحية‪.‬‬ ‫سوى‬ ‫ر‬ ‫دو‬ ‫ها‬ ‫كل‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫الضيق الموبوء‬ ‫الفضاء‬ ‫هذا‬ ‫على‬ ‫تضفي‬ ‫سيرة‬ ‫ك‬ ‫ة‬ ‫الحيا‬ ‫ريح‬ ‫من‬ ‫نبتاع‬ ‫أبي‬ ‫يا‬ ‫وطيفي‬ ‫وأنا‬ ‫النافذة!‬ ‫خلف‬ ‫العتم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫دعائك!‬ ‫بالمعنى قليلاً من‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ألب يغاد ُر باكرًا‬ ‫األركان‬ ‫متآلف‬ ‫كبياضها‬ ‫ﻻ شيءَ في هذي البال ِد يهزني‪ ،‬فسوا ُدها‬ ‫ِ‬ ‫أضيق من رثا ِء قصيد ٍة ٍ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫األحزان يرويها‪ّ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫يطو ُعها ير ّبيها‪ ،‬فينسج من أغانيها كتا ًبا مدرسيًّا‪.‬‬ ‫يطرب‬ ‫قبل الثالثين الطريّة‪ .‬ال شيء حولي‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ويلمع ّ‬ ‫اعات‬ ‫الس‬ ‫األسفلت مبتكرًا طالءً من رنين الحنجرة‪،‬‬ ‫ويرم ُم‬ ‫بائعا متجولاً يغزو الصباحَ بصوته‬ ‫ال‬ ‫ِ‬ ‫الظمآن ماءً من دعاءٍ أو تحيّة! ال شيء يشبه بلدتي ال زينةُ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫مبتسما ويسقي ظلها‬ ‫والجدران‬ ‫والعتبات‬ ‫ِ‬ ‫المرور وال الحروف األبجدية‪..‬‬ ‫الجدران تشبهها وال جهة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫عنيدا ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫بالجو أو بحوادث‬ ‫ليس بـآبه‬ ‫والوقت‬ ‫ثابتا‬ ‫منتظ ًما‬ ‫الساعات‬ ‫عقارب‬ ‫حول‬ ‫الكون‬ ‫يدور‬ ‫فهنا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِّ‬ ‫الشق البعيد من الخريطة‪..‬‬ ‫البحر في‬ ‫وراء‬ ‫ما‬ ‫ة‬ ‫الصغير‬ ‫ببغداد‬ ‫حدثت‬ ‫الطرقات أو بجريمةٍ عبثيّةٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫للحاضر‬ ‫للتحوير للماضي وال‬ ‫للتبرير‬ ‫للتفكير‬ ‫وقت‬ ‫الخطوط المسبقة! ال‬ ‫الكل يجري ههنا وفق‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫تربكه وتغزو َن َ‬ ‫ظمه أو يستبيح‬ ‫الوقت‬ ‫طائرات فوق هذا‬ ‫أو األمور الثانوية! ال‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫القاصي وال للطارئات ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫الص ُ‬ ‫ثقب ّ‬ ‫َ‬ ‫األخيرة في خبايا‬ ‫فقاعة الصبر‬ ‫راخ‬ ‫ي‬ ‫صب‬ ‫ذراع‬ ‫على‬ ‫المستريح‬ ‫الرضيع‬ ‫هديرها وسن‬ ‫ّةٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫أضغاث الرؤى في المسرحيّة‪.‬‬ ‫وسط‬ ‫صدرها فاهتزت الذكرى أمام عيونِها سكرى وتاهت‬ ‫ِ‬

‫‪51‬‬

‫النعش يجري يا أبي‪..‬‬ ‫ُفات ّ‬ ‫أرجوك أسرع!ْ‬ ‫َ‬ ‫ور ُ‬ ‫َ‬ ‫فلتمسك الوقت المرير بقبضتك‪،‬‬ ‫رقتنا هناك تصارع الموت اللعين‪..‬‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ساهمات‪..‬‬ ‫فالمساجد موحشات‪ ..‬والمآذن‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫أكوام التراب بال صالة؟‬ ‫بعيدا تحت‬ ‫هل ُتدفن الذكرى‬ ‫ِ‬

‫ملف العدد‬


‫تقارير‬

‫السفارة السعودية تعود إلى بغداد بعد ربع قرن‬

‫مثقفون عراقيون يرون الثقافة‬ ‫جس ًرا بين البلدين‬ ‫صفاء ذياب‬ ‫بغداد‬

‫كان عام ‪1990‬م بداية إنهاء تاريخ طويل من العالقات العراقية السعودية‪ ،‬ذلك العام الذي شهد‬ ‫حقيقي في الدولة العراقية وتاريخها‪ ،‬وصولاً إلى مرحلة دخول القوات األميركية‬ ‫بداية انهيار‬ ‫ّ‬

‫بغداد وانهيار الدولة بالكامل‪ .‬خمسة وعشرون ً‬ ‫عاما من دون أي عالقات دبلوماسية‪ .‬وعلى‬

‫الدبلوماسي لم‬ ‫الرغم من عودة العالقة بين العراق والسعودية عام ‪2004‬م‪ ،‬فإن أطر التمثيل‬ ‫ّ‬ ‫تكتمل إال وعام ‪2015‬م على أبواب الرحيل‪ ،‬وهو ما أ َّدى إلى فتح باب جديد من التصريحات وردود‬

‫‪52‬‬

‫األفعال الدبلوماسية وغير الدبلوماسية في الوقت نفسه‪.‬‬

‫إذا كانت السياسية سببًا لالختالف والشقاق‪ ،‬فإن هناك‬ ‫توافقا ثقافيًّا كبي ًرا بين ّ‬ ‫ً‬ ‫مثقفي البلدين‪ ،‬حتى إن مجموعة من‬ ‫المثقفين العراقيين قد دُعوا إلى زيارة الرياض‪ ،‬وتقديم فعاليات‬

‫ثقافية أكثر من م َّرة‪.‬‬

‫الثقافي ربما هو الوحيد القادر على ردم الهوَّة‬ ‫الشأن‬ ‫ّ‬ ‫السياسية‪ .‬فالثقافة من شأنها تغيير وجهات النظر‪ ،‬أو البحث‬

‫عن بدائل جديدة تعمق تلك العالقات‪ .‬بعض المثقفين واألدباء‬ ‫العراقيين كانوا متخوّفين من الخوض في الحديث عن هذه‬ ‫العالقات‪ ،‬وبعضهم اآلخر يرى فيها ً‬ ‫أفقا آخر لحفظ حياة‬

‫العراقيين‪ ،‬وإعادة بناء مُ دُ نه بالمحبَّة والتسامح‪.‬‬

‫الباحث واألكاديمي ناصر الحجاج‪ ،‬يقول‪ :‬إن العراق بلد‬

‫منهار‪ ،‬و«بنظرة عاجلة نرى أن أقرب وأقدر الجيران المؤهلين‬ ‫ُ‬ ‫المملكة العربية السعودية»‪،‬‬ ‫لإلسهام في إعادة بناء العراق‬

‫ويأمل الحجاج أنه كما أسهمت المملكة في دعم خالص‬

‫العراقيين من الديكتاتورية «أن تسهم خطوة فتح سفارة‬ ‫المملكة في العراق؛ في إعادة المياه إلى الروافد الثقافية‬ ‫والعلمية والتاريخية بين البلدين‪ ،‬فالعراق اليوم في حاجة إلى‬

‫االستفادة من الخبرات السعودية في مجاالت البناء الحضاريّ‬ ‫والعمراني‪ ،‬في ّ‬ ‫ظل انهيار المنظومة التعليمية والتربوية فيه‪،‬‬ ‫ّ‬

‫فالجامعات العراقية تحتاج إلى مراكز أبحاث رصينة؛ مثل‪:‬‬ ‫مركز الملك فيصل لألبحاث الذي أسهم‪ ،‬ال في رفع مستوى‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬


‫االجتماعي‪ ،‬بل في تطوير قطاعات اإلنتاج‪ ،‬وخدمة‬ ‫الوعي‬ ‫ّ‬ ‫االقتصاد السعوديّ بشكل كامل»‪.‬‬ ‫ويرى الحجاج أن العالقة العراقية السعودية «ال يمكن‬

‫الدبلوماسي‪،‬‬ ‫أن تختزل في بروتوكول زيارات متبادلة للسلك‬ ‫ّ‬ ‫الثقافي الذي يسهم في بناء هويتنا العربية‬ ‫إنما بفتح األفق‬ ‫ّ‬ ‫والمعرفي‬ ‫العلمي‬ ‫المشتركة‪ ،‬وهذا في جوهره رهين التبادل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫واإلنساني الذي نرجو من هذه الخطوة أن تسهم في تأسيسه؛‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫من أجل خير الشعبين الشقيقين‪ ،‬فالتحديات الكبرى تتطلب‬

‫قرارات كبرى»‪.‬‬

‫من جانبه يبيّن الناقد علي حسن الفواز أن مواجهة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وتتطلب‬ ‫تتطلب دائمً ا مسؤولية وشجاعة‪،‬‬ ‫التحديات القومية‬ ‫رؤية واضحة لما يجري‪ ،‬وإنّ رأب الصدع بين أبناء األمة هو‬

‫الخطوة الفاعلة التي يجب التأسيس عليها؛ ألن حجم األخطار‬

‫التي تواجهنا جميعً ا تستدعي وعيًا ومراجعة وقرارات باسلة‪.‬‬

‫ويرى الفواز أن إعادة فتح السفارة السعودية في بغداد «هو‬ ‫األفق الذي ينبغي له أن يع ّزز مسار هذه المواجهة‪ ،‬ويعمّ ق‬ ‫أُ ُطر العالقات بين البلدين والشعبين‪ ،‬ليس على المستوى‬ ‫الثقافي الذي يعني تقريب‬ ‫السياسي فقط‪ ،‬إنما على المستوى‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وجهات النظر لصناعة رأي عامّ مشترك‪ ،‬في اتجاه توسيع آفاق‬

‫والضرار» التي يحاول بعض العناصر زرعها في حياتنا»‪ ،‬ويشير‬

‫إلى أن الرهان على المستقبل هو األكثر جدوى‪ ،‬و«تعميق مسار‬

‫الحوار بكل مستوياته هو األكثر حميمية في التعبير عن المصالح‬

‫والخيارات المشتركة‪ ،‬وبخاصة أن أمتنا تواجه اليوم أخطارًا‬ ‫مرعبة ُتشيعها الجماعات اإلرهابية‪ ،‬ونزعات العنف والكراهية‪،‬‬ ‫وعصبيات الفتن الطائفية المقيتة»‪.‬‬ ‫اإلحساس بخطر الجهل‬

‫يشير الباحث الدكتور عمار أحمد‪ ،‬إلى «أن ما يعنينا‪ ،‬نحن‬ ‫المثقفين‪ ،‬من فتح السفارة السعودية في العراق هو ملحقي ُتها‬

‫الثقافية؛ إذ ال شأن لنا بالدبلوماسية والسياسة والتفاصيل‬ ‫األخرى التي يُعنى بها آخرون»‪ ،‬ويضيف أحمد قائلاً ‪« :‬لطالما‬

‫السياسي الثقافة عبر تاريخ طويل‪ ،‬وكانت ثقافة الباحثين‬ ‫وجّ ه‬ ‫ّ‬ ‫الهبات والمِ َنح هي السائدة‪ ،‬أو الثقافة المادحة المنحازة إلى‬ ‫عن ِ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫فئة‪ ...‬فإن بإمكان الملحقية في السفارة‪ ،‬مدفوعة بنوايا األخوَّة‬

‫والجوار واإلحساس بخطر الجهل المستشري‪ ،‬أن تقوم بفعل‬ ‫الثقافي‬ ‫ثقافي يسهم في ثورة حقيقية‪ ،‬باالنفتاح على المشهد‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الحقيقي‪ :‬موسيقا‪ ،‬وأدب‪ ،‬وسينما‪ ،‬ومسرح‪ ،‬بكل‬ ‫العراقي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫حقيقية وواقعية للتفاعل والشراكة‪ ،‬بعيدً ا من مكاره «الضرر‬

‫القصيدة العراقية حطام‬ ‫ناي مخبوء في غابات األرز!‬ ‫ٍ‬

‫‪53‬‬ ‫عبدالله الزيد‬ ‫شاعر سعودي‬

‫قال ناقد يومً ا‪ :‬أحْ ِي َي الشعر العربي الحديث في مصر‪ .‬لكنه عاش في العراق‪ .‬هكذا نلقاه حينما نستعرضه منذ ثالثينيات‬

‫القرن الماضي‪ .‬قائمة طويلة من الشعراء‪ .‬كتبوا‪ .‬حاكوا‪ .‬طوّروا‪ .‬ثم ّ‬ ‫أصلوا لقصيدة التفعيلة التي يجمع كثيرون على أنها أكثر‬ ‫ّ‬ ‫محاوالت العرب في التوفيق بين المعنى‪ ،‬أو ما يعرف اصطالحً ا بالمضمون‪ ،‬وبين اإليقاع الشعري‪ ،‬الذي ظل في تاريخ‬

‫ً‬ ‫القصيدة العربية «المعجزة التي لم يؤمن بها أحد» تتطور حوله القصيدة ً‬ ‫وحدثا وهويّة من دون أن تمسه حتى جاءت‬ ‫لغة‬ ‫ّ‬ ‫ليتولى بدر شاكر السياب مؤونة اإلقناع‬ ‫نازك المالئكة‪ ،‬تلك الفتاة العراقية الجامحة‪ ،‬وكسرت عمود الشعر العربي القديم؛‬ ‫به في الشارع العربي الذي فوجئ بقصيدة عذبة‪ ،‬تستمد رؤاها من إيقاعها‪.‬‬

‫هذا الملمح الثقافي اإلبداعي يجعلنا نقف مع واقعنا الثقافي الذي يعد الشعر «ذاكرتنا فيه» مع ذلك الماضي العريق‬

‫الذي تقبع جذوره منذ القدم في أرض «السواد» كما سمّ اها العرب حيث دار الحكمة واالنفتاح األكبر في تاريخ الحضارة‬

‫العربية على علوم وثقافات اآلخرين‪.‬‬ ‫ً‬ ‫إذا نحن أمام خارطة ثقافية بطبعها؛ تاريخها الضوء‪ ،‬وحاضرها انتشاره‪ .‬لكنها تف ّردت دائمً ا بقراءتها الصادقة للواقع‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫فكوّنت دائمً ا مرايا للحياة فيها‪ .‬لهذا شكلت نكباتها السياسية المتتابعة هوية الحزن الذي يالمس القلب دائمً ا‪ .‬سواء جاء‬

‫على هيئة قصيدة أو أغنية أو رواية‪ ،‬وهو حزنٌ ال نغادره شج ًنا‪ ،‬وال نهمله هروبًا‪ ،‬وال نقنط منه نفورًا‪ .‬إنه ذلك البعد الوجودي‬

‫الذي يبحث عن الجمال تحت حطام القبح ويكتفي به‪ ،‬بل ويصدّ ره لنا ثقافة المست الخلود دائمً ا‪ ...‬كثيرة هي األسماء التي‬ ‫في وفي اآلخرين ً‬ ‫أيضا‪ :‬علي الوردي فتح اآلفاق الفكرية أمامي‪ .‬السياب أخبرني عن دهشة القصيدة‪ .‬وسنان أنطوان‬ ‫أثرت ّ‬ ‫أخبرني عن كيف تتألم الرواية وهي ُتك َتب في أحضان المنفى‪.‬‬


‫تقارير‬

‫جماليات تشكلها‪ ،‬وبكل محموالتها من النشاط التنويريّ ‪ ،‬بهذا‬ ‫الفعل نستطيع ردم الفجوة السوداء التي ت ّتسع بحكم هيمنة‬ ‫(الجهل العام والتجهيل المتعمد)‪ ،‬وهي فرصة الملحقية في‬ ‫ّ‬ ‫السفارة؛ لتبسط في األرض العراقية منجز‬ ‫المثقف السعوديّ‬

‫بعيدً ا من صورته النمطية التي ترسّ خت عبر عقود‪ُّ ،‬‬ ‫وكلنا يعرف‬ ‫ّ‬ ‫يمت‬ ‫أن سبب الترسيخ لم يكن ثقاف ًّيا‪ ،‬بل كان غير ذلك بما ال‬

‫بصلة إلى ثقافة التقارب‪ ،‬واإلحساس بجمال الحياة‪ ،‬وتقديم‬ ‫العربي كما يجب أن تقدم»‪.‬‬ ‫صورة‬ ‫ّ‬

‫الثقافي من وجهة نظر الكاتب‬ ‫في حين يكون التواصل‬ ‫ّ‬ ‫أساسي في مستوى ّ‬ ‫تلقي اآلخر‬ ‫«فعل‬ ‫الدكتور أحمد الظفيري‬ ‫ّ‬ ‫وفهمه‪ ،‬فالثقافة هي المرآة التي تعكس التفكير والسلوك‪،‬‬

‫وعلى الرغم من أن العراق والسعودية متجاوران‪ ،‬لكن القطيعة‬ ‫الطويلة في العالقات الدبلوماسية َّ‬ ‫ولدت حاج ًزا فكر ّيًا وثقاف ًّيا‪،‬‬

‫خالص العراقيين من الديكتاتورية‪،‬‬ ‫نأمل أن تسهم خطوة فتح سفارة‬ ‫المملكة في العراق في إعادة المياه‬ ‫إلى الروافد الثقافية والعلمية‬ ‫والتاريخية بين البلدين‬ ‫األهم الذي يمكن من خالله خلق تقارب فكريّ بين العراق‬ ‫والسعودية‪ ،‬ويمكن من خالله إيجاد مشتركات ثقافية تكون‬ ‫ً‬ ‫الثقافي‬ ‫مستقبلي‪ ،‬وسبيلاً إلى ممارسة العمل‬ ‫منطلقا لتعايش‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫والفني الذي ّ‬ ‫الطائفي بين البلدين»‪.‬‬ ‫يخفف الفعل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫سواء على مستوى اإلفادة من اآلخر أو فهمه»‪ .‬ويضيف أن‬

‫الخطوة بدأت بفتح السفارة السعودية في بغداد‪ ،‬غير أن‬

‫مشوشة عند الطرفين؛ ألنها حملت في أثناء هذه المدة صورة‬

‫جعل هذه السفارة‪ ،‬ومثيلتها في الرياض‪ ،‬جس ًرا حقيقيًا بين‬

‫هذه المدة الطويلة من القطيعة بين البلدين «جعلت الصورة‬

‫عدائية فقط‪ ،‬وال بدَّ من تغييرها من أجل مستقبل آمن للمنطقة‬

‫عامة»‪.‬‬

‫‪54‬‬

‫كما أسهمت السعودية في دعم‬

‫التساؤل األهم‪ :‬ماذا بعد هذه الخطوة؟ وكيف يمكن العمل على‬

‫البلدين‪.‬‬

‫الثقافي «هو الجسر‬ ‫ويوضح الظفيري أن التواصل‬ ‫ّ‬

‫أصول عبقرية نهضت باإلبداع العربي‬

‫إبراهيم الوافي‬ ‫شاعر سعودي‬

‫أستطيع القول‪ :‬إن الفن العراقي بأنواعه كافة؛ من موسيقا‪ ،‬وشعر‪ ،‬ورواية‪ ،‬كان أصلاً عظيمً ا من األصول العبقرية التي‬

‫نهضت بالذائقة واإلبداع في الوطن العربي‪ ،‬ولم أكن ً‬ ‫بدعا وال استثناء في ذلك‪ ..‬فمنذ بداية تشكيل الموهبة الفنية والرسم‬

‫بالكلمات لدي‪ ،‬كان الفن العراقي بأنواعه من موسيقا وشعر ورواية يسهم بشكل فاتن في تكوين عالم الفن واإلفصاح‪..‬‬ ‫وألني ُخلقت من وهج الشعرية وما يتصل بها‪ ،‬فسأتحدث بخاصة عن تأثير الموسيقا والشعرية العراقية في ذائقتي الفنية‬

‫والشعرية‪ .‬فمما تركه الموسيقار محمد القبانجي وناظم الغزالي مرورًا بفن فاضل عواد‪ ،‬وحضيري أبو عزيز‪ ،‬إلى أنوار‬ ‫عبدالوهاب كنت أتشكل فنيًّا ويرتفع لدي المثل في اإليقاع ورتم الزمن‪.‬‬

‫وفي المسألة الشعرية‪ ،‬تمثلت تجربة السياب والبياتي ونازك المالئكة وسامي مهدي في ترجمة المضامين‪ ،‬وموسيقا‬

‫القصيدة‪ ،‬وطريقة األداء‪ ،‬والمونولوج الداخلي‪ ،‬والحوار‪ ،‬وتنويع األصوات‪ ،‬وتوظيف األسطورة‪ ،‬والثراء المسرحي في‬

‫النص الشعري‪ ..‬كل ذلك في عالم تتحول فيه المعلومة إلى موهبة‪ ،‬ورسم التجربة إلى تلقائية آسرة‪ .‬طبعً ا تم ذلك بوعي‬

‫وتفرد وخلق شخصية فنية شعرية مستقلة بعيدً ا مما قد يؤدي إليه مثل هذا التماهي والتمازج والتمثل من الموت والفناء‬ ‫في األنموذج بشكل عدمي محزن‪ .‬ومن المظاهر الواضحة لتأثير الفن العراقي‪ ،‬وبخاصة الموّال في تجربتي الشعرية هذه‬

‫الخصائص‪ :‬طول الجملة الشعرية‪ .‬طول العناوين‪ .‬طول النص الشعري‪ .‬وتلك أشياء ال يمكن ألي محلل أو ناقد أن يتجاوزها‪.‬‬

‫وفي المضامين سيتبين بشكل ال يحتاج إلى دليل أن التجارب الحزينة والتراجيديا هي الخيط الذي ينتظم نصوص مجموعاتي!‬

‫وأود أن أشير إلى قصيدة طويلة نشرتها في ديوان مستقل بعنوان‪« :‬توثيق عهد بانتصار من أجل تاج األنبياء»‪ ،‬اعترضت فيها‬ ‫على تردي سعدي يوسف شعريًّا وموضوعيًّا ولغة واهتمامً ا‪ .‬هذه القصيدة تسجل بجالء خالصة انتمائي الفني والشعري‬

‫للتجربة العراقية‪.‬‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬


‫نصوص‬

‫الرشيد‬ ‫سليم ُّ‬ ‫عبدالله بن ُ‬

‫للسؤال جدار‬ ‫‪ ‬‬

‫شاعر سعودي‬

‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫التحطيم والتفتيتا‬ ‫ـب ُتوالي‬ ‫قلت‪ :‬إن الجمال ِمطرقة القل ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫جلده عفريتا‬ ‫يلوح لكم ظبـيًا ويخفي في‬ ‫قلت‪ :‬إن الهوى‬ ‫ِ‬

‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫السراب الشتيتا‬ ‫تستدرج‬ ‫لألرواح‬ ‫تكاذيب‬ ‫قلت‪ :‬إن المنى‬ ‫ِ‬

‫ً‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫يقنع الكبريتا؟‬ ‫النار‪ ،‬ولكن من‬ ‫جديد في سير ِة‬ ‫حسنا! ال‬ ‫ِ‬

‫‪55‬‬

‫الهرب من الميالد‬ ‫ُ‬ ‫بعيد‬ ‫صوت روحِ ه من‬ ‫جاءه‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫فتدلى‬

‫ُ‬ ‫الخيال‬

‫له‬

‫طيو ًرا‬

‫ُ‬ ‫َ‬ ‫النبض يسقي‬ ‫يسابق‬ ‫وتهادى‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫الحقيقة َم ْ‬ ‫س ًخا‬ ‫فتجلت له‬ ‫*‬

‫*‬

‫*‬

‫َ‬ ‫األحالم في ُعهد ِة الشو‬ ‫بعض‬ ‫أ ْب ِق‬ ‫ِ‬

‫ُ‬ ‫أهون من أن‬ ‫اآلمال‬ ‫فانتظا ُر‬ ‫ِ‬

‫ّ‬ ‫وتمطى‬

‫عليه‬

‫ٌ‬ ‫شوق‬

‫َّ‬ ‫مفو ْه‬

‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫الم َم َّو ْه‬ ‫الزمان‬ ‫خد‬ ‫الثمات‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫الغد ُك َّو ْه‬ ‫فاتحا إلى‬ ‫وقته‬ ‫ِ‬

‫َ‬ ‫ً‬ ‫قابعا ُق َ‬ ‫رب ُه ّو ْه‬ ‫العين‬ ‫أزرق‬ ‫ِ‬ ‫ِق‪،‬‬

‫*‬

‫وداع ْ‬ ‫ب‬ ‫ِ‬

‫*‬

‫*‬

‫َ‬ ‫أطيافها‬

‫َّ‬ ‫وتأو ْه‬

‫ُ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫المشو ْه‬ ‫ديج‬ ‫يولد‬ ‫الحل ُم كالخ ِ‬


‫تقارير‬

‫المثقفون اليمنيون في ظل الحرب‬ ‫من تسويق الموت كمنتج تحت مسمى‬ ‫الشهادة إلى «الهروب الجميل»‬ ‫جمال حسن‬ ‫روائي وصحافي يمني ‪ -‬صنعاء‬

‫ً‬ ‫واحدا في صورة المثقف‪ ،‬إنها أشبه ببورتريه ممزق المالمح ومحطم كما‬ ‫ال تترك الحرب نسيجً ا‬

‫في لوحات بيكاسو‪ .‬وبالنسبة للمثقف في اليمن‪ ،‬كما يقول الكاتب والفنان التشكيلي نبيل قاسم‪ ،‬ال‬ ‫ً‬ ‫دوما خاسر‪« .‬الحرب هي ذلك السعار الملعون‬ ‫يربح سواء كان البلد في حالة حرب أو حالة سلم‪ ،‬هو‬

‫‪56‬‬

‫الذي يدفع نصف اآلدميين إلى إرسال النصف اآلخر للسلخانة»‪ ،‬يقول الروائي الفرنسي سيلين‪ .‬وفي تلك‬ ‫أحيانا يصبح ً‬ ‫ً‬ ‫بوقا تحريضيًّا‪ .‬ومع أن الحرب حالة يأس جماعي‪ ،‬مأساة‬ ‫الثنائيات المميتة ال ينجو المثقف‪.‬‬

‫ً‬ ‫وحيدا في ظالم شاحب‪ ،‬وهو يرتدي قناع صرخة مكتومة ً‬ ‫هلعا‪ .‬وفي الطرف‬ ‫الكل‪ ،‬هناك صورة إنسان يقف‬ ‫اآلخر حيث الساحات الخربة‪ ،‬أو األزقة التي ال تبلغها الشمس‪ ،‬يصبح القناع ساخرًا‪ ،‬في نسخة هوليودية‬

‫لقاتل عابث‪ .‬النقطة المشتركة في تضاد‪ :‬هزلية سوداء‪ .‬ومع ارتفاع وطأة الحرب‪ ،‬هناك من أعاد النظر في‬ ‫ذاته‪ ،‬أو انساق في مفرمة قلق وحشي‪ .‬هكذا يروي المثقفون اليمنيون بصور مختلفة‪ ،‬انعكاسها عليهم‪.‬‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬


‫فعالية ثقافية بصنعاء‬

‫يقول نبيل قاسم‪« :‬خالل فترة الحرب زادت مساحة الظالم‪،‬‬ ‫ً‬ ‫أوراقا بيضاء عادية‬ ‫وزادت مساحة الخوف‪ ،‬وجدت بالصدفة‬

‫مدني‪ ،‬ثم عادت تدريجيًّا‪ .‬وبصورة استشرافية تحدث نبيل‪ :‬لم‬

‫رسمت أكثر من ‪ 200‬لوحة‪ ،‬لنقل إنها بلغة الفن إسكتشات»‪ .‬يلفت‬

‫مع توقف العمل الخاص‪ ،‬ركز الشاعر محمد الشميري‬

‫ً‬ ‫ألوانا خشبية وقلم رصاص‪ ،‬وبدأت اللعب‪.‬‬ ‫بحجم ‪ ،A4‬وجدت‬ ‫المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه إلى العالقة الوثيقة بين الفن‬

‫والخوف؛ إذ إن الرسم والنحت تولدا كسعي ثابت ضد الموت‪ .‬فن‬ ‫الصورة من أجل تخليد سمات زائلة‪ .‬قرأ نبيل العديد من الكتب‬

‫الحرب توقفت األنشطة الثقافية التابعة لمؤسسات مجتمع‬ ‫نعترف بالموت‪ ،‬وكنا نصر بأن الحياة تنتصر بعد كل حرب‪.‬‬

‫اهتمامه بالتجمعات الثقافية في الحديدة؛ حيث قام وآخرون‬ ‫بتفعيل دور نادي القراءة‪ ،‬من أجل تنويع فعالياته أدب ًّيا وفنيًّا‪.‬‬

‫يقول‪ :‬إنه مع زيادة وقت الفراغ صار يقضي ساعات كثيرة في‬

‫والروايات‪ .‬وكتب أشياء كثيرة لن يعرف كيف سيصنفها‪ .‬إال أن‬ ‫الحرب من وجهة نظره‪ ،‬جعلتنا ً‬ ‫أيضا نعرف «كثي ًرا من المثقفين‬

‫كبيرة كان سببها مثقفين‪ ،‬أو من كان يعتبرهم كذلك‪ ،‬حين‬

‫باسم الدفاع عن الوطن»‪ .‬لقد التقى القبلي‪ ،‬بالمناطقي‪،‬‬

‫هل يمكن إزالة صفة المثقف نتيجة سقوطه المدوي سياسيًّا‪.‬‬

‫ً‬ ‫أحيانا‬ ‫ظهروا عبر مواقفهم السياسية مؤيدين للحروب والقتل‪،‬‬

‫بالديني‪ ...،‬وهذا شيء جعله ينأى بنفسه بعيدً ا‪ .‬وأضاف‪ :‬لم تكن‬ ‫هناك في السابق حياة ثقافية لنخسرها بالحرب‪ .‬لم تكن هناك‬ ‫مسارح أو دور سينما ل ُتغلق‪ .‬يتعلق األثر السيئ بالحياة اليومية‬

‫القراءة‪ ،‬أو متابعة ما يُكتب هنا وهناك‪ .‬يقول محمد‪ :‬إن صدمة‬ ‫تحولوا فجأة إلى أدوات حرب دقيقة أقسى من القناصة‪ .‬لكن‬ ‫ماذا عن الفيلسوف األلماني هيدغر‪ ،‬الذي انساق في مناصرة‬ ‫النازية وآلة قمعها القائمة على وهم التفوق العرقي الجرماني‪.‬‬

‫بالنسبة للشميري أخذت الحرب منحيين في أثرها على المثقفين‬

‫للناس التي ُكسرت برأيه‪ ،‬أطفال اختنقت ألعابهم وضحكاتهم‪.‬‬

‫اليمنيين؛ األول سلبي وتمثل بمثقفين سوّقوا الموت كمنتج‬

‫عاديًا‪ ،‬أن نرى األطفال يُستخدمون كأدوات للقتل‪.‬‬

‫الجوانب الفكرية والجمالية‪ ،‬وأعادوا النظر في إنتاجاتهم‪ ،‬وهو‬ ‫ما اعتبره ً‬ ‫نوعا جميلاً من الهروب‪.‬‬

‫ظهور هذا العدد من القتلة حين يصبح الحديث عن القتل أم ًرا‬

‫انتصار الحياة بعد كل حرب‬

‫الجميع تضرر ماليًّا واقتصاديًّا بمن فيهم المثقف‪ ،‬ال يوجد‬

‫تحت مسمى الشهادة‪ .‬واآلخر إيجابي‪ ،‬وهم بنظره قلة ركزوا في‬

‫إال أن أكثر شيء يرعبه هو تصاعد نظرة سلبية تجاه‬

‫المثقفين‪ ،‬حتى بين المثقفين أنفسهم‪ .‬وأشار محمد إلى نبرة‬

‫رابح سوى تجار الحروب‪ .‬أما الثقافة في نظر نبيل فهي الطريق‬ ‫ً‬ ‫مثقفا عليك أن تكون‬ ‫المعبد للخسران في اليمن‪ .‬لكن حتى تكون‬

‫حالة كفر تضرب المجتمع بدور الثقافة‪ ،‬اعتبرها كارثة عميقة‬

‫من خالل منتدى التبادل المعرفي برنامجً ا كل سبت‪ ،‬عبارة عن‬

‫ً‬ ‫تسرعا‪ ،‬وأكثر‬ ‫على األقل انخفض مستوى األمل لديه‪ .‬صار أقل‬

‫عنيدً ا‪ .‬ينشط نبيل مع مؤسسة بيسمنت الثقافية‪ ،‬التي تقدم‬

‫ندوات‪ ،‬ومحاضرات‪ ،‬وحفالت موسيقية‪ ،‬ومعارض فنية‪ .‬بداية‬

‫بدأت تعلو بين الناس‪ :‬انظروا ماذا يفعل المثقفون‪ .‬هناك‬ ‫في الوعي الجمعي‪ .‬أما عن نظرته لألمور فيؤكد أنها تغيرت‪،‬‬

‫توقعً ا للخيبات‪ .‬كانت اللحظة األكثر إيالمً ا‪ ،‬عندما نزح أقارب له‬

‫‪57‬‬


‫تقارير‬

‫من الموت في تعز‪ ،‬إلى منزلهم في الحديدة‪ .‬يقول‪ :‬إنه حين‬ ‫ارتدى ابنه ثياب المدرسة وحمل حقيبته‪ ،‬لمح طفلاً بينهم‬ ‫يبكي بحرقة‪ .‬سأله عن السبب‪ .‬رد بحرقة‪ :‬ليش أنا مش قادر‬ ‫أروح مدرستي بتعز؟ ما زال الشميري منشغلاً عما بعد الحرب‪،‬‬

‫وآثارها العميقة‪.‬‬

‫إحساس قوي بالخراب‬

‫بصورة أخرى يتحدث الكاتب والصحفي لطف الصراري‬

‫حول كلفة ال تقتصر على القتلى والدمار‪ ،‬إنما تداعيات نفسية‬

‫الصراعات‪ ،‬يهدد الثقافي بعواقب أسوأ‬

‫صراخ أطفاله إثر تجارب الخوف‪ ،‬وال آخرها أحذيتهم الممزقة‬ ‫وألعابهم الحربية‪ .‬تجربة الحرب ً‬ ‫أيضا تختلف بالنسبة ألولئك‬

‫الذين عاشوا ظروفها الدامية وسط المدن»‪.‬‬

‫يصف الكاتب نشوان العثماني‪ ،‬وهو مراسل لـ«مونت كارلو»‬

‫سيدفعها جيالن على األقل في اليمن‪ .‬أما أكبر أثر على المثقف‬

‫في عدن‪ ،‬كيف أحاطتهم الحرب من كل ناحية في عدن‪ .‬ونتيجة‬

‫إحساس قوي بالالجدوى والخراب يعمه وهو يراوح بين الرجاء‬

‫أما القات فلم ينقطع عدا أيام قليلة‪ .‬تضاعفت أسعار المواد‬

‫على عقب خالل الحرب‪ ،‬بعد توقف الصحيفة التي كان يعمل‬

‫الغاز‪ .‬شاهد الموت حيث سقطت صواريخ كاتيوشا وقذائف‬

‫يقول‪ :‬إنها «تدفعه إما إلى تجزئة ضميره أو إلى الجنون»‪.‬‬

‫واليأس‪ .‬على الصعيد الشخصي تبدلت حياة الصراري رأسً ا‬

‫بها‪ ،‬وتوقف معظم الصحف األهلية العام الفائت‪ .‬إال أن الحرب‬

‫ولدت لديه دافعً ا إلعادة النظر في كثير من مفاهيم الحياة‪ .‬وفي‬ ‫المحيط السوداوي وجد وق ًتا للكتابة‪ ،‬وللقراءة‪.‬‬

‫القلق زاد إدمانه على مضغ القات‪ .‬كانت المواد الغذائية تنعدم‪،‬‬ ‫الغذائية‪ ،‬لحظات مشحونة بالرعب والمأساة‪ .‬انعدمت أنابيب‬

‫جواره؛ لتقتل أبرياء في حيه‪.‬‬

‫عاش لحظات فاقدً ا األمل‪ ،‬وحاول التماسك‪ ،‬مستعي ًنا‬

‫بالروايات؛ ليستدين منها عوالم متخيلة‪ .‬وبينما كان ينسى ما‬

‫حفزت مأساوية الحرب أفكارًا كثيرة لدى‬

‫حوله داخل رواية‪ ،‬تعيده أصوات قذائف أو صواريخ إلى الواقع‬ ‫المرير‪ .‬لم يقرأ شي ًئا آخر سوى الروايات وكتب أوشو والفلسفة‬

‫ناحية‪ ،‬ومخاتلة مخاوف الموت وإغراءات‬

‫توحش الناس‪ ،‬وفقدان قيم المحبة والتسامح‪ .‬سأل أصدقاء‬

‫الصراري‪ .‬يقول‪ :‬إن «بعضها ينضج ومعظمها‬

‫‪58‬‬

‫دخول الحرب حلقة مفرغة من توالد‬

‫يتفتت نتيجة الهم اليومي للمعيشة من‬ ‫الحياة من ناحية أخرى»‪ .‬مع هذا تمكن‬ ‫من إصدار مجموعة قصصية شغلت‬ ‫الحرب معظم نصوصها‪ .‬بالنسبة له‬ ‫ً‬ ‫سابقا‪،‬‬ ‫حياتنا لن تعود كما كانت‬ ‫ومنطلقات الكتابة وموضوعاتها لن‬ ‫تكون هي نفسها‪ .‬ويضيف‪« :‬هذا‬ ‫يشغلني كثي ًرا بقدر ما تشغلني‬

‫أمنيات السالم»‪ .‬فذاكرة الحرب‬

‫تترك الكثير من الندوب‪ ،‬ليس أولها‬

‫البوذية‪ .‬كان يبحث عن السالم الداخلي؛ ألن أكثر ما يخيفه هو‬ ‫له في الهند ومصر وسوريا‪ :‬كيف يستطيع اإلنسان أن يعيش‬ ‫ً‬ ‫محافظا على سالمه الداخلي ُ‬ ‫وعرا المحبة؟‬ ‫في الحروب ويظل‬

‫يرى نشوان أن أحلك الليالي قد تبشر بصباح ندي‪ .‬فهل سيأتي‬

‫هذا الصباح على اليمن‪ ،‬أو سينتج عنه وطن على طريق األفغنة‬ ‫ً‬ ‫أو الصوملة؟ ال تتساوى اآلمال‪ .‬لكنّ‬ ‫نشوانا يحلم بأن يستيقظ‬

‫الوعي في فترة بهذا اإلظالم‪ .‬فإن أحلك الليالي قد تبشر بصباح‬ ‫ندي‪ .‬كان شعاري في الحرب وال يزال‪ :‬لن َر ما يكتبه الله وكل ما‬

‫يكتبه الله جميل‪ .‬لكن الجانب األكثر قسوة‪ ،‬بالنسبة للثقافة‬ ‫برمتها‪ ،‬هو صورة المثقف المعرضة للتنكيل في المخيلة العامة‬ ‫لليمنيين‪ .‬تتشكل في الوعي الجمعي‪ ،‬أحكام سلبية ستساهم في‬

‫ارتفاع الفكر األصولي‪ ،‬واتساع رقعة العنف‪.‬‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬


‫نصوص‬

‫الحياة‬ ‫ليست‬ ‫صديقة‬ ‫للجميع‬

‫فاطمة محسن‬ ‫كاتبة سعودية‬

‫منزلي كلما اضطرت‬ ‫لديها جدا ٌر أثير تسحبه خلفها ككلب‬ ‫ّ‬

‫إلى الخروج‪ .‬تحب لعزلتها أن تكون ثابتة‪ ،‬صارمة‪ ،‬وال مجال‬

‫لتخطيها‪ .‬تقيس المسافات بعناصر التجهّم األولية؛ بعدد‬

‫الم ّرات التي ّ‬ ‫كشرت فيها‪ ،‬والتي زمّ ت شفتيها فيها‪ ،‬والتي‬

‫أرسلت فيها بصرها بنظرة معدنية ثابتة على نقطة وهمية في‬

‫الفراغ‪ .‬تفزع من كلمة «مرحبًا»؛ ألن لها جدار مهابة قصي ًرا‬

‫يمكن القفز فوقه بسهولة‪ ،‬وتخشى الضلوع في مشاهد الحياة‬ ‫فقدت منطقيتها كأن هناك مَ ن جمع ّ‬ ‫ْ‬ ‫كل الكلمات‬ ‫اليومية التي‬ ‫المطموسة في المسوّدات وألقى بها وسط الحوار‪ ،‬وتخشى‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫التعثر في خيوط الكالم‪ ،‬والنظرات الملفوفة بين‬ ‫أيضا‪-‬‬‫الناس‪ .‬داخل كل هذا الصخب‪ ،‬هي كالليل الذي مهما غمرناه‬ ‫ً‬ ‫هادئا ينجز فكرته‪.‬‬ ‫بالمصابيح‪ ،‬يبقى‬ ‫تكتفي حياتها بوحداتها الصغيرة‪ ،‬وبهيكلها الخالي من‬

‫الزوائد‪ .‬هذه الصيغة األولية للحياة تبدأ دائمً ا من حيث‬ ‫بدَ ْ‬ ‫أت‪ .‬وعلى عكس المعتاد‪ ،‬تؤمن بأنـه عندما تتسع‬

‫الحـياة‪ ،‬يضيق النفس؛ لذلك تعيش الحياة بمفهوم‬

‫الشذرة؛ أي خوض تجربة يتيمة موجزة ذاتية مضغوطة‬

‫وبال طموح‪ ،‬وتنتهي بحكمة كما لو كانت مرحلة طويلة‬

‫وغنية مـن التـعـاطي مـع وضع أو شخص‪ .‬ثـمّ ترتب هذه‬

‫الخالصات (الحياتية) فيما يشبه دليل المستخدم لشدّ ة‬

‫إيمانها بفاعليتها ودقتها‪.‬‬

‫تنس عبارة مفزعة لصديقتها‪:‬‬ ‫بقيت وحيدة دائمً ا؛ ألنها لم َ‬

‫أن تكوني أمّ ا‪ ،‬أن يقدر أصغر أمر على إخافتك‪ .‬الصديقة التي‬

‫سألتها م ّرة لمَ لم تسمعها قط تشتكي من سوء يومها‪ ،‬فردّت‬ ‫بأنها ال تحب عبارة ّ‬ ‫«أف‪ ..‬هذا يوم سيّئ»؛ ألنها تفترض أن‬ ‫بقية األيام ليست كذلك‪ .‬عندما يزورها الحظ في لحظات‬

‫نادرة ال تكون مستعدة‪ ،‬وتركله حتى تصادفه في يوم‬ ‫آخر‪ .‬وتعتقد أنه في النهاية ليس سي ًئا أن يكون أليامك‬ ‫نفس القافية‪.‬‬

‫تجهز جملتها األخيرة‪ ،‬جملة قصيرة ونافذة؛‬

‫ألن هذا العالم المتروك كنسخة تجريبية تعمل‬ ‫في الكون بال أي محاولة لتفادي األخطاء‪ ،‬يقودنا‬ ‫َ‬ ‫الحافة‪ ،‬حيث لن يتبقى لدينا هناك وقت كثير‬ ‫إلى‬

‫للكالم‪.‬‬

‫‪59‬‬


‫دراسات‬

‫‪60‬‬

‫مناهج الحداثة والتراث العربي‬

‫العرب نقلة ال مبتكرون‬ ‫إن تحوالت الواقع الثقافي العربي ما هي إال صدى لتحوالت‬ ‫الثقافة الغربية‪ ،‬لكن –بالضرورة– هناك مفارقة بين التحوالت‬ ‫التي تجري في الواقع العربي‪ ،‬والتحوالت التي تجري في‬

‫الغرب؛ ذلك أن تحوالت الغرب رد فعل للتحول الحضاري‬ ‫والثقافي‪ ،‬بينما التحوالت العربية مجرد نقل لتحوالت‬ ‫الغرب‪ ،‬وربما يفسر لنا ذلك كيف أن مراحل التحول في‬ ‫العالم العربي لم تبدأ إال بعد انتهاء زمنها في الغرب‪ ،‬وهو‬

‫ما يدعونا إلى متابعة المساحة الزمنية لهذه التحوالت هنا‬

‫وهناك؛ لتوثيق مقولة أننا كنا نقلة ال مبتكرين‪.‬‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬

‫محمد عبدالمطلب‬ ‫ناقد مصري حائز جائزة‬ ‫الملك فيصل العالمية هذا العام‬


‫بدأت (الكالسيكية) في الغرب مع عصر النهضة –‬

‫القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميالديين‪ ،‬واستمرت‬ ‫سيطرتها اإلبداعية والنقدية حتى قامت (الرومانتيكية) على‬

‫أنقاضها في القرن الثامن عشر‪ ،‬واستمرت سيطرتها إلى‬

‫القرن التاسع عشر؛ إذ جاءت (الواقعية) في نهاية القرن‪،‬‬

‫واستمرت إلى أوائل القرن العشرين‪ ،‬ومع بداية هذا القرن‬ ‫فرضت (الحداثة) حضورها إلى منتصف األربعينيات‪ ،‬لتبدأ‬

‫مرحلة (ما بعد الحداثة) باسطة نفوذها إلى زمن التسعينيات‬ ‫من القرن العشرين؛ إذ في هذا الزمن ظهرت مرحلة طارئة‬ ‫مجاوزة ما سبقها من مراحل‪ ،‬هي مرحلة‪( :‬بعد ما بعد‬ ‫الحداثة) التي استمرت حتى لحظة الحاضر‪.‬‬

‫النص صاحب الحق الشرعي في إنتاج‬ ‫وتبعا‬ ‫مواصفاته‪ ،‬وتحديد شروطه‪،‬‬ ‫ً‬ ‫لذلك أوغلت النصية في السير في‬ ‫الطرق غير المعبدة‪ ،‬والتعامل مع غير‬ ‫المعقول أو المنطقي‪ ،‬يستوي في‬ ‫ذلك النص الشعري والنثري‬ ‫ناحية أخرى‪ ،‬ثم خضع كل ذلك للشك في منجزات العلم‬ ‫الحديث التي أصبحت صاحبة السلطة في العالم الجديد‪،‬‬

‫أما في العالم العربي فقد بدأت (الكالسيكية) بعد‬

‫ومن هنا تعددت وجهات النظر‪ ،‬ومال الوعي اإلنسانــي إلى‬

‫القرن العشرين‪ ،‬ثم جاءت (الرومانتيكية) في عشرينيات‬

‫وصاحبت الحداثة كل هذه التحوالت وتوابعها التنفيذية‬

‫غيابها في الغرب‪ ،‬أي في أخريات القرن التاسع عشر وأوائل‬ ‫القرن‪ ،‬واستمرت سيطرتها اإلبداعية والنقدية حتى منتصف‬

‫األربعينيات‪ ،‬لتتدخل (الواقعية) باسطة سيطرتها حتى‬ ‫بداية السبعينيات؛ إذ فرضت (الحداثة) حضورها إلى‬

‫بداية التسعينيات‪ ،‬وتزاحمها في سلطتها مرحلة (ما بعد‬

‫الحداثة) التي ما زالت مسيطرة حتى لحظة الحاضر‪ ،‬أي أن‬ ‫الواقع العربي لم يدخل بعد مرحلة (بعد ما بعد الحداثة)‪.‬‬

‫(النسبية)‪ ،‬وابتعد قدر اإلمكان عن (المطلق والكلي والعام)‪.‬‬ ‫حتى وصلت إلى ما يمكن أن نســميه‪( :‬أزمة) داخل الحداثة‬ ‫بين الواقع بكل محموالته الفكرية والنفسية‪ ،‬وبين‬ ‫التطلعات المستقبلية بكل خصوصيتها المأمولة‪ ،‬وأخذت‬ ‫مالمح األزمة في الظهور في كثير من اإلحباط الذي سيطر‬

‫على (جيل ‪1968‬م)‪ ،‬الذي رفض مجمل المواضعات الفنية‬

‫واألدبية التي صاحبتهما منذ أخريات القرن التاسع عشر‪.‬‬

‫وال بد أن نعي أن هذا التحديد الزمني هنا وهناك‪ ،‬تحديد‬ ‫ً‬ ‫أحيانا‪ ،‬كما أن كل مرحلة‬ ‫تقريبي؛ إذ إن المراحل تتداخل‬

‫قادمة‪ ،‬هي‪( :‬م ــا ب ــعد الحداثــة)‪،)postmodernism( :‬‬

‫والمهم أن مجمل هذه التحوالت في الغرب كانت‬

‫األربعينيات من القرن العشرين‪ ،‬واستمرت صاحبة السيادة‬

‫جاءت الكالسيكية مع عصر النهضة األوربية التي قامت‬

‫لظهور هذه المرحلة بظهور (التفكيكية) وتردُّد مقوالت‬

‫ً‬ ‫إرهاصا بالمرحلة القادمة‪.‬‬ ‫كانت تحمل‬

‫صدى للتحول الحضاري والثقافي –كما سبق أن ذكرت‪ -‬إذ‬

‫على إحياء التراثين‪ :‬اليوناني والروماني‪ ،‬مع االحتكام‬ ‫للعقل المنطقي‪ ،‬وفصل األجناس بخواصها الفارقة‪ ،‬ثم‬

‫جاءت الرومانتيكية صدى للثورة الصناعية‪ ،‬وإعالء الذات‬

‫الفردية‪ ،‬واالحتكام للعاطفة‪ ،‬ثم تبعتها الواقعية بوصفها‬

‫صدى للثورة العلمية وتوابعها الحضارية والثقافية؛ لكشف‬ ‫سلبيات الواقع‪.‬‬

‫* * *‬

‫لقد بدأت الحداثة (‪ )modernism‬في الغرب مع نهاية‬

‫القرن التاسع عشر‪ ،‬واستمر حضورها الفاعل حتى منتصف‬

‫األربعينيات تقريبًا‪ ،‬وكانت بدايتها موازية لرفض الواقع الذي‬

‫وازاه إبداع يعتمد المحاكاة والمماثلة؛ ألن العقيدة الجمالية‬

‫ال شك أن هذه التحوالت كانت بمنزلة تمهيد لمرحلة‬

‫وكانت مالمح هذه المرحلة آخذة في التجلي منذ منتصف‬

‫الثقافية حتى زمن التسعينيات‪ ،‬ويؤرخ بعض المختصين‬ ‫(دريدا) عن تجدد المعنى النصي مع كل قراءة‪ ،‬بل نظر إلى‬

‫القراءة الجديدة بوصفها تفسي ًرا آخر للنص‪ ،‬مع صعوبة‬ ‫الوصول إلى المعنى النهائي (الذي يحسن الوقوف عليه)‬

‫–كما يقول البالغيون العرب‪ -‬وتبع ذلك فك االرتباط بين‬ ‫اللغة ومرجعها الخارجي والمعجمي‪ ،‬ومن ثم ساد (الشك‬ ‫واالختالف واإلرجاء)؛ ليكون ذلك كله عالمة واضحة على‬

‫مرحلة ما بعد الحداثة‪.‬‬

‫ولم يكن النص بعيدً ا من هذه التحوالت‪ ،‬التي الحقت‬

‫كثي ًرا من المقوالت التي تنتمي له‪ ،‬والتي أخذت مكانة‬

‫شبه مقدسة تبعً ا لبعدها الزمني واإلبداعي‪ ،‬وفي مقدمتها‬ ‫ً‬ ‫حقوقا قبله‪ ،‬كما لم‬ ‫مقولة (المعنى)؛ إذ لم ي ُِعد للمتلقي‬ ‫ً‬ ‫شروطا ومواصفات (سابقة التجهيز)‪،‬‬ ‫يَعُ د النص يتقبل‬

‫الحداثية ترى أن لإلبداع عالمه الخاص‪ ،‬وخصوصيته تكمن‬

‫فالنص صاحب الحق الشرعي في إنتاج مواصفاته‪ ،‬وتحديد‬

‫الشؤم من ناحية‪ ،‬وتفككت عناصر الواقع المركزية من‬

‫المفرغ دالليًّا‪ ،‬والسير في الطرق غير المعبدة‪ ،‬والتعامل‬

‫في تنافيه مع هذا الواقع‪ ،‬ومع هذا التنافي‪ ،‬ازدادت مالمح‬

‫شروطه‪ ،‬وتبعً ا لذلك أوغلت النصية في التحليق في األفق‬

‫‪61‬‬


‫دراسات‬

‫مع غير المعقول أو المنطقي‪ ،‬يستوي في ذلك النص‬ ‫الشعري والنثري‪.‬‬

‫ولم يكن السرد بعيدً ا من كل هذه التحوالت المتسارعة‪،‬‬

‫فقد اغتالت (الحداثة وما بعد الحداثة) كثي ًرا من خواصه‬

‫الفارقة؛ إذ غاب (الخط األفقي) الذي يحكم مسيرة السرد‬ ‫الحكائية‪ ،‬وغاب الربط بين الوقائع واألحداث والشخوص‬

‫منطقيًّا وسببيًّا‪ ،‬ولم تعد النتائج مرتبطة بمقدمات تحتمها؛‬ ‫أي أن النصية وقفت على مسافة التحدي من الموروث النقدي‪،‬‬

‫وتبعً ا لذلك تعددت المسارات األفقية والرأسية‪ ،‬وتعددت‬

‫الحكايات في النص الواحد وتداخل بعضها في بعض‪ ،‬وهو ما‬ ‫مأل النص بالفراغات الزمنية والمكانية والحدثية‪.‬‬

‫ويجب اإلشارة إلى أن هذه التحوالت قادت الحداثة إلى‬

‫(أزمة) مهدت لتردد مجموعة من المصطلحات التي تكاد‬ ‫تربط بين الحداثة وما بعد الحداثة‪ ،‬وهي المصطلحات‬

‫التي حددها الباحث األميركي (راؤول إيشلمان) وترجمتها‬

‫الباحثة (أماني أبو رحمة)‪ :‬الحداثة العائدة – الحداثة الزائفة‬ ‫– الحداثة اآللية – الحداثة المغايرة – الحداثة الرقمية –‬

‫جاك دريدا‬

‫الحداثة الفائقة – الحداثة األدائية‪ ،‬ويبدو أن المصطلح‬

‫األخير هو أقربها لمرحلة (بعد ما بعد الحداثة)‪.‬‬

‫‪62‬‬

‫* * *‬

‫وافر من السخرية‪ ،‬أي أنها أصبحت‪( :‬محاكاة ساخرة)‪،‬‬

‫ومعها دخل الزمن سيولة غيبت ثالثيته الخالدة‪( :‬الماضي –‬

‫إن المالحظ أن مرحلة الحداثة حرصت على إحداث نوع‬

‫الحاضر – اآلتي)‪ ،‬ثم تدخلت (التفكيكية) ساعية إلى طمس‬

‫اإلنساني خالل الحربين العالميتين‪ ،‬وهو انفالت سيطرت‬

‫من عمقها الزمني؛ مثل ثنائيات‪( :‬المحسوس والمعقول‪،‬‬

‫من التوازن مع الواقع العام‪ ،‬وبخاصة في زمن االنفالت‬

‫عليه غيبوبة العقل والمنطق‪ ،‬وشاعت فيه العدوانية‪،‬‬ ‫وكانت مالمح هذا التوازن في استعادة اإلبداع لالنسجام‬ ‫الداخلي الذي يعمل على أن يستعيد اإلنسان إنسانيته أولاً ‪،‬‬

‫ومن ثم يستعيد العالم هذا االنسجام اإلنساني ثانيًا‪.‬‬

‫مجموع الثنائيات الوجودية التي اكتسبت قدرًا من القداسة‬ ‫والحضور والغياب‪ ،‬والدال والمدلول‪ ،‬واألدب والنقد‪،‬‬

‫والذكورة واألنوثة)‪ ،‬وكان البديل الطارئ‪( :‬اللعب الحر)‪.‬‬

‫معنى هذا أن الحداثة استهدفت استعادة النظام في‬ ‫مواجهة النزعة التدميرية‪ ،‬ثم جاء ما بعد الحداثة محاولاً‬

‫وعلى هذا التأسيس اتجه إبداع الحداثة إلى اإليغال‬ ‫في الحقائق المعرفية اإلنسانية؛ لتكون بديلاً من (العَ َرض)‬

‫المرحلتين إلى بداية التسعينيات تقريبًا‪ ،‬وكان هذا الجدل‬

‫الحربين العالميتين‪ ،‬وكان لكل فعل رد فعل‪ ،‬قد يكون‬

‫الحداثة)‪ ،‬وكان ظهورها في الوعي اإلنساني ً‬ ‫نوعا من مقاربة‬

‫الزائف الذي ش ّوه اإلنسان في زمن الصراع التدميري خالل‬ ‫إيجابيًّا‪ ،‬وقد يكون سلبيًّا‪ ،‬ويبدو أن السلبية في هذا االتجاه‬ ‫تمثلت في تغلب االنشغال المعرفي على الذائقة الجمالية‪،‬‬

‫أو لنقل‪ :‬إنها أزاحت النسق الجمالي إلى الهامش‪ ،‬ولعل هذا‬

‫كان أحد دوافع إبداع ما بعد الحداثة إلى استعادة الجمالي‬ ‫وفق شروطه‪ ،‬ال وفق شروط سابقة التجهيز‪ ،‬دون أن ينفي‬

‫ذلك الموقف المتحفظ للحداثة وما بعـدها علـى (المعنى)‬ ‫على وجه العموم‪ .‬ويمكن القول‪ :‬إن هذا التحفظ على‬

‫المعنى ربط إبداع الحداثة وما بعدها (باللحظة الراهنة)‪،‬‬

‫وتبع ذلك مقاربته (للمحاكاة) مرة أخرى‪ ،‬مع إشباعها بقدر‬ ‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬

‫تقويض هذا النظام‪ ،‬واستمر الجدل المعرفي والواقعي بين‬ ‫التبادلي ممهدً ا لمرحلة جديدة‪ ،‬هي مرحلة‪( :‬بعد ما بعد‬ ‫الحسم؛ إلنهاء التذبذب الذي سيطر على ثالثة أزمنة‪( :‬ما‬

‫قبل الحداثة – الحداثة – ما بعد الحداثة)‪ ،‬وهو ما يمكن‬ ‫إيجازه في عناصر محددة‪( :‬الحداثة) معها النظام والتجديد‬ ‫المنضبط‪( ،‬ما بعد الحداثة) (المحاكاة الساخرة) ثم‪( :‬بعد‬

‫ما بعد الحداثة)‪ ،‬ومعها تعددت اإلحاالت‪ ،‬والتعارضات‪،‬‬ ‫والتداخالت النصية‪ ،‬وارتباط المجاز بالتداول الحياتي‪،‬‬

‫واتساع الفضاءات النصية‪.‬‬

‫* * *‬

‫إن الفواصل الزمنية التي ارتبطت بها‪( :‬الحداثة‪ ،‬وما‬


‫مناهج الحداثة والتراث العربي‪ ..‬العرب نقلة ال مبتكرون‬

‫تحوالت الغرب رد فعل للتحول الحضاري‬ ‫والثقافي‪ ،‬بينما التحوالت العربية مجرد‬ ‫نقل لتحوالت الغرب‬

‫ٍّ‬ ‫متلق – جهاز‬ ‫نظرية رباعية الركائز‪( :‬مصدر إنتاج – رسالة ‪-‬‬

‫كمبيوتر) وهذا األخير يمتلك قدرات تخزينية وإنتاجية هائلة‪،‬‬ ‫ويمتلك إمكانات فكرية وعملية تتيح له التدخل والمشاركة‬

‫عند االستدعاء‪ ،‬بل إنه قد يمارس هذا التدخل دون‬ ‫ً‬ ‫شريكا مركزيًّا في نظرية االتصال‪،‬‬ ‫استدعاء‪ ،‬أي أنه أصبح‬ ‫وهي مشاركة لها مخاطرها في تهميش مصدر اإلنتاج‪ ،‬وقد‬

‫بعد الحداثة‪ ،‬وبعد ما بعد الحداثة) تكاد تكون فواصل‬

‫يدفعه هذا التهميش إلى نوع من السلبية اعتمادًا على أن‬

‫بعد الحداثة) كان في زمن التسعينيات من القرن الماضي‪،‬‬

‫استكمال الناقص‪ ،‬واستحضار الغائب‪ ،‬وتعديل المعوج‪،‬‬

‫تقديرية‪ ،‬ال تخضع للحسم الرقمي‪ ،‬وما جد في (بعد ما‬ ‫ويمكن القول‪ :‬إن (الزمن) فيها أصبح زمن السرعة التي تكاد‬

‫ال تدرك؛ إذ أصبحت السرعة تفوق قدرة اإلبداع والنقد على‬ ‫المالحقة‪( ،‬فالثانية) أصبحت الوحدة الزمنية التي يقاس بها‬

‫الوجود‪ ،‬بل إن الزمن دخل فيما يسمى (الفيمتو ثانية)‪ ،‬وهو‬ ‫ما أعجز اإلنسان عن مالحقة التحوالت والمواقف والتقنيات‬ ‫واآلالت‪ ،‬وكل ما استوعبه أصبح من ذاكرة الماضي‪ ،‬وإن‬ ‫عليه أن ينظر ما تأتي به (الثانية) القادمة‪ ،‬فهو في حالة‬

‫انتظار وترقب ال تتوقف‪.‬‬

‫في هذا الزمن تداخلت األعراف والتقاليد‪ ،‬وأخذت‬

‫الفروق النوعية والجنسية في الذوبان‪ ،‬ووصل هذا التداخل‬

‫ذروته في كسر الحاجز بين ثنائـية (اإلنسان والحيوان)‪،‬‬ ‫ومن توابعه تكاثر الجماعات المطالبة بحقوق الحيوان‬

‫على نحو شبيه بالدعوة التي تتبناها جماعات الدفاع عن‬ ‫حقوق اإلنسان‪ ،‬ثم اجتمعت الدعوتان السابقتان في مقولة‬

‫واحدة‪ ،‬هي‪ :‬الحفاظ على حقوق (الكائنات الحية)‪.‬‬

‫ثم امتد ذوبان النوعية إلى ثنائية‪( :‬اإلنسان واآللة)‪،‬‬

‫مفيدة من منجزات العلم الحديث فيما وصل إليه من إنتاج‬

‫(اإلنسان اآللي) الذي امتلك قدرات تفوق قدرات اإلنسان‬

‫جهاز الكمبيوتر يؤدي المهمة التي كان يقوم بها المبدع في‬ ‫أي أن الجهاز قد احتل مكان ومكانة المن ِتج؛ إذ إنه يقدم‬ ‫المعلومة المطلوبة وغير المطلوبة‪ ،‬ويقدم االحتماالت‬

‫الممكنة وغير الممكنة‪.‬‬

‫إن هذا المنجز العلمي فاق كل تصورات الخيال‪ ،‬وهو‬

‫ما يذكرنا بمنجزات سابقة كان لها تأثيرها الثقافي في المنتج‬ ‫اإلبداعي وغير اإلبداعي‪ ،‬وبخاصة في الخطاب السردي الذي‬ ‫ضم بعض الحوارات التي ال يحضر أطرافها في الخطاب‪،‬‬ ‫وإنما تحضر عن طريق (الهاتف)‪ ،‬ومعها ظهرت (الرسائل‬

‫البرقية) و(البريد السريع) و(الفاكس)‪ ،‬وكان لكل ذلك تأثير‬ ‫في زمنها يوازي تأثير (الفضاء اإللكتروني) و(النت)‪ ،‬مع‬

‫الفارق بين هذه وتلك‪.‬‬

‫لقد استحوذت هذه األجهزة على كثير من حقوق اللغة‬

‫المنطوقة والمكتوبة‪ ،‬وأصبح من المألوف أن يجمع الخطاب‬ ‫ً‬ ‫السردي بين شخوص متباينة ً‬ ‫ومكانا‪ ،‬وشخوص ربما لم‬ ‫زمانا‬

‫تتقابل أبدً ا‪ ،‬ولم يكن بينها عالقة ما‪ ،‬وبرغم ذلك تتحاور وتتبادل‬ ‫الرأي والفكر‪ ،‬بل تتبادل التأثير والتأثر دون مواجهة مباشرة‪.‬‬

‫* * *‬

‫ومن المهم أن نشير إلى أن ذوبان النوعية في مرحلة (بعد‬

‫الحي الجسدية والعقلية‪ ،‬وهذه الثنائية ساعدت زمن (بعد‬ ‫ما بعد الحداثة) على الوصول إلى الثنائية األخيرة –مؤق ًتا–‬

‫سبق اإلشارة إلى هذا المصطلح‪ ،‬وتأتي أهمية اإلشارة إليه من‬

‫بمنجزاته الخارقة وصل إلى تصنيع األعضاء البشرية‪ ،‬وتصنيع‬

‫مسبوق‪ ،‬وهنا ال بد أن نسترجع بعض مقوالت مرحلة (ما بعد‬

‫لتذويبها‪ ،‬وهي ثنائية‪( :‬الطبيعي والصناعي)؛ إذ إن العلم‬

‫األنوثة والذكورة‪ ،‬و(الجمال المصنع)‪ ،‬و(الرشاقة المصنعة)‪،‬‬ ‫و(المطر الصناعي)‪ ،‬و(الزهور والجواهر الصناعية)‪ ،‬وتصنيع‬

‫الجمادات والمزروعات‪ ،‬وتصنيع العقول اآللية الحاسبة‬ ‫والمفكرة بقدرتها التخزينية الهائلة‪.‬‬

‫ما بعد الحداثة) وصل إلى ما يسمـى (الحداثة الرقمية)‪ ،‬وقد‬

‫تأثيره البالغ في النصية األدبية؛ ألنه عدل فيها على نحو غير‬ ‫الحداثة) وبخاصة مقولة‪( :‬النص المفتوح والنص المغلق)‪،‬‬

‫ويهمنا هنا أن نستعيد مقولة (النص المفتوح)؛ إذ كان المقصود‬ ‫منه‪ :‬انفتاح النص على تعدد النواتج الداللية‪ ،‬ثم خضوع هذه‬

‫النواتج لالحتمال والشك والتأجيل‪ ،‬وهو ما يغاير مفهوم‬

‫ومع ظاهرة التصنيع تأثر كثير من القضايا النظرية‬

‫االنفـتاح مع (الحداثة الرقمية)؛ ألن االنفتاح فيه يعني (تعدد‬

‫فهي –في جوهرها– تعتمد ثالث ركائز‪ :‬مصدر اإلنتاج –‬

‫العالمية) (اإلنترنت)‪ ،‬يقدم المؤلف نصه للقراء‪ ،‬سواء أكان‬

‫التي تتعلق بالخطاب النقدي؛ مثل‪( :‬نظرية االتصال)‪،‬‬

‫الرسالة– المتلقي‪ ،‬صارفين النظر عن (الموضوع والكود)‬ ‫فهما داخالن في الركائز السابقة‪ ،‬والذي أراه أن نظرية‬

‫االتصال قد تم تعديلها جوهريًّا من نظرية ثالثية الركائز‪ ،‬إلى‬

‫المؤلف)‪ ،‬و(تعدد مستويات النص)‪ ،‬فعلى (شبكة االتصال‬ ‫النص شع ًرا أم نث ًرا‪ ،‬وهنا يتتابع القراء على هذا النص بالتعليق‬

‫تارة‪ ،‬واإلضافة تارة أخرى‪ ،‬وكل إضافة تنتمي إلى صاحبها‬ ‫بوصفها بصمة تعبيرية وثقافية له‪ ،‬وقد تتوافق مع النص‬

‫‪63‬‬


‫دراسات‬

‫األول‪ ،‬وقد تتنافر معه‪ ،‬أو تكون في حالة بين التوافق والتنافر‪.‬‬

‫معنى هذا أن الحداثة الرقمية ألغت على نحو ما (اإلبداع‬

‫التي تربط مظاهر التقدم الحضاري الراهن بالجذور األولى‪،‬‬ ‫ً‬ ‫شريكا في‬ ‫أي أن المرحلة استردت للتراث حقه في أن يكون‬ ‫لحظة الحاضر دون قطيعة‪ ،‬ودون هدم‪ ،‬ال بوصفه دخيلاً‬

‫البصمة التعبيرية‪ ،‬وإلى تعدد مستويات النص‪ ،‬سواء كان‬

‫المقوالت التراثية‪( :‬ال جديد لمن ال قديم له)‪ ،‬و(كل قديم‬

‫الفردي)‪ ،‬واستحدثت بديله في‪( :‬اإلبداع الجماعي)‪ ،‬وغياب‬ ‫الفردية‪ ،‬وسيطرة الجماعية يقود األدبية –تلقائيًّا– إلى غياب‬

‫التعدد على المستوى الصياغي‪ ،‬أو كان على المستوى‬ ‫الفكري والثقافي‪ ،‬وفي هذا وذاك يمكن أن تغيب الجمالية‬

‫البالغية‪ ،‬وهو ما يهدد النصية بالتخريب لحساب الذين‬ ‫تدخلوا في إنتاج النص رغمً ا عنه‪ ،‬ورغمً ا عن مبدعه األول‪.‬‬

‫كان جديدً ا في زمنه)‪ ،‬و(ال أبناء دون آباء)‪ ،‬وهو ما يمكن‬ ‫أن يساعد في أن تستعيد الجمالية والبالغية بكل بعديهما‬

‫التراثي والحداثي مكانتهما األدبية مرة أخرى‪.‬‬

‫ولعل كل ذلك يفسر لنا بعض التحوالت اإلبداعية‬

‫ً‬ ‫سياقا‬ ‫ويبدو أن (النصية الرقمية) قد أتاحت للمبدع‬

‫األخيرة؛ إذ مع استعادة االحترام للتراث‪ ،‬استعادت بعض‬

‫يحتاج إلى سنوات طوال‪ ،‬وتراكم إبداعي مستمر‪ ،‬وهو ما‬

‫النصية تحاصر الغموض‪ ،‬وتحوله إلى طبيعة شفافة‪،‬‬

‫(لالنتشار السريع)‪ ،‬ودخول هذا السياق –فيما سبق– كان‬ ‫يمكن أن يتيح ألنصاف الموهوبين‪ ،‬أو فاقدي الموهبة أن‬

‫يدخلوا سياق االنتشار الذي أسميه (االنتشار الكاذب المثل‬ ‫يمكن أن يتيح هذا المنجز العلمي لفاقدي المعرفة النقدية‬ ‫وغير المؤهلين أن يمارسوا عملاً نقديًّا‪ ،‬هو أشبه (بالغش‬ ‫الصناعي)‪ ،‬وقد ساعد على كل هذه السلبيات أن‬

‫معظم المتعاملين مع هذه التكنولوجيا هم‬

‫من أجيال الشباب وطلبة المراحل التعليمية‬

‫‪64‬‬

‫ً‬ ‫شريكا ممهدً ا‪ ،‬وربما يتوافق هذا مع‬ ‫غريبًا‪ ،‬وإنما بوصفه‬

‫المختلفة الذين لم تستحكم ملكاتهم ومواهبهم‬

‫األدبية والنقدية‪.‬‬

‫إن هذه اإلطاللة الموجزة على المراحل‬

‫الثالثة‪( :‬الحداثة – ما بعد الحداثة – بعد ما‬ ‫بعد الحداثة) يمكن أن تقفنا على موقف ثقافي‬ ‫معرفي تبنته كل مرحلة على نحو نسبي‪ ،‬وعلى‬ ‫نحو ظاهر حي ًنا‪ ،‬ومضمر حي ًنا آخر‪ ،‬وأقصد‬

‫هنا موقف هذه المراحل من (التراث) وكل من‬

‫عايش زمن (الحداثة)‪ ،‬وتابع مقوالت روادها‪،‬‬ ‫يدرك أن مقولها الحضاري كان (القطيعة مع‬ ‫التراث)‪ ،‬وأن (الحداثة انقطاع) أو (انفصال) أو‬

‫(ابتعاد) وترددت كثي ًرا على ألسنة الحداثيين‬

‫هذه المقوالت‪.‬‬

‫ثم جاءت مرحلة (ما بعد الحداثة) لتكون‬ ‫أكثر إيغالاً في هذا الموقف الثقافي؛ إذ أقامت‬ ‫فلسفتها الحداثية على (هدم التراث) أو الخالص‬

‫منه تمامً ا‪ ،‬وكأنه المبنى الخرب الذي يحتاج إلى‬

‫اإلزالة الفورية‪.‬‬

‫وكان لكل مرحلة من هاتين المرحلتين وجهة‬

‫نظرها‪ ،‬ومنطقها‪ ،‬وحججها‪ ،‬ثم كانت المفاجأة‬

‫في مرحلة (بعد ما بعد الحداثة) التي أهملت‬

‫المقولتين السابقتين‪ ،‬مؤثرة مقولة‪( :‬االنعكاس)‬ ‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬

‫التقنيات التي هجرها اإلبداع احترامها مرة أخرى؛ إذ أخذت‬ ‫واتجهت إلى (المجاز الحياتي)‪ ،‬واستعاد النسق السردي‬ ‫طبيعته المحفوظة في التسلسل والترابط‪ ،‬وحجّ م الفجوات‬ ‫الزمنية والمكانية‪ ،‬والءم بين الشخوص ووظائفها السردية‪،‬‬

‫ثم الءم بينها وبين مجمل الوقائع‪ ،‬مع اختصار تقنيات (علم‬ ‫ً‬ ‫حفاظا على النصية من تكاثرها المدمر‪ ،‬وهي تقنيات‬ ‫السرد)‬


‫مناهج الحداثة والتراث العربي‪ ..‬العرب نقلة ال مبتكرون‬

‫جاوزت خمسين تقنية الحقت الزمان والمكان والشخوص‬ ‫واللغة على نحو تفتيتي ال يقبله منطق اإلبداع‪ ،‬وال تقبله‬

‫الذائقة الفنية الجمالية‪.‬‬

‫* * *‬

‫إن مقولتنا عن استعادة التراث لبعض حقوقه الشرعية‬

‫تدعونا إلى التوقف السريع أمام بعض المناهج النقدية‬

‫الحداثية الوافدة؛ للكشف عن موازيها التراثي‪ ،‬على أن يكون‬ ‫في الوعي دائمً ا‪ :‬أن هناك مفارقة ضرورية بين ما تقدمه‬

‫الحداثة وما يقدمه التراث‪ ،‬نظ ًرا للسياق الحضاري والثقافي‬ ‫المغاير تاريخيًّا‪.‬‬

‫الحداثة استهدفت استعادة النظام‬ ‫في مواجهة النزعة التدميرية‪ ،‬ثم‬ ‫جاء ما بعد الحداثة محاو تقويض‬ ‫لاً‬ ‫هذا النظام‪ ،‬واستمر الجدل المعرفي‬ ‫والواقعي بين المرحلتين إلى بداية‬ ‫تقريبا‬ ‫التسعينيات‬ ‫ً‬

‫وربما كانت (األسلوبية) من أهم المناهج النقدية‬

‫ثم يخرج الباقالني على الموروث النقدي السابق عليه‬

‫في سبعينيات القرن الماضي‪ ،‬وإن كانت جذورها الوافدة‬

‫اإلعجاز القرآني‪ ،‬وكان خروجه قريبًا مما قدمته الحداثة‬

‫الوافدة‪ ،‬والتي فرضت سيطرتها على الخطاب النقدي العربي‬ ‫ترجع إلى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين‪،‬‬ ‫وتمثلت مالمحها في ثالثة مسارات‪:‬‬

‫أ – الصلة بين الشكل والفكرة المُ عبر عنها‪.‬‬

‫ب – الطريقة الفردية في بناء األسلوب‪.‬‬

‫ج – التعبير عن الفكرة بأفضل السبل التعبيرية‪.‬‬

‫ومع الستينيات جاءت (أسلوبية االنحراف)‪ ،‬ثم تبعها‬

‫انشطار األسلوبية إلى ثالثة مسارات‪:‬‬

‫أ – األسلوبية اإلنتاجية التي تربط األسلوب بمنتجه‪.‬‬

‫ب – األسلوبية التأثيرية والتي تربط األسلوب بمستقبله‪.‬‬

‫والذي وجد حرجً ا في ربط األسلوب بمنتجه عند القول في‬ ‫في مقولتها األثيرة‪« :‬األسلوب بصمة لصاحبه»؛ ذلك أن‬

‫الرجل اعتمد ربط األسلوب بمنتجه عندما ربطه (بالنطق‬

‫والخط)‪ ،‬فالنطق هو مجسد حركة المعنى داخليًّا‪ ،‬والخط‬ ‫هو مصورها المرئي(‪.)3‬‬

‫وتصل مباحث األسلوب في التراث إلى قمتها عند عبدالقاهر‬

‫الجرجاني في كتابيه‪( :‬دالئل اإلعجاز‪ .‬وأسرار البالغة)‪ ،‬ومتابعة‬ ‫الفكر األسلوبي في هذين الكتابين يحتاج إلى دراسة مستقلة‪،‬‬

‫ومن ثم أشير إلى بعض الركائز األساسية عنده‪:‬‬

‫أ – ربط األسلوب بنظريته في النظم؛ أي العالقات النحوية‬

‫ج – األسلوبية التعبيرية والتي تربط األسلوب بخواصه‬

‫التي تربط بين المفردات والجمل داخل السياق‬ ‫الكالمي‪ ،‬مجملاً ذلك في مقولته‪« :‬األسلوب الضرب‬

‫المركزية لكل هذه اإلجراءات األسلوبية في التراث العربي‪،‬‬

‫ب – ربط األسلوب بازدواجية الداخل النفسي المتمثل في‬

‫الصياغية(‪.)1‬‬

‫وقد آثرت هذا التفصيل‪ ،‬ولكي أكشف عن المشابهات‬

‫وال يسمح المجال باإلفاضة في ذلك‪ ،‬لكن المؤكد أن هناك‬ ‫أوجهًا كثيرة للتالقي بين الوافد الغربي والتراث العربي على‬ ‫مستوى التحديد المعرفي‪ ،‬وعلى مستوى اإلجراء التطبيقي‪،‬‬ ‫فعلى مستوى التحديد المعرفي‪ ،‬يقول الزمخشري (تـ ‪538‬‬

‫هـ)‪« :‬سلكت أسلوب فالن؛ أي‪ :‬طريقته وكالمه على أساليب‬

‫حسنة»(‪.)2‬‬

‫وعلى مستوى التقديم النظري نجد عند الباقالني‬

‫إشارات مبكرة عن األسلوب وأقسامه وصلته بصاحبه‪ ،‬يرى‬

‫من النظم والطريقة فيه» ‪.‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫الحركة الذهنية‪ ،‬والخارج المنطوق أو المكتوب بكل‬

‫تقنياته التعبيرية والتخييلية‪..‬‬

‫والحق أن متابعة التراث في األسلوبيات تكشف عن حضورها‬

‫الكثيف‪ ،‬ولكنه حضور مبعثر‪ ،‬ولم يتجمع في نيق مكتمل إال عند‬

‫حازم القرطاجني في كتابه (منهاج البلغاء) الذي عقد فيه منهجً ا‬

‫عن األسلوب‪ ،‬واستطاع أن يوفق فيه بين ما جاءه من عبدالقاهر‬ ‫الجرجاني‪ ،‬وما جاءه من أرسطو عن األسلوب‪.‬‬

‫الباقالني أن األسلوب قسمان‪ :‬األسلوب النفسي الداخلي –‬ ‫أي الفكرة – واألسلوب الخارجي – أي المنطوق أو المكتوب‪،‬‬

‫ثم يضيف إلى ذلك قسمين مهمين‪ ،‬هما‪:‬‬

‫أ – األداء الفني في الشعر والرسائل والخطب‪ ،‬وهي مجال‬ ‫الفصاحة والبالغة‪.‬‬

‫ب – األداء اليومي المألوف الدائر في المحاورات‪ ،‬ويتميز‬ ‫بشدة التفاوت؛ ألن التعمّ ل فيه قليل‪.‬‬

‫الهوامش‪:‬‬

‫‪ – 1‬انظر‪ :‬البالغة واألسلوبية – د‪ .‬محمد عبدالمطلب – الهيئة المصرية‬ ‫العامة للكتاب‪1984 ،‬م‪ ،‬ص ‪ 25‬وما بعدها‪.‬‬

‫‪ – 2‬أساس البالغة – الزمخشري – كتاب الشعب ‪1960‬م‪( ،‬سلب)‪.‬‬

‫‪ – 3‬إعجاز القرآن – الباقالني – تحقيق السيد أحمد صقر – دار المعارف‪،‬‬ ‫‪1963‬م‪ ،‬ص ‪.35‬‬

‫‪ – 4‬دالئل اإلعجاز – عبدالقاهر الجرجاني –قراءة شاكر– الخانجي‪1984 ،‬م‪،‬‬ ‫ص ‪.368‬‬

‫‪65‬‬


‫دراسات‬

‫الصوت‪ ..‬واألجراس‬ ‫أفق الحداثة من‬ ‫«العواد» إلى «العلي»‬ ‫علي الدميني‬ ‫شاعر وناقد سعودي‬

‫«كان العواد طالبًا يضيق به مقعد الدراسة كما يضيق به‬

‫أكثر مدرسيه؛ لجرأته وشذوذ فكره‪ ،‬وراحته مع الكبار!!»(‪.)1‬‬ ‫تمتد إمكانية «تعليق الجرس» من حالة العدم واالستحالة‬

‫‪66‬‬

‫حتى الضبابية إلى أن تصل إلى الحد الذي يمكن أن تتحول فيه‬

‫أي خطوة نمشيها في البيت أو الشارع أو مقعد الدراسة هي‬ ‫ً‬ ‫متسعا لكل‬ ‫محاولة لرفع ذلك الجرس‪ .‬وفيما يبدو الفضاء هنا‬ ‫إنسان لتجربة ذلك االحتمال‪ ،‬إال أن الفارق الوحيد بيننا ينهض‬ ‫من قدرة ذلك الفرد أو القلة من األفراد على إحداث الصوت‬ ‫ً‬ ‫إشارة إلى النجمة‬ ‫المختلف الذي يجعل من حمل األجراس‬ ‫البعيدة!‬

‫ولذلك يغدو الكالم عن هذه النجمة ـ «الحداثة» وروادها‬ ‫ً‬ ‫حديثا عن اإلشارة إليها وهي تل ّوح ببريقها لنا من‬ ‫في بالدنا‬

‫أعالي أمكنتها من دون أن تترجّ ل إلى وهادنا الصحراوية‬

‫العصي إليها‪.‬‬ ‫الشاسعة‪ ،‬ودون أن نمتلك الجرأة على الصعود‬ ‫ّ‬

‫ذلك أن الحديث عنها في واقع عربي ينتمي إلى عصور ما‬ ‫قبل الحداثة‪ ،‬والذي يتسم ويفتخر بسمات تغييب العقالنية‬ ‫وانعدام الحرية‪ ،‬وبعدم وجود المناخ الثقافي الضامن لنمو‬

‫الفرد وملكاته وحقوقه‪ ،‬وبتسييد ثقافة تحتفي بالنقل ضد‬ ‫العقل واالتباع من دون اإلبداع‪ ،‬سوف يغدو في أفضل أحواله‬ ‫ً‬ ‫حديثا عن نسبية مفهوم «الحداثة» التي يمكن أن يتبنى التفكير‬

‫في أسئلتها الجذرية فر ٌد أو أفراد ّ‬ ‫قلة من أمثال ذلك الطالب‬

‫المتسائل والمتمرد «محمد حسن عواد» أو«عبدالله القصيمي»‬ ‫أو «محمد العلي» ومن حضر بعدهم!‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬


‫وفي إطار هذه النسبية نستطيع أن نف ّرق بين مستويين من‬ ‫مستويات إمكانية «الرنو» إلى الحداثة وتب ّني أهم اشتراطاتها ـ‬

‫التي أنجزتها شعوب الغرب عبر أكثر من خمسة قرون ـ فاألول‬ ‫يقع ضمن حيّز الفضاء الفردي الخاص وتحديدً ا في تكوين البنية‬

‫الثقافية للفرد؛ ألنه ممكن نسبي تستجيب فيه الذات لجدل‬ ‫العالقة بالواقع الواسع الذي يتجاوز المحيط االجتماعي المكاني‬

‫إلى الواقع الثقافي الكوني برمته‪ ،‬أما الثاني‪ ،‬وهو األهم‪ ،‬فإنه‬

‫ال يتحقق إال على مستوى تبنيه من قبل مجتمع أو شعب من‬ ‫الشعوب وفي مختلف مجاالت الحياة السياسية واالجتماعية‬

‫والفكرية واإلبداعية‪ ،‬وهو ما دونه خرط القتاد!!‬

‫لكل هذا يمكن «لحامل األجراس» أن يرفع أسئلة الحداثة‬

‫حتى في واقعه المنغلق أو المعزول عن العالم‪ ،‬بيد أن صوته‬ ‫الذي يتغياه من هذه الحموالت المعرفية والتبشيرية سيظل‬

‫قليل األثر والتأثير في محيطه االجتماعي‪ ،‬بل إن صوته سيكون‬ ‫ً‬ ‫عرضة للقمع وبشراسة في أغلب األحيان؛ ألن شرط الحداثة‬ ‫كما يقول «كانت»ـ مرتبط جذريًّا بشروط الحرية!‬‫محمد حسن عواد (‪1979 – 1902‬م)‬

‫سيغدو ذلك الطفل المولود على عتبات القرن العشرين في‬ ‫عامه العشرين‪ ،‬حاملاً للمصباح واألجراس‪ ،‬في مجتمع يتخلف‬

‫عن أوربا بميراث أكثر من خمسة قرون من التحديث والتنوير‬ ‫ّ‬ ‫المتجذر في قلب الحداثة األوربية‬ ‫واإلبداع الفكري والفلسفي‬ ‫التي بدأت منذ اختراع الطباعة في منتصف القرن الخامس عشر‪.‬‬

‫وهذا الشاب الذي نعته أحد معلميه بالمتمرد والشاذ قد‬

‫حمل مبك ًرا بذرة التساؤل والشك والنقد والتمرد على واقعه‪،‬‬

‫وسيكون أحد النماذج التي تؤكد على قدرة اإلنسان الفرد‬

‫ـ حتى وهو في قفصه ـ على التحليق في اآلفاق حتى يصبح‬ ‫«برومثيوس» سارق النار‪ ،‬والمنصت للصوت الحضاري القادم‬

‫من األقاصي البعيدة من مجتمعه المحلي المنغلق على أوهام‬

‫الهوية والعطالة واالكتمال‪ .‬وسيرى في فكر األنوار وفيما أبدعه‬ ‫التقدم الصناعي من مخترعات‪ ،‬عقالنية ديكارت وحرية كانط‪،‬‬ ‫كما سيرى في مفهوم القوة لدى «نيتشه»‪ ،‬حف ًزا للصوت الذي‬

‫تبنى دق أجراسه في بيانه الشهير‪ ،‬كتاب «خواطر مصرحة»‪.‬‬

‫وقد قال عزيز ضياء عن هذا الكتاب‪« :‬العواد هو الكاتب‬

‫الوحيد الذي تميز بشجاعة األبطال‪ ،‬بل ليس من المبالغة في‬

‫شيء أن نقول بأنه الشجاع الوحيد الذي وضع رأسه على كفه‬

‫محمد حسن عواد‬

‫ليقول الكلمة التي لم يجرؤ أحد من (المجتمع) أن يقولها»(‪.)2‬‬

‫لقد كان الكتاب صرخة نقدية مدوية للواقع المزري لمجتمعه‪،‬‬ ‫ً‬ ‫واستنهاضا وجدانيًّا وثقافيًّا ً‬ ‫ً‬ ‫يقظا‬ ‫واستشرافا قويًّا للمستقبل‪،‬‬ ‫لبني قومه؛ لألخذ بكل أسباب الرقي الصناعي والحضاري‬

‫والفكري الذي تبناه الغرب‪.‬‬

‫معنى الصوت وفرادته‬

‫لكي نقف بشكل أكثر تحديدً ا على مضامين ما حمله الكتاب‬

‫وسواه من كتاباته‪ ،‬سنختار بعض العناوين الدالة على معنى‬

‫الصوت وفرادته في تلك المرحلة التي رافقت عقد اكتمال‬ ‫عهد وحدة المملكة على يدي الملك عبدالعزيز؛ إذ كانت تلك‬

‫الوحدة مصدر فخر واعتزاز للعواد وحلمه في بناء وحدة عربية‬ ‫كبرى أسماها «المنتجع الفسيح»!‬

‫‪ « -‬نحن في بدء ثورة فكرية هي ثورة الجديد على القديم‪،‬‬

‫والحرية على التقليد» ص ‪.26‬‬

‫‪« -‬عش ح ًّرا‪ ،‬كن مفك ًرا‪ ،‬اندفع إلى التقدم‪ ...‬هذه هي‬

‫دساتير الحياة العصرية التي يريدها منا الفكر اإلنساني العالي‪،‬‬

‫والتي هي آخر ما وصل إليه فكر اإلنسان من وضع سنن الحياة‬ ‫الكاملة بحذافيرها» ص ‪.57‬‬

‫‪« -‬إن التطور هو االنسالخ من الماضي‪ ،‬بما له وما عليه»‪.‬‬

‫‪« -‬نحن بحاجة لتعلم اللغات األجنبية» ص ‪.63‬‬

‫‪ -‬وفي مقالة بعنوان‪« :‬أيها المتشاعرون»‪ ،‬يوجه خطابه إلى‬

‫الشعراء المنخرطين في كتابة الشعر الشكالني ال في إبداعه‪،‬‬ ‫وتخميسا وتشجي ًرا قائلاً ‪« :‬نظم الشعر جميل‪ ،‬ولكن أين‬ ‫تشطي ًرا‬ ‫ً‬

‫‪67‬‬


‫دراسات‬

‫الشعر فيما تنظمونه أو تروونه؟ كل هذا أيها المتشاعرون صديد‬

‫الحقيقة‪ ،‬والنور خلق ليقضي على الجمود‪ ،‬وليضع حدًّ ا‬

‫إلى الشعر‪ ...‬وما الشعر إال روح شيطانية عاتية تأبى أن تسكن‬ ‫ً‬ ‫ألفاظا ومعاني‬ ‫هذه الخرائب البالية المحطمة‪ ...‬والشعر ليس‬

‫أن وظيفته هي أن يعلمنا الصوم والصالة واالعتكاف فحسب»‬

‫وقبس من التاريخ‪ ،‬ولمح ٍة من‬ ‫«بطرف من الفلسفة‪،‬‬ ‫‬‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫هائل من التفكير‪ ،‬يتكوّن األدب العصري‬ ‫وتيار‬ ‫العواطف‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬

‫ «تعليم المرأة س ّنة مدنية يجب أال يهملها الشرقيون»‬‫ّ‬ ‫«فكري‪ ،‬واكتبي‪،‬‬ ‫ص‪ ،117‬كما يقول في خطابه إلى المرأة‪:‬‬

‫فكري‪ ،‬وقيوء لو أنفق العمر أجمعه في مثلها لما وصل الناظم‬

‫فقط‪ ،‬وإنما الشعر أم ٌر آخر خلف األلفاظ والمعاني» ص ‪.46‬‬

‫الصحيح» ص ‪.116‬‬

‫‪« -‬أحسن وسيلة لتربية العقل هي التفكير بحرية‪ ،‬وعدم‬

‫قبول األشياء على عالتها» ص ‪.113‬‬

‫‪« -‬أتى الدين ليسدد خطوات اإلنسان‪ ،‬ويقوده إلى طريق‬

‫للتعصب العنصري‪ ،‬والغشاوة الفكرية‪ ،‬ويُنهض الروح من‬ ‫مَ بَارك كان معتقلاً فيها‪ ،‬فال يجب أن نشوّه سمعته‪ ،‬فنفهم‬ ‫ص ‪.114‬‬

‫ٌ‬ ‫مستقبل‬ ‫واقرئي‪ ،‬واستعدي‪ ،‬وتعلمي‪ ،‬ودعي التقليد‪ ،‬فأمامك‬ ‫ٌ‬ ‫حافل بما حملته إلى الشرق وإلى الغرب‪ ،‬وستحمله مدنية‬ ‫مثير‬ ‫القرن العشرين» ص ‪.56‬‬

‫‪ -‬يقول في مقدمة الطبعة الثانية للكتاب‪« :‬إن األساس الذي‬

‫بني عليه هذا الكتاب ‪-‬بجزأيه‪ -‬ليس هو تطوير فن الكتابة وحده‪،‬‬

‫فهذا بعض جوانب األساس‪ ،‬ولكن هو الخلق‪ ..‬اإلبداع‪ ..‬إبداع‬

‫يمكن «لحامل األجراس» أن يرفع أسئلة‬ ‫الحداثة حتى في واقعه المنغلق أو‬ ‫المعزول عن العالم‪ ،‬بيد أن صوته الذي‬ ‫يتغياه من هذه الحموالت المعرفية‬ ‫والتبشيرية سيظل قليل األثر والتأثير‬

‫‪68‬‬

‫في محيطه االجتماعي‬

‫الواقع وخلق المستقبل عن طريق فن الكتابة وفن التفكير‪ .‬وأنا‬ ‫أستعمل كلمة «خلق» هنا وأكررها عمدً ا وأضغط عليها للفت‬ ‫نظر المعنيين باإلصالح من والة األمور العامة‪ ،‬والمعنيين من‬

‫حملة األقالم الجريئة‪ ،‬إلى وجوب تحطيم الوهم القائل «ليس‬

‫باإلمكان أبدع مما كان»(‪.)3‬‬

‫هذه العناوين وتفصيالت مضامين مقاالتها‪ ،‬تعيننا‬

‫على رؤية حامل األجراس وهو يقرعها بعنف؛ ليصل صدى‬

‫أصواتها إلى من حوله‪ ،‬ناطقة بلسان فصيح بأن طريق الرقي‬

‫حامل مشعل التنوير‬ ‫على الرغم من محاصرة الضوء الذي حمله العواد وبعض أقرانه‪ ،‬ورغم كل ما عاناه من القوى المحافظة والمهيمنة في‬

‫كافة أبعادها‪ ،‬إال أنه واصل العطاء ‪-‬في حدود ما سمحت به الظروف والتحديات‪ -‬بالروح الوثابة نفسها‪ ،‬كحامل لمشعل‬

‫النهضة والتنوير والرن ّو إلى آفاق الحداثة الشعرية في بالدنا؛ إذ عمد في جهده النقدي األدبي إلى تعميق معنى الشعر‪ ،‬وارتباطه‬

‫بالوجدان الثقافي والفني للمبدع‪ ،‬بغض النظر عن قوالب التعبير اإليقاعية عن تلك الحالة الشعرية؛ إذ يقول في مقدمة ديوانه‬

‫«األفق الملتهب»‪« :‬طبيعة الشعر تتصل بالروح والنفس وما فيها من أفكار ومشاعر وخلجات‪ ،‬وهذه أشياء داخلية‪ .‬أما طبيعة‬ ‫العروض فتتصل بالعمليات الفنية الخارجية التي تباشر قوالب الشعر وليس الشعر ذاته‪ ،‬وهذه العمليات هي أساليب لنظم‬ ‫الشعر‪ »...‬إلى أن يقول‪« :‬ليس بالالزم أال يكون الشعر إال منظومً ا»(‪.)6‬‬

‫ّ‬ ‫الجدة‬ ‫إن هذه اآلراء النقدية األدبية حول مفهوم الشعر تتسق مع تكوين ثقافة وتطلعات هذا المثقف الرائد والباحث عن‬

‫واالبتكار واإلبداع في مختلف اآلفاق‪ ،‬حيث يغدو هنا مشر ًّعا لكسر حصر الشعرية في النمط الشعري الموروث‪ ،‬حين يمضي‬

‫باتجاه اإلمساك بالشعرية الكامنة خلف الوزن والقافية وعمود الشعر‪ ،‬التي يمكن أن نجدها في أي إبداع شعري‪ ،‬يمتد من‬ ‫القصيدة العمودية إلى قصيدة التفعيلة‪ ،‬وحتى قصيدة النثر التي رأى أنها تنطوي على إيقاعها الشعري الداخلي!‬ ‫ً‬ ‫طريقا نهضويًّا صوب آفاق الرقي والحرية واإلبداع‪ ،‬وقد بقي لنا من مسيرته الطويلة صدى صوته المدوي‬ ‫لقد اختط العواد‬

‫الذي خنقته الظروف والمؤسسات‪ ،‬بيد أن هذه االنشغاالت الجليلة ًّ‬ ‫حقا وما رافقها من تحديات‪ ،‬قد جعلت من القصيدة عنده‬ ‫ً‬ ‫لبث خطاب «الرسالة» من دون العمل على تطوير شعرية النص‪ً ،‬‬ ‫فضا ًء ّ‬ ‫وصياغة وعذوبة شعرية‪ ،‬فغلبت على قصائده‬ ‫لغة‬

‫حموالت الرسالة التنويرية األقرب إلى التقريرية المباشرة‪ ،‬بما أدى إلى حرماننا من أن يكون أحد آباء حداثتنا الشعرية الفاعلة!(‪.)7‬‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬


‫الصوت‪ ..‬واألجراس أفق الحداثة من «العواد» إلى «العلي»‬

‫والتقدم ينطلق من ثورة فكرية تسعى لتسييد‬

‫كمثقف طليعي ينشد أسباب القوة لكيان األمة‪،‬‬

‫ثقافة الوهم‪ ،‬وحرية الفرد وتعبيره وتفكيره ضد‬

‫وال يضير العواد أن تفجّ رت رغباته العميقة في‬

‫العقالنية ضد الخرافة‪ ،‬والمعرفة العلمية ضد‬

‫عبر انهمامه بموضوعة االتحاد العربي‪.‬‬

‫التحرر من قيد الوزن بعد أن قرأ ًّ‬ ‫نصا عاديًّا لشاعر‬

‫القمع‪ ،‬وحرية اإلبداع الجديد ضد السائد والنمط‬ ‫المستهلك‪ ،‬وضد االتباع والتقليد!‬

‫وحين نمد هذه العناوين إلى جذورها‬

‫العميقة في الفكر والحقوق واإلبداع واالجتماع‪ ،‬سنرى أنها‬ ‫تتقاطع ‪-‬على بساطتها هنا‪ -‬مع أهم مرتكزات «الحداثة» القائمة‬

‫على العقالنية والحرية‪ ،‬وكيان الفردانية وحقوقها‪ ،‬وفي الثورة‬ ‫على النمط واالتباع في اإلبداع‪ .‬وحيث نرى ‪-‬من منظور زمني‬ ‫ومعرفي مختلف‪ -‬أن متون هذه العناوين تفتقر إلى العمق‬

‫المعرفي والمنهجي‪ ،‬فإنها في لحظتها التاريخية تلك ستكون‪-‬‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫وتشوفا مبكرين صوب آفاق الحداثة‪ ،‬وقد‬ ‫نزوعا‬ ‫رغم كل شيء‪-‬‬ ‫استق ّرت في كيان هذه الذات المتمردة!‬

‫عزيز ضياء‬

‫عراقي مجهول رمز السمه بـ«ب‪.‬ن»؛ ألن العواد‬

‫أكد هذه الرغبات الطموحة والمتجاوزة للسائد‬ ‫في كتابه وعناوينه التي أشرنا إليها ً‬ ‫آنفا‪ .‬هذا السبق التاريخي قد‬

‫ً‬ ‫ّ‬ ‫وتشك ًكا لدى بعض الباحثين‪ ،‬ومنهم الدكتور‬ ‫اختالفا‬ ‫أحدث‬ ‫عبدالله الغذامي‪ ،‬ولكن الدكتور محمد الصفراني الناقد األدبي‬ ‫والباحث الجاد قد ّ‬ ‫وثق هذا السبق التاريخي للعواد في كتابة‬

‫شعر التفعيلة‪ ،‬في بحث عميق بالعنوان نفسه ‪.‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫وقد القت هذه التجربة الجديدة لكتابة الشعر الحر صدى‬

‫واسعً ا في الوسط األدبي في الحجاز؛ حيث تصادى معها عدد‬ ‫من الشعراء منهم‪ :‬عبدالوهاب آشي‪ ،‬ومحمود عارف‪ ،‬وعباس‬

‫حلواني‪ ،‬ومحمد علي باحيدرة‪ ،‬وحمزة شحاتة‪ ،‬ومحمد حسن‬

‫شهادة من أبرز المنافسين‬

‫فقي‪ ،‬وسواهم‪ .‬وقد جمع محمود عارف كل تلك القصائد في‬

‫لعل من أهم الشهادات التي عبر عنها أحد أبرز مجايليه‬

‫مسودة كتاب مخطوط بعنوان «نفثات ح ّرة»؛ إذ باركها وتفاعل‬

‫الكتاب‪« :‬والذين يعطون العواد صفة «الشعلة االجتماعية» أو‬

‫العمودي‪ ،‬ومحمد سرور الصبّان‪ ،‬وعبدالله فدا‪ ،‬واستعد‬

‫من المنافسين والمحبين في آن‪ ،‬هو ما قاله عزيز ضياء عن هذا‬ ‫من يعتبرونه حامل شعلة رسالة اجتماعية أكثر من كونه شاع ًرا‬

‫ينصفونه ويضعونه في المكانة الرفيعة التي استحقها عن جدارة‪..‬‬ ‫وكتابه «خواطر مصرحة» كان أشبه بقنبلة‪ ،‬ال أدري شخصيًّا‬

‫كيف استطاع طباعته ونشره‪ .‬وذلك في حد ذاته معجزة لم‬ ‫يسبق لها مثيل‪ ،‬ولم تتكرر حتى اليوم‪ .‬وليس في أسلوب الكتاب‬ ‫ما يُنظر إليه كإبداع أو عمل فني متميز‪ ،‬ولكن الموضوعات التي‬

‫عالجها –وبصراحة‪ -‬هي التي استوقفت األنظار‪ ،‬وزلزلت السطوح‬ ‫الراكدة والعقول الغافية أو الخامدة‪ ...،‬وكان العواد فتى فقي ًرا‬ ‫جدًّ ا‪ ،‬ولكنه اكتشف ما وراء ذلك الواقع البائس من غد‪ّ ،‬‬ ‫فألف‬ ‫كتابه وطرحه في األسواق (س ًّرا) وقد بلغ من شجاعته أن أص ّر‬

‫على كل كلمة قالها وكانت مما يجب أن يقال‪ ...‬إلى آخر الشهادة‬ ‫المثبتة بكاملها في مجلة النص الجديد‪.‬‬

‫(‪)4‬‬

‫ورغم كل ذلك فقد استمر العواد في قرع أجراسه التنويرية‬ ‫في الكثير من المجاالت‪ .‬وفي عنفوان ثورته على القديم شكلاً‬

‫ً‬ ‫ومضمونا ذهب مبك ًرا في استهداف تحطيم «رمزية» اإللف‬

‫واالعتياد والنمط السائد‪ ،‬بكسر العمود الشعري بكل أركانه‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مختلفا حين نشر‬ ‫خلقا شعريًّا‬ ‫البالغية المهيمنة؛ ليبتكر‬

‫قصيدتيه من الشعر الحر في صحيفة القبلة عام ‪1921‬م‪ ،‬وهما‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫يهراق دم»‪ .‬وفيهما كان‬ ‫«تحت أفياء اللواء»‪ ،‬و«نطلب الع ّزة أو‬ ‫ً‬ ‫سابقا لمحمد فريد أبو حديد ولعلي أحمد باكثير‪ ،‬ناهيك عن‬

‫نازك المالئكة‪ ،‬وبدر شاكر السياب في الذهاب إلى كسر قيد‬ ‫ً‬ ‫وداللة بما عبّر به عما يمور في وجدانه‬ ‫النمط الشعري شكلاً ‪،‬‬

‫معها عدد من أدباء تلك المرحلة‪ ،‬منهم‪ :‬عمر عرب‪ ،‬وسعيد‬ ‫الصبان لطباعتها على نفقته الخاصة ‪.‬‬ ‫(‪)5‬‬

‫غير أن القوى المحافظة‪ ،‬متجلببة بالتقاليد الموروثة‬

‫والمقدس لم تترك لحامل األجراس فسحة كافية ليصل صدى‬ ‫صوته إلى محيطه‪ ،‬فتوقف الناشر عن طباعة تلك التجربة‬

‫الشعرية الرائدة‪ ،‬التي لو قيض لها الطبع واالنتشار لكنا قد‬ ‫مضينا على دروب اإلبداع والتجديد والحداثة الشعرية مبكرين‪،‬‬ ‫ً‬ ‫بعضا إن لم يكن كل العواصم الثقافية العربية في‬ ‫بل وسبقنا‬

‫هذا المجال؛ إذ كان مقدرًا للتجربة أن تفتح األذهان على الخلق‬

‫الجديد في مختلف مجاالت الحياة في بالدنا‪ ،‬وبخاصة ما يتعلق‬

‫بفضاء الفن واألدب‪.‬‬ ‫هوامش‪:‬‬

‫(‪ )1‬د‪ .‬محمد الصفراني – السبق التاريخي لمحمد حسن عواد في كتابة‬ ‫شعر التفعيلة – المجلة العلمية لجامعة الملك فيصل – العدد ‪2‬‬

‫من عام ‪2010‬م‪.‬‬

‫(‪ )2‬حوار مع عزيز ضياء – مجلة النص الجديد – العدد الخامس– إبريل‬ ‫عام ‪1996‬م‪.‬‬

‫(‪ )3‬مرجع اإلحاالت إلى كتاب خواطر مصرحة – ضمن المجلد األول‬ ‫ألعمال العواد الكاملة – القاهرة ‪ -‬دار الجيل للطباعة – عام ‪1981‬م‪.‬‬

‫(‪ )4‬د‪.‬محمد الصفراني – المرجع بعاليه‪.‬‬

‫(‪ )5‬محمد حسن عواد – المرجع بعاليه‪.‬‬

‫(‪ )6‬د‪ .‬محمد الصفراني – المرجع بعاليه‪.‬‬

‫(‪ )7‬عبّر الشاعر عبدالكريم العودة عن ذلك في مقالة له بعنوان‪« :‬نحن‬ ‫جيل بال آباء» – مجلة اليمامة – عام ‪1980‬م‪.‬‬

‫‪69‬‬


‫دراسات‬

‫موجة ثالثة في الرواية السودانية‪..‬‬

‫روائيون شباب يكتبون رؤيتهم للعالم‬ ‫يقود الحراك الروائي مؤخرًا في السودان إلى مؤشرين مهمين بدآ‬

‫يميزان هذا الشكل السردي من األدب السوداني‪ .‬المؤشر األول‬ ‫كمي يحمل بدوره دالالت ثقافية وظواهر اجتماعية تتيح للمتتبع‬

‫للتحول االجتماعي في السودان مالحظة اتجاه شريحة عريضة‬ ‫من الشباب صوب نافذة الكتابة والفن في محاولة «اجتماعية ‪-‬‬

‫سياسية» للتعبير عن طموحاتهم ورؤاهم للعالم‪ .‬أما المؤشر‬

‫الثاني فكيفي‪ ،‬ومن خالله بإمكاننا التحدث عن بروز أصوات‬

‫‪70‬‬

‫وتيارات روائية جديدة‪ ،‬لها سمات الخصوصية من حيث التجربة‬ ‫ً‬ ‫تماسكا من‬ ‫واإلضافة‪ ،‬وهذه األصوات والتيارات تتخذ مسارًا أكثر‬ ‫المراحل السابقة لها في الكتابة الروائية في السودان‪ ،‬وذلك من‬ ‫حيث العوامل واألدوات والمعالجات الفنية والتوظيف اللغوي‬ ‫والتوجهات الموضوعية‪ ،‬ومن ثم اإلفالت من سياج األستاذية‬

‫المدرسية‪ ،‬والخوض في مغامرة الكتابة بحرية أكثر وجرأة أكبر‪.‬‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬

‫الصو ِّيم‬ ‫منصور ُّ‬ ‫روائي سوداني‬


‫التيارات السابقة‬

‫وصفه بالنقلة الشبيهة بالطفرة اإلبداعية والنقدية؛ إذ تميزت‬

‫يمكنني التحدث بثقة عن موجتين سابقتين في الكتابة‬

‫أغلب أعمال هذه الحقبة بالنضج الفني والثراء الموضوعي‪ ،‬وإن‬

‫لألدباء السودانيين في طرق هذا الشكل الجديد من الكتابة‬

‫‪ -‬مدرسي أو نقدي‪ ،‬وأبرز كتابها الطيب صالح «موسم الهجرة‬

‫الروائية السودانية‪ ،‬األولى شكلت اإلرهاصات والبدايات األولى‬ ‫وقتها‪ ،‬وأعني هنا بدايات سنوات الخمسينيات حتى أواسط‬

‫الستينيات من القرن الماضي‪ .‬فأعمال كتاب وكاتبات مثل‪ :‬خليل‬ ‫عبدالله الحاج «إنهم بشر»‪ ،‬وملكة الدار محمد أحمد «الفراغ‬ ‫العريض»‪ ،‬وأبوبكر خالد «الحائط القصير»؛ مثلت الموجّ ه‬

‫األول لما سيأتي بعدها من أعمال‪ ،‬وبالطبع تميزت كتابات هذه‬

‫المرحلة بتأثرها البين باألدب المصري‪ ،‬وبالميل نحو الرواية‬ ‫االجتماعية الرومانسية‪ ،‬ولكنها تجربة مهمة في عملية المخاض‬

‫السردي العنيف التي ستجتاح السودان بعد ذلك بنحو يزيد عن‬

‫نصف قرن من الزمان‪.‬‬

‫جاء ذلك في شكل أعمال متناثرة ال يربط بينها أي رابط جمالي‬

‫إلى الشمال»‪ ،‬وعيسى الحلو «أيها الوجه الجميل الالمرئي»‪،‬‬

‫ومحمود محمد مدني «جابر الطوربيد» وإبراهيم إسحاق صاحب‬ ‫أعمال «الليل والبلدة» و«مهرجان المدرسة القديمة»‪.‬‬ ‫الفراغ العريض‬

‫تكاد الحقبة التي أعقبت الموجتين األوليين قبل بروز‬

‫الموجة الثالثة أن توصف بالفراغ العريض‪ .‬فبعد األعمال المميزة‬ ‫للطيب صالح وعيسى الحلو وإبراهيم إسحاق خالل الستينيات‬

‫والسبعينيات من القرن الماضي‪ ،‬دخلت الرواية السودانية في‬

‫أما الموجة الثانية التي أصلت ألدب الرواية في السودان‪،‬‬

‫حاالت سبات طويل ربما امتد ألكثر من ربع قرن‪ ،‬مع وجود‬

‫بشكل متقطع ومحدود حتى أواخر ثمانينيات ذات القرن؛ لتليها‬

‫أمثال الدكتور بشرى هباني صاحب الرواية السيكولوجية البديعة‬

‫فبدأت منذ أواسط الستينيات في القرن الماضي‪ ،‬واستمرت‬ ‫بعد ذلك الموجة الثالثة والتفجيرية التي نلمس تأثيرها الحاد في‬ ‫األدب السوداني حتى اآلن‪ .‬فكتاب الموجة الثانية امتازوا بما يمكن‬

‫تيارات ثالثة تتالقى وتتقاطع في نقاط‬ ‫عدة؛ أهمها التأصيل األسلوبي الذي‬ ‫يحدث اآلن للرواية السودانية‪ ،‬ويؤسس‬ ‫بالتالي لنموذج خاص ج ًّدا من السرد‬ ‫الروائي المكتوب باللغة العربية‬

‫ومضات هنا وهناك‪ ،‬تمثلها أعمال منفلتة وأحادية لروائيين من‬

‫«مسرة» في الثمانينيات‪ ،‬وكاتب رواية «الزندية» إبراهيم بشير‪،‬‬

‫الذي نشر عددًا من الروايات المتميزة قبل أن يتوارى في فراغ‬

‫الثمانينيات وبداية التسعينيات العريض‪ ،‬ثمة تجارب أخرى‬ ‫تميزت باشتغالها على موضوعات ستطفو على السطح من جديد‬

‫خالل الموجة الثالثة؛ مثل‪ :‬الروائي مروان الرشيد الذي اشتغل‬ ‫على موضوع الهوية من منظور سردي «مندكورو»‪ ،‬والكاتب‬

‫صالح حسن أحمد الذي اغترف من التراث السوداني‪ ،‬وأنتج‬

‫ملحمة سردية تسائل الحاضر في جمالية موحية ومدهشة في‬

‫روايته «سن الغزال»‪.‬‬

‫‪71‬‬


‫دراسات‬

‫الموجة الثالثة وتشكل التيارات‬

‫وسياسيين وفقراء وأثرياء‪ ،‬وتوضح حالة الدمار‬

‫الموجة الثالثة‪ ،‬أو الموجة التفجيرية في مسيرة‬

‫التي أزهقت أرواح الجميع‪ .‬رواية «قصة آدم»‬

‫عقده التسعيني‪ ،‬واحتدمت واحتدت في العقد األول‬

‫مقاربة السياسي واالجتماعي سرديًّا بنجاح كبير؛‬

‫الرواية السودانية‪ ،‬بدأت مع نهايات القرن الماضي في‬ ‫من األلفية الجديدة‪ ،‬وتميزت هذه الحقبة بكثافة‬

‫اإلنتاج والنشر‪ ،‬وتعدد األسماء‪ ،‬وارتفاع مناسيب‬

‫للروائي عاطف عبدالله‪ ،‬التي أرى أنها استطاعت‬

‫إذ تمكن كاتبها في عرض بانوراما تعكس بشاعة‬ ‫الفساد والحرب‪ ،‬والتراجع والتقهقر الثقافي‬

‫االهتمام األدبي العام بالرواية كجنس سردي‬ ‫منفتح وقابل للتطويع من حيث االشتغال الفني‬

‫والجمالي والموضوعي‪ ،‬كما أنه الشكل األدبي‬ ‫األكثر طلبًا في السنوات األخيرة‪ ،‬في مجالي النشر‬

‫والترجمة‪ ،‬واالستحواذ اإلعالمي‪ ،‬إضافة إلى دخول الرواية في‬ ‫السودان أو خارجه إلى حلبة المسابقات ذات العائد المادي‬

‫الكبير‪ ،‬والنقلة اإلعالمية الضخمة لمن يحقق مكاسبها‪.‬‬

‫أهم ما ميز هذه الموجة عن سابقتيها هو انطالق كتابها من‬

‫ً‬ ‫إجماعا إلى‬ ‫منصات فكرية وإبداعية مختلفة ومتنوعة‪ ،‬وميلهم‬

‫كسر قيود المدرسية األدبية السائدة في السودان في المراحل‬ ‫السابقة لهم‪ ،‬فال أحد من كتاب هذه الموجة خرج من ورق‬

‫المالحق الثقافية للصحف الرسمية أو غير الرسمية‪ ،‬وال أحد‬ ‫منهم جاء ظهوره بتقديم من كاتب آخر (ع َّراب) سابق له‪ ،‬أو‬

‫‪72‬‬

‫مع صعود الخرافة والدجل وموجة الثقافة‬

‫الطيب صالح‬

‫االستهالكية مرفقة بكل قيمها السلبية في‬

‫الغناء والموسيقا‪ ،‬وكل شيء سوداني‬

‫وإنساني أصيل‪ ،‬كما أبدع كاتب الرواية في‬

‫خلق تناص مقلوب ما بين بطل روايته «آدم» وبطل رواية «موسم‬

‫الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح‪ ،‬فبينما تحترق روح مصطفى‬ ‫سعيد في غربته شمالاً خارج الوطن‪ ،‬يحترق آدم في وطنه بعد‬ ‫عودته من غربته التي كانت ً‬ ‫أيضا إلى الشمال‪ ،‬لكنه عاد منها‬ ‫سالمً ا؛ ليكتوي بنار العذاب والحريق في بلده السودان‪.‬‬ ‫روايات وأسماء‬

‫بال شك هناك روايات عدة يمكن ذكرها في هذا التيار‪ ،‬لكني‬

‫أكتفي هنا فقط باإلشارة إلى بعض األسماء المهمة للروائيين‪:‬‬

‫انتخب من داخل صالون أدبي أم درماني نخبوي أو أيديولوجي‪،‬‬

‫«أمير تاج السر‪ ،‬ومحمد الحسن البكري‪ ،‬ومحسن خالد‪ ،‬وآن‬

‫أن يتحول إلى نقطة تأسيسية لكل كاتب روائي جديد‪ .‬هذا ما‬

‫خير عبدالله‪ ،‬وعماد براكة‪ ،‬وعمر الصايم‪ ،‬وعماد البليك‪،‬‬

‫فما حدث يشبه التمرد الفوضوي الصادم في بداياته قبل‬ ‫يظهر عند فهمنا التفسيري لما تم توصيفه وقتها (بداية األلفية)‬

‫لدى النقاد المصدومين من سرعة وتيرة النشر الروائي بـ(حمى‬ ‫الرواية) أو حريقها‪ ،‬في محاولة للجم هذا التمدد المتسارع‪،‬‬ ‫وإعادة صكوك التعميد إلى مظانها القديمة‪( :‬الصحف‪،‬‬ ‫والصالون‪ ،‬واألستاذ‪ ،‬والناقد) دون االنتباه إلى التغيرات التقنية‬

‫والمعرفية الكبرى –ثورة االتصاالت واإلنترنت‪ -‬التي اجتاحت‬ ‫العالم‪ ،‬وأبدلت مفاتيح األشياء‪.‬‬

‫الصافي‪ ،‬وحمور زيادة‪ ،‬والزين بانقا‪ ،‬وسارة الجاك‪ ،‬ومحمد‬

‫ورانية مأمون‪ ،‬وهشام آدم‪ ،‬وكلتوم فضل الله‪ ،‬وأميمة‬ ‫عبدالله‪ ،‬وياسين سليمان»‪.‬‬

‫التيار الثالث المهم بين تيارات الموجة الثالثة للرواية‬

‫السودانية‪ ،‬هو تيار الرواية الشعرية والفلسفية‪ ،‬وهو بطبيعة‬

‫الحال تيار خافت وأقل ضجيجً ا من التيارين السابقين؛ البتعاده‬

‫نسبيًّا من القضايا المباشرة التي تالمس الناس‪ ،‬والنشغاله‬

‫بقضايا وإشكاالت سردية تتعلق بالتخليق اللغوي‪ ،‬والبناء الفني‬

‫أما من حيث السمات األسلوبية والفنية فيمكنني اإلشارة‬

‫والتخييل‪ ،‬وعلى الرغم من بعد األصوات المشتغلة في هذا‬

‫الرواية السودانية الحديثة‪ ،‬التيار األول ارتبط بقضايا السودان‬

‫مشاريعها اإلبداعية فإن صوتها وصورتها وصال للقارئ‪ ،‬وتعرف‬

‫إلى بروز ثالثة تيارات أساسية ميزت هذه المرحلة من تاريخ‬

‫االجتماعية والسياسية الملحّ ة‪ ،‬ورأى أن وسيلته الفضلى‬

‫التيار من األضواء‪ ،‬وتفضيلها االنزواء والعمل في صمت على‬ ‫على نماذج مهمة؛ أذكر منها الروائي محمد الصادق الحاج الذي‬

‫لمساءلتها ومناقشتها هي الرواية‪ ،‬فقضايا الحروب والنزوح‬

‫يهتم في أعماله إلى درجة كبيرة بالتخييل اللغوي‪ ،‬والتشييد‬

‫السودانية المنشورة مؤخ ًرا‪ ،‬ويمكن اإلشارة إلى بعض‬

‫تأطيره‪ ،‬كما في روايته المنشورة أخي ًرا «هيسبرا»‪ ،‬التي سيفشل‬

‫والتشرد والقمع؛ أصبحت سمة مالزمة ألغلب الروايات‬ ‫العناوين‪ :‬رواية «المجالس» لعبدالماجد عليش‪ ،‬وفيها تناول‬

‫بشكل توثيقي الفت التحلل الذي أصاب المجتمع السوداني‬

‫خالل السنوات الخمس والعشرين األخيرة‪ .‬رواية «‪ 7‬غرباء في‬ ‫المدينة» للروائي أحمد حمد الملك‪ ،‬وتتناول تأثيرات الحرب‬

‫األخيرة في دارفور وعلى مجمل السودان وكافة الناس قادة‬ ‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬

‫المعماري المراوغ والمنفلت تمامً ا عن أي محاولة لموضعته أو‬ ‫قارئها تمامً ا في أي محاولة لربطها بالواقع‪ ،‬فهي محض خيال‬

‫وابتداع لغوي يصل إلى حد الترف الجمالي‪ .‬روائي آخر اشتغل‬ ‫على اللغة مزاوجً ا لها مع الفلسفة‪ ،‬هو الروائي مازن مصطفى‬

‫صاحب رواية «عنقاء المديح المنمق» التي تصعب قراءتها على‬ ‫معتادي الشكل التقليدي من الرواية‪ ،‬حيث ال قصة أو حكاية‬


‫موجة ثالثة في الرواية السودانية‪ ..‬روائيون شباب يكتبون رؤيتهم للعالم‬

‫تروى في نسق واحد‪ ،‬إنما مجموعة أنساق لغوية وفلسفية‬

‫الذي يحدث اآلن للرواية السودانية‪ ،‬ويؤسس بالتالي لنموذج‬

‫تسميته بالرواية‪ ،‬ويشارك مازن في هذا األسلوب الروائي ناجي‬

‫عن نموذج الرواية العربية المنتشر والمبني على موضوعات‬

‫تطرح أسئلتها الجمالية سرديًّا في شكل اصطلح كاتبه على‬ ‫البدوي كاتب رواية «رومانس شجري»؛ إذ يوغل في براري‬ ‫اللغتين العامية والفصحى‪ ،‬وينحت لغته الخاصة التي ترهق‬

‫القارئ العادي‪ ،‬وتصدمه في ذات الوقت‪ ،‬على حين تهَب من‬

‫يصبر على إكمالها لذة ال متناهية‪.‬‬

‫هذه التيارات الثالثة‪ ،‬على الرغم من هذا البعد التصنيفي‬

‫فإنها تتالقى وتتقاطع في نقاط عدة‪ .‬أهمها التأصيل األسلوبي‬

‫الموجة التفجيرية في مسيرة‬ ‫الرواية السودانية بدأت مع نهايات‬ ‫القرن الماضي في عقده التسعيني‪،‬‬ ‫واحتدمت واحتدت في العقد األول‬ ‫من األلفية الجديدة‪ ،‬وتميزت بكثافة‬ ‫اإلنتاج والنشر وتعدد األسماء‪ ،‬وارتفاع‬ ‫مناسيب االهتمام األدبي العام‬ ‫بالرواية كجنس سردي منفتح‬

‫خاص جدًّا من السرد الروائي المكتوب باللغة العربية‪ ،‬يختلف‬ ‫محددة‪ ،‬تكاد تكون خارج دائرة االهتمام السوداني؛ مما يشي‬

‫بصعود للخصوصية السودانية سرديًّا وسط الكم العربي الهائل‬

‫من النتاج الروائي‪ ،‬الشيء اآلخر الذي يجمع هذه التيارات‬ ‫أكثر مما يفرقها هو السيولة والسهولة التي يتحرك بها الروائي‬ ‫السوداني متنقلاً ما بين التيارات الثالثة في محاوالت تجريبية‬ ‫دؤوبة‪ ،‬مثلما فعل بركة ساكن في روايته الشعرية «ما يتبقى كل‬ ‫ليلة من الليل»‪ ،‬وسارة الجاك في روايتها الفلسفية «السوس»‪،‬‬

‫وكلتوم فضل الله التي تصهر كل هذه التيارات في أعمالها‬ ‫الروائية المختلفة والمفارقة‪ ،‬كما في روايتها الصادرة مؤخ ًرا‬ ‫«الصدى اآلخر لألماكن»‪.‬‬

‫يبقى أخي ًرا أن الرواية في السودان في صعودها التأسيسي‬

‫المتقطع بدأت تجني اآلن ثمار بذرتها التكوينية‪ ،‬التي ستقود‬ ‫حتمً ا خالل السنوات المقبلة إلى نمو شجرة هذه الرواية‪،‬‬ ‫وإيراقها وإزهارها فيما يمكن أن أصفه بالموجة الرابعة‪ ،‬أو‬

‫الموجة األخيرة‪ ،‬التي سيكون مسماها (الرواية السودانية)‪ ،‬وهي‬ ‫تجربة األجيال القادمة المزودة بخالصة تجارب األولين الحذرة‪،‬‬ ‫ومغامرة األخيرين العنيفة والمتفجرة‪.‬‬

‫‪73‬‬

‫قضايا الهامش والهوية‬ ‫التيار الثاني من تيارات الموجة الثالثة‪ ،‬هو تيار ما يعرف‬

‫بقضايا الهامش والهوية‪ ،‬وهو أكثر التيارات انتشارًا من حيث‬ ‫المقروئية والمواجهات النقدية األدبية وغير األدبية‪ ،‬وبروز‬

‫هذا التيار مرتبط بالتغيرات السياسية األخيرة التي زلزلت‬

‫السودان خالل الربع قرن األخير‪ ،‬وانفتاح رواده أيديولوجيا‬ ‫على مشروع السودان الجديد الذي بشر به الزعيم الجنوب‬

‫سوداني الراحل جون قرنق‪ ،‬ويأتي على رأس كتاب هذا‬ ‫التيار الروائي عبدالعزيز بركة ساكن‪ ،‬صاحب الرواية المثيرة‬

‫للجدل والممنوعة داخل السودان «الجنقو مسامير األرض»‪،‬‬ ‫التي اشتغل عليها بواقعية متعرية على وقائع حياة عمال‬

‫الزراعة الموسميين في شرق السودان‪ ،‬وأغلبهم من النازحين‬ ‫من دارفور‪ ،‬وما يواجهونه من تمييز‪ ،‬والكيفية التي يديرون‬

‫بها حياتهم المقتطعة على هامش المدن بال رعاية أو اهتمام‬

‫من أي جهة رسمية‪.‬‬

‫الروائي اآلخر الذي صعد من قضية الهامش والثقافات‬

‫السودانية سرديًّا هو الروائي والمفكر أبكر آدم إسماعيل‪،‬‬

‫عبدالعزيز بركة ساكن‬

‫أبكر آدم إسماعيل‬

‫الذي جعل من روايته «الطريق إلى المدن المستحيلة»‬

‫مرافعة سردية عن المهمشين داخل المدن السودانية‬

‫الكبرى الوسيطة والشمالية‪ .‬كما يمكن إدراج أعمال الروائيين‬

‫الشابين منجد باخوس «جمجمتان تطفئان الشمس»‪،‬‬

‫ومحمد دهب تلبو «مدارج السلسيون» في هذا اإلطار‪ ،‬وكذلك‬ ‫رواية «مندكورو» السابقة لبروز هذا التيار بما أنها تناولت‬

‫تمثالت اللون واللغة بالنسبة لآلخر (الجنوبي) في التصور‬ ‫الشمالي والعكس‪ ،‬إضافة إلى الرواية المهمة «زهرة الصبار»‬

‫للزين بانقا التي طرق فيها إحدى أكثر القضايا حساسية في‬

‫السودان‪ ،‬قضية «تجارة الرق»‪ ،‬والعالقات التي انبثقت عنها‬ ‫اجتماعيًّا حتى بعد مرور قرن أو يزيد على إلغائها‪.‬‬


‫دراسات‬

‫قراءة في الظواهر الجديدة لدى شعراء شباب من السعودية والخليج‬

‫عندما يصغي الشعر‬ ‫إلى الكون‬ ‫ويعيد الحياة إلى األشياء‬ ‫لقد مرت القصيدة العربية الحديثة بعدد من التحوالت التي مارس‬

‫‪74‬‬

‫فيها الشعراء إبداعهم بدءً ا من خلخلة نظام البيت التقليدي‬ ‫واستبدال السطر الشعري به‪ ،‬إلى اعتماد االنزياح وتوظيف الرموز‬ ‫وإعادة النظر في التراث‪ ،‬وصولاً إلى استمرار التجريب عبر التخلي عن‬

‫الوزن واستبدال مفاهيم اإليقاع به‪ ،‬وتداخل األجناس األدبية وغير‬ ‫األدبية تحت مسميات متعددة؛ كقصيدة النثر أو النص أو الكتابة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫معرضا لتقنيات مختلفة‪ ،‬تتيح مداخل‬ ‫بحيث أضحت القصيدة‬

‫متنوعة للقراءة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وبعيدا من التحقيب الزمني المرتبط بتقسيم التجربة الشعرية إلى‬

‫ميساء الخواجة‬ ‫ناقدة سعودية‬

‫أجيال شعرية‪ ،‬يحمل كل جيل فيها سمات ترتبط به‪ ،‬فإن النظر في‬

‫عدد من اإلصدارات الشعرية األولى لجيل من الشباب الذي مارس‬

‫اختيارات كتابية خاصة به‪ ،‬يمكن أن يصل المالحظ إلى وجود عدد‬ ‫من المالمح الهامة التي ال تكفي ورقة واحدة لإلحاطة بها‪ ،‬من دون أن‬

‫يعني ذلك استنساخ التجربة‪ ،‬أو تطابق مالمحها بين هؤالء الشعراء‪،‬‬ ‫بقدر ما يعني خصوصية في االختيارات الفنية والفكرية التي تحمل في‬

‫طياتها مساءالت حول مفهوم القصيدة ودورها‪ ،‬وعالقتها بالماضي‬ ‫والحاضر في آن ً‬ ‫معا‪.‬‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬


‫االنقطاع عن اآلخر‬

‫اإلنساني والحميمي‪ ،‬ولتتحول الحداثة إلى نقيضها‪ ،‬أي إلى‬

‫انفتح عدد من الشعراء الشباب في إصداراتهم األولى على‬

‫«ما بعد الحداثة»‪( .‬طيب تيزيني‪ ،‬من الحداثة إلى ما بعد‬

‫األول هو ما تطرحه هذه اإلصدارات من مالمح لالنقطاع عن‬

‫ويفسح المجال للثقافات المهمشة التي تسعى إلى التعبير عن‬

‫التجريب بمختلف أشكاله‪ ،‬ولعل مما يلفت النظر في المقام‬

‫اآلخر‪ ،‬والغوص أكثر فأكثر في العوالم الذاتية للشاعر‪ ،‬بشكل‬

‫يتهمش فيه العالم الخارجي‪ ،‬ويتضاءل فيه دور المثقف الفاعل‪،‬‬ ‫وذلك بالقياس إلى الدور الذي مارسته األجيال الشعرية السابقة‬

‫التي آمن عدد من شعرائها بدور الشعر في التغيير‪ ،‬ونادت‬ ‫بالقصيدة الرؤيا كما عرف عند شعراء الستينيات والسبعينيات‬ ‫ومن تالهم‪ .‬وهنا يرد تساؤل جوهري حول ما إذا كان غياب هذا‬

‫الدور يرتبط بممارسة ترميزية للواقع‪ ،‬أو بفعل مثاقفة انفتح‬ ‫فيها هؤالء الشعراء على تجارب شعرية غربية‪ ،‬ارتبطت بفكر ما‬

‫بعد الحداثة على مستوييه التنظيري والتطبيقي؟‬ ‫لقد انطلق فكر ما بعد الحداثة في الغرب‬

‫في اللحظة التي تحول فيها العلم إلى مأساة‬

‫حين فشل في تحقيق طموح اإلنسان إلى‬ ‫السيطرة على األشياء المحيطة به‪ ،‬ليجد‬

‫نفسه وحيدً ا في ظل هيمنة التكنولوجيا‬

‫وانفتاح الفضاء المعرفي بال نهاية‪.‬‬

‫الحداثة‪ ،‬ص ‪ .)34 ،33‬وبذلك تتحلل العالقات االجتماعية‪،‬‬

‫نفسها بالضرورة وبالقوة إن لزم األمر‪ ،‬األمر الذي يوجد تعددية‬

‫ثقافية‪ ،‬يدعمه رفض ما بعد الحداثة للفصل بين الثقافة الراقية‬ ‫وثقافة الجماهير‪ .‬إن الفكر ما بعد الحديث ال يقبل أبدً ا وضع‬ ‫اإلنسان إزاء العالم‪ ،‬يراه ويعيد إنتاجه في صور؛ ذلك ألنه ‪-‬كما‬

‫يرى آالن تورين‪ -‬يضع اإلنسان في العالم من دون مسافة‪( .‬آالن‬

‫تورين‪ ،‬نقد الحداثة‪ ،‬ص ‪.) 196 ،194‬‬

‫في مجتمع ما بعد الحداثة وفكره انحلت الثنائيات‬

‫التقليدية بين الشعبي ـ النخبوي‪ ،‬والذات ـ الموضوع‪ ،‬كما انحلت‬

‫الجدران التي تعزل الحقول المعرفية في ظل هيمنة الوسائل‬ ‫السمعية البصرية‪ ،‬ورفضت األنساق الفكرية‬ ‫الكلية‪ ،‬وفكرة التقدم الذي تسيطر األنساق‬

‫على توجيهه‪ ،‬صار الوعي بال مركز‪ ،‬وأعلنت‬

‫نهاية سلطة العقل ومركزية اإلنسان‪ ،‬كما‬ ‫أعلنت نهاية التاريخ‪ ،‬ونفيت الحقيقة المطلقة‬

‫على اعتبار أنها من المفاهيم السلطوية التي‬

‫وبقدر ما تعاظمت إمكانيات التقدم‬

‫توظف دائمً ا لخدمة فئة بعينها‪ ،‬وكما يقول‬

‫بين اإلنسان واإلنسان إلى عالقة مباشرة مع‬

‫لكيانه‪ ،‬ولم يعد بوسعه أن يلعب دوره‪ ،‬إنه‬

‫الصناعي والتكنولوجي‪ ،‬تحولت العالقة‬ ‫الطبيعة المصطنعة‪ ،‬بعيدً ا من «اآلخر»‪،‬‬ ‫ومن ثم فإن جدلية الذات والموضوع اختزلت‬

‫إلى ثنائية بين موضوع وموضوع ليعلن نعي‬

‫بوديار‪« :‬لم يعد بوسع الفرد أن يضع حدودًا‬ ‫اآلن صفحة نقية ومعبر لكل شبكات‬ ‫التأثير»‪( .‬بدر الدين مصطفى‪ ،‬فلسفة‬

‫ما بعد الحداثة‪ ،‬ص ‪ ) 31 ،29 ،28‬وبذلك‬

‫‪75‬‬


‫دراسات‬

‫يصير اإلنسان شي ًئا ضمن الموجودات األخرى‪ ،‬وهو ما يفسر‬

‫وأنزلوه من عليائه‪ ،‬لم يعد هو مركز الوجود‪ ،‬كما لم يعد هو‬ ‫الذي يتحكم في الموجودات والطبيعة حوله‪ً .‬‬ ‫أيضا لم يعد دور‬

‫المثقف الفاعل وغياب التفاعل اإلنساني الحميمي‪.‬‬

‫وبالتالي تساوى اإلنسان بالموجودات األخرى‪ ،‬وأصبح جزءً ا‬

‫النزعة الفوضوية والعدمية وحالة القلق واالغتراب التي وصف‬ ‫بها مجتمع ما بعد الحداثة‪ ،‬كما يمكنه أن يفسر انحسار دور‬

‫الفن تصوير الطبيعة بقدر ما صار يهدف إلى االمتزاج بالحياة‪،‬‬

‫من دورة الحياة اليومية‪ .‬وقد ينتج عن ذلك كله أن الفن ينزل‬ ‫من عليائه‪ ،‬وال يصير فعلاً معرفيًّا متساميًا بقدر ما هو نمط‬

‫انهدام الحدود بين أشكال اإلبداع‬ ‫لاً‬ ‫تطرح المفاهيم السابقة لما بعد الحداثة سؤا جوهريًّا‬ ‫يرتبط بتصورها للفن ومفهومه‪ ،‬فالفنان ليس ً‬ ‫ذاتا تبدع أو تخلق‬

‫األخرى‪ ،‬كما يفتح المجال ‪-‬في الوقت نفسه‪ -‬لدخول الهامشي‬

‫فهو «يحفظها» و«يشملها» بالرعاية‪ .‬هو حافظها وليس مبدعها‪.‬‬

‫لخدمة القضايا الكبرى‪ ،‬وال للمشاركة في القضايا الجمعية‪،‬‬

‫«كائنات جميلة»‪ ،‬إنه «يدع» الكائنات تأخذ محلها من الكينونة‪،‬‬ ‫إن الشعر ‪-‬كما يقول هيدغر‪« -‬يخترق كل فن من الفنون‪ ،‬وكل‬ ‫فعالية تنكشف من خاللها ماهية الوجود في الجمال»‪( .‬محمد‬

‫الشيكر‪ ،‬هيدغر وسؤال الحداثة‪ ،‬ص ‪ ) 105 ،104‬وهو ما سيقود‬

‫تعددي قابل لالستهالك والتنوع‪ ،‬شأنه في ذلك شأن األشياء‬

‫والعرضي وأصوات من ال صوت لهم‪ .‬لم يعد الشعر مسخ ًرا‬

‫بل اقترب مما هو يومي وعادي‪ ،‬ولعل ذلك ينبثق من تالشي‬

‫دور اللوغوس والكلمة المركز القادرة على إعادة خلق العالم‪،‬‬

‫إلى انهدام الحدود والفواصل بين أشكال اإلبداع‪ ،‬وبالضرورة‬

‫إلى انمحاء الفواصل بين الشعر والنثر‪.‬‬

‫لقد تمرد جيل ما بعد الحداثة على مركزية اإلنسان‪،‬‬

‫يمكن القول‪ :‬إن ما يكتبه الشعراء‬

‫‪76‬‬

‫الشباب في الخليج العربي يمكن أن‬ ‫يندرج في إطار التحوالت الكبرى التي‬ ‫يشهدها العالم‬

‫تراجع اإليمان بقدرة اإلنسان على التغيير‬ ‫لقد هيمن على الكثير من النصوص غياب الصوت اإلنساني الجمعي‪ ،‬وتراجعه إلى خلفية المشهد الشعري‪،‬‬

‫مع تراجع دور المثقف الفاعل واإليمان بقدرة اإلنسان على التغيير‪ .‬لقد بدت النصوص وكأن أصحابها ال ينتمون‬

‫إلى مكان أو زمان محددين‪ ،‬هي ذات تسبح في فضاء مطلق‪ ،‬تنكفئ فيه على نفسها‪ ،‬وال تعيش لغير عالمها‬ ‫الفردي الخالي من التواصل أو حتى من القدرة عليه‪ ،‬ليختفي اإلنساني والحميمي‪ ،‬وينعدم التواصل على‬ ‫ً‬ ‫مكونا من أشيائه اليومية ودائرته الصغيرة‬ ‫المستويين الجمعي والفردي‪ .‬تختفي الجماعة ويصبح عالم الشاعر‬ ‫التي يعيشها في يومياته‪.‬‬

‫ولعل هذا ما يفسر بروز اليومي والهامشي في الكثير من تلك النصوص‪ ،‬ونزول اللغة الشعرية إلى شكل‬ ‫بسيط من التعبير؛ لتبني النصوص شعريتها على محددات أخرى كالمفارقة ورصد التفصيالت‪ .‬كما يفسر ً‬ ‫أيضا‬

‫ذلك التماهي مع الجماد والحيوان‪ ،‬والحديث بصوتهما في بعض األحيان‪ ،‬وإذ يتشيأ اإلنسان يتأنسن الجماد‬ ‫والحيوان‪ ،‬وتهيمن حاستا الرؤية والسمع من حيث هما الوسيلتان األساسيتان لمالحظة األشياء المحيطة‪.‬‬ ‫هكذا ينزل الشعر من عليائه‪ ،‬ويتخلى عن تعاليه المعرفي ليصير شي ًئا يوميًّا حياتيًّا‪ ،‬ويستمع الشاعر إلى أصوات‬

‫الموجودات التي تماهى معها‪ ،‬وأخذ موقفها‪ ،‬فسمع صراخها وألمها‪ ،‬ليقف معها في مقابل اآلخر ـ البشر‬

‫والمجتمع الذين اضطربت العالقة بهم‪ ،‬وعززت صور الوحشة والعزلة التي تراجعت بدور اإلنسان ودور المثقف‬

‫إلى الهامش في عصر العولمة‪ ،‬والهيمنة المتزايدة للتكنولوجيا ووسائل االتصال الحديثة‪.‬‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬


‫قراءة في الظواهر الجديدة لدى شعراء شباب من السعودية والخليج‬

‫وبالتالي تناقص دور اإلنسان وقدرته على التغيير أو التحكم فيما‬ ‫حوله‪.‬‬

‫ومن هنا يمكن القول‪ :‬إن المشهد الشعري قد أخذ يشهد‬

‫تحولاً صوب الهامشي والعرضي‪ ،‬كما يمكن القول‪ :‬إن ما يكتبه‬ ‫الشعراء الشباب في الخليج العربي يندرج في إطار التحوالت‬

‫الكبرى التي يشهدها العالم‪ ،‬وفي إطار االنفتاح الثقافي وانتشار‬ ‫التكنولوجيا ووسائل االتصال الحديثة التي جعلت العالم‬ ‫كينونة كبرى متصلة‪ .‬ويمكن أن يكون في الوقت نفسه استجابة‬

‫للتحوالت السريعة التي تمر بها أوطانهم مع االحتفاظ النسبي‬ ‫بالنمط االجتماعي التقليدي والثقافة الشعبية التي تؤمن‬ ‫بالعشائري والحفاظ على التقاليد‪.‬‬

‫هكذا تتولد في القصيدة ‪-‬ال سيما قصيدة النثر‪ -‬شعرية‬

‫الكونية المتسارعة التي جعلته يشعر بالحيرة والعجز أمامها‪،‬‬ ‫فإن الموجودات األخرى تحمل وجودها الموازي الذي تتساوى‬ ‫ً‬ ‫أحيانا‪ ،‬وبذلك‬ ‫كينونته مع الكينونة اإلنسانية‪ ،‬وتتماهى معه‬

‫يعيد الشاعر النظر في األشياء الجامدة ويؤنسنها‪ ،‬ويتماهى‬ ‫معها حتى لتكاد تكون هو‪ .‬لقد تعلم الشعر أن يصغي إلى الكون‬

‫على طريقة هيدغر‪ ،‬ليعيد الحياة إلى األشياء التي كانت مجرد‬ ‫وسيلة‪ .‬واتسع الهامشي ليشمل اإلنسان والجماد والحيوان‬ ‫على حد سواء‪ .‬وعندما يكتب الشاعر عن الجماد أو الحيوان‬ ‫فإنه يكتب عنهما باعتبارهما منطقة للتبادل ال للتصوير‪ ،‬أو‬

‫االستعمال‪ ،‬أو االستفادة‪.‬‬

‫إن الحديث عن تسلل قيم ما بعد الحداثة الغربية‪ ،‬وعن‬

‫النص ما بعد الحداثي‪ ،‬ال يعني أن الشعراء الشباب يقومون‬

‫جديدة هي شعرية نثر الحياة اليومية بتفاصيلها‪ ،‬في محاولة‬ ‫للدخول إلى جوهرها وأنسنتها كما لو كانت ً‬ ‫ذاتا أخرى فاعلة‪،‬‬

‫بقدر ما يعني وجود امتداد معرفي‪ ،‬وتنوع ثقافي سمح بظهور‬

‫المعجم اللغوي لعدد من الشعراء؛ إذ طغت مفردات الحياة‬

‫ال سيما مع االنفتاح الثقافي والتكنولوجي الذي سمح لوسائل‬

‫مؤثرة ومتأثرة‪ .‬وقد بدا هذا واضحً ا في العالم الشعري وفي‬ ‫اليومية‪ ،‬ومالت اللغة إلى البساطة‪ ،‬وابتعدت عن التكثيف‬

‫الداللي الذي قامت عليه قصيدة «الرؤيا» الحداثية‪ ،‬ليخرج‬ ‫الشعر من تعاليه‪ ،‬ويقترب من البسطاء بتفاصيلهم الحياتية‬

‫وحكاياتهم اليومية‪ .‬ويمكن أن نرى هذا المعجم اليومي في‬ ‫نصوص عدد من الشعراء؛ مثل‪ :‬سميرة السليماني‪ ،‬وأحمد‬

‫العلي‪ ،‬وصالح زمانان‪ ،‬وماجد الثبيتي‪ ،‬وفيصل الرحيل‪ ،‬وزاهر‬ ‫السالمي‪ ،‬وعبدالله المحسن‪ ،‬ورقية الفريد‪ ،‬ويحيى الناعبي‪،‬‬

‫وزهران القاسمي‪ ،‬وصبا طاهر‪ ،‬وغيرهم‪.‬‬ ‫بروز مفردات التكنولوجيا‬

‫تشترك معظم النصوص الشعرية في تناول اليومي‬

‫والهامشي‪ ،‬وفي بروز مفردات التكنولوجيا التي باتت تهيمن‬ ‫على حياة اإلنسان فتجعله موجودًا ضمن الموجودات األخرى‪،‬‬ ‫بشكل يكاد يختفي فيه اإلنساني والحميمي لتبقى الذات‬

‫وحيدة ال يشاركها غير الموجودات التي تقصيه‪ ،‬وفي الوقت‬ ‫نفسه تشكل مالذه وعالمه الخاص‪ .‬وإذا كان اإلنسان يتحول‬

‫إلى مجرد «شيء» ضمن األشياء الموجودة في ظل التغيرات‬

‫لقد تمرد جيل ما بعد الحداثة على‬ ‫مركزية اإلنسان‪ ،‬وأنزلوه من عليائه‪،‬‬ ‫لم يعد هو مركز الوجود‪ ،‬كما لم يعد‬ ‫هو الذي يتحكم في الموجودات‬ ‫والطبيعة حوله‬

‫بحركة نسخ آلية لما وصل إليه الفن في المجتمعات الغربية‪،‬‬ ‫ما سمي بـ «الثقافات المهمشة» التي حاولت التعبير عن نفسها‪،‬‬

‫االتصال واإلعالم الحديثة بنقل معطيات الحضارة الغربية إلى‬ ‫العالم العربي؛ مما عزز ثقافة االستهالك‪ ،‬وخلق ً‬ ‫نوعا من الهوة‬ ‫بين الثقافي واالستهالكي‪ ،‬وبالتالي بين الشاعر ـ الفرد وبين‬

‫المجتمع‪ .‬وقد تزداد هذه الهوة في ظل ما يعيشه الواقع العربي‬ ‫من تأزم وتمزق وصراعات تسير به صوب المجهول‪ .‬وربما كان‬ ‫ذلك كله وراء بروز عدد من الثيمات التي لوحظت في إنتاج عدد‬

‫من هؤالء الشعراء على تفاوت وتنوع فيما بينهم‪.‬‬

‫‪77‬‬


‫مقال‬

‫قصيدة الذات والمواطن الحاكم‬ ‫الحداثة ليست حديثة العهد والتاريخ‪ ،‬كما قد تدل تسميتها للوهلة األولى‪ .‬فهي كمفهوم‪ ،‬يمكن القول‪ :‬إنها غير محدودة‬

‫زمنيًّا‪ ،‬وإن كل ما تتوافر فيه شروط االستمرارية والحياة عبر مختلف األمكنة واألزمنة‪ ،‬فهو حديث‪ ،‬الشيء الذي يجعل من امرئ‬ ‫القيس وجميل بثينة والمتنبي وغيرهم أكثر حداثة من شعراء يتحركون بيننا اليوم أحياء يُرزقون‪ّ .‬‬ ‫وكلما استطاعت التجربة النفاذ‬ ‫إلى زمن آخر‪ ،‬فهي تكتب حياة جديدة ومتجدّ دة‪ ،‬تؤكد صلتها بالحداثة ذاتها‪.‬‬

‫أما بالمعنى العلمي والسوسيولوجي‪ ،‬فإن الحداثة انطلقت كما نعلم مع الثورة الصناعيّة‪ ،‬وتمظهرت أكثر مع الثورة الفرنسيّة؛‬

‫إذ حصل االنتقال من مجتمع تقليدي محافظ تتحكم فيه المؤسسات االجتماعية إلى مجتمعات فعالنية‪ ،‬وأكثر فردانية‪ ،‬وأقل‬ ‫حتمية اجتماعية‪ .‬حصل االنتقال المرحلي والبطيء السريع من الفرد بوصفه ً‬ ‫عونا اجتماعيًّا إلى خطاب الفاعل االجتماعي‪.‬‬ ‫لذلك فإن نشأة علم االجتماع وعلم النفس وعلم النفس االجتماعي وغيرها من االختصاصات المعرفية المهمة التي ظهرت‬

‫في القرن التاسع عشر‪ ،‬إنما كانت نتاج فعل الحداثة في مجتمعات ما قبل الحداثة‪ ،‬وهو ما عبر عنه عالم االجتماع األلماني الكبير‬

‫ماكس فيبر بقوله‪ :‬إن علم االجتماع هو «موروث الحداثة»‪.‬‬

‫طبعً ا الكالم عن الحداثة كفكر وكمنظومة قيميّة مغايرة للرأسمال الرمزي لمجتمعات ما قبل الحداثة‪ ،‬هو كالم ال نمل منه‪،‬‬

‫ولن نمل؛ ألننا في مرحلة مخاض من نوع مخصوص مع الحداثة‪ ،‬باعتبار أن قيم الحداثة وفكرها تقوم على الديناميّة المتواصلة‬

‫‪78‬‬

‫والمستمرة حيث الحركة محركها األساسي‪ ،‬والتحقق فعل يتجسد رويدً ا رويدً ا إلى ما ال نهاية‪.‬‬ ‫ً‬ ‫أيضا فإن الحداثة شاسعة وسع التاريخ والكون والعقل اإلنساني‪ .‬ورغم هذا االتساع الالمحدود والالثابت‪ ،‬فهي كفكر‪ ،‬منظمة‬

‫جدًّا ومتقشفة في عناصر تكوينها إلى أبعد حدود التقشف‪ .‬فهي أشبه ما تكون بالهرم ثالثي النقاط والرؤوس‪ ،‬وتولي االهتمام‬ ‫األكبر بثالث قيم رئيسة‪ :‬اإلنسان الفرد‪ ،‬والعقل‪ ،‬والحرية‪ .‬وكل ما تبقى من القيم واألفكار الوجيهة جدًّ ا والجوهرية ً‬ ‫أيضا‪ ،‬إنما هي‬

‫متناسلة ومتفرعة عن القيم الثالث المشار إليها‪ .‬فعندما نتحدث عن العقل والعقالنية‪ ،‬فإن ذلك يعني آليًّا أن العقل هو المقدس‬ ‫الجديد الذي يعلو وال يعلى عليه‪ ،‬وتبشر به الحداثة‪ ،‬وأن ماهية العقل‪ ،‬كما ذهب إلى ذلك الفيلسوف هيغل‪ ،‬ال يحدّ دها شيء‪،‬‬

‫فهي ماهية مطلقة ومتعالية‪.‬‬

‫لذلك فهو أداة التأمل والنقد واالنقالب على األفكار والقيم المتواصل‪ ،‬وهو العجلة التي يدور بها عقل الحداثة‪ ،‬ومنطقها‪،‬‬

‫وطرائق اشتغال الفكر فيها‪ ،‬وكلها قدرات معرفية إدراكية‪ ،‬لن نبدع في غياب قيمة الحرية‪ ،‬وذلك من منطلق كون عدم إمكانية –بل‬

‫استحالة‪ -‬إعمال العقل دون حرية‪ ،‬التي وحدها تجعل من النقد ممارسة مضمونة ومُ حصنة ومؤسسة ثقافيًّا وحقوقيًّا وقانونيًّا ضد‬ ‫ما يمكن أن يَحجر على العقل باسم الهيمنة‪.‬‬

‫فالحداثة تدافع عن العقالنية ومكانة العقل وحرية الفرد؛ أي النقد الذي يعكس تجسيدً ا للمبادئ اإلنسانية الكونية‪ ،‬التي نادى‬

‫بها فالسفة عصر األنوار‪ .‬ففي هذا اإلطار نفهم مقولة هربرت ماركيوز «التقويم النقدي هو الحقل الفعلي للمعرفة» وذلك في كتابه‬ ‫«اإلنسان ذو البعد الواحد» الصادر في سنة ‪1965‬م بباريس‪.‬‬

‫إذن كما أسلفنا القول‪ :‬الحداثة قديمة وشاسعة وأكبر من أن تحد أو يحسم في شأنها؛ لكونها بصدد االعتمال الدائم‪ ،‬وهو ما‬ ‫ً‬ ‫ينتج ً‬ ‫وأيضا على كيفية نقدها وتلقيها‪.‬‬ ‫نوعا من التشويش على عملية تحققها‪،‬‬ ‫غير أن ما يعنينا في هذه المساحة تحديدً ا هو تصور الحداثة للذات‪ ،‬وكيف أن هذا التصور يطبع مجاالتها كافة‪.‬‬

‫وكي نكشف عن هذه النقطة وندلل عليها‪ ،‬نشير على سبيل الومضة إلى حقلين اثنين هما‪ :‬الحقل الشعري والحقل السياسي‪،‬‬

‫وذلك تبعً ا لتقسيم عالم االجتماع الفرنسي بيار بورديو لحقول الفعل االجتماعي‪ .‬فكما احتفل الشعر الحديث بالذات‪ ،‬احتفلت‬

‫الحداثة السياسية بالفرد‪ ،‬وسمّ ته المواطن الحاكم الفعلي في الدولة الحديثة‪.‬‬

‫وفي الفضاء الثقافي العربي نالحظ أن التعاطي مع فكر الحداثة‪ ،‬وإن انطلق متأخ ًرا عن الفضاء البريطاني الفرنسي األوربي‬

‫بشكل عام مهد الحداثة‪ ،‬فإن تسرب الفكر الحداثي بدأ يتبلور أكثر بعد استقالل الدول العربيّة‪ ،‬حيث إن حدث االستقالل اشترط‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫خفيفا أو قويًّا‪ ،‬حسب الخصوصيات‬ ‫مخصوصا‪ ،‬اختلف من بلد إلى آخر مع مسألة الحداثة‪ .‬ولكن رياح الحداثة هبت هبوبًا‬ ‫تعاطيًا‬ ‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬


‫الثقافية والتركيبة السوسيولوجية لمجتمعاتنا‪.‬‬

‫ويبدو لي أن التجارب الشعرية العربية الحديثة التي أولت عناية‬ ‫مخصوصة لشعرية الذات ولبوح الذات‪ ،‬وقاطعت إما قليلاً أو كثي ًرا‬

‫أو نهائيًّا الموضوعات الكبرى وشعرية الضجيج‪ ،‬إنما هي التجارب‬ ‫ً‬ ‫عميقا في نشر القيم الحداثية في مجتمعاتنا‪ ،‬وذلك من‬ ‫التي حفرت‬

‫خالل االستبطان الشعري للحداثة‪ .‬بل إن قصيدة النثر التي ال تزال رغم‬ ‫الفتوحات الشعرية المهمة‪ ،‬تالقي من التهميش والتكفير الشعريين‬

‫المصرح بهما والمسكوت عنهما في ربوعنا الثقافية الشعرية‪ ،‬هي التي‬ ‫فتحت الباب واسعً ا لدخول قيم الحداثة‪ ،‬وعلى رأسها قيمة الذات‬

‫واإلنصات لبوح الذات وتفاصيلها بعد أن كانت الجماعة هي الموضوع‬

‫آمال موسى‬ ‫شاعرة وأستاذة جامعية ‪ -‬تونس‬

‫المهيمن على القصيدة‪.‬‬

‫منذ تاريخ السبعينيات من القرن الماضي‪ ،‬عندما بدأت تهرب قصيدة بودلير جه ًرا من بيروت إلى بغداد إلى القاهرة إلى دمشق‬ ‫وصولاً متأخ ًرا إلى المغرب العربي‪ ،‬بدأت قصيدة الذات تقتنص بعض المساحة على أرض لطالما تصورناها على شاكلة العمودي‪،‬‬

‫مع العلم أن التفعيلة بدأت في االلتفات إلى الذات‪ ،‬وتعيد النظر في المركز الشعري الذي تستحق‪ .‬قصيدة الذات التي بات يحتاجها‬ ‫الشعر ً‬ ‫أيضا الذي أضناه تأخر مركزية الذات في الشعرية العربية‪.‬‬ ‫فمنذ الخمسينيات من القرن الماضي وقصيدة الذات تكتسح األرض تلو األرض؛ حتى أصبحت أنا الشاعر مستبدة بالقصيدة‪،‬‬

‫وأصبحت نافذة الكونية واإلنسانية‪ .‬بل إن الذات الشاعرة أصبحت معيار جودة التجربة الشعريّة‪ ،‬ودليل بناء عقد جديد بين الشاعر‬ ‫واللغة والذاكرة والحياة والشعر‪ ،‬وهو ما نلمسه بوضوح مثلاً في تجربة محمود درويش التي عرفت تحولاً نوعيًّا مع مجموعة‬

‫ٌ‬ ‫تحول أشبه ما يكون بانقالب الشاعر على الشاعر‪ ،‬فتمّ االنتقال من معجم إلى آخر‪ ،‬ومن الذات‬ ‫«لماذا تركت الحصان وحيدً ا»؛‬

‫الخصوصي الفرديّ ‪.‬‬ ‫الجمعية إلى الذات الخاصة المفردة‪ ،‬فكان العمق أعمق‪ ،‬وحتى الجمعي تراءى على نحو أكثر صفاء في شكله‬ ‫ّ‬ ‫هكذا بدأ االنتباه إلى شيء اسمه الفرد والذات في مجتمعاتنا‪ ،‬حيث كان الفرد كائ ًنا مبهمً ا ومقفلاً وال صوت له‪ .‬وهكذا ً‬ ‫أيضا‬ ‫انتقلنا من ضجيج الجماعة والحشد والقبيلة والعشيرة إلى دنيا الذات الصاخبة‪ ،‬ولكنْ صخب من نوع خاص‪ ،‬يمكن الذات من‬

‫البوح‪ ،‬ومن أن ترى ذاتها‪ ،‬وفي نفس الوقت فهم الجماعة والمجتمع أكثر والعالقات وعوائق التفاعلية والتمثالت والمخيال في‬ ‫منعطفاته الظاهرة والمختبئة‪.‬‬

‫هكذا فرضت قصيدة الذات نفسها في الحقل الشعري العربي‪ ،‬وهكذا تبوأت الذات في القصيدة المكان الجوهر والمركز‪،‬‬

‫وحتى هامشية الذات تغيرت وأضحت هامشية متطورة‪ .‬ولمّ ا كان الشعر خزان المعرفة وسكة التغيير الثقافي السحرية‪ ،‬فإن ذلك‬

‫مهد الطريق للحداثة السياسية‪ .‬فتلك الذات الجالسة بارتياح في فضاء القصيدة العربيّة‪ ،‬والتي يبوح فيها الشاعر والشاعرة بأدق‬

‫دهاليزها‪ ،‬قد بدأت تنتج مجتمعات مختلفة من ناحية طبيعة العالقة مع الذات‪ .‬وتعاضد ذلك مع توريد قيم العقالنية‪ ،‬وتطعيمها‬ ‫مع موروثنا في خصوص مقاربة العقل‪ ،‬فظهرت عالمات الفردانية‪ ،‬وبدأ االنفصام بين ثقافتين وقيم متنافرة‪.‬‬

‫لم يعد باإلمكان االستمرار في واقع سياسي عربي غير منقطع الصلة بمظاهر الحداثة السياسية المعروفة والمحدّ دة في إعالء‬

‫شأن الفرد المواطن‪ ،‬واالمتثال لقيم المواطنة‪ ،‬والتواصلية العقالنية‪ ،‬والفصل بين السلط ومفهوم حكم الشعب‪ :‬من حكم الحاكم‬

‫ومفهوم الرعية والراعي؛ انتقلنا إلى معجم سياسي جديد‪.‬‬

‫لقد انتصرت الحداثة الشعرية لقيمة الذات بوصفها أحد مرتكزات الفكر الحداثي‪ .‬والحداثة السياسية امتثلت لدكتاتورية‬

‫المواطن باعتباره األرض التي تدور حولها الحداثة السياسية‪.‬‬ ‫ً‬ ‫بعضا منها‪.‬‬ ‫وما بين الحداثتين وشائج قربى أبرزنا‬

‫‪79‬‬


‫حوار‬

‫وظفنا الدين لمصادرة‬ ‫العقالنية‪ ..‬ومهمتي‬ ‫كانت ثورية‬

‫برهان غليون‪:‬‬

‫‪80‬‬

‫من اآلن‬ ‫فصاع ًدا‪..‬‬ ‫لن تخمد نار‬ ‫الحرب!‬ ‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬


‫باريس‬

‫يرى المفكر السوريّ برهان غليون أن الفكر جزء من الممارسة‪ ،‬وأن المفكر‪ ،‬بالتالي‪ ،‬ينبغي له أال ينفصل‬ ‫عن المجتمع الذي ّ‬ ‫االجتماعي‪ ،‬وعن التفكير في التحديات التي‬ ‫يفكر داخله‪ ،‬وال يمكنه أن ينفصل عن سياقه‬ ‫ّ‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫العربي‪،‬‬ ‫سليما‪ ،‬يتفاعل مع المجتمع الذي يعيش فيه‪ .‬قبل ثورات الربيع‬ ‫شخصا‬ ‫يواجهها مجتمعه إذا كان‬ ‫ّ‬

‫كان لصاحب «بيان من أجل الديمقراطية»‪ ،‬موقف من المعارك األيديولوجية والسياسية واالجتماعية‬ ‫واالقتصادية الدائرة فيه‪ .‬وعندما اندلعت هذه الثورات قام بواجب المواطن‪ ،‬أي مواطن‪ ،‬في التعبير عن رأيه‬

‫والمشاركة في رسم مصير المجتمع الذي ينتمي إليه‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫برهان غليون‪ً ،‬‬ ‫وفقا لهذه الرؤية‪ ،‬لم يغادر موقعه بوصفه مثقفا منخرطا في تحويل مجتمعه وتغييره‪،‬‬ ‫ومقاومة ُن ُظم القهر من أيّ نوع كانت‪ .‬وهو قذف بنفسه في الثورة السورية‪ ،‬كما يقول في حوار مع ـ«الفيصل»؛‬

‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫مهمة جوهرُها‬ ‫بمهمة ثورية وليست سياسية‪،‬‬ ‫مثل أي ناشط سوريّ ‪ ،‬وقبل أن يرأس تآلف المعارضة للقيام‬ ‫ُ‬ ‫وحشد الدعم لثورة الشعب السوريّ ‪ ،‬وتنسيق عالقاتها بالعالم‪ .‬في هذا الحوار يتطرق‬ ‫توحيد المعارضة‪،‬‬ ‫مؤلف «اغتيال العقل»‪ ،‬إلى محطات من حياته وإلى أطوار من مشروعه الفكريّ ‪.‬‬ ‫على الرغم مما أوليته من اهتمام بمسألة الثقافة‪،‬‬

‫بوصفها مجموعة القيم العامة‪ ،‬التي يستطيع العقل أن‬ ‫ّ‬ ‫يطل من خاللها‪ ،‬اّإل أن هذه المسألة تبدو أبعد كثي ًرا من‬ ‫ّ‬ ‫أي اهتمام يمكن أن توليه الحكومات العربية‪ ،‬فهل يمكن‬

‫أن نتوصل إلى حلول لمشكلة النهضة ومشاكل النهوض‪،‬‬ ‫من دون اهتمام بهذه المسألة الثقافية؟‬

‫أساسي‬ ‫ بالطبع ال‪ .‬الثقافة والتعليم والتربية هي محور‬‫ّ‬ ‫من محاور التحديث واللحاق بالعصر‪ .‬وال يعرف قيمة الثقافة‪،‬‬ ‫أي في الواقع إغناء شخصية الفرد وإثرائها من الناحية العقلية‬

‫واألخالقية والفنية‪ ،‬سوى المجتمعات المتقدّ مة التي تراهن‬ ‫على اإلنسان‪ ،‬وعلى قواه اإلبداعية ومبادرته‪ .‬المجتمعات التي‬ ‫لم تدخل المنافسة الحضارية تتمسك أكثر بالهوية الساكنة‪،‬‬

‫وتتغطى بالتراث؛ لتخفي فراغها وهامشيتها إزاء الحضارة‬ ‫ً‬ ‫نقيضا للحداثة أو‬ ‫والتاريخ؛ لذلك تميل إلى وضع التراث‬ ‫الثقافة‪ .‬وهي ال تكاد تف ّرق بين ِّ‬ ‫الدين والثقافة؛ أي بين اله ُِويَّة‬ ‫والحُ رية‪.‬‬

‫َّ‬ ‫احتلت الحركة‬ ‫ضمن مشاغلك الفكرية الكثيرة‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫وتأمل أسباب نشوئها وتطورها‬ ‫اإلسالمية المعاصرة‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫مهما‪ ،‬لكن هل توقعت أن تمضي هذه الحركة‬ ‫موقعا‬ ‫في سيرورات غير مفهومة لكثيرين حتى اآلن؛ لتتكشف‬

‫العربي‬ ‫عما آلت إليه اليوم‪ ،‬أم أن ما يحدث في الراهن‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ِّ‬ ‫مفاجئا؛ بسبب تراكمات وارتباك العالقة بين الدين‬ ‫ليس‬ ‫والدولة؟‬

‫ ما يحدث في مجتمعاتنا من عودة إلى ِّ‬‫الدين والتراث‬ ‫هو ثمرة سياساتنا الثقافية والقواعد التي َت َب َّنيناها في التعامل‬ ‫مع الفرد على مستوى األسرة والعشيرة والدولة والمجتمع‪.‬‬ ‫وجميعها ُت ِّ‬ ‫شكك في الحرية وتخافها‪ ،‬وللتحوط تمنع الفرد‬

‫والحس النقديّ ‪ ،‬وتشجّ ع لديه النزوع إلى‬ ‫العقالني‬ ‫من التفكير‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫االمتثال والتقليد واإلمَّ ِعيَّة‪ .‬عوضا من أن يكون ِّ‬ ‫الدين أحد الموارد‬

‫ُ‬ ‫عقلية المحافظة والخوف‬ ‫المثرية للشخصية العربية حوَّلته‬ ‫ُّ‬ ‫من الحداثة والحرية إلى سياج يمنع الفرد من تمثل القيم‬ ‫الجديدة‪ ،‬واالنفتاح على األفكار واآلفاق المبتكرة‪ .‬وبدل من أن‬ ‫ُّ‬ ‫وتعلم‬ ‫تتخذ معارضته واحتجاجه على أوضاعه المجحفة غالبا‪،‬‬

‫نقد السياسات الخاطئة‪ ،‬واقتراح بدائل سياسية‪ ،‬أو إصالحات‪،‬‬ ‫والعمل على تطبيقها؛ فإنهم يميلون إلى قلب النظام‪ ،‬وتقويض‬

‫أسسه المعنوية؛ أي تجريده من الشرعية‪ ،‬وإقامة نظام جديد‬

‫مكانه‪ .‬وليس لصعود المدّ‬ ‫اإلسالمي منذ أربعة عقود سوى‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫مُ ح ِّرك واحد هو نزع الشرعية عن النظم السياسية القائمة على‬ ‫ً‬ ‫تطابقا مع ما يعتقدون أنه‬ ‫أمل إقامة ُن ُظم أخرى مكانها أكثر‬ ‫أقرب إلى العدالة مثلما تعرفها بعض األوساط المشايخية‪ .‬وهذا‬

‫الثقافي للمجتمعات وتحصينها ضدّ‬ ‫هو كما ترى ثمن التصحير‬ ‫ّ‬ ‫الحرية‪ ،‬واستخدام الدين بوصفه مصدرًا للشرعية‪ ،‬ومن ثمََّ‬

‫تسويغ األوضاع القائمة‪ .‬ال تستطيع ال ُّن ُظم التي تتالعب بالشرعية‬ ‫الدينية كي تؤمِّ ن هيمنتها وسالمها أن تحول دون استخدام‬

‫الشرعية ذاتها من خصومها؛ لتقويض سلطانها‪ .‬وهذا ِّ‬ ‫يهدد‬ ‫اإلسالم أكثر من أيّ دِين آخ َر؛ ألنه ال يوجد في اإلسالم‪ ،‬مثلما‬ ‫هي الحال في المسيحية‪ ،‬أيُّ سلطة أو مرجعية دينية مركزية‬

‫‪81‬‬


‫حوار‬

‫واحدة‪ ،‬تضمن ألاَّ يتحول ِّ‬ ‫الدين إلى مصدر لشرعية مناقضة‪ ،‬بل‬

‫لمرجعيات وشرعيات متنافسة‪ .‬وهذا ما حصل عندنا‪ ،‬وكانت‬ ‫ُ‬ ‫السياسية من جهة؛ أي‪ :‬غياب‬ ‫نتيجته كما هو واضح الفوضى‬

‫أيّ نصاب واضح ومقبول للسياسة‪ ،‬وخراب السلطة الدينية‬

‫نفسها‪ ،‬وانقسام مرجعيتها إلى تيارات ومذاهب ال يمكن ألي‬ ‫هيئة دينية أن تسيطر عليها من جهة ثانية‪ .‬وهذا ما نسميه بعد‬

‫ابن خلدون «خراب العمران»‪.‬‬ ‫لم أغادر موقعي‬

‫أين يمكن للمفكر أو المثقف أن يقف اليوم؟ ما الذي‬

‫يستطيع أن يفعله في الواقع العربي الذي نعيشه؛ أنت‬ ‫اً‬ ‫مثل‪ -‬غادرت موقعك بوصفك مفك ًرا له أدواته ومفاهيمه‬‫في ُّ‬ ‫تأمل التحوالت واألشياء إلى موقع آخر فيه كثير من‬

‫المواجهة والمباشرة مع الواقع‪ ،‬ثم بعد مدة أعلنت‬ ‫ً‬ ‫ثانية إلى موقعك األول؛ ما الذي خرجت به من هذه‬ ‫العودة‬ ‫التجربة؟‬

‫ّ‬ ‫المفكر ينبغي‬ ‫ أنا أعتقد أن الفكر جزء من الممارسة‪ ،‬وأن‬‫له ألاَّ ينفصل عن المجتمع الذي ِّ‬ ‫يفكر داخله‪ ،‬وال يمكنه أن‬

‫‪82‬‬

‫االجتماعي وعن التفكير في التحديات التي‬ ‫ينفصل عن سياقه‬ ‫ّ‬

‫ً‬ ‫شخصا سليمً ا يتفاعل مع المجتمع‬ ‫يواجهها مجتمعه إذا كان‬ ‫العربي كان لي دائمً ا موقف‬ ‫الذي يعيش فيه‪ .‬قبل ثورات الربيع‬ ‫ّ‬

‫في المعارك األيديولوجية والسياسية واالجتماعية واالقتصادية‬ ‫الدائرة فيه‪ .‬وعندما اندلعت هذه الثورات قمت بواجب المواطن‪،‬‬ ‫أي مواطن‪ ،‬في التعبير عن رأيه‪ ،‬والمشاركة في رسم مصير‬

‫المجتمع الذي ينتمي إليه‪.‬‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫منخرطا في تحويل‬ ‫مثقفا‬ ‫أنا لم أغادر موقعي بوصفي‬ ‫مجتمعه وتغييره‪ ،‬ومقاومة ُنظم القهر من أيّ نوع كانت‪.‬‬ ‫لكنني رميت بنفسي في الثورة السورية مثل أيّ ناشط سوريّ ‪،‬‬

‫ُ‬ ‫وقبلت أن أرأس تآلف المعارضة؛ للقيام بمهمّ ة ثورية وليست‬

‫سياسية؛ جوهرها توحيد المعارضة‪ ،‬وحشد الدعم لثورة‬ ‫الشعب السوريّ ‪ ،‬وتنسيق عالقاتها بالعالم‪ .‬لكنني لم ّ‬ ‫أكف عن‬

‫نحن على أبواب حقبة جديدة من‬ ‫المراجعة التي بدأتها أنا شخص ًّيا‪،‬‬ ‫كثيرا من‬ ‫وهي مراجعة تستدعي‬ ‫ً‬ ‫الشجاعة والبصيرة والشفافية والبحث‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬

‫سياسي بعد انتصار‬ ‫التأكيد أنني ال أتطلع إلى احتالل أيّ منصب‬ ‫ّ‬

‫الثورة‪ .‬وبعد أن اضطررت إلى تقديم استقالتي بِناءً على طلب‬ ‫من الناشطين الثوريين‪ ،‬لم ّ‬ ‫أرشح نفسي إلى أي منصب جديد‬

‫منذ أربع سنوات‪ .‬كنت مع الثورة‪ ،‬وحاولت أن أضع المعارضة‬ ‫ّ‬ ‫صفها وخدمتها‪ ،‬لكنني أخفقت‪.‬‬ ‫المنقسمة والمتنازعة في‬ ‫وعدت إلى الصفوف التي أنتمي إليها‪ ،‬التي وضعتني بالرغم من‬

‫الوطني‪.‬‬ ‫المعارضة على رأس المجلس‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫اآلن أنا في مكاني األول‪ ،‬مثقف في خدمة ثورة شعب فاقت‬ ‫تضحياته من أجل حريته واستقالله َّ‬ ‫ُ‬ ‫كل التصورات والحدود‪.‬‬

‫كتابك «بيان من أجل الديموقراطية» على الرغم من‬

‫صدوره في وقت مبكر‪ ،‬فإن االحتياج إلى قراءته‪ ،‬والتعمق‬ ‫إلحاحا من ّ‬ ‫ً‬ ‫أي وقت مضى‪،‬‬ ‫في أطروحاته‪ ،‬يبدو اليوم أكثر‬

‫فمع ما أبرزته من مخاطر تتهدد العرب‪ ،‬فإن تلك المخاطر‪،‬‬ ‫ال تزال تكشف عن نفسها في أشكال وحركات ووجوه‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫بتجدد اللحظة؛ في رأيك ما الذي يجعل مفك ًرا ما أو‬ ‫تتجدد‬

‫أفكا ًرا ما‪ ،‬تحضر في كل األزمنة ويغدو االحتياج إليها ًّ‬ ‫ملحا‬

‫باستمرار؟‬

‫‪ -‬قراءة موضوعية وخالصة عن هوى الواقع والتاريخ‪ .‬رؤية‬

‫الواقع كما هو لكن ليس في صورته الجامدة‪ ،‬ليس كبنية ثابتة‬

‫وجامدة‪ ،‬إنما كحركة وديناميكية واتجاه‪ .‬وجوهرها الحس‬ ‫ّ‬ ‫التمكن من بعض األدوات‬ ‫السليم أكثر من أيّ شيء آخر‪ ،‬مع‬

‫المعرفية والعلمية‪ .‬مشكلة القراءات الخاطئة التي يكذبها‬ ‫ً‬ ‫عامة ينظرون إلى الواقع من خالل‬ ‫الواقع تنبع من أن الناس‬

‫أهوائهم ورغباتهم وأوهامهم؛ لذلك يخطئون التحليل‪.‬‬

‫النخب أعادت الشعب إلى الحظيرة‬ ‫ّ‬ ‫«تحول الشعب المسكين إلى شعب من الالجئين‪...‬‬

‫الجئين في أوطانهم»‪ ،‬تقول في كتابك «بيان من أجل‬ ‫ً‬ ‫الجئا في‬ ‫الديموقراطية»‪ :‬إال أن الشعب المسكين لم يعد‬ ‫وطنه‪ ،‬إنما خارجه‪ ،‬ماذا َي ْعني لك ذلك؟‬ ‫ً‬ ‫قرونا طويلة مُ غيَّبة عن الفعل‪ ،‬وتابعة‬ ‫ عاشت شعوبنا‬‫للطغاة الذين ّ‬ ‫تعلموا كيف يخضعونها على م ّر األزمان‪ .‬وعندما‬

‫انهارت السلطنة العثمانية‪ ،‬تح ّررت الشعوب من هالة القوة‬ ‫والعظمة ورُهاب السلطة‪ .‬وحدث في أعقاب ذلك أن ال ُّن َخب‬ ‫الصاعدة من المجتمعات المحلية كانت في حاجة إلى دعم‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫محل‬ ‫وتحل‬ ‫الغربي‪،‬‬ ‫الشعب؛ لتع ّزز موقفها أمام االستعمار‬ ‫ّ‬

‫السلطة السلطانية الزائلة‪ ،‬فاضطرت إلى تعبئته‪ ،‬وإدخاله في‬ ‫الحياة السياسية‪ ،‬وأعطت له آمالاً كبيرة في المشاركة‪ .‬وبفضله‬ ‫استطاعت بالفعل أن تربح النزاع مع االحتالل وسلطات الوصاية‬ ‫األجنبية‪ ،‬وتبني دولاً وطنية خاصة بها‪ .‬وكانت هذه اللحظة‬


‫فصاعدا‪ ..‬لن تخمد نار الحرب!‬ ‫برهان غليون‪ :‬من اآلن‬ ‫ً‬

‫من اللحظات التاريخية المهمة والمضيئة والحاسمة في تاريخ‬ ‫العرب الحديث‪.‬‬

‫لكن ما إن استتب األمر لهذه ال ُّن َخب حتى بدأت مسارًا‬

‫معاكسا‪ ،‬وهو إعادة الشعوب إلى الحظيرة‪ ،‬وإجبارها على‬ ‫ً‬

‫ِّ‬ ‫التخلي عن مكتسباتها‪ .‬منذ االستقالل كان هَ مُّ ال ُّن ُظم الحاكمة هو‬

‫تجريد شعوبها من آمالها وتطلعاتها في المشاركة والتحوُّل إلى‬ ‫رجال أحرار قادرين على المساهمة في تقرير مصير مجتمعاتهم‪.‬‬

‫باستثناء مرحلة سيطرت عليها الشعبوية؛ أي‪ :‬مخاطبة الشعب‬ ‫المهمَّش مع اإلبقاء على تهميشه‪ ،‬وهي ما ُنسمِّ يه المرحلة‬

‫القومية؛ إذ اصطبغ تاريخ هذه الشعوب بالديكتاتورية الدموية‬ ‫وحكم القهر والعنف‪.‬‬

‫العربي التي فجَّ رت العنف المختزن لدى‬ ‫بعد ثورات الربيع‬ ‫ّ‬

‫الشعوب لم يَعُ د من الممكن ضبط المجتمعات بالديكتاتورية‬ ‫والقمع‪ ،‬ولم يَعُ د لدى ال ُّن َخب الحاكمة مجال لالحتفاظ‬ ‫بالسيطرة إال بتشريد هذه الشعوب وتخييرها بين الخضوع أو‬

‫العربي‬ ‫الموت أو الهجرة‪ .‬وللعلم قبل هجرات ما بعد الربيع‬ ‫ّ‬ ‫كانت نسبة المهاجرين من العرب بالنسبة إلى تعداد السكان‬ ‫هي األعلى بين كل شعوب العالم‪ .‬اآلن سيتضاعف اللجوء بوتيرة‬

‫هشام جعيط‬

‫قياسية‪ ،‬وسيحتاج العالم إلى عقود حتى يستدرك تأخره عن‬

‫العرب في هذا الميدان‪.‬‬

‫سوء اإلدارة‪ ،‬والديكتاتورية‪ ،‬والعنف‪ ،‬والفساد‪ ،‬وانعدام‬

‫المسؤولية‪ ،‬واالستهتار بمصير الشعوب ومصالحها‪ ،‬وانسداد‬ ‫مجتمعات طارد ٍة أبناءها‪ ،‬وهذا هو‬ ‫اآلفاق؛ حَ و َ​َّل مجتمعاتِنا إلى‬ ‫ٍ‬ ‫الدليل على أننا سرنا وال نزال نسير على الطريق الخطأ‪.‬‬

‫ْ‬ ‫َ‬ ‫وطالتك‬ ‫تعرضت في المدة األخيرة إلى االنتقاد‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫االتهامات من خصومك؛ ما موقفك من هذه االتهامات‬

‫واالنتقادات؟‬

‫‪ -‬أسمع عن هذه االتهامات من أصدقاء لكنّ نادرًا ما أقرؤها‪.‬‬

‫هناك دائمً ا ما يشغلني أكثر من ذلك‪ .‬وفي الحقيقة ال أشعر‬

‫أن لديَّ رغبة في الخصومة مع أحد‪ .‬لديَّ شعور بالواجب‪،‬‬ ‫والقيام بهذا الواجب هو المهمّ ‪ ،‬بصرف النظر عما يثيره ذلك‬

‫من اعتراضات وانتقادات واتهامات لدى اآلخرين‪ .‬أعرف أن هناك‬ ‫من اتهمني باإللحاد عل ًنا في القنوات التلفزيونية؛ ألنني كما يرى‬ ‫ماني‪ ،‬ومن يتهمني بدعم من الجهاديين والتكفيريين‪ .‬ال أعتقد‬ ‫ِع ْل ّ‬ ‫أن هناك أيّ ْال ِتباس في موقفي منذ بدأت الكتابة‪ :‬أنا مع الدولة‬

‫الديمقراطية واحترام الحريات واآلراء الشخصية‪ ،‬والتعايش بين‬

‫المذاهب واألديان واألعراق‪ ،‬وتنمية القيم واألخالق اإلنسانية‬ ‫التي َتعْ ِني المساواة العميقة ونبذ العنصرية‪ ،‬والرهان على تربية‬

‫واألخالقي‪ ،‬من أيّ قومية أو دِين‪.‬‬ ‫المدني‬ ‫وعي الفرد‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫حاولت في العقود الماضية أن أعمل كل ما بوسعي؛‬

‫الغرب الذي كنا نعرفه ونطابق‬ ‫بينه والنزعة الكونية واإلنسانية قد‬ ‫نثري‬ ‫انتهى‪ ،‬وولد في مكانه غرب‬ ‫ّ‬ ‫يتحول بشكل متسارع إلى الركاكة‬ ‫ّ‬ ‫والرثاثة األخالقية والقِ َيمية‬ ‫لتفكيك القنبلة الموقوتة التي هي الصدع داخل مجتمعاتنا بين‬ ‫والع ْلمانية الذي عمل عليه وعمَّ قه مثقفون ورجال‬ ‫اإلسالمية‬ ‫ِ‬

‫دِين صغار وضيِّقو األفق ومتعصبون‪ .‬وسعيت للمساهمة بكل ما‬ ‫كتبت في ردم ال ُهوَّة بين َّ‬ ‫شقي المجتمع المنقسمين؛ العتقادي‬

‫أنه من دون ذلك لن يكون لدينا أمل؛ ال في ديمقراطية‪ ،‬وال‬

‫دولة‪ ،‬وال أمن‪ ،‬وال سالم‪ ،‬وال تقدم‪ ،‬وال ازدهار‪ .‬لكن ال حياة‬ ‫لِمَ ن ُتنادي‪ .‬وها نحن نعيش انفجار هذه القنبلة التي صنعناها‬

‫بأنفسنا في جسدنا‪ ،‬وتفجيرها ثوراتنا‪ ،‬وإحراقها ربيعنا المأمول‪.‬‬ ‫عندما تجلس أمام مرآة نفسك‪ ،‬كيف ينظر برهان‬

‫غليون الشيخ إلى برهان غليون الشاب‪ ،‬أي منعرج تراك‬ ‫سلكته بعد أعوام وأعوام من االشتغال المثابر وااللتزام‪،‬‬ ‫ما الذي تغير في رؤيتك؟ وماذا تبدل في آليات اشتغالك؟‬

‫‪83‬‬


‫حوار‬

‫ أشعر أنني بين بين‪ .‬لم أعد كما كنت بالتأكيد لكنني لم‬‫شيخا بالتأكيد ً‬ ‫ً‬ ‫أيضا‪ .‬ما زلت أحلم وأعتقد أن هناك قيمً ا‬ ‫أصبح‬

‫العالمي المن ِتج‪،‬‬ ‫والثقافي‬ ‫والتقني‬ ‫الصناعي‬ ‫جزءً ا من المجتمع‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أصبحنا سُ ً‬ ‫ِّ‬ ‫وقا استهالكية للدُّ وَل المتحكمة فيها‪ ،‬ونحن نتحول‬

‫وهذا هو معنى الشباب في نظري؛ استمرار الحلم والتطلع‬ ‫ُّ‬ ‫والتعلق بالتحوالت الكبرى والمثيرة‪ .‬ما دام اإليمان‬ ‫إلى اإلنجاز‬

‫بشرية‪ .‬ومهاجرونا هم جزء من هذه الموا ّد الخام التي نصدّ رها‬ ‫ّ‬ ‫وتعلقنا‬ ‫إلى السوق المعولمة‪ .‬رفضنا الحداثة المن ِتجة والفاعلة‪،‬‬

‫وغايات كبرى ال يمكن التوقف عن الصراع من أجل تحقيقها‪.‬‬ ‫ٍ‬

‫بالحرية والعدالة والمساواة واألخوة هو الذي يسكننا ويحركنا‬

‫بالحداثة ال َّر َّثة فلم َيب َْق أمامنا من خيار سوى العولمة السوقية؛‬

‫الشيخ‪ ،‬بالرغم من فتور الهمة والعزيمة‪.‬‬

‫فهم ما حصل لنا في السنوات الخمس الماضية ومصير تحوُّالتنا‬ ‫السياسية إذا لم نراجع تفكيرنا‪ ،‬ونفهم إخفاقنا في تطوير ُن ُظمنا‬

‫ويلهمنا فنحن لم نغادر الشباب‪ .‬كما ترى ال يزال الشاب يصارع‬

‫معولمون أم مشاركون؟‬

‫أي‪ :‬نفايات العولمة‪ ،‬وضحايا ديناميكياتها التدميرية‪ .‬وال يمكن‬

‫المدنية والسياسية واإلنتاجية؛ لتصبح على مستوى التفاعل‬

‫تقول‪« :‬ال يمكن درء مخاطر العولمة وهي كبيرة سوى‬ ‫ً‬ ‫تماما كما هي الحال مع االنحناء للعاصفة»‪،‬‬ ‫باالندراج فيها‬ ‫َ‬ ‫هناك من يرى أن العرب شاؤوا أم أ َب ْوا هم مندرجون في‬ ‫العولمة‪ ،‬في شكل أو آخر‪ ،‬لكن من دون وعي‪ ،‬اندراج ّ‬ ‫هش‬

‫في تعاطيك مفك ًرا وكاتبًا مع الثورة السورية‬ ‫ّ‬ ‫تتخفف كثي ًرا من عتادك بوصفك مفك ًرا؛‬ ‫وتداعياتها الدموية‪،‬‬

‫‪ -‬بالطبع‪ .‬نحن ال نختار أن نكون في العولمة أو ضدها؛ ألننا‬

‫والتراكيب المعقدة‪ ،‬هل لكل لحظة أسلوب تعبير مختلف‪،‬‬

‫من دون أسئلة يطرحها العرب على أنفسهم في هذا الشأن؟‬

‫ال نستطيع أن نخرج من العالم‪ .‬لكننا نستطيع أن نختار بين أن‬ ‫واع‪ ،‬ومتفاوض‬ ‫نكون معولمين بالرغم منا أو مشاركين بشكل ٍ‬ ‫عليه في العولمة التي تريد طحننا‪ .‬وألننا لم َن ْسعَ للمشاركة‬

‫‪84‬‬

‫إلى ق َِطع غيار لها أو موا ّد خام لخدمة أغراضها من موارد وقوى‬

‫المنتج مع الفضاءات العالمية‪ ،‬وتحمينا من مفاعليها السلبية‪.‬‬

‫ً‬ ‫بعيدا من لغة المفاهيم‪،‬‬ ‫تكتب بلغة مباشرة وواضحة‪،‬‬ ‫«منطوق» يأخذ شكله من مالمح راهنيته؟‬

‫فيها‪ ،‬ولم نفاوض على موقعنا ولم َنعُ دّ شروط االنخراط‬ ‫اإليجابي فيها‪ ،‬ونطوّر سياساتنا‪ ،‬وهياكل مجتمعاتنا بما يجعلنا‬ ‫ّ‬

‫أدونيس‬ ‫يخشى الجمهور‬

‫أدونيس‬

‫اً‬ ‫أعمال مهمة‬ ‫من خالل ما أتيح لك من اطالع على ما كتب من أدب عن الثورة السورية؛ هل ترى أن هناك‬ ‫ّ‬ ‫تظل أكبر من أن يستوعبها األدب؟‬ ‫صدرت في هذا الخصوص‪ ،‬أم أن القضية‬

‫ ثمار أدب الثورات العربية بالكاد بدأت تظهر‪ ،‬فهي تحتاج إلى مسافة عن الحدث وإلى اختمار كي تنضج‪ .‬لكنني‬‫لهم أجيالاً كثيرة قادمة من المبدعين العرب‬ ‫ال أشك أن هذه الثورات التي حوّلت إلى نكسات ونكبات‬ ‫ٍ‬ ‫ومآس سوف ُت ِ‬ ‫والسوريين‪ .‬اآلداب العظيمة هي ثمرة اآلالم العظيمة التي هي بدورها ثمرة الكفاح العظيم للمجتمعات؛ لتحقيق‬

‫الحرية واالنعتاق والخروج من القوالب الجاهزة والقماقم البائدة‪.‬‬

‫بالمناسبة ما رأيك فيما أُثير و ُيثار حول أدونيس ومواقفه مما يحدث؛ هل تشعر‪ ،‬اً‬ ‫مثل‪ ،‬بخيبة أمل؟‬

‫ أبدً ا‪ .‬لم يكن لديَّ أي وهم حول موقف أدونيس الذي أعرفه عن قرب‪ .‬لم يكن أدونيس يهتمّ في أي وقت بمسألة‬‫الحريات العامة والسياسية خاصة‪ .‬همّ ه ّ‬ ‫مركز في كل ما هو فرديّ وامتيازيّ واستفزازيّ وتفرديّ ؛ مثل كثيرين غيره‬

‫من المثقفين «المتنورين» أعتقد أنه يخشى الجمهور ما لم يكن من معجبيه‪ ،‬ويخاف ويقلق من الجماهير والشعوب‬ ‫والجماعات‪ ،‬وباألحرى من ثوراتها‪ ،‬ربما ألنه ال يرى فيها سوى الفوضى والسديم والالتميز واالنغالق‪.‬‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬


‫فصاعدا‪ ..‬لن تخمد نار الحرب!‬ ‫برهان غليون‪ :‬من اآلن‬ ‫ً‬

‫‪ -‬كل كتابة أو باألحرى خطاب هو تواصل أو محاولة تواصل‬

‫مع جمهور‪ .‬في الكتابات العلمية يكون التواصل مع المختصين‪،‬‬

‫وال بد من استخدام لغة االختصاص؛ كي يكون لخطابك معنى‪،‬‬ ‫يصب فيه‪ .‬في الكتابات الموجّ هة‬ ‫وي َّتسق مع الميدان الذي‬ ‫ّ‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫اللغات االختصاصية‬ ‫لجمهور عامّ من غير المختصين تشكل‬ ‫ً‬ ‫عائقا للتواصل؛ لذلك يميل المتكلم إلى استخدام لغة مفهومة‬

‫يحدث‪ ،‬بتشجيعه السياسات المتعجرفة من جهة‪ ،‬وصمته‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫تغول بعض األنظمة من جهة ثانية‪ ،‬ومن جهة‬ ‫أحيانا عن‬ ‫ً‬ ‫تفهما‬ ‫ثالثة يمارس مفهوم الدولة ودولة القانون‪ ،‬ويبدي‬

‫كبي ًرا لحقوق البشر أينما كانوا‪ ،‬ويفتح لهم حدوده؛ كيف‬ ‫ترى مواقف الغرب؟‬

‫‪ -‬الغرب الذي كنا نعرفه ونطابق بينه والنزعة الكونية‬

‫واإلنسانية قد انتهى‪ .‬وولد في مكانه غرب نثريّ يتحوّل بشكل‬

‫من الجميع‪ .‬أعتقد أن السهولة في االنتقال من لغة مخاطبة‬ ‫إلى لغة أخرى ناجمة عما ذكرته من ُ‬ ‫قبل في التمييز بين العالِم‬

‫متسارع إلى الركاكة والرثاثة األخالقية وال ِقيَمية‪ .‬غرب لم يَعُ دْ‬

‫يكن هَ مّ التواصل مع أوسع جمهور ممكن غائبًا عن جيل الباحثين‬

‫اجتماعية تهتمّ اليوم أكثر بشؤونها الداخلية‪ ،‬وإرضاء ناخبيها‪،‬‬

‫االختصاصي وبين المُ ِّ‬ ‫فكر‪ .‬حتى الكتب العلمية أو المختصة‪ ،‬لم‬ ‫ّ‬

‫العرب الذين اشتهروا في الحقبة الماضية‪ .‬ثم إن هؤالء كانوا‬ ‫على العموم ذوي هموم سياسية ومعظمهم جمعوا في حِ َقب‬ ‫المعرفي؛ من عبدالله العروي إلى‬ ‫السياسي والهَمَّ‬ ‫مختلفة الهَمَّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫محمد عابد الجابري إلى هشام جعيط‪ ،‬وهناك كثيرون غيرهم‪.‬‬

‫نكبات كثيرة حدثت في أصقاع متفرقة من العالم‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫وكانت تداعياتها مؤثرة ومثيرة لكثير من األسئلة والتساؤالت‪،‬‬ ‫اً‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫السوري‬ ‫سيل واسع من التعاطف‪ ،‬لكن نكبة الالجئ‬ ‫ومد ّرة‬ ‫كانت مختلفة؛ مشاهد الفرار ليس من سوريا فحسب‪،‬‬

‫العربي كله‪ ،‬كانت مرعبة‪ ،‬لكن السؤال هنا‬ ‫إنما من العالم‬ ‫ّ‬ ‫ِّ‬ ‫ً‬ ‫رئيسا فيما‬ ‫الغربي‪ ،‬الذي من جهة يمثل سببًا‬ ‫يتعلق باآلخر‬ ‫ّ‬

‫هو نفسه منتشيًا بتاريخه ومبادئه وحضارته الفكرية‪ .‬كل نخبة‬ ‫وتأمين عملية انتخابية مقبولة‪ ،‬وطمأنة الناخبين على استمرار‬ ‫المرافق والخِ دمات العامة والتأمين الصحي ودعم النمو وإيجاد‬

‫يوجد قلق كبير من مصير األقليات؛‬ ‫بسبب تصاعد موجة اإلسالم‬ ‫السياسي‪ ،‬وبخاصة َد ْور التنظيمات‬ ‫ّ‬ ‫اإلسالمية الجهادية‪ ،‬واحتمال‬ ‫سيطرتها على السلطة‬

‫يأت جيل بعدكم‬ ‫تنتمي إلى جيل من المفكرين العرب‪ ،‬ربما يصعب تعويضهم‪ ،‬أو على األقل‪ ،‬لم ِ‬ ‫ُ‬ ‫يتمتع بمالمح معينة‪ ،‬ويشتغل بمشاريع كبرى‪ُ ،‬‬ ‫أسئلة النهضة والتقدم والتخلف والعقل والتراث‪ ،‬ربما‬ ‫وتقلقه‬ ‫وجد مفكرون ينتمون إلى لحظة مختلفة جاءت بعدكم‪ ،‬لكن هؤالء المفكرين لم يلفتوا االنتباه ويحظوا بانتشار‬

‫التاريخي‬ ‫وقراءة مثلكم‪ ،‬حتى في أوساط الدوائر المتخصصة؛ من المسؤول هنا؟ المفكر نفسه أم الواقع‬ ‫ّ‬ ‫واالجتماعي والسياسي الذي وجد فيه‪ ،‬أم أمور أخرى؟‬ ‫ّ‬ ‫ ال أعتقد أن هناك مسؤولاً ‪ .‬أعتقد أن السياقات التاريخية والظروف هي التي تخلق ّ‬‫ّ‬ ‫ومفكريها‪ .‬المكانة‬ ‫مثقفيها‬ ‫ُّ‬ ‫والتطلع إلى بناء‬ ‫والدَّ وْر الذي أدَّاه جيل المفكرين الذين تتحدث عنهم ارتبط بسياق الخروج من الحقبة االستعمارية‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫المجتمعات الحديثة‪ .‬وولد في هذا‬ ‫وتطلعاته‬ ‫ُجاري في تقدُّ مه وأُ ُطر تنظيمه‬ ‫عربي جديد‪،‬‬ ‫عالم‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫دولة ومجتمعً ا‪ ،‬ي ِ‬

‫ّ‬ ‫خاص على مثقف ال يقتصر َدوْره على تقديم معرفة ِعلمية و ْ‬ ‫َصفية اختصاصية‪ ،‬إنما يربط هذه‬ ‫الظرف طلب من نوع‬ ‫ً‬ ‫األيديولوجي‪،‬‬ ‫المثقف‬ ‫نشأ‬ ‫وهكذا‬ ‫والتحديث‪.‬‬ ‫والتقدم‬ ‫النهضة‬ ‫سؤال‬ ‫عن‬ ‫تجيب‬ ‫وشاملة‬ ‫تاريخية‬ ‫برؤية‬ ‫أيضا‪-‬‬‫المعرفة‬ ‫ّ‬

‫َ‬ ‫وإلى ٍّ‬ ‫الوطني الذي سبقه وقبله المثقف‬ ‫المثقف‬ ‫حد كبير العضويُّ أو المتفاعل مع المجتمع والتاريخ‪ ،‬الذي و َِرث‬ ‫َّ‬ ‫تكسرت تغيب عن الذهن والنقاش؛‬ ‫اإلصالحي‪ ،‬وقبلهما مثقف النهضة التجديديّ ‪ .‬اآلن تكاد مشاريع النهضة التي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫لتفتح الباب أمام حِ قبة جديدة يسودها المختصون من علماء االجتماع والسياسة واالقتصاد والتاريخ؛ لذلك يتراجع‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ليحل‬ ‫المفكر‬ ‫أيضا‪ -‬استخدام لفظ‬‫األكاديمي أو العالِم‪ .‬وفي اعتقادي سوف يَزيد الطلب على‬ ‫محله مصطلح الباحث أو‬ ‫ّ‬

‫نفسها‪ ،‬وانحسار الحديث في‬ ‫المعرفة االختصاصية في المستقبل بشكل أكبر مع االنكفاء على إعادة بناء المجتمعات َ‬ ‫المشاريع التاريخية الكبرى التي كانت تختفي وراء أفكار النهضة والوَحْ دَ ة َ‬ ‫القوْمية والحَ دَ اثة‪ ،‬التي ربما تعود فيما بعد‬

‫ِّ‬ ‫والصيَغ والمفاهيم‪.‬‬ ‫في حُ َّلة مختلفة من المناهج‬

‫‪85‬‬


‫حوار‬

‫فرص عمل جديدة‪.‬‬

‫الغرب يعيش اليوم في تاريخية عادية ليس لها أيّ عالقة‬

‫بتاريخية العظمة التي كان يسعى للحفاظ عليها سواء أكان‬ ‫بوساطة ُّ‬ ‫تطلعه إلى القيادة والسيطرة الحضارية والتماهي مع‬

‫القيم اإلنسانية الجامعة وحقوق اإلنسان‪ ،‬أم بوساطة مساعدته‬ ‫الشعوب األخرى؛ للحاق ب َر ْكب حضارته التي كان يراها دائمً ا‬ ‫كونية‪ .‬أحداث ربيع الثورات العربية الكبيرة أظهرت انسحاب‬

‫الغرب وتقوقعه على ذاته‪ ،‬ليس على مستوى نشر القوى‬ ‫ُّ‬ ‫والتطلعات‪ .‬ال‬ ‫العسكرية‪ ،‬إنما على مستوى المبادئ والقيم‬ ‫يريد أن يكون محس ًنا وال كونيًّا وال قدوة وال حاميًا وال وصيًّا‪.‬‬

‫يريد أن ينقذ رهاناته األساسية‪ .‬وهو يراها أكثر فأكثر في الحفاظ‬ ‫على التناغم واالنسجام داخل مجتمعاته وبيئته الداخلية‪ .‬األمن‬ ‫والصحة والسالم هي القيم الثالث الرئيسة التي تحكمه وتتحكم‬

‫الطبيعي أن تبدو موجات الهجرة القادمة‬ ‫في سلوكه‪ .‬ومن‬ ‫ّ‬ ‫تهديدًا كبي ًرا لهذه التوازنات‪ ،‬ما لم ترد على حاجة اقتصادية‬

‫مثلما هي الحال في ألمانيا‪ .‬لم يفقد الغرب إرادة السيطرة‬ ‫ً‬ ‫العالمية التي كانت تح ّركه لكنه فقد‬ ‫أيضا‪« -‬كرمه» المعنويّ‬‫أي أريحيته‪ .‬ما يريده اليوم هو الراحة واالستقرار والرخاء‪.‬‬ ‫َ‬ ‫العالمَ ‪ ،‬وربما لن‬ ‫باختصار‪ ،‬الغرب يعرف اليوم أنه ليس‬

‫‪86‬‬

‫َ‬ ‫العالم‪ ،‬ويريد أن يحتفظ بما يمتلكه من‬ ‫َيبْقى طويلاً في قلب‬ ‫تراث و ِقيَم لنفسه‪ .‬ال يهمُّ ه اآلخر؛ أي‪ :‬ال يهمه موت اآلخر ً‬ ‫أيضا‪-‬‬‫وال مصيره‪.‬‬

‫اعتدنا ً‬ ‫ً‬ ‫وجها آخر للنظام؛‬ ‫نمطا من المعارضة يكون‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ويسوق برامجه؛ كيف يمكن أن‬ ‫ويسوغ أفعاله‪،‬‬ ‫يتماهى معه‬ ‫نصل إلى معارضة تفضح بشاعة النظام وتواجه تغطرسه‪،‬‬

‫وتساعده على اكتشاف خططه الخاطئة‪ ،‬وتهوره في صنع‬ ‫القرار؟‬

‫‪ -‬في غياب الحريات‪ ،‬كما هي الحال في جميع ال ُّنظم غير‬

‫الديمقراطية‪ ،‬ال توجد وال يمكن أن توجد معارضة فعلية وفاعلة‬

‫وديناميكية‪ .‬المعارضة هي وظيفة سياسية في نظام يسمح‬ ‫بتعدُّد القوى‪ ،‬ويعترف بتعدُّد المصالح وال ُّر َؤى ووجهات النظر‪،‬‬

‫وبشرعية التنافس بوصفها آلية للتصحيح والتعديل؛ لتحقيق‬ ‫االنسجام والتوازن فيما بينها‪ ،‬ومن َثمَّ االستقرار الطويل المدى‪.‬‬

‫في غياب هذه الوظيفة وهامش المنافسة المرتبط بها؛ تنشأ‬ ‫ُ‬ ‫هدفها التغطية على الجمود وانعدام إمكانية‬ ‫معارضة شكلية‬ ‫التعديل والتصحيح‪ ،‬من جهة‪ ،‬وهي بالضرورة معارضة طفيلية‬ ‫تعيش على جسم النظام‪ .‬وهذا هو وضع معظم معارضاتنا؛‬

‫إذ تغيب هوامش الحرية‪ .‬أما الوظيفة األساسية التي تسمح‬

‫بتعديل األوضاع وتسوية المصالح فيما بينها‪ ،‬فال تتحقق من‬ ‫داخل النظام لكن من خارجه‪ ،‬وتتخذ شكل رفض له‪َ ،‬‬ ‫وتتم َّرد‬ ‫عليه‪ .‬وهي بالضرورة ودائمً ا ذات طابع متط ِّرف‪ ،‬وفي مجتمعاتنا‬ ‫َ‬ ‫شكل‬ ‫الفقيرة بالثقافة السياسية‪ ،‬يتخذ تم ُّردُها وتط ُّرفها‬ ‫انشقاق ال يجد مصدرًا للشرعية سوى ِّ‬ ‫الدين‪ .‬هذا هو أصل نشوء‬

‫الحركات اإلسالمية السياسية‪ .‬ومن الواضح أنه ال المعارضة‬ ‫العائشة كالطفيليات على جسم النظام القائم‪ ،‬وال المعارضة‬

‫التم ُّردية الناقمة على النظام والرافضة لشرعيته ووجوده؛‬ ‫ٌ‬ ‫قادرة على ملء الوظيفة الشاغرة التي تتعلق بإيجاد آلية للحراك‬

‫والتفاوضي للمصالح‬ ‫السلمي‬ ‫والسياسي والتعديل‬ ‫االجتماعي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬ ‫والتوازنات؛ كي يتحقق حدٌّ من االنسجام واالستقرار‪ .‬الحل هو‬

‫خلق شروط المعارضة السياسية الطبيعية‪ ،‬وهي مرتبطة بوالدة‬ ‫أنظمة سياسية ديمقراطية تعدُّدية وتداولية‪.‬‬

‫لزمن طويل هيمنت الثنائيات‬

‫العربي‪ ،‬األصالة‬ ‫على خطاب الفكر‬ ‫ّ‬ ‫والمعاصرة‪ ،‬التراث والحداثة‪ ،‬إضافة‬ ‫ّ‬ ‫صلة‬ ‫إلى موضوعات عامة‪ ،‬تكاد ال‬ ‫تمت بِ ِ‬

‫إلى مجتمع معيَّن‪ ،‬على ما يذهب الكاتب‬ ‫حازم صاغية‪ ،‬وهو يتأمل حالتك بوصفك‬ ‫مفك ًرا يواجه ً‬ ‫عنفا لفظيًّا‪ ،‬ويعاين انتقالك‬

‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫المحدد‪،‬‬ ‫الوطني‬ ‫العام المحض إلى‬ ‫من‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫إذا هل نحن أمام لحظة ستغير كثي ًرا من‬

‫قناعات المفكر؛ أي ِّ‬ ‫َ‬ ‫وست َهبه فرصة‬ ‫مفكر‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫تعوض؛ الختبار كثير من أفكاره في‬ ‫ال‬ ‫لحم الواقع؟‬ ‫َ‬ ‫الممارسة أسئلةً‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫طرحت عل َّي‬ ‫بالتأكيد‪.‬‬

‫وتحديات لم أكن أعرفها وال‬ ‫وإشكاليات‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬


‫فصاعدا‪ ..‬لن تخمد نار الحرب!‬ ‫برهان غليون‪ :‬من اآلن‬ ‫ً‬

‫أتوقعها‪ .‬وأنا أشعر أن هناك ورشات عمل نظرية كثيرة‪ ،‬كنا قد‬ ‫تجاهلناها وهي تفرض نفسها بقوة اآلن‪ .‬فيما يتصل بي‪ ،‬بعد‬

‫تركيزي في مؤلفاتي السابقة على محور َِي الثقافة والسياسة؛‬ ‫أشعر اليوم أن هناك عملاً نظريًّا كبي ًرا لم ُ‬ ‫نقمْ به بعدُ على صعيد‬ ‫تحليل المجتمعات المدنية‪ ،‬أو ال ِب َنى االجتماعية واألنثربولوجية‬ ‫والنفسية واألخالقية لهذه المجتمعات‪ .‬إذا لم تغ ِّي ْر ُ‬ ‫مثل هذه‬ ‫األحداث العظيمة والمآسي واإلخفاقات الرهيبة أفكارَنا فلن‬

‫تتغير أبدًا‪ .‬وال أتحدث عن المفكرين والعلماء فحسب‪ ،‬إنما عن‬ ‫عموم العرب وإنسانهم‪.‬‬

‫العنف سببه اإلخفاق في االندماج‬

‫تعيش في باريس وتعمل في جامعتها المرموقة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫العربي؛ كيف ترى‬ ‫منخرطا في قضايا الواقع‬ ‫لكنك بقيت‬ ‫ّ‬

‫اليوم ما يحدث في الغرب‪ ،‬وبخاصة باريس‪ ،‬من اعتداءات‬ ‫وإرهاب‪ ،‬يقوم بها أناس يحملون جنسيات أوربية‪ ،‬وفي‬ ‫الوقت نفسه ينتمون إلى اإلسالم والعرب؛ لماذا على‬ ‫ً‬ ‫أوضاعا مأساوية في أطوار‬ ‫اإلسالم و«العربي» الذي يعيش‬

‫كثيرة من تاريخه‪ ،‬أن يدفع ثمن كل ذلك؟‬

‫ما يحدث من عمليات عنف يقوم بها فرنسيون أو أوربيون‬ ‫عربي مسلم هي نتيجة ْالتقاء عاملين؛ األول إخفاق‬ ‫من أصل‬ ‫ّ‬ ‫بعض المهاجرين في االندماج في مجتمعاتهم؛ ألسباب‬ ‫شخصية أو جماعية‪ ،‬واألزمة الكبرى التي تعيشها المجتمعات‬ ‫العربية وانعكاساتها على هؤالء المهاجرين في العمق هي تعبي ٌر‬

‫عن اليأس الذي يلعب في إنتاجه إخفاق سياسات اإلدماج في‬

‫كثير من الدول األوربية‪ ،‬وإخفاق إقالع المجتمعات العربية‬ ‫وتقدُّ مها‪ ،‬والسبب الثاني هو وجود البيئة المتفجّ رة الداعمة‬ ‫نفسيًّا وماديًّا فوضى الصراع الدامي الذي تعرفه المجتمعات‬ ‫العربية الراهنة‪ .‬وكالهما أزمة اندماج المهاجرين أو األوربيين‬ ‫من أصول مسلمة عربية‪ ،‬وأزمة اندماج المجتمعات العربية في‬

‫الحضارة وتحقيقها تطلعات شعوبها يوجِّ هان إصبع االتهام إلى‬ ‫الغرب‪.‬‬

‫عمليات االعتداء التي تتك ّرر تعكس رُوح االنتقام التي تعبِّر‬

‫عن التخبُّط واليأس أكثر مما تعكس رؤية أليّ مشروع طويل‬ ‫المدى‪ .‬هي ردود أفعال مخفقة ُ‬ ‫ّ‬ ‫يغطون‬ ‫ألناس مخفقين‬ ‫على إخفاقهم باستعراض أقصى ما يمكن من العنف والقوة‬

‫والعدوان على األبرياء‪.‬‬

‫َ‬ ‫قلت ذات مرة‪ :‬إن غياب أجندة قومية أو إقليمية‬

‫لدى العرب‪ ،‬غذى شراهة التوسع واالستحواذ لدى إيران‪،‬‬ ‫ً‬ ‫تحولت إلى عامل ُي ِّ‬ ‫وعوضا من أن تكون َظ ِهي ًرا للعرب‪َّ ،‬‬ ‫قسم‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ويشتتها‪ ،‬لكن كيف ترى الدعوات التي‬ ‫الدول العربية‬

‫فصاعدا‪ ،‬لن تخمد نار الحرب‪،‬‬ ‫من اآلن‬ ‫ً‬ ‫احترام‬ ‫ولن يهدأ القتال قبل أن يصبح‬ ‫ُ‬ ‫حقوق اإلنسان؛ أي‪ :‬كرامته‪ ،‬القيمةَ‬ ‫المشتركة بين جميع ُن ُظم المنطقة‬ ‫تطلقها بعض األنظمة العربية إلى إيران؛ لتحقيق عالقة‬

‫يطبعها حسن الجوار‪ ،‬وتوحيد المواقف تجاه مكامن الخطر‬ ‫على إيران والعرب‪ ،‬بحكم ِّ‬ ‫الدين الذي يجمعهم؟‬ ‫لم يَعُ دِ ِّ‬ ‫الدين يجمع أحدًا‪ ،‬حتى داخِ ل المذهب الواحد‪.‬‬

‫وأنت ترى الصراعات داخل صفوف الحركات اإلسالمية السياسية‬ ‫ذاتها‪ .‬منطق العالقات الدولية شبيه باألواني المستطرقة‪ ،‬حيثما‬ ‫يظهر فراغ تتحرك القوة األقرب لِمَ ْل ِئه‪ .‬ما َّ‬ ‫تبقى هو خطاب إلضفاء‬

‫الشرعية على الفعل‪ .‬لكن الفعل ال عالقة له بالخطاب‪ ،‬لكن‬

‫باختالل التوازنات في القوى‪ .‬ما حصل في منطقتنا هو أن إيران‬ ‫َتحوَّلت إلى قوة نشيطة بعد الثورة اإلسالمية التي عرفتها في‬ ‫الثمانينيات‪ ،‬مزوّدة بإرادة تأكيد للذات‪ ،‬وبعقيدة دينية قومية‬ ‫جامعة‪ ،‬وبسلطة فردية استثنائية فيما تملكه من الشرعية؛‬ ‫َ‬ ‫إذ ال تشبه سُ ُ‬ ‫لطة ال َول ِّي َ‬ ‫سلطة أحد سوى بابا الكنيسة‬ ‫الف ِقيه‬

‫الغربي لها من ُلحمتها الداخلية‪،‬‬ ‫الكاثوليكية‪ .‬وقد عمَّ ق العداء‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬ ‫ِّ‬ ‫التحدي والتطلع إلى الهيمنة اإلقليمية‪ .‬وجاءت‬ ‫وبعث فيها رُوح‬ ‫العراقي؛ لتفتح أمام طهران‬ ‫الحرب الدولية إلسقاط النظام‬ ‫ّ‬ ‫الخمينية ً‬ ‫ُ‬ ‫آفاقا واسعة لممارسة سياسة التوسُّ ع باسم نشر الثورة‬

‫ومبادئها‪ .‬وفي سياق هذه السياسة التوسعية وركابها انتعشت‬

‫رُوح المذهبية ِّ‬ ‫الدينية‪ ،‬وصارت سالحً ا إضافيًّا لزعزعة استقرار‬ ‫إستراتيجي كبير بعد سقوط‬ ‫البُلدان العربية التي تعيش في فراغ‬ ‫ّ‬ ‫العراقي وتسهيل اختراقها‪.‬‬ ‫الحاجز‬ ‫ّ‬

‫عربي في‬ ‫وقد نجحت طهران في إيقاع أكثر من نظام‬ ‫ّ‬ ‫أحابيلها‪ ،‬وراهنت على تعبئة القوى المحلية المذهبية‪ ،‬وبقينا‬

‫خاملين‪ ،‬نراهن على قوة الدعم األجنبية اعتقادًا أن الواليات‬

‫المتحدة األميركية قادرة عند الحاجة على الدفاع عن حلفائها‪.‬‬ ‫بينما كانت طهران تنمِّ ي قواها‪ ،‬كنا نبني الفنادق والمركبات‬ ‫السكنية الفاخرة‪.‬‬

‫ليس من الممكن عودة االستقرار واألمن والسالم إلى‬

‫اإلستراتيجي بين العرب‬ ‫المنطقة من دون استعادة التوازن‬ ‫ّ‬ ‫الوطني‬ ‫العربي‬ ‫وإيران‪ .‬وهذا يستدعي إعادة هيكلة النظام‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫متماسكا وقادرًا على المقاومة العسكرية‬ ‫واإلقليمي؛ ليصبح‬ ‫ّ‬

‫والمعنوية‪.‬‬

‫‪87‬‬


‫مقال‬

‫الرواية وأنا‪..‬‬ ‫صناعة أقدار وصيد بط!‬ ‫يسألون‪ :‬هل نحن نعيش عصر الرواية؟ وأسال أنا‪ :‬منذ متى لم يكن للرواية عصر تعيش فيه؟ إنها‬

‫شيء خالد كال ُّروح‪ ،‬الرواية ليست سوى حكاية واحدة آلالف الحكايات التي نعيشها كل لحظة‪ .‬حتى أكثر‬

‫الروايات جنوحً ا للخيال‪ ،‬هي األخرى تنطلق من حكاية عشناها في زمن ما‪ .‬أو ال نزال نعيشها؛ كل واحد‬ ‫منا له حكاياته‪ ،‬كل واحد منها هو بذاته حكاية‪ .‬أنا‪ .‬أنت‪ .‬اآلخرون هم كلهم حكاية‪ .‬ولكل واحد أسلوب في‬ ‫ً‬ ‫وأحيانا يكتفي صاحب الحكاية بسردها على األصدقاء‪ ،‬وسواء‬ ‫طرح حكايته؛ بعضنا يكتبها‪ ،‬فتصبح رواية‪.‬‬

‫كتب اإلنسان حكايته‪ ،‬أم اكتفى بسردها‪ ،‬فنحن جميعنا رُواة بشكل أو بآخر؛ ما يجعل أحدنا أكثر براعة‬ ‫من غيره‪ ،‬هو األسلوب الذي يطرح فيه حكايته‪.‬‬

‫في الماضي‪ ،‬كان (الحكواتي) أو الراوي‪ ،‬هو الرواية كلها‪ ،‬فهو جزء من القصة التي يرويها بالترتيب‬ ‫يمل هو‪ ،‬أو ّ‬ ‫والتسلسل نفسه من دون أن ّ‬ ‫نمل نحن من سماعها؛ ليلى والمجنون‪ ،‬عنتر وعبلة‪ ،‬أبو زيد الهاللي‪،‬‬ ‫وحكايات أخرى كثيرة‪ .‬نعرف بداية كل حكاية ونهايتها‪ ،‬ومع ذلك نسمعها من فم الراوي‪ ،‬باهتمام شديد كل‬

‫‪88‬‬

‫مرة‪ ،‬كأننا نسمعها أول مرة‪ ،‬ويعني هذا أن األسلوب في الطرح‪ ،‬هو ما يجعل العمل روائيًّا ممتعً ا‪ ،‬أو يسلبه‬ ‫هذه الصفة‪ ،‬لكن الحكاية تبقى هي ذاتها‪ ،‬قطعة من تجربة يومية؛ ُكتبت أم لم ُتك َتب‪ ،‬رُويت أم لم ُت ْروَ‪.‬‬ ‫حينما ُ‬ ‫كنت شديدَ الخجل من مواجهة الناس‪ ،‬وحينما كنت أتمتع بأسلوب إلقاء تعيس‪ ،‬فقد آثرت أن‬ ‫ُ‬ ‫أَ َّتجه إلى الرواية المكتوبة‪ ،‬كنت أعيش كل يوم رواية‪ ،‬فأحببت أن أسجِّ ل ما أعيش‪ ،‬لكنني وفي أحيان كثيرة‬

‫تم َّنيت لو لم تكن التجربة التي عشتها‪ ،‬أو سمعتها‪ ،‬ابتدأت أو انتهت كما حدثت بالفعل‪ .‬وكم تخيلتها لو‬ ‫بدأت هكذا وانتهت هكذا‪ ،‬وألنني كنت عاج ًزا عن تغيير الواقع‪ ،‬فقد التجأت إلى الرواية‪ ،‬إلى الخيال؛ ألصنع‬ ‫َّدت مُ ً‬ ‫كل شيء كما أريد‪ ،‬شي ُ‬ ‫دنا كما أريد‪ ،‬وخلقت شخصيات كما أريد‪ ،‬وح َّركت األحداث كما أريد‪ ،‬لقد‬

‫كنت أصنع أقدار أبطالي كما تم َّنيت دومً ا أن تكون نجاحاتهم وإخفاقاتهم‪ ،‬وبداياتهم ونهاياتهم‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ما فعل ُته بعد ذلك هو أنني لزمت مكاني صام ًتا‪ ،‬إن ُ‬ ‫ترفعت عن مراقبة ردود ِفعْ ل الق َّراء‬ ‫قلت‪ :‬إني‬ ‫ُّ‬ ‫كنت‪ ،‬في صمتي‪ ،‬شديدَ‬ ‫كذبت‪ ،‬بل ُ‬ ‫ُ‬ ‫التطلع إلى معرفة رأي القارئ كائ ًنا مَ ن كان‪ ،‬ومع‬ ‫على ما أكتب‪ ،‬فقد‬

‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫وأصررت في العلن أكثر مما في السر على أن قمة نجاح الروائي هو‬ ‫استمررت في ا ِّدعائي أني ال آبه له‪،‬‬ ‫هذا‬ ‫ً‬ ‫أن يكتب فقط‪ ،‬ربما كان ذلك حقيقيًّا‪ ،‬كما أدركت الحقا‪ ،‬لكنني حينها‪ ،‬وفي البدايات‪ ،‬كنت خالف ذلك؛‬ ‫ُ‬ ‫حركت جزءً ا‪ ،‬ولو ضئيلاً ‪ ،‬من البحيرة‪.‬‬ ‫أستجدي كل ثناء أو نقد‪ ،‬حتى هذا األخير يَعْ ني أنني قد‬ ‫ً‬ ‫وكما ُ‬ ‫الحقا‪ ،‬أن نجاح الروائي ال يتحقق من خالل ثناء الناس عليه أو رفضهم إياه‪،‬‬ ‫قلت‪ ،‬فقد أدركت‬ ‫وال من خالل جائزة يحصل عليها أو مكافأة ينالها‪ ،‬فلم تكن تلك الجوائز في رأيي سوى إهانة رهيبة لألدب‪،‬‬ ‫ً‬ ‫الحقا‪ ،‬وبقناعة راسخة‪ ،‬أن أعظم مكافأة يستحقها الروائي والكاتب أن يتجرد من خوفه‪،‬‬ ‫أقول‪ :‬إني أدركت‬ ‫ويكتب ما هو مؤمن به‪َ .‬‬ ‫ُرضي‬ ‫وتعَ مَّ َق في يقيني أن قمة نجاح الروائي أن يكون أنانيًّا في المطلق؛ أي‪ :‬أن ي ِ‬ ‫نفسه أولاً وأخي ًرا‪ ،‬ال أن يسعى إلى إرضاء ُ‬ ‫الق َّراء‪ ،‬أو استجداء الجوائز‪.‬‬ ‫وأنا اليوم هنا بعد رحلة طويلة مع ُ‬ ‫الكتب‪ ،‬والقلم‪ ،‬وقدر كبير من الروايات التي كتبتها أو التي قرأتها؛‬

‫أتمنى بحسرة لو يمكنني تأسيس جمعية أو منظمة ترسِّ خ غايتها لمحاربة جوائز األدب؛ إذ إن من شأن‬ ‫تلك الجوائز‪ ،‬إضافة إلى إهانة األدب‪ ،‬أن تقتله ً‬ ‫أيضا‪ ،‬ويكفي أنها أصبحت مقياس نجاح الرواية وإخفاقها؛‬ ‫حتى بات ُ‬ ‫الك َّتاب يستجدون ال ِّرفعة من وراء جائزة يتيمة‪ ،‬أكثر مما يستجدون السم ّو من إيمانهم الصادق‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬


‫ّ‬ ‫تستحق محض‬ ‫والمخلص بما كتبوا‪ .‬وها نحن نرى اليوم روايات ال‬

‫القراءة‪ ،‬وقد حصدت من الجوائز ما لم تحصده روايات أعظم‬ ‫ّ‬ ‫منها ً‬ ‫الحظ خذل واحدة‪،‬‬ ‫شأنا‪ ،‬وما الفارق بين هذه وتلك سوى أن‬ ‫وقاد أخرى إلى أصحاب العصمة والقرار‪.‬‬ ‫لقد أَسَ َر ِني َ‬ ‫عالمُ الرواية في نقائه؛ حتى ُّ‬ ‫بت أرى في كل‬

‫مقاطع يومي‪ ،‬صباحي ومسائي‪ ،‬فكرة رواية جديدة‪ ،‬الوقت‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫تتملص مني في أحايين أخرى‪،‬‬ ‫أحيانا‪ ،‬والفكرة نفسها‬ ‫يخذلني‬ ‫ُّ‬ ‫فبت كصياد البط الذي يكمن لفريسته بين أعواد القصب‪ ،‬لكن‬ ‫ُّ‬ ‫التملص من السقوط في كمائن الكاتب‪،‬‬ ‫األفكار مناورة وماهرة في‬

‫فالبط يُغيِّر مكانه والصيا ُد قابِعٌ ينتظر‪ ،‬كان عليه أن يُغيِّر موقعه‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وهكذا ُّ‬ ‫بحثا عن فكرة طائرة ال تهرب مني‪،‬‬ ‫بت أُغيِّر موقعي؛‬

‫هاني نقشبندي‬

‫فتكون عملاً جديدً ا يبدأ من أرض الواقع‪ ،‬حيث أنا بين أعواد‬ ‫القصب‪ ،‬ثم أُ ِّ‬ ‫حلق به أعلى من مستوى البط‪.‬‬

‫روائي سعودي‬

‫ومتى أضحت الفكرة أسيرتي‪ ،‬ال مجال لهروبها من قلمي‪ ،‬ال‬

‫تلبث تلك الفكرة أن تتعاطف مع القلم ضدي‪ ،‬فيسعيان معً ا إلى‬ ‫َل ِّي ذراعي؛ لأِ توجَّ َه بالكتابة إلى طريق آخر غير الذي كنت أرمي إليه‬

‫‪89‬‬

‫عندما وضعت الكلمة األولى‪ ،‬ال أتوقف عن الكتابة وال أستسلم‪،‬‬

‫ونتحاب‪ ،‬ثم نتعارك من‬ ‫وال القلم والفكرة يستسلمان‪ ،‬فنتعارك‪،‬‬ ‫ّ‬

‫جديد‪ ،‬فنفترق ونلتقي‪ ،‬وأخي ًرا يكتمل العمل وقد انتصر أحدُ نا؛‬ ‫أنا أو هما‪ ،‬وأيًّا كان المنتصر‪ ،‬سيكون هناك عمل ما‪ ،‬وهذا أعلى‬

‫درجات النجاح الذي يجب أن ينشده أيُّ روائي‪.‬‬

‫فعندما يقول أحدهم‪ :‬إن هذه الرواية قد نجحت وتلك أخفقت‪،‬‬

‫فإن مثل هؤالء يجهلون تمامً ا‪ ،‬أنه ال توجد رواية ناجحة وأخرى غير‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫نجحت؟ إن‬ ‫كبيرة تكون قد‬ ‫يعات‬ ‫الرواية مَ ِب‬ ‫حققت‬ ‫ناجحة‪ ،‬فهل لو‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫كان هذا هو المقياس‪ُ ،‬‬ ‫فكتب الجنس ال يضاهيها ُك ُتب‪ ،‬أما إن كان‬ ‫لاً‬ ‫مقياس النجاح هو الجوائز‪ ،‬فكم من كاتب مات مجهو ثم أضحى‬ ‫عظيمً ا‪ ،‬ولو كان مقياس النجاح هو تلهف الناس على قراءة العمل‪،‬‬

‫فكتاب مثل «التاريخ المختصر للزمن» لستيف هوكينغ ال يوجد من‬

‫لم يسمع به‪ ،‬لكن مَ ن قرأه أو استطاع أن يفهمه؟‬ ‫ال َتعْ دا َد ال ُّن َسخ المَ ِبيعة من الرواية‪ ،‬وال الجوائز‪ ،‬وال السمعة‬

‫التي رافقتها أو َّ‬ ‫تخلت عنها‪ُ ،‬تعَ دُّ مقياسً ا لنجاح الروائي‪ ،‬فإن كان‬ ‫ِب َ‬ ‫نجاح واحد يُعْ َتدُّ به فهو أن ي ِّ‬ ‫عمله كما‬ ‫مقياس‬ ‫هناك مِن‬ ‫ُقدم الكات ُ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫ومستمسكا بأخالقياته‪ ،‬ولو خالف‬ ‫هو مؤمن به‪ ،‬متج ِّردًا من خوفه‪،‬‬ ‫البشرية كلها أو خالف ْته‪ .‬في هذه الحال سيكون قد َّ‬ ‫حقق نجاحً ا‬

‫كبي ًرا‪ ،‬ولو لم يقرأ عمله إنسان؛ إذ مَ ن يعلم ماذا يخبئ المستقبل‪.‬‬ ‫واليوم‪ ..‬إن كان مِن و َُقود يدفع محرك الكتابة في داخلي‬

‫لالستمرار بال كلل‪ ،‬فهو هذا الشيء وَحْ دَ ه‪ ،‬ال أكثر‪.‬‬

‫أتمنى بحسرة لو يمكنني‬ ‫تأسيس جمعية أو منظمة‬ ‫ترسخ غايتها لمحاربة‬ ‫ِّ‬ ‫جوائز األدب؛ إذ إن من‬ ‫شأن تلك الجوائز‪ ،‬إضافة‬ ‫إلى إهانة األدب‪ ،‬أن تقتله‬ ‫أيضا‬ ‫ً‬


‫قضايا‬

‫مثقفون يتأملون أحواله وتأثير السياسة في دوره‬

‫العربي‬ ‫هل غ َّيرت ثورات الربيع‬ ‫ّ‬ ‫المثقف وزادته ارتبا ًكا؟‬ ‫صبحي موسى‬ ‫كاتب وصحفي مصري‬

‫العربي‪،‬‬ ‫لسنوات ِع َّدة درجت السينما على تقديم صورة نمطية للمثقف في الوطن‬ ‫ّ‬

‫العربي‪ ،‬وظهور وسائط‬ ‫وحصره في كونه الشاعر أو الكاتب‪ ،‬ومع اندالع ثورات الربيع‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫تواصل وأدوات اتصال جديدة ال يتقنها إال جيل جديد ومغاير‪ ،‬تأكد للجميع أن مفهوم‬ ‫ُّ‬ ‫والتعدد‬ ‫المثقف صار أوسع وأكبر مما اعتادوه‪ ،‬ومن َث َّم أخذت هذه الصورة في التغيُّر‬

‫‪90‬‬

‫ّ‬ ‫مهتزة ومرتبكة وغير مفهومة في أعين الجميع‪ .‬في هذا التحقيق‬ ‫والتبا ُين‪ ،‬إلى أن صارت‬ ‫تحاول «الفيصل» إعادة صياغة مفهوم المثقف ودوره وصوره التي يجيئنا من خاللها‪.‬‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬


‫في البدء ع َّرف وزي ُر الثقافة المصريّ األسبق الدكتور‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫موقفا‬ ‫المثقف بكونه الشخص الذي ي ّتخذ‬ ‫جابر عصفور‬

‫المثقف؛ ألنه صاحب موقف نقديّ ‪ ،‬وإسالم بحيري هو‬ ‫ً‬ ‫موقفا نقد ًّيا من الخطاب‬ ‫نموذج لهذا المثقف؛ ألنه َّاتخذ‬

‫قضايا هذا الواقع‪ ،‬وفي حال اتخاذه موقعً ا وظيفيًّا‬ ‫كأن يكون وزي ًرا أو غير ذلك فالبد أن يظل محاف ً‬ ‫ِظا على‬

‫وفاعلة ومتعددة في أماكنها المتباينة‪ ،‬وإن لم يرصدها‬

‫نقديًّا مما يدور في واقعه‪ ،‬بحيث ال يكون سلب ًّيا تجاه‬

‫موقفه النقديّ من قضايا الواقع‪ .‬وذهب عصفور إلى أن‬

‫العربي‬ ‫صورة المثقف هي صورة مهمة وكبيرة؛ ألن الربيع‬ ‫ّ‬ ‫كان ثورة مثقفين بأدوات ّاتصال حديثة‪ ،‬فالذين قاموا‬ ‫بالثورة هم الشباب أبناء أدوات االتصال الحديثة؛ لذلك‬ ‫كانت حركتهم أسرع من حركة الدولة وأدواتها الروتينية‬

‫القديمة المتهالكة‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫وقال‪« :‬إن المثقف سيظل مؤث ًرا ومهمًّ ا حتى لو تطاول‬

‫بعض الناس على صورته»‪ ،‬وإن صورة المثقف أصبحت‬ ‫ً‬ ‫وقفا على الكاتب أو األديب‪،‬‬ ‫متعددة ومتباينة‪ ،‬ولم تعد‬ ‫«فاإلعالمي مثقف‪ ،‬والصحافي مثقف‪ ،‬وكل من ُيعمِ ل‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫موقفا نقد ًّيا مما يدور حوله فهو مثقف‪،‬‬ ‫عقله وي ّتخذ‬

‫أما من يُر ِّدد ما يسمع من دون عرضه على قياس الوعي‬

‫الثقافي»‪ .‬وتط ّرق عصفور إلى أن‬ ‫والمنطق فهو خارج ال ِفعل‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫اإلعالمي أحمد موسى ال يمكن أن نعُ دَّ ه نموذجً ا للمثقف؛‬ ‫ّ‬ ‫لاً‬ ‫«لكنَّ رج مثل إبراهيم عيسى هو نموذج واضح لهذا‬

‫السائد‪ ،‬وباسم يوسف مثقف نقديّ له برنامج مميّز وإن‬ ‫اتخذ طابعً ا ساخ ًرا‪ ،‬ومن َثمَّ فنماذج المثقف النقديّ كثيرة‬

‫اإلعالم كما ينبغي لها‪ ،‬أو يغير الناس فكرتهم القديمة عن‬ ‫المثقف؛ كي يرونه في تبايناته الجديدة»‪.‬‬ ‫المثقف واألبواق اإلعالمية‬

‫العربي بجامعة عين شمس الدكتور‪:‬‬ ‫يرى أستاذ األدب‬ ‫ّ‬

‫محمد عبدالمطلب‪ ،‬الذي نال جائزة الملك فيصل‬

‫العالمية‪ ،‬أن ثمة مستويين للمثقف‪ ،‬يصف المستوى‬

‫األول بكونه المحترم‪ ،‬ويع ّرفه بأنه الذي يلتزم الصدق‬ ‫واألمانة‪ ،‬ويحافظ على األصول الثقافية لألمة‪ ،‬ويتح ّرك‬ ‫ِّ‬ ‫مؤكدً ا‬ ‫حركة محسوبة تؤدّي إلى نتائج تخدم الوطن‪،‬‬ ‫أن أصحاب هذا االتجاه هم األقلية‪ ،‬أما المستوى الثاني‬

‫فأصحابه هم األغلبية؛ «تحوَّلت إلى أبواق إعالمية أكثرها‬

‫وفضائحي‪ ،‬ومن المؤسف أن هذه الكثرة تتصدَّ ر‬ ‫هزلي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الموائد والمؤتمرات‪ ،‬ويحصدون الجوائز وهاالت التقدير»‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫ليؤكد من جديد أن أخطر‬ ‫لكن عبدالملطب يعود‬

‫‪91‬‬


‫قضايا‬

‫ظاهرة في مصر اآلن هي ضياع مقولة‪« :‬أهل االختصاص»؛‬ ‫ميسر لما ُ‬ ‫خلق‬ ‫«فالثقافة العربية تعرف مقولة‪« :‬كل‬ ‫َّ‬ ‫الشعبي يقول‪« :‬أَ ْع ِط العيش لخبازه»‪ ،‬بينما‬ ‫له»‪ ،‬والمَ َثل‬ ‫ّ‬ ‫َعرفون َّ‬ ‫كل شيء‪ ،‬ويفتون في كل شيء‪،‬‬ ‫المثقفون اآلن ي ِ‬

‫على الرغم من أن القاعدة تقول‪ :‬إن مَ ن يعرف كل شيء‬ ‫فهو ال يعرف أي شيء‪ ،‬ومن َثمَّ فإننا نجد اآلن ظواهر غريبة‬

‫ومدهشة؛ مثل الخبير االقتصاديّ الذي يفتي بعلم أو بغير‬ ‫علم في كل شيء‪ ،‬والخبير العسكريّ الذي يتحدث عن كل‬

‫كتابه‪ ،‬من دون أن يعرف الدور الذي قام به البخاريّ ‪ ،‬وال‬ ‫الجهد الذي بذله؛ كي يتح َّرى الدقة في جمع أحاديثه»‪.‬‬ ‫صور متناقضة‬

‫من جانبه َّ‬ ‫أكد رئيس اتحاد الكتاب المصريين السابق‪،‬‬

‫الكاتب محمد سلماوي‪ ،‬أن صورة المثقف بعد الربيع‬ ‫ِّ‬ ‫موضحً ا أن هناك عدة صور‬ ‫العربي صارت مهزوزة‪،‬‬ ‫ّ‬

‫شيء‪ ،‬والجميع صاروا خبراء على الرغم من أنهم ال عالقة‬

‫لهم بأيّ شيء؛ نحن أمام فوضى وليس حرية رأي‪ ،‬أمام‬ ‫أبواق يستخدمها اإلعالم لملء مساحات فراغ‪ ،‬ولسنا أمام‬

‫مثقفين حقيقيين»‪.‬‬

‫وصب عبدالمطلب‪ ،‬صاحب كتاب «النص المشكل»‪،‬‬ ‫َّ‬

‫غضبه على الباحث إسالم بحيري الذي يمضي اآلن عقوبة‬

‫رؤوف مسعد‪ :‬على المثقف أن يكون‬

‫اإلسالمي‪ ،‬في‬ ‫السجن مدة عام بعد اتهامه بازدراء الدين‬ ‫ّ‬ ‫برنامج كان يقوم بتقديمه على إحدى القنوات الفضائية‪.‬‬

‫واعيا دوره في هذه المرحلة‪ ،‬ليس‬ ‫ً‬

‫قال عبدالمطلب‪« :‬من المؤسف أن هذه األبواق هي التي‬

‫أيضا‪-‬‬‫مطالبا بالحرية‪ ،‬لكن‬ ‫فقط‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫تتصدَّ ى للدفاع عن انحراف وفساد ومساوئ الظواهر‬

‫‪92‬‬

‫مطالبا بكيفية استخدامها‬ ‫ً‬

‫الثقافية‪ ،‬في أبرز تجلياتها اآلن إسالم بحيري الذي أهان‬ ‫َّ‬ ‫واتهمه بأنه كان يجمع القمامة ويضعها في‬ ‫البخاريَّ‬

‫الكفر بـ«المثقف»‬ ‫الديني»‬ ‫واإليمان بـ«المخ ِّلص‬ ‫ّ‬

‫عبدالله البريدي‬ ‫أكاديمي وكاتب سعودي‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫شديدا في المجتمع‬ ‫ارتباكا بنيويًّا‬ ‫العربي أحدث‬ ‫الربيع‬ ‫ّ‬ ‫والمؤسسات‬ ‫العربي‪ ،‬فقد ه ّز األفكار واألنساق والرموز‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫األدلة المؤكدة‬ ‫ـ«المخلص الديني»‪ ،‬وطفقت تجمع‬ ‫آمنت ب‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫على تضعضع المثقف فكريًا وأخالق ًيا؛ مع قائمة اتهامات‬

‫الطبيعي أن تهت ّز صورة المثقف‬ ‫واآلمال والخيبات‪ .‬ومن‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫العربي في هذه السياقات؛ إذ ال يمكن أن يمثل استثناء‪،‬‬ ‫ّ‬

‫ُ‬ ‫حيث‬ ‫السطحي» مِ ن‬ ‫«المثقف العميق»‪ ،‬و«المثقف‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫اإلصالحي» و«المثقف‬ ‫والمنهجية؛ مِ ن «المثقف‬ ‫ال ِفك ُر‬ ‫ّ‬ ‫حيث ال ِقيَمُ والدافعية‪ُ.‬‬ ‫ُ‬ ‫االنتهازي» مِ ن‬

‫والخرائط‪ ،‬جالبًا معه منظومة مشوّشة من الرؤى‬ ‫ّ‬ ‫والمتشددة‪،‬‬ ‫اإلستراتيجية واآلنية‪ ،‬واالتجاهات المعتدلة‬

‫ّ‬ ‫يحصن نفسه من تلك االهتزازات واالرتباكات‪ ،‬التي‬ ‫أو أن‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫متوقع‪ ،‬بيد‬ ‫أحدا‪ .‬إذن االهتزاز في الصورة أمر‬ ‫لم توفر‬

‫تزيد وال تنقص‪ .‬وهناك شريحة أخرى رأت في الربيع‬ ‫ً‬ ‫فرصة مواتية للفرز وإعادة التقويم‪ ،‬فهي تميِّز‬ ‫العربي‬ ‫ّ‬

‫ِّ‬ ‫نحدد‬ ‫ليس لدينا استطالعات رأي عام دقيقة؛ كي‬ ‫العلميّة وزنَ ّ‬ ‫كل شريحة من تلك الشرائح‪،‬‬ ‫من الناحية ِ‬

‫أن الالفت هو حجم االهتزاز‪ ،‬فهو ضخم ًّ‬ ‫جدا‪ ،‬وبخاصة‬ ‫ِّ‬ ‫المتلقين بالمثقف‬ ‫لدى بعض الشرائح‪ ،‬فقد كفر بعض‬

‫وانعكاسات ذلك على صورة المثقف‪ ،‬وما عسانا نستنتج‬

‫العربي‪ ،‬وثمة شريحة كافرة به مِ ن حيث األصل؛ ألنها‬ ‫ّ‬

‫لذلك فإن كل ما يقال هو محض آراء انطباعية ذات بُعد‬

‫العربي‪ ،‬وأعلنوا إفالسه؛ لمحدودية أدواره في الربيع‬ ‫ّ‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬

‫من ذلك بخصوص فاعليته المحتملة في المستقبل؛‬


‫العربي المثقف وزادته ارتبا ًكا؟‬ ‫هل غ َّيرت ثورات الربيع‬ ‫ّ‬

‫متناقضة يجري تداولها عن المثقف‪« ،‬وهي صور مخالفة‬ ‫للحقيقة التي تقول‪ :‬إن المثقف كان في قلب الحركة‬

‫الجماهيرية في مختلف البلدان العربية؛ ففي مصر على‬

‫سبيل المثال‪ ،‬كانت أول نقابة تعلن تأييدها ثورة ‪ 25‬يناير‬ ‫هي اتحاد كتاب مصر‪ ،‬وذلك يوم ‪ 26‬يناير؛ أي بعد ‪24‬‬

‫ساعة من اندالع الثورة في الشوارع المصرية‪ ،‬وقد أصدر‬ ‫ً‬ ‫بيانا تب َّنى فيه مطالب الثورة‪ ،‬وقام المثقفون‬ ‫االتحاد‬

‫بمسيرة من مق ّر االتحاد إلى ميدان التحرير‪ ،‬وطوال أسابيع‬

‫متوالية حضر المثقفون في مختلف الميادين حيث فئات‬ ‫الشعب األخرى‪ ،‬وكان كثير من الكتاب العرب يتصلون بي‬

‫من مختلف األقطار العربية الشقيقة؛ ليعلنوا تأييدهم‬

‫الثورة‪ ،‬ومن كان يحضر منهم إلى مصر كنت أصطحبه إلى‬ ‫ً‬ ‫تلبية لطلبه»‪.‬‬ ‫ميدان التحرير‬

‫جابر عصفور‪ :‬المثقف سيظل مؤ ِّث ًرا‬ ‫ومهما حتى لو تطاول بعض الناس‬ ‫ًّ‬ ‫على صورته‬

‫وأضاف سلماوي «أن اتحاد الكتاب هو الجهة الوحيدة‬

‫في مصر التي سحبت الثقة من رئيس الجمهورية محمد‬ ‫مرسي قبل أن تندلع ثورة ‪ 30‬يونيو ضدّ ه‪ ،‬وتخرج الجماهير‬

‫إلى الشوارع والميادين مطالبة بعزله‪ ،‬وهو أمر يعدّ األول من‬ ‫َ‬ ‫الثقة من‬ ‫نوعه في التاريخ الحديث؛ أن يسحب اتحا ُد الكتاب‬

‫رئيس وهو في السلطة‪ ،‬وتأتي الثورة لتعضد ما ذهب إليه‬ ‫االتحاد والمثقفون‪ ،‬هؤالء الذين ذهبوا بمختلف أطيافهم‬ ‫من كتاب وفنانين وتشكيليين وغيرهم إلى مق ّر وزارة الثقافة‬

‫تخميني‪ .‬في رأيي أن فاعلية المثقفين العرب باتت ضعيفة‬ ‫ُ‬ ‫والتراكمية في السياقات المختلفة لعدة‬ ‫من حيث األث ُر‬

‫أسباب؛ من أهمها‪:‬‬ ‫المجتمعي‬ ‫أولاً ‪ -‬بروز المثقف االنتهازيّ في السياق‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وتمكنه (وربما تمكينه) من خلط األوراق‪ ،‬والعبث‬ ‫العام‪،‬‬

‫بالقضايا الكبيرة؛ ألهداف ومصالح فئوية‪ ،‬وقد يمتلك‬ ‫ً‬ ‫جيدا من «الذخيرة المنهجية»‪ ،‬لكنهم ال‬ ‫بعضهم قدرًا‬ ‫ُّ‬ ‫يستخدمونها إال بما يخدم أهدافهم وتطلعاتهم النفعية‪،‬‬ ‫مع ُّ‬ ‫تقلبهم وميلهم إلى مَ نْ يدفع أكثر‪.‬‬

‫ثانيًا‪ -‬هيمنة األنساق الدينية المعلية لنموذج‬ ‫الديني»؛ في صور‪ :‬الشيخ‪ ،‬والمُ ر ِّبي‪ ،‬والمُ صلِح‪،‬‬ ‫«المثقف‬ ‫ّ‬

‫حائلين دون سقوطها في براثن فكر اإلخوان وأشياعهم»‪.‬‬

‫العربي‬ ‫ويستدرك سلماوي قائلاً ‪« :‬لكن لألسف! اإلعالم‬ ‫ّ‬ ‫ال يتحدث إال عن السلبيات‪ ،‬متصورًا أن ذلك هو الطريقة‬ ‫ِّ‬ ‫تحقق له الرواج‪ ،‬ومن َثمَّ فإنه إذا لم يجد‬ ‫الصحيحة التي‬

‫ً‬ ‫بحثاعن الرواج‪ ،‬وقد صوَّر‬ ‫هذه السلبيات فسوف يختلقها‬

‫والعربي أن المثقفين انعزلوا‬ ‫اإلعالم للمواطن المصريِّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫تشكل أنساق جديدة لصور المثقف في سياق‬ ‫ثالثا‪-‬‬

‫الثورة الشبكية المعلوماتية‪ ،‬وما أفرزته من مناهج التفكير‬ ‫والترميز‪ ،‬وقد ترتب على ذلك شيوع أنماط «المثقف‬

‫السطحي»‪ ،‬وغلبة تحليالته وتشخيصاته للمشكل‬ ‫ّ‬

‫والثقافي واالقتصاديّ‬ ‫والعلمي‪،‬‬ ‫واالجتماعي‬ ‫السياسي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الشبكي يضجّ بأطروحاتهم البائسة‪.‬‬ ‫والمشهد‬ ‫ّ‬ ‫رابعً‬ ‫واإلصالحي‪ ،‬وانكماشه‬ ‫العميق‬ ‫المثقف‬ ‫انزواء‬ ‫ا‪-‬‬ ‫ّ‬

‫العلمي والفكريّ ؛ نظرًا إلى‬ ‫في دوائر ضيقة من التأثير‬ ‫ّ‬ ‫التهميش الذي يعانيه من مؤسسات المجتمع‪ ،‬وارتفاع‬ ‫مستويات اإلحباط لدى نسبة ليست قليلة من جرَّاء تراكم‬

‫الخيبات‪ ،‬وانطفاء شعلة األمل في اإلصالح‪ .‬ومع ذلك كله‬ ‫العربي في المشهد ولن يموت‪ ،‬وسيتع ّزز‬ ‫سيبقى المثقف‬ ‫ّ‬

‫فقد صارت المجتمعات العربية تنقاد إلى هذا النموذج‬ ‫بطريقة فادحة‪ ،‬فهي ّ‬ ‫ّ‬ ‫وتمكن هذا‬ ‫تلف حبلاً على رقبتها‪،‬‬

‫تأثيره في المجتمعات التي تنجح في االستفادة من‬

‫انجرار كم متزايد من‬ ‫إليها‪ .‬وهنا نلتقط سرًّا من أسرار ِ‬

‫من أجل تقرير الحريات العامة‪ ،‬وتوالد أنساق االعتدال‬ ‫ُّ‬ ‫وستضمحل فاعليته في المجتمعات التي‬ ‫والوسطية‪،‬‬

‫عال‬ ‫المثقف من جرّها إلى حيث يشاء‪ ،‬مع تلبُّسه بقدر ٍ‬ ‫من التزكوية الذاتية والتقديسية للرموز الدينية التي ينتمي‬

‫الشباب إلى الجماعات المتطرفة؛ مثل‪ :‬داعش وغيرها‪،‬‬ ‫فثمة ِّ‬ ‫منظرون بارعون ومس ِّوقون سحرة!‬

‫المنهجية واألفكار األخالقية والرؤى النهضوية‪ ،‬والنضال‬

‫ِّ‬ ‫تجدد عقدها مع أرباب العلم الزائف‪ ،‬ومبدعي الخرافات‬ ‫واألساطير‪ ،‬ومتوجي النفعيين والتافهين‪.‬‬

‫‪93‬‬


‫قضايا‬

‫عن الحياة‪ ،‬ولم يعودوا قادرين على أداء دور مهمّ في‬

‫المجتمع‪ ،‬ولو كلف أي من هؤالء اإلعالميين نفسه بأقل‬ ‫ّ‬ ‫والتقصي َلوَجَ د أن الواقع على‬ ‫درجة من درجات البحث‬ ‫نقيض ما ذهب إليه»‪.‬‬ ‫خطأ منهجي‬

‫أما رئيس التحرير األسبق لجريدة «األهالي» ومجلة‬

‫«أدب ونقد» اللتين يصدرهما حزب التجمع المصريّ ؛ الناقدة‬

‫ْ‬ ‫ذهبت إلى أن المثقف‬ ‫والناشطة السياسية فريدة النقاش‪ ،‬فقد‬

‫العربي تع ّرض لحالة شديدة من االرتباك بعد أن تحمَّ س‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫حققها شباب ثورات الربيع‬ ‫بصورة هائلة لإلنجازات التي‬ ‫العربي‪« ،‬مع الوضع في االعتبار أن إطالق مصطلح (مثقف)‬ ‫ّ‬ ‫منهجي؛ فهناك‬ ‫خطأ‬ ‫هو‬ ‫واحد‬ ‫وقت‬ ‫في‬ ‫المثقفين‬ ‫جميع‬ ‫على‬ ‫ّ‬

‫المثقف المنتمي إلى الجماعات الدينية‪ ،‬والمثقف المنتمي‬

‫إلى اليسار‪ ،‬وآخر منخرط في تشويه ما أنجزته ثورة ‪ 25‬يناير‬ ‫و‪ 30‬يونيو‪ ،‬ومن َثمّ فالمثقفون ليسوا ُك ً‬ ‫تلة واحدة‪ ،‬ومع ذلك‬

‫‪94‬‬

‫المثقف يفقد دوره الطليعي الديني‬ ‫الطليعي والمؤثر‬ ‫فقد المثقف الفرد في العالم دوره‬ ‫ّ‬ ‫لصالح المؤسسات الثقافية التي اضطلعت بها مؤسسات‬

‫وكان مسوّغهم أن القادم‬

‫الظاهرة؛ إذ أصبحت المؤسسات ومراكز البحوث هي البيئة‬

‫هذا اإلطار بين مطرقة الثورة‬

‫العربي ليس استثناء من هذه‬ ‫المدني‪ ،‬والمثقف‬ ‫المجتمع‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الخصبة النطالق األفكار والنظريات والمبادرات‪ ،‬ومهما يكن‬

‫الثقافي على مدى‬ ‫األمر فإن التاريخ يحفظ للمثقف دوره‬ ‫ّ‬ ‫العصور‪ ،‬وإن انحسر هذا الدور أو ّ‬ ‫قلت مساحته‪ .‬ويبقى‬ ‫ً‬ ‫ملحوظا في شريحة المجتمع التي‬ ‫العربي‬ ‫دور المثقف‬ ‫ّ‬

‫تتماس مع أفكاره وأطروحاته‪ ،‬ولو لم َيجْ ِر تقبُّل هذه‬ ‫ّ‬ ‫األفكار واألطروحات بداية؛ إذ وجد كثير من المثقفين أن‬

‫المجتمعات العربية تحاربهم في أفكارهم‪ ،‬لكنها سرعان ما‬ ‫تتبناها بحذافيرها في مرحلة ما؛ ألن المجتمع يتطوّر فكريًّا‬

‫العربي قد‬ ‫ولو ببطء‪ -‬في عالم متسارع‪ .‬إن صورة المثقف‬‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وتشويشا في أثناء «الربيع العربي»؛ لسببين‪:‬‬ ‫ارتباكا‬ ‫ازدادت‬ ‫المجتمعي‬ ‫األول‪ -‬نخبوية المثقف ومحدودية حضوره‬ ‫ّ‬ ‫المباشر في ظل وجود قيادات سياسية ودينية قادت‬

‫الثورات إلى مرادها‪.‬‬

‫األنظمة السياسية القائمة‪،‬‬ ‫أسوأ‪ ،‬فصار المثقف في‬

‫سعود البلوي‬ ‫كاتب سعودي‬

‫وسندان السلطة‪ ،‬وأصبح هناك فرز خطير يتبناه الجانبان‬ ‫على أساس أن مَ ن لم يكن معنا فهو ّ‬ ‫ضدنا‪ .‬من أكثر األسماء‬ ‫العربي؛ الشاعر والكاتب‬ ‫التي أحدثت جدلاً على المستوى‬ ‫ّ‬

‫ً‬ ‫–أيضا‪ -‬أمام‬ ‫العربي السوريّ (أدونيس)‪ ،‬الذي وجد نفسه‬ ‫ّ‬ ‫خيارين ال ثالث لهما؛ إما الوقوف مع الثورة السورية التي لم‬

‫يعرف بالضبط من قام بها وما ستؤول إليه‪ ،‬أو توظيف الواقع‬ ‫السياسي الموجود الذي ّ‬ ‫يمثل واقع‬ ‫المعيش وهو النظام‬ ‫ّ‬ ‫الحال‪ .‬‬

‫نجد كثيرًا من المثقفين وجدوا أنفسهم في منطقة ال لونَ‬ ‫رماديًّا فيها‪ ،‬ومن َثمَّ فالحقيقة التي ال يمكن تجاهلها هي أن‬

‫العربي قد تغيَّرت أمام الرأي العام‪ ،‬فأصبحت‬ ‫صورة المثقف‬ ‫ّ‬

‫السياسي‪ ،‬فالمجتمعات العربية لم تتقبّل‬ ‫مرتبطة بموقفه‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫العربي أن ينبذ االستبداد‪ ،‬وينظر له‪ ،‬وينتقد‬ ‫من المثقف‬ ‫ّ‬

‫العربي نفسه‪ ،‬وأعني ريبة بعض‬ ‫الثاني‪ -‬موقف المثقف‬ ‫ّ‬

‫ً‬ ‫موقفا مغايرًا‪ ،‬وهذا أمر‬ ‫السياسات القائمة‪ ،‬ثم تجد منه‬

‫الوضع القائم على التغيير غير المحسوب‪ ،‬بالوقوف مع‬

‫العربي قد كشفت مآالت هذا الربيع «الصيفية» الملتهبة‪،‬‬ ‫ّ‬

‫المثقفين من ثورات «الربيع العربي»‪ ،‬واختيار بعضهم‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬

‫مسوَّغ في ظاهره‪ ،‬غير أن السنوات الخمس التي أعقبت الربيع‬


‫العربي المثقف وزادته ارتبا ًكا؟‬ ‫هل غ َّيرت ثورات الربيع‬ ‫ّ‬

‫فريدة النقاش‪ :‬المثقفون ليسوا‬ ‫تعرضوا‬ ‫ُكتلةً واحدةً ‪ ،‬ومع ذلك فقد َّ‬ ‫جميعا الرتباك شديد‬ ‫ً‬ ‫فقد تع َّرضوا جميعً ا الرتباك شديد من جراء ما حدث خالل‬

‫الموجات المتعاقبة للثورة المصرية‪ ،‬التي أبدعها المثقفون‬ ‫من الشباب‪ ،‬فالشباب الذين انخرطوا في العمل مع أدوات‬

‫االجتماعي‪ ،‬وأدوات االتصال الحديثة هم مثقفون»‪.‬‬ ‫التواصل‬ ‫ّ‬

‫وذهبت النقاش إلى أنه بعد أن ُسرقت نتائج الثورات‬

‫االجتماعي‪ ،‬أم‬ ‫السياسي‪ ،‬أم‬ ‫سواء أكان على المستوى‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫العربية؛ انقسم الجميع على نفسه وأصيب باالرتباك‪،‬‬ ‫ً‬ ‫متفقا عليه لدى الجميع‬ ‫«ومن َثمَّ فاألمر الوحيد الذي بات‬

‫المثقف ‪-‬بعد التجربة الثورية‪ -‬أن بديل األنظمة القائمة‬

‫للثورة لم تتحقق بعد‪ ،‬وأن األهداف األساسية للربيع‬

‫إن الخيار كان زوال السلطة العسكرية وحضور السلطة‬ ‫الدينية المباشرة بوصفها بديلاً ؛ مما جعل المنطقة تغرق‬

‫مع النظام حول الدولة الوطنية‪ ،‬وضرورة الحفاظ عليها‪،‬‬

‫االقتصاديّ في الدول التي مرّت بتجربة الثورة‪ ،‬فقد وجد‬

‫السياسي»‪ ،‬أو الفوضى‪ ،‬وبمعنى آخر‪:‬‬ ‫ليس سوى «اإلسالم‬ ‫ّ‬

‫في الظالم والمصير المجهول أكثر من ذي قبل‪ .‬وعلى ضوء‬ ‫ذلك فإن ما ّ‬ ‫تبقى للمثقف من دور هو تجارته القديمة التي‬ ‫طالما اشتغل بها‪ ،‬وهي إثارة الوعي العامّ بقضايا اإلنسان‬ ‫السياسي الذي هو في نهاية‬ ‫األزلية‪ ،‬بغض النظر عن موقفه‬ ‫ّ‬ ‫المطاف خاضع لمدى تقديره الواقع‪ ،‬ومدى ربح المكتسب‬

‫العربي‪-‬الذي نراه‬ ‫السياسي‬ ‫الحضاريّ أو خسارته‪ ،‬فالواقع‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫اليوم بأُم أعيننا‪ -‬هو أن البديل أسوأ‪ ،‬وأن القادم ليس‬

‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫معتق ًدا إنما هو َتحَ ٍّد وجوديٌّ‬ ‫صعب‪،‬‬ ‫حُ لمً ا ورديًّا كما كان‬

‫والشريحة التي قامت بالثورات ِفعليًّا اختفت‪ ،‬فورث‬ ‫الديني ثوراتِها‪ ،‬وبقي المثقف موجو ًدا من خالل‬ ‫السياسي‬ ‫ُّ‬ ‫ُّ‬

‫ما يتركه لمجتمعه من إرث فكريّ‬ ‫وإبداعي‪ ،‬ولنا في قراءة‬ ‫ّ‬

‫األوربي مثال جيد‪ ،‬فاختالفات‬ ‫المواقف السياسية للمثقف‬ ‫ّ‬

‫المواقف السياسية بين جان بول سارتر وألبير كامو قد‬ ‫ذهبت‪ ،‬وبقي منهما أهمّ ما كانا يفكران فيه وهو اإلنسان!‬

‫أن األهداف التي اندلعت من أجلها الموجات المتعاقبة‬ ‫العربي‪« :‬عيش‪ ،‬وحرية‪ ،‬وعدالة اجتماعية» ال تزال‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫غائبة»‪ ،‬وأكدت النقاش «أن المثقفين في مصر يتفقون‬ ‫لكنهم يختلفون مع النظام حول أهداف الثورة وآليات‬ ‫تحقيقها»‪ ،‬مؤكدة أن الطريق طويل أمام المثقفين في‬

‫صراعهم مع السلطة؛ لتحقيق هذه األهداف‪ ،‬مشيرة إلى‬ ‫العربي بعد المشاركة الهائلة في إنجاز‬ ‫أن صورة المثقف‬ ‫ّ‬ ‫«تحسنت بشكل كبير»‪.‬‬ ‫العربي‬ ‫ثورات الربيع‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫كتاب وكتبة‬

‫بينما يذهب الكاتب المصريّ رؤوف مسعد‪ ،‬المقيم‬

‫في هولندا‪ ،‬إلى «أن لدينا نوعين من المثقفين‪ :‬األول‬ ‫الثقافي في األساس‪،‬‬ ‫كتبة لم ينذروا أنفسهم للفعل‬ ‫ّ‬ ‫لكنهم وجدوا فرصة طيبة لدخولهم هذا العالم‪ ،‬ورفع‬

‫الحقيقي؛ كأن نجد ناش ًرا‬ ‫راية أصحابه كغطاء لعملهم‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مثقفا كبي ًرا‬ ‫موظفا يصبح‬ ‫يصبح كاتبًا من خالل عمله‪ ،‬أو‬

‫من خالل موقعه‪ ،‬وهناك كتاب حقيقيون نذروا أنفسهم‬ ‫لفعل الكتابة والثقافة‪ ،‬ومن َثمَّ فهم ضمير الوعي لدى‬

‫‪95‬‬


‫قضايا‬

‫جماعتهم ووطنهم في اللحظات الحرجة»‪ ،‬وأضاف‬

‫العربي‬ ‫صاحب رواية «بيضة النعامة»‪ ،‬أن دور المثقف‬ ‫ّ‬ ‫العربي «أصبح أكثر أهمية وقوة‪ ،‬فللمثقف‬ ‫بعد الربيع‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬ ‫ً‬ ‫حيثية وحضور‪ ،‬وهو–أيضا‪ -‬مرجعية قوية‪ ،‬بدليل توقف‬ ‫المحكمة عن الحكم في قضية الكاتب أحمد ناجي لحين‬

‫الرجوع إلى أهل االختصاص؛ كان في مقدمتهم الكاتب‬ ‫محمد سلماوي والناقد الدكتور جابر عصفور‪ ،‬ومن َثمَّ‬ ‫فعلى المثقف أن يكون واعيًا دوره في هذه المرحلة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫–أيضا‪ -‬مطالبًا بكيفية‬ ‫ليس فقط مطالبًا بالحرية‪ ،‬لكن‬ ‫استخدامها‪ ،‬فالحرية سالح ذو حدَّ ي ِْن‪ ،‬ورسالة المثقف أن‬

‫يرصد ما يحدث من دون تحيّز‪ ،‬وأن تكون كلمته بمنزلة‬ ‫َّ‬ ‫تظل ّ‬ ‫ّ‬ ‫كل الناس»‪.‬‬ ‫المظلة العامة التي‬ ‫ّ‬ ‫ويوضح مسعد قائلاً ‪« :‬أنا مع النظام‪ ،‬لكن لست مع‬ ‫ً‬ ‫مثقفا أن أكشف العيوب في‬ ‫النظام الغبي‪ ،‬ودوري بوصفي‬

‫مقاالتي‪ ،‬وأن أرصد ما يجري في أعمالي الروائية‪ ،‬وبوصفي‬

‫سيد ضيف الله‪ :‬صار الناشط‬ ‫والمذيع أكثر قدرة على التأثير في‬ ‫التقليدي‬ ‫األحداث من المثقف‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫يتمثل في إخراجها إلى‬ ‫مثقفا ينتمي إلى األقلية فدوري‬ ‫النور‪ ،‬وأن أدافع عن ِّ‬ ‫حقها في عدم التهميش‪ ،‬وأن يكون‬

‫ّ‬ ‫تعصب أو مغاالة‪ ،‬فاألقلية دائمً ا بحاجة إلى‬ ‫ذلك من دون‬ ‫فهم اآلخر»‪.‬‬

‫صورة ملطخة بالخيبة‬ ‫‪96‬‬

‫بالنظر إلى واقع الحال في البلدان العربية التي اندلعت‬ ‫فيها انتفاضات ما باتت ُتعرف بالربيع العربي‪ ،‬فمؤكد أن‬

‫الثقافة بجميع تجلياتها كانت من أكثر الحيوات التي أصابها‬ ‫الخلل والوجع والتهميش‪ ،‬وكذا هي صورة المثقف العربي‪.‬‬

‫من يعرف ساحات الثقافة العربية‪ ،‬يدرك تمامً ا أن األنظمة‬ ‫القمعية العربية ظلت لعقود تطمس كل ما يخص الثقافة‬

‫الجماهيرية الحقة‪ ،‬ومعها تطمس صورة المثقف‪ ،‬بل‬ ‫وتطمسه وتغيّبه بالسجون والموت إن لزم األمر‪.‬‬

‫صورة المثقف العربي ظلت لعقود قبل االنتفاضات‬

‫مرهونة بسجاالت الساحة العربية الثقافية‪ ،‬وكان فيها‬ ‫من التجاذب السياسي أكثر مما فيها من اإلبداع واألدب‬

‫والثقافة؛ لذا عاش المثقف في ساحة ثقافية مسورة‬ ‫بأسوار عالية‪ ،‬وبعيدة من واقع حال الناس البسطاء‪ ،‬حتى‬

‫لو كتب بعض األدباء والفنانين عن معاناة الفقر وسطوة‬ ‫الحكم الدكتاتوري‪.‬‬

‫قليلة هي اللحظات التي كانت لصورة المثقف العربي‬

‫فيها لمعة خاطفة ألبصار الجماهير‪ ،‬باستثناء أولئك‬

‫الذين لمّ عت بعض المنصات حضورهم‪ ،‬وكان الزمن‬ ‫كفيلاً بامتحان بقاء إبداعهم‪ ،‬أو طيهم تحت تراب دورانه‬

‫الدائم‪ .‬فوسط بيئة قمعية دكتاتورية تكون مساحة حركة‬

‫المبدع ضيقة‪ ،‬ويكون هامش الكتابة والتأثير والتواصل مع‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬

‫المتلقي محدو ًدا‪ .‬لكن بالرغم‬ ‫من ذلك كانت هناك كتابات‬

‫توفرت على عناصرها الفنية‬ ‫الضرورية‪ ،‬والقت قبولاً‬

‫طالب الرفاعي‬ ‫روائي كويتي‬

‫وصدى طيبًا لدى الجماهير؛ مما خلق وصلاً واتصالاً بين‬

‫بعض المبدعين وجمهور التلقي‪.‬‬

‫صورة المثقف‪ ،‬في أي أمة من األمم‪ ،‬كانت على‬

‫الدوام حاضرة في ذهن الشعوب‪ ،‬متى ما كان هذا المثقف‬ ‫يعيش قضاياهم وهمومهم ويكون صوتهم األعلى‪ ،‬متحملاً‬

‫ما يترتب على موقفه الشجاع والجريء‪ .‬وعادة ما كان‬ ‫المثقفون يتحركون كمجاميع‪ ،‬ولذا يحمل تحركهم التأثير‪.‬‬ ‫وفي الحالة العربية‪ ،‬ظل المثقف يعمل منفر ًدا‪ ،‬ولذا جاء‬ ‫تأثيره أقل‪ ،‬وظلت صورته مشوّشة‪.‬‬

‫بعد االنتفاضات العربية ازداد وضع المثقف سوءً ا‪،‬‬

‫وبخاصة بارتفاع موجة نجوم شبكات التواصل االجتماعي؛‬

‫إذ صار المواطن العربي يستمتع بجملة عابرة على تويتر‬ ‫أو فيسبوك‪ ،‬دون النظر إلى صدق قائلها والقيمة الفكرية‬ ‫المختفية وراءها‪.‬‬

‫االنتفاضات العربية جارت على الكثيرين‪ ،‬وفي مقدمة‬

‫أولئك يأتي المبدع والمثقف العربي‪ ،‬وتأتي صورة المثقف‬

‫التي تلطخت بألوان الضياع والخيبة‪.‬‬


‫العربي المثقف وزادته ارتبا ًكا؟‬ ‫هل غ َّيرت ثورات الربيع‬ ‫ّ‬

‫سعود البلوي‪:‬‬ ‫ما تبقى للمثقف من‬ ‫دور هو تجارته القديمة‬ ‫التي طالما اشتغل‬ ‫بها‪ ،‬وهي إثارة الوعي‬ ‫العام بقضايا اإلنسان‬ ‫األزلية‬ ‫من جانبه‪ ،‬أوضح الناقد الدكتور‬

‫سيد ضيف الله‪ ،‬أن مفهوم المثقف قد‬ ‫تغيَّر‪« ،‬فمع ظهور الربيع العربي برز‬ ‫السياسي‪،‬‬ ‫على السطح مسمّ ى الناشط‬ ‫ّ‬

‫توسع دور مُ ِّ‬ ‫قدمي البرامج الفضائية‬ ‫كما َّ‬ ‫السياسية واالجتماعية؛ إذ أصبح كلّ‬ ‫من الناشط والمذيع أكثر قدرة على‬

‫السياسي‪ ،‬والتأثير في‬ ‫تحريك الشارع‬ ‫ّ‬ ‫األحداث أكثر من المثقف التقليديّ‬ ‫بسعَ ة المعرفة‪ ،‬الذي يمتلك‬ ‫المرتبط َ‬ ‫ً‬ ‫وتاريخا من النضال‬ ‫رؤية شاملة‬

‫السياسي من أجل مجتمع أفضل!»‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ويوضح أن مفهوم المثقف «تو ّزع على‬ ‫ً‬ ‫حديثا؛ مثل‪ :‬الناشط‪،‬‬ ‫أدوار ظهرت‬

‫اإلعالمي‪،‬‬ ‫اإلعالمي‪ ،‬والمواطن‬ ‫والنجم‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وساهمت التطوُّرات الكبيرة التي شهدتها‬ ‫وسائل اإلعالم عامّ ة‪ ،‬ووسائل التواصل‬

‫ّ‬ ‫خاصة في تغيير مفهوم‬ ‫االجتماعي‬ ‫ّ‬ ‫المثقف‪ ،‬لكنها لم تغيِّر الدور الذي‬ ‫يجب أن يقوم به المثقف‪ ،‬سواء أكان‬ ‫ً‬ ‫نشاطا سياسيًّا‪ ،‬أم مواط ًنا‬ ‫إعالميًّا‪ ،‬أم‬

‫فحسب؛ ألن تحصيل المعرفة إذا أصبح‬ ‫أكثر يس ًرا بفضل اإلنترنت‪ ،‬فإن اتساع‬

‫قاعدة المعرفة جعلت الثقافة متاحة‬ ‫بشكل أكبر لقطاعات أوسع؛ مما كسر‬ ‫الحاجز بين النخبة التقليدية؛ المعروفة‬ ‫بالمثقفين‪ ،‬والمواطنين الفاعلين! فلم‬ ‫يَعُ دِ الحاكم هو وَحْ دَ ه مَ ن يُدير المجتمعَ‬

‫ويقوده كما كان في الماضي! وهذا في‬ ‫حقيقي للحرية»‪.‬‬ ‫حد ذاته بداية ربيع‬ ‫ّ‬

‫مثقف الجماهير أصبح بال جماهير‬ ‫المثقف العربي أيًّا كان نهجه يقيم‬

‫اليوم في الصدع القائم بين جسم الدولة‬ ‫المرتعش والرأس المتسلط‪ ..‬بين مجتمع‬

‫شبه أمي‪ ،‬ضعيف البنية‪ ،‬في عالم يزداد‬ ‫ً‬ ‫تعقيدا ومعرفة‪ ..‬بين بنية قبلية محافظة‪،‬‬

‫والطموح لمدنية معاصرة‪ ..‬بين جمر السلفية‬ ‫المخبأ في مواقدنا الروحية وال ندري متى‬

‫هاشم غرايبة‬ ‫كاتب أردني‬

‫تشب ناره‪ ،‬والثورة العلمية التكنولوجية‪ ..‬قبل الربيع العربي كان المثقف‬

‫العربي منتشيًا بإنجازه بين أقرانه‪ ،‬متباهيًا بمعارفه على تالميذه إن كان‬ ‫ً‬ ‫مبدعا‪ .‬كان وما زال‬ ‫أكاديميًّا‪ ،‬وعلى متابعيه القليلين إن كان مفكرًا أو‬ ‫السلطان مطمئ ًنا للمثقف سواء كان ممن ينظرون لقدرة الدكتاتور على‬

‫قيادة قطار الحداثة‪ ،‬أو كان من المعارضين المشاغبين يمي ًنا أو يسارًا‬ ‫حتى لو جار في النقد‪ ،‬فكالهما المثقف والسلطان متواطئ على الرضا‪،‬‬

‫مطمئن لثبات الحال‪.‬‬

‫جاء الربيع العربي ليسحب «مخدات» الحرير من تحت رأس‬

‫السلطان‪ ،‬وليسحب فضلة البساط التي يتربع عليها المثقف؛ لنكتشف‬ ‫أن المثقف الذي كان يدافع عن الجماهير ال جماهير له‪ ،‬والذي كان‬ ‫يتحدث عن األمة لم تسمع األمة به‪ ،‬والذي كان يتحدث بالالهوت وجد‬

‫المتدينين يسخرون منه! المثقف العربي يقف اليوم حائرًا بين الدكتاتور‬ ‫ُّ‬ ‫تستبد؛ ألنها رأته متنحيًا‪ ،‬ورجال الدين يلعبون‬ ‫والتكفيري‪ ..‬الدولة‬ ‫يحمل كتابه القديمَ دليلاً‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫لعبة طيّعة وسهلة المنال‪ ،‬والمثقف‬ ‫به‪ ،‬ألنه‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫وتتناسل السجونُ ‪ ،‬ويؤمُّ‬ ‫اللصوص‪،‬‬ ‫لطريق طويلة ومعتمة‪ ،‬يتكاث ُر فيها‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫الصالة‪ ،‬ويقرأُ في سير ِة الدم‪.‬‬ ‫الجوع‬ ‫ّ‬ ‫لما سلم الربيع العربي قياده لإلسالم السياسي أصيب المثقفون‬

‫العرب بالرخاوة‪ ..‬حتى القوميون والفوضويون والديمقراطيون‬ ‫واإلسالميون المعتدلون تراخت مفاصلهم‪ ،‬وراحوا يهربون إلى مناطق‬ ‫ّ‬ ‫وتضل (من الضالل) مسالكهم‪ .‬وفي بعض الحاالت ارتدوا‬ ‫رمادية تظلهم‬

‫إلى ذواتهم معلين من شأن «أنا» الفردانية على حساب «أنا» المجتمعية‬ ‫ً‬ ‫وبعيدا من تشوقات الناس العميقة للحرية والحق والجمال‪.‬‬ ‫واإلنسانية‪،‬‬ ‫الفئات التي تقع مسؤولية يقظتها على المثقف العربي نراهم مستسلمين‬

‫لواقع مائع‪ ،‬مستسلمين لثقافة المياومة‪ .‬وجلس المثقفون «يتفرجون»‬ ‫على فتنة اجتماعية هنا‪ ،‬وتفتت عرقي أو طائفي هناك‪ ،‬ونسينا كلنا‬

‫الصهاينة وشرورهم الواقعة على الفلسطينيين بشكل مباشر‪ ،‬وعلى األمة‬ ‫بشكل غير مباشر‪ .‬والحال أن الحاجة إلى المثقف ما زالت حاجة قائمة‬

‫وراهنة‪ ،‬بل هي حاجة اشتدت وتعاظمت بتعاظم النكسات والهزائم التي‬ ‫شلت الكيان العربي قيادة وشعبًا‪.‬‬

‫‪97‬‬


‫قضايا‬

‫اإلشكالية اللغوية في الجزائر‬

‫وطار‬ ‫عندما أشعل الطاهر ّ‬ ‫فتيل الصراع‬

‫الدكتور حاج أحمد الزيواني (‪1967‬م)‪ ،‬وهو من األسماء‬

‫بوداود عميــّـر‬ ‫صحفي جزائري‬

‫لعل القضية التي ما برحت تتصدر‬

‫‪98‬‬

‫المشهد األدبي في الجزائر هي اإلشكالية‬ ‫اللغوية‪ ،‬التي تثير سجالاً تلو آخر‪ .‬الكتاب‬ ‫الذين يكتبون بالفرنسية ويصدرون‬ ‫رواياتهم وكتبهم بها من ناحية‪ ،‬والكتاب‬

‫الذين يكتبون بالعربية ويصدرون كتبهم‬

‫األدبية الجديدة‪ ،‬التي تكتب باللغة العربية‪ ،‬وأثبتت حضورها‬ ‫في المشهد األدبي الجزائري‪ ،‬يرى أن إشكالية الصراع‬

‫ّ‬ ‫ومتأصل‪،‬‬ ‫األيديولوجي بين المع ّربين والفرانكفونيين متجذر‬ ‫«فأمام سؤال التاريخ ومُ عطى الماضي‪ ،‬فإن المسألة محكومة‬

‫بطول فترة االستعمار الفرنسي بالجزائر‪ ،‬إضافة إلى ذهنية‬ ‫القابلية للفرانكفونية‪ ،‬كأحد ّ‬ ‫اللبنات التي عملت عليها منظومة‬ ‫خاف على أحد أنه منذ الرعيل‬ ‫ما بعد الكونيالية ثقافيًّا‪ ،‬وغير‬ ‫ٍ‬ ‫األول ُ‬ ‫للك ّتاب الفرنسيين المقيمين بالجزائر‪ ،‬مورست وصاية‬ ‫َ‬ ‫المستلبة‪ ،‬مما مهّد السبيل بعد‬ ‫فوقية‪ ،‬على الثقافة الجزائرية‬ ‫ذلك ألن يقتفي ُ‬ ‫الك ّتاب الجزائريون مسار الكتابة بالفرنسية بعد‬

‫ذلك»‪ .‬ويضيف صاحب رواية «كاماراد رفيق الحيف والضياع»‬ ‫ً‬ ‫حديثا عن دار فضاءات األردنية‪« :‬في اعتقادي أن‬ ‫الصادرة‬

‫من خاللها‪ ،‬دائمو الصراع والجدل إلى‬

‫الصراع بين الطرفين مفتعل؛ إذ ال يمكننا تجاهل ما قدّ مه‬

‫أدبية‪ ،‬إنها تمس وتالمس مفاصل مهمة‬

‫على مستوى الفرنسيين المعمّ رين أو الجزائريين‪ ،‬وحتى نضيّق‬

‫حد القطيعة‪ .‬هذه القضية ليست محض‬

‫األدب الجزائري المكتوب بالفرنسية في الفترات السابقة‪ ،‬سواء‬

‫ورئيسة في الكتابة كما في المواقف‬

‫من الهوّة‪ ،‬علينا أن نواجه الحقيقة التاريخية بشجاعة‪ ،‬ونعتبر‬ ‫ما ُقدّ م بالفرنسية من أدبنا إغناءً له‪ ،‬وبالمقابل فإن العربية‬

‫من عدد كبير من القضايا السياسية‬

‫واالجتماعية والفكرية‪.‬‬

‫ستظل هي اللغة المتجذرة‪ ،‬وإن ظهرت لنا باهتة بالمركز‪ ،‬أي‬

‫الجزائر العاصمة‪ ،‬فإن الفرانكفونية سرعان ما تنكمش‪ ،‬عند‬

‫خروجنا من العاصمة نحو المناطق الداخلية»‪.‬‬

‫على حين يعتبر الروائي واإلعالمي الجزائري سعيد خطيبي‬

‫(‪1984‬م) الذي يكتب باللغتين العربية والفرنسية‪ ،‬الصراع‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬


‫اللغوي في الجزائر مجرد «اختراع صحافي‪ ،‬تطوّر بالموازاة مع‬

‫لم يأت ذكره‪ ،‬كأدب جزائري‪ ،‬على لسان جميع المشاركين‬

‫حصل أن وجدت مؤسسات مهمّ ة في الدولة نفسها بين أيدي‬

‫اليومين اللذين استغرقتهما الندوة‪ ،‬على التصدّ ي لألدب‬

‫تحوّالت سياسية عرفتها البالد‪ .‬مباشرة بعد االستقالل (‪1962‬م)‪،‬‬

‫واحدة من النخب‪ :‬الفرانكفونية أو العربية أو األمازيغية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وكلما وصل فريق‬ ‫ثم حصل تداول على تلك المؤسسات‪،‬‬

‫في الندوة‪ .‬فقد اكتفت المداخالت‪ ،‬واقتصر النقاش‪ ،‬طوال‬ ‫الجزائري الناطق باللغة الفرنسية فقط‪ ،‬وكأنه ال أثر ألدب‬

‫جزائري باللغة العربية‪ ،‬أو هكذا استنتج الطاهر وطار‪.‬‬

‫لغوي‪ ،‬واجه انتقادًا من الفريق اآلخر»‪ .‬ويقول صاحب رواية‬ ‫«كتاب الخطايا»‪« :‬في الوقت الحالي مثلاً ‪ ،‬نجد أن اإلعالم‬

‫من هنا ثارت ثائرته‪ ،‬وسرعان ما طلب عقد ندوة صحفية‬ ‫مباشرة بعد عودته إلى الجزائر‪ ،‬ليصدر ً‬ ‫بيانا احتجاجيًّا‪،‬‬

‫لن يدوم‪ ،‬ستواصل العجلة الدوران‪ ،‬وسيتواصل هذا الصراع‬

‫«إعادة فتح ملف أدب الجزائريين المكتوب باللغة الفرنسية‪،‬‬

‫والعدالة تسيطر عليهما غالبية من المع ّربين‪ ،‬لكن هذا األمر‬ ‫األيديولوجي في عمقه‪ ،‬فمن سوء حظ الجزائر أنها أخفقت مع‬

‫السياسات المتعاقبة في تحديد هوية لغوية لها‪ ،‬تركت الباب‬ ‫ّ‬ ‫ستظل مفتوحة‪ ،‬لكن هذا األمر‬ ‫مفتوحً ا‪ ،‬وبالتالي الصراعات‬

‫ال يحمل‪ ،‬فيما يبدو‪ ،‬بعدً ا سلبيًّا فقط‪ ،‬بل إيجابيًّا ً‬ ‫أيضا؛ ألنه‬ ‫أفرز حرا ًكا ثقافيًّا وصدامات انعكسا إيجابًا على حقلي اإلبداع‬ ‫والسوسيولوجيا في البلد»‪.‬‬

‫أما الروائي عبدالقادر ضيف الله (‪1970‬م)‪ ،‬فيعتقد أن‬

‫الصراع «مسألة وهميّة‪ ،‬أو ربما مثل الشمّ اعة التي تعلق عليها‬

‫انهزامات كثيرة‪ ،‬يعيشها الوضع الثقافي المتردّي في الجزائر‪،‬‬ ‫إن كان الصراع قد بدأ يومً ا أيديولوجيًّا‪ ،‬وحاول الكثير استغالله‬

‫ألجل مصالح آنية وحزبية تحديدً ا‪ ،‬فإن الواقع على مستوى‬ ‫الكتابة يختلف‪ ،‬وبخاصة مع األجيال الجديدة التي أصبحت‬ ‫ّ‬ ‫تتحكم في أكثر من لغة‪ ،‬وأصبح أمر اللغة األجنبية واالختالف‬ ‫اللغوي‪ ،‬يشكل أمامها عامل إثراء‪ ،‬باعتبار اللغة أداة تواصل‬

‫في المقام األوّل‪ ،‬أكثر منها أي شيء آخر»‪ .‬ويقول صاحب رواية‬ ‫«تنزروفت‪ ،‬بحثا عن الظل»‪« :‬كما أن النفخ فيما نسميه الصراع‬

‫اللغوي ليس سوى واجهة تخفي قضايا كثيرة‪ ،‬ال زلنا نعيش‬ ‫معها من دون حل؛ مثل‪ :‬قضية المرأة‪ ،‬وقضية الحرية‪،‬‬ ‫وقضية التعامل مع الدين في السياسة‪ ،‬وإشكالية التعدّ د‬ ‫اللغوي والثقافي الذي يحتاج إلى شجاعة للخوض فيه بعقالنية‬

‫وعلمية‪ ،‬بعيدً ا عن الذاتية الضيّقة»‪.‬‬

‫لكن متى اندلعت شرارة هذه القضية‪ ،‬ثم راحت تكبر‬

‫حتى أوشكت أن تلتهم كل شيء؟ في شهر مارس من سنة‬ ‫‪1992‬م‪ ،‬أقيمت في باريس ندوة أدبية حول األدب الجزائري‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وأيضا من‬ ‫شاركت فيها نخبة من الك ّتاب والنقاد الجزائريين‪،‬‬

‫الك ّتاب الفرنسيين المهتمين بشأن األدب الجزائري‪ ،‬وكان من‬

‫بين الحضور الروائي الجزائري الراحل الطاهر وطار (‪- 1936‬‬

‫‪2010‬م)‪ .‬تفاجأ صاحب رواية «الحوّات والقصر»‪ ،‬أن الندوة لم‬ ‫تتط ّرق‪ ،‬ولو على سبيل التلميح‪ ،‬إلى األدب الجزائري الناطق‬

‫باللغة العربية‪ ،‬الذي يُعتبر هو نفسه أحد مؤسسيه األوائل‪،‬‬

‫ّ‬ ‫المثقفين والرأي العام‪ ،‬يدعو من خالله إلى‬ ‫موجّ هًا إلى‬

‫وإعادة النظر فيه‪ ،‬والعمل على تحديد قيمته وجزائريته»‪،‬‬

‫الطاهر وطار‪:‬‬ ‫نعتبر المفكرين‬ ‫من أصل غير عربي‬ ‫مثل ابن الرومي‬ ‫عربا؛‬ ‫والفارابي ً‬ ‫ألنهم تكلّموا باللغة‬ ‫العربية‪ ،‬وكتبوا بها‪،‬‬ ‫فبأي حق نتنازل عن هذا المعيار‪،‬‬ ‫ونقلبه عند الحديث عن عروبة األدب‬ ‫الجزائري المكتوب بالفرنسية؟‬

‫‪99‬‬


‫قضايا‬

‫متسائلاً في البيان نفسه‪« :‬هل صحيح أن‬

‫القطيعة تبلغ ذروتها‬

‫لم يمر الموقف الذي تب ّناه وروّج له الطاهر‬

‫الحرب مع فرنسا انتهت؟ الحرب الحضارية لم‬

‫وطار مرور الكرام‪ ،‬فقد تناقلته بتفاصيل أكثر‬ ‫معظم الصحف الجزائرية‪ ،‬وانبرى الك ّتاب من‬ ‫كال الطرفين‪ّ ،‬‬ ‫كل واحد منهما يسعى للدفاع عن‬

‫تنته‪ ،‬إن انتشار اللغة الفرنسية في الجزائر‪،‬‬ ‫ّاتسع بدرجة كبيرة بعد االستقالل‪ ،‬مقارنة بما‬

‫كان عليه الوضع أثناء الوجود االستعماري»‪،‬‬

‫ثم يختم بيانه بضرورة تطبيق ما أطلق عليه‬

‫«الشرط اللغوي للوطنية»‪ ،‬في تقويم انتماء‬ ‫األدب الجزائري الناطق بلغة أجنبية‪« ،‬نعتبر‬

‫المفكرين من أصل غير عربي مثل ابن الرومي والفارابي عربًا؛‬ ‫ألنهم ّ‬ ‫تكلموا باللغة العربية‪ ،‬وكتبوا بها‪ ،‬فبأي حق نتنازل عن‬

‫هذا المعيار‪ ،‬ونقلبه عند الحديث عن عروبة األدب الجزائري‪،‬‬ ‫المكتوب بالفرنسية؟»‪.‬‬

‫وجهة نظره‪ .‬وألوّل م ّرة يحتدم الصراع بينهما‪،‬‬

‫سعيد خطيبي ويأخذ وجهة أخرى مغايرة‪ ،‬بلغت حدّ االتهام‬ ‫بالتواطؤ والخيانة‪ ،‬لم تلبث أن بلغت القطيعة‬

‫ذروتها بين الطرفين‪ .‬قطيعة كانت فيما مضى خفيّة‪ ،‬لم يسبق‬

‫لها أن خرجت للعلن‪ .‬أولى إرهاصاتها وأخطرها عاش تبعاتها‬

‫الطاهر وطار بنفسه‪ ،‬وهو في مستشفى باريس طريح الفراش‪،‬‬ ‫ففي الوقت الذي جاء لزيارته معظم الك ّتاب المع ّربين‪ ،‬بما‬

‫الفرنسية تتصدر المشهد األدبي‬ ‫‪100‬‬

‫ّ‬ ‫تتصدر المشهد األدبي في‬ ‫لم يكن أكثر الناس تفاؤلاً في الجزائر يعتقد أن اللغة الفرنسية ستصمد‪ ،‬بل وستعود بقوّة‪،‬‬

‫الجزائر‪ ،‬بعد مضي أكثر من خمسة عقود من نيل الجزائر استقاللها‪ ،‬رغم سياسة التعريب الشاملة‪ ،‬المنتهجة من جانب‬ ‫ّ‬ ‫تمكن اللغة الفرنسية عشرات ُ‬ ‫ولعل من أبرز مظاهر ّ‬ ‫الكتب التي ال تزال تصدر باللغة‬ ‫الدولة الجزائرية منذ السبعينيات‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وبخاصة على مستوى األعمال السردية‪.‬‬ ‫الفرنسية‪ ،‬إلى جانب مقروئية باتت تنافس اللغة العربية‪،‬‬

‫وهكذا أصبحت الرواية الجزائرية باللسان الفرنسي ُت ّ‬ ‫شكل الحدث األدبي ليس في الجزائر فحسب‪ ،‬بل في فرنسا‬ ‫كذلك‪ ،‬لكن هذه المرّة من جانب ك ّتاب عاشوا في الجزائر‪ ،‬وتعلموا في مدارسها‪ ،‬وسرعان ما أصبح حضورهم ملف ًتا‪،‬‬

‫من خالل ّ‬ ‫ترشحهم لمختلف الجوائز األدبية الفرنسية‪ ،‬على غرار بوعالم صنصال‪ ،‬وكمال داود‪ ،‬ومايسة باي‪ ،‬وياسمينة‬ ‫خضرا‪ ،‬وآخرين‪ ...‬واألمر فيما يبدو‪ ،‬لم يعد مقتصرًا على الجيل «القديم» بل إن الفرنسية كلغة استهوت عد ًدا من الك ّتاب‬ ‫الجزائريين من جيل شملته سياسة التعريب‪ ،‬مثل‪ :‬كمال داود‪ ،‬ومصطفى بن فوضيل‪ ،‬وسليم باشي‪ ...‬إضافة إلى توجّ ه‬ ‫عدد من الك ّتاب الجزائريين المعرّبين‪ ،‬لسبب أو آلخر‪ ،‬إلى الكتابة باللغة الفرنسية‪ ،‬في اختيارهم االنتقال بين كتابة‬

‫المقاالت وتأليف أعمال روائية‪ ،‬على غرار‪ :‬مرزاق بقطاش‪ ،‬وجياللي خالص‪ ،‬ومحمد ساري‪ ،‬وواسيني األعرج‪ ،‬وأمين‬

‫الزاوي‪ ،‬وسعيد خطيبي‪ ،‬أو التأرجح في الكتابة بين اللغتين العربية والفرنسية‪ ،‬كما هو الشأن بالنسبة لرشيد بوجدرة‪.‬‬

‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫لعل أهمها في اعتقادهم‪ ،‬حرية البوح التي تتيحها ربما الكتابة باللغة‬ ‫تتعدد مسوّغات االنتقال إلى اللغة الفرنسية‪،‬‬ ‫ً‬ ‫بعيدا من إكراهات الرقابة بمختلف أشكالها‪ ،‬ومن خالل اللجوء قسرًا إلى رقابة ذاتية‪ ،‬قد يفرضها قارئ معرّب‪،‬‬ ‫الفرنسية‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مؤثثا بالمواقف المسبقة لألشياء‪ .‬من جهة أخرى‪ ،‬ثمة عامل االهتمام الذي قد تتيحه اللغة الفرنسية‪ ،‬من خالل‬ ‫يبدو‬

‫إمكانية احتضان العمل من جانب وسط أدبي فرنسي‪ ،‬يكفل اهتمامً ا إعالميًّا وأدبيًّا واسعً ا له‪ ،‬كما قد يسمح لكاتب مغمور‬ ‫في بلده‪ ،‬أن يطمح إلى الحصول على واحدة من آالف الجوائز المتاحة‪ ،‬وربما جائزة أدبية مرموقة‪ ،‬وهو ما حدث مع‬

‫الكاتب والصحفي كمال داود (‪1970‬م) من خالل عمله األول «مينورسو تحقيق مضاد» والذي كاد أن يحصل على جائزة‬ ‫غونكور الشهيرة‪ ،‬لوال فارق نقطة وحيدة‪ ،‬رجّ حت في آخر المطاف كفة الكاتبة «ليدي سالفير» للفوز‪ ،‬ولكنه استطاع مع‬

‫ذلك‪ ،‬أن ينال سنة ‪2015‬م جائزة غونكور ألفضل عمل روائي أوّل‪ ،‬وأن يكتب مقاالت في أكبر الصحف والمجالت الفرنسية‪،‬‬ ‫وينتزع هذه السنة جائزة أحسن صحافي في فرنسا‪.‬‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬


‫اإلشكالية اللغوية في الجزائر‪ ..‬عندما أشعل الطاهر وطار فتيل الصراع‬

‫في ذلك الكاتب واسيني األعرج‪ ،‬رغم الخالف‬

‫الشديد الذي كان قائمً ا بينهما‪ ،‬قبل مرضه‬

‫بمدة قصيرة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وكان ذلك الخالف قد تجلى من خالل‬ ‫تبادلهما مقاالت «شديدة اللهجة» على‬ ‫صفحات الجرائد الجزائرية‪ ،‬إثر تراشق واضح‪،‬‬

‫أفرزه تعارض في موقف كل منهما إزاء األحداث‬ ‫السياسية التي جرت في الجزائر آنذاك‪،‬‬

‫اليقظة‪ ،‬ويستمر البرلمان الجديد‪ ...‬أنا ديمقراطي‬

‫حقيقي وال أستنجد بالدبّابة ألحمي النظام‪.»...‬‬

‫رشيد بوجدرة أبرز المعارضين‬ ‫هو الرأي الذي عارضه شكلاً‬ ‫ً‬ ‫ومضمونا عدد‬ ‫كبير من الك ّتاب الجزائريين‪ ،‬ال سيما ك ّتاب اللغة‬ ‫ّ‬ ‫سيؤلف رشيد بوجدرة (‪1941‬م)‬ ‫رشيد بوجدرة الفرنسية‪ ،‬وهكذا‬ ‫أحد أبرز المعارضين للطاهر وطار‪ ،‬خالل تلك‬

‫وبخاصة عقب توقيف المسار االنتخابي إثر فوز الجبهة اإلسالمية‬

‫المدة‪ ،‬كتابًا بالفرنسية يحمل عنوان «فيس الحقد»‪ ،‬يتناول‬

‫الجزائريين‪ ،‬توقيف المسار االنتخابي‪ ،‬وقطع الطريق أمام حكم‬

‫الروائي رشيد ميموني (‪1995 – 1945‬م) كتابًا تحت عنوان «عن‬

‫لإلنقاذ‪ ،‬بأغلبية مقاعد البرلمان الجزائري‪ .‬ففي الوقت الذي‬ ‫أيّد فيه الكاتب واسيني األعرج‪ ،‬مع كوكبة أخرى من الك ّتاب‬

‫اإلسالميين‪ ،‬فاجأ الطاهر وطار الجميع بموقفه المختلف‪،‬‬ ‫معل ًنا معارضته الشديدة لعملية توقيف المسار االنتخابي‪،‬‬

‫مجسدً ا في حزب «الفيس» (األحرف‬ ‫مخاطر التط ّرف الديني‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫األولى بالفرنسية للجبهة اإلسالمية لإلنقاذ)‪ .‬بدوره‪ ،‬يؤلف‬ ‫ً‬ ‫خصوصا»‪ ،‬يقول عن عمله إنه‬ ‫الهمجية عمومً ا واألصولية‬ ‫«أشبه بصرخة ملحّ ة اعتملت في داخلي‪ ،‬كتبته بسرعة فائقة‬

‫ومؤيّدً ا فكرة مواصلته إلى آخر المطاف‪ ،‬مهما كانت درجة‬ ‫ً‬ ‫معترفا أمام الصحافة الجزائرية‪:‬‬ ‫األخطار المحدقة بالبلد‪،‬‬

‫قصد التنبيه إلى المخاطر التي كانت تحدق بالجزائر‪ ،‬في حال‬

‫مس لهذه الوضعيات هو نهاية عهد‬ ‫حساسة‪ ،‬وكل ّ‬ ‫وضعيات ّ‬

‫وقد بلغ الوضع‪ ،‬فيما يبدو‪ ،‬سوءً ا بين الطرفين‬

‫«لقد تمّ إيقاف المسار االنتخابي لحماية مصالح فئوية‪ ،‬خلقت‬

‫وبداية آخر‪ ،‬كان رأيي أن يستمر المسار االنتخابي‪ ،‬وتستمر‬

‫عشية االنتخابات التشريعية في كانون األول‪ ،‬ديسمبر ‪1991‬م‪،‬‬

‫استيالء جبهة اإلنقاذ على الحكم»‪.‬‬

‫المتصارعين‪ ،‬وبخاصة بين الطاهر وطار ومناوئيه‪ ،‬عندما شرع‬

‫األول في إطالق تصريحاته النارية ضدّ ما يعتبره رموز األدب‬ ‫الجزائري الناطق بالفرنسية‪ ،‬فها هو مثلاً يعتبر مقتل «الطاهر‬ ‫جاووت» (‪1993 – 1954‬م) الصحافي والروائي الجزائري باللغة‬

‫الفرنسية‪ ،‬على أيدي الجماعات اإلرهابية بمنزلة «خسارة‬ ‫لفرنسا» حسب وصفه وليس للجزائر‪ ،‬رغم ما يمثله هذا األخير‬

‫من رمزية كونه أوّل كاتب وإعالمي جزائري تطاله يد اإلرهاب‪،‬‬ ‫التي اغتالت بعده مجموعة كبيرة من ّ‬ ‫الصحافيين والك ّتاب‪،‬‬ ‫خالل ما بات يطلق عليه في الجزائر «العشرية السوداء» المدة‬

‫التي شهدت تنامي العنف فيها‪.‬‬

‫حرب بالفرنسية ضد الطاهر ّ‬ ‫وطار‬

‫كر ّد فعل مباشر لموقف الطاهر وطار؛ ش ّنت الصحافة‬

‫الجزائرية الناطقة بالفرنسية حربًا إعالمية ضدّ ه‪ ،‬ولعلها‬

‫لم يمر الموقف الذي تب ّناه صاحب «الالز»‬

‫ّ‬ ‫الصحف التي كانت تحظى خالل تلك الحقبة بنفوذ خاص‪،‬‬

‫معظم الصحف الجزائرية‪ ،‬وانبرى الكتّاب‬

‫بداية االنفتاح اإلعالمي في الجزائر‪ ،‬من خالل حجم مبيعاتها؛‬

‫مرور الكرام‪ ،‬فقد تناقلته بتفاصيل أكثر‬ ‫من كال الطرفين يدافعون عن وجهة‬

‫ومصداقية معيّنة لدى شريحة معتبرة من الرأي العام‪ ،‬في‬ ‫إذ استطاعت أن تتفوّق على الصحف المع ّربة‪ ،‬قبل أن تتغيّر‬

‫مرة يحتدم الصراع بينهما‪،‬‬ ‫نظرهم‪.‬‬ ‫وألول ّ‬ ‫ّ‬

‫األوضاع في العقد األخير‪ ،‬وتحتل الصحف المع ّربة الريادة‪.‬‬ ‫وهي الحملة التي ّأثرت فيما يبدو‪ ،‬في نفسية الطاهر وطار‪،‬‬

‫حد‬ ‫ويأخذ وجهة أخرى مغايرة‪ ،‬بلغت ّ‬ ‫االتهام بالتواطؤ والخيانة‬

‫الجميع عنه‪ ،‬قبل أن يشتدّ عليه المرض‪ ،‬وينتقل مضط ًّرا إلى‬

‫األمر الذي ألزمه الصمت مدة من الزمن‪ ،‬بعد أن شعر بتخلي‬

‫فرنسا للعالج‪.‬‬

‫‪101‬‬


‫قضايا‬

‫وهكذا امتنع الك ّتاب الجزائريون باللغة الفرنسية‪ ،‬حتى‬

‫ّ‬ ‫خاصة‬ ‫عن زيارته في المستشفى‪ .‬وما أثار حفيظة الطاهر وطار‬ ‫موقف الكاتب الجزائري «ياسمينة خضرا» الذي أعلن صراحة‬

‫لإلعالم الفرنسي والجزائري رفضه زيارته؛ بسبب المواقف التي‬ ‫ّ‬ ‫وبخاصة في حق الطاهر جاووت‪ ،‬رغم أنه كان يشغل‬ ‫أدلى بها‪،‬‬

‫منصب مدير المركز الثقافي بباريس‪ ،‬خالل تلك الحقبة‪ ،‬وهي‬

‫مؤسسة عمومية تابعة للدولة الجزائرية‪.‬‬ ‫يص ّنف الطاهر وطار الك ّتاب الجزائريين بالفرنسية إلى‬ ‫صنفين‪ :‬ما اصطلح على تسميتهم الرعيل‬

‫جمال الدين بن شيخ‪:‬‬ ‫أنا أطلب من الذين يكتبون‬ ‫بالفرنسية‪ ،‬أن يواصلوا‬ ‫الكتابة بها‪ ،‬ولكن‬ ‫عليهم من جهة أخرى‪،‬‬ ‫أال يدلسوا الواقع الحضاري للعرب‬ ‫ّ‬ ‫وكأنه ُكتب أصلاً باللغة العربية‪ .‬أما بالنسبة‬

‫األوّل‪ ،‬على غرار‪ :‬كاتب ياسين‪ ،‬ومولود‬

‫للرعيل الثاني‪ ،‬هناك حسب تعبير الطاهر وطار‬ ‫ّ‬ ‫تشك حتى في أصله العربي اإلسالمي‪،‬‬ ‫«من‬ ‫ربما يكون يهوديًّا‪ ،‬وهناك مثلاً شاعرة‬

‫معمري‪ ،‬ومالك حداد‪ ،‬ومحمد ديب‪.‬‬

‫بالنسبة إليه‪ ،‬هؤالء يمتلكون‬ ‫ً‬ ‫وجدانا جزائريًّا‪ ،‬حتى وهم‬

‫يهودية اسمها مريم بن كوهين‪ ،‬حذفت‬

‫يكتبون بلغة غير لغة الشعب‬ ‫الجزائري‪ ،‬فضلاً عن أنها‬

‫كوهين‪ ،‬وصارت تدعى مريم بن‪ ،‬كما‬ ‫أنّ ُكـ ّتابًا مثل رشيد ميموني‪ ،‬وبوعالم‬

‫لغة االستعمار‪ .‬فالكاتب‪،‬‬

‫صنصال‪ ،‬ومجموعة الذين كتبوا فيما‬

‫حسب مفهوم الطاهر‬

‫بعد‪ ،‬ليس فيهم من الجزائرية سوى‬

‫وطار لمسألة االنتماء‪ ،‬إذا‬ ‫ً‬ ‫وجدانا عربيًّا‬ ‫كان يملك‬

‫‪102‬‬

‫االسم»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫في خضمّ النقاش المحتدم‪ ،‬تدخل‬

‫إسالميًّا‪ ،‬عندها ال يهمّ‬

‫بأية لغة يك ُتب؛ إذ بمجرد‬

‫الكاتب الجزائري محمد ديب (‪2003- 1920‬م)‪،‬‬ ‫وهو واحد من الك ّتاب المؤسسين لألدب‬

‫ترجمته إلى اللغة العربية‪،‬‬

‫الجزائري الناطق باللغة الفرنسية‪ ،‬شارحً ا اإلشكالية‬

‫يعود الكتاب إلى جذوره‪،‬‬

‫لغة الذهاب واالنفتاح على اآلخر‬ ‫من ناحية أخرى‪ ،‬يشاطر الروائي أمين الزاوي (‪1956‬م)‬

‫كاتب ياسين رأيه القائل بأن اللغة الفرنسية غنيمة حرب؛‬

‫إذ يعتبر أن اللغة الفرنسية اكتسبها الجزائريون‪ ،‬بحيث‬ ‫أصبحت جزءً ا ال يتجزأ من المشهد والحقل األدبي والثقافي‬ ‫في الجزائر‪ ،‬كما وصفها «بلغة الذهاب واالنفتاح على‬

‫اآلخر»‪ .‬أمين الزاوي بعد أن بدأ كتاباته باللغة العربية‬ ‫وحدها‪ ،‬وأنجز مجموعة من القصص والروايات بها‪ ،‬عاد‬

‫في السنوات األخيرة لينجز أعماله‪ ،‬تارة باللغة العربية‪،‬‬ ‫وتارة أخرى باللغة الفرنسية؛ مسوّغات هذا االنتقال‬

‫روائي يجيد الكتابة باللغتين الفرنسية‬ ‫يلخصها في أنه‬ ‫ّ‬ ‫والعربية‪ ،‬ويضيف‪« :‬أنا الوحيد من جيلي‪ ،‬جيل االستقالل‪،‬‬ ‫الذي يمارس الكتابة إبداعيًّا روائيًّا من اليمين إلى اليسار‪،‬‬

‫ومن اليسار إلى اليمين بشكل متناغم‪ ،‬وما أطرحه من‬ ‫مشكالت وأسئلة فلسفية وتراثية وسيكولوجية وسياسية‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬

‫في رواياتي بالفرنسية أطرحه بالعربية‪.‬‬

‫صحيح أنّ النصوص مختلفة‪ ،‬أي ليست ترجمة مطلقة‪،‬‬ ‫ولم أحاول يومً ا ترجمة أعمالي من لغة إلى أخرى‪ ،‬بل ّ‬ ‫كل ّ‬ ‫نص‬

‫ووفي للقارئ‪ ،‬حيث ّإنني ال أخون‬ ‫قائم بذاته‪ ،‬ولك ّنني أمين‬ ‫ّ‬ ‫قارئي بالعربية كما بالفرنسية‪ ،‬فما يشغلني من هموم أكتبه‬ ‫في هذه اللغة أو في تلك»‪.‬‬

‫أما الروائي واسيني األعرج (‪1954‬م) الذي يعترف بأن اللغة‬ ‫الفرنسية كانت لغة الكتابة األولى له‪ ،‬وأنه ّ‬ ‫تعلمها في مراحل‬

‫التعليم األولى في عهد االستعمار‪ ،‬يصف اللغة الفرنسية بأنها‬

‫«كانت شبيهة بالقدر ولم تكن خيارًا»‪ ،‬فقد كان الخيار آنذاك إمّ ا‬

‫الفرنسية أو األمّ ية‪ ،‬على حين أن تعلم اللغة العربية كان عن‬ ‫طريق الكتاتيب‪ ،‬بوصفها فضاء بديلاً للمدرسة الفرنسية‪ ،‬بادر‬

‫بتأسيسها السكان الجزائريون؛ من أجل الحفاظ على الهوية‬ ‫العربية اإلسالمية من محاوالت طمسها من جانب االستعمار‬


‫اإلشكالية اللغوية في الجزائر‪ ..‬عندما أشعل الطاهر وطار فتيل الصراع‬

‫اللغوية في الجزائر‪ ،‬حسب وجهة نظره‪ ،‬معتب ًرا أن مسألة‬

‫أخرى‪ ،‬ألاّ يدلسوا الواقع الحضاري للعرب‪.»...‬‬

‫ً‬ ‫طوعا لغة إبداعه‪ ،‬بل كتب باللغة الوحيدة التي كانت‬ ‫«لم يختر‬

‫الطاهر وطار «نموذجً ا حقيقيًّا للكاتب الملتزم بقضايا وطنه‪،‬‬

‫اللغة ليست اختيارية؛ ألن الكاتب الجزائري في حقبة زمنية‬ ‫في متناوله»‪ ،‬ثم يمضي مب ّررًا السياق التاريخي‪ ،‬الذي دفع‬ ‫أقرانه إلى استخدام الفرنسية‪« ،‬خالل الحقبة االستعمارية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫لتعلم اللغة العربية‪ ،‬ولم‬ ‫لم تكن هناك إمكانية‬ ‫يكن أمام الشعب الجزائري خيّار آخر سوى‬ ‫إرسال أبنائهم إلى المدارس االستعمارية‬

‫ّ‬ ‫لتعلم الفرنسية‪ ،‬وح ّتى اللغة الفرنسية‬

‫لم يكن تعلمها متاحً ا‪ ،‬سوى لقلة قليلة من‬ ‫أبناء الجزائريين»‪.‬‬

‫الشاعر مالك حداد (‪1978 - 1927‬م) يُعتبر وفق منظور‬

‫وثوابت أمّ ته»‪ .‬كما يُوصف مالك حداد بأنه «شهيد اللغة‬

‫ّ‬ ‫بالتوقف نهائيًّا عن الكتابة‬ ‫العربية»‪ ،‬عندما أعلن قراره المبدئي‬ ‫باللغة الفرنسية‪ ،‬وهو في أوج عطائه األدبي‪،‬‬ ‫وقال قولته الشهيرة‪« :‬اللغة الفرنسية هي‬ ‫منفاي»‪ .‬قالت عنه الكاتبة أحالم مستغانمي‬

‫في مقدّ مة روايتها «ذاكرة الجسد»‪ ،‬والتي‬ ‫ّ‬ ‫متأث ًرا بسرطان صمته‬ ‫أهدتها لروحه‪« :‬مات‬ ‫ليصبح شهيد اللغة العربية‪ ،‬وهو أوّل كاتب‬ ‫ً‬ ‫وعشقا لها»‪ .‬وعلى النقيض‬ ‫يموت قه ًرا‬

‫التاريخ وضعنا في ظروف خاصة‬

‫تمامً ا يقف كاتب ياسين (‪1989 – 1929‬م)‬

‫صاحب الرواية الشهيرة «نجمة» معتب ًرا‬

‫أما بالنسبة للشاعر والمؤرّخ جمال الدين‬

‫«اللغة الفرنسية غنيمة حرب» يُفترض‬

‫بن شيخ (‪2005 – 1930‬م) يرى أن «اللغة تعيش‬

‫استغاللها إيجابيًّا‪ ،‬واعتبارها مكسبًا‬

‫مع الشخص‪ ،‬واإلنسان عليه أن يقبل التاريخ‬

‫لفتح أفق واسع للعلم والمعرفة‪.‬‬

‫كما هو‪ ،‬والتاريخ قد وضعنا في ظروف خاصة‬

‫عشناها‪ ،‬وال يمكن القفز فوق هذه الظروف‪ ،‬فأنا‬ ‫ال ألوم الب ّتة من يستعمل الفرنسية في الكتابة‪ ،‬ولكن أن‬

‫يستعمل هذه اللغة بصراحة‪ ،‬وال يحاول أن ينافق اآلخرين‪،‬‬

‫ويقول هكذا وبكل صراحة‪ :‬إنني خلقت في مرحلة‪ ،‬ودرست‬ ‫في مرحلة معينة‪ ،‬ووليد ظروف‪ ...‬فأنا أطلب من الذين يكتبون‬

‫باللغة الفرنسية‪ ،‬أن يواصلوا الكتابة بها‪ ،‬ولكن عليهم من جهة‬

‫واسيني األعرج‪ :‬اللغة الفرنسية في‬ ‫خيارا‬ ‫حياتي أشبه بالقدر ولم تكن‬ ‫ً‬

‫ّ‬ ‫التعدد الثقافي‬ ‫الفرنسي‪ .‬إذ يعتبر اللغة الفرنسية ضربًا من‬

‫المفيد لألدب الجزائري‪« :‬أنظر للغنى اللغوي أو الثقافي‬

‫وحتى العرقي كحالة إيجابية‪ ،‬والتي تفترض بالضرورة‬ ‫القدرة على االستيعاب واالضطالع بالحالة‪ ...‬اكتساب لغة‬ ‫ً‬ ‫جيدا‪.‬‬ ‫جديدة هو فسحة ثقافية تنفتح على عالم ال نعرفه‬ ‫بفضل اللغة الفرنسية اطلعت على جزء مهم من األدب‬

‫العالمي ولم أنتظر الترجمة العربية‪ .‬من عرف لغة قوم‬ ‫عرفهم وعرف جزءً ا من العالم المخفي»‪.‬‬

‫أمين الزاوي‬

‫واسيني األعرج‬

‫الروائي رشيد بوجدرة (‪1941‬م)‪ ،‬بعد أن كان يكتب في‬ ‫بداياته باللغة الفرنسية‪ ،‬منج ًزا عشرات الروايات بها‪ ،‬فاجأ‬

‫وهو أمر ال تتيحه له الفرنسية‪ .‬ورغم أنه عاد من جديد إلى‬

‫ها هو يعترف أنه قبل أن يقرأ للكاتب الفرنسي مارسيل‬

‫اللوبي الفرانكفوني في الجزائر وفي فرنسا؛ بسبب مواقفه‬

‫الجميع بقرار الكتابة بالعربية‪ ،‬والتخلي عن الكتابة بالفرنسية‪،‬‬ ‫بروست‪ ،‬قرأ ألف ليلة وليلة‪ ،‬وتأثر بها أيّما تأثر‪ .‬عالقته باللغة‬

‫العربية حسب تعبيره هي عالقة عشقية؛ ألنها بحر‪ ،‬وأن‬

‫الفتوحات اإلسالمية أضافت للغة العربية كلمات من جميع‬ ‫أيضا ّ‬ ‫الدول واألمصار‪ ،‬وألنها ً‬ ‫تمكنه من استعمال اللهجات‬

‫الشعبية المختلفة‪ ،‬والكلمات السوقية‪ ،‬ولغة الشارع‪،‬‬ ‫الكتابة بالفرنسية‪ ،‬لكنه تعرّض للتهميش واإلقصاء من‬ ‫المنتقدة لنشاط المنظمة الفرانكفونية‪ ،‬وموقفه المؤيّد‬

‫التجاه الكتابة بالعربية‪ ،‬مما حرمه‪ ،‬كما صرح‪ ،‬من نيل‬ ‫جائزة من الجوائز األدبية الكثيرة‪ ،‬التي يتيحها المشهد‬ ‫األدبي في فرنسا‪.‬‬

‫‪103‬‬


‫قضايا‬

‫عالقة الدين‬ ‫بالفنون‬ ‫أحمد بن قاسم الغامدي‬ ‫باحث شرعي ومدير عام هيئة األمر بالمعروف‬ ‫والنهي عن المنكر بمكة المكرمة سابقً ا‬

‫الدين والفنون مشترك فطري إنساني جُ بل الناس عليه‪ ،‬وكالهما يحقق لآلخر معاني يستدل‬

‫‪104‬‬

‫بها على الحق والصواب والجمال‪ ،‬وبهما يرتقي العقل والروح والسلوك والحياة‪ ،‬والفنون يدرك‬ ‫بها الحسن والقبح ومراتبهما‪ ،‬وتقوى بها ملكات اإلدراك وتمييز الفروق‪ ،‬وغيابها غياب للمعاني‬ ‫الروحية وجماليات الحياة‪ ،‬يتولد عنه قصور في فهم الدين‪ ،‬وجفاء وسطحية في المجتمعات‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وأقل ما يمكن أن يورثه القصور المعرفي والعجز‬ ‫ويورث وقوع البعض في الكراهية والتطرف‪،‬‬

‫المعنوي والفكري‪.‬‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬


‫إن الفنون ترتقي بفهم الدين ويرتقي الدين بها‪ ،‬وتدفع‬

‫بالمجتمع المتدين لفتح مجاالت وآفاق جديدة للفنون‪،‬‬

‫فتقوى الملكات ويقل العجز عن إدراك األفكار والمعاني‬ ‫والحقائق‪.‬‬

‫الفنون تعين على الوصول إلى الصواب وإدراكه عبر‬

‫األدوات الصحيحة‪ ،‬وهذه القدرة هي التي تمنح اإلنسان‬

‫االرتقاء وليس الصواب بذاته‪ ،‬وبغير ذلك فإن الشخصية‬

‫اإلنسانية ستغرق في الضعف والوصاية المولدة للعجز في‬

‫الحكم على الواقع ومفرداته وتفاعالته واحتياجاته وأولوياته‪.‬‬ ‫إن الفنون تمنح اإلنسان ملكة وذائقة وحدسً ا يحمي‬

‫من الضعف‪ ،‬وبإشراك الفنون فإننا نمضي بالمجتمع إلى‬ ‫المناعة من الخواء والضعف والخوف ونقص المعرفة‪،‬‬

‫ونخلصه من الوقوع في الكراهية والتطرف‪.‬‬ ‫غياب الفنون غياب للملكات‬

‫إننا دومً ا بحاجة لرؤية األشياء كما هي‪ ،‬والفنون تحفز‬

‫بحاجة لتلك الذائقة؛ ليدرك الفاسد والقبيح من ضدهما‪،‬‬

‫وهذه الذائقة كملكة في الحكم على األشياء واألفكار تكاد‬ ‫تنحصر كمهارة يتعلمها اإلنسان من الفنون والجماليات‪،‬‬

‫التي عندما يفقدها اإلنسان‪ ،‬فإن تدينه وحكمه على المسائل‬

‫ملكات األفراد على التمييز بين الصديق والعدو‪ ،‬وقياس نضج‬

‫واألشخاص يكون خاليًا من القدرة على مالحظة تنوع وتفاوت‬

‫والخدمات‪ ،‬وترتيب األولويات والحكم واالختيار بذائقة‬

‫و(اآلخر)‪ ،‬فيضيّق (األنا) دائرة الدين إلى الطائفة ثم الجماعة‬

‫األفكار والمعاني وتمييز مستواها‪ ،‬والحكم على المنتجات‬

‫جمالية محببة للنفس توفر للمجتمع ما ال توفره بيئات‬ ‫التعليم ووسائل اإلعالم والعمل والعالقات والمستجدات‬ ‫اليومية‪ ،‬وغياب الفنون غياب للملكات وتأسيس للعجز‬

‫عن رؤية األشياء كما هي‪ ،‬ولذلك تتكيف السلع والمعارف‬ ‫والتقنيات واألفكار مع قدرة الناس على الرؤية والتقييم‪،‬‬

‫فتزداد هذه األشياء في مستواها وجمالها بمقدار فهم الناس‬ ‫وضعفهم‪.‬‬

‫فالفنون تمنح الناس مهارات وملكات لرؤية هذه‬

‫األشياء ووصفها والتعبير عنها‪ ،‬وتعين على تشخيص الفكرة‬

‫المعنوية أو تحويلها إلى واقع محسوس‪ ،‬ولذلك تدهشنا‬

‫قدرة الفنان على مالحظة التفاصيل وعرضها في لوحة فنية‬

‫أو مقطوعة موسيقية أو مهارة معمارية أو قصة أو شعر‪،‬‬ ‫وغياب تلك الذائقة يفقد كثيرين قدرتهم على رؤية األشياء‬

‫على حقيقتها‪ ،‬ويصبح الناس أكثر عرضة للخطأ والتضليل‬ ‫والتبعية وعدم القدرة على التمييز والتقييم‪ ،‬فالمجتمع‬

‫صوابا إقصاء الفنون وهي‬ ‫لم يعد‬ ‫ً‬ ‫تمنح حصانة ومنعة وذائقة وقدرة على‬ ‫التمييز‪ ،‬وتعوض اإلنسان عن الوحشة‬ ‫والصعوبة في عالمه المتغير‬

‫الخير والجمال في الناس حتى يصبح ليس أمامه إال (األنا)‬ ‫ثم المجموعة حتى يكاد يقتصر على الذات‪ ،‬ويتسع اآلخر‬

‫ليبدأ بمن ليس من (األنا) حتى يكاد يكون كل إنسان آخر‪.‬‬

‫‪105‬‬


‫قضايا‬

‫إن غياب الفنون يمثل غيابًا لوضوح الحياة‪ ،‬وغيابًا للنمو‬

‫والعلمية والكتب التراثية والتاريخية معه سوى قطرة في‬

‫الخواء‪ ،‬الذي يستوي معه الوجود والعدم‪ ،‬وعندها لن‬ ‫نمثل ً‬ ‫فرقا ألنفسنا وأسرنا ومجتمعاتنا وأوطاننا‪.‬‬

‫مجديًا التدين الذي يقدم للناس خارطة طريق جاهزة‪ ،‬ولم‬

‫والنجاح والمشاركة العامة واالنتماء‪ ،‬فال يكون حينها إال‬

‫الفنون ضرورة كبرى للدين والدنيا‬

‫يعد صوابًا أن يقال للناس كيف يفكرون ويفهمون وماذا‬

‫يقرؤون أو يسمعون أو يشاهدون‪ ،‬ولم يعد صوابًا إقصاء‬

‫الفنون وهي تمنح حصانة ومنعة وذائقة وقدرة على التمييز‪،‬‬

‫إن الخواء يتشكل عند عجز اإلنسان عن إدراكه الصواب‪،‬‬

‫وتعوض اإلنسان عن الوحشة والصعوبة في عالمه المتغير‪،‬‬

‫واالرتقاء إنما يكونان بإدارة نقص المعرفة‪ ،‬وتحويل هذا‬

‫الشعور فيه بالحاجة للمعرفة كسبب للدأب وحماية الذات‬ ‫من ثقل اليقين المتوهم؛ ليشق طريقه مستعي ًنا بملكات‬

‫فالصواب وإن كان موجودًا إال أنه قد يتعذر إدراكه‪ ،‬والنجاح‬ ‫النقص إلى إبداع وارتقاء بالروح والنفس‪ ،‬وهنا تكون الفنون‬

‫ضرورة كبرى للدين والدنيا‪ ،‬وال يمكن للمتدين أن يستغني‬ ‫عنها‪ ،‬فالمتدين متى اعتقد أنه يملك الحقيقة ويتبع الحق‬

‫فقد وقع في الوهم‪ ،‬والكارثة تكون عندما يتبع وهمه على‬ ‫أنه اليقين‪ ،‬ثم يكتشف أنه في وا ٍد آخر‪ ،‬وكان الواجب أن‬

‫يستحضر اإلنسان أنه ال يعرف وإنما يحاول أن يدير عدم‬ ‫معرفته‪.‬‬

‫إن غياب هذه القدرات يجعل الفرد يلجأ إلى المجموع‬

‫ليحمي نفسه‪ ،‬والمجموع ليس سوى أفراد ناقصي المعرفة‬

‫إذا كانوا مثله‪ ،‬فهم جميعً ا يحتمون باليقين الذي هو في‬

‫‪106‬‬

‫محيط المعرفة المتدفق الهادر المتطور المبهر‪ ،‬فلم يعد‬

‫الحقيقة ليس سوى وهم‪ ،‬فال يحميه وال يحميهم‪ ،‬والتواطؤ‬ ‫ً‬ ‫وضعفا‪ ،‬ويتحول‬ ‫على الوهم وهم مركب يزيد المجموع خواء‬ ‫إلى شعور وهمي بالصواب‪ ،‬وربما ينظر إلى الصواب على أنه‬ ‫خطأ‪ ،‬وتواصل متوالية الخواء تشكيل أتباعها في مزيد من‬

‫الضعف الذي يقود إلى التعصب والكراهية والتطرف‪.‬‬

‫فالفنون تعالج ذلك بما تمنحه من ملكات فردية تملك‬

‫بذاتها منعتها وتماسكها فيداري الفرد بها عجزه‪ ،‬وينشئ‬ ‫ً‬ ‫طريقا تحميه‪ ،‬فيتشكل وعيه لنفسه على نحو صحيح‬ ‫بها‬

‫ً‬ ‫انطالقا من قدراته وملكاته الفردية‪ ،‬فيعرف ماذا يريد وكيف‬

‫يحقق ما يريد‪ ،‬وغياب ذلك يعني أنه يسير في طريق ال‬ ‫يعرفه وال يعرف عنه سوى األنس بالسالكين معه‪ ،‬ولو كانوا‬

‫على باطل‪.‬‬

‫إننا اليوم في عالم اإلتاحة واإلغراق بالمرئي والمسموع‬

‫والمقروء الذي لم تعد الجامعات والمؤسسات الدينية‬

‫الفنون ضرورة كبرى للدين والدنيا‪،‬‬ ‫وال يمكن للمتدين أن يستغني عنها‪،‬‬ ‫فالمتدين متى اعتقد أنه يملك الحقيقة‬ ‫ويتبع الحق‪ ،‬فقد وقع في الوهم‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬

‫وتقرب المسافة بين الفكرة والمعرفة والتعبير عنها‪ ،‬وتحفز‬

‫الفنون حين تعجز المنظومات المعرفية األخرى عن إدراك‬

‫بعض األشياء‪.‬‬

‫إن الفنون تلهم الحياة والفكر‪ ،‬وتلهم فهم الدين؛‬

‫ألن تذوق الفنون بشكل عام كجزء من الحياة‪ ،‬يمكن أن‬ ‫يلهم على نحو مباشر وغير مباشر عزيمة وأفكارًا وقدرات‬

‫ومعارف‪ ،‬كما لو أننا نقرأ كتابًا عظيمً ا‪ ،‬يزيدنا فهمً ا للدين‬

‫والحياة والطريق بشكل أمثل‪.‬‬


107


‫تحقيقات‬

‫الثقافة المصرية‬

‫من عصفور إلى النمنم‪..‬‬ ‫مدرستان وتسع وزارات‬ ‫القاهرة‬

‫‪108‬‬

‫ألكثر من عشرين ً‬ ‫عاما ظل فاروق حسني هو االسم الوحيد المهيمن والمسيطر على مقاليد الثقافة في‬

‫مصر‪ ،‬لكن بمجيء ثورة الخامس والعشرين من يناير شهدت وزارة الثقافة أسماء لم تكن تحلم بالسالم‬

‫على الوزير‪ ،‬بحسب ما قال الرئيس السابق للهيئة المصرية العامة للكتاب أحمد مجاهد‪ ،‬فقد حدثت‬ ‫سيولة كبيرة‪ ،‬إلى درجة أن وزارة الثقافة شهدت خالل خمس سنوات ما يقرب من عشرة وزراء ثقافة‪،‬‬

‫بعضهم تولى الوزارة ألكثر من مرة؛ كجابر عصفور وصابر عرب‪ ،‬وبعضهم لم يمكث في كرسيه أكثر من‬

‫أيام معدودات كعصفور في وزارته األولى إبان أيام ثورة يناير‪ ،‬ومن بعده محمد الصاوي في أول أيام حكومة‬ ‫عصام شرف التي لقبت بحكومة الميدان‪ ،‬لكن ثمة أسماء استمرت لشهور عدة؛ مثل‪ :‬عماد أبو غازي‪،‬‬

‫وشاكر عبدالحميد‪ ،‬وعبدالواحد النبوي‪ ،‬وحلمي النمنم‪ ،‬وكان الوحيد الذي أدار الوزارة من خارج مكتبه‬ ‫هو عالء عبدالعزيز؛ إذ قامت عليه ثورة المثقفين‪ ،‬وتم احتالل مكتبه‪ ،‬ومنعه من دخوله طيلة مدة توليه‬ ‫الوزارة‪ ،‬وهي ال تزيد عن شهر وأيام عدة‪ ،‬إذ قامت بعدها أحداث الثالثين من يونيو وسقط نظام اإلخوان‪.‬‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬


‫وزراء بال مشروع‬

‫يقول الرئيس السابق للهيئة المصرية العامة للكتاب‪،‬‬

‫الدكتور أحمد مجاهد لـ«الفيصل»‪ :‬إن كل من تولوا حقيبة‬

‫أعظم وزير ثقافة عرفته مصر‬

‫وزارة الثقافة بعد الثورة ظلموا؛ ألن األوضاع لم تكن لتساعد‬ ‫أيًّا منهم على العمل‪ ،‬ويضيف أنهم جميعً ا ليس لديهم‪ ،‬فيما‬

‫عدا جابر عصفور‪ ،‬مشروع ثقافي يمكن الحديث عنه‪ ،‬وحده‬ ‫عصفور هو الذي استطاع أن يوقع بروتوكوالت تعاون بين عدد‬

‫من الوزراء؛ لتنفيذ خطة ثقافية شبه شاملة‪ ،‬لكن لم يتح له‬ ‫مزيد من الوقت لتفعيلها‪ ،‬كما أنه سقط في فخ القول بأن‬

‫ورقته لمستقبل الثقافة هي الورقة التي طرحها السيد ياسين‪،‬‬

‫فاروق حسني‬

‫ثروت أباظة‬

‫وهو فخ جعل الكثير من المثقفين ال يتعاطفون مع ورقته وما‬

‫يمكن القول‪ :‬إن فاروق حسني لم يكن أعظم وزير‬

‫ً‬ ‫صراعا‬ ‫من جانبه رأى الكاتب والناقد سيد الوكيل أن ثمة‬

‫الثقافية الكبرى‪ ،‬وصاحب المشروعات التي ارتبطت‬ ‫باسمه‪ ،‬بدءً ا من إنقاذ آثار النوبة ومعبد الكرنك‪ ،‬وصولاً‬

‫المدرسة التنويرية‪ ،‬وهذه يتزعمها عصفور‪ ،‬واألخرى تمثل‬

‫المصرية‪ ،‬والمعروف بالثقافة الجماهيرية‪ ،‬لكن السنوات‬

‫طرحه فيها‪.‬‬

‫بين مدرستين جاء منهما كل وزراء الثقافة بعد الثورة‪ ،‬هما‬

‫ثقافة عرفته مصر‪ ،‬فقد كان ثروت أباظة صاحب النهضة‬

‫مدرستا جابر عصفور ومحمد صابر عرب؛ إحداهما تمثل‬

‫إلى إنشاء جهاز التثقيف األكبر واألهم في تاريخ الثقافة‬

‫المدرسة األولى جاء منها عماد أبو غازي وحلمي النمنم‪،‬‬

‫الطوال التي أمضاها فاروق حسني جعلته األشهر واألكثر‬ ‫استقرارًا وبرو ًزا من غيره‪ ،‬بل إن عهده الذي بلغ اثنين‬

‫المدرسة األزهرية‪ ،‬ويتزعمها عرب‪.‬‬

‫بينما الثانية مثلها صابر عرب الذي تولى الوزارة بعد شاكر‬

‫وعشرين عامً ا شهد عد ًدا من المشروعات المهمة؛‬

‫عبدالحميد في أيام الجنزوري‪ ،‬واستمر مع هشام قنديل في‬

‫مثل‪ :‬مكتبة األسرة‪ ،‬وتطوير شارع المعز‪ ،‬وإنشاء جهاز‬ ‫التنسيق الحضاري‪ ،‬فضلاً عن إنهاء الوجود اليساري في‬

‫اإلخوان عاد صابر ترضية للسلفيين الذين اعترضوا على تولي‬

‫وزارة الثقافة‪ .‬في المقابل لم يستطع وزراء الثقافة الذين‬

‫يقول الوكيل‪ :‬إن اختيار الوزراء يتم على أساس الثقة‪،‬‬

‫االنتهاء من إنجاز مشروع واحد كالمتحف المصري‬

‫فاروق حسني‪ ،‬سواء صابر أو عصفور‪ ،‬ومن ثم فالحل يكمن‬

‫لكن الثورة وعدم االستقرار أدتا إلى إرجاء األمر حتى اآلن‪.‬‬

‫طرح اسم أسامة الغزالي حرب لوزارة الثقافة‪ ،‬لكن جماعات‬

‫في الجانب الحسن في فاروق حسني‪ ،‬وهو ثقافة إنجاز‬

‫زمن اإلخوان‪ ،‬وحين خرج جاء من بعده وزير إخواني واضح‬

‫وصريح هو عالء عبدالعزيز‪ ،‬وبخروج عالء وسقوط نظام‬

‫الثقافة المصرية‪ ،‬عبر ما أسماه بدخول المثقفين حظيرة‬

‫إيناس عبدالدايم وزارة الثقافة‪.‬‬

‫أتوا بعد الثورة‪ ،‬سواء أكانوا مجتمعين أو منفصلين‪،‬‬

‫وهو ما أدى إلى وجود هاتين المدرستين‪« ،‬وهما من أبناء‬

‫الكبير‪ ،‬الذي كان مقدرًا أن يتم االنتهاء منه عام ‪2011‬م‪،‬‬

‫في الخروج من الصندوق القديم‪ ،‬وكانت الفرصة مواتية حين‬

‫وتتابع وزراء إثر وزراء من دون أن يفكر أي منهم‬

‫الضغط وأصحاب المصالح مارسوا ضغوطهم حتى تم التراجع‬

‫المتاحف‪ ،‬جميعهم فكر من الجانب السيئ‪ ،‬ذلك القائم‬ ‫على االحتواء‪ ،‬فضلاً عن ثقافة البهرجة والتلميع عبر‬

‫الوزارة اتصل بجريدة ثقافية طالبًا من محرريها أن يدعموه‪،‬‬

‫مثل‪« :‬مشروع المليون قارئ»‪ ،‬و«صيف والدنا»‪،‬‬

‫ولها جمهورها حتى تتحول إلى مركز قوي يمكنه أن يؤثر على‬

‫نعيش مرحلة الضجيج وال طحن‪.‬‬

‫عن اختياره‪ ،‬والمجيء بجابر عصفور في وزارته الثانية»‪.‬‬

‫يقول الوكيل أيضا‪« :‬يكفي أن نعرف أن عصفورًا حين تولى‬

‫افتتاحات تلو افتتاحات ألنشطة اعتيادية وشبه وهمية؛‬

‫ويكفي أن تكون هناك جريدة أو دار نشر نشطة أو ندوة ثابتة‬

‫و«معرض الكتاب»‪ ،‬و«مهرجان السينما» وغيرها‪ ،‬وكأننا‬

‫الوزير في اختياراته وأنشطته‪ ،‬إن لم تؤثر على رئيس الوزراء‬

‫نفسه في اختياره للوزير»‪.‬‬

‫االستقرار المرادف للموات‬

‫تحقيق السيطرة اآلمنة على المؤسسات الثقافية هو‬

‫أساس اختيار وزراء الثقافة‪ ،‬بال أي فعل قد يزعج صناع القرار‪،‬‬

‫أو يتسبب في جدل من أي نوع‪ .‬والنموذج الواضح لذلك هو‬ ‫صابر عرب‪ ،‬وشعاره‪« :‬تحقيق االستقرار المرادف للموات بأي‬ ‫ثمن»‪ ،‬هكذا قال الشاعر المترجم رفعت سالم لـ«الفيصل»‪،‬‬

‫موضحً ا أنه ليس مطلوبًا من وزير الثقافة ‪-‬في سنوات ما بعد‬

‫الثورة‪ -‬العمل وفق خطة أو منهج‪ ،‬أو القيام بتطوير معين‬

‫‪109‬‬


‫تحقيقات‬

‫في المجاالت الثقافية‪« ،‬بل تأمين وتسكين هذا الركن من‬

‫أجهزة الدولة‪ ،‬واإلمساك بالعصا من المنتصف فيما بين‬ ‫المثقفين وبين األجهزة العليا‪ ،‬من خالل تنفيذ تعليمات‬

‫تلك األجهزة بحذافيرها‪ ،‬ومغازلة المثقفين؛ لتأمين عالقته‬ ‫بهم‪ .‬ولهذا‪ ،‬فعندما أخفق جابر عصفور وعبدالواحد النبوي‬ ‫مثلاً ‪ -‬في تحقيق هذه المعادلة‪ ،‬تم إقصاؤهما على الفور‪ ،‬بال‬‫ً‬ ‫هدفا لـلمنصب‬ ‫تردد وبال فرصة أخرى‪ ،‬فيما كان صابر عرب‬

‫طوال الوقت‪ ،‬أربع مرات تقريبًا منذ المجلس العسكري‬ ‫إلى اإلخوان‪ُ ،‬‬ ‫وعرضت الوزارة عليه من جديد مع السيسي‪،‬‬ ‫فأوصى بتلميذه عبدالواحد النبوي»‪.‬‬

‫وذهب سالم إلى أن تكرار تغيير الوزراء في مُ دد وجيزة‪،‬‬

‫«يؤدي إلى إرباك المؤسسات وعرقلتها‪ ،‬وبخاصة أن كل وزير‬ ‫يقوم باختيار رؤساء جدد يتوافقون معه‪ ،‬فخالل بضعة شهور‬ ‫قام جابر عصفور بتعيين أربعة رؤساء على التوالي لهيئة‬

‫قصور الثقافة‪ ،‬بمعدل رئيس جديد كل شهرين‪ ،‬ومن ثم‬ ‫فالمؤسسات الثقافية منهارة تقريبًا داخليًّا‪ .‬وال تحافظ إال على‬ ‫المظهر الخارجي‪ .‬بال إنتاج أو إنجاز من أي نوع‪ .‬وعلى المثقفين‬

‫‪110‬‬

‫أن يتوقعوا استمرار هذا األمر لبضع سنوات مقبلة‪ .‬فاالستثناء‬

‫أن يكمل الوزير العام في منصبه»‪.‬‬ ‫اختيار محير وعجيب‬

‫أما رئيس دار الكتب األسبق‪ ،‬ورئيس قسم المكتبات‬

‫شاكر عبدالحميد‬

‫عبدالواحد النبوي‬

‫بجامعة حلوان الروائي الدكتور زين عبدالهادي‪ ،‬فيرى أن‬

‫اختيار الوزراء في دول العالم المختلفة يخضع ألصول ومعايير‬ ‫مهنية وسياسية وعلمية عالية جدًّ ا‪« :‬أهم هذه المعايير أنهم‬

‫ممن يملكون المشروع والعلم واإلرادة السياسية لتنفيذه»‪.‬‬

‫أما كيف يتم اختيار وزراء الثقافة في مصر‪ ،‬فإنه أمر محير‬

‫وعجيب للغاية‪ ،‬بحسب قول زين عبدالهادي؛ «إذ إنه يكون‬

‫ضمن االختيارات العشوائية التي يقع فيها كل رؤساء الوزراء‪،‬‬

‫أو من يقوم باالختيار أساسً ا»‪.‬‬

‫يقول عبدالهادي‪« :‬دعنا نلقي نظرة سريعة على من أتى‬

‫بعد الثورة‪ :‬ثالثة منهم من دار الكتب والوثائق القومية‪ ،‬هم‪:‬‬

‫الدكتور صابر عرب‪ ،‬والدكتور عبدالواحد النبوي‪ ،‬وآخرهم‬ ‫الوزير الحالي حلمي النمنم‪ ،‬وهو ذو خلفية صحفية‪ ،‬وله‬

‫دراية معرفية باإلخوان المسلمين‪ ،‬على الجانب اآلخر ثالثة‬

‫توالي الوزراء أثر في سير عمل المؤسسات‬ ‫المتابع ألنشطة مؤسسات وزارة الثقافة يمكنه أن يدرك كم أثر تغيير الوزراء المتتالي في منطق العمل‪ ،‬فقد صحب ذلك التغيير‬

‫المتوالي في رؤساء الهيئات‪ ،‬بدءًا من المجلس األعلى للثقافة الذي يقوم على رسم السياسة الثقافية في مصر‪ ،‬والذي تاه في أتون‬ ‫صراعات تغيير الوزراء‪ ،‬فقد أطاح جابر عصفور بسعيد توفيق‪ ،‬وأتى بمحمد عفيفي‪.‬‬

‫ومع خروج عصفور من الوزارة خرج عفيفي من المجلس؛ إذ إن مشروع عبدالواحد النبوي تجسد في أن يكون عالء عبدالعزيز‬ ‫الجديد‪ ،‬فأوقف التجديد لكل المسؤولين؛ مما أدخله في عداءات لم ينجز من خاللها شي ًئا‪ ،‬ولم يحصدوا غير اإلطاحة بهم‪ ،‬فكان‬ ‫محمد عفيفي وأحمد مجاهد وهما من تالمذة عصفور أول المطاح بهم‪ ،‬في المقابل أُتي بمحمد أبو الفضل بدران الذي أعلن أن‬ ‫المجلس سيخرج بأنشطته إلى كل المقاهي والصالونات والتجمعات الثقافية‪ ،‬رغم أن المجلس ليس من مهمته ممارسة األنشطة‪،‬‬

‫ولكن رسم السياسات الثقافية‪.‬‬ ‫ً‬ ‫في الهيئة المصرية العامة للكتاب كان األمر مختلفا‪ ،‬فقد ثار العاملون في هيئة قصور الثقافة على أحمد مجاهد‪ ،‬الذي تولى‬ ‫الهيئة لمدة ثالث سنوات في زمن فاروق حسني‪ ،‬فما كان من صديقه عماد أبو غازي إال أن نقله لرئاسة هيئة الكتاب‪ ،‬غير أن مثقفي‬

‫الهيئة رفضوا ذلك‪ ،‬وحاصروا مكتبه ثالث مرات‪ ،‬ولم يخرج إال في ظل حماية الشرطة له‪.‬‬

‫وحين أتى عالء عبدالعزيز كان مجاهد أول المطاح بهم؛ ليجيء بجمال التالوي المحسوب على اإلخوان‪ ،‬لكنه سرعان ما أطاح‬ ‫ً‬ ‫مجاهدا إلى منصبه‪ ،‬حتى أطاح به عبدالواحد النبوي؛ لتصبح هيئة المظاهرات‬ ‫به صابر عرب عقب سقوط نظام اإلخوان‪ ،‬وأعاد‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬


‫الثقافة المصرية‪ ..‬من عصفور إلى النمنم‪ ..‬مدرستان وتسع وزارات‬

‫عالء عبدالعزيز‬

‫عماد أبو غازي‬

‫من المجلس األعلى للثقافة‪ ،‬هم‪ :‬الدكتور جابر عصفور‪،‬‬

‫وكان األقرب لفكرة المشروع‪ ،‬والدكتور عماد أبو غازي‪،‬‬ ‫والدكتور شاكر عبدالحميد‪ ،‬فضلاً عن وزير أتى من القطاع‬ ‫الخاص أليام عدة هو محمد الصاوي‪ ،‬ووزير أتى في عهد‬

‫محمد صابر عرب‬

‫حلمي النمنم‬

‫اإلخوان من أكاديمية الفنون هو عالء عبدالعزيز‪ ،‬فما القاسم‬ ‫المشترك الذي يجمع بين كل هؤالء؟ ال شيء سوى التفاهم‬

‫ً‬ ‫مشروعا أو طريقة‬ ‫بشكل أو بآخر مع السلطة‪ ،‬لكن لن تجد‬

‫لإلدارة أو إستراتيجية ما»‪ .‬ويضيف موضحً ا‪« :‬إنها فلسفة‬

‫المصالح السياسية المتبادلة بين طرفين‪ ،‬وليست مصالح‬ ‫المستقبل واالقتصاد‪ .‬أعتقد أنه يجب تغيير منظومة اختيار‬

‫تقريبا‬ ‫المؤسسات الثقافية منهارة‬ ‫ً‬ ‫داخل ًّيا وال تحافظ إال على المظهر‬ ‫الخارجي‪ ،‬وهي بال إنتاج أو إنجاز من‬ ‫أي نوع‪ .‬وعلى المثقفين أن يتوقعوا‬ ‫استمرار هذا األمر لبضع سنوات مقبلة‬

‫الوزراء؛ ألن هناك عشوائية واضحة في دفع بعض األشخاص‬ ‫لتقلد المنصب‪ ،‬لدينا أكاديميون ومهنيون كبار في العالم‬

‫وداخل مصر‪ ،‬كيف يفوت قطار االختيار هؤالء‪ ،‬أعتقد أنه‬ ‫يجب اختيار مجموعة‪ ،‬ويتم االنتقاء من بينها على أساس‬ ‫المشروع واإلستراتيجية التي تتفق مع طموحات المصريين‬ ‫بعد الثورة‪ ،‬وأن يتم إعداد مجموعة من الشباب لمستقبل‬

‫العمل بالوزارات»‪.‬‬

‫والصراعات التي بلغت أن يقام معرض الكتاب عام ‪2013‬م من دون أن تطبع بوستراته أو دعواته؛ العتصام عمال المطابع ورفضهم‬ ‫العمل‪ .‬لم تكن الهيئة األكبر واألهم وهي هيئة قصور الثقافة بعيدة من كل هذه الصراعات‪ ،‬ففي الوقت الذي اعتبرها كل وزير في أول‬

‫تصريح له أنها رهانه األول‪ ،‬وأنها وزارة الثقافة الحقيقية‪ ،‬إال أنهم جميعً ا شاركوا في جعلها هيئة منكوبة ال يعيش لها رؤساء‪ ،‬فقد‬

‫تغير عليها نحو عشرة رؤساء‪ ،‬بعضهم لم يستمر في مكانه أكثر من شهر كعبدالناصر حسن ومسعود شومان‪ ،‬وبعضهم أوقف كل‬

‫التوقيعات إلى أن يراجع كل القرارات السابقة عليه‪ ،‬فرحل قبل أن يكمل المراجعة‪ ،‬وبعضهم تولى مرتين كسيد خطاب الذي أتى به‬ ‫منافسا له على الوزارة‪ ،‬وأتى به من جديد‬ ‫جابر عصفور من أكاديمية الفنون‪ ،‬لكنه سرعان ما عاد وانقلب عليه حين شعر أنه سيصبح‬ ‫ً‬ ‫حلمي النمنم حين أطاح بأبي الفضل بدران ولم يجد مبررًا لذلك‪ ،‬فأتى بخطاب كما لو أنه يرد له حقه الذي أهدره عصفور من قبل‪.‬‬

‫وهكذا خرجت قصور الثقافة من كونها وزارة ثقافة موازية‪ ،‬تقدم خدماتها عبر أكثر من خمس مئة وخمسين موقعً ا على‬

‫مستوى الجمهورية‪ ،‬ويتبعها نحو عشرين ألف موظف في هذه المواقع‪ ،‬لتتحول إلى هيئة ال تخلو من الصراعات واأليدي المرتعشة‬

‫والخوف من العمل‪ ،‬بعدما حولتها األجهزة الرقابية واتهامات الفساد المتوالية إلى ساحة حرب حقيقية‪.‬‬

‫‪111‬‬


‫مقال‬

‫الثقافة‪ ..‬من الخوف إلى اإلنصات‬ ‫تهب هنا وهناك تستدعي الوقوف مرة تلو أخرى عند مسألة الموقف من الثقافة في العالم العربي‪ .‬هذا‬ ‫عاصفة العنف التي ّ‬

‫رأيي باختصار‪ .‬في غمرة عاصفة العنف التي تتضاعف شراستها‪ ،‬يستبدّ الحل األمني بأصحاب القرار في العالم العربي‪ ،‬كما في كل‬

‫مكان يهجم عليه العنف‪ .‬لكن الوقوف عند مسألة الموقف من الثقافة هو ما يجب عدم التفريط فيه‪.‬‬ ‫ليس لي أمل في أن يغير أصحاب القرار نظرتهم إلى المثقفين النقديين العرب‪ ،‬فيقتربوا قليلاً منهم‪ .‬لكن المثقفين النقديين ال‬ ‫يتعبون من الط ْرق على األبواب طيلة الليل والنهار‪ .‬يواصلون الط ْرق؛ ألنهم يدركون أنهم ألجل هذا كانوا ويكونون‪ .‬أو باألحرى ألنهم‬

‫يعرفون أنهم يقولون ما ال يحب أصحاب القرار أن يسمعوه‪ .‬لقد تعود أصحاب القرار على أن يطلبوا من أبناء بلدانهم‪ ،‬من أي فئة‪،‬‬ ‫أن يقولوا لهم ما هم يحبّون‪ .‬والمثقفون النقديون يعرفون أن هذا ليس من طبيعة واجبهم‪ .‬واجبهم هو أن يقولوا ما يفكرون به؛‬

‫ألنهم يحرسون حلم الناس جميعً ا بعالم حر‪ ،‬ينتقل باألرض وأهلها إلى زمن يتخلص من الجهل واالستعباد والكراهية‪.‬‬ ‫ً‬ ‫مرتبكا‪ ،‬حابس األنفاس‪ .‬ال يدري من أين يقبل‬ ‫هل هذا كثير؟ ربما كان أكثر من كثير‪ ،‬في عالم عربي يقف اليوم مذعورًا‪،‬‬

‫ّ‬ ‫والتعلم من العالم يصبح في‬ ‫العنف بهذا الشكل وهذا الحجم‪ .‬ال يصدق أن كل ما حقق من مراحل على طريق البناء االجتماعي‬

‫لمح البصر في مهب عواصف العنف التي تتضاعف مآسيها‪.‬‬

‫لكن يحق لكل واحد منا‪ ،‬قبل هذا‪ ،‬أن يتساءل عن معنى أن يقول المثقفون النقديون ما يفكرون به‪ ،‬وليس ما يحب أن‬

‫‪112‬‬

‫أصحاب القرار‪ .‬فالتساؤل قيمة سابقة على القبول وعلى اليقين‪ .‬قد ال يخطر على بال الشخص أن يتساءل عن معنى‬ ‫يسمعه منهم‬ ‫ُ‬

‫ما يتكلم بشأنه المثقفون النقديون‪ ،‬إما ألنه يجعلهم في مكان اللعنة‪ ،‬أو في مكان التبجيل‪ .‬وهما معً ا منافيان ألخالقيات الثقافة‬ ‫وأبجديتها‪.‬‬

‫ما أفكر به‪ ،‬شأني شأن كل مثقف نقدي ارتبط مصيره بمصير أهله وأرضه‪ ،‬هو الثقافة‪ .‬هي كلمة السر‪ .‬هي اإلشارة والمالذ‪.‬‬

‫الثقافة التي تعني المعرفة المتصلة في آن بالفرد والجماعة‪ ،‬بالواقع والمصير‪ ،‬باإلنسان واألشياء والكون‪ ،‬باالكتشاف واإلبداع‪،‬‬

‫بالذات واآلخر‪ ،‬بالحياة والموت‪ .‬كل معرفة تدلنا على هذه جميعً ا هي الثقافة‪ .‬مهما كانت صيغة التعبير عنها‪ ،‬أكانت فنية أم‬ ‫فكرية أم علمية‪ .‬ال أقصد إعطاء تعريف يعيّن الحدود‪ ،‬بل أفتح الطرقات على الفضاء الشامل للثقافة‪ ،‬بما كان لها عبر األزمنة‪،‬‬

‫وما هي عليه في حياتنا اليوم‪.‬‬

‫تعريف كهذا للثقافة ال يتوقف عند حد معلوم‪ ،‬ال يتعب من السعي في طرقات الثقافة‪ ،‬وال يتأفف من طلب استئناف السير‬

‫بقدمين لم تتدربا على المشي في المسالك المتشعبة‪ .‬تعريف يخرج بالتأكيد على صيغ الفرجة التي نرتاح إليها‪ ،‬وعلى ثقافة‬

‫االستهالك التي يكون الهدف منها هو امتصاص الطاقات المبدعة الخالقة‪ .‬تعريف مستخلص من الثقافة التي تتطلب الجهد‬ ‫والتركيز والمعاناة‪ .‬وبه تكون الثقافة رفيقة لنا في الحياة‪ ،‬تدلنا على ذاتنا‪ ،‬وعلى الفضاء الذي نعيش فيه‪ :‬فضاء المجتمع والقيم‪،‬‬

‫فضاء األشياء بما تمثله بالنسبة لي ولك‪ ،‬فضاء الكون الذي نحن جزء منه‪.‬‬ ‫والثقافة هي التي ّ‬ ‫تعلمنا معنى الثقافة‪ .‬عندما ال نكون باحثين في مجال من مجاالت المعرفة‪ ،‬ونريد أن نعرف معنى الثقافة‪،‬‬

‫فمن األحسن أن نتجنب التعريفات القديمة والحديثة‪ ،‬ونذهب مباشرة إلى ما يشكل الثقافة ذاتها‪ .‬عندما أقرأ قصيدة أو رواية‪،‬‬ ‫ً‬ ‫شريطا سينمائ ًّيا‪ ،‬عندما أتعرف على نظرية فلسفية أو علمية‪ ،‬عندما أنصت إلى موسيقا وأستمع إلى‬ ‫عندما أشاهد مسرحية أو‬

‫غناء‪ ،‬عندما أسكن بي ًتا أو أعمل في مكتب‪ ،‬عندما أركب سيارة أو حافلة أو طائرة‪ ،‬عندما أتبع طريقة في األكل‪ ،‬وأفضل لباسً ا‬ ‫على سواه‪ .‬هذه كلها هي الثقافة‪.‬‬

‫علي الرؤية أو يمنعها عني‪ .‬وال شك أن‬ ‫ما أتعلم من كل هذا هو كيف أميز بين ما يمنحني رؤية متجددة إلى الحياة‪ ،‬وما يشوش ّ‬

‫الكتاب يظل المادة األكثر قدرة على تعليمنا معنى الثقافة‪ .‬الكتاب بتاريخه العريق‪ ،‬من العهود القديمة حتى اليوم‪ .‬كتاب متعدد‪:‬‬ ‫في األدب‪ ،‬والفنون‪ ،‬والتاريخ‪ ،‬والفكر‪ ،‬والعلوم‪ .‬كل فرع من هذه الفروع يتسع ليشمل حقولاً ال عدّ وال حدّ لها‪ .‬تلك هي الثقافة‬

‫التي بن ْتها شعوب عبر تاريخ الحضارات‪ .‬إنها الثقافة التي صقلت حواس اإلنسان وفكره‪ ،‬هيأته ليعيش بأفضل طريقة‪ ،‬ويتعايش‬ ‫مع اآلخرين‪ .‬هي التي نقلته من وضعية الغاب إلى وضعية الحضارة‪ ،‬في المدينة والبادية على السواء‪ .‬هي التي أمدته بالمعرفة‪،‬‬ ‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬


‫وهيأت له شرائط اإلقامة في وسط مجتمع ومؤسسات دولة‪ .‬هي التي‬

‫حمته من السقوط في الغوغائية‪ ،‬وهي التي ساعدته على االحتماء من‬

‫سطوة الطبيعة‪ ،‬وإبداع وسائل لتطويعها لصالحه‪.‬‬

‫لنتأمل تاريخ الشعوب التي بنت حضارات باذخة‪ ،‬وكان العرب من‬

‫بينها‪ .‬أال يمكن أن نتوقف لنسأل عن السبب الذي كان وراء نشوئها‪ ،‬منذ‬ ‫الحضارات الفرعونية والبابلية حتى حضارة العصر الحديث؟ سيقودنا‬ ‫السؤال إلى البحث عن معنى الحضارة‪ ،‬سينقلنا من قبول الحياة كما‬ ‫نحياها إلى الوقوف على عتبة معناها‪ .‬وستسعفنا الثقافة‪ ،‬من جهتها‪،‬‬

‫في جعل حياتنا أكثر امتالء مما هي عليه بدونها‪ .‬بحساسية اإلبداع‬

‫محمد بنيــس‬ ‫شاعر وناقد مغربي‬

‫ونور الفكر سنعثر على طرائق لم نعهدها في حياة االنغالق واالستهالك‪.‬‬

‫وبفضلها سنتكلم مع العالم لغة مشتركة‪ ،‬وسنقيم على األرض بين‬ ‫جميع أهل األرض‪.‬‬

‫هذه الثقافة هي التي خاف منها أصحاب القرار في العالم العربي‬

‫الحديث‪ .‬بذل المثقفون النقديون مجهودات متوالية؛ لتفسير مصدر‬ ‫هذا الخوف‪ ،‬وفي كل مرة يذ ّكرون بأن الثقافة نعمة بدلاً من أن تكون‬

‫‪113‬‬

‫ً‬ ‫وحشا‪ .‬خاف أصحاب القرار من الثقافة؛ ألنهم لم يفهموا أنها تدل على‬

‫كيفية التخلص من التخلف واالستعمار والتبعية‪ .‬وها نحن اليوم‪ ،‬بعد‬ ‫قرنين من مشروع التحديث‪ ،‬نجد أنفسنا في تخلف أكبر مما كنا فيه‪.‬‬ ‫تخلف هو الجهل الذي يستولي على العقول‪ ،‬ومصدره حرمان العربي‬

‫من الثقافة‪.‬‬

‫ما عليه العالم العربي اليوم من ذعر‪ ،‬وارتباك‪ ،‬واحتباس األنفاس‪،‬‬

‫ربما وجّ ه أصحاب القرار إلى ما يجب أن يبدؤوا به‪ .‬أن ينتقلوا من الخوف‬

‫من الثقافة إلى اإلنصات إليها‪ .‬ذلك شرط يتقدم الشروط كلها‪ .‬منذ ما‬ ‫بعد ‪ 11‬سبتمبر‪ ،‬شرع الغرب في توجيه التوصيات إلى أصحاب القرار في‬

‫العالم العربي‪ .‬توصيات العناية بالعلوم اإلنسانية‪ ،‬بالفلسفة‪ ،‬بالفكر‬ ‫النقدي إجمالاً ‪ .‬وفي كل مكان من العالم العربي اليوم مجموعات عمل‬ ‫تشتغل على تنفيذ ما ينتظره الغرب منا‪ .‬لكن الغرب ينسى أن يذ ّكر‬

‫أصحاب القرار بضرورة أن ينتقلوا هم أنفسهم من الخوف من الثقافة‬ ‫إلى اإلنصات إليها‪.‬‬

‫نفسها ال‬ ‫ال يمكن لمؤسسة أن تقوم بتنفـيذ مشروع إن كانت هي ُ‬

‫تستوعب فاعلية ما ستقبل عليه‪ .‬من هنا يصبح اقتناع أصحاب القرار‬ ‫بالثقافة الزمً ا في الخروج من تعليم الجهل الذي أمروا به‪ ،‬ومن ثقافة‬

‫الجهل التي عمّ موها عبر وسائل اإلعالم‪ .‬أما أنت‪ ،‬فلك أن تتكلم بحرية‬ ‫صوت ال يخشى‪ ،‬وصوت ال يتوقف عن الجهر بضرورة اإلنصات إلى‬

‫الثقافة‪.‬‬

‫ما عليه العالم العربي اليوم‬ ‫من ذعر‪ ،‬وارتباك‪ ،‬واحتباس‬ ‫وجه أصحاب‬ ‫األنفاس‪ ،‬ربما ّ‬ ‫القرار إلى ما يجب أن يبدؤوا‬ ‫به‪ .‬أن ينتقلوا من الخوف من‬ ‫الثقافة إلى اإلنصات إليها‪.‬‬ ‫ذلك شرط يتقدم الشروط كلها‬


‫نصوص‬

‫بصري‬ ‫انحراف‬ ‫ّ‬ ‫وجدي األهدل‬ ‫روائي وقاص يمني‬

‫أول شيء لفت انتباهي إلى تدهور حاسّ ة البصر عندي هو ذلك المتبختر الذي يُد ّر السعادة‪ ،‬لقد بدا أقصر من طوله المألوف!‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫متيقن أنها طويلة ورشيقة؛ أنامل فنان‪ ،‬وهذا‬ ‫فوقعت في حيرة؛ ألنني‬ ‫وفي يوم آخر تأمّ لت أصابعي‪ ،‬ولحظت أنها قصيرة وثخينة‬

‫بشهادة الجميع‪ ،‬لكن اآلن وبسبب هذا الخلل البصريّ صرت أراها كمالعق خشبية ذات مظهر خشن بشع‪ ،‬تناسب رجلاً أمضى‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫لمحت انعكاس صورتي في الزجاج‪ ،‬فرأيت أن وجهي غير متناسق‪..‬‬ ‫الشاق‪ .‬وأنا أم ّر أمام متجر مالبس‬ ‫حياته في العمل اليدويّ‬

‫آدمي عاديّ ‪ .‬شعرت‬ ‫النصف األيسر منفوخ إلى األعلى والجبين ممطوط (شاقول ًّيا)‪ ،‬بينما يبدو النصف األيمن طبيع ًّيا كرأس أي‬ ‫ّ‬

‫بالحرج من منظري‪ ،‬لكن عيون المارّة التي كانت تنزلق على وجهي بنظرة عابرة‪ ،‬وال تتلبّث‪ ،‬طمأنتني بأن ليس ثمة تشوّه في‬

‫‪114‬‬

‫ُ‬ ‫ذهبت إلى عيادة للعيون‪ ،‬وأجرى لي الطبيب الفحوص الالزمة‪ ،‬وضحك بشدة حين أخبرته عن‬ ‫جمجمتي إنما العيب في بصري‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫جدًّ‬ ‫األشياء المرعبة التي رأيتها في آلة تصوير الشبكية‪ .‬أخبرني وهو يطفح بالسعادة أنني أعاني من «انحراف بصريّ شديد ا»‪ ،‬وأنه‬ ‫تأخرت قليلاً لأَ ُ‬ ‫يجب أن أرتدي نظارة طبية ُتصحح هذا االنحراف‪ .‬قال‪ :‬إنني لو ّ‬ ‫ُ‬ ‫صبت بالعمى‪.‬‬

‫ُ‬ ‫حصلت على واحدة بعدستين مستطيلتين‪ ،‬أنيقة ومتينة‪ ،‬تشبه حمارًا صبورًا‪ ،‬ومنحتني على الفور مظه ًرا وقورًا وثالث سنوات‬ ‫ً‬ ‫إضافية إلى عمري‪ ،‬فلم أعد أشبه مجنونا هائمً ا في الشوارع‪ ،‬لكن أشبه طبيب نساء ووالدة جادًّا وطيِّب القلب‪ .‬سألت أصدقائي‬ ‫عن رأيهم في نظارتي‪ّ ،‬‬ ‫فعلق أحدهم‪ :‬إنها نحيلة كـ(مايوه) سباحة! ضحكوا جميعهم‪ ،‬وأما أنا فلم أضحك‪ ،‬وشعرت بتعليقه كمن‬ ‫في ذلك التعليق السخيف‪ ،‬وأصابني بحالة من عدم الرضا‪ ،‬تطوّرت إلى هوس نادر‪ّ ،‬‬ ‫تمثل في هواية‬ ‫لكزني بين أضالعي‪ .‬لقد ّأثر ّ‬

‫اقتناء النظارات‪ .‬مواردي المحدودة لم تكن تسمح لي بالذهاب إلى المحالت ذات الديكورات المزركشة؛ لذلك كنت أشتريها من‬ ‫(المفرشين) الفقراء في (قاع اليهود)‪ .‬عند هؤالء تجد أحشاء الحضارة معروضة للبيع‪ .‬وفي األغلب ال يزيد رأسمال الواحد منهم‬ ‫كل َّ‬ ‫عن ثمن وجبة طعام متواضعة‪ .‬لكي تبدأ بالتجارة هنا يكفي أن تفرش قطعة قماش بالية على الرصيف‪ ،‬وتعرض للبيع ّ‬ ‫الل َقى‬ ‫التي يمكن العثور عليها في حاويات القمامة‪ .‬مساء اليوم قمت بزيارة ّ‬ ‫بفم أَ ْد َر َد َ‬ ‫ين‬ ‫وخدَّ ِ‬ ‫تفقدية لسوق البؤس هذا‪ ،‬وجذبني شيخ ٍ‬ ‫غائرين جاثمً ا ك َن ْس ٍر تناساه الموت عند مفرش صغير (متر × متر) يعرض فيه أشياء قليلة؛ من بينها نظارة طبية سميكة العدسات‪.‬‬

‫ُ‬ ‫أطلقت صيحة اندهاش‪ .‬أردت أن أتفحصها فضربني على يدي وحذرني‬ ‫اقتربت منه وسألته عن سعرها‪ ،‬فأجابني ببطء‪« :‬ألف ريال»‪.‬‬ ‫َ‬ ‫بفظاظة‪« :‬ممنوع اللمس»‪ .‬في الحاالت المماثلة كان النزاع سينشب ال محالة؛ ألنني سريع الغضب وطبْعي ناريّ ‪ ،‬إال أن لهذا‬ ‫ُ‬ ‫فتشت‬ ‫المعمر هيبة منعتني من ذلك‪ ،‬مع أنه في واقع األمر لم يكن سوى كومة من العظام يمكن بنفخة واحدة أن يتناثر إلى حطام‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫أردت أن أُساومه فحَ دَ جَ ني بنظرة ازدراء‪ ،‬ولم‬ ‫عدت إليه مضط ًرا‪ ،‬وجدته يدخن سيجارة‪،‬‬ ‫المفارش األخرى فلم أعثر على أي نظارات‪.‬‬ ‫علي‪ .‬نقدته األلف ريال (وشلت) النظارة‪ ،‬فنفث الدخان في وجهي بعدائية كأنني انتزعت منه تذكارًا عزي ًزا على قلبه‪.‬‬ ‫يتنازل حتى للر ّد ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ناولت زوجتي النظارة‪ ،‬فغسلتها وجففتها وطرحتها على رف الكتب‪« :‬ضحكوا عليك‪ ،‬زجاج النظارة مشروخ»؛ علقت ببرود‬

‫ّ‬ ‫ثم انصرفت‪ .‬في حاالت مماثلة كنت سأرد لها الصاع صاعين‪ ،‬لكن الله ّ‬ ‫سلم وكان مزاجي حس ًنا‪ّ .‬‬ ‫وصليت العشاء‪ ،‬وعقب‬ ‫توضأت‬ ‫للشوكاني‪.‬‬ ‫الصالة رحت أقرأ في كتاب «فتح القدير»‬ ‫ّ‬

‫خطر ببالي أمر ما؛ أحضرت النظارة الجديدة وتأملتها برهة‪ ..‬العدستان مستديرتان وأكبر من المعتاد‪ ،‬لكن تارة أخرى تبدوان‬

‫بشكل بيضويّ ! أما زجاجهما فكان سليمً ا وخاليًا من أيّ خدش‪ ،‬إال أن فيه عقدً ا بالغة الصغر تمتد منها خطوط رفيعة جدًّ ا‪ ،‬وتارة‬

‫تبدو كشبكة خاليا النحل السداسية! وضعت نظارتي األصلية جانبًا‪ ،‬وارتديت هذه النظارة الغريبة األطوار‪ ،‬ولعَ جَ بي كنت أرى‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬


‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫بدأت أرى الكلمات ثالثية األبعاد‪ ،‬ويمكن‬ ‫تابعت القراءة‪ ،‬وبعد عدة أسطر‬ ‫بوضوح!‬

‫ُ‬ ‫أبعدت النظارة شاع ًرا بالدوار‪ ،‬وهرعت‬ ‫لبصري أن يراها من جميع االتجاهات!‬ ‫ُ‬ ‫وأعددت لنفسي قدحً ا من القهوة‪.‬‬ ‫إلى المطبخ‪،‬‬

‫لم أنم‪ ،‬أرقت وتناوشتني الوساوس‪ .‬غادرت غرفة النوم إلى حجرة‬

‫الجلوس؛ حيث تربض تلك النظارة المشاكسة‪ .‬اقتربت منها بتوجس‬ ‫ّ‬ ‫وقلبتها بين ّ‬ ‫ُ‬ ‫تشجعت ووضعتها على‬ ‫كفي مدة من الوقت‪ ،‬ثم‬ ‫ُ‬ ‫مكثت دقائق منتظ ًرا حدوث تلك الرؤية البانورامية‪ ،‬لكن شي ًئا‬ ‫عيني‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫لم يحدث‪ .‬وصلتني رسالة بالواتس آب‪ ،‬أخذت هاتفي المحمول‪،‬‬

‫وانشغلت نحو الساعة بقراءة الرسائل الواردة‪ ،‬وكتابة ردود على بعض‬ ‫منها‪ .‬فجأة ّ‬ ‫تقلص الهاتف وانكمش حتى اختفى‪ ،‬وصرت أنظر إلى كفي‬

‫وال شيء فيها‪ .‬رفعت رأسي وذهلت‪ ..‬حتى إنني فقدت القدرة على النطق‪،‬‬

‫وأصاب الشلل جسدي كله باستثناء بصري الذي كان يدور من اليمين إلى‬

‫الشمال وبالعكس‪ .‬أين أنا ال أدري‪ ،‬المكان يشبه حديقة بديعة المناظر‬ ‫داخل أنابيب عمالقة ذات أشكال فنية لم يسبق لي أن رأيت مثيلاً لها‪ .‬تجمّ ع‬

‫حولي عدد من الناس فيهم جمال صارخ يفوق الجمال البشريّ بأضعاف‪،‬‬ ‫وعلى مُ حيَّاهم االستغراب‪ ،‬وسمعتهم يتهامسون بلغة‬ ‫فيها حروف لم تطرق أذني من ُ‬ ‫قبل‪ .‬أتى أشخاص‬ ‫طوال القامة بمالمح متجهمة‪ ،‬ووضعوني‬

‫داخل فقاعة صابون شفافة لها مقبضان‬ ‫من الخارج‪ ،‬ثم ّ‬ ‫حل الظالم التامّ ‪ .‬سمعت‬ ‫ً‬ ‫صوتا يناديني باسمي (مهيوب) فانتبهت‪.‬‬

‫ظل الصوت يك ّرر مناداتي‪ ،‬فأجبته‪« :‬نعم»‪.‬‬

‫سأل مرة أخرى‪« :‬أنت بخير؟»‪ .‬أجبت‬ ‫بامتعاض‪« :‬ال‪ ،‬أخرجوني من هنا»‪« .‬أَب ِْعد‬

‫ُ‬ ‫أردت تحريك‬ ‫النظارة من عينيك» ر ّد الصوت‪.‬‬ ‫يدي َ‬ ‫ُ‬ ‫ووجدتني عاج ًزا عن تحريك‬ ‫فلمْ أجدها‪،‬‬

‫أيّ عضو من أعضائي أو اإلحساس به‪ ،‬قلت‬

‫بحدة‪« :‬ال أستطيع‪ ،‬أين أنا؟»‪ .‬بعد صمت‬ ‫طويل أجابني الصوت نفسه‪« :‬ال تذعر‪ ..‬أنت‬ ‫في مكان بعيد جدًّ ا من عالمك‪ ..‬لكنك‬

‫بأمان»‪ .‬أردت أن أتقدم إلى األمام‪،‬‬ ‫أو أرجع إلى الخلف؛ أن أدور حول‬

‫نفسي‪ ،‬لكنني عجزت‪ ،‬فصرخت‬ ‫غاضبًا‪:‬‬

‫‪ -‬عليكم اللعنة ماذا فعلتم بي؟‬

‫‪115‬‬


‫نصوص‬

‫ ال تلعن أيها اإلنسان‪ ،‬فأنت من سعى إلينا‪ ،‬واآلن نحاول إخراجك من هذه الورطة‪.‬‬‫‪ -‬من أنت؟ الشيطان؟!‬

‫‪ -‬ال وجود للشياطين في عالمنا‪.‬‬

‫‪ -‬حزرت‪ ..‬أنتم كائنات فضائية اختطفتموني؛ أليس كذلك؟‬

‫ نحن ال ننتمي للكون الذي تحيا فيه‪ ،‬نحن نسخة أخرى من الكون ذات ثمانية أبعاد‪.‬‬‫ كون آخر‪ ..‬يعلم الله كم مليارًا من السنوات الضوئية تفصلني اآلن عن بيتي؟!‬‫‪ -‬ال تقلق‪ ..‬المسافة بين كوننا وكونكم صفر تقريبًا‪ ..‬نحن كونان متداخالن‪.‬‬

‫‪ -‬لكن لم يسبق أن تشرفنا بمعرفتكم‪ ..‬أقصد أين أنتم؟‬

‫‪ -‬المسافة التي تفصلنا عنكم ليست مكانية لكنها مسافة زمنية‪.‬‬

‫‪ -‬كم؟‬

‫‪ -‬نحن نسبقكم بفارق زمني قدره واحد على المليون من الثانية‪.‬‬

‫ُ‬ ‫زمني تافه!‬ ‫لست ضليعً ا في الرياضيات‪ ،‬لكن أتصوّر أن هذا فارق‬ ‫‬‫ّ‬

‫‪116‬‬

‫الزمني الذي تحسبه تافه القيمة هو العلة في تمايز كوننا من كونكم؛ لذلك حضارتنا أرقى من حضارتكم‪،‬‬ ‫ هذا الفارق‬‫ّ‬ ‫ومستوى ذكائنا أعلى من مستوى ذكائكم؛ ألننا أقرب للمستقبل منكم‪.‬‬ ‫َسيمون وسامة مفرطة‪ ..‬جمال ال‬ ‫ ربما ما تقوله صحيح‪ ..‬اإلناث والذكور الذين أحاطوا بي وتس ّنت لي رؤيتهم لبرهة وجيزة و ِ‬‫نظير له ًّ‬ ‫حقا بين بني البشر‪.‬‬ ‫ ك‪.‬ه‪.‬ي‪ .‬أنت اآلن جاهز للعودة إلى وطنك‪.‬‬‫‪ -‬مهلاً ‪ ،‬أريد أن أعرف الس ّر في انتقالي إلى كونكم هذا‪.‬‬

‫‪ -‬النظارة التي استعملتها أتذكرها؟ زجاجها يحتوي على فصوص رقيقة من األلماس‪ ..‬ويبدو أن العصب البصري لديك مهيأ‬

‫للتعامل معها‪.‬‬

‫‪ -‬من صممها؟‬

‫‪ -‬إنسان اسمه هيو إيفيرت‪.‬‬

‫ هل هذا اختراع سرّيّ للتواصل مع كونكم؟‬‫‪ -‬أنت تتلكأ‪ ..‬أال تريد العودة إلى ديارك؟‬

‫ بصراحة حياتي هناك ليست فريدة من نوعها‪ ..‬فهل يمكنني البقاء هنا وأن أعيش حياة طبيعية كما تحيون أنتم؟‬‫ممكن‪ ..‬هل أنت متأكد من قرارك؟‬

‫‪ -‬كل التأكد‪ ،‬وأقسم أنني لن أتراجع عن قراري هذا أبدً ا‪.‬‬

‫ُ‬ ‫ذرات جسمك مظهرها لتكون مؤلفة على التوافق مع قوانين‬ ‫‪ -‬لست بحاجة للقسم؛ ألنك بمجرد أن تلمس واحدً ا منا س ُتغيِّر‬

‫كوننا‪ ،‬وسوف يستحيل عليك بعد ذلك تفكيك ذرات جسمك مرة أخرى‪.‬‬ ‫‪ -‬أخرجوني من هنا وسوف ألمس أول واحد أقابله فورًا‪.‬‬

‫انبلج الضوء كشروق الشمس ببطء‪ ،‬وعادت الحياة إلى جسمي بالتزامن مع سقوط الضوء عليه‪ ،‬فصرت قادرًا على اإلحساس‬ ‫به وتحريكه‪ .‬كان حولي مجموعة من أفراد الكون الثماني األبعاد يبتسمون بو ّد ولطف‪ .‬دنوت من شابة جميلة جمالاً‬ ‫ً‬ ‫خارقا ولمستها‬

‫ُ‬ ‫انتبهت أنني كنت عاريًا كما ولدتني أمي! شعرت بالعروق والشعيرات الدموية ُتغيِّر تموضعها‪ .‬أجهزتي الحيوية‬ ‫في سرتها فضحكت‪،‬‬

‫ُ‬ ‫تحسست قلبي فإذا هو ينبض في الجهة اليمنى‪.‬‬ ‫فعلت األمر نفسه‪.‬‬

‫ُ‬ ‫عشت حياتي وسطهم كواحد منهم في سعادة خيالية‪ ،‬تساوي السعادة األرضية مضروبة في مليون‪ .‬ولم أندم قط على قراري‬

‫بمغادرة ذلك الكون الرباعي األبعاد الذي ال ينتج سوى مقادير ضئيلة من السعادة‪.‬‬ ‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬


‫ﺗﺮﺣﺐ ﻣﺠﻠﺔ اﻟﻔﻴﺼﻞ ﺑﺄي ﻣﻘﺘﺮﺣﺎت وأﻓﻜﺎر ﺗﺨﺺ »ﻛِﺘﺎب اﻟﻔﻴﺼﻞ«‬ ‫أﻳﻀﺎ ﺑﺎﻟﻤﺸﺮوﻋﺎت‬ ‫اﻟﺬي ﻳﻮزع ﻣﺠﺎﻧًﺎ ﻣﻊ اﻟﻤﺠﻠﺔ‪ ،‬وﺗﺮﺣﺐ ً‬ ‫وﻣﺨﻄﻮﻃﺎت اﻟﻜﺘﺐ ﻓﻲ اﻟﻤﺠﺎﻻت اﻷدﺑﻴﺔ واﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ واﻟﻔﻨﻴﺔ‬ ‫اﻟﻤﺨﺘﻠﻔﺔ‪ .‬وﺳﺘﻘﻮم اﻟﻤﺠﻠﺔ ﺑﺎﺧﺘﻴﺎر اﻟﻤﻨﺎﺳﺐ ﻣﻨﻬﺎ ﻟﻠﻨﺸﺮ‪.‬‬ ‫اﻟﻤﻘﺘﺮﺣﺎت واﻟﻤﺨﻄﻮﻃﺎت ﺗﺮﺳﻞ إﻟﻰ اﻟﺒﺮﻳﺪ اﻹﻟﻜﺘﺮوﻧﻲ‪:‬‬

‫‪editorial@alfaisalmag.com‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪alfaisalmag‬‬

‫‪@alfaisalmag‬‬

‫‪www.alfaisalmag.com‬‬


‫شخصيات‬

‫زها حديد ‪..‬‬ ‫غرائبية األشكال المعمارية‬ ‫المعاصرة‬

‫‪118‬‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬


‫تتسم عمارة «زها حديد» المعمارة العالمية ذات األصول العراقية‪( ،‬التي‬

‫توفيت مؤخرًا في ‪ 31‬مارس (آذار) ‪2016‬م‪ ،‬في أحد مشافي ميامي بأميركا‪،‬‬

‫إثر نوبة قلبية مفاجئة)‪ ،‬بسمات محددة‪ ،‬أفضت إلى أن تكون مقاربتها‬ ‫التصميمية ً‬ ‫ً‬ ‫حدثا ًّ‬ ‫وفريدا في المشهد المعماري العالمي‪ .‬وهذه المقاربة‬ ‫مهما‬

‫المنطوية على تميز واضح‪ ،‬تستقي إلهامها وجوهرها من ينابيع شتى؛ أضفت‬ ‫عليها ً‬ ‫نوعا من الخصوصية المتفردة واالختالف البين بينها وبين أقرانها من‬

‫المعمارين العاملين في هذا الحقل‪ .‬والحال أن عمارة زها حديد ال يمكن‬ ‫إدراك ماهيتها التكوينية عبر األسلوب التوصيفي ‪.Descriptive‬‬

‫خالد السلطاني‬ ‫معمار وأكاديمي‬

‫إذ يظل هذا األسلوب معنيًّا ومحددًا بالنتائج المرئية‬

‫تجاهل تأثيرات الفترة األولى للتشكل المعرفي والذوقي‪،‬‬ ‫ً‬ ‫(وأحيانا حاسمة)‬ ‫وهي فترة ما انفك ُكثر يعتبرونها هامة‬

‫فهم عوامل عديدة أثرت في صياغة وظهور تلك المقاربة‪،‬‬

‫الثقافات المعرفية الخاصة بالعمارة والفن‪ ،‬قد استمدتها‬

‫للمعطى التصميمي‪ ،‬على حين أن المطلوب هو الغوص‬

‫في كنه تلك المقاربة‪ ،‬واستجالء جوهرها‪ .‬وهذا يتأتى من‬ ‫وهي عوامل مختلفة ومتشعبة‪ ،‬قد ال تكون خاصة فقط في‬

‫الشأن المعماري‪ .‬بتعبير آخر‪ :‬إن المطلوب هو معرفة خواص‬ ‫«الماكنة» المفاهيمية‪ ،‬المؤهلة باستيالد مثل تلك التصاميم‪،‬‬

‫عند ذاك يتم إدراك واستيعاب مسوغات الناتج األخير بكل‬ ‫غرائبية «فورمه» االستثنائي‪ .‬وهذا بالطبع يقتضي مساحة‬ ‫إضافية من التحليل والمتابعة ال يتوافران هنا؛ لخصوصية‬

‫هذه الدراسة ومحدودية غاياتها‪ .‬آملين أن نعود مرة أخرى‬ ‫لفحص هذه اإلشكالية المعرفية ومساءلتها مستقبلاً ‪.‬‬ ‫ومع هذا‪ ،‬مع مثل هذا اإلقرار‪ ،‬فإن من غير المنطقي‬

‫في تك ّون شخصية المرء‪ .‬إنه ألمر مصيب القول بأن اكتساب‬ ‫زها من خصوصية المجتمع وقيمه الذي أقامت بين ظهرانيه‬

‫لفترة طويلة‪ ،‬وشكلت بالتالي منظومة ذائقتها الجمالية‪.‬‬ ‫لكنّ قولاً آخر ليس من دون مصداقية‪ ،‬يشير بأن تأثيرات‬

‫الوعي‪( ،‬وربما الالوعي ً‬ ‫أيضا)‪ ،‬العائدة إلى فترة النضوج‪،‬‬

‫قد تلعب دورًا موازيًا ال يستهان به في مهام تحديد نوعية‬ ‫الذائقة الجمالية إياها‪ ،‬وتسهم في تكوين خصوصيتها‪.‬‬

‫قد يتوقع المرء أن ثمة إضافات «مستترة» تضفيها‬

‫المصممة على مشاريعها ذات اللغة المعمارية الفريدة التي‬ ‫ُعرفت بها‪ .‬وبواعث هذه اإلضافات تظل بالطبع استحقاقات‬

‫مركز حيدر علييف ‪ -‬أذربيجان‬

‫‪119‬‬


‫شخصيات‬

‫طبيعة المكان‪ ،‬الذي نشأت فيه المصممة‪ .‬المكان الذي تتكلم‬

‫التي منها تنهل زها خصائص نهجها التصميمي‪ .‬بالطبع‬

‫مثل تلك التأثيرات لن تنعكس بصورة مكشوفة أو ملموسة في‬

‫التفكيكية‪ ،‬التي كثي ًرا ما استقت زها منها توجهاتها‪ .‬بيد أنها‬ ‫«تغرف» ً‬ ‫أيضا من منابع شتى لجهة ترسيخ نهجها التصميمي‬

‫عنه زها بعاطفة وشغف عميقين‪ .‬على أنه علينا التأكيد‪ ،‬بأن‬ ‫التصاميم المعدة من مكتب المعمارة؛ ذلك ألن عملها (أي‬

‫عمل التأثيرات) سيخضع لعمليات التأويل وستكون متداخلة‬ ‫مع جوهر مقاربتها المعمارية تداخلاً عضويًّا‪ ،‬ما يجعل من‬

‫وبالصيغة التي أصبحت مألوفة في الخطاب‪ ،‬ولدى كثر من‬

‫تكوينات المشاريع المنجزة‪ .‬كما يجب أال يغرب عن البال‬

‫ومختلفة وحتى‪ ...‬متناقضة‪.‬‬

‫الوهم توقع حضور مادي لها‪ ،‬أو إيجاد انعكاس جلي لها في‬ ‫طبيعة عملية إنتاج العمل المعماري المعاصر‪ ،‬المنطوي‬

‫دومً ا على أسلوب القرارات الجماعية المشتركة‪ .‬نحن نتكلم‪،‬‬

‫الخاص‪ ،‬الذي تفصح عنه ببالغة تصاميمها المنجزة‪،‬‬ ‫المتلقين‪ .‬إن «فرشة» هذه المنابع لواسعة‪ .‬كما أنها عديدة‬

‫حلول تكوينية غير شائعة‬

‫إذن‪ ،‬عن مناخ‪ ،‬مناخ تصميمي يتشكل من خصوصية المكان‪،‬‬

‫أحد هذه المنابع الهامة في رأي زها‪ ،‬هو تأثيرات‬

‫األشكال المعمارية المعاصرة‪ ،‬ليست مقتصرة على نتاج زها‬

‫غير شائعة في المشهد‪ ،‬بل وبعيدة من المفهوم «الدارج»‬ ‫لمعنى العمارة وحدود مجاالتها‪ .‬ثم علينا أال ننسى ً‬ ‫أيضا‪،‬‬

‫الخصوصية القريبة من ذهنية المعمارة التي ال تزال تشغل‬ ‫حي ًزا ما في ذاكرتها البصرية‪ .‬يتعين التذكير بأن غرائبية‬

‫حديد وحدها‪ ،‬فالمشهد المعماري متخم بمثل هذه النزعة‬ ‫التصميمية التي سبق أن برر بواعثها «بيتر آيزنمان»‪ ،‬بكونها‬ ‫تمثيلاً لناتج معماري ما بعد حداثي‪ ،‬وهذا الناتج عليه أن‬

‫يتجاوز بصنيعه أوهام الحداثة المتمظهرة في «وهم التمثيل‪،‬‬

‫ووهم المنطق‪ ،‬ووهم التاريخ»‪ .‬لكن ما تقدمه زها يفوق‬

‫‪120‬‬

‫تقودنا تلك اإلشارات‪ ،‬مرة أخرى‪ ،‬إلى خصائص العمارة‬

‫ذلك التجاوز‪ ،‬ويقترب من مهمة جعل «مهرجان» األشكال‬ ‫الغرائبية تبدو وكأنها حدث عادي‪ ،‬ال يفترض أن يثير الدهشة‬

‫أو االستغراب‪.‬‬

‫والسؤال المهم‪ ،‬هو كيف تحقق ذلك؟ كيف باتت‬

‫«غرائبية» األشكال المصممة تغدو وكأنها محض أشكال‬ ‫«عادية» في مقاربة زها المعمارية؟ بل إن التساؤل األكثر‬

‫أهمية‪ ،‬هو‪ :‬من أين تستل زها هذه الغرابة التشكيلية‬ ‫لتصاميمها؟ وأين تكمن جذورها؟ ال يمكن اإلجابة عن هذا‬

‫التساؤل المشروع من دون تحليل عميق لطبيعة المقاربة‬ ‫«الزهائية»‪ ،‬ومن دون قراءتها قراءة نقدية متأنية ومتشعبة‪.‬‬

‫وهو ما ال يمكن تحقيقه اآلن‪ ،‬ضمن محدودية أهداف هذه‬ ‫الدراسة‪ .‬ومع هذا فإننا نتطلع إلى اإلشارة‪ ،‬ولو بعجالة‪ ،‬إلى‬

‫المنابع التي شكلت فيوضها مزيج المرجعيات المتعددة‬

‫تصاميم زها حديد يتعين إدراكها‬ ‫بالطبع‪ ،‬وفي الجوهر‪ ،‬طبقً ا لما توفره‬ ‫(وخصوصا في‬ ‫طروحات ما بعد الحداثة‬ ‫ً‬ ‫نسختها التفكيكية) من رؤى معرفية‬ ‫غير مسبوقة في الخطاب‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬

‫الـ«كونستروكتفيزم» الروسي وهوسه باستيالد حلول تكوينية‬

‫طالما نحن ال نزال في روسيا‪ ،‬تأثيرات «كازيمير ماليفتش»‬

‫ودعواته الرتياد آفاق جديدة في الفن والعمارة‪ ،‬عبر أنساق‬

‫هندسية صوفية وتجريدية‪ ،‬تهجر السائد وتهجس باآلتي‪.‬‬ ‫ًّ‬ ‫خاصا لديها‪ ،‬تمثل في استيعاب وتأويل‬ ‫وهو ما لقي هوى‬


‫زها حديد‪ ..‬غرائبية األشكال المعمارية المعاصرة‬

‫الدرس «السوبرماتي» الماليفتشي‪ .‬ثم هناك منابع جذورها‬ ‫الشرقية‪ ،‬المؤسسة لطبقات حساسة تكتنزها الذاكرة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫أحيانا في «تصحيح» ذائقتها الجمالية‪.‬‬ ‫وتفصح عن نفسها‬ ‫لاً‬ ‫ً‬ ‫ثمة عامل آخر‪ ،‬قد يبدو للكثيرين عام طارئا وربما غريبًا‪،‬‬

‫لكنه ً‬ ‫وفقا لزها‪ ،‬كان عاملاً مؤث ًرا من جهة نفوذه وتأثيره على‬

‫صياغة نهجها التصميمي‪ ،‬وهي أعمال المعمار البرازيلي‬

‫المعروف «أوسكار نيماير»‪« :‬تأثرت تأث ًرا كبي ًرا بأعمال أوسكار‬ ‫نيماير –تعترف زها حديد– وبخاصة إحساسه باتساع المكان‪،‬‬ ‫إبداعه وإحساسه هذا بالمكان فضلاً عن موهبته الفذة كلها‬

‫مع عناصر أخرى تجعله متمي ًزا وال يعلى عليه‪ .‬فأعماله هي‬ ‫التي ألهمتني وشجعتني على أن أبدع أسلوبي الخاص مقتدية‬

‫ببحثه على االنسيابية في كل األشكال»‪( .‬الشرق األوسط‪25 ،‬‬

‫إذا تجاوزنا مرجعية األشكال المتفردة‬

‫إبريل ‪2008‬م)‪ .‬ولئن أثر كل هذا على صياغة مفاهيم زها‪ ،‬فإن‬

‫مشاريع زها حديد‪ ،‬فإن طبيعة األشكال‬

‫بالطبع نوعية ثقافتها المعمارية‪ ،‬واألجواء المهنية المحيطة‬

‫ذات السمة الغرائبية‪ ،‬الحاضرة في‬ ‫كبيرا من السجال‬ ‫قدرا‬ ‫ذاتها تثير‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫حولها‪ .‬فهي‪ ،‬كما أشرنا سابقً ا‪ ،‬غاصة‬

‫ما أسهم في تحديد مقاربتها بشكل مهني وملموس‪ ،‬يظل‬

‫ً‬ ‫وخصوصا متطلباتها‪ ،‬واألهم في‬ ‫بها‪ ،‬وطبيعة متطلباتها؛‬ ‫كل ذلك القدرة على اإلصغاء لهاجس تلك المتطلبات‪،‬‬

‫وكيفية تمثيلها بجدارة‪.‬‬

‫بالتنافر التشكيلي‪ ،‬وعدم التناغم بين‬

‫وإذا تجاوزنا مرجعية األشكال المتفردة ذات السمة‬

‫بااللتواءات والهشاشة المتقصدة‪ ،‬مع‬

‫األشكال ذاتها تثير قدرًا كبي ًرا من السجال حولها‪ .‬فهي‪ ،‬كما‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫غاصة بالتنافر التشكيلي‪ ،‬وعدم التناغم بين‬ ‫سابقا‪،‬‬ ‫أشرنا‬

‫عناصر لغتها المعمارية‪ ،‬وهي مليئة‬ ‫اإليحاء بالحركة والتشظي‬

‫الغرائبية‪ ،‬الحاضرة في مشاريع زها حديد‪ ،‬فإن طبيعة‬

‫عناصر لغتها المعمارية‪ ،‬وهي مليئة بااللتواءات والهشاشة‬

‫‪121‬‬

‫محطة مترو مركز الملك عبدالله المالي ‪ -‬الرياض‬


‫شخصيات‬

‫المتقصدة‪ ،‬مع اإليحاء بالحركة والتشظي‪ .‬واألمر األساسي‬

‫قادرة على تسويغ ما تقدمه زها من أشكال تصميمية؛ ما‬

‫المصمم‪ .‬إنها بالطبع أشكال متميزة‪ .‬متميزة من السياق‪،‬‬ ‫ً‬ ‫أيضا‪ .‬ولهذا تحتاج إلى تسويغ‬ ‫ومتفردة عن األنساق‬

‫مبررات ظهور أشكال المقاربة التصميمية إياها‪ .‬وحتى ال‬

‫فيها هو غياب األشكال المنتظمة‪ ،‬وعدم «منطقية» الفورم‬

‫مفاهيمي‪ ،‬يبرر حضورها في المشهد‪ ،‬ويجعل من لغة‬ ‫ً‬ ‫حدثا مقبولاً ‪.‬‬ ‫عمارتها‬ ‫قد ال يكون الفهم «المنطقي» وما يترتب عليه من قيم‬

‫يحملنا إلى تقصي مفاهيم أخرى‪ ،‬يمكن لها أن تجيب عن‬ ‫نذهب بعيدً ا في تيه التقصيات المتنوعة وربما المجهولة‪،‬‬ ‫علينا التذكير بأن مقاربة زها يمكن أن تصنف ضمن «المقاربات‬

‫التي تعيد البشرية بين الفينة واألخرى حاالتها المتفردة‬ ‫العصية على االستنساخ والتقليد‪ .‬فالمخيلة اإلنسانية ظلت‬ ‫على امتداد سفر التاريخ تجنح إلفراز تمظهرات تكون مترعة‬

‫بالتعقيد والتناقض‪ ،‬ومشوبة بالغموض وفرادة األشكال‪،‬‬

‫كانت تعشق عنصر الخفة وحيوية‬ ‫الحركة على سطح األرض‪ ،‬ومساحة‬ ‫الحرية التي تمنح القدرة على التحليق‬ ‫فوق سطح األرض‬

‫‪122‬‬

‫كجزء من منظومة جدلية‪ ،‬تتفاعل بين النظام والالنظام‪،‬‬ ‫العقالنية والالعقالنية‪ ،‬القاعدة واستثنائها؛ والتي بها يغتني‬

‫المنتج اإلبداعي اإلنساني ويكتسب فرادته وتعدديته؛ لينجو‬ ‫من تبعات الرتابة وإيقاعها المتماثل الممل» (خالد السلطاني‪،‬‬

‫عمارة ومعماريون‪ ،2009 ،‬بغداد)‪.‬‬

‫زها حديد‪..‬‬

‫تصاميمها أعمال فنية‬

‫سمـير غريـب‬ ‫ناقد مصري‬

‫حزنت على وفاة زها حديد بأزمة قلبية مفاجئة في الخامسة والستين من عمرها‪ .‬هذه العبقرية الهندسية العراقية التي‬ ‫ً‬ ‫مشرفا في العالم كله طوال سنوات‪ ،‬وفي ظروف مناوئة تمامً ا للعرب‪ .‬التقيتها في القاهرة عام ‪2009‬م‪ ،‬عندما‬ ‫رفعت اسمً ا عربيًّا‬ ‫أتت لعرض تصميمها ألرض المعارض الجديدة الذي لم ينفذ‪ .‬وكتبت عنها في مقالتي األسبوعية بجريدة األخبار المصرية‪.‬‬

‫تابعت كثي ًرا من مشروعاتها الفذة عبر العالم‪ .‬هي ليست المهندسة العربية الوحيدة التي لمع اسمها عالميًّا فقط‪ ،‬بل هي‬

‫المهندسة الوحيدة في العالم األكثر شهرة‪ ،‬وثاني مهندس عربي يؤثر في العمارة العالمية بعد المصري حسن فتحي عبر‬ ‫التاريخ‪ .‬فمتى يجود الزمان بمثلها؟‬

‫ً‬ ‫طاغ‪،‬‬ ‫هي شخصية غير تقليدية‪ ،‬أحيانا غريبة األطوار‪ ،‬وانعكس ذلك في تصميماتها المعمارية‪ .‬لها شخصية قوية وحضور ٍ‬

‫حتى إنها حازت لقب واحدة من أقوى نساء العالم؛ لذا فقد اكتسبت من اسمها صفته‪ ،‬وقالت ذات مرة مازجة اإلنجليزية‬

‫بالعربية‪ »Iam a Hadid« :‬يعني «أنا حديد»‪ .‬ربما ساعدها تكوينها الشخصي على هذا الحضور‪ ،‬لكن الذكاء الواضح في عينيها‬

‫الواسعتين هو األهم‪ ،‬وثقتها بنفسها واضحة‪ .‬بالغة النشاط‪ ،‬ال تحب النوم كثي ًرا‪ .‬أحببتها‪ ،‬فهي تقدم نموذجً ا يحتذى للنساء‬

‫عامة‪ ،‬ولنساء العرب خاصة‪ .‬تصمم المشروعات‪ ،‬وتتابع تنفيذها‪ ،‬وتلقي المحاضرات‪ ،‬وتشارك في المؤتمرات والمعارض‪،‬‬

‫فمن يحتذي؟‬

‫لديها نحو ‪ 1000‬مشروع معماري في ‪ 44‬بلدً ا‪ .‬هي ملكة الهندسة المعمارية اإلبداعية في العصر الحديث‪ .‬لم يكن لكلمة‬

‫المستحيل مكان في حياتها‪ ،‬ولم تكن تتقيد بالقواعد سوى تلك التي تضعها لنفسها‪ ،‬وكان شعارها في الحياة كسر الحواجز‪.‬‬ ‫عندما أقيم معرض إكسبو العالمي في مدينة سرقسطة اإلسبانية‪ ،‬صممت زها جس ًرا طوله ‪ 275‬مت ًرا‪ ،‬واستخدمته كجناح‬

‫للعرض في الوقت نفسه‪ .‬وصممت لشركة بي إم دبليو مصنعً ا في مدينة اليبزغ تمر فيه السيارات عبر مكاتب الموظفين!!‬

‫أعلنت زها حديد الحرب على الزوايا‪ ،‬وبدأت منذ أيام الدراسة استلهام أشكال جديدة تتجاوز تصورات ما بعد الحداثة‪.‬‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬


‫زها حديد‪ ..‬غرائبية األشكال المعمارية المعاصرة‬

‫مركز الفنون روما‬

‫سعت في هندستها المعمارية الديناميكية إلى تجاوز قانون الجاذبية‪ ،‬كما فعلت في منصة القفز في جبل إنسبروك النمساوي‪.‬‬ ‫وكذلك مكتبة الكلية الجديدة في جامعة فيينا التي تمثل مركبة فضائية في خدمة العلوم‪.‬‬

‫كانت زها حديد صارمة‪ ،‬وال تقبل المساومة‪ ،‬وتصر على تنفيذ خطة البناء مهما ارتفعت التكاليف أو تأخر موعد اإلنجاز‪.‬‬ ‫متحف الفن الحديث للقرن الواحد والعشرين في روما مثلاً أنجز بعد ‪ 11‬سنة من الموعد المحدد‪ .‬كانوا يقولون‪ :‬إن هذا‬

‫التصميم غير قابل للتنفيذ‪ ،‬وظلوا يرفضون لفترة طويلة عرض أعمال فنية في فضاء يتنافس مع الفن‪ .‬كانت تدرك ذلك من‬ ‫البداية‪ ،‬وقالت‪« :‬أسلوبي غير مألوف في العمل‪ .‬فهناك عمالء كثيرون يعتبرون تصاميمي ضربًا من الجنون‪ .‬إنه صراع دائم‬ ‫ضن في بعض األحيان‪ .‬لكن هذه المعركة والمواجهة المستمرة تجعلك في النهاية أشد قوة»‪ .‬وقالت في مناسبة أخرى‪:‬‬ ‫ومُ ٍ‬

‫«يتعين علينا جميعً ا تقديم تنازالت من حين آلخر‪ ،‬لكن عندما يطلب مني صاحب المشروع التنازل كليًّا عن جانب أساسي منه‬

‫فعندها أرفض»‪.‬‬

‫أحد أهم مشاريعها األخيرة هو متحف «إم إم إم كورونيس» على قمة جبل كرونبالتز من جبال األلب اإليطالية‪ .‬هو نفق‬

‫محفور في الجبل‪ ،‬ومشيد بالخرسانة المسلحة‪ ،‬ومكون من ثالثة طوابق‪ ،‬وال نرى منه من الخارج سوى مداخله‪ .‬جدرانه‬

‫كلها غير مستوية‪ ،‬هكذا تمكنت زها حديد من حفر بصمتها على الحجر‪ .‬كانت تعشق عنصر الخفة وحيوية الحركة على سطح‬

‫األرض‪ ،‬ومساحة الحرية التي تمنح القدرة على التحليق فوق سطح األرض‪.‬‬ ‫ظلت مشروعاتها لسنوات عدة تصنف في خانة الفنون التي تعرض في صالة المعارض‪ ،‬فكانت تصاميمها تعد أعمالاً‬

‫فنية أكثر منها مشروعات للتنفيذ أو غير قابلة للتنفيذ‪ .‬تعتقد زها حديد أن فكرة الحداثة الجديدة ال تقتصر على وجود أشياء‬

‫متطابقة في صورة واحدة‪ ،‬إنما هي عبارة عن أشياء مختلفة تجتمع في آن واحد‪ .‬وأعتقد أن من أهم أسباب نجاحها هو تطلعها‬ ‫الشديد الكتشاف جديد‪ ،‬تكتشفه من داخلها معتمدة على موهبتها‪ ،‬وما حصلته من علم وخبرة‪ .‬لم تلق بالاً كثي ًرا لما تحدثوا‬

‫عنه من انتمائها للمدرسة التفكيكية في العمارة‪ ،‬فهي في الواقع كانت فوق المدارس واالتجاهات‪ .‬هي خلقت مدرستها أو‬

‫اتجاهها الخاص‪ .‬بدأت بعد تخرجها في لندن بأعمال مفاهيمية بحتة‪ ،‬لكن مشروعها الرئيسي األول كان تصميم مركز إطفاء‬ ‫في ألمانيا‪ ،‬انتهى تنفيذه عام ‪1993‬م‪ .‬كان هيكلاً خرسانيًّا ضخمً ا مائلاً وله جناح يخرج منه مائلاً ومنحنيًا نحو األعلى كعالمة‬

‫بصرية له‪ .‬شكل هذا المبنى بداية أسلوب زها حديد المتميز‪ .‬كما جاء تصميمها للمتحف اإليطالي الوطني لفنون القرن الواحد‬

‫والعشرين في روما‪ ،‬الذي تم تنفيذه عام ‪2009‬م‪ ،‬ليؤكد مدرسة زها حديد في العمارة‪ .‬وهو مزيج طموح من المنحنيات واألنابيب‬ ‫المتقاطعة‪ ،‬اعتبره نقاد العمارة عملاً رئيسيًّا‪.‬‬

‫‪123‬‬


‫شخصيات‬

‫رحيل أوالد أحمد‬ ‫نهاية «حالة» استثنائية‬ ‫في المشهد األدبي التونسي‬ ‫حياة السايب‬

‫ترك رحيل الشاعر التونسي محمد الصغير أوالد‬

‫أحمد الذي وافته المنية يوم الثالثاء ‪ 5‬إبريل‬

‫الماضي‪ ،‬في المستشفى العسكري بالعاصمة‬

‫تونس بعد صراع مع مرض عضال‪ -‬أثرًا كبيرًا‬

‫صحافية تونسية‬

‫لعلنا نشير إلى أنه نادرًا ما فاز شاعر في تونس‪ ،‬إذا ما‬

‫استثنينا الشاعر المنصف المزغني في فترة ما في مسيرته بقدر‬

‫في نفوس محبيه‪ .‬فقد كان أوالد أحمد ‪-‬هكذا‬ ‫متميزا بشهادة النقاد‪ ،‬شهرتهم وشعبيتهم مثلما فعل أوالد أحمد‪ .‬وقد كان موكب‬ ‫ً‬ ‫يناديه التونسيون‪ -‬شاعرًا‬

‫‪124‬‬

‫وشخصية معروفة ولها شعبية كبيرة‪ .‬وأوالد‬ ‫ّ‬ ‫أشعت‬ ‫أحمد من األسماء القليلة في تونس التي‬

‫في عالم األدب‪ ،‬وتمكنت من تحقيق نوع من‬ ‫اإلجماع حولها؛ إذ يقر خصومه قبل أصدقائه بأنه‬

‫واسع من الشهرة‪ ،‬واستطاع أن ينافس نجوم الفن والرياضة في‬ ‫تشييع جثمانه إلى مثواه األخير في مقبرة الزالج بالعاصمة دليلاً‬

‫على ما يتمتع به الراحل من شعبية وعلى مكانته االعتبارية؛ إذ‬

‫شيّعته جموع غفيرة كما حضرت الموكب شخصيات سياسية‬ ‫عديدة مثلت جميع األطياف تقريبًا‪ ،‬وحضر رئيس الجمهورية‬

‫الباجي قائد السبسي موكب الجنازة‪ ،‬وانتقل إلى بيته لتقديم‬

‫«حالة» استثنائية في المشهد األدبي وفي الساحة‬ ‫عموما في تونس‪ .‬كلماته تنفذ إلى أعماق رحيل شاعر تونس –هكذا يلقب‪ -‬باهتمام واسع‪.‬‬ ‫ً‬ ‫الثقافية‬

‫التونسيين‪ ،‬وروحه خفيفة عليهم حتى ولو كان‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أحيانا‪ .‬فهو يبقى‬ ‫الذعا‪ ،‬وسخريته قاسية‬ ‫نقده‬

‫العاشق لتونس والمسكون بحبها حتى إنه قبل‬

‫التعازي ألسرته‪ ،‬وواكبت مختلف وسائل اإلعالم الوطنية حدث‬

‫شاعر تتكسر على بابه الحواجز‬

‫ولئن كان أوالد أحمد ينسب إلى اليسار التونسي‪ ،‬فإنه‬

‫تحول رويدً ا رويدًا على امتداد تجربة برزت منذ ثمانينيات القرن‬

‫سويعات من رحيله كتب وهو على فراش المرض‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫وقلت‬ ‫وقلت أكونها‬

‫واالنتماءات‪ .‬كثيرون في تونس يلتقون عند ذلك الشاعر المتمرد‬

‫ونثرًا ً‬ ‫ناقدا‬

‫القراء‪ ،‬وكثيرون يجدون فيه المعبّر عن شيء من ذاتهم‪ .‬وقد‬

‫طول الفصول األربعة‬

‫اختالف انتماءاتها وتوجهاتها‪ ،‬والقيادات النقابية والحزبية‬

‫شعرًا‬

‫ومبشرًا‬ ‫أنثى‬

‫وأمي‬

‫ليس لي‪ ...‬قبر‬

‫في الما ‪-‬بعد‪( -‬في األخرى)‬

‫سوى هذي الحروف األربعة‪.‬‬ ‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬

‫العشرين إلى شخصية تتكسر على بابها الحواجز والتصنيفات‬ ‫الذي عثر على الوصفة السحرية للوصول إلى قلوب اآلالف من‬

‫ضرب العديد من الوجوه السياسية والثقافية واإلعالمية على‬ ‫في الفترة األخيرة موعدًا عند أوالد أحمد‪ ،‬الذي كان قد أعلن‬

‫بنفسه عن إصابته بمرض السرطان‪ ،‬عبر صفحته الخاصة على‬ ‫موقع الفيسبوك منذ نحو سنة‪ .‬كان الملتقى إما في بيته أو في‬

‫المستشفى العسكري حيث كان يتلقى العالج‪ .‬وأغلبهم كانوا‬

‫يتباهون بلقائه‪ ،‬ويحرصون على نشر صورهم بصحبة الشاعر في‬ ‫مواقع التواصل االجتماعي‪.‬‬


‫وإذا ما أردنا تقديم فكرة واضحة عن خصوصية التجربة‬

‫صباحً ا مساء‬

‫عن شعر التفعيلة فإنه اختار أن يكون ذلك الشاعر الغاضب‬

‫ويوم األحد»‪.‬‬

‫اإلبداعية للصغير أوالد أحمد‪ ،‬فإننا نقول‪ :‬إنه وإن لم يتخل‬

‫والمتمرد والثائر‪ .‬كلماته عبارة عن حمم من نار وسخريته سالح‬ ‫ً‬ ‫لصيقا ج ًّدا بقضايا التونسيين يعبر عن همومهم‬ ‫فتاك‪ ...‬كان‬ ‫وعن أحالمهم وآمالهم‪ ،‬وقد تحدث األكاديمي والشاعر‬ ‫المعروف المنصف الوهايبي عن أوالد أحمد‪ ،‬قائلاً ‪« :‬اآلن أقول‬

‫هو شاعر شجن معقود على نفسه حتى الضنى‪ ،‬ولغة ال تتحالف‬ ‫إال مع نفسها‪ ،‬ولك ّنها تأخذ من األشياء وتتورّط فيها‪ ،‬وال تميّز‬

‫بين «األنا» و«الهو» في تراسل أو تجاوب بين العالم والذات‪،‬‬ ‫بين الداخل والخارج؛ كما لو أنّ ّ‬ ‫كل األشياء تتالقى فيه‪ .‬ربّما‬ ‫هي طريقة في أن َنرى في ذات اآلن الذي ُنرى فيه‪ .‬شاعر يلحِ م‬ ‫بالكلمات جرحً ا ال يندمل‪ ،‬واعيًا أن الشعر تعويض ع ّما ال يمكن‬ ‫تعويضه»‪.‬‬

‫قائد الثورة الشعرية‬

‫وقبل الصباح وبعد المساء‬

‫ينحدر الراحل أوالد أحمد من سيدي بوزيد (ولد سنة ‪1955‬م)‬

‫وقد نشأ في بيئة فقيرة‪ ،‬وظهرت عليه النزعة الثائرة منذ بداية‬

‫تجربته التي انطلقت في منتصف العشرينيات من عمره‪ ،‬واختار‬ ‫أن يكون شعره ونثره لسان حال الفئات الفقيرة والمهمشة التي‬ ‫تتوق إلى الحرية‪ .‬عانى أوالد أحمد الفقر‪ ،‬باستثناء سنوات قليلة‬ ‫ً‬ ‫موظفا بوزارة الثقافة‪ ،‬وكذلك الفترة التي ترأس فيها‬ ‫كان فيها‬

‫بيت الشعر (من ‪ 1993‬إلى ‪1997‬م) الذي ناضل من أجل بعثه‪ ,‬فإنه‬ ‫قضى فترة طويلة من حياته عاطلاً عن العمل‪ .‬مقابل ذلك كان‬ ‫مطلوبًا في األمسيات الشعرية وفي الملتقيات الثقافية داخل‬

‫تونس وخارجها‪ ،‬وساهم بكتاباته في الصحافة التونسية‪.‬‬

‫صدرت أول مجموعة ألوالد أحمد سنة ‪1984‬م بعنوان‪:‬‬

‫«نشيد األيام الستة» وتواصلت المجموعات‪ ،‬من بينها‪« :‬ولكنني‬

‫أحمد» (‪1989‬م)‪ ،‬و«ليس لي مشكلة» (‪1998‬م)‪ ،‬و«حاالت‬

‫صدرت للشاعر مجموعات شعرية وكتب نثرية‪ ،‬منها ما‬

‫الطريق» (‪2013‬م)‪ .‬وكان الشاعر الراحل ينوي نشر مجموعة‬

‫جديدة‪ ،‬ودفعت به مجددًا نحو الصدارة حتى إنه ألف كتابًا نثريًّا‬

‫الموت وضع حدًّا لهذه التجربة اإلبداعية‪ ،‬كما أن القدر لم يمهله‬

‫نفسا‬ ‫نشر قبل الثورة‪ ،‬ومنها ما نشر بعد الثورة التي منحته ً‬ ‫بعنوان‪« :‬القيادة الشعرية للثورة» عام ‪2013‬م‪ ،‬جمع فيه نصوصه‬

‫التي كتبها منذ أواخر سنة ‪2010‬م تاريخ اندالع الشرارة األولى للثورة‬ ‫بمحافظة سيدي بوزيد بالوسط التونسي‪ .‬وقد أثار الكتاب الجدل‬

‫في تونس‪ ،‬فالبعض لم يقبل فكرة أن ّ‬ ‫ينصب أوالد أحمد نفسه‬

‫«قائدً ا للثورة الشعرية»؛ ألن هناك شبه إجماع في تونس على أن‬ ‫الثورة لم يهيأ لها ثقافيًّا أو فكريًّا‪ ،‬وإنما هي فعل تلقائي شبابي‬

‫باألساس‪ .‬لكن هذا ال ينفي عن الشاعر دوره الطالئعي في التعبير‬ ‫عن هموم التونسيين‪ ،‬وفي شحذ العزائم من أجل الوطن كلما‬

‫م ّر البلد بمحنة أو خاض معارك مصيرية‪ ،‬فهو صاحب القصيدة‬

‫الشهيرة «نحب البالد» التي تحولت إلى ما يشبه النشيد الوطني‪،‬‬ ‫والتي قال فيها‪:‬‬

‫«نحب البالد كما ال يحب البالد أحد‬

‫موكب تشييع جثمانه كان دليال على ما‬ ‫شيعته‬ ‫يتمتع به الراحل من شعبية؛ إذ ّ‬ ‫جموع غفيرة‪ ،‬كما حضرت الموكب‬ ‫شخصيات سياسية مثلت جميع األطياف‬ ‫تقريبا‪ ،‬وحضر رئيس الجمهورية موكب‬ ‫ً‬ ‫الجنازة‪ ،‬وانتقل إلى بيته لتقديم التعازي‬

‫جديدة من الكتب كان يشتغل عليها بكثافة مدة مرضه‪ ،‬لكن‬ ‫إلى أن يبعث جمعيته «تونس الشاعرة»‪ ،‬وترك المشروع بين‬ ‫يدي مجموعة من صحبه‪.‬‬

‫‪125‬‬


‫شخصيات‬

‫جورج طرابيشي‪..‬‬ ‫أخرج «العربي» إلى رحاب الحداثة‬ ‫خاص‬

‫لم يمت جورج طرابيشي في ‪ 16‬آذار (مارس) الماضي‪ ،‬إنما قبل ذلك بأعوام حينما وجد نفسه ال يقوى على‬ ‫ً‬ ‫سقوطا‬ ‫الكتابة‪ ،‬غير قادر على اإلمساك بالقلم ليخط الفكرة تلو األخرى‪ .‬عدم القدرة على الكتابة‪ ،‬كأنما بدا له‬ ‫في سحيق معتم ال هوية له‪ .‬في غياب إلحاح الكتابة‪ ،‬أضحى صاحب «شرق وغرب‪ ..‬أنوثة ورجولة»‪ ،‬يعيش‬ ‫ما يشبه العدم‪ ،‬أصبح أقرب ما يكون إلى العجز‪ ،‬إلى الجسد الذي ينتظر خالصه في أن يلفظ أنفاسه األخيرة‪،‬‬

‫وهكذا كان في ‪ 16‬من الشهر الماضي‪.‬‬

‫هي كل حياة الراحل‪ ،‬حتى ألف ما يربو على المئة كتاب‪.‬‬

‫التراث العربي تأملاً وتأويلاً ونقدً ا‪ ،‬وأخرى يهرع إلى التحليل‬ ‫ً‬ ‫كشوفا سيكولوجية‬ ‫النفسي‪ ،‬ترجمة واستئناسً ا‪ ،‬مقدمً ا‬

‫ال أحد يستطيع أن يفك اشتباكهما‪ ،‬وال هناك من يقدر على‬

‫وواقعه المريض‪.‬‬

‫ً‬ ‫وتفلسفا وترجمة وتدبيجً ا لمقالة‪،‬‬ ‫الكتابة نقدً ا وتفكي ًرا‬

‫تحولت حياته طوال العقود الماضية‪ ،‬إلى صحبة مع الكتابة‪،‬‬

‫‪126‬‬

‫التفريق بين أحدهما واآلخر‪ ،‬كأننا أمام الصوت والصدى‪،‬‬

‫الشيء وظله‪ .‬من دون الكتابة ال يعثر صاحب «من النهضة‬ ‫إلى الردة» على نفسه قادرًا على التحديق في مالمحه قدام‬

‫المرآة‪ ،‬كما ال يستطيع تأمل الواقع العربي وتحوالته التي‬ ‫حملت له في تباشيرها األولى وعدً ا بالتغيير‪ ،‬ببارقة أمل‪،‬‬ ‫ً‬ ‫الحقا أشبه بحراب‬ ‫إال أنها سرعان ما ارتدت إليه‬ ‫مسمومة تطعن فيه حتى أنهكته جسديًّا‬ ‫ومعنويًّا‪.‬‬

‫أدرك صاحب «هرطقات» أن نأي‬

‫الكتابة عنه هو الموت بعينه‪« ،‬لكنه‬ ‫يبقى على كل حال ً‬ ‫موتا صغي ًرا على‬ ‫هامش ما قد يكونه الموت الكبير‬

‫واجتماعية وتاريخية للعقد الكثيرة التي تكتنف «العربي»‬

‫بكتبه وأبحاثه وترجماته‪ ،‬رغم الطعون التي وجهت إليها‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مثقفا من طراز فريد‪،‬‬ ‫بدا جورج طرابيشي مفك ًرا متفردًا‪،‬‬ ‫لديه مفاهيمه ومعارفه ومصطلحاته ورؤاه التي تمكنه من‬

‫إنجاز مهمة المفكر على أكمل وجه‪ ،‬وال يعني ذلك بالطبع‬

‫أن صنيعه الفكري في منأى عن الشك والخطأ‪ ،‬وبالتالي ليس‬

‫عرضة للنقد‪ ،‬إنما على العكس كان يستدرج االختالف حول‬ ‫منجزه‪ ،‬يدفع في هذا الشكل أو ذاك‪ ،‬إلى أن يكون نتاجه‬

‫ً‬ ‫موضوعا للنقد وإعادة النظر‪ ،‬ذلك أنه‬ ‫الفكري والترجمي‬ ‫كرس هذا المنحى النقدي الجذري في المشروع الذي أنجزه‪،‬‬

‫حتى تحول إلى إحدى السمات األساسية فيه‪.‬‬

‫لم يؤشر متحوله الفكري وتنقله من محطة إلى أخرى‪،‬‬

‫على غياب اليقين‪ ،‬أو تشوش في الرؤية‪ ،‬أو تخبط فكري‪،‬‬

‫الذي هو موت الوطن»‪ ،‬كما‬ ‫ّ‬ ‫شلت قواه خيبات‬ ‫يقول‪.‬‬

‫ومنها عدم الركون إلى فكرة أو مدرسة أو تيار‪ ،‬هو العابر‬

‫مآالته التراجيدية‪ ،‬هو‬

‫كل ذلك‪ ،‬في تمثل خالص ألخالق المفكر ودينامية الفكر‬

‫الواقع العربي‪ ،‬وأنهكته‬ ‫الذي‬

‫الفكرة‬

‫بقي‬

‫يقارع‬

‫بالفكرة‬

‫والنقد بالنقد‪ ،‬تارة‬ ‫يغوص في طبقات‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬

‫مقدار ما كان يعيش كنه المفكر‪ ،‬متماهيًا مع متطلباته‪،‬‬ ‫لألفكار والمذاهب واألحزاب واألديان‪ ،‬إنما كان متعاليًا فوق‬

‫وتحوالته‪.‬‬

‫يقول عنه صديقه وأحد مؤسسي رابطة العقالنيين العرب‬

‫الكاتب عبد المطلب الهوني ‪ «:‬جورج طرابيشي مفكر مختلف‬

‫عن اآلخرين‪ ،‬بمعنى أنه خاض في مجاالت كثيرة وكبيرة في‬

‫مجال المعرفة‪ .‬ترجم لفرويد‪ ،‬أي خاض في مجال التحليل‬


‫النفسي‪ ،‬وهو ما عرفه به القارئ العربي‪ ،‬والتحليل النفسي‬

‫أو الكارثة العربية‪ ،‬فالنخب المثقفة كانت تتوهم مجتمعات‬

‫إليميل برهييه‪ ،‬في أجزاء عدة»‪.‬‬

‫حاربنا األيديولوجيات وأنكرناها‪ ،‬رأينا أننا كنا نصنع ألعيننا‬

‫مجال في غاية األهمية‪ ،‬ثم إن الراحل ترجم تاريخ الفلسفة‬ ‫ويضيف الهوني أن هذه المجاالت المعرفية المختلفة التي‬ ‫ً‬ ‫تأليفا وترجمة‪ « ،‬تدل على موسوعية‬ ‫خاض غمارها طرابيشي‬

‫ليست هي المجتمعات التي كانت في الواقع‪ .‬ونحن الذين‬ ‫نظارة نرى بها الواقع والتاريخ‪ ،‬وكنا نرى الواقع كما كنا نتمناه‪،‬‬ ‫وليس كما هو في الواقع‪ .‬وعندما تهتك حجاب الحداثة الهشة‬

‫الرجل‪ ،‬وأنه أفنى عمره في محاولة إثراء المكتبة العربية‬

‫رأينا مجتمعاتنا‪ ،‬فوجدناها مجتمعات قدامة بامتياز‪ ،‬ال تزال‬

‫في كل مؤلفاته‪ ،‬والراحل كان إلى جانب هذا كله‪ ،‬كوّن مع‬

‫راسخة مثل التعايش‪ ،‬أصبحت ال أساس لها في الواقع‪.‬‬

‫وتعريف القارئ العربي بعيون الفكر العالمي‪ .‬وهذا مبثوث‬ ‫مجموعة من المهتمين‪ :‬نصيف نصار‪ ،‬ومحمد أركون‪ ،‬ونصر‬ ‫أبو زيد‪ ،‬والعفيف األخضر‪ ،‬وعبدالمجيد الشرفي‪ ،‬وصادق‬

‫جالل العظم‪ ،‬وعزيز العظمة وأنا؛ المؤسسة العربية‬ ‫للتحديث الفكري‪ ،‬التي قامت بنشر وترجمة أعمال ال تستطيع‬

‫الوزارات الثقافية أن تنشرها لجرأتها‪ ،‬ثم بعد ذلك قمت‬ ‫معه‪ ،‬وكان معنا ً‬ ‫أيضا الدكتورة رجاء بن سالمة‪ ،‬وكوكبة‬ ‫أخرى‪ ،‬بإنشاء رابطة العقالنيين العرب‪ ،‬وبلغ عدد المؤلفات‬

‫والمترجم فيها أكثر من مئة عنوان‪ .‬وحدث أن جل هذا العمل‬

‫فيما يتعلق بالترجمة ومراجعة الكتب ومتابعة النشر‪ ،‬ألقي‬ ‫على عاتق الراحل‪ .‬فهذا ما يتعلق بالمجاالت التي قام بها في‬

‫حياته»‪.‬‬

‫ويذكر الهوني أن الراحل حمل رسالة واضحة إلى القارئ‬

‫العربي «في محاولة منه إلخراجه من قدامة المجتمعات‬ ‫واألستار المغلقة إلى رحاب الحداثة‪ .‬كان لجورج طرابيشي‬

‫مشروعه الخاص‪ ،‬الذي قام بالترجمة والتأليف فيه‪ ،‬واطلع‬

‫على عيون المعرفة‪ .‬كان همّ الراحل األكبر‪ ،‬تبسيط المعرفة‪،‬‬ ‫فكان لنا برامج كبرى في هذا اإلطار‪ ،‬وكنا نريد أن نبسط‬

‫الفلسفة لألطفال‪ ،‬ولكن لم تكن لنا اإلمكانات المادية‪ ،‬وهذا‬ ‫من األشياء التي بقيت غصة في حلق الراحل»‪.‬‬

‫والغة في همجيتها‪ ،‬حتى إن المفاهيم التي كنا نعتقد أنها‬ ‫ً‬ ‫خصوصا‬ ‫سيتبقى الكثير من جورج طرابيشي بعد مماته‪،‬‬

‫محاولته تحديث الدرس اإلسالمي‪ ،‬بمعنى أن النسخة‬

‫الرائجة من اإلسالم هي نسخة القرن الثاني عشر الميالدي‪،‬‬ ‫وهذه النسخة فيها من التشدد الشيء الكثير‪ ،‬وإن إسالم‬

‫اإلمبراطورية ال يمكن أن يكون إسالم الدولة الحديثة‪ ،‬فقهاء‬ ‫اإلسالم كانوا عظماء؛ ألن هؤالء ال يفعلون شي ًئا إال محاولة‬ ‫تفسير اإلسالم لخدمة المسلمين‪.‬‬

‫لم تكن توجد دول وطنية‪ ،‬إنما إمبراطوريات‪ ،‬وحتى‬

‫تستطيع أن تحصن اإلمبراطوريات ال بد من تحصينها‬ ‫من الداخل‪ ،‬بمقوالت تخدم البشر الذين يعيشون في‬ ‫اإلمبراطورية‪ .‬وفي وجود الدولة الوطنية‪ ،‬ال يمكن للفقه‬

‫اإلمبراطوري أن يوفي باحتياجات اإلنسان المسلم‪ .‬لذلك ما‬

‫يبقى من جورج طرابيشي هو هذا السبيل الذي بدأه ويريد له‬ ‫االكتمال‪ ،‬هذا الطريق الذي ولجه وال يزال طويلاً ‪ ،‬ويريد أجيالاً‬ ‫من الفقهاء الجدد‪ ،‬ومن المفكرين من المسلمين العرب»‪.‬‬

‫ويلفت الهوني إلى أنه حتى نبقي على طرابيشي متوهجً ا‬

‫في ذاكرتنا « يجب قراءة موسوعة التحليل النفسي لفرويد‬ ‫التي ترجمها‪ ،‬فكثير من أمراضنا ال بد أن يلقى عليها الضوء‬

‫من التحليل النفسي‪ .‬كما أن كتبًا‪ ،‬مثل‪« :‬هرطقات»‪ ،‬أو‬

‫ويسرد تفاصيل ما قبل الوفاة فيقول‪« :‬عندما رأى الراحل‬

‫«المرض بالغرب»‪ ،‬أو «نقد نقد العقل العربي»‪ ،‬كلها تحتاج‬

‫أمام التعصب‪ ،‬أخذ يعاني آالمً ا نفسية كبيرة‪ .‬وأتذكر أن آخر‬

‫في التاريخ‪ .‬كتبه األخرى‪ ،‬يجب أن تناقش وأن تنتقد في‬

‫أن كل هذا السعي والنضال والكفاح من أجل أمته‪ ،‬يسقط‬ ‫مكالمة بينه وبين اإلعالمي الفاضل تركي الدخيل‪ ،‬شجعه‬

‫األخير على الكتابة وعلى الخروج من اإلحباط‪ .‬اإلشكالية التي‬

‫كنا نعانيها‪ ،‬هي أننا رأينا ما بات يطلق عليه الربيع العربي‬

‫ما يبقى من جورج طرابيشي هو هذا‬ ‫السبيل الذي بدأه ويريد له االكتمال‪،‬‬ ‫هذا الطريق الذي ولجه وال يزال طويال‪،‬‬ ‫ويريد أجياال من الفقهاء الجدد‪ ،‬ومن‬ ‫المفكرين من المسلمين العرب‬

‫إلى قراءة وإعادة قراءة‪ ،‬حتى نستطيع تبين أنفسنا وتموضعنا‬ ‫المجال العام‪ .‬لماذا أدعو إلى ذلك؛ ألن مشكلتنا الكبرى أن‬ ‫ً‬ ‫خصوصا في مجال الثقافة‪ ،‬يوجد جنراالت‬ ‫في الوطن العربي‬

‫وال يوجد ضباط أو ضابط صف‪ ،‬بمعنى هناك مهمة المفكر‪،‬‬ ‫ومهمة المثقف‪ ،‬ومهمة الصحافي‪ ،‬فعندما يكتب المفكر ال‬ ‫بد من وجود آخر يوصل أفكاره للناس»‪.‬‬

‫لنتذكر ما حدث في عصر األنوار‪ ،‬فكتاب لفولتير‪ ،‬لم‬

‫يكن وزع خمس مئة نسخة‪ ،‬لكن الصحافيين كانوا يقرؤون‬

‫كتبه‪ ،‬ويبسطونها للناس‪ ،‬فدخلت في البنية الفكرية للشعب‬ ‫الفرنسي‪ .‬هذه المهمة إلى اليوم ال تجد من يقوم بها في عالمنا‬

‫العربي‪ ،‬ولألسف أنه اليوم شحّ ت القراءة؛ إذ يبدو لي أن‬ ‫الناس ال تقرأ‪ ،‬وكثي ًرا ممن يقرأ ال يفهم‪ ،‬وهذه كارثة‪.‬‬

‫‪127‬‬


‫مخطوطات‬

‫‪128‬‬

‫مخطوط ( التحفة الشريفة والطرفة المنيفة ) من مقتنيات مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫النسابة أبو علي محمد بن أسعد بن علي‪ ،‬الجوّاني المالكي‪ ،‬المتوفى سنة ‪588‬هـ‪1192/‬م‪.‬‬ ‫ألفه‪ :‬الشريف ّ‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬


‫‪129‬‬

‫ّ‬ ‫يتحدث عن نسب النبي صلى الله عليه وسلم ونسب زوجاته أمّ هات المؤمنين وأوالده‪ ،‬مكتوب‬ ‫وهو مخطوط نفيس‪،‬‬ ‫على هيئة مشجّ رات نسب‪ ،‬كتبت بخط الشيخ عبد السالم بن إبراهيم اللقاني المالكي المتوفى سنة ‪1078‬هـ‪1668/‬م‪.‬‬


‫كتب‬

‫رؤية ثقافية‬ ‫لمجابهة التطرف‬ ‫يذهب مدير مكتبة الدكتور إسماعيل‬ ‫ً‬ ‫حديثا عن مكتبة‬ ‫سراج الدين في كتابه الصادر‬

‫القاهرة‬

‫اإلسكندرية‪ ،‬وعنوانه‪« :‬التحدي‪ :‬رؤية ثقافية‬ ‫لمجابهة التطرف والعنف»‪ ،‬إلى أن ظهور التيارات‬

‫العربي؛ جاء نتيجة‬ ‫الدينية المتطرفة في العالم‬ ‫ّ‬ ‫مجموعة من التراكمات الثقافية‪ ،‬في مقدمتها‬

‫اإلفالس الفكريّ لدى كثير من األنظمة العربية‬

‫العربي‪،‬‬ ‫مدة زمنية طويلة‪ ،‬سبقت ثورات الربيع‬ ‫ّ‬

‫فقد عجزت تلك األنظمة عن تجديد العقد‬

‫‪130‬‬

‫حقيقي‪ ،‬إضافة إلى االحتكار‬ ‫االجتماعي بشكل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫المستم ّر للسلطة من نخبة متواضعة الفكر؛‬

‫نخبة كبحت مواهب الشباب‪ ،‬وفرضت نظامً ا‬ ‫ِّ‬ ‫واالجتماعي‪،‬‬ ‫السياسي‬ ‫الترقي‬ ‫من الهيمنة على‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫السياسي بعد أن‬ ‫إضافة إلى عودة اإلسالم‬ ‫ّ‬ ‫السياسي‬ ‫استمر قمعه زم ًنا من جانب الخطاب‬ ‫ّ‬

‫والعلماني‪ ،‬لكنه اكتسب زخمً ا جديدً ا‬ ‫القومي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫من خالل الثورة اإليرانية‪ ،‬والتمويل من بعض‬ ‫الدول النفطية وأثرياء العرب‪ ،‬وظهور حزب‬ ‫الله في لبنان في أثناء الحرب األهلية الطويلة‬

‫الدائرة هناك‪ ،‬ودوره في المقاومة في أثناء‬ ‫الحرب اإلسرائيلية في لبنان‪ .‬ولقد «تفاقمت»‬ ‫تلك األوضاع وغيرها بعد عودة «العرب األفغان»‬

‫الذين تحالفوا مع المجاهدين األفغان ضد الغزو‬

‫السوفييتي ألفغانستان؛ مما أدَّى إلى اعتالء‬ ‫طالبان ُسدَّ ة الحكم هناك‪.‬‬

‫ومن األسباب ً‬ ‫أيضا‪ ،‬الغزو األميركي للعراق‬

‫عام ‪2003‬م‪ ،‬وما تبعه من إخفاق في إدارة‬

‫االنقسامات العرقية والدينية الشديدة في ذلك‬ ‫المجتمع‪ ،‬إضافة إلى الحرب الطويلة التي ش َّنتها‬ ‫أميركا وحلفاؤها على أفغانستان‪ ،‬وبعدها أعمال‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬


‫القتل الممنهجة للمدنيين باستخدام الطائرات من دون طيار‬ ‫في باكستان وأفغانستان واليمن وغيرها؛ كل ذلك ساهم‬ ‫في تأجيج مشاعر الظلم التي َّ‬ ‫النفسي‬ ‫غذت االستعداد‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫لدى األغلبية المسلمة َ‬ ‫تطرفا من شأنها‬ ‫لقبول مواقف أكثر‬ ‫استعادة القليل من احترام الذات والكرامة‪ ،‬في مواجهة ما‬

‫يرونه إهانة متواصلة لكرامتهم‪.‬‬

‫ويشير سراج الدين إلى إن مصر التي كانت تسيطر على‬

‫العربي أصبحت اليوم واحدة من‬ ‫السوق الثقافيّة في العالم‬ ‫ّ‬

‫كثير من منتجي الفن والثقافة‪ ،‬بعد أن أصبح اإلنتاج أكثر‬ ‫ً‬ ‫تنوعا من قبل‪ ،‬الف ًتا إلى انفتاح دول الخليج‪ ،‬بما تملكه‬

‫يؤكد سراج الدين أن هناك‬ ‫قويا في كثير من‬ ‫نموا‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫الصناعات الثقافية‪ ،‬ولقد‬ ‫تسارع هذا النمو بفضل‬ ‫جيل الشباب من الفنانين‪،‬‬ ‫وبخاصة عقب الربيع‬ ‫العربي‬

‫من مصادر ثروة هائلة أمام األفكار الجديدة؛ لتصبح مراكز‬

‫اإلعالمي والمؤسسات الثقافية‪ .‬وعلى الرغم‬ ‫عالمية لإلنتاج‬ ‫ّ‬ ‫العربي‪ ،‬فإن‬ ‫العالم‬ ‫في‬ ‫ًّا‬ ‫ي‬ ‫واقتصاد‬ ‫ًّا‬ ‫ي‬ ‫اجتماع‬ ‫الحال‬ ‫من تدهور‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫الثقافي‪ ،‬فاألدب‬ ‫ارتفاعا ملحوظا في النشاط‬ ‫المؤلف يجد‬ ‫ّ‬

‫االقتصاديّ الكبرى أث ًرا ال يمحى في أجيال في أميركا‪،‬‬

‫وفي أغلبية البلدان ترفض النخبة القديمة المسيطرة‬

‫السياسي من ظروف أسوأ‪،‬‬ ‫وشيوعية‪ .‬وقلما عانى المشهد‬ ‫ّ‬ ‫لكن التحوالت الثقافية التي طرأت على الغرب لم تدفعها‬

‫والسينما والمسرح والموسيقا تشهد ازدهارًا عجيبًا يشير إلى‬ ‫حال فصامية‪.‬‬

‫على المؤسسات السياسية واالقتصادية والثقافية إفساح‬ ‫المجال الزدهار المواهب الشابة؛ مما أدَّى إلى مناخ لم‬ ‫يشجع إال المواهب المتواضعة‪ ،‬وكبح قدرة الشباب على‬

‫المبادرة‪ ،‬وخلق فجوة واضحة بين األجيال؛ تفصل بين‬

‫النظام من جهة وجيل الشباب من الفنانين والمثقفين‬ ‫والقادة السياسيين المحتملين من جهة أخرى؛ مما زاد من‬ ‫االنفصام الذي حدث نتيجة لتب ِّني جيل الشباب التقنيات‬ ‫الحديثة المتصلة بثورة المعلومات واالتصاالت‪ ،‬التي‬

‫صيرت شكل الحياة جذريًّا‪ ،‬تلك الثورة التي ال يكاد آباؤهم‬ ‫يفهمونها‪ ،‬ناهيك عن أن يتمكنوا من أدواتها‪.‬‬

‫ويتأمل سراج الدين ما حدث من تحول واضح في‬

‫الغربي في المدة بين نهاية القرن التاسع‬ ‫الفن واألدب‬ ‫ّ‬ ‫عشر ونهاية الحرب العالمية الثانية‪ ،‬فقد تهاوت في تلك‬

‫المدة اإلمبراطوريات‪ ،‬وحدثت ثورات‪ ،‬وتركت حقبة الركود‬ ‫وشهدت ألمانيا تضخمً ا شديدً ا‪ ،‬وولدت أنظمة فاشية ونازية‬

‫قدمً ا النخب والمؤسسات الثقافية‪ ،‬بل الشباب المتم ّرد‬

‫والحركات الثقافية المضادة‪.‬‬

‫ويؤكد سراج الدين أن هناك نموًّا قويًّا في كثير من‬

‫الصناعات الثقافية‪ ،‬ولقد تسارع هذا النمو بفضل جيل‬

‫العربي‪ ،‬لكن‬ ‫الشباب من الفنانين‪ ،‬وبخاصة عقب الربيع‬ ‫ّ‬ ‫تلك الجوانب تتوازى مع تنامي التعصب الذي تظهره األنظمة‬

‫الشمولية‪ ،‬وتصاعد التشدّ د من جانب مجموعات تستخدم‬

‫السياسي؛ حتى‬ ‫السالح لتحقيق أشكال متطرفة من اإلسالم‬ ‫ّ‬ ‫اإلنساني المتحضر؛‬ ‫إن بعضها قد تخطى حدود السلوك‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫يتبق سوى جزر متفرقة من االنفتاح‬ ‫مثل‪ :‬داعش‪ ،‬ولم‬ ‫العربي الممتد‬ ‫منثورة داخل األراضي الشاسعة في العالم‬ ‫ّ‬ ‫األطلنطي إلى الخليج‪ .‬ومن ثم فإنه يشدد على‬ ‫من المحيط‬ ‫ّ‬ ‫حتمية مواجهة التطرف‪.‬‬

‫‪131‬‬


‫إصدارات‬

‫األنا والنحن‪ ..‬التحليل النفسي إلنسان ما بعد الحداثة المؤلف‪ :‬راينر فونك‬ ‫الناشر‪ :‬دار جداول ترجمة‪ :‬حميد لشهب‬

‫«نعيش في وقت لم نعد حتى متأكدين فيه من أسمائنا‪ ،‬من األشياء التي نحب‪ ،‬لقد أصبحنا فقط‬ ‫ً‬ ‫واصفا الحالة االغترابية‬ ‫مواد اقتصادية يتم استهالكها بأكثر الطرق بشاعة»‪ .» .‬هذا ما قاله إيريك فروم‬ ‫التي وصل إليها اإلنسان الحديث باعتباره الخسارة األعظم في ظل الربح االقتصادي المخيف وانتشار‬ ‫قوانينه القاتمة‪ .‬وهذا ً‬ ‫أيضا ما يؤكده كتاب «األنا والنحن‪ :‬التحليل النفسي إلنسان ما بعد الحداثة»‪،‬‬

‫الذي يعد وفق رأي كثير من المتخصصين استباقية علمية جدية‪ ،‬تمكنت من وصف إنسان ما بعد‬ ‫الحداثة في شموليته‪ ،‬وتحليل األسس النفسية واالجتماعية التي كونته وألغت كينونته الفطرية‪.‬‬

‫أغنية الطائر المؤلف‪ :‬أنتوني دو مِ ُّلو الناشر‪ :‬دار مسكيلياني‬

‫ليس هذا العمل عملاً قصصيًّا‪ ،‬وإن كان الكثير من الدارسين يضعونه في هذا القالب‪ .‬إنه في‬

‫الحقيقة استخالص لقيم معرفية وفلسفية واجتماعية‪ ،‬عبرت عن نفسها تحت ذريعة الحكاية‪.‬‬ ‫ً‬ ‫سابقا فيما يتعلق بالرؤية‬ ‫لقد حاول أنتوني دو م ُِّلو‪ ،‬المتوفى في عام ‪1987‬م‪ ،‬أن يؤكد ما آمن به‬

‫الصوفية‪ ،‬من أن الجمال يكمن في المعنى الباطن لألشياء‪ ،‬ومن أن الواضح ما هو إال تمويه‬ ‫لحقيقة الشيء‪.‬‬

‫‪132‬‬

‫القطة‪ ..‬التاريخ الطبيعي والثقافي المؤلف‪ :‬كاثرين روجرز‬ ‫ترجمة‪ :‬ريم أحمد الذوادي الناشر‪ :‬مشروع كلمة ‪ -‬أبو ظبي‬

‫َ‬ ‫العالقة بين القطط والبشر‪ ،‬التي تأرجحت بين التأليه واالحتقار من‬ ‫الكتاب‬ ‫يتتبّع‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫القرون السابقة إلى يومنا هذا الذي تحتل فيه القطط مكانة عزيزة كرفيق أليف إلى جانب‬

‫الوفي‪ .‬يقدم هذا الكتاب معلومات مفيدة ودقيقة عن تاريخ القطط وصورها في‬ ‫الكلب‬ ‫ّ‬ ‫األدب والفن‪.‬‬

‫أزمة بناء الدولة العربية المعاصرة‬

‫المؤلف‪ :‬أشواق عباس‬

‫الناشر‪ :‬مركز دراسات الوحدة العربية‬

‫إحدى اإلشكاليات السياسية المهمة التي واجهها العالم العربي‏ في ظروفه المعاصرة‬

‫عامة‪ ،‬ونظمه السـياسـية خاصة‪ ،‬منذ الحرب العالمية الثانية‪ ،‬وخالل المرحلة التاريخية‬ ‫التي رافقت بناء نموذج الدولة العربية المعاصرة؛ هي إشكالية اإلصالح وبناء الدولة‬ ‫ً‬ ‫وخصوصا إذا أخذنا في‬ ‫آن معً ا‪،‬‬ ‫العربية المعاصرة‪ .‬وهي إشكالية وطنيـة وقوميـة ودوليـة في ٍ‬

‫الحسبان أنّ تفاعالتها ال تزال نشطة ومتغيرة‪ ،‬أما نتائجها فال تزال مفتوحة على احتماالت‬ ‫قضية ً‬ ‫ً‬ ‫آنية ملحّ ة بقدر ما هي قضية مسـتقبلية‪ ،‬بالنسبة إلى‬ ‫كثيرة؛ األمر الذي يجعل منها‬

‫ي والمصالح القومية العليا‪ .‬وإذا كان اإلصالح هو العنوان العريض‬ ‫الدولة والنظام السياسـ ‏‬ ‫الظاهر لتدخل القوى األجنبية في البلدان العربية‪ ،‬فإنَّ المضمون الفعلي لهذا التدخل‬ ‫يتعدى‪ ،‬من دون شك‪ ،‬األبعاد السياسيـة‪ ،‬ليتحول في مجرى تطور األحداث والتغيرات‬

‫العاصفة الكبرى‪ ،‬إلى جزء من العالقات الدولية وصراعاتها في المنطقة‪.‬‬ ‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬


‫مجاز العلم‪ ..‬دراسات في أدب الخيال العلمي المؤلف‪ :‬سمر الديوب‬ ‫الناشر‪ :‬الهيئة العامة السورية للكتاب‬

‫تتناول مؤلفة هذا الكتاب أدب الخيال العلمي بعد االنطالق من جملة فرضيات‪ ،‬من‬

‫أهمها‪ :‬أن بالغة العلم تقابل بالغة األدب‪ ،‬وأن الخيال هو الذي يصنع العلم‪ .‬موضحة أنه ال‬

‫وجود منطقي للفصل بين ما هو علمي وما هو خيالي‪ ،‬فالعالقة هي عالقة تكاملية صرفة‪ ،‬بل‬

‫للخيال الذي هو إحدى الركائز المهمة الفضل في تدعيم عجلة التطورات العلمية‪ ،‬ولذا كان‬ ‫اختيار عنوان «مجاز العلم» توسيعً ا لهذا المفهوم‪ ،‬وتأكيدً ا إللغاء فكرة الحد العلمي الصارم‬

‫والحد األدبي‪.‬‬

‫فالسفة أيقظوا العالم‬

‫المؤلف‪ :‬مصطفى النشار‬

‫الناشر‪ :‬الهيئة العامة لقصور الثقافة‬

‫تاريخ الفلسفة ليس فقط مجادالت فكرية وفق وصف المؤمنين بالمنهج العلمي‬

‫التجريبي‪ .‬إنه مرحلة مهمة من الوعي البشري‪ ،‬ومسبب رئيس في تكوين الحضارة بمجاالتها‬ ‫كافة‪ ،‬هذا ما يؤكده المؤلف مقدمً ا بذلك أدلة واضحة وجادة؛ لدحض كل المساعي الدينية‬

‫أو غير الدينية‪ ،‬التي تحاول أن تسقط من القيمة الفلسفية في ظل طغيان اآللة والنموذج‬

‫الصناعي التجريبي الحديث‪.‬‬

‫‪133‬‬ ‫المؤلف‪ :‬إبراهيم الوافي‬

‫أقل من الشعر أكثر من الكالم‬ ‫الناشر‪ :‬مؤسسة االنتشار العربي‬

‫يشكل المجاز الشعري القائم على القالب النثري بعدً ا مهمً ا في شعر الوافي تأث ًرا‬

‫بالمدرسة الحديثة‪ ،‬حيث يصفه البعض بأنه متفرد في الساحة السعودية بتكثيف الرؤية‬ ‫المجازية‪ .‬ومن أجواء الديوان‪ :‬احتمل ُت َ‬ ‫ك قلت غدً ا سوف تأتي‪ ...‬لكن غدً ا ال يزال يج ُّر خطاه‬

‫ُ‬ ‫تركت لكم في رصيف الحكايات ظلي‬ ‫بساع ِة جدّي! أنا المستب ُّد على عثرتي‪ ..‬والمنافح عنها‪/‬‬ ‫الذي ال يرافقني حينما ال أكونُ أنا‪ /...‬احتمل ُت َ‬ ‫ك حين احتملت الخريف الطويل الذي ينتهي‬ ‫مثلما ينتهي‪.‬‬

‫نقد الفكر الديني‬

‫المؤلف‪ :‬السيد يسين‬

‫الناشر‪ :‬دار العين للنشر والتوزيع‬

‫يدرس المفكر السيد ياسين‪ ،‬في كتابه الجديد ماهية التفكير التكفيري وحال تدهوره‪،‬‬ ‫حتى وصل إلى مرحلة اإلرهاب الصريح‪ .‬ويقدم الكتاب تحليلاً لظاهرة داعش التي أعلنت‬ ‫قيام ما يسمى «الخالفة اإلسالمية» في كل من سوريا والعراق‪ .‬ينقسم الكتاب إلى قسمين‬

‫رئيسيين‪ ،‬األول عنوانه‪« :‬الفكر الديني بين التشدد والتجدد»‪ .‬ومن محاوره‪ :‬مناظرة بين‬

‫المؤلف ورئيس «االتحاد العالمي لعلماء المسلمين» يوسف القرضاوي‪ .‬كما يتطرق الباحث‬ ‫في كتابه إلى طبيعة النظرة األميركية بشأن اإلسالم الليبرالي‪ .‬أما القسم الثاني فموضوعه‬

‫«تشريح للسلوك اإلرهابي تحليل ثقافي»‪ ،‬ويضم فصلين‪ :‬األول عن ظاهرة اإلرهاب‪ ،‬والثاني‬ ‫عن تشريح ألبعاده‪.‬‬


‫ثقافات‬

‫الفائزة بجائزة نوبل لآلداب مهمومة بدراسة‬ ‫«اإلنسان األحمر» منذ ميالده حتى انهياره‬

‫سفيتالنا أليكسييفيتش‪:‬‬ ‫الحرية عمل طويل وشاق‬ ‫ترجمة‪ :‬محمد جليد‬ ‫صحافي ومترجم مغربي‬

‫ال يزال فوز الكاتبة البيالروسية «سفيتالنا أليكسييفيتش» بجائزة‬

‫‪134‬‬

‫نوبل يلقى أصداء واسعة في أنحاء كثيرة من العالم؛ إذ منحت‬ ‫الجائزة تقديرًا لعمل يستكشف اآلثار التي ّ‬ ‫خلفتها الكوارث الكبرى‬ ‫خالل القرن السوفييتي في األذهان (مثل‪ :‬الحرب العالمية‬ ‫الثانية‪ ،‬والحرب ضد أفغانستان‪ ،‬وتشيرنوبيل‪ ،‬وانهيار االتحاد‬ ‫السوفييتي)‪ .‬وتتوقف الكاتبة‪ ،‬في حوار لجريدة «لوموند»‬ ‫ّ‬ ‫وتشكل عملها وحمولته‬ ‫الفرنسية‪ ،‬عند طريقتها في الكتابة‪،‬‬

‫الميتافيزيقية‪ .‬ففي نقدها الالذع لسياسة «فالديمير بوتين»‪،‬‬ ‫ترسم ً‬ ‫أيضا الحنين إلى الحقبة السوفييتية التي سادت فيها‬ ‫روسيا‪ ،‬وإحباطات االنتقال الديمقراطي‪ ،‬والصحوة‬ ‫القومية التي يفرضها الرئيس الروسي‪.‬‬

‫ما فتئت «أليكسييفيتش» تستكشف أغوار‬

‫الروح الروسية‪ ،‬منذ الحرب العالمية الثانية حتى‬ ‫عهد «فالديمير بوتين»‪ .‬في هذا الحوار تسلط‬ ‫الضوء على اهتماماتها األدبية‪.‬‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬


‫ما الذي غيرته فيك هذه الجائزة؟‬

‫‪ -‬في جميع الحاالت‪ ،‬لن تغير هذه الجائزة أي شيء في‬

‫طريقة عملي؛ ألن األمر مختلف من الناحية االجتماعية‪ ،‬حيث‬ ‫وضعي مختلف‪ .‬فعلى سبيل المثال‪ّ ،‬‬ ‫وقعت ثالث رسائل مساندة‬ ‫إلى «أوليغ نافالني» (شقيق المعارض الروسي «أليكسي نافالني»‬

‫المسجون بتهمة مخالفة مالية)‪ ،‬وإلى «نادية سافتشينكو» (وهي‬

‫جندية أوكرانية أدانها القضاء الروسي؛ بسبب القتل)‪ .‬وهذا يعني أنه‬ ‫ً‬ ‫هامشا كبي ًرا للمناورة‬ ‫عندما نعيش في كنف نظام سلطوي‪ ،‬ال نملك‬ ‫والعمل؛ إذ يمكن أن نحصل على ثالث جوائز نوبل‪ ،‬دون أن يكفي‬

‫ذلك إلسماع صوتنا‪.‬‬

‫قلت مرارًا‪« :‬لست امرأة متمردة»‪ .‬هل أرادت لجنة نوبل أن‬

‫تدفعك للعب هذا الدور ً‬ ‫رغما عنك؟‬

‫_ كال‪ .‬أظن أن ما يهمها هو الخاصية األدبية؛ ألن مشروعي‬

‫هو دراسة «اإلنسان األحمر»‪ ،‬اإلنسان السوفييتي‪ ،‬منذ ميالده حتى‬

‫مهما في‬ ‫حيزا‬ ‫يحتل السرد النسائي ً‬ ‫ًّ‬ ‫علي التوجه نحو‬ ‫مخيلتي؛ إذ يصعب‬ ‫ّ‬ ‫الفضاء الذكوري‬

‫انهياره‪ .‬نتمنى أن يرحل هذا الرجل‪ ،‬لكنه يغادر وهو يصفق الباب‬ ‫ً‬ ‫مخلفا بعض الخوف‪ .‬جوهر سؤالي هو‪ :‬ما الذي ترسّ ب في‬ ‫وراءه‪،‬‬

‫أريد الحديث عن الحب والموت اآلن‪ ،‬دون شجون بالطبع‪ ،‬مع‬

‫الترسبات؟ مع مجيء الرأسمالية الوحشية والبؤس القائم‪ ،‬ال نعرف‬

‫ولماذا ال نفلح في بلوغها؟ ربما ليس األمر كذلك في كل مكان‪ ،‬لكني‬

‫أعماق الشعب خالل الحقبة السوفييتية‪ ،‬وما الذي ستفرزه تلك‬ ‫ما سينتهي إليه ذلك؛ فإما إلى ثورة شعبية‪ ،‬وإما إلى نزعة قومية‬

‫قوية جدًّا‪ .‬ففي جميع أسفاري إلى كل مكان‪ ،‬في بيالروسيا‪ ،‬أو‬

‫روسيا‪ ،‬أو أوكرانيا‪ ،‬أو كازاخستان‪ ،‬وجدت الناس عدوانيين جدًّا‪.‬‬ ‫يقول بعض ّ‬ ‫الكتاب‪ :‬إن كل كِتاب يستبعد اآلخر‪ .‬وأنت‬

‫مواصلة التحقيق حول المعاصرين لي‪ .‬لماذا نطمح إلى السعادة؟‬ ‫سأنشغل بالصيغة الروسية منها!‬ ‫التخلص مما هو مبتذل‬

‫كيف تحققين القول الجيد الذي يشكل قيمة كتبك؟‬

‫تقدمين اإلحساس بعكس ذلك‪ ،‬أي أن كل كتاب يمثل لبنة‪ ،‬وأن‬

‫‪ -‬أسجل كل شيء؛ ألنه قد يفوتنا بعض التفاصيل الدقيقة‪،‬‬

‫‪ -‬لدي انطباع بأنني ال أكتب سوى كتاب واحد يروي تاريخ الروح‬

‫فحسب‪ .‬ففيما يخص «توسل»‪ ،‬وهو كتابي حول «تشيرنوبيل»‪ ،‬فقد‬

‫أعمالي «ليس للحرب وجه امرأة»‪ ،‬كنت في الثالثين‪ ،‬وكان يراودني‬

‫بمئة‪ .‬وبالنسبة إلى الشهادات الطويلة‪ ،‬أذهب لمقابلة الشخص عشر‬ ‫مرات‪ .‬أحاول أولاً التخلص بسرعة من كل ما هو مبتذل‪ .‬ما أهتم‬

‫لك فكرة مسبقة عن الصرح الذي تشيدينه‪.‬‬

‫الروسية والسوفييتية‪ .‬عندما شرعت عام ‪1978‬م فيما سيصبح باكورة‬

‫عندما نسجل بالقلم؛ إذ ينبغي التقاط بواطن الناس‪ ،‬ال كلماتهم‬ ‫تحدثت مع خمس مئة شخص‪ ،‬ولم أحتفظ من التسجيالت سوى‬

‫انطباع أولي؛ إذ أدركت‪ ،‬وأنا أجمع شهادات نساء حول الحرب‬ ‫العالمية الثانية‪ ،‬أن األيديولوجيا السوفييتية ال تزال قوية‪ .‬فضلاً عن‬

‫به هو التفاصيل الجديدة ودقائق األشياء التي ال نتساءل عنها أبدًا‪.‬‬

‫جدًّا‪ .‬لكن عندما ذهبت إلى أفغانستان بعد بضع سنوات‪ ،‬وتحدثت‬

‫الذي نطالعه في الجرائد‪ ،‬حيث الملموس غائب‪ ،‬مثلما هو الشأن‬

‫ذلك‪ ،‬لم يكن ليحصل أي انتصار روسي لو لم يكن هذا المثال قويًّا‬ ‫مع الناس هناك‪ ،‬أدركت أن هذا المثال كان متصد ًعا‪ .‬هكذا‪ ،‬فهمت‬

‫أن كل هذه الكتب ستشكل مشرو ًعا واحدًا‪ .‬ثم في عام ‪1992‬م كنت‬

‫وعلى العموم‪ ،‬تفتقد المقابلة األولى إلى الطابع المادي‪ .‬هو ذاك‬ ‫بالنسبة إلى تفاصيل األحاسيس‪ .‬أما أنا‪ ،‬فأبحث في رفقة الناس‬ ‫عن المعنى العميق في كل ما عاشوه‪ .‬في بعض األحيان‪ ،‬ال يظهر‬

‫شاهدة‪ ،‬بُعيد البيريسترويكا‪ ،‬على موجة االنتحارات (وقد أع ّد‬

‫مضي ثالث أو أربع سنوات على التسجيل‪ .‬ثم‬ ‫هذا المعنى إال بعد‬ ‫ّ‬

‫وقد ألهمني هذا الموضوع كتابي «مسحورون بالموت»‪ ،‬الذي كان‬

‫الحديث عنه بالضبط‪ ،‬فأجد نبرته الخاصة‪.‬‬

‫البيريسترويكا طبقة مختارة من المثقفين‪ ،‬بينما كان الشعب ضائعً ا)‪.‬‬ ‫بمنزلة مسودة أولى لكتابي «نهاية اإلنسان األحمر» (‪2013‬م)‪ .‬هنا تشكل‬

‫نهائيًّا مشروعي حول «اإلنسان األحمر»‪ ،‬منذ نشأته حتى أفوله‪.‬‬

‫أع ّد اليوم أن تلك الحلقة حول أصوات الطوباوية انتهت؛ ذلك‬

‫ألن الكتابة عما يجري في هذه اللحظة‪ ،‬في عهد بوتين‪ ،‬ستكون‬ ‫مجرد عمل صحافي‪ ،‬حيث ال وجود للمسافة الضرورية‪ .‬أعرف أنني‬

‫إن عنوان الكتاب مهم‪ .‬فعندما أجد العنوان‪ ،‬أعرف حينها ما سيدور‬ ‫ستحين ربما لحظة الحديث عن عالقات اإلنسان بالعالم‬

‫والحيوانات والكون‪ .‬لكن العالم الروسي ما زال همجيًّا‪ ،‬حيث تبقى‬ ‫مسألة العالقات بين الناس هي األوْلى‪ .‬ففي اللحظة الراهنة‪ُ ،‬ت ّ‬ ‫حل‬

‫مشكالت كثيرة بالقتل‪ ،‬فمنذ ثالثين سنة‪ ،‬وأنا أنشغل باألمور‬ ‫المرعبة‪ ،‬وأحاول إدراك معناها‪.‬‬

‫‪135‬‬


‫ثقافات‬

‫هل يمكن القول‪ :‬إن ثمة حمولة ميتافيزيقية في عملك؟‬

‫‪ -‬هذا أمر جوهري‪ ،‬وإال سيكون مجرد صحافة؛ ذلك ألنني أضع‬

‫جاء «بوتين» إلى‬

‫الناس أمام ورطة السؤال‪ :‬من هم؟ ما الذي فعلوه؟ وهم يجيبون‬

‫السلطة معل ًنا‬

‫عن هذه األسئلة‪.‬‬

‫قوله‪« :‬أصدقاؤنا‬

‫يبدو أن النساء يلعبن دورًا في بناء كتبك‪...‬‬

‫الوحيدون‬

‫‪ -‬أذكر أحاديث النساء داخل المطبخ عندما كنت صغيرة‪ ،‬فما‬

‫زلت أسمع صوت جدتي األوكرانية المحبوبة‪ .‬أجل‪ ،‬يحتل السرد‬ ‫علي التوجه نحو الفضاء‬ ‫النسائي حي ًزا مهمًّا في مخيلتي؛ إذ يصعب ّ‬ ‫الذكوري؛ ذلك ألن النساء يستطعن التكلم عن الحرب في المطابخ‪،‬‬ ‫لكن بطريقة مختلفة جدًّا‪ .‬أذكر‪ ،‬بالنسبة لكتاب «ليس للحرب وجه‬ ‫امرأة»‪ ،‬أنني التقيت زوجين ذكرياتهما ال تتشابه إلى حد أن كل واحد‬

‫منهما كان يندهش مما يرويه اآلخر حوله‪ .‬أما بالنسبة لحبهما‪ ،‬فهي‬ ‫تتذكر كل شيء‪ ،‬وهو ال شيء!‬

‫هل هناك ميل روسي نحو االعتراف؟‬

‫‪ -‬أجل‪ ،‬ينفتح الروس على ذواتهم بسهولة كبيرة‪ .‬يعود هذا‬

‫األمر‪ ،‬ربما‪ ،‬إلى الحياة السوفييتية‪ ،‬وإلى العالقة بالحياة الجماعية‪.‬‬

‫فالمحكيات حميمية جدًّا‪ ،‬لكنها ال تملك‪ ،‬في المقابل‪ ،‬أي مكون‬ ‫جسدي أبدًا؛ ألن األمر يكون ًّ‬ ‫خاصا جدًّا‪ ،‬عندما نتكلم عن الحب في‬

‫‪136‬‬

‫هم الجيش‬ ‫واألساطيل»‪ ،‬فأنفق كل أموال النفط‬ ‫والغاز على الجيش‪ .‬ولم يقل‪ :‬إننا يجب أن‬ ‫نفخر بديمقراطية ما‪ ،‬بل تح َّدث فقط عن‬ ‫روسيا الكبرى واالحترام الذي يك ّنه لها‬ ‫الذي يستعمله «فالديمير بوتين»؛ لتحديد الفضاء الناطق‬

‫بالروسية خارج حدود روسيا‪ ،‬الذي يتحمل مسؤولية ما تجاهه‪.‬‬ ‫هل تعترفين‪ ،‬أنت الكاتبة البيالروسية باللغة الروسية‪ ،‬بهذا‬

‫المفهوم؟‬

‫‪ -‬لي ثالثة جذور‪ :‬جذور أوكرانية‪ ،‬وجذور بيالروسية‪ ،‬والثقافة‬

‫األدب‪ ،‬حيث يغيب الجسد تمامًا‪ .‬بل ال يشار إليه حتى بكلمة‪ .‬والحب‬

‫الروسية‪ .‬ولوال الثقافة والفلسفة الروسية‪ ،‬ما صرت أبدًا ما أنا عليه‬

‫الحرب‪ ،‬أو السجن‪ ،‬أو محطة «تشيرنوبيل» في حالة سيئة‪ .‬فحب‬

‫عالم «بوتين»‪ ،‬وهو عالم «تشوستاكوفيتش»‪ ،‬و«دوستويفسكي»‪،‬‬

‫الروسي هو‪ ،‬في الغالب‪ ،‬تلك المرأة التي تنتظر الرجل‪ ،‬وهو عائد من‬

‫المرأة هو تضحية على الدوام‪ .‬في كتاب «توسل» على سبيل المثال‪،‬‬

‫تذهب امرأة لترى زوجها في المستشفى‪ ،‬حيث أصبح جسدًا مشعًّ ا‬ ‫محجو ًزا خلف الحجب والستائر‪ .‬تقترب منه رغم المنع‪ .‬يمد إليها‬ ‫ً‬ ‫تفاحة‪ .‬تأخذها‪ .‬بعد ذلك‪ ،‬تنجب فتاة مشوهة الخلقة‪ ،‬ستموت بعد‬ ‫بضعة أيام‪.‬‬

‫أصبحت الكنيسة جهاز مراقبة‬

‫ما عالقتك بالدين؟ وما هي نظرتك إلى عودته؟‬

‫اليوم‪ ،‬وما كتبت «توسل»‪ ،‬لكن «عالمي الروسي» مختلف جدًّا عن‬

‫و«تشيخوف»‪ ،‬و«روستروبوفيتش»‪ ،‬و«هيرزن»‪ ...‬أما العالم الروسي‬

‫الذي أطمح إليه‪ ،‬فهو يمر عبر دعم الغربيين أوكرانيا دعمًا قويًّا؛‬ ‫ذلك ألن نجاح أوكرانيا وتحولها سيكون أفضل حجة تدحض خطابات‬

‫«بوتين»‪.‬‬

‫ً‬ ‫عدوانا عسكريًّا ضد‬ ‫لطالما اعتبرت الحرب في «دونباس»‬ ‫أوكرانيا‪ ،‬واحتاللاً لها‪ .‬ال مجال للشك في أنه بغياب «بوتين»‪ ،‬لن‬ ‫تكون هناك أي حرب مدنية في هذا اإلقليم؛ إذ يمكن إحضار خمس‬

‫شاحنات من الكالشنكوف إلى بيالروسيا‪ ،‬فيتكرر السيناريو نفسه‪،‬‬

‫‪ -‬تخيفني عودة الشأن الديني؛ إذ أصبحت الكنيسة األرثوذكسية‬

‫ً‬ ‫أشخاصا مستعدين إلطالق النار‪ .‬أما حالة شبه‬ ‫حيث نجد دائمًا‬

‫الناطق الرسمي باسمها‪ ،‬الذي يقول‪« :‬من حسن الحظ‪ ،‬أصبحت‬

‫خبر إلحاقها الجديد‪ .‬لكن يجب إجراء انتخابات حرة‪ ،‬بغية معرفة‬ ‫ما يفكر فيه السكان فعلاً ‪ .‬لقد وصل الروس بكل بساطة إلى هناك‪،‬‬

‫الروسية جهاز سلطة ومراقبة‪ .‬لقد سمعنا في اآلونة األخيرة إعالن‬

‫سنوات الثراء وراءنا‪ ،‬فهي التي تشغل األرواح عن التضحية!» وعلى‬

‫جزيرة القرم‪ ،‬فهي أكثر تعقيدًا‪ .‬أعرف أناسً ا بكوا فرحً ا لما سمعوا‬

‫واستولوا على هذا اإلقليم‪.‬‬ ‫ً‬ ‫اإلحاالت على الحرب العالمية الثانية حاضرة أيضا بقوة‬

‫مواز‪ ،‬يستعرض بطريركنا ساعاته الجميلة وسياراته‪ .‬عندما‬ ‫نحو‬ ‫ٍ‬ ‫أسافر في روسيا‪ ،‬أرى الكثير من األبرشيات‪ ،‬لكن استقالل الروح عند‬ ‫القساوسة يختفي شي ًئا فشي ًئا‪.‬‬

‫في الخطابات الروسية الرسمية‪ ،‬وفي هذا النزاع‪...‬‬

‫شيوعيًّا‪ .‬أنا مؤمنة‪ ،‬لكني أشبه فنانة‪ :‬عندما أرى حديقة جميلة‪،‬‬

‫الروسية الراهنة ورأسمالها الوحيد‪ .‬عندما مُنحت جائزة نوبل‪،‬‬

‫أما بالنسبة إلي‪ ،‬فقد سمّتني جدتي في غياب أبي الذي كان‬

‫أجدني محمولة إليها‪ .‬وعندما فقدت أختي‪ ،‬ذهبت إلى الكنيسة‪ ،‬كأن‬

‫ذلك أمر بديهي‪.‬‬

‫تتحدثين عن «العالم الروسي»‪ ،‬وهو التعبير نفسه‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬

‫‪ -‬الحرب العالمية الثانية هي الثروة الوحيدة المتبقية للسلطة‬

‫سارعت الصحافة الروسية إلى وصفي بالمصابة بالرهاب الروسي‬ ‫والـ«بنديروفيسية» (اسم يطلق على القوميين األوكرانيين الذين‬ ‫حاربوا إلى جانب النازيين)‪ .‬وعندما كنت في أفغانستان منذ ثالثين‬


‫الفائزة بجائزة نوبل لآلداب سفيتالنا أليكسييفيتش‪ :‬الحرية عمل طويل وشاق‬

‫سنة‪ ،‬كنت أسمع حينها كل هذه اإلحاالت على عام ‪1941‬م‪ ،‬وعلى‬

‫دورنا كمحررين‪ .‬وفي النهاية‪ ،‬رأيت مدى كره الروس هناك‪ .‬كان‬

‫ذلك بمنزلة صدمة‪.‬‬ ‫بوتينية؟‬

‫‪1990‬م يدعم «بوتين» بقوة‪ ،‬يردد خطاباته حول اإلهانة‪ ،‬والحاجة‬ ‫ً‬ ‫أشخاصا مختلفين‪،‬‬ ‫إلى زعيم قوي‪ .‬أما نحن‪ ،‬كنا نتخيل أن‬ ‫ً‬ ‫أشخاصا أحرارًا سيظهرون؛ ألن هذه العقلية ترتبط كثي ًرا‬

‫هل هناك «نزعة بوتينية»‪ ،‬أو أيديولوجية‬

‫بما يحكيه آباؤهم عن الرعاية الصحية المجانية‪،‬‬ ‫والتربية‪ ،‬واالرتقاء االجتماعي السوفييتي‪ ...‬وربما‬ ‫ينبغي أن ننتظر أكثر‪ ،‬أو ربما يلزم أولاً أن يتغير‬

‫‪ -‬في عام ‪1991‬م‪ ،‬استيقظ الشعب في بلد‬

‫جديد وغامض‪ .‬والتزم الصمت‪ .‬ثم عندما أغلقت‬

‫من هم في القمة‪ ،‬حتى تندثر عقلية العبيد هذه‪.‬‬

‫المعامل أبوابها‪ ،‬ولم يجد الناس ما يأكلونه‬

‫في كل الحاالت يكمن واجبنا في تنوير‬

‫سوى البطاطس‪ ،‬بدؤوا يمقتون «الديمقراطيين‬

‫الشعب؛ إذ ال يكفي النزول إلى الشارع وحرق‬

‫األحرار»‪ .‬وبعد عشرين سنة من الصمت‪ ،‬جاء‬ ‫«بوتين» إلى السلطة معل ًنا قوله‪« :‬أصدقاؤنا‬ ‫الوحيدون هم الجيش واألساطيل»‪ ،‬فأنفق كل‬ ‫أموال النفط والغاز على الجيش‪ .‬ولم يقل‪ :‬إننا‬

‫العجالت؛ ألن الناس يعتقدون أن وجود زعيم‬ ‫جيد يسمح ّ‬ ‫بحل المشكالت‪ .‬لقد خرجنا‪ ،‬في حقبة‬ ‫سابقة‪ ،‬إلى الشارع‪ ،‬وصرخنا مرددين‪« :‬يلتسين‪،‬‬

‫فيودور دوستويفسكي‬

‫يجب أن نفخر بديمقراطية ما‪ ،‬بل تحدث فقط عن روسيا الكبرى‬ ‫واالحترام الذي يك ّنه لها‪ ...‬في عهد «يلتسين»‪ ،‬كان يقال على الدوام‪:‬‬ ‫إنه ال بد من «فكرة وطنية» بغية تعزيز تماسك البلد والمجتمع‪ .‬وها‬

‫هو «بوتين» قد عثر عليها‪ ،‬فأثار ذلك إعجاب الشعب‪ .‬وبدأنا‪ ،‬نحن‬ ‫اإلنتلجنسيا األقلية‪ ،‬نشعر بالخوف‪ .‬كنا ننتظر شي ًئا آخر‪ ،‬وليس فقط‬ ‫شعارات‪ ،‬وإعادة توزيع البترول على األوليغارشيا وأصدقاء «بوتين»‪.‬‬ ‫ما يخفيه هذا الخطاب هو أن الغربيين «أهانوا» روسيا‬

‫طوال خمس وعشرين سنة‪ .‬أال تشاطرين هذه الفكرة؟‬

‫يلتسين!»‪ ،‬لكن لم يتحقق أي شيء‪ .‬فالحرية عمل‬

‫طويل وشاق‪ .‬إنها مسار‪ .‬هذا ما يجعلني أعارض الثورات والمتاريس؛‬ ‫إذ يجب أن تحدث التغييرات على أيدي أشخاص أحرار‪ ،‬وإال لن يفرز‬

‫هذا األمر سوى سفك الدماء‪.‬‬

‫خالل الحقبة السوفييتية‪ ،‬هل كنت تشعرين بأنك‬

‫تنتمين إلى المجتمع الشيوعي؟ وهل تشاطرين الحنين إلى‬ ‫شخصياتك لهذه القيم التي اختفت اليوم‪ ،‬مثل روح التضحية‪،‬‬

‫واإليثار‪ ،‬وازدراء المال؟‬

‫‪ -‬بل كنت أشعر بانتمائي إلى الهامش‪ ،‬لكنه كان العالم الوحيد‬

‫‪ -‬ثمة جزء من الحقيقة‪ .‬لقد وعد حلف الشمال األطلسي‬

‫الذي عرفته‪ .‬لقد اتصف الناس باالزدواجية في تلك الحقبة‪ .‬كانوا‬

‫أنه منتصر‪ ،‬فارتكب أخطاء كثيرة؛ إذ يعد اإلحساس باإلهانة واقعيًّا‬

‫كانوا هم أنفسهم من يكتبون بيانات االستنكار التي تفحص داخل‬

‫«غورباتشوف» بعدم نصب صواريخ في جوار روسيا‪ ...‬شعر الغرب‬

‫عند الروس‪ .‬حاليًا‪ ،‬يشرحون لهم في التلفزيون أن الغرب يريد أن‬ ‫يسرق بترولنا وغازنا‪.‬‬

‫متحف لضحايا القمع‬

‫تصفين على امتداد عملك أثر األيديولوجيا السوفييتية‬

‫في األفراد‪ .‬هل أفرزت هذه األيديولوجيا البوتينية أثرًا ما في‬ ‫اإلنسان الروسي؟‬

‫مستعدين للوقوف في طوابير لشراء دواوين «أنا أخماتوفا»‪ ،‬لكنهم‬

‫المعسكرات‪.‬‬

‫ً‬ ‫بسيطا‪ :‬بيريا‪ ،‬ستالين‪ ...‬لكن هذا‬ ‫كنا نحب أن يكون الشر أم ًرا‬ ‫الشر كان منتش ًرا ومتغلغلاً في كل واحد منا؛ ولهذا أكتب‪ ،‬ليس‬ ‫ألعرض الئحة الفظائع‪ ،‬أو ألسحق القراء‪ ،‬وإنما ليبحث كل واحد‬

‫في ذاته عن جانبه من اإلنسانية‪ ،‬ويحاول الحفاظ عليه‪ .‬إنها خيارات‬ ‫كل لحظة‪ :‬فعندما يدعونك إلى مظاهرة لدعم «بوتين»‪ ،‬عليك أن‬

‫تطرح أسئلة ما!‬

‫‪ -‬نعم‪ .‬ال أتعرف إلى األشخاص؛ إذ فقدت بعض أصدقائي‪.‬‬

‫عشت سنوات عديدة في أوربا الغربية؛ هل تدركين هذا‬

‫التلفزيون حول «تشكيا» (الشرطة السياسية القديمة) وستالين‪ ...‬بل‬

‫‪ -‬ال يتعلق هذا الخوف بأوربا الغربية وحدها؛ إذ إن بولونيا‬

‫لم ننتبه كثي ًرا إلى األعراض األولى‪ ،‬وإلى كل هذه األفالم التي يبثها‬

‫نحاول تبرير أفعال «بيريا» (رئيس المفوضية السوفييتية للشؤون‬

‫الداخلية)‪ .‬وفي مدينة «بيرم»‪ ،‬حُ وِّل متحف مخصص لضحايا القمع‬

‫إلى «متحف عمال الغوالغ‪ ،‬أي الحرس! ال يأتي كل شيء من فوق‪،‬‬ ‫من «بوتين»؛ ذلك ألن بعض المبادرات تأتي من القاعدة‪ ،‬أي من‬ ‫الشعب‪.‬‬

‫أندهش من الشباب خاصة‪ .‬فهم يقودون سيارات جميلة‪،‬‬

‫ويرتدون بدالت راقية‪ ،‬لكنهم يبقون عبيدًا؛ إذ إن جيل ما بعد عام‬

‫التوتر الهوياتي في أوربا‪ ،‬وخشيتها من المستقبل؟‬

‫صوتت مؤخ ًرا لصالح قوميين‪ ...‬فرجل الشارع يعيش في الخوف‪:‬‬

‫الخوف من الدولة اإلسالمية‪ ،‬الخوف من اإلرهاب‪ ،‬الخوف من‬ ‫«بوتين»‪ ...‬أما الخوف من فقدان الهوية‪ ،‬فال أساس له؛ إذ يعد‬

‫مليون الجئ وسط ساكنة أوربية تق ّدر بـ ـ ‪ 500‬مليون نسمة مجرد قطرة‬

‫ماء‪ .‬كنت في مدينة البندقية منذ مدة‪ .‬انتظمت هناك في حركة‬ ‫معينة‪ ،‬نزل فيها الناس إلى الشارع‪ ،‬تعبي ًرا عن مساندتهم لالجئين‪.‬‬ ‫في تلك اللحظة‪ ،‬كنت فخورة بأوربا‪.‬‬

‫‪137‬‬


‫ثقافات‬

‫‪138‬‬

‫زين العابدين عبدالكالم‪..‬‬

‫تحويل األحالم‬ ‫إلى أفعال‬

‫ترجمة وتقديم‪ :‬لطفية الدليمي‬ ‫روائية ومترجمة عراقية‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬


‫يمثل الرئيس والعالم الهندي الراحل زين العابدين عبدالكالم ( ‪2015 - 1931‬م) شخصية استثنائية مميزة‪،‬‬

‫فهو العالم والمهندس وواضع أسس البرنامج الهندي في الميدان النووي والصاروخي‪ ،‬ولكنه من جانب‬

‫آخر رجل رؤيوي من طراز مميز‪ ،‬ولعل قصيدة «الرؤية» التي قرأها في البرلمان الهندي أثناء حفل تنصيبه‬ ‫رئيسا تكشف ً‬ ‫ً‬ ‫شيئا من شخصيته الرؤيوية‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وتسلقت‪...‬‬ ‫تسلقت‬ ‫ّ‬ ‫القمة‪ ،‬يا ر ّبي؟‬ ‫أين‬ ‫حرثت وحرثت‪...‬‬

‫أين كنز المعرفة‪ ،‬يا ر ّبي؟‬

‫أبحرت وأبحرت‪...‬‬

‫أين جزيرة السالم‪ ،‬يا ر ّبي؟‬

‫أ ّيها العظيم القدرة‪...‬‬

‫بارك ّ‬ ‫أمتي بالرؤية والكدح المفضيين إلى السعادة‬

‫نشر عبدالكالم سيرته الذاتية المهنية تحت عنوان «أجنحة من نار»‪ ،‬وقد ظهرت مترجمة إلى العربية‬

‫ّ‬ ‫ولكن ثمة كتا ًبا آخر نشره الراحل تحت عنوان «رحلتي‪ :‬تحويل‬ ‫عام ‪2009‬م ضمن مشروع كلمة للترجمة‪،‬‬ ‫األحالم إلى أفعال» عام ‪2013‬م‪ ،‬ويتناول في هذه السيرة الصغيرة تفاصيل شخصية دقيقة من حياته؛ تلك‬

‫التفاصيل التي قلما يتم تناولها في العادة‪.‬‬ ‫إنها فرصة رائعة ًّ‬ ‫ّ‬ ‫أتقدم لقرّاء مجلة «الفيصل» الكرام بترجمة للمقدمة القصيرة التي كتبها الراحل‬ ‫حقا أن‬ ‫عبدالكالم لكتابه «رحلتي» ً‬ ‫علما أنني سأعكف على ترجمة الكتاب كاملاً متى أتيحت لي الفسحة المناسبة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫شيئا من احترام مستحق لهذا الرجل الذي أبان لنا كيف يمكن للجهد‬ ‫ولست أرى في هذا الجهد إال‬

‫والمثابرة مع الرؤية المقترنة بالطموح أن تحقق أفعالاً أقرب إلى األعاجيب‪.‬‬

‫نحل جديدة قد ظهرت بين فروعها‪ ،‬وبينما كنت أحدّ ق بأعلى‬ ‫ً‬ ‫عميقا في أرض هذه المدينة‪ :‬مدينة‬ ‫الشجرة الضاربة جذورها‬

‫المترجمة‬

‫تحكي رحلتي هذه تجارب مميزة ومحدّ دة في حياتي ابتداءً‬ ‫ُ‬ ‫تجاوزت الثمانين‪ ،‬وفي كل سنوات‬ ‫من طفولتي إلى اليوم إذ‬

‫نحو عظيم‬ ‫دلهي‪ ،‬فإنّ شي ًئا ما في تلك البرهة ذ ّكرني وعلى‬ ‫ٍ‬ ‫الوقع والتأثير بأبي‪ :‬كان أبي هو اآلخر معتادًا على االستيقاظ‬ ‫ّ‬ ‫المبكر من النوم‪ ،‬وقضاء الساعات المبكرة األولى من يومه مع‬

‫الحلم في جميع األطوار المختلفة من حياته‪ ،‬ومن ثمّ يعمل‬

‫ليذرع طرقات البلدة التي كنا نقيم فيها‪.‬‬

‫هذا فإن النجاح سيكون قريبًا من التحقق ال محالة‪ .‬أقول دومً ا‬

‫الطبيعة وهو يتفحّ ص أشجار الكاكاو العائدة له‪ ،‬ثم يمضي‬ ‫استرجعت ذاكرتي في تلك اللحظة ‪-‬مع ابتسامة على‬ ‫ّ‬ ‫المبكرة والناس‬ ‫وجهي وإحساس غامر بالسعادة‪ -‬طفولتي‬ ‫الذين م ّروا بحياتي وأولئك الذين صافحَ ْ‬ ‫ت يدي أياديهم في‬ ‫مضيت ّ‬ ‫ُ‬ ‫أتفكر مل ًّيا في نوع ال ّرحلة التي‬ ‫رحلة حياتي الطويلة‪ ،‬ثم‬ ‫ّ‬ ‫مثل ْتها حياتي‪ :‬المسالك غير المعتادة التي طرق ُتها‪ ،‬واألشياء‬ ‫ُ‬ ‫رحت‬ ‫التي رأي ُتها‪ ،‬والحوادث التي كنت جزءً ا فاعلاً فيها‪ ،‬ثم‬

‫أتساءل‪ :‬هل ينبغي لتلك الذكريات والتجارب أن تبقى لي‬

‫حياتي تلك وخالل جميع التجارب التي مرر ُْت بها كان الدرس‬ ‫األكثر أهمية الذي ّ‬ ‫تعلمته منها هو أنه ينبغي للمرء مواصلة‬

‫بجدية ومثابرة في سبيل تحقيق تلك األحالم‪ ،‬ونحن إذا ما فعلنا‬ ‫للكثيرين الذين أقابلهم‪« :‬األحالم ليست ما نراه في منامنا‪ ،‬بل‬

‫هي بالضبط ما ينبغي أن يجعلنا ال ننام أبدً ا!!»‪.‬‬

‫ّ‬ ‫أتمشى‬ ‫جاءتني فكرة كتابة هذا الكتاب في أحد األيام وأنا‬

‫في حديقة منزلي‪ ،‬ومثلما يحصل في كل م ّرة وقفت تحت‬

‫شجرة األرجونا* الضخمة التي يقارب عمرها المئة من السنوات‪،‬‬ ‫ومضي ُ‬ ‫ْت أتأمّ ل فروعها العلوية البعيدة وأتفحص فيما لو كانت‬

‫ثمة أعشاش جديدة بنتها الطيور فيها‪ ،‬أو كانت ثمة خاليا‬

‫‪139‬‬


‫ثقافات‬

‫علي أن أتشاركها مع ق ّرائي العديدين إلى‬ ‫وحدي‪ ،‬أم يتوجّ ب ّ‬ ‫جانب أفراد عائلتي الذين بدأت أعدادهم تتزايد أكثر فأكثر مثل‬ ‫ّ‬ ‫وأتطلع ًّ‬ ‫حقا أن تبلغ أصداء‬ ‫الجذور الكثيفة لشجرة بانيان**‬ ‫رحلتي هذه أحفاد أحفادي!‬

‫صور من تجارب الطفولة‬

‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ووضعت في بعض تلك‬ ‫كتب حتى اليوم‪،‬‬ ‫كتبت بضعة‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫كتبت الكتاب األول عن‬ ‫الكتب صورًا من تجارب طفولتي‪ :‬عندما‬

‫حياتي (المقصود به هو السيرة الذاتية التي نشرها عبدالكالم‬ ‫عام ‪1999‬م تحت عنوان «أجنحة من نار»‪ ،‬المترجمة) ّ‬ ‫تملكتني‬

‫الدهشة‪ ،‬ومضيْت أتساءل‪ :‬هل سيكون هذا العمل قادرًا على‬ ‫إمتاع أحدٍ ما؟ على خالف ذلك الكتاب‪ ،‬فإن رحلتي هذه تولي‬

‫اهتمامً ا أكثر للحيثيات الصغيرة جدًّا التي ال يعرفها الكثيرون‬

‫عن حياتي‪ .‬تعمّ ُ‬ ‫دت في رحلتي هذه اإلسهاب في التفاصيل‬ ‫الخاصة بحياة ّ‬ ‫كل من أبي وأمي؛ ألنني حتى اليوم وقد بلغتُ‬ ‫ّ‬ ‫أتمثل القيم واألخالقيات التي تعهّدا‬ ‫الثانية والثمانين ال أزال‬

‫‪140‬‬

‫بغرسها في روحي بمحبّة وألفة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫في التي تعلمتها من‬ ‫إن الصفات التي غرسَ ها والداي ّ‬ ‫خالل مراقبة أفعالهما ّ‬ ‫بدقة إلى جانب فهم ردود أفعالهما‬ ‫تجاه المحن والشدائد التي واج َه ْتهُما؛ أقول إن تلك الصفات‬

‫ساعدتني على العيش بطريقة أفضل‪ ،‬وما زال أبي وأمي‬ ‫يعيشان معي حتى اليوم من خالل تلك القيم واألخالقيات‪.‬‬

‫بعد سنوات الحقة طويلة ال تزال ذاكرتي تحتفظ بذكرياتها‬

‫عندما كان والدي يتحدث عن ضرورة تفهّم عقول الناس‪ ،‬أو‬

‫عندما كان يواجه المصاعب برزانة وحصافة‪ ،‬وما زلت أستحضر‬ ‫صدى كلماته أنا اآلخر متى وجدت نفسي وهي تخوض قتالاً‬

‫في جبهات عديدة شديدة الوطأة‪ ،‬أما في لمسة أمي الحانية‬ ‫وتربيتها الرقيقة المترفقة بأوالدها فقد وجدت فيها عالمً ا رحبًا‬

‫من الحب والحنان‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫مدفوعا أيضا إلى تسجيل‬ ‫وجدت نفسي في رحلتي هذه‬ ‫ّ‬ ‫التفاصيل الصغيرة الخاصة بكل من مساهمات أختي زهرا‪،‬‬ ‫وكرم روحها الالمحدود‪ ،‬والنظرة المتفتحة الرحبة التي كان‬ ‫ّ‬ ‫معلمي الناصح األول في حياتي‪ :‬أحمد جالل الدين‬ ‫يحوزها‬ ‫الذي كان أول من شجّ عني على التفكير بحرية واالستزادة‬

‫الالمحدودة من الدراسة‪.‬‬

‫ثمة الكثير من البرهات المح ِبطة والمِ حَ ن الشاقة التي‬ ‫ُ‬ ‫خبرتها في حياتي؛ مثل إخفاقي في االختبارات‪ ،‬ومن ثم‬

‫التأهل لالنضمام إلى القوة الجوية الهندية‪ ،‬وسواها من برهات‬ ‫اإلخفاق‪ ،‬ولك ّنها كلها ّ‬ ‫علمتني ضرورة وجود اإلخفاقات في حياة‬ ‫المرء‪.‬‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬

‫ثمة الكثير من البرهات المح ِبطة‬ ‫ِ‬ ‫والم َحن الشاقة التي خبرتُها في‬ ‫حياتي‪ ،‬ولك ّنها علّمتني ضرورة‬ ‫وجود اإلخفاقات في حياة المرء‬

‫أوقات عصيبة‬

‫نعم‪ ،‬بدت تلك األوقات العصيبة عصية التجاوز في وقتها‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الحق أنه ليس ثمة صعوبة ما عصية التجاوز متى امتلك‬ ‫ولكن‬ ‫المرء العزيمة والثبات في قلبه‪.‬‬

‫كنت مؤخ ًرا أتمشى مع صديقي البروفيسور آرون تيواري‬

‫عندما باغتني بسؤال غير متوقع‪« :‬صاحبي عبدالكالم‪ ،‬هل‬ ‫تستطيع أن ُتجمِ ل حياتك العريضة بجملة واحدة؟» جعلني هذا‬ ‫السؤال ّ‬ ‫أفكر لبرهة‪ ،‬ثم قلت في نهاية األمر‪« :‬صديقي آرون‪،‬‬

‫الحب‬ ‫إن حياتي يمكن تلخيصها بالعبارات والكلمات اآلتية‪:‬‬ ‫ّ‬

‫المصبوب صبًّا على الطفل‪ ...‬الكفاح‪ ...‬المزيد من الكفاح‪...‬‬ ‫دموع تطفح ً‬ ‫حزنا ومرارة‪ ...‬ثم دموع الفرح والبهجة‪ ...‬ثم أخي ًرا‬ ‫حياة تطفح بالجمال واإلنجاز مثل رؤية والدة بدر كامل»‪.‬‬ ‫هوامش المترجمة‬

‫* األرجونا‪ :‬شجرة ضخمة سمّ يت باسم األمير البطل في ملحمة‬ ‫المهابهارتا‪ ،‬كما أنها في الوقت ذاته اسم إلحدى الشخصيتيْن‬ ‫الرئيستين في النص الهندي المقدّ س المكتوب بالسنسكريتية‪،‬‬ ‫الرب»‪.‬‬ ‫والمسمّ ى «بهاغافادغيتا» الذي يعني «أنشودة‬ ‫ّ‬

‫** بانيان‪ :‬شجرة تين هندية ضخمة‪ ،‬تمدّ أغصانها جذورًا هوائية حولها‪،‬‬ ‫تستحيل جذوعً ا إضافية فيما بعد؛ لذا فإن الشجرة الناضجة الواحدة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫متوقعة‪.‬‬ ‫تغطي مساحة واسعة غير‬


‫نصوص‬

‫أصابعه كثيرةٌ‬ ‫ُ‬ ‫وم ٌّر فيها العتاب‬ ‫ُ‬ ‫عبدالله السفر‬ ‫شاعر سعودي‬

‫ُ‬ ‫ومذاق أغنيةٍ شعبية تحت لسانك لبلدٍ «ع الترعة‬ ‫تصحو‬ ‫ُ‬ ‫تذهل عن حليم‪ ،‬وتنفتح في الصدر بئ ٌر‬ ‫بتغسل شعرها»‪.‬‬ ‫جميعه وهي ُ‬ ‫تقط ُر‬ ‫بالدالل‬ ‫قديمة‪ ،‬تطلع منها عايدة الشاعر‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬

‫«كايدة العزال أنا من يومي»‪.‬‬

‫* * *‬

‫ُ‬ ‫َ‬ ‫الجمال وتمضي‪ ،‬ال تلوي إال على‬ ‫تصوغ‬ ‫نشمي مهنا!‬

‫ْ‬ ‫اطلب؛ ُتجَ ب!‬ ‫لم َتسأل‪ .‬لم ُتعط‪َ.‬‬

‫َ‬ ‫ُ‬ ‫اليوم يعود براياتِه تم ُّر في الجلد‪.‬‬ ‫السرب الذي نأى‪ ،‬ها هو‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬ ‫ستتحصن أ ّيها البائد؟‬ ‫مكسورة تكيد وتمعن؛ بماذا‬ ‫نافذة‬

‫* * *‬

‫َّ‬ ‫الليل من غناء‪.‬‬ ‫استتب في‬ ‫ضميرك وما‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬

‫* * *‬ ‫* * *‬

‫َّ‬ ‫لكن تلك اليد الممدودة لمن؟‬ ‫ُ‬ ‫اللفافة استدارت عن فمك‪.‬‬ ‫ال‪ .‬ال‪ .‬ليس دخانك!‬

‫ُ‬ ‫مشيت َ‬ ‫ك‪ّ .‬‬ ‫في التعب‪،‬‬ ‫لم أكن ألخونك أ ّيها الليل‪.‬‬ ‫تندى ّ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫الجرح كثي ٌر من ملح األغنية‪ .‬بِركة زرقاء دعتني‬ ‫وسقط في‬ ‫ِ‬ ‫سقطت فيها؛ َش ً‬ ‫إليها وأغرتني ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫عرة‬ ‫منك وفيك‪.‬‬ ‫بالقرب‬ ‫أنها‬ ‫ِ‬ ‫شائبة تطفو وتطفو ّ‬ ‫ُ‬ ‫تعيد إنباتي‪ ،‬ألعو َد‬ ‫حتى هاجت سفني‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫إليك فتيًّا أ ّيها الليل‪ .‬أ ّيها الليل لم أكن ألخونك‪.‬‬

‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وتوقحَ األلم‪.‬‬ ‫أذل ْته األغنية‬

‫ّ‬ ‫لم َ‬ ‫ُ‬ ‫أمام َ‬ ‫تسلخ َ‬ ‫َ‬ ‫وتعل ُقها عليها‪.‬‬ ‫أيامك‬ ‫ك إال هذه الشاشة‬ ‫يبق‬ ‫ُ‬ ‫إنها الهدية‪ .‬هي أ ُ‬ ‫ُ‬ ‫تعهد إليه بظالمِ ك‬ ‫لهيتك في هذا النفق‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫فال يخ ّيب َ‬ ‫ُك؛ يمنحك شاشة تحصي معها ألوانا من النكهة؛‬

‫َ‬ ‫هلك سعيد؟‬ ‫لماذا ينجو سعد‪ ،‬وقد‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫رأسه كمن تجذ ُبه هاوية‪ّ ،‬‬ ‫السؤال َ‬ ‫ثم ارتجَّ عليه قبل‬ ‫طرق‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫الرأس بين الرؤوس!‬ ‫ويضع تلك‬ ‫أن يتراجع‬

‫* * *‬

‫* * *‬

‫دع الخاتم‪َ .‬‬ ‫ُ‬ ‫فات َ‬ ‫ّ‬ ‫تشع َ‬ ‫ب‪ ،‬وما تزال في‬ ‫البرق‬ ‫ك سحرُه‪.‬‬

‫ليلك الخاسر‪.‬‬

‫* * *‬ ‫* * *‬

‫َ‬ ‫ذريعة اإلغفاءة في حدا ٍد طويل لم تلتفت إليه َمن نب ْ‬ ‫ّهت‬ ‫َ‬ ‫بحذر رما َد َ‬ ‫لينهض إلى التابوت‪.‬‬ ‫ك‬ ‫ٍ‬

‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫كثيرة أ ّيها الناي‪ُ ،‬‬ ‫وم ٌّر فيها العتاب‪.‬‬ ‫أصابعه‬

‫ُ‬ ‫الوسوسة تحجز الشفتين والنا ُر تلهث‪.‬‬

‫ُ‬ ‫َ‬ ‫وقوفه أمام ّ‬ ‫التنور‪.‬‬ ‫طال‬ ‫أ ّيها الرغيف‬

‫َ‬ ‫يصرف‬ ‫عند تمام الثانية‪ ،‬ينحس ُر ُك ُّم الليل‪ .‬كيف له أن‬ ‫وجهه‪ّ .‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫هلك الر ُ‬ ‫ُّسل؟‬ ‫العزم وقد‬ ‫أنى له‬

‫َهو ًْنا أيتها النخلة‪ّ .‬‬ ‫ُ‬ ‫يتبعه‪.‬‬ ‫ظلي‬

‫* * *‬ ‫* * *‬ ‫* * *‬

‫* * *‬ ‫* * *‬ ‫* * *‬ ‫* * *‬

‫ُ‬ ‫والجاثوم ال يرحم‪.‬‬ ‫تشحّ َط في دمِ ه‬

‫‪141‬‬


‫ثقافات‬

‫البحث عن الحب عبر الخرافة‬ ‫«معجزة عادية» للروسي يفغيني شفارتس‬ ‫هيثم حسين‬ ‫كاتب وروائي سوري مقيم في بريطانيا‬

‫الروسي يفغيني شفارتس بين النقائض في عنوان‬ ‫يجمع‬ ‫ّ‬ ‫مسرحيته «معجزة عادية»؛ فالمعجزة تحتاج إلى أن تكون‬ ‫خارقة لتوصف بما توصف به‪ ،‬على حين أن وصفها بالعادية‬ ‫ينزع منها جانب اإلعجاز‪ ،‬ويصيرها أمرًا عاد ًّيا‪ ،‬يمكن تكراره‪،‬‬

‫كانت معجزة‪ ،‬فمعنى ذلك أنها ليست عادية! وإن كانت عادية‪،‬‬ ‫فهي بالتالي ليست معجزة»‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫يشير (الحكواتي) في أثناء استهالله إلى أن حل ما يصفه‬

‫ُّ‬ ‫يضخ شفارتس في‬ ‫أو يمكن أليّ أحد القيام به أو إنجازه‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫مسرحيته (منشورات وزارة الثقافة‪ ،‬دمشق‪ ،‬ترجمة آنا عكاش)‬

‫باللغز يكمن في أنّ القصة تدور حول الحب؛ يذكر أن هناك‬ ‫شا ًّبا وفتاة جمعهما الحب‪ ،‬ويصف ذلك ّ‬ ‫بأنه أمر عاديّ ‪.‬‬ ‫يتخاصمان‪ ،‬وهذا ليس نادرًا ً‬ ‫ّ‬ ‫الحب‪.‬‬ ‫أيضا‪ .‬يكادان يموتان بسبب‬

‫الحب والكره‪ ،‬والحقد والحسد‪ ،‬والعداء والتناحر‪ ،‬من خالل‬

‫معجزات حقيقية‪ ،‬وهذا أمر غريب وعاديّ في الوقت نفسه‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫الحب وغناء األغاني‬ ‫التحدث عن‬ ‫يلفت الكاتب إلى ّأنه يمكن‬

‫جذوة الصراع بين اإلنجاز واإلعجاز في عمله‪ ،‬ويثير كثيرًا من‬ ‫األسئلة المتعلقة بالعالقات السائدة بين البشر؛ من حيث‬ ‫االنطالق من دائرة الحب‪ ،‬واتخاذها بؤرة الحكاية‪ ،‬ومبتدأ‬

‫‪142‬‬

‫خفيض‪ ،‬فيقول‪« :‬يا له من عنوان غريب؛ معجزة عادية‪ ،‬إن‬

‫ومختتمً ا في الوقت نفسه‪.‬‬

‫يسوِّغ الكاتب في أثناء استهالل (الحكواتي) الذي ُيظ ِهره‬

‫َ‬ ‫اإلشكالي‪،‬‬ ‫أسباب اختياره عنوان مسرحيته‬ ‫على المسرح‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫المثير للجدل من حيث الجمع بين نقيضين؛ إذ إنه يصف ظهور‬ ‫شخص أمام الستارة وهو يخاطب المتفرجين ّ‬ ‫بتفكر وصوت‬

‫عال؛ لتبدأ في صنع‬ ‫وأخيرًا تسمو قوة مشاعرهما إلى مستوى ٍ‬

‫فيه‪ ،‬أما هو في حكايته فيروي عنه حكاية خرافية‪ ،‬ويذكر أنه‬

‫في الحكاية الخرافية‪ ،‬يصطف العادي والعجيب معً ا بطريقة‬

‫مريحة‪ ،‬ويفهمان بسهولة‪ .‬لو نظرنا إلى الحكاية الخرافية على‬ ‫ّأنها حكاية خرافية‪ ،‬كما في الطفولة‪ ،‬أال نبحث فيها عن معنى‬ ‫خفي؟ فالحكاية الخرافية ال تروى لِنك ُتم‪ ،‬بل لِنبوح‪ ،‬أن نقول‬ ‫ّ‬ ‫بكامل قوتنا وبملء صوتنا ما ِّ‬ ‫نفكر فيه‪.‬‬

‫يحدث (الحكواتي) ُ‬ ‫ّ‬ ‫القراء والمشاهدين االفتراضيين بأنه من‬

‫بين شخصيات الحكاية الخرافية‪ ،‬األكثر قر ًبا‪ ،‬من سيتعرفون‬ ‫إلى أشخاص يضطرون ‪-‬في األغلب‪ -‬إلى مصادفتهم‪ .‬من‬

‫شخصيات المسرحية هناك الوزير اإلداريّ ‪ ،‬وصاحب الحانة‪،‬‬

‫والساحر‪ ،‬وسيدة البيت‪ ،‬وسيدة البالط‪ ،‬واألميرة‪ ،‬والدب‪،‬‬ ‫وغيرهم من أبطال الحكاية الخرافية األكثر شبهًا بالمعجزة‪،‬‬

‫يقول‪ :‬إن أولئك محرومون من المالمح الحياتية التي تميز الزمن‬ ‫الحالي‪.‬‬

‫يتساءل شفارتس على لسان راويه العليم‪ :‬كيف يستطيع‬

‫أشخاص مختلفون مثل هؤالء أن يتعايشوا في الحكاية نفسها؟‬

‫يجيب‪ :‬إنه ببساطة شديدة‪ ،‬كما في الحياة‪ ،‬ويسترسل‬

‫(الحكواتي) بقوله‪ :‬إن الحكاية تبدأ من نقطة بعيدة‪ ،‬أحد‬ ‫السحرة يتزوَّج‪ ،‬ويستقرّ‪ ،‬ويقرّر االنصراف إلى االهتمام‬

‫باألشغال المنزلية‪ ،‬لكن مهما أطعمت الساحر يظل منجذ ًبا‬

‫دائمً ا إلى المعجزات‪ ،‬والتحوالت والمغامرات العجيبة‪ .‬وها هو‬

‫قد تورَّط في قصة حب الشابين اللذين يتحدث عنهما‪ ،‬وتداخل‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬


‫َّ‬ ‫انحل بطريقة مفاجئة لدرجة أنّ الساحر‬ ‫كل شيء‪ ،‬وأخيرًا‬ ‫نفسه‪ ،‬المعتاد على المعجزات‪ ،‬وقف معقود اليدين من ّ‬ ‫شدة‬

‫التعجب‪.‬‬

‫ثوان‪ ،‬ويمكن‬ ‫يستغرق الساحر في قوله‪« :‬إنه ربما لعدة‬ ‫ٍ‬

‫أن يحدث ذلك أليّ أحد في ظروف مماثلة‪ .‬وبعدها ماذا؟ انظر‪:‬‬

‫هذا إنسان‪ ،‬إنسان يسير في الطريق مع عروسه‪ ،‬ويتكلم معها‬ ‫في هدوء»‪ .‬لقد أعاد الحب صهره لدرجة أنه لن يعود د ًّبا ً‬ ‫أبدا‪ .‬يا‬ ‫لها من روعة! يجد في نفسه قوة كبرى‪ ،‬يقول لزوجته‪ :‬اسمحي‬

‫لي‪ ،‬سأبدأ بخلق المعجزات في الحال؛ كي ال أنفجر من شدة‬

‫القوة»‪.‬في الفصل األول‪ ،‬يصمّ م الكاتب هندسة داخلية الفتة؛‬ ‫ً‬ ‫معدني يلمع‬ ‫نظافة‪ .‬على الموقد إبريق قهوة‬ ‫غرفة كبيرة‪ ،‬تلمع‬ ‫ّ‬ ‫ملتح‪ ،‬فارع الطول‪ ،‬عريض‬ ‫لدرجة تغشي األبصار‪ .‬شخص‬ ‫ٍ‬ ‫عال ًّ‬ ‫جدا‪ ،‬إنه‬ ‫بصوت‬ ‫نفسه‬ ‫ويكلم‬ ‫الكتفين‪ ،‬يكنس الغرفة‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫الحب بينه وبين زوجته التي‬ ‫سيد البيت الذي يدور نقاش عن‬ ‫تخبره أنه حين يتحدث عن الحب أو يباشر توصيفه وتعريفه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫فإنه كمَ نْ‬ ‫يدق المسامير بالصواعق‪ .‬وأن العاصفة‪ ،‬والزلزال‬

‫والصواعق كلها أمور بسيطة‪ ،‬أمام االضطرار إلى التعامل مع‬

‫بشر متوحشين‪.‬‬

‫تذكر سيدة البالط بنوع من المناجاة أن الحيوان ال يريد‬

‫أن يفهم أن الهدف األسمى من رحلتهم هو المشاعر الرقيقة‪،‬‬ ‫مشاعر األميرة‪ ،‬مشاعر الملك‪ .‬وتقول‪« :‬ان ُتقينا لنكون ضمن‬ ‫الحاشية المرافقة؛ ألننا نساء رقيقات‪ ،‬حساسات‪ ،‬لطيفات‪ .‬أنا‬

‫مستعدة ألنْ أعاني‪ .‬ال أنام الليالي؛ حتى إنني مستعدة للموت؛‬ ‫كي أساعد األميرة‪ .‬لكن ما الداعي إلى تحمل شيء زائد ال يلزم‬ ‫ً‬ ‫جمل فقد حياءه؟»‪.‬‬ ‫أحدا‪ ،‬عذابات مهينة بسبب‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫ينوّه الوزير اإلداري بأن العالم كله مركب؛ إذ ال داعي إلى‬

‫َ‬ ‫شاه َد فراشة تطير‪.‬‬ ‫الشعور بالخجل من أي شيء‪ .‬يقول‪« :‬إنه‬ ‫رأسها صغير‪ ،‬أحمق‪ُ .‬تحرِّك أجنحتها بطريقة حمقاء‪ .‬ويقول‪:‬‬ ‫إن المنظر ِّ‬ ‫مؤثر لدرجة أنه سُ رق من الملك مئتا قطعة ذهبية‪.‬‬

‫يحاول أن يسوِّغ األمر لنفسه بقوله‪ :‬ما الداعي إلى الخجل إن‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫مخلوقا على ذوقي؛ شجرة البتوال بليدة‪،‬‬ ‫العالمُ كله ليس‬ ‫كان‬

‫غبي‪ .‬الغيوم بلهاء‪ .‬الناس نصابون‪،‬‬ ‫شجرة الدلب حمارة‪ .‬النهر ّ‬ ‫ُ‬ ‫األطفال الرضع يحلمون بشيء واحد فقط‪ ،‬األكل والنوم»‪.‬‬ ‫حتى‬ ‫يختار الكاتب تاليًا توقيت مساء متأخر في حانة صغيرة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫يتحدث عن هواجسه‬ ‫حيث يبدأ صاحب الحانة في عرض أفكاره‪،‬‬

‫وأحالمه بحبيبة افتراضية‪ ،‬يصف زبائنه؛ يقول‪ :‬إنه ال أحد‬ ‫يعلم إلى أين‪ ،‬وال من أين‪ ،‬وكلهم سيقرعون الجرس‪ّ ،‬‬ ‫يدقون‬ ‫الباب‪ ،‬يدخلون ليستريحوا‪ ،‬ليتكلموا‪ ،‬ليضحكوا‪ ،‬ليشتكوا‪.‬‬

‫وكل مرة يأمل كاألحمق أنها بمعجزة ما ستدخل إلى هناك حين‬

‫يصدر أمر بالبحث عن الحب‪ ،‬يتمرّد الوزير ويتجرَّأ بالقول‪ :‬أيها‬

‫الناس‪ ،‬أيها الناس‪ ،‬عودوا إلى رشدكم‪ .‬ماذا تفعلون؟ لقد تركنا‬

‫جذوة الصراع بين اإلنجاز واإلعجاز في‬ ‫كثيرا من األسئلة المتعلقة‬ ‫عمله‪ ،‬يثير‬ ‫ً‬ ‫بالعالقات السائدة بين البشر‬ ‫أشغالنا‪ ،‬نسينا مراتبنا‪ ،‬انطلقنا إلى الجبال عبر جسور ملعونة‪،‬‬

‫وطرق جبلية ضيقة‪ .‬ويتساءل‪ :‬ما الذي أوصلنا إلى هذا؟ لتجيب‬ ‫سيدة البالط بأنه الحب‪ .‬فيعقب الوزير بأنه ال يوجد أيّ حب في‬ ‫العالم؛ ليؤكد صاحب الحانة أنه يوجد‪ .‬وأنه شخصيًّا يأخذ على‬

‫عاتقه إثبات أن الحب موجود في العالم‪.‬‬

‫يحاوره الوزير ويخبره أن الحب غير موجود‪ ،‬وأنه ال يثق‬ ‫ً‬ ‫جيدا‪ ،‬وأنه نفسه لم يقع في الحب مرة‬ ‫بالناس‪ ،‬وأنه يعرفهم‬ ‫َ‬ ‫واحدة؛ لذلك ليس هناك ّ‬ ‫حب‪ ،‬ومن ثمَّ يرسلونه إلى موت‬ ‫حتمي بسبب ُتر َ​َّهة‪ ،‬خرافة‪ ،‬مكان فارغ‪ .‬فيجيبه صاحب الحانة‪:‬‬

‫ماذا لو حدثت معجزة؟‬ ‫ِّ‬ ‫ّ‬ ‫ويؤكد أن المعجزات تخضع لذات‬ ‫يتدخل سيّد البيت‬

‫القوانين التي تخضع لها جميع الظواهر الطبيعية األخرى‪.‬‬

‫وأنه ال توجد قوة على وجه األرض تستطيع أن تساعد الطفلين‬ ‫ويؤكد وجوب اإلقرار بالواقع‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫وأنه ال ّ‬ ‫بد من‬ ‫المسكينين‪،‬‬ ‫َقبول الحياة كما هي عليه‪ .‬يذكر أن األمطار هي األمطار‪ ،‬لكن‬

‫المعجزات تحدث التحوّالت الغريبة واألحالم السلوانية‪ .‬يخاطب‬ ‫ُقرَّاءه ومشاهديه االفتراضيين‪« :‬ناموا‪ ،‬ناموا يا أصدقائي‪ .‬ناموا‪.‬‬

‫ً‬ ‫بعضا»‪.‬‬ ‫لينم الجميع‪ ،‬بينما يودع العُ َّشاق بعضهم‬

‫يظهر مسعى شفارتس في مسرحيته في إبراز قوة الحب‬ ‫اإلنسان إنسان َّي َته‪ ،‬وتوقف تحوُّله إلى‬ ‫الخارقة التي تعيد إلى‬ ‫ِ‬

‫وحش ضا ٍر يفتك بالبشر اآلخرين الذين يشاركونه الحياة‪ ،‬ال‬ ‫ّ‬ ‫الحب وَحْ َده‬ ‫أن يسعى لقتالهم والقضاء عليهم‪ .‬ويبرز كيف أن‬ ‫يمكن أن ينقذ اإلنسان واإلنسانية معً ا من العتمة والهالك‬

‫والفساد والجنون‪ ،‬ولو كان السبيل إليه عبر خرافة‪.‬‬

‫‪143‬‬


‫مقال‬

‫شعراء الوطن المفقود‬ ‫المغربي عبدالفتاح كيليطو في كتابه‪ :‬مفهوم‬ ‫لحظ الناقد‬ ‫ّ‬

‫بتجربة كل شاعر يواجه التراث‪ .‬حينئذ يمكن أن ُنعيد صياغة‬

‫بـ«تناسخ المقطوعات الشعرية» أن في بدايات الشعر اهتمامً ا‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫مستهل‬ ‫والتأثر‪ ،‬وبالتكرار والتقليد‪ ،‬فهوميروس في‬ ‫بالتأثير‬

‫على تقليد أخرى»‪ .‬ينطبق هذا على امرئ القيس‪ ،‬فلو لم يكن‬ ‫علقته‪َ ،‬‬ ‫هناك بقايا َلمَ ا وضع مُ َّ‬ ‫ولمَ ا أنشأ قصائده التي جعلت‬

‫المؤلف في الثقافة العربية‪ ،‬وفي الفصل األول الذي عنونه‬

‫ملحمة اإللياذة يتوجّ ه إلى ربَّات الفنون ويناجيها طلبًا للمعونة‪.‬‬

‫القيرواني يقول عن أثره في شعر الشعراء من بعده‪:‬‬ ‫ابن رشيق‬ ‫ّ‬

‫ر َّبة الشعر عن آخيل بن فيال‬

‫التأثر بالوقوف على األطالل يعدُّ من ُّ‬ ‫شاعر قبله؛ لكن هل ُّ‬ ‫التأثر‬ ‫ُّ‬ ‫التأثر العميق؟ هنا ال يمكننا أن نحسم هذا‬ ‫السطحي أم من‬ ‫ّ‬

‫ّ‬ ‫النص من اإللياذة‪ ،‬واكتفى بقوله‪« :‬نعلم أن‬ ‫لم يذكر كيليطو‬ ‫ّ‬ ‫النص من اإللياذة بترجمة سليمان البستاني‬ ‫هوميروس» إلاَّ أن‬ ‫هو‪:‬‬

‫ً‬ ‫احتداما وبيال‬ ‫أنشدينا واروي‬

‫ذاك كـ ـيـ ــد ع ـ ـ ـ ـ ّـم اإلخ ـ ـ ـ ــاء ب ـ ـ ــاله‬

‫فـ ـ ـ ـ ــكرام الن ـف ــوس أل ــفت أفوال‬

‫هذا مثال ينتقيه عبدالفتاح كيليطو من فجر اآلداب العالمية‪،‬‬

‫‪144‬‬

‫سؤاله على النحو اآلتي‪ :‬ال جَ دْ وَى من وضع أبيات ال تعمل إال‬

‫العربي‬ ‫العربي فيتوقف كيليطو عند بيت الشاعر‬ ‫أما األدب‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الجاهلي عنترة بن شداد‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫هل غادر الشعراء من متردم‬ ‫ّ‬ ‫توهم‬ ‫أم هل عرفت الدار بعد‬ ‫ِّ‬ ‫يعلق كيليطو على هذا البيت قائلاً ‪« :‬في فجر التاريخ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫رجوعا إلى فجر سابق‪ ،‬إلى أصل وأساس‪ ،‬فجر‬ ‫العربي نل ِفي‬ ‫ّ‬

‫«وال ترى شاع ًرا يكاد يفلت من حبائله»‪.‬‬ ‫و َْف َق وجهة النظر تلك فامرؤ القيس لم يكن «أول من بكى‬ ‫واستبكى‪ ،‬وليس أول من وقف واستوقف»؛ إنما َّ‬ ‫تأثر بشعر‬

‫الموضوع باللجوء إلى الرؤية الشعرية؛ ألنها هي وَحْ دَ ها التي‬

‫أساسي في جزء من القصيدة في الشعر‬ ‫تسمح لنا باستنتاج‬ ‫ّ‬ ‫الجاهلي؛ أعني البكاء على األطالل‪ .‬فما الرؤية الشعرية التي‬ ‫ّ‬ ‫تكمن خلف البكاء على األطالل؟ أَ َّت ِف ُق مع الباحث (عبدالحق‬

‫الهواس) على أن البكاء على األطالل في مقدمة القصيدة‬ ‫العربية الجاهلية هو «بكاء على وطن مفقود‪ ،‬وليس قضية‬ ‫َّ‬ ‫تتعلق ُّ‬ ‫حيوية بسيطة‬ ‫بتنقل القبائل في مضاربها‪ .‬هناك قبائل‬ ‫ّ‬ ‫متوطنة‪ ،‬وبكى شعراؤها على األطالل في ُّ‬ ‫واضح نحو‬ ‫تطلع‬ ‫ٍ‬ ‫إقامة وطن موحّ د»‪.‬‬

‫مضى وامَّ حَ ى (ولم يخلف إال بعض اآلثار)؛ لكنه ما زال لعنترة‬

‫تكمن هذه الرؤية فيما نرى خلف المقدّ مات الطللية؛ رؤية‬ ‫ُّ‬ ‫ُت ِّ‬ ‫التطلعات والمشاعر واألفكار التي تجمع بين‬ ‫مثل مجموع‬

‫غير أن ما لم يَتنبَّه له عبدالفتاح كيليطو هو أن فجر‬

‫عن وطن مفقود‪ ،‬وكل عمل شعريّ كبير مثل أعمال الشعراء‬

‫حاض ًرا ينبض بالحياة‪ ،‬شعر عنترة الذي نميل اليوم إلى النظر‬

‫إليه كشروق كان انحدارًا نحو الغروب»‪.‬‬

‫العربي بدأ قبل عنترة بن شداد؛ فالرواة ومؤرِّخو األدب‬ ‫الشعر‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫العربي‪،‬‬ ‫الشعر‬ ‫فجر‬ ‫عاشت‬ ‫غامضة‪،‬‬ ‫شخصية‬ ‫عن‬ ‫يتحدثون‬ ‫ّ‬ ‫ُتك ّنى بابن حذام‪ ،‬وقيل‪ :‬ابن خذام‪ ،‬وقيل‪ :‬ابن حمام‪ ،‬وهي‬ ‫الشخصية التي َّ‬ ‫تأثر بها امرؤ القيس في قوله‪:‬‬ ‫عوجا على الطلل المحيل ألننا‬

‫نبكي الديار كما بكى ابن حذام‬

‫في مطلع القصيدة يعترف امرؤ القيس أنه يدين البن‬

‫حذام‪ ،‬وفي الوقت ذاته يمجِّ د التراث الذي وصل إليه‪ .‬وهو‬ ‫تراث ي ِّ‬ ‫ًّ‬ ‫ِّ‬ ‫وحثا‬ ‫تحديًا المرئ القيس‬ ‫ُمثل من وجهة نظر شعرية‬

‫أعضاء مجموعة واحدة؛ هم الشعراء الجاهليون‪ ،‬والبحث‬ ‫الجاهليين تعبير عن هذه الرؤية‪ ،‬وهي رؤية أشبه ما تكون‬ ‫عي ب َ​َل َغ الحدَّ األقصى في وضوحه التصوُّريّ في وعي‬ ‫بوعي جَ مْ ّ‬

‫الشعراء في مقدّ مات قصائدهم‪.‬‬

‫غير أننا ال يمكن أن نفصل البكاء على األطالل برؤية‬

‫مستقلة عن القصيدة كلها؛ فدَّاللة هذه الرؤية الجزيئة يجب‬ ‫أن ُتربط بالقصيدة كلها؛ عندئذ يمكن القول‪ :‬إن القصيدة‬ ‫الجاهلية في مجموعها (الكل) مجاز عن البحث عن وطن‪،‬‬

‫تبدأ بالحنين على فقده‪ ،‬ثم رحلة متعبة إليه على ظهر ناقة‬

‫أو فرس‪ .‬وإذا صحّ أن القصيدة الجاهلية هي في مجملها مجاز‬

‫له في آن واحد‪ .‬إن امرأ القيس مثله مثل عنترة بن شداد‪ ،‬إذا‬ ‫ف آثار مَ ن سبقه‪ْ ،‬‬ ‫وليَحْ ُذ‬ ‫كان ال بد من أن يتأثر؛ فليتأثر‪ ،‬و َْلي َْق َت ِ‬

‫تصل إلى أي مكان؛ ألن المكان مفقود في األساس‪.‬‬

‫عنترة مُ َّ‬ ‫علقته (‪ )...‬ال يبدو أن عنترة ينشغل بتجربته‪ ،‬إنما‬

‫الجاهلي‬ ‫لكنها ‪-‬في األغلب‪ -‬تمثل الرؤية الشاملة في الشعر‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫عي بشيء مفقود ينتشر بين الشعراء‬ ‫من‬ ‫حيث الوعي الجَ مْ ّ‬

‫حَ ْذوَهم؛ لكن الظاهر كما يقول كيليطو‪« :‬إن األقدمين لم يأتوا‬ ‫على قول كل شيء‪ ،‬وإنهم تركوا بعض البقايا‪ ،‬وإال َلمَ ا وضع‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬

‫عن رحلة شعرية إلى وطن مفقود‪ ،‬فإن الدليل هو أن الرحلة ال‬ ‫قد تبتعد القصيدة الجاهلية من هذا المجاز أو تقترب منه؛‬


‫الجاهليين‪ .‬لقد أقلقت هذه الرؤية الشعراء‪ ،‬وعبَّر بعضهم عن‬

‫ذلك؛ مثل قول زهير بن أبي سلمى‪:‬‬

‫ما أرانا نقول إال ُمعارا‬ ‫ً‬ ‫أو معادا من قولنا مكرورا‬

‫ونلحظ صياغة القلق من اسم المفعول (مكرورا) من‬

‫الفعل (ك ّر) يعني‪ :‬هجم أو تراجع؛ أي أن الشاعر في حيرة‬ ‫من أمره‪ :‬أيهجم على ما أوجده (الرؤية) قبله من الشعراء؟‬

‫أيتراجع عن تكرار ما قاله (الرؤية) قبله الشعراء؟ وقوله‪:‬‬ ‫(مُ عارًا) ّ‬ ‫يدل على أنه ال يملك ما يقوله (الرؤية)‪ ،‬إنما يستعير‬

‫(الرؤية) من آخرين؛ أي أنه في نهاية األمر شاعر مُ ِّ‬ ‫قلد فيما‬ ‫ً‬ ‫مبدعا‪.‬‬ ‫يقوله‪ ،‬وليس شاع ًرا‬ ‫و َْفق هذه الزاوية تحديدً ا ال مجال لفهم هذا البيت كما‬

‫فهمه جواد علي؛ أي أن الشاعر اعتقد بتقدُّ م الشعر في‬ ‫مرحلته التاريخية وبتطوره وبتف ُّنن الشعراء الذين عاشوا قبله‪،‬‬

‫في طرائق الشعر وذهابهم فيه كل مذهب‪ ،‬حتى صار مَ ن جاء‬

‫علي الشدوي‬ ‫ناقد وروائي سعودي‬

‫بعدهم من الشعراء عالة عليهم فال يقول إال مُ عارًا‪.‬‬

‫ثمة أمثلة أخرى يمكن إيرادها؛ لتوضيح عملية التأثير‬

‫والتأثر من زوايا مختلفة‪ .‬فهناك من الشعراء مَ ن وصف الرؤية‬ ‫الشعرية من دون أن يسمِّ يها؛ مثل لبيد بن ربيعة‪:‬‬ ‫والشاعرون الناطقون أراهم‬

‫سلكوا طريق مرقش ومهلهل‬

‫ُتجمَ ع لفظة شاعر على ُشعَ راء‪ ،‬لكن هؤالء في بيت لبيد بن‬ ‫ربيعة (شاعرون) ال ُشعَ راء‪ .‬لو أنهم شعراء ًّ‬ ‫حقا َلمَ ا نطقوا إنما‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫طريقا‬ ‫طريقا معروفة‪ ،‬إنما فتحوا لهم‬ ‫(أشعروا)‪ ،‬ولما طرقوا‬ ‫ّ‬ ‫يتكلمون‪ ،‬بينما الشعراء‬ ‫جديدة‪ .‬الشاعرون إذن هم الذين‬

‫هم الذين يشعرون مثلما شعر المرقش ومهلهل اللذان مَ هَّدا‬ ‫الطريق للرؤية الشعرية التي َّ‬ ‫تأثر بها مَ ن جاء بعدهم‪.‬‬ ‫إن في قول القدماء‪« :‬إن المهلهل كان أول شاعر وصل‬ ‫ً‬ ‫أبياتا زاد عددها على عدد ما وصل إلينا من شعر‬ ‫شعره إلينا‬

‫أي شاعر تقدّ م عليه‪ ،‬وإنه أول مَ ن ر ُِويت له كلمة بلغت ثالثين‬ ‫بي ًتا»‪ .‬أقول‪ :‬إن في هذا القول َلمعنى؛ إذ من المعروف تاريخيًّا‬ ‫أن ُكليبًا أخا المُ هلهل أراد أن يقيم مُ ْل ًكا في جزيرة العرب‪،‬‬

‫لم يكن ُّ‬ ‫للشعراء إال أبيات قليلة يقولها الرجل عند الحاجة؛‬ ‫أي أن العرب كانوا مدفونين في حياتهم‪ ،‬ولم يكن بوسعهم‬ ‫ّ‬ ‫ليتفكروا في‬ ‫أن يتوقفوا عن اللهاث خلف حياتهم اليومية‬

‫العربي ما يتحتم‬ ‫طبيعة حياتهم القائمة على الترحال‪ .‬يفعل‬ ‫ّ‬

‫عليه فعله (طلب الكأل والماء) حتى إذا ساءت األمور؛ حينئذ‬ ‫يبقى ِّ‬ ‫الشعر له عزاء‪ ،‬ولم يكن هذا الشعر بأبياته القليلة إال‬

‫استعدادًا ل َِقبول َ‬ ‫القدَ ر الذي ينتهي بهم إلى الموت‪.‬‬

‫العربي تزايدت األبيات‬ ‫بعد هذه المرحلة من فجر الشعر‬ ‫ّ‬

‫علي‬ ‫وتنوّعت طرائق الشعراء في نظم الشعر‪ ،‬ويُرجع جواد‬ ‫ّ‬ ‫هذا إلى تقدّ م الزمان‪ ،‬وزيادة الخبرة والمران‪ ،‬وتقدم الفكر‪،‬‬

‫وهي أسباب أرى أنها هي التي أدّت إلى أن يكون هناك رؤية‬ ‫العربي يفكر في طبيعة الحياة القائمة‬ ‫شعرية‪ ،‬فقد بدأ الشاعر‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫على الحِ ّل والترحال؛ لكي ال يبقى مدفونا في حياته اليومية‬

‫عربي آخر‪.‬‬ ‫مثل أيّ رجل‬ ‫ّ‬ ‫بسبب رؤية الوطن المفقود التي ّ‬ ‫تولدت عن تفكير الشعراء‬

‫وأن يجعل للعرب وط ًنا‪ ،‬لكنه ُقتل في حادثة مشهورة‪،‬‬ ‫وبكاء المهلهل أخاه ُكليبًا إنما هو في األساس بكاء على وطن‬

‫لم يَعُ دِ الشعراء «شاعرين ينطقون» كما عند لبيد بن ربيعة؛‬ ‫إنما نوابغ كما عند الفرزدق الذي يقول‪« :‬وهب القصائدَ لي‬ ‫ُ‬ ‫النوابغ إذا مضوا»‪ .‬وما يلفت النظر في قصيدة الفرزدق التي‬

‫ً‬ ‫ِك‬ ‫إن ما يلفت االنتباه أن امرأ القيس هو‬ ‫أيضا‪ -‬ابن مَ ل ٍ‬‫ْ‬ ‫ضاعت مملكة آبائه‪ ،‬ويمكن القول‪ :‬إن بكاءه على األطالل التي‬

‫وهو فيما أرى له عالقة بالظروف التاريخية التي تكوَّنت فيها‬ ‫ً‬ ‫مبلغا عند عنترة كما‬ ‫رؤية الوطن المفقود التي بلغ القول فيها‬

‫مفقود؛ مملكة العرب التي تحوَّلت إلى خراب من أجل ناقة‬

‫البسوس‪.‬‬

‫اش ُت ِهر بـأنه أول مَ ن بكى عليها هو بكاء على وطنه المفقود‪.‬‬ ‫وعلى أي حال‪ ،‬قبل أن ُيه َْل ِه َل الشاع ُر المُ ه َْل ِه ُل ِّ‬ ‫الشع َر‬

‫َعدَّ َد فيها الشعراء هو قوله‪« :‬ومهلهل الشعراء ذاك األول»‪،‬‬

‫َّ‬ ‫معلقته؛ إذ إن «متردّم»‬ ‫يُفهم من كلمة «متردّم»؛ في مطلع‬ ‫هو القول المحبوك َن ْسجه بإتقان‪.‬‬

‫‪145‬‬


‫تراث‬

‫عناق‬ ‫األفكار‬ ‫الهندسية‬ ‫في قصور الطين‬ ‫‪146‬‬

‫عبدالعزيز محمد العريفي‬ ‫كاتب سعودي‬

‫تتداعى أصوات وصور ثالثية األبعاد من وراء التاريخ َّ‬ ‫للبنائِين‪ ،‬وهم منهمكون في ِّ‬ ‫رص‬ ‫َّ‬ ‫وتتسلل إلى أنفك‬ ‫َل ِبنات الطين‪ ،‬وتشييد صروح الذكريات الجميلة على مساحات المخيلة‪،‬‬ ‫رائحة الطين الممزوج ِّ‬ ‫َ‬ ‫ولجت‬ ‫بالتبْن حتى َل َتكاد تشعر ببرودتها ورطوبتها على وجنتيك كلما‬ ‫قصرًا أو ً‬ ‫بيتا من بيوت الطين القديمة‪ ،‬وينتابك في أعماق النفس ذلك الحنين والشوق‬

‫الجياش إلى االلتصاق بها بحميمية‪ ،‬وتقبيل ذا الجدار وذا الجدار بشغف العاشق‪ ،‬فكل جدار‬ ‫من جدرانها المتهالكة وكل زاوية فيها حتى عود ِّ‬ ‫ً‬ ‫جاهدا لعقود التحرُّر من‬ ‫التبْن الذي يحاول‬ ‫جف حول خاصرته؛ ُّ‬ ‫الطين الذي َّ‬ ‫كلها تصرخ بلسان الصمت‪ ،‬تريد أن تروي لك قصتها‪ ،‬وتبوح‬ ‫بمكنون أسرارها التي كادت تتالشى في غيابة جُ ِّ‬ ‫ب الماضي‪ ،‬وتلحّ عليك تلك األحاسيس عندما‬ ‫يرتبط المبنى بحادثة تاريخية‪ ،‬أو بشخوص ُمهمة من العالم القديم؛ مثل‪ :‬قصر المصمك في‬

‫مدينة الرياض الذي تتجلى فيه قصة فتح الرياض على يد الملك عبدالعزيز ‪-‬رحمه الله‪ -‬بكل‬ ‫أبعادها‪ ،‬حتى لتكاد تسمع صدى سنابك الخيل‪ ،‬وأصوات الفرسان في خيالك‪.‬‬

‫القصور والبيوت الطينية ليست مثل المنشآت األخرى التي تعتمد على الدقة الهندسية‬

‫والقولبة واآلالت والمواد الكيميائية‪ ،‬بل إنها نمط معماريٌّ مكتنز بالجمال‪ ،‬أقرب إلى األعمال‬ ‫ً‬ ‫انفصاما بين الهندسة المعمارية التقليدية وطريقة‬ ‫الفنية اليدوية‪ ،‬وال َي ْعني ذلك أن هناك‬ ‫َّ‬ ‫بناء بيوت الطين‪ ،‬بل المقصود هنا أنها ال تلتزم صرامة المنشآت المسلحة الحديثة‪.‬‬ ‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬


147


‫تراث‬

‫بالماء من حين آلخر‪ .‬بعد ذلك يخلط‬ ‫بأعواد ال ِّتبْن والقليل من (البحص) وهو‬ ‫حصى صغير؛ لزيادة تماسك البناء عند‬

‫هطول األمطار‪ ،‬وأخيرًا يقوم البناؤون‬ ‫بنقل الطين بالمحافر‪ ،‬والبدء في‬

‫عمل العرق األول فوق حفرة األساس‬ ‫المملوءة بالحجارة وبسمك نصف متر‬

‫تقريبًا‪ ،‬يزيد وينقص حسب ما يراه‬ ‫صاحب البيت‪ ،‬وبارتفاع مماثل‪ ،‬ويُترَك‬

‫إلى اليوم التالي‪ ،‬أو حتى يصل إلى درجة‬

‫من الجفاف تمكنه من احتمال عرق آخر‬ ‫ً‬ ‫واحدا‬ ‫فوقه‪ .‬وهكذا يجري وضع العروق‬ ‫تلو اآلخر مع مراعاة األبعاد حتى الوصول‬

‫إلى االرتفاع الكافي لوضع السقف الذي‬

‫عادة ما يكون من جذوع أشجار األثل‬ ‫المتساوية السمك تقريبًا‪ ،‬وخوص‬ ‫ُّ‬ ‫يصف فوقها بترتيب‪،‬‬ ‫النخل الذي‬ ‫ويوضع العازل الذي ربما كان من قماش‬

‫الخيش المغموس في القار أو ما أشبه‪،‬‬ ‫ثم ي َّ‬ ‫ُغطى بالطين تمامً ا‪ ،‬وهكذا حتى‬

‫‪148‬‬

‫االنتهاء من بناء الدور الثاني‪ ،‬وعمل‬ ‫القباب المرتكزة على أميال أسطوانية‬ ‫من الصخور والطين‪ ،‬والتف ُّنن في عمل‬ ‫ّ‬ ‫تعد من سمات البيت‬ ‫الشرف التي‬

‫الطيني‪ ،‬وأخيرًا وضع الجبس على أجزاء‬ ‫ّ‬ ‫معينة من البيت؛ للحماية والتجميل‪،‬‬

‫كيف تبنى قصور المدن الصحراوية؟‬ ‫ُتشيَّد بيوت الطين وفق أنماط وأشكال كثيرة‪ ،‬أفضلها في‬

‫جزيرة العرب ما جرى بناؤه بطريقة العروق‪ ،‬كما كان متبعً ا‬ ‫في قصور المدن الصحراوية القديمة؛ مثل‪ :‬حائل‪ ،‬ونجران‪،‬‬ ‫وبعض القرى النجدية‪ ،‬فتلك الطريقة تضفي على القصر‬ ‫جمالاً معماريًّا ممي ًزا‪ ،‬إضافة إلى المتانة التي تزيد من عمره‬

‫االفتراضي‪ .‬تتم تلك الطريقة حسب ما ذكر لنا أحد كبار السن‪،‬‬ ‫ممن شاركوا في بناء كثير من القصور الطينية‪ ،‬بإعداد مخطط‬ ‫للبيت أو القصر أولاً ‪ ،‬ثم حفر أساسات الجدران على شكل‬

‫خندق‪ ،‬مع مراعاة ترك فراغات معينة لألبواب والفتحات‪،‬‬ ‫ويُملأَ الخندق بالحجارة‪ ،‬ثم ي َ‬ ‫الطيني‬ ‫ُجلب كثير من التراب‬ ‫ّ‬

‫على ظهور الجمال من أماكن شتى‪ ،‬تكون بعيدة في بعض‬ ‫األحيان‪ ،‬وي َ‬ ‫ُخلط بالماء‪ ،‬وتدوسه الجمال حتى يتحول إلى‬

‫ما يشبه الصلصال الالزب‪ ،‬ويُترَك عدة أيام مع ترطيبه‬ ‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬

‫والعناية الفائقة بتجصيص المجالس‬

‫ً‬ ‫خصوصا ما يطلق عليه الوجار أو‬ ‫وتزيينها بزخارف مميزة‬ ‫ّ‬ ‫تصف‬ ‫الكمار؛ حيث موقد النار أو الكانون‪ ،‬والرفوف التي‬ ‫فوقها األباريق والدالل وغيرها‪ ،‬وتسوية األرضية وتركيب‬ ‫األبواب الخشبية المميزة والنوافذ‪.‬‬ ‫قصور الطين النجرانية‬

‫يزداد جَ يَشان المشاعر عندما تقع عيناك على أحد‬

‫القصور الطينية العظيمة في أيّ من المدن السعودية التي‬ ‫تشتهر بذلك‪ ،‬وكأن من قام بهندستها يمتح من نبع كنوز فنية‬ ‫ال تنضب‪ ،‬ولنبدأ بمدينة نجران مثلاً لكونها تضمُّ مجموعة‬

‫ّ‬ ‫تشد األنفاس حتى إن اسم‬ ‫كبيرة من القصور الطينية التي‬

‫نجران له داللة بنائية‪ ،‬ويعني فيما يعنيه الخشبة التي يدور‬ ‫عليها ِر َتاج الباب‪ ،‬ويسمى بيت الطين في نجران (درب)‪ ،‬وهو‬

‫التاريخي أنموذجً ا‬ ‫االسم الشائع هناك‪ ،‬ويُعَ ّد قصر اإلمارة‬ ‫ّ‬


‫عناق األفكار الهندسية في قصور الطين‬

‫ً‬ ‫فريدا للعمارة الطينية التقليدية في المنطقة‪ ،‬إضافة إلى‬ ‫كونه ي ِّ‬ ‫ُمثل حِ قبة مُ همة من تاريخ الدولة السعودية في عهدها‬

‫الثالث‪ ،‬وأنشئ القصر عام ‪1631‬م مقرًّا لإلمارة والشرطة‬ ‫والمحكمة والبرقية‪ .‬والمبنى ُشيِّد ليكون قلعة عظيمة ذات‬ ‫ُ‬ ‫عال دائريّ‬ ‫أسوار عالية‪ ،‬وفي كل ركن من أركانه أقيم برج ٍ‬ ‫ُّ‬ ‫بالشرف والجبس والمقرنصات‬ ‫الشكل للمراقبة‪ ،‬و ُز ِّين أعاله‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫كبيرة‪ ،‬وبئرًا‬ ‫غرفة‬ ‫النجرانية الجميلة‪ .‬ويضم القصر نحو ‪60‬‬ ‫ً‬ ‫ومسجدا‪ ،‬والقصر بأكمله بُني بطريقة‬ ‫مطوية بالحجارة‪،‬‬ ‫عروق الطين (المدماك)‪ ،‬وهي طريقة مشتركة بين مدن‬

‫أخرى في المملكة؛ مثل‪ :‬مدينة حائل في الشمال‪ ،‬وهي‬ ‫أفضل بكثير من طريقة البناء َ‬ ‫بل ِبنات الطين اله َّ‬ ‫َشة‪ ،‬وتصمد‬ ‫قرونا طويلة‪ ،‬وهناك قصر آخر في نجران ال ّ‬ ‫ً‬ ‫يقل أهمية عن‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫خصوصا من ناحية فنّ المعمار‪ ،‬ألاَ وهو قصر‬ ‫مق ّر اإلمارة‬

‫ألعان‪ ،‬ويعرف قديمً ا بقصر سعدان‪ .‬والقصر بأكمله ُشيِّد على‬ ‫ُّ‬ ‫ويعد من أروع نماذج العمارة الطينية‬ ‫قمة جبل عام ‪1689‬م‪،‬‬

‫القصور والبيوت الطينية ليست‬ ‫مثل المنشآت األخرى التي تعتمد‬ ‫على الدقة الهندسية والقولبة‬ ‫واآلالت والمواد الكيميائية‪ ،‬إنها نمط‬ ‫معماري مكتنز بالجمال‪ ،‬أقرب إلى‬ ‫ٌّ‬ ‫األعمال الفنية اليدوية‬ ‫حائل وإبداع البناء الطيني‬

‫مدينة أخرى من مدن المملكة تزخر بالمباني الطينية‬

‫ذات العراقة‪ ،‬أال وهي مدينة حائل ذات الشهرة الواسعة‬

‫في تشييد القصور الطينية داخل منطقة حائل وخارجها‪،‬‬

‫فعلى سبيل التمثيل‪ :‬قلعة أعيرف فوق جبل أعيرف التي‬ ‫تشرف على المدينة العتيقة من الجهات جميعها؛ حيث‬

‫ُّ‬ ‫تعد‬ ‫التقليدية‪ ،‬وهناك قصور أخرى عديدة في قرى نجران‬ ‫في مجملها ً‬ ‫آية من آيات اإلبداع المعماريّ التقليديّ ؛ مثل‪:‬‬

‫تتعانق األفكار الهندسية مع الذائقة الفنية‪ ،‬والقلعة هي‬

‫والمشكاة‪ ،‬والمخالف‪ ،‬والموفجة‪ ،‬وقد رممت الهيئة‬

‫الجبل‪ ،‬وتتكون من طابقين بطول ‪ 40‬مترًا‪ ،‬وعرض ‪11‬‬

‫الحامية‪ ،‬والحضن‪ ،‬ودحضة‪ ،‬والشبهان‪ ،‬وصاغر‪ ،‬والقابل‪،‬‬

‫الوطني أغلبية تلك القصور واعتنت‬ ‫العامة للسياحة والتراث‬ ‫ّ‬

‫بصيانتها؛ لتكون مواقع أثرية يرتادها السياح‪.‬‬

‫مبنى مستطيل متدرّج لينسجم مع ارتفاعات وانخفاضات‬

‫مترًا‪ ،‬والمبنى مسقوف بأخشاب األثل وخوص النخل‪ ،‬مع‬

‫أسطح مسوَّرة وبرج دائريّ يزيد ارتفاعه على خمس أمتار‬ ‫ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫كلها ُز ِّي ْ‬ ‫بالشرف المغطاة بطبقة من الجبس وبكوّات‬ ‫نت‬

‫وفتحات مراقبة‪ ،‬إضافة إلى األبواب الخشبية المزخرفة‬

‫داخل المبنى‪ ،‬ويتوسط القلعة مسجد ذو رواق واحد‪ ،‬وله‬ ‫ُ‬ ‫تكويناته على الرغم‬ ‫خمسة أعمدة‪ ،‬وفناء صغير تستهويك‬

‫من بساطتها‪ ،‬وتشيع في رُوحك ذلك الحنين الغامض إلى‬ ‫ماض تجهل تفاصيله‪ ،‬ويقال‪ :‬إنها بُنيت أولاً بالحجر قبيل‬ ‫ٍ‬

‫‪149‬‬


‫تراث‬

‫عصر اإلسالم‪ ،‬وأتت عليها صروف الزمن؛ لتحيلها إلى‬ ‫أطالل لم َ‬ ‫يبق منها إال األساسات‪ ،‬ثم أُعيد بناؤها في عهد‬

‫‪150‬‬

‫دفاعية في منطقة نجد خاصة‪ ،‬والمنطقة الوسطى عامة‪.‬‬ ‫وهناك مجموعة أخرى غير قليلة من القصور والقالع‬

‫آل علي الذين حكموا (حائل) من القرن الثامن إلى القرن‬ ‫ُ‬ ‫جريَ لها‬ ‫الثالث عشر الهجريّ ‪ ،‬وفي العهد السعوديّ أ ِ‬ ‫صيانة وترميم كبيران عام ‪1404‬هـ‪ ،‬أما الترميم األخير الذي‬ ‫ُ‬ ‫جريَ عام ‪1422‬هـ فقد َّ‬ ‫تكفلت به حينها وكالة وزارة التعليم‬ ‫أ ِ‬

‫للحامية العسكرية في المنطقة‪ ،‬بمساحة كبيرة تبلغ ‪ 20‬ألف‬

‫عمارتها وطرازها عن مثيالتها من المباني التي بُنيت ألغراض‬

‫وقصر الدولة في قفار‪ ،‬وقصر النايف في جبة‪ ،‬وغيرها‪.‬‬

‫السعودية لآلثار والمتاحف‪ ،‬والقلعة ال تختلف في أسلوب‬

‫الطينية في حائل ال تختلف عن أعيرف في شموخها وبُعدها‬ ‫تاريخي بُني في‬ ‫التاريخي؛ مثل‪ :‬قصر القشلة‪ ،‬وهو قصر‬ ‫ٌّ‬ ‫ّ‬ ‫عهد الملك‪ ‬عبدالعزيز–رحمه الله‪ -‬سنة (‪1360‬هـ‪1940 /‬م) مقرًّا‬

‫متر مربع‪ ،‬وقصر برزان الذي يعود إلى عهد أسرة آل رشيد‪،‬‬

‫ُبناة من علية القوم‬ ‫َّ‬ ‫اهتزت له أرض بالدنا‪ ،‬وربت‬ ‫االنفجار الحضاريّ الذي‬

‫من المفارقات الطريفة أن من يقوم عادة بالبناء‬ ‫هو من أهل البلد أصلاً ‪ ،‬وقد يكون من الوجهاء ومن‬

‫وأنبتت من كل زوج بهيج صار ما بقي فيه من بيوتات‬

‫البناء منذ البدء في إنشائه حتى االنتهاء‬ ‫صورها لترافق ِ‬ ‫منه‪ ،‬ففي حائل عندما ّ‬ ‫يهم أحدهم ببناء بيت‪ ،‬فإن ذلك‬

‫في لثة مريضة تستوجب العالج والترميم من أصحابها؛‬ ‫ً‬ ‫عمراني‪ ،‬يستحق الحفاظ عليه‪،‬‬ ‫شاهدا على تراث‬ ‫لِتبقى‬ ‫ّ‬

‫علية القوم‪ ،‬وتتجلى صفة الكرم واألريحية في أبهى‬

‫يعني حتمية المبادرة وحالة استنفار تعاونية للقاطنين‬ ‫حوله؛ إذ عليهم التناوب على دعوة البنائين إلى اإلفطار‬

‫والغداء والعشاء طوال مدة البناء‪ ،‬والمبالغة في‬

‫إكرامهم‪ ،‬وتعكس هذه الحالة مدى التالحم والتكاتف‬

‫االجتماعي‪ ،‬وثقافة النخوة في تلك البيئات‪ ،‬وفي ظل‬ ‫ّ‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬

‫طينية‪ ،‬أو باألحرى ما بقي من أطاللها أشبه ببقايا أسنان‬

‫والتفاخر به بوصفه منتجً ا إبداعيًّا ربما لن يتكرر‪.‬‬

‫وفي هذا السياق قام كثير من سكان المدن النجدية‬

‫ممن أنعم الله عليهم ببناء استراحات خارج مدنهم‪،‬‬ ‫وتح َّر وا في بنائها األسلوب النجديّ القديم في البناء‪،‬‬ ‫فبدت كأنها قصور طينية قديمة تعود إلى األثرياء في‬


‫عناق األفكار الهندسية في قصور الطين‬

‫متاحف طينية وجذب سياحي‬

‫َّ‬ ‫تعددت القصور الطينية التراثية في القصيم‪ ،‬ففي مدينة‬ ‫ً‬ ‫التراثي الذي صار متحفا‪ ،‬وهو قصر‬ ‫بريدة نجد قصر الدبيخي‬ ‫ّ‬

‫ً‬ ‫غرفة مختلفة المساحة‪ ،‬وقصر‬ ‫تراثي من الطين‪ ،‬ويضم ‪12‬‬ ‫ّ‬ ‫تراثي يتكون من‬ ‫السويد الواقع في قرية الحمر‪ ،‬وهو قصر‬ ‫ّ‬ ‫عريشين‪ ،‬وثماني ُغرف‪ ،‬وباحة في الوسط‪ ،‬المعروفة‬

‫الداخلي‪ ،‬وسطح مُ ّ‬ ‫طل على المزارع المحيطة‪،‬‬ ‫بالحوش‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ويعد بحق من أجمل القصور الطينية‪ ،‬وفي محافظة عنيزة‬

‫طيني تزيد مساحته على ‪3500‬‬ ‫يقع بيت البسام‪ ،‬وهو قصر‬ ‫ّ‬ ‫مبني على الطراز النجديّ المشهور‪ ،‬ويمثل في‬ ‫متر مربع‪،‬‬ ‫ّ‬

‫شموخه نمط العمارة في محافظة عنيزة‪ ،‬ومتحف الحمدان‬

‫يهم أحدهم‬ ‫في حائل عندما‬ ‫ّ‬ ‫ببناء بيت‪ ،‬فإن ذلك يعني حتمية‬ ‫المبادرة وحالة استنفار تعاونية‬ ‫للقاطنين حوله‬

‫ً‬ ‫أيضا‪ -‬وهو مزرعة كبيرة‪ ،‬ويتضمن مجموعة‬‫في عنيزة‬ ‫َّ‬ ‫من القصور والمباني التراثية‪ ،‬المبنية من الطين والل ِبن‪،‬‬ ‫والمسقوفة بخشب األثل‪ ،‬وفي البكيرية هناك مقصورة‬ ‫الراجحي؛ حيث َعمَ ْ‬ ‫دت أُ َسر كثيرة في المملكة عامة‪ ،‬وفي‬

‫نجد خاصة في اآلونة األخيرة إلى إعادة بناء مقارّها واستثمار‬

‫الثقافي‪ .‬ومقصورة الراجحي في مدينة البكيرية‬ ‫موروثها‬ ‫ّ‬ ‫شاهد على ذلك‪ ،‬وهي قصر كبير من الطين‪ ،‬يحوي غرفاً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ومسجدا‬ ‫وأحواشا ذات طابع معماريّ فريد‪،‬‬ ‫ومجالس‬ ‫َ‬ ‫واسعً ا وجميلاً‬ ‫َّ‬ ‫سوان‬ ‫وجود‬ ‫إلى‬ ‫إضافة‬ ‫صة‪،‬‬ ‫مجص‬ ‫أعمدة‬ ‫ذا‬ ‫ٍ‬ ‫للسقيا‪.‬‬ ‫لرفع الماء ُّ‬

‫ومقصورة السويلم بالبكيرية هي قصر أثريّ كبير‪ ،‬يتضمن‬

‫مالحق بُنيت مطلع القرن الثالث عشر الهجريّ ‪ ،‬في عهد أمير‬

‫البكيرية عبدالله بن سويلم عقب إنشاء‪ ‬محافظة البكيرية‪،‬‬ ‫وكانت مقصورة السويلم مقرًّا لإلمارة مدة من الزمن‪ .‬وفي‬

‫التراثي في‬ ‫هذا السياق يقول الدبيخي صاحب قصر الدبيخي‬ ‫ّ‬ ‫تعد ً‬ ‫تراثا وتجارة»‪ ،‬مضيفاً‬ ‫ّ‬ ‫بريدة‪« :‬إن بيوت الطين القديمة‬ ‫االجتماعي‬ ‫أن هذه البيوت شهدت تحولاً في االستخدام‬ ‫ّ‬ ‫مصحوبًا بنشاط تجاريّ‬ ‫وسياحي‪ ،‬أعاد إلى األذهان الرغبة‬ ‫ّ‬ ‫االجتماعي واالستثماريّ بمنطقة القصيم؛ للعناية‬ ‫في التوجه‬ ‫ّ‬

‫حقبة ماضية على الرغم من أنها قد ُبنيت بالخرسانة‬

‫وفق أحدث الطرائق في البناء‪ ،‬وعولجت بالطين‬ ‫والموا ّد واألخشاب لتبدو كأنها قديمة؛ لرغبة‬

‫أصحابها في الحفاظ على تراث األجداد‪ ،‬وتقريب‬ ‫صورة الماضي للنشء‪ ،‬متجاوزين بذلك جملة من‬ ‫الصعوبات التي يواجهها عادة ّ‬ ‫كل َمن أراد بناء بيت‬

‫طيني؛ مثل عدم توافر العمالة المناسبة‪،‬‬ ‫أو قصر‬ ‫ّ‬

‫والمقاول المناسب‪ ،‬والمخططات الهندسية‪ ،‬فيبقى‬ ‫المبنى لوحة فنية حُ رَّة ال يمكن أن تتنبأ بنتيجتها إال‬ ‫في نهاية المطاف‪.‬‬

‫بها‪ ،‬ووضعها في الواجهة من جديد بعد إحيائها وتحويلها‬ ‫إلى متاحف ومواقع استثمارية‪ ،‬مب ِّي ًنا أن هذه القصور التراثية‬ ‫ً‬ ‫السياحي‪.‬‬ ‫نشطة تجاريًّا‪ ،‬ومن عوامل الجذب‬ ‫أصبحت‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫بالل ِبن‪ :‬هي الطريقة األقل جودة في‬ ‫طريقة البناء‬

‫تشييد المباني الطينية بيد أنها األكثر انتشارًا؛ لسهولتها‬

‫وتكاليفها غير الباهظة‪ ،‬إضافة إلى سرعة إنجازها‪ ،‬وتعتمد‬ ‫على استخدام َّ‬ ‫ّ‬ ‫الجاف المجهز من قبل بوساطة‬ ‫الطيني‬ ‫الل ِبن‬ ‫ّ‬ ‫تشكيله في قوالب خشبية‪ ،‬ثم تجفيفه تحت أشعة الشمس‪،‬‬ ‫برص َّ‬ ‫ّ‬ ‫الل ِبن وتثبيته بالطين‪ ،‬وبعد أن‬ ‫وتجري طريقة البناء‬

‫تكتمل الجدران ُت َّ‬ ‫غطى بطبقة من الطين بطريقة (اللياسة)‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وتسوَّى‪ ،‬ثم يكمل البناء بالطريقة السابقة نفسها التي تعتمد‬

‫على العروق‪.‬‬

‫‪151‬‬


‫إعالم‬

‫يتحمل أدي ًبا يتحدث خمس دقائق‬ ‫يع ْد أحد‬ ‫َّ‬ ‫لم ُ‬

‫أين الثقافة في‬ ‫التلفزيون المعاصر؟‬ ‫‪152‬‬

‫نصر الدين لعياضي‬ ‫باحث وأكاديمي جزائري‬

‫ّ‬ ‫يتحسر الفرنسيون على زمن يصفونه بالجميل؛ زمن البرنامج‬ ‫التلفزيوني «أبوستروف» ‪ ،Apostrophe‬المتخصص في‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫عالم ُ‬ ‫الك َّتاب‪ ،‬الذي كان يجمع أكثر من ثالثة ماليين مشاهد‬ ‫ّ‬ ‫يتلهفون على متابعة آراء‬ ‫كل أسبوع‪ .‬لقد كان كثيرون‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫الك َّتاب والشعراء الفرنسيين واألجانب فيما كتبوا‪ ،‬وترهف‬ ‫األذن للعالقة الخفية التي كانت تجمع رجال السياسة‬ ‫يتذكر الحلقة التي ّ‬ ‫ّ‬ ‫حل‬ ‫والحكم باألدب‪ .‬ولعل قليلاً منهم‬ ‫فيها الرئيس الفرنسي آنذاك‪ ،‬فاليري جيسكار ديستان‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ضيفا على هذا البرنامج ليتحدث عن الروائي الفرنسي «غي‬ ‫دو موباسان»‪.‬‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬


‫لقد م َّر ‪ 26‬عامً ا على ُّ‬ ‫التلفزيوني عن‬ ‫توقف هذا البرنامج‬ ‫ّ‬ ‫البث إال أن الحديث عنه لم يتوقف في أوساط المثقفين‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫والك ّتاب‪ ،‬والناشرين‪ ،‬ولدى ممتهني العمل التلفزيوني‪.‬‬

‫الفرنسي «هوبرت نيسن»‪ ،‬في‬ ‫لقد وصف الكاتب والناشر‬ ‫ّ‬ ‫التلفزيوني بمفخرة‬ ‫هذا‬ ‫إحدى حواراته الصحفية‪،‬‬ ‫البرنامجَ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الثقافي‪.‬‬ ‫ومحل تميّزها من بقية البلدان في المجال‬ ‫فرنسا‪،‬‬ ‫ّ‬

‫التلفزيوني المذكور يفضي‪ ،‬دائمً ا‪،‬‬ ‫لكن الحديث عن البرنامج‬ ‫ّ‬ ‫إلى التساؤل عن السر في تراجع مكانة الثقافة في القنوات‬

‫التلفزيونية المعاصرة عامة‪ ،‬وليس الفرنسية فقط‪ ،‬وإلى‬

‫النقاش عن الصعوبات التي تعانيها القنوات التلفزيونية‬

‫الثقافية؛ لتستمر في الوجود‪ ،‬فكثير من المثقفين والفنانين‬ ‫يتساءلون عن مصير القناة الرابعة في تلفزيون «بي بي سي»‬

‫البريطاني‪ ،‬التي توصف بأنها متخصصة في الثقافة‪.‬‬ ‫ّ‬

‫زمن الحنين‬

‫لم يكن طموح البرامج الثقافية في التلفزيون في الماضي‬

‫لِتكتفي بإعالم الجمهور الجديدَ في مجال الموسيقا والسينما‬

‫والمسرح والفنون والرواية والشعر‪ ،‬إنما كانت تعمل‬ ‫ّ‬ ‫ليشكل محر ًكا‬ ‫ثقافي وفكريّ متواصل‬ ‫على تأسيس نقاش‬ ‫ّ‬

‫الفرنسي «جون كلود‬ ‫لعجلة الصناعات الثقافية‪ .‬فالناشر‬ ‫ّ‬ ‫غواسويتش»‪ ،‬يتذكر جيدً ا أنهم كانوا ينتظرون بفارغ الصبر‪،‬‬ ‫كل أسبوع‪ ،‬ساعة اإلعالن عن ُ‬ ‫الك ّتاب والشعراء والمفكرين‬ ‫الفرنسي‬ ‫التلفزيوني‬ ‫الذين يستضيفهم صاحب البرنامج‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫المذكور؛ ليسرعوا إلى استخراج مؤلفاتهم من أ ْق ِبيَة المطابع‬ ‫وتوزيعها على المكتبات! كيف ال وال ِك َتاب الذي يحظى بالنقاش‬

‫التلفزيوني تقفز مبيعاته من ثالثة آالف نسخة‬ ‫في هذا البرنامج‬ ‫ّ‬ ‫إلى أكثر من ثالثين ألف نسخة‪ .‬فبعد أسبوع من استضافة‬

‫الروائية الفرنسية «مارغريت دوراس» في هذا البرنامج قفزت‬ ‫مبيعات روايتها «العشيق الصيني» من ‪ 80‬ألف نسخة إلى ‪240‬‬

‫ألف نسخة! ليس هذا فحسب‪ ،‬إنما اعترف الشاعر والكاتب‬

‫العائلي‬ ‫الفرنسي «فيليب دلرم» أن ال أحد من محيطه‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫‪153‬‬


‫إعالم‬

‫وأصدقائه كان يعُ دّ ه كاتبًا‪ ،‬ويأخذ ما يكتبه مأخذ الجدّ حتى‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫الموسيقي‬ ‫التلفزيوني المذكور‪ .‬حتى‬ ‫ضيفا في البرنامج‬ ‫حل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫الروسي الشاب راشمنوف المغمور‪ ،‬نال نصيبه من الشهرة‬ ‫ّ‬ ‫بعد أن جرى اقتباس مقطع من موسيقاه في «تيتل» ‪Title‬‬ ‫البرنامج المذكور‪.‬‬

‫ْ‬ ‫أصبحت مثل هذه البرامج في حكم الماضي ال تثير‬ ‫لقد‬

‫آت‪ ،‬أي‪ :‬مِ ن‬ ‫سوى الحنين إلى ما فات‪ ،‬والخوف مما هو ٍ‬

‫مستقبل الثقافة في القنوات التلفزيونية‪ ،‬ليس في فرنسا‬ ‫فحسب‪ ،‬إنما في كثير من بلدان العالم‪ .‬فإضافة إلى تقليص‬

‫والمعرفي الذي يؤهّ له‬ ‫التعليمي‬ ‫الذي ال يملك المستوى‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫لفهمها‪ُ ،‬‬ ‫ً‬ ‫بعضا ممن يَملك هذا المستوى لجمودها‪.‬‬ ‫وتقصي‬ ‫وتنصرف القنوات التلفزيونية إلى بث البرامج الجماهيرية‬

‫والتوافقية التي تحظى بإجماع‪ ،‬فتجمع المشاهدين وال‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫المخصص‬ ‫التلفزيوني‬ ‫البث‬ ‫يفسر تزايد مدة‬ ‫تف ّرقهم‪ ،‬وهذا ما ّ‬ ‫ّ‬

‫للرياضة واأللعاب والمسلسالت التلفزيونية؛ أي أنها تساير‬ ‫االستهالكي في المجتمع‪.‬‬ ‫المنطق‬ ‫ّ‬ ‫وهكذا اختفت مواعيد المسرح من الشاشة الصغيرة‬

‫البرامج الثقافية في شبكة البرامج التلفزيونية لتصل إلى نحو‬ ‫‪ %5‬من جُ ّل القنوات التلفزيونية العامة‪ ،‬جرى تأخير موعد ّ‬ ‫بثها‬

‫خارطة البرامج التلفزيونية‪ .‬لقد طبعت هذه النوادي البرامج‬

‫فأصبحت تسمّ ى برامج «المنوعات»؛ للتأكيد على ّ‬ ‫خفتها‬

‫أو بعض ممثليها في أستوديو التلفزيون؛ لمناقشة طريقة‬

‫إلى ساعات متأخرة من الليل؛ العتقاد راسخ في أنها برامج‬ ‫نخبوية‪ ،‬وال توجّ ه إلى جميع المشاهدين‪ُ .‬‬ ‫وغيِّرت طبيعتها‪،‬‬ ‫وذوبانها في الترفيه؛ مثل‪ :‬المسابقات التلفزيونية‪ ،‬والبرامج‬ ‫الغنائية التي تسعى للرفع من شأن الضيوف والنجوم والترويج‬

‫لهم على حساب الموضوعات والمضامين‪.‬‬

‫إن غاية البرامج الثقافية في التلفزيون ليس اإلمتاع‬

‫فحسب‪ ،‬إنما إثارة الفضول‪ ،‬والتزود بالمعرفة‪ ،‬وإرهاف‬

‫‪154‬‬

‫العتقادها أنها عسيرة الهضم‪ّ ،‬‬ ‫ً‬ ‫قطاعا واسعً ا من الجمهور‬ ‫وتنفر‬

‫اإلحساس‪ ،‬والدفع إلى التفكير والتأمل‪ .‬إنها تتطلب قدرًا من‬

‫االنتباه والتركيز‪ ،‬بينما تسعى كثير من القنوات التلفزيونية‬ ‫المعاصرة لالستحواذ على أكبر نسبة مشاهدة؛ لِجَ ْني أكبر‬ ‫َ‬ ‫الثقافية؛‬ ‫حصة من سوق اإلعالنات؛ لذلك َتستبعد البرامجَ‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬

‫في كثير من القنوات التلفزيونية‪ ،‬وزالت نوادي السينما من‬ ‫التلفزيونية‪ ،‬في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي‪،‬‬ ‫فكانت ّ‬ ‫تبث األفالم السينمائية الرائدة‪ ،‬وتستضيف مخرجيها‬

‫ُّ‬ ‫توقف البرنامج‬ ‫عاما على‬ ‫مر ‪26‬‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫التلفزيوني «أبوستروف» عن البث إال‬ ‫ّ‬ ‫أن الحديث عنه لم يتوقف في أوساط‬ ‫المثقفين‪ ،‬وال ُكتّاب‪ ،‬والناشرين‪،‬‬ ‫التلفزيوني‬ ‫وممتهني العمل‬ ‫ّ‬


‫أين الثقافة في التلفزيون المعاصر؟‬

‫إبداع وابتكار وليس ًّ‬ ‫وتوزيعا‬ ‫بثا‬ ‫ً‬ ‫ربما النظرة إلى عالقة التلفزيون بالثقافة تتغير عما سبق عرضه إذا استخدمنا مفهوم «الثقافة التلفزيونية»‪،‬‬ ‫الذي يجعل من التلفزيون َ‬ ‫أدات ْي إبداع وابتكار ثقافيين‪ ،‬وليس قناة بث وتوزيع فحسب‪ .‬في هذا اإلطار سعت دول‬

‫ّ‬ ‫التلفزيوني‪ ،‬ضمن سياساتها الثقافية‪ .‬بدأتها بفك‬ ‫البث‬ ‫األوربي لفرض مجموعة من القيود القانونية على‬ ‫االتحاد‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫ّ‬ ‫العام أو الدولة؛ إذ ترى أنه‬ ‫االرتباط بين التلفزيون التجاريّ ‪-‬التابع للقطاع الخاص‪ -‬والتلفزيون التابع للقطاع‬

‫َ‬ ‫ُ‬ ‫من غير المعقول أن يقدم التلفزيون الذي ّ‬ ‫التلفزيون التجاريّ ‪،‬‬ ‫المضامين ذاتها التي يقدمها‬ ‫تموله خزينة الدولة‬ ‫الذي يعتمد على عائدات اإلعالن في تمويله‪ .‬وإلزام التلفزيون التابع للدولة بتخصيص وقت من ّ‬ ‫بث نشرات‬ ‫المحلي المتنوع‪ ،‬ونسبة من‬ ‫الثقافي‬ ‫التلفزيوني‬ ‫أخباره لألحداث والتظاهرات الثقافية‪ ،‬وفرض نسبة من اإلنتاج‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫بث البرامج الثقافية األوربية؛ للتخفيف من لجوء القنوات التلفزيونية األوربية إلى البرامج المستوردة من الدول‬ ‫األجنبية‪ ،‬وبخاصة الواليات المتحدة األميركية‪ ،‬مع تنويع مواعيد بثها؛ وعدم إدراجها في الساعات المتأخرة‬

‫من الليل‪ .‬وتحديد المدة الزمنية المخصصة لبث اإلعالنات؛ سواء أكانت المدة مخصصة للقنوات التجارية أم‬

‫مخصصة للقنوات التابعة للدولة؛ لتحرير القنوات التلفزيونية من قبضة اإلعالن‪ ،‬وما يمارسه من ضغوط على‬ ‫ّ‬ ‫الحد األدنى‬ ‫األوربي أن هذه اإلجراءات تشكل‬ ‫نوعية البرامج التلفزيونية وبخاصة الثقافية‪ .‬وتعتقد دول االتحاد‬ ‫ّ‬ ‫الذي ّ‬ ‫يمكن التلفزيون من تطوير «الثقافة التلفزيونية»‪.‬‬ ‫إخراجها وقيمتها الفنية‪ ،‬وإن أبقت على بعض البرامج الثقافية‬

‫األدباء والمفكرين في ساعة ذروة المشاهدة‪ ،‬وفتح أذرعه‬

‫التلفزيونية القليلة الخاصة بالكتاب‪ ،‬التي ال تزال صامدة‬

‫يتوددون للجمهور ويمازحونه في ديكور فاخر كثير البذخ‪،‬‬

‫فقد غيَّرت بنيتها‪ ،‬وأسلوب تقديمها‪ ،‬وغايتها‪ .‬فالبرامج‬

‫ومستمرة في شبكة البرامج التلفزيونية؛ أصبحت تروم‬ ‫الترويج المحض للكتاب‪ ،‬وانزاحت عن مناقشة موضوعه‪،‬‬

‫وتحليل مضمونه وأسلوبه؛ االنزياح الذي ال يشترط من المذيع‬ ‫قراءة معمّ قة ُ‬ ‫للكتب التي يروجها‪.‬‬ ‫كائن يتطور بتطور المجتمع‬

‫حي يتطور‬ ‫يعتقد بعض المتخصصين أن التلفزيون كائن ّ‬

‫الفرنسي‬ ‫التلفزيوني ومقدمه‬ ‫بتطور المجتمع‪ .‬فمُ ِعدّ البرنامج‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫التلفزيوني فقد الصبر‪ ،‬ولم يعد‬ ‫المذكور أعاله يؤكد أن العمل‬ ‫ّ‬

‫األديب أو المفك َر؛ للحديث مدة خمس‬ ‫يتحمل منح الكلم ِة‬ ‫َ‬

‫دقائق متواصلة؛ ليشرح في هدوء آراءه من دون أن يقاطعه‬

‫المذيع‪ ،‬أو تغيير لقطة التصوير‪.‬‬

‫التلفزيوني على صعيد التصوير‬ ‫بالفعل لم يتغير البرنامج‬ ‫ّ‬

‫فحسب‪ ،‬وال في اإليقاع الذي أصبح سريعً ا ليواكب سرعة‬

‫العصر‪ ،‬إنما تغيَّر في نوعية الديكور‪.‬‬ ‫لقد كان ديكور البرامج الثقافية في السابق بسيطاً‬ ‫ً‬ ‫كراس َّي وطاولة‪ ،‬وحُ ْزمة من‬ ‫ومتقشفا كثي ًرا‪ ،‬ويقتصر على‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫الكتب أو الصور ألفالم أو مسرحيات؛ ألن هاجس هذه البرامج‬ ‫كان النقاش‪ ،‬ود َْفع المشاهِ د إلى التركيز فيه‪ .‬أما اليوم‬ ‫فالنقاش ذاته تغيّر إن لم يكن فقد مضمونه‪ .‬لقد ّ‬ ‫كف كثير من‬ ‫القنوات التلفزيونية في كثير من بلدان العالم عن استضافة‬

‫الستضافة نجوم الفن والطرب واألزياء والرياضة والطبخ الذين‬ ‫ومبهر إلى حد السحر‪.‬‬

‫وهناك من يعتقد أن األمر يتجاوز التلفزيون؛ ألن النظام‬ ‫ً‬ ‫مكونا أساس ًّيا من مكونات الصناعات الثقافية‬ ‫اإلعالمي أصبح‬ ‫ّ‬

‫التي تخضع لمنطق السلعة‪ ،‬وليس الخدمة‪ .‬فلم يكن للقنوات‬ ‫َ‬ ‫تحظ برضا‬ ‫التلفزيونية أن تنجرف إلى «تسليع» الثقافة إن لم‬ ‫الجمهور‪ .‬وهذا الجمهور هو ابن المجتمع الذي تغيَّر هو اآلخر‪،‬‬

‫فتناقص فيه تعداد المكتبات في األحياء السكنية والمدارس‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫وقلت دُور النشر فأصبحت تطبع ُن ً‬ ‫سخا أقل من الكتب‪ ،‬وتبيع‬ ‫كميات قليلة جدًّ ا مما تطبعه‪ .‬واختفت النوادي الثقافية أو ّ‬ ‫جف‬ ‫ّ‬ ‫نشاطها‪،‬‬ ‫وتقلص تعداد رُواد المحاضرات والندوات الثقافية‬ ‫أمام تزايد جمهور الحفالت الغنائية‪ ،‬ورواد مالعب كرة القدم‪.‬‬

‫لقد تكاثرت وفرة البرامج التلفزيونية‪ ،‬وتعدّ دت حوامل‬ ‫ّ‬ ‫وتشذر الجمهور‪ ،‬وتراجعت‬ ‫الثقافة وقنوات توزيعها‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ظل استشراء‬ ‫المشاهدة الجماعية لبرامج التلفزيون في‬

‫«المشاهدة التلفزيونية المؤجلة» الفردية سواء في مواقع‬ ‫ّ‬ ‫منصات‬ ‫القنوات التلفزيونية في شبكة اإلنترنت أم في بعض‬

‫االجتماعي‪.‬‬ ‫التواصل‬ ‫ّ‬ ‫حقيقة لقد انتشرت شرائط الفيديو وحوامله‪ ،‬في نهاية‬

‫السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي‪ ،‬فح ّررت المشاهد‬ ‫التلفزيوني‪ .‬أما اليوم فقد اتسع هامش‬ ‫من إكراهات توقيت البث‬ ‫ّ‬ ‫واالتصالي عن‬ ‫الثقافي‬ ‫الحرية كثي ًرا في ظل انفصال المحمول‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫‪155‬‬


‫إعالم‬

‫االستدراكي ‪ Catch up TV‬أو‬ ‫الحامل‪ ،‬وفي زمن التلفزيون‬ ‫ّ‬ ‫الفيديو تحت الطلب (‪.video on demand (VOD‬‬ ‫تفسر جزئ ًّيا تراجع البرامج الثقافية‬ ‫كل هذه العناصر‬ ‫ّ‬ ‫في التلفزيون المعاصر‪ .‬لكن لماذا جزئ ًّيا فقط؟ ألنها تحمّ ل‬

‫الجمهور مسؤولية انصرافه عن متابعة البرامج الثقافية‪،‬‬

‫ثقافة بالمعنى الدقيق للكلمة‪ ،‬إنما يوجد ترفيه جماهيريّ‬ ‫ّ‬ ‫الصحافي‬ ‫يتغذى من المواد الثقافية‪ .‬فالشعر ‪-‬حسب‬ ‫ّ‬

‫الفرنسي توماس يادان‪ -‬تحوّل في بعض األحيان إلى شعار‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ومادة للتدافع‪،‬‬ ‫موضوعا للتنافس‬ ‫إعالني‪ ،‬والموسيقا أصبحت‬ ‫ّ‬

‫وأضحى الفنان تاج ًرا يتاجر بف ّنه في التلفزيون‪ .‬ربما يمكن‬ ‫ً‬ ‫توصيفا لواقع يتضمن ً‬ ‫نوعا‬ ‫تصنيف هذا األمر بأنه حكم‪ ،‬وليس‬

‫وتبرئ ساحة التلفزيون والمسؤولين عن إدارته من تراجع‬ ‫هذه البرامج‪ ،‬وتتس ّتر على العقل المدبّر الذي ضاعف البحوث‬ ‫التلفزيوني‪ ،‬وأشكال تسويق برامج ُ‬ ‫(الف ْرجة)‬ ‫المتعلقة باإلعالن‬ ‫ّ‬

‫من المبالغة‪ ،‬وال ينطبق على كثير من القنوات التلفزيونية‪،‬‬

‫الضارية بين القنوات التلفزيونية‪.‬‬

‫والفنانين‪ .‬لقد احتفوا به في الخمسينيات ومطلع الستينيات‬

‫والترفيه‪ ،‬واستطالعات الجمهور إلعادة توجيه رغباته وصقلها‪،‬‬ ‫ورسم إستراتيجيات البرمجة التلفزيونية في ّ‬ ‫ظل المنافسة‬

‫زمن المراجعة‬

‫يعتقد كثير من المفكرين والمثقفين أن ما سبق قوله ال‬ ‫يشخص بكل ّ‬ ‫ّ‬ ‫دقة العالقة الملتبسة بين الثقافة والتلفزيون؛‬

‫إذ يرون أن التلفزيون يتعارض جوهر ّيًا مع الثقافة؛ ألنه‬ ‫يميل ميلاً كبي ًرا إلى االستعراض و(الفرجة)‪ ،‬ويروم التسلية‬ ‫والمتعة‪ ،‬ويشجّ ع اآلني‪ ،‬ووليد اللحظة‪ ،‬بينما الثقافة وليدة‬

‫فكر يستثمر في الزمن‪ ،‬ونتيجة صبر وعناد‪ .‬وتعتقد الفيلسوفة‬

‫‪156‬‬

‫والنتيجة‪ ،‬كما تقول الفيلسوفة في الكتاب ذاته‪ ،‬لم تعُ دْ هناك‬

‫األميركية المنحدرة من أصول ألمانية حنا أرنت في كتابها‬ ‫الموسوم بــ«أزمة الثقافة» أن الثقافة المعاصرة تعيش أزمة‬

‫وبخاصة في المنطقة العربية‪ ،‬إال أنه يعبّر عن حالة من‬ ‫ّ‬ ‫المثقفين‬ ‫خيبة األمل فيما آل إليه التلفزيون في نظر كثير من‬ ‫من القرن الماضي‪ ،‬واعتقدوا أنه سيكون أداة فعّ الة في خدمة‬

‫المعرفة والتربية‪ ،‬ووسيلة لنشر الثقافة وتحرير البشر‪ ،‬لكنه‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ويبلد‬ ‫يسطح الوعي‬ ‫سقط في مخالب التجارة والترفيه الذي‬ ‫اإلحساس‪ ،‬وسقط معه األمل‪.‬‬

‫إنها الخيبة ذاتها التي جعلت بعض الفالسفة والمفكرين‪،‬‬ ‫بل ُ‬ ‫الك ّتاب يرون أن الثقافة ال تجني كثي ًرا من التلفزيون؛ لذلك‬

‫نالحظ أن ريجست دو بري‪ ،‬وجيل دولوز‪ ،‬وفيليب موراي‪ ،‬على‬ ‫سبيل التمثيل‪ ،‬ش ُّنوا هجومً ا كبي ًرا على برنامج «أبوستروف» ‪.‬‬

‫الفرنسي موراي يعتقد أن هذا البرنامج أض َّر‬ ‫فالروائي‬ ‫ّ‬ ‫باألدب أكثر مما نفعه‪ ،‬وخ َّربه ألنه خدم منطق «النجومية»‪،‬‬ ‫ً‬ ‫عوضا من أن ير ّكز في الكتاب‪ ،‬وحاول‬ ‫ودفع بالكاتب إلى الشهرة‬

‫حقيقية ترجعها إلى عملية إضفاء الطابع الجماهيريّ عليها‪.‬‬ ‫فجمهرتها َتعْ ني بالضرورة «إعادة إنتاجها‪ ،‬وتسطيحها‪،‬‬

‫ً‬ ‫انطالقا من موضوعات عامة تبدو‬ ‫األدبي‬ ‫أن يتط ّرق إلى اإلنتاج‬ ‫ّ‬

‫ذات استهالك واسع»‪.‬‬

‫السالم‪ ،‬واألحذية‪ ،‬ومنظمة الدول الناطقة باللغة الفرنسية‪،‬‬

‫وتكيّفها في الصور حتى تصبح مادة قابلة للتسويق؛ أي سلعة‬ ‫وال يمكن تناسي َدوْر التلفزيون في جمهرة الثقافة‪.‬‬

‫أنها بعيدة من األدب؛ مثل‪ :‬الشوكوالتة‪ ،‬وآالم المسيح عليه‬

‫والموت‪ ،‬والطفولة‪ ،‬وغيرها من الموضوعات‪.‬‬

‫بالطبع‪ ،‬إن هذا النقد يعجز عن إخفاء النوايا في محاكمة‬

‫التلفزيون‪ ،‬وتجريم الترفيه‪ ،‬والتزام التصور النخبويّ للثقافة‪،‬‬ ‫وحصر البرامج الثقافية في التلفزيون فيما يسمّ يه المختصون‬ ‫بالثقافة الراسخة والمؤسسة؛ أي الثقافة العالِمة؛ مثل‪:‬‬

‫الكتاب والمسرح والسينما‪.‬‬

‫ويربط انحطاط التلفزيون بغياب هذه الثقافة في برامجه‪،‬‬ ‫وهذا ما يفضي إلى النقاش العميق الذي عمر طويلاً ‪ ،‬وحاول‬

‫اإلجابة عن السؤالين التاليين‪ :‬ما معنى تلفزيون ذي نوعية‬ ‫جيدة؟ ومن يملك شرعية الحكم على جودة التلفزيون؟‬ ‫الفرنسي جون أرسي عام‬ ‫وهو النقاش الذي أشار إليه الكاتب‬ ‫ّ‬ ‫‪1959‬م‪ ،‬عندما أ َّكد أنه «من الخطأ أن نطلب من التلفزيون‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬ ‫جافا‪،‬‬ ‫خالصا‪ ،‬وبرنامجً ا إعالم ًّيا‬ ‫أن يقدّ م لنا برنامجً ا ترفيه ًّيا‬

‫وبرنامجً ا تربو ّيًا صارمً ا وأبو ّيًا‪ ،‬بالعكس أعتقد أن البرنامج‬ ‫الترفيهي‬ ‫الجيّد هو الذي يمزج الفئات الثالث؛ أي البرنامج‬ ‫ّ‬ ‫آن واحد»‪.‬‬ ‫واإلعالمي في الوقت ذاته‪ ،‬والتربويّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫والترفيهي في ٍ‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬


‫أين الثقافة في التلفزيون المعاصر؟‬

‫من المحتمل جدًّ ا أن يكون هذا الرأي مقبولاً ‪ ،‬ويحظى بإجماع‬ ‫في الخمسينيات من القرن الماضي‪ ،‬لكن اليوم تداخلت هذه‬

‫الفئات الثالث‪ ،‬وأضحى من الصعوبة بمكان فصل الترفيه‬

‫واإلعالم والتربية عن التسلية‪.‬‬

‫ثقافة تلفزيونية أم برامج ثقافية؟‬

‫الثقافة التلفزيونية‬ ‫والفهم المغاير‬ ‫تختلف نظرة األنثربولوجيين إلى عالقة التلفزيون‬ ‫بالثقافة عن نظرة ُ‬ ‫الك َّتاب والمثقفين النقديين؛ إذ‬

‫بين اليأس من مساهمة التلفزيون في خدمة الثقافة؛‬

‫َ‬ ‫الثقافة‪،‬‬ ‫يرون أن هذه العالقة تتوقف على تعريفنا‬

‫أنه ثقافة مثلما يؤ ّكد األنثربولوجيون؛ ّاتجه كثير من الدول إلى‬

‫اإلنساني‬ ‫‪1870‬م بالقول‪« :‬إنها الحضارة بمعناها‬ ‫ّ‬ ‫ركب ُ‬ ‫الم ّ‬ ‫األوسع؛ أي ذلك ُ‬ ‫الك ِّل ّي الذي يشمل المعرفة‬

‫لسماته التي تتعارض مع مفهوم الثقافة حسبما ذهب إليه‬ ‫أنصار الثقافة العالِمة‪ ،‬والتعامل مع كل ما ّ‬ ‫يبثه على أساس‬

‫إنشاء قنوات تلفزيونية متخصصة في الثقافة‪ ،‬ومن المحتمل‬ ‫أن تكون آخرها قناة روسيا الثقافية‪ ،‬التي قال عنها رئيس تحرير‬

‫مجلة «فن السينما» دانيل دوندوري‪ :‬إنها بمنزلة مطعم رفيع‬ ‫ً‬ ‫خالفا للقنوات التلفزيونية العامة‬ ‫يقدم وجبات غذائية جيّدة‬

‫األخرى‪ ،‬التي تعدّ شبيهة بمطاعم «ماكدونالدز» التي تتميز‬ ‫بأكالتها االصطناعية غير اللذيذة والمض ّرة بالصحة‪ .‬لكن هناك‬

‫البريطاني دين إدوارد تايلور عرّفها عام‬ ‫فالعالِم‬ ‫ُّ‬

‫والمعتقدات والفن واألخالق والقانون واألعراف‬ ‫والقدرات والعادات األخرى‪ ،‬التي يكتسبها اإلنسان‬

‫ً‬ ‫عضوا في المجتمع»‪ .‬فلو اعتمدنا على هذا‬ ‫بوصفه‬ ‫التعريف‪ ،‬فالتلفزيون ذاته يتح ّول إلى مؤسسة‬ ‫ثقافية‪ ،‬وكل ما ينتجه أو ُي ّ‬ ‫قدمه يندرج تحت الثقافة‪:‬‬

‫برامج الطبخ‪ ،‬واألزياء‪ ،‬والرياضة‪ ،‬والمسابقات‪،‬‬

‫من يأخذ على القنوات التلفزيونية الثقافية أنها ال تستقطب‬ ‫ً‬ ‫عريضا‪ ،‬وأن متابعي برامجها محدود جدًّ ا‪ .‬فمجمل‬ ‫جمهورًا‬

‫واألفالم‪ ،‬والمسلسالت التلفزيونية‪ ،‬وغيرها؛ لذلك‬

‫التلفزيون في روسيا‪.‬‬

‫عن مساهمة المسلسالت التلفزيونية في إعادة بناء‬

‫مشاهدي القناة المذكورة ال يتجاوز ‪ % 5‬من مجمل مشاهدي‬ ‫تنخفض هذه النسبة لدى جمهور القناة الفرنسية ‪-‬‬

‫األلمانية «آرتي» الثقافية ليصل إلى ‪ % 3‬فقط‪ .‬إنه المأخذ الذي‬ ‫َ‬ ‫الفرنسي «دومنيك ولتن» على القول‪ :‬إن هذه‬ ‫الباحث‬ ‫حدا‬ ‫َّ‬

‫القنوات التلفزيونية الثقافية ال تخدم الثقافة! لقد أ ّكد أن غاية‬ ‫متخصصة في الثقافة ليس محض سدّ‬ ‫ّ‬ ‫وجود قناة تلفزيونية‬

‫حاجة أقلية متميزة من الناس إلى الثقافة‪ ،‬بل يجب أن تعمل‬ ‫على تقريب قطاع واسع من الجمهور من األعمال الثقافية التي‬ ‫بسبُل أخرى‪ ،‬وجعلها في متناوله‪ً .‬‬ ‫إذا إن هذه القنوات‬ ‫ال يصلها ُ‬

‫نلحظ أن كثيرًا من الدارسين والباحثين َ‬ ‫سعوْا للكشف‬

‫الهوية الوطنية‪ ،‬فالباحثة إميلي سياسكا تعاملت مع‬ ‫المسلسالت األرجنتينية بوصفها مادة ثقافية تسعى‬

‫إلعادة صياغة ُه ِويّة األرجنتين‪ .‬والباحث بتراكيم لويس‬

‫كارلوس بيّن في كتابه الموسوم بـ«وسائل اإلعالم‬

‫والسلطات والهويات» كيفية مساهمة المسلسالت‬ ‫في تشكيل الهوية البرازيلية‪.‬‬

‫األسترالي من‬ ‫ويمكن النظر إلى تجربة التلفزيون‬ ‫ّ‬ ‫هذه الزاوية‪ .‬لقد ّ‬ ‫تبنى هذا البلد نظامين للتلفزيون‪:‬‬

‫َ‬ ‫الثقافة من أغلبية‬ ‫بعد‪ ،‬في نظر هذا الباحث‪،‬‬ ‫التلفزيونية ُت ِ‬ ‫مشاهدي التلفزيون؛ ألن قليلاً منهم فقط يتابعها‪.‬‬

‫البريطاني‬ ‫األميركي‪ ،‬وهو نظام تجاريّ ‪ ،‬والنظام‬ ‫النظام‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫أي تحرمهم اقتسام ما يشاهده القسم األكبر من المشاهدين‬

‫غيرها بخضوعها لشروط الخدمة العامة‪ .‬فقناة إيه بي‬

‫ُ‬ ‫بعد‪ ،‬في الوقت ذاته‪ ،‬متابعيها من بقية المشاهدين؛‬ ‫وت ِ‬

‫في القنوات التلفزيونية غير المتخصصة‪.‬‬

‫الفرنسي فليب موراي‬ ‫الروائي‬ ‫ُّ‬ ‫أضر باألدب أكثر‬ ‫يعتقد أن هذا البرنامج ّ‬ ‫خربه؛ ألنه خدم منطق‬ ‫مما نفعه‪ ،‬بل ّ‬ ‫«النجومية» ودفع بالكاتب إلى الشهرة‬ ‫عوضا من أن يركز في الكتاب‬ ‫ً‬

‫الذي يستند إلى تجربة قناة «بي بي سي» التي تتميّز من‬

‫سي ‪ ABC‬األسترالية وجّ هت مسلسالتها التلفزيونية‬

‫في الثمانينيات من القرن الماضي إلى خدمة الذاكرة‬

‫الوطني بتاريخ أستراليا‪.‬‬ ‫الشعبية‪ ،‬وتعزيز الشعور‬ ‫ّ‬ ‫ونعتقد أن بعض المسلسالت العربية التي ّ‬ ‫بثت في‬

‫ّ‬ ‫تصب في اتجاه تعزيز الذاكرة‬ ‫أكثر من فضائية عربية‬ ‫الجماعية‪ ،‬وتعضيد الهوية الوطنية‪.‬‬

‫‪157‬‬


‫فنون‬

‫اإلنترنت وسيلتي‬ ‫للخروج من دائرة العقبات‬ ‫التي تواجه المسرحيين‬ ‫‪158‬‬ ‫عباس الحايك‬ ‫كاتب مسرحي سعودي‬

‫لم تكن بداية المسرح في السعودية متأخرة إذا ما قيست بظهور التجارب األولى على مستوى دول‬

‫الخليج وبعض الدول العربية‪ ،‬فأكثر الروايات التي وردت حول البدايات والتي أرجعت ظهور المسرح‬

‫إلى الفكرة التي كانت تراود األديب الراحل أحمد السباعي في تقديم عرض مسرحي في مكة بعنوان‬ ‫«فتح مكة» في عام ‪1960‬م‪ ،‬وهي الفكرة التي لم تظهر للنور رغم المحاوالت الحثيثة من السباعي والتي‬ ‫اصطدمت برفض اجتماعي آنذاك‪ .‬أو تلك التي أشارت إلى أن البداية كانت في عام ‪1974‬م‪ ،‬يوم عرض‬

‫المسرحي إبراهيم حمدان مسرحيته «طبيب بالمشعاب» المعدة عن مسرحية موليير «طبيب رغم أنفه»‬ ‫وعرضها في العاصمة الرياض‪ ،‬أو ً‬ ‫أيضا تلك الروايات التي حددت البدايات بعام ‪1972‬م وهو التاريخ‬

‫الذي وصلتنا فيه أول مسرحية موثقة من فرع جمعية الثقافة والفنون باألحساء «العزوبية» تأليف خالد‬

‫الحميدي وإخراج حسن العبدي‪ ،‬ومسرحية «ريتا» تأليف وإخراج حسن العبدي التي انطلقت منها فكرة‬

‫جمعية الثقافة والفنون وخرجت رسميًّا للنور في عام ‪1974‬م‪ ،‬فات هذه الروايات الرجوع لوثيقة تؤكد‬ ‫أن المسرح المدرسي كان موجو ًدا قبلها بسنوات وبالتحديد في عام ‪1928‬م وهي مسرحية «بين جاهل‬

‫ومتعلم» قدمتها المدرسة األهلية بعنيزة والتي أسسها صالح بن صالح أحد رواد التعليم في المملكة‪.‬‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬


‫ومع هذا التأكيد على قدم المسرح في المملكة إال أن‬

‫أي نشاط مسرحي من دون استجداء الدعم من القطاع‬

‫اإلبداعية موازاة مع الحركة المسرحية في دول الخليج رغم‬

‫تعطيل العديد من المشاريع المسرحية المهمة‪ ،‬كجمعية‬

‫هذا المسرح كان وال يزال يواجه عقبات تؤخر من مسيرته‬ ‫ما قدمه هذا المسرح من تجارب إبداعية لفتت االنتباه‪ ،‬لكن‬ ‫ّ‬ ‫تتأت إال من نضال المسرحيين السعوديين‬ ‫هذه التجارب لم‬ ‫أنفسهم؛ من أجل مسرح سكنهم فعشقوه‪ ،‬فلم يقفوا عند‬

‫كل عقبة بل حاولوا تجاوزها‪ ،‬ولكن العقبات تتراكم وتتكاثر‬ ‫فتضعهم في أزمة وجود‪.‬‬ ‫اجتهادات شخصية‬

‫هناك عدد من العوامل تظافرت مسؤوليتها على‬

‫عدم تطور المسرح السعودي وبقائه في دائرة االجتهادات‬ ‫الشخصية وإن كان بعضها الف ًتا‪ .‬فالبداية في النظرة االجتماعية‬

‫الخاص الذي بدوره ال يبدي حماسة للمسرح‪ .‬أضف إلى ذلك‬

‫المسرحيين‪ ،‬ومهرجان المسرح السعودي الذي يفصلنا عن‬

‫آخر دورة له ثماني سنوات رغم الوعود المتكررة بإقامته‪.‬‬

‫والعامل األهم‪ ،‬ويبدو أكثر إثارة للسجال‪ ،‬هو غياب المرأة‬

‫عن المسرح في السعودية سوى عن العروض النسائية البحتة‬

‫التي يمثل فيها نساء في حضرة جمهور من النساء‪ ،‬االفتراق‬ ‫بين جنسين مسرحيين؛ مسرح رجالي وآخر نسائي (ليس‬ ‫بالضرورة نسوي) يضع كتاب المسرح والمخرجين في مواجهة‬

‫صعبة مع هذا الغياب‪ .‬هناك عامل آخر أجده يؤثر سلبًا في‬ ‫المسرح في السعودية وتقع مسؤوليته على المسرحيين‬ ‫أنفسهم‪ ،‬فمن يطالع أخبار المسرحيين في الصحف أو في‬

‫الملتبسة للمسرح‪ ،‬والفهم الخاطئ لرسالة المسرح وجدواه‪،‬‬

‫مواقع التواصل االجتماعي‪ ،‬يجد أنهم يقضون كثي ًرا من‬

‫التي أخرت االعتراف بالمسرح كفن يمكن أن يقدم للمجتمع‬

‫تضيع عليهم الوقت الكثير الذي يكفيهم ليتفرغوا إلبداعاتهم‪،‬‬

‫وهو ما جعل بعضهم يقف موقف الضد تجاهه‪ ،‬هذه النظرة‬ ‫رسائل قيمية وجمالية‪ .‬وثاني العوامل هو الجهات المنوط‬

‫بها دعم ورعاية واحتضان المسرح‪ ،‬كوزارة الثقافة واإلعالم؛‬ ‫إذ إنها لم تخصص للمسرح ما يكفي لدعمه معنو ّيًا وماد ًّيا؛‬

‫وقتهم في الجدال والسجاالت التي ال تنتهي‪ ،‬والخالفات التي‬

‫فالمسرح يحتاج لتواصل واتصال‪ ،‬وعالقات وتآلف‪ ،‬ال عالقات‬

‫تتسم باالختالف والصراعات‪.‬‬

‫معنو ّيًا بالتغطيات اإلعالمية واهتمام التلفزيون مثلاً بالعروض‬

‫‪159‬‬

‫المسرحية والبرامج التي ستساهم في ترسيخ هذا الفن‬ ‫اجتماع ًّيا بين جمهور التلفزيون‪ ،‬وماديًّا في شح ما تقدمه‬

‫الوزارة للمسرح‪ ،‬فهي لم تقدم البنية التي يمكن أن تخدمه‪،‬‬ ‫كالمسارح والقاعات في المدن الكبرى بالمملكة‪ ،‬ولم تخصص‬

‫له موازنات كافية؛ لتسير عجلة المسرح بشكل طبيعي‪،‬‬ ‫فالذي ينظر إلى مخصصات لجان المسرح في فروع جمعية‬

‫الثقافة‪ ،‬ويقارنها بمخصصات الفرق المسرحية الشبابية في‬

‫دول خليجية مجاورة؛ تتجلى له صورة المأزق الذي يعيشه‬ ‫المسرح السعودي الذي وصل إلى حالة تقشف يعانيها اآلن‬

‫كل فروع جمعية الثقافة والفنون التي ال تتمكن من إقامة‬

‫الفهم الخاطئ لرسالة المسرح‬ ‫وجدواه جعل بعض الجمهور يقف‬ ‫موقف الضد تجاهه‬

‫من مسرحية «زهرة الحكايا»‪ .‬عمان‬


‫فنون‬

‫تجاوز العقبات‬

‫وعلى المستوى الشخصي‪ ،‬فأنا ككاتب مسرحي ربما‬

‫و«جزيرة األماني» في فلسطين المحتلة وفي عمان‪ ،‬إضافة‬

‫تتشارك فيه المرأة والرجل في حكاية واحدة‪ ،‬أكتب من دون‬

‫العربي ‪« 2001‬فصول من عذابات الشيخ أحمد» التي قدمت في‬ ‫ً‬ ‫بعضا منها‬ ‫افتتاح مهرجان أيام الشارقة المسرحية ‪ ،2003‬وقدم‬

‫حاولت تجاوز تلك العقبات بالكتابة لمسرح مختلط‪ ،‬مسرح‬

‫سقف‪ ،‬ومن دون حواجز‪ ،‬ووجدت أن مواقع اإلنترنت وسيلة‬

‫سهلة لوصول نصوصي ألكبر عدد من المهتمين بالمسرح؛‬

‫لتقرأ نصوصي‪ ،‬وتنفذ خارج دائرة المسرح السعودي الذي‬ ‫ال أملك فيه من رصيد سوى عرضين مسرحيين «المزبلة‬

‫الفاضلة» لماهر الغانم‪ ،‬و«بارانويا» لياسر الحسن‪ ،‬وثالث‬

‫مسرحيات اجتماعية‪ .‬بينما نصوصي كلها تقريبًا نفذت في‬ ‫دول عربية وبرؤى إخراجية مختلفة‪ ،‬فـ«المزبلة الفاضلة»‬

‫نفذت أكثر من عشر مرات في دول خليجية وعربية‪ ،‬بلغتها‬ ‫األصلية وبلهجات محلية؛ مثل‪ :‬اللهجة العمانية واللهجة‬

‫الجزائرية‪ ،‬كما ترجم لي نص «هجرة النوارس البرية»‬

‫وقدم باللغة السريانية شمال العراق‪ ،‬وقدمت لي مسرحية‬ ‫«المعلقون» في الكويت وعمان‪ ،‬ونص «الموقوف رقم ‪»80‬‬

‫كثيرا من وقتهم‬ ‫المسرحيون يقضون‬ ‫ً‬

‫‪160‬‬

‫في عمان والجزائر‪ ،‬و«صبية كان اسمها حنين» في المغرب‪،‬‬

‫في سجاالت ال تنتهي‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬

‫إلى أول نصوصي التي فزت بها في جائزة الشارقة لإلبداع‬

‫ً‬ ‫الحقا في البحرين المخرج عبدالله السعداوي‪.‬‬

‫اإلنترنت كان وسيلتي للخروج من دائرة العقبات‬

‫والصعوبات التي تواجه المسرحيين في السعودية‪ ،‬فهو‬

‫الفضاء الحر والجسر األقرب لخشبات المسرح العربي‪،‬‬ ‫فلواله لما وصلت نصوصي ألكثر الدول العربية؛ لتنفذها‬ ‫الفرق المسرحية العربية‪ ،‬وتكون مشاريع تخرج ومادة إخراج‬

‫في معاهد وكليات فنية ومسرحية‪ ،‬فانتظار مخرج تقنعه‬

‫نصوصي لينفذها في المملكة ربما يطول كثي ًرا‪ ،‬واألسماء‬ ‫التي تنفذ نصوصها صارت معدودة على األصابع‪ ،‬وصار‬ ‫لكل فرقة كاتبها الذي ال تخرج عن طوع نصه؛ لذا كان لزامً ا‬

‫علي أن أبحث عن منفذ جديد لنصوصي المسرحية؛ لتخرج‬ ‫ّ‬ ‫من أدراج المكاتب‪ .‬وهذا ما أحاول تمريره على ك ّتاب النص‬ ‫المسرحي‪ ،‬وأطلب منهم أن ينشروا نصوصهم في مواقع‬

‫اإلنترنت المسرحية المتخصصة‪ ،‬فالباحث عن النص يلجأ‬ ‫لهذه المواقع أولاً ‪.‬‬


‫نصوص‬

‫مديح الفراغ‬ ‫عماد أبو صالح‬ ‫شاعر مصري‬

‫ال أحتاج أشعارًا‬

‫على شفاه المرضى‬

‫ال كتب فلسفة‬

‫في جلوكوز المزهريات‬

‫ً‬ ‫خفيفا‬ ‫أريد أن أبقى‬

‫على قصص الحب‬ ‫بين َّ‬ ‫عشاق كاذبين‬

‫‪-‬على األصح‪-‬‬

‫يا أختي‬

‫أكنس رُوحي‬

‫مَ ن يذبحك‬

‫وال لوحات‬ ‫وال تاريخ‬

‫خاويًا‬

‫أو‬

‫جاهل‬

‫ال معرفة في المكتبات‬ ‫هي‬ ‫ّ‬ ‫‪-‬حيث ال يتوقع أحد‪-‬‬

‫وتلفظي آخر أنفاسك‬

‫من شهادة الزور‬

‫لست مجرد ثمرة‬ ‫أنت‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫أنت ِّ‬ ‫قديسة عائلة الخضروات‬ ‫تمتلئ عيناه بالدموع‬

‫رائحتك‬ ‫الناس ال يطيقون‬ ‫ِ‬

‫ألنها كريهة كالحقيقة‬

‫في غرفة تغذية البطون‪ ،‬ال العقول‬

‫أطبخ وأتأمل‬

‫في المطابخ‬

‫كل طبخة درس‬

‫أين تحديدً ا؟‬

‫أحضن بَصلة بحنان‬ ‫بين َك َّف َّي‬

‫أقربها من فمي وأكلمها‪:‬‬ ‫يا صديقة الخدم‬ ‫يا حرة نفسك‬

‫يا أجمل من وردة‬

‫البني الفقير‬ ‫ُك‬ ‫ثوب ِ‬ ‫ّ‬ ‫ينقذك من العَ ْرض‬ ‫مقطوعة الرقبة‪-‬‬‫في الفاترينات‬

‫من رميك وسط الجثث‬ ‫في المقابر‬

‫من أن ترسمي ابتسامة‬

‫كل بَصلة حكمة‬ ‫تقشير البصل‬

‫‪-‬طبقة وراء طبقة‪-‬‬

‫يكشف جوهر الوجود‪ :‬الفراغ‬

‫‪161‬‬


‫فنون‬

‫نحات يجري عمليات‬ ‫تجميل لوجوه المدن‬ ‫طالل الطخيس‪:‬‬ ‫تعلمت من النحت الصبر والرقة‬

‫‪162‬‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬


‫هيثم السيد‬

‫على الرغم من أن الفن واحد‪ ،‬فإننا نعرف طاللاً‬

‫النحات أكثر من طالل التشكيلي‪ ..‬هل أنت متصالح مع‬

‫صحفي ‪ -‬الرياض‬

‫تعد تجربة النحات طالل الطخيس واحدة من أبرز‬

‫العالمات الدالة على وجود ظاهرة «الفرد المشروع» في‬ ‫المشهد الفني السعودي‪ ،‬فالشاب الذي يمارس مهنة‬

‫التعليم هو كذلك صاحب تجربة في تجميل الشوارع‬ ‫واألحياء بالمجسمات الفنية‪ ،‬إضافة إلى أنه يسخر ً‬ ‫وقتا‬ ‫هائلاً لدعم زمالئه الفنانين من خالل جمعية أسسها‬

‫ويعمل على تقديمها كمنصة إبداعية بديلة عن العديد‬

‫من المؤسسات‪ ،‬التي يرى أنها لم تخدم حركة الفنون‬ ‫في المملكة بالشكل المطلوب‪« .‬الفيصل» التقته‬

‫وحاورته حول تجربته وموضوعات أخرى‪:‬‬

‫فرضية مثل هذه؟‬

‫ نعم متصالح مع هذه الفرضية‪ ،‬دافنشي ُعرف رسامً ا مع‬‫ً‬ ‫نحاتا مع أنه برع في‬ ‫أنه برع في النحت‪ ،‬و مايكل أنغلو ُعرف‬ ‫الفن التشكيلي‪ ،‬فال مانع أن يكون للفنان عدة تجارب أو عدة‬

‫خطوط ينثر فيها إبداعه ولكن مؤكد أنه سوف يميل إلى أحد‬ ‫هذه المجاالت‪ ،‬لي عدة تجارب تشكيلية وجداريات تشكيلية‬

‫وتجارب متعددة على خامات مختلفة في مجال النحت‪.‬‬

‫وصفت اختيارك لهذا القالب بأنه «البداية من‬

‫األصعب‪ »..‬أخبرنا ما هي دروس تجربة النحت على‬

‫ً‬ ‫عموما؟‬ ‫شخصيتك‪ ،‬وعلى ثقافتك الفنية‬

‫ً‬ ‫خالفا لما‬ ‫‪ -‬تعلمت من النحت الصبر والرقة في التعامل‬

‫يعتقده الكثير‪ ،‬فأنا أتعامل مع قطعة الحجر كروح موجودة‪،‬‬ ‫أتحاور معها بلطف وذكاء لينتهي حوارنا بجمال وإبداع‪.‬‬

‫ما هي فضاءات اإلبداع المتاحة في هذا النوع من‬

‫الفنان السعودي يقع بين سندان‬ ‫التسويق ألعماله ومطرقة مشاغله‬ ‫اليومية والبحث عن لقمة العيش‬ ‫الفن‪ ..‬ولماذا يبدو األقل قدرة على خلق الدهشة للمتلقي ؟‬ ‫ً‬ ‫عمقا فهو يعتمد‬ ‫‪ -‬أعتقد أن متذوق فن النحت هو األكثر‬

‫على قراءة اإلحساس بالوجود والكتلة والفراغ وتحريك‬ ‫الجمود باإليماءات ولمسات فنية‪.‬‬

‫تجاربي في إيطاليا وبريطانيا‬ ‫هل يمكن أن نرى أعمالاً لطالل الطخيس في مجال‬

‫التجسيد بشكل عام‪ ،‬وباستخدام مواد متعددة؟‬

‫‪ -‬لي تجارب مختلفة على عدة خامات نفذتها في إيطاليا‬

‫وبريطانيا‪ ،‬تناولت فيها موضوع التجسيد بشكل مختلف‪،‬‬

‫ولكن لم تظهر بعد‪.‬‬

‫لك عمل ميداني تابع لمدينة الدوادمي‪ ..‬هل أنت‬

‫راض عن مستوى توظيف الفن حاليًا في إثراء البعد الجمالي‬ ‫ٍ‬ ‫للمدن؟‬

‫‪ -‬البعد الجمالي للمدن له أثر كبير على المجتمع في‬

‫نشر الثقافة والفن وما زال ينقصنا الكثير في هذا المجال؛‬

‫بصمة مكة‬

‫لذلك نحاول جاهدين أن نكرر هذه التجربة ونطبقها في أغلب‬

‫‪163‬‬


‫فنون‬

‫المدن‪ ،‬وقد تبع تجربة التجميل في‬ ‫الدوادمي تجربة في تجميل جدة‪ ،‬وفي‬

‫ُعمان‪ ،‬مدينة مسقط‪.‬‬

‫تعد من أنشط الفنانين على‬

‫مستوى المشاركات‪ ،‬ما هي أبرز‬ ‫الفروق التي تراها بين فعاليات‬

‫الفنون الداخلية والخارجية؟‬

‫‪ -‬نعيش في فترة ركود من قبل‬

‫المشاركات المدعومة من الجهات‬ ‫المعنية‪ ،‬وهذا مؤثر على حركة الفن‬

‫داخل البالد‪ ،‬وأوجّ ه دعوة لجميع‬

‫الدرعية‬

‫الفنانين إلى عدم االعتماد على أي‬

‫جهة‪ ،‬واالعتماد على الذات‪ ،‬واالطالع على التجارب العالمية‪،‬‬

‫متذوق فن النحت أكثر عمقً ا‪ ،‬فهو‬ ‫يعتمد على قراءة اإلحساس بالوجود‬ ‫والكتلة والفراغ وتحريك الجمود‬

‫‪164‬‬

‫باإليماءات ولمسات فنية‬

‫والسعي للتطوير وزيادة الثقافة الفنية واالنتشار‪ ،‬تتميز غالبية‬

‫المشاركات الدولية باالحترافية من ناحية مستوى العرض‬ ‫والتسويق واإلعالم واإلعالن‪ ،‬فكل من يعمل على هذه األمور‬ ‫بالخارج متخصصون في هذا المجال‪ ،‬ولكن لألسف في‬

‫معارضنا الداخلية ال يحضرني أي اسم متخصص في أحد هذه‬ ‫األمور‪.‬‬

‫الحاجة إلى كليات متخصصة‬

‫أنت أحد القائمين على مشروع النادي التشكيلي‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مطلعا على تجارب شابة عديدة‪ ..‬من خالل‬ ‫وهذا جعلك‬ ‫هذا االطالع إلى أين يتجه الفن المعاصر في المملكة؟‬

‫‪ -‬لدينا تجارب مميزة‪ ،‬ولكن ال نستطيع إخفاء حاجتنا‬

‫الملحّ ة لكليات متخصصة في مجال الفنون ومتاحف فنية‬ ‫ترتقي بمستوى الفن داخل المملكة‪.‬‬

‫هل يمكن القول‪ :‬إن التجربة اإلبداعية للفنان تبقى‬

‫ناقصة ما لم يستطع التسويق لنفسه بشكل جيد؟‬

‫‪ -‬يفترض أن يقوم التسويق بالتجربة الفنية عن طريق‬

‫الصاالت الفنية والمتاحف ودور المزادات‪ ،‬ولكن الواقع في‬ ‫ً‬ ‫متفرغا‬ ‫بالدنا عكس ذلك تمامً ا‪ ،‬يفترض أن يكون الفنان‬

‫للعملية اإلبداعية‪ ،‬ولكن لألسف الفنان يقع بين سندان‬

‫نقطة انطالق‬

‫التسويق ألعماله ومطرقة مشاغله اليومية‪ ،‬والبحث عن لقمة‬ ‫العيش للوظيفة‪ ،‬فذلك من شأنه التشويش على العملية‬ ‫اإلبداعية لدى أي فنان‪.‬‬

‫أخيرًا‪ ،‬هل تعتقد أن الفنان السعودي‬

‫ينحت في صخر من أجل التعريف بنفسه‬ ‫محليا والوصول عالميا؟‬

‫‪ -‬بالتأكيد‪ ،‬فنحن نفتقد إلى تلك‬

‫المعارض والمناسبات التي تبنى على أسس‬

‫عالمية‪ ،‬وتستطيع أن تلفت أنظار العالم لتجربة‬

‫الفن السعودي‪.‬‬ ‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬


‫نصوص‬

‫دائرة‬ ‫وردة قاسمتـُها خوفي‬ ‫ْ‬ ‫علي‬ ‫ألوانها‬ ‫اختلطت َّ‬

‫وكنت قبل قد اختلطت‬ ‫لم أستقم‬ ‫ٌ‬ ‫علي وعيتـُه‬ ‫آن ّ‬ ‫ٌ‬ ‫آن وأستلف الكالم‬ ‫ً‬ ‫أقيم منه قصيدة لتماسكي‬

‫ْ‬ ‫أصل بعد‪...‬‬ ‫لـم‬ ‫َح َوت حيرتي الورد‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫وتماسكه‪،‬‬ ‫ضوءه‬ ‫س َر َقت‬ ‫ُ‬ ‫أغام ُر‬ ‫خوف يزيد يغامرني‬ ‫ثم ال أهل‬ ‫حين ال َ‬ ‫أهل تك ُبر فيك القصيدة‬ ‫وفي الشارع ُ‬ ‫الح ّر تختا ُرهم‬ ‫تـَعودتـَهم‬ ‫َ‬ ‫لست تختا ُر ُحـبـًّا‬ ‫َ‬ ‫تعودت ّ‬ ‫حد التوحش إن لم يكونوا‬ ‫لكن‬

‫ُ‬ ‫تغيب عن الوعي حين (يكونوا)‬ ‫ً‬ ‫غشاء عليك‬ ‫ٌ‬ ‫ال َن َف َ‬ ‫ناهض بهم‬ ‫س‬ ‫ٌ‬ ‫ال َن َف َ‬ ‫ناهض دونهم‬ ‫س‬ ‫عودوك على موتهم‬ ‫ٌ‬ ‫غربة ُم َّر ٌة‬ ‫أو فأهل أم ّر‬ ‫أين تتجه اآلن؟‬ ‫َ‬ ‫كبرت‬

‫يحيرك الورد أكثر أكثر‬ ‫ما َ‬ ‫زلت تشكو لغربتك األهل‬ ‫َ‬ ‫تعودت‬ ‫فاحتجت‬ ‫أنت لن تنتهي‬

‫هدى الدغفق‬ ‫شاعرة سعودية‬

‫براءة‬ ‫والغيم ينظر للنوافذ‬ ‫كانت الجدران نائمة‬ ‫ولطفلة سـتزيح سلطان الفراش‬ ‫راح البياض يهيئ اإلفطا َر‬ ‫َ‬ ‫واألحالم‬ ‫والطرقات‬ ‫ً‬ ‫اتساعا‬ ‫وازداد‬ ‫وجه البياض‬ ‫وتاجه السلطان‬ ‫يهوي‬ ‫َ‬ ‫َح َـل َ‬ ‫الغمام‬ ‫ب‬ ‫ّ‬ ‫وصب أكواب الحليب‬

‫‪165‬‬


‫فنون‬

‫الفن المفاهيمي في السعودية‬

‫فنانون يخلطون بين‬ ‫الحداثة والمفاهيمية‬ ‫‪166‬‬

‫سامي جريدي‬ ‫ناقد وتشكيلي سعودي‬

‫عمل للفنان سامي جريدي‬ ‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬


‫‪167‬‬ ‫عمل للفنان عبدالناصر غارم‬

‫موضعا ً‬ ‫ً‬ ‫قلقا‬ ‫ال يزال الفهم الحقيقي للفن المفاهيمي عند الفنان العربي عامة والفنان السعودي خاصة‬

‫لرسم الخطاب‪ ،‬وهو أمر ال يقتصر خطابه على فهم الزمن الفني بقدر ما هو قلق مصيري‪ .‬فإذا كان الزمن‬ ‫الفني يرتبط بهوية الفنان‪ ،‬وذلك من خالل إعادة الفهم الفلسفي لمسألة الوجود اإلنساني فإن إدراك‬ ‫ً‬ ‫باحثا عن هويته الثقافية والبصرية‬ ‫الزمن التاريخي في الفن مسألة مهمة في ذلك؛ أي أن الفنان ال يزال‬ ‫التي تمثل فنه الخاص‪.‬‬

‫والهوية في الفن من أهم القضايا والموضوعات التي ما زالت تؤرق فنان هذا العصر‪ ،‬حتى إن بعض‬ ‫الباحثين حاول من خالل ذلك قراءة المتغيرات التي طرأت على األصالة وتاريخ الفنون الحديثة‪ ،‬ومدى‬

‫قابليتها للتبلور الجديد‪.‬‬

‫والهوية التي يسعى لها الفنان العربي وبخاصة الفنان المفاهيمي هي ذات أفق داخلي‪ ،‬تحدده طبيعة‬

‫العمل الفني الذي يريد الفنان أن يعبّر من خالله عن هويته؛ ألن الهوية في الفن المفاهيمي أخذت‬

‫تذوب إلى حد كبير‪ ،‬والسبب في ذلك يعود إلى تعددية الرؤى التي يوفرها هذا النوع من النصوص‬ ‫البصرية الجديدة‪ ،‬ويحاول أن يلغيها ً‬ ‫أيضا‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وصفا أراه جي ًّدا لفهم فنون ما بعد الحداثة تقول‪ :‬إن «ما بعد‬ ‫لقد وصفت الكاتبة الراحلة مي غصوب‬

‫الحداثة أشد انجذا ًبا إلى العبث»‪ ،‬وفي موضع آخر ربطت مي بين السخرية ومفهوم ما بعد الحداثة في‬ ‫التفسير اللغوي‪ ،‬وهي بالفعل نقطة مهمة جديرة بالتأمل‪.‬‬


‫فنون‬

‫ً‬ ‫طريقا إلى التعبير‬ ‫الفوضى‬

‫فالسخرية والفوضى والعبث هي سمات الفن‬

‫عليها في بعض األعمال المتمردة على سياسة األشكال الفنية‪.‬‬ ‫كما تهتم المفاهيمية بالصناعات والمنتجات والتطور‬

‫المفاهيمي‪ ،‬يقول أندريه ريستلر‪« :‬الجمالية الفوضوية‬ ‫ً‬ ‫انطالقا من مسلمات فلسفة‬ ‫اليوم هي جمالية فنانين‪ ،‬وهي‬

‫التقني والتكنولوجيا الحديثة التي هي رافد فني من مدارس‬

‫نتيجة التفكير المستقبلي لدى رواد الفكر الفوضوي الحديث‪،‬‬

‫الصناعية في أوربا‪ ،‬فاآللة قتلت اإلنسان‪ ،‬وجعلته يعاني‬

‫اجتماعية مخ ّربة‪ ،»...‬ويقول ً‬ ‫أيضا‪« :‬الجمالية الفوضوية هي‬

‫وهي اتجاه جمالي لحساسية فاعلة جديدة‪ .»...‬ويذكر جان‬ ‫دوفينيو‪« :‬أن أكثرية مسائل اإلبداع الفني في المجتمعات‬

‫المعاصرة ناتجة عن الفوضوية»‪ ،‬وكأن الفوضى طريق آخر‬

‫إلى التعبير الفني‪.‬‬

‫فنية أخرى كالدادا والمستقبلية التي هي وليدة للثورة‬

‫البطالة‪ ،‬وسلبته حقوقه كإنسان فاعل في هذه الحياة‪.‬‬ ‫فلسفة نهاية المصير‬

‫كما يحظى بعض فناني المفاهيمية بالتشاؤم كما يقول‬

‫إن خصائص العمل المفاهيمي تتضح من خالل عدد من‬

‫فرانسيس فوكوياما‪« :‬إن التشاؤم الكبير في عصرنا يرجع جزئيًّا‬

‫القبح ‪ -‬حيز الفراغ – العدمية‪ -‬العكوسية – اإللغاء ‪ -‬العبث ‪-‬‬

‫تلك التوقعات»‪ .‬وبرز هذا التشاؤم في تجارب بعض الفنانين‬

‫المفاهيم المصابة بداء الحياة‪ ،‬مثل‪ :‬الفوضى ‪ -‬جماليات‬

‫سوء التناسق ‪ -‬الضد ‪ -‬اإلحساس بالضياع – التشظي ‪ -‬هيمنة‬ ‫اآللة – التفتيت‪ ،‬وهذا ليس دليلاً قاطعً ا على أنها سمات دائمة‬

‫أغلب الفنانين السعوديين جاء إلى‬

‫‪168‬‬

‫للفن المفاهيمي بقدر ما تمثله من معايير نستطيع أن نعثر‬

‫المفاهيمي من باب فكرة العمل‬ ‫الفن‬ ‫ّ‬ ‫التركيبي والنحت الحديث‪ ،‬وهو فن‬

‫على األقل إلى الصدمة القاسية العائدة إلى الخيبة التي القتها‬

‫السعوديين بدءً ا من اختيار الخامة واللون إلى تسمية العمل‬ ‫الفني نفسه‪ ،‬وعلى سبيل التمثيل‪ :‬تجربة اللون األسود في‬

‫مشروع «السواد األعظم» عند الفنان هاشم سلطان‪ ،‬وتجربة‬ ‫الظلمة في معرض «عتمة» أليمن يسري‪ ،‬وكذلك األمر في‬

‫فكرة التابوت في عمل «نعي» للفنان حمدان محارب‪ ،‬وهي‬ ‫في حقيقة أمرها تعبير عن فلسفة الموت ونهاية المصير‪.‬‬

‫لم تكن هناك نشأة واضحة ومحددة لمفهوم المفاهيمية‬

‫لكن كانت هناك محاوالت فنية‪ ،‬وإشارات فنية دلت على‬

‫بمفاهيمي‪ ،‬األمر الذي‬ ‫حداثي ليس‬ ‫ّ‬

‫والدة هذا الفن في السعودية‪ ،‬علمً ا أن نشأة الفن التشكيلي‬

‫وما بعدها‪ ،‬وبين ما بعد الحداثة‬

‫والشام ومصر‪ .‬وإذا أمعنا النظر في مسألة التحديد التاريخي‬

‫جعل أكثرهم يخلط ما بين الحداثة‬ ‫والمفاهيمية أشد االختالط‬

‫كانت متأخرة عن غيرها من البلدان العربية المجاورة كالعراق‬

‫لنشأة المفاهيمية كفن تجريبي خاض عوالمه الفنان‪ ،‬نجد‬ ‫أن منتصف التسعينيات الميالدية كانت هي الوالدة الحقيقية‬

‫عمل للفنان مهدي الجريبي‬ ‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬


‫الفن المفاهيمي في السعودية‪ ..‬فنانون يخلطون بين الحداثة والمفاهيمية‬

‫لهذا الفن المفاهيمي؛ أي في (‪– 1994‬‬ ‫‪1995‬م) وذلك على أيدي مجموعة من‬

‫الفنانين الشباب‪ ،‬الذين مارسوا التجريب‬

‫الشكلي دون وعي كامل بهذا النوع من‬ ‫الفنون آنذاك‪.‬‬

‫الخلط ما بين الحداثة والمفاهيمية‬

‫كما نجد أن غالبية الفنانين السعوديين‬

‫جاءت إلى الفن المفاهيمي من باب فكرة‬ ‫العمل التركيبي والنحت الحديث‪ ،‬وهو‬ ‫بمفاهيمي‪ ،‬األمر الذي‬ ‫فن حداثي ليس‬ ‫ّ‬ ‫جعل أكثرهم يخلط ما بين الحداثة وما‬ ‫بعدها‪ ،‬وبين ما بعد الحداثة والمفاهيمية‬ ‫أشد االختالط‪ ،‬ومما كان ال يعيه الفنان‬

‫عمل للفنان مساعد الحليس‬

‫التشكيلي أن العمل الفني قد يكون ما بعد‬

‫ّ‬ ‫يمت بصلة إلى المفاهيمية؛‬ ‫حداثي لكنه ال‬

‫ألن المفاهيمية ليست بذلك وإن تقاطعت معها في شرايين‬

‫الفهم البصري‪.‬‬

‫ويذهب أحد الباحثين إلى اإلشادة بفنانين سعوديين‬

‫اثنين في الفن المفاهيمي على الرغم من أنه كان من أشد‬

‫‪169‬‬

‫المعارضين لهذا الفن ولفنون ما بعد الحداثة‪ ،‬يقول هذا‬ ‫الباحث‪« :‬وهذا فإن الفنان السعودي‪ ،‬وإن كان في أسلوبه‬

‫يتجه إلى المدارس الفنية المعروفة في العالم‪ ،‬إال أنه ينفرد‬

‫بخصوصية تمسكه بعاداته وتقاليده وبيئته المتميزة في‬

‫عمل للفنان صديق واصل‬

‫أعماله‪ ،‬وهناك بعض الفنانين الذين تطرقوا إلى المفاهيمية‪،‬‬

‫ونجحوا في طرحها‪ ،‬بدليل فوز هاشم سلطان بالجائزة الكبرى‬ ‫في بينالي بنغالديش الدولي الرابع عشر‪ ،‬ومحمد الغامدي‬ ‫بالجائزة األولى في بينالي الشارقة الخامس»‪.‬‬

‫المفاهيمي‬ ‫ومما يكشف عن طبيعة تلقي اآلخرين للفن‬ ‫ّ‬ ‫حتى وإن لم يكن الرضا بهذا الشكل الفني الجديد مكتملاً ‪،‬‬

‫مسألة ترتبط بطبيعة المتلقي السعودي الذي ال يزال يعيش‬

‫السخرية والفوضى والعبث هي‬ ‫سمات الفن المفاهيمي‪ ،‬يقول‬ ‫أندريه ريستلر في كتابه‪« :‬الجمالية‬

‫صدمة التطور االقتصادي والنهضة الفكرية في ميادين العلم‬ ‫والمعرفة والفن‪.‬‬

‫ولعل من الفنانين السعوديين المفاهيميين على سبيل‬

‫التمثيل ال الحصر‪ :‬أحمد ماطر‪ ،‬وبكر شيخون‪ ،‬ومحمد‬

‫حيدر‪ ،‬وصديق واصل‪ ،‬ومهدي جريبي‪ ،‬ومحمد الغامدي‪،‬‬ ‫وسامي جريدي‪ ،‬وعبدالناصر غارم‪ ،‬وعبدالله إدريس‪ ،‬وزمان‬ ‫جاسم‪ ،‬وخالد عريج‪ ،‬ومساعد الحليس‪ ،‬وحمدان محارب‪،‬‬ ‫وفهد القثامي‪ ،‬وقسورة حافظ‪ ،‬ومنال الضويان‪ ،‬وسعيد‬

‫قمحاوي‪ ،‬وماجد الثبيتي‪ ،‬ومها ملوح‪ ،‬وعبدالله العثمان‪،‬‬ ‫ومرضي عبدالعزيز‪ ،‬وعلي مرزوق‪ ،‬وأشجان السليماني‪،‬‬

‫وسعود محجوب‪ ،‬وراشد الشعشعي‪ ،‬ورامي القثامي‪،‬‬

‫الفوضوية اليوم هي جمالية فنانين‪،‬‬

‫وهاشم سلطان‪ ،‬وهؤالء الفنانون وغيرهم لم يزالوا مستمرين‬

‫مخربة‪»...‬‬ ‫اجتماعية‬ ‫ّ‬

‫المفهوم عبر حقيقته الثقافية المعاصرة التي ال ترضخ لشكل‬

‫مسلمات فلسفة‬ ‫انطالقا من‬ ‫وهي‬ ‫ً‬ ‫ّ‬

‫في تجربتهم البصرية باختالف‪ ،‬وهذا االختالف هو منطق فن‬

‫بصري واحد وال لرؤية واحدة مستقلة‪.‬‬


‫فنون‬

‫ً‬ ‫محظوظا بسبب بعض األبطال الذين آمنوا به‬ ‫موسيقي أميركي يعد نفسه‬

‫محمد فيروز‪:‬‬

‫ليس من السهل تحقيق النجاح في‬ ‫الموسيقا‪ ..‬إنها تنافسية إلى حد التحارب‬

‫‪170‬‬

‫نيويورك‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬


‫تتوالى األعمال الموسيقية للفنان اإلماراتي األميركي محمد فيروز (المولود عام ‪1985‬م)؛ لتأخذ طابع‬ ‫المشروع الذي لئن تعددت مكوناته وتنوعت مفرداته‪ ،‬فإنها تنطلق من رؤية شمولية تخترق األعمال‬

‫كلها‪ ،‬رؤية مرتكزاتها األساسية تقوم على التعايش وحوار الحضارات‪ ،‬فهو يحرص على المزج بين‬ ‫نصوص عربية‪ ،‬فلسطينية ويهودية مثلاً ‪ ،‬وبين نصوص لشعراء من أنحاء مختلفة من العالم‪ .‬كما‬

‫ً‬ ‫ووفقا لهذا المشروع فإن محمد فيروز‪ ،‬ليس مجرد‬ ‫يجمع بين المقامات الشرقية والموسيقا الغربية‪.‬‬ ‫موسيقي إنما ً‬ ‫أيضا حامل رسالة إلى العالم‪ .‬من أعماله‪ :‬سادات‪ .‬صالة إلى العالم الجديد‪ .‬عالم‬ ‫أحببت‪ .‬الشام‪ .‬أغنية ألمانية رومانسية‪ .‬زابور‪ ،‬غابرييل‪ .‬منابع الضوء‪ .‬دبكة هندستانية‪ .‬أي شيء يمكن‬

‫أن يحدث‪ .‬بوش‪ .‬جبل لبنان‪ .‬تحرير‪ .‬للضحايا‪ .‬وأصدر مجموعته األولى «فولو‪ ،‬بويت» المستوحاة‬ ‫من أبرز شعراء القرن العشرين‪ ،‬وقد أصبح مع هذه المجموعة أصغر مؤلف تصدر له عالمة «دوتش‬

‫غراموفون» العريقة‪ ،‬مجموعة كاملة‪ .‬وهو يعمل حاليًا على وضع الموسيقا لملحمة أوبرالية مشتقة‬

‫من كتاب «األمير» لمكيافيلي أعد نصوصها الكاتب والصحافي األميركي ديفيد أغناتيوس‪ ،‬وستقدم‬ ‫األوبرا تحت عنوان «األمير الجديد»‪« .‬الفيصل» حاورته حول مشروعه الموسيقي وعدد من القضايا‪:‬‬

‫ً‬ ‫تحديدا؟‬ ‫ما الذي جعلك تختار الموسيقا‬

‫‪ -‬مدخلي األول إلى الموسيقا كان عبر القراءة‪ ،‬أتذكر صغي ًرا‬

‫عال كتابًا لألطفال‪ ،‬ثم‬ ‫جلوسي في حضن والدتي‪ ،‬أقرأ بصوت ٍ‬

‫‪171‬‬

‫حانت لحظة كانت فيها إحدى شخصيات الكتاب تغني‪ ،‬وبشكل‬

‫طبيعي نظرت إلى الكلمات على الصفحة وبدأت أغني‪ ..‬والدتي‬

‫تعجبت من هذه النغمة الجديدة التي أنشأتها وسألتني‪« :‬من‬ ‫أين جئت بهذه النغمة؟»‪.‬‬ ‫لاً‬ ‫أشرت إلى النص على الصفحة قائ ‪« :‬إنه هنا»‪ .‬طبعً ا في‬

‫سني ذاك تخيلت أن جميع من يقرأ هذه الكلمات سيسمع‬

‫النغمة نفسها التي كنت أغنيها‪ ،‬لكنني كنت أصنع موسيقاي‪.‬‬

‫إلى جانب كونك موسيقيًّا تبدو ً‬ ‫أيضا صاحب رسالة‬

‫عالمية تحرص على إيصالها؛ فما هي رسالتك؟‬

‫يبدو في عملك محاولة لتعزيز التبادل الثقافي والحوار‬

‫‪ -‬عندما يقرر أي شخص أن يكرس حياته لتأليف الموسيقا‪،‬‬

‫بين الحضارات من خالل الموسيقا‪ ،‬وذلك عبر المزج بين‬

‫المخططات المعمارية لبناء مسجد عظيم أو تخطيط مدينة؛‬

‫أنك ستستطيع أن تغير الصورة النمطية في الغرب عن العرب‬

‫أو كتابة الروايات‪ ،‬أو المقاالت‪ ،‬أو تعليم األطفال‪ ،‬أو تصميم‬

‫موسيقا من الثقافة اإلسالمية والثقافات األخرى‪ ،‬هل تعتقد‬

‫والمسلمين؟‬

‫عندما يقرر أي شخص فعل ذلك أو سواه؛ فهو يرسل رسالة‬ ‫واضحة‪ :‬نحن نك ّرس حياتنا للبناء بدلاً من الدمار‪ ،‬هذه حقيقة‬

‫‪ -‬أتذكر كلمة الراحل األمير سعود الفيصل حين قال‪:‬‬

‫البصريات‪ ،‬أو ابن رشد في دراسة التاريخ‪ ،‬أو إسهامات أبي نواس‬

‫متناقض‪ ،‬الحضارات ليست سلعً ا متنافسة في السوق‪ ،‬بل‬

‫سواء فكرنا بإسهامات الكندي في الموسيقا‪ ،‬أو ابن الهيثم في‬

‫الشعرية‪ ..‬والقائمة تطول‪ .‬هؤالء جميعً ا قالوا‪ :‬إنهم راغبون في‬ ‫التنوع اإلنساني وليس بتدمير اإلنسانية‪ ،‬هذه هي الرسالة‪ ،‬وهي‬

‫ليست كافية للقول‪ :‬إننا ملتزمون بالسالم والبناء‪ ،‬بل يجب أن‬

‫نعمل بجد إلنشاء بنية ملموسة لعمل يسهم في الحضارة‪.‬‬

‫«أعتقد باستحالة وجود صراع حضارات بيننا؛ ألن هذا تعبير‬ ‫نتاج الجهد الجماعي للعبقرية البشرية بمساهمات متراكمة من‬ ‫ثقافات متعددة»‪.‬‬

‫لقد كان معه حق‪ ،‬وفي الحقيقة إن اإلنسانية اليوم في‬

‫صراع من أجل الحضارة وليس بين الحضارات‪ ،‬الصدام يظهر‬


‫فنون‬

‫حين ال يفهم الناس بعضهم ً‬ ‫بعضا‪ ،‬ويصبح الواحد منهم يخاف‬

‫اآلخر‪ ،‬إنه ليس أم ًرا يسي ًرا أو لحظيًّا‪ ،‬لكن كل الصور النمطية‬

‫‪ -‬أعتقد أن حرية التعبير قد أسيء استخدامها تمامً ا كما‬

‫المحبة‪ .‬المعرفة هي البداية‪ ،‬فلنتذكر هذه اآلية القرآنية‪( :‬يَا‬ ‫اس إِ َّنا َخ َل ْق َنا ُكم مِّ ن َذ َك ٍر وَأُ َ‬ ‫نثى وَجَ عَ ْل َنا ُكمْ ُشعُ وبًا و َ​َقبَائ َِل‬ ‫أَ ُّيهَا ال َّن ُ‬ ‫ِل َتعَ ار َُفوا) (الحجرات‪.)13 :‬‬

‫أفكارهم‪ ،‬لكني أصر على أن تكون هذه األفكار مثقفة ومصقولة‪،‬‬ ‫وأنا أقف بحماس مع االحترام‪ ،‬فحرية التعبير ليست ً‬ ‫إذنا‬

‫يمكن تغييرها عبر تعرف الناس إلى بعضهم البعض‪ ،‬ومن خالل‬

‫تعاملت في موسيقاك مع نصوص شعرية لشعراء‬

‫أسيء استخدام األسلحة‪ ،‬أنا أقف مع حق الناس في التعبير عن‬

‫الستعمال لغة مدمرة أثبتت أنها خطيرة على نسيج المجتمع‬ ‫الواحد‪.‬‬

‫في اإلمارات العربية المتحدة على سبيل المثال؛‬

‫فلسطينيين وعرب‪ ،‬إضافة إلى شعراء يهود وغربيين؛ ما‬

‫نحن سيطرنا على وجهات النظر المتطرفة‪ ،‬ومنعناها من‬

‫‪ -‬الحقيقة أننا عشنا مع اليهود آلالف السنين بدون أي‬

‫فنتائج الخطاب المتطرف كانت تخرب العالم‪ ،‬سواء بتدمير‬

‫العصور المظلمة في أوربا‪ ،‬لقد تشاركنا الموسيقا والثقافة‬

‫الغربية األخرى ستحسن صنعً ا لو أنها احتوت الخطاب المتطرف‬

‫هدفك من هذا الجمع؟‬

‫مشكالت‪ ،‬لعلك تتذكر أننا نحن العرب كنا حماة لهم في‬ ‫والقصص بكل األشكال وبكامل الحرية بدون مشكالت‪ ،‬القضية‬ ‫التي آمل معالجتها عبر الدبلوماسية الفنية هي الصراع الحالي‬

‫مع إسرائيل‪ .‬فعلى الرغم من أهمية التقاء الناس في مناسبات‬ ‫غير سياسية لمشاركة الشعر والموسيقا والثقافة؛ إال أني‬

‫أقول‪ :‬إن الدبلوماسية الفنية غير كافية‪ ،‬أتمنى أن تقبل إسرائيل‬ ‫مبادرة السالم العربية التي أطلقها الراحل الملك عبدالله‪،‬‬

‫‪172‬‬

‫حدثنا عن هذا الموضوع‪.‬‬

‫وكما قلت من قبل‪ :‬نحن عشنا مع اليهود لقرون كثيرة بدون‬ ‫مشكالت‪ ،‬واليوم هناك حل ناجع للنزاع مع إسرائيل‪ ،‬لكننا‬

‫نحتاج من اإلسرائيليين أن ينصتوا لمخاوفنا‪ ،‬فال يمكن أن نرى‬

‫الفلسطينيين يعيشون بالطريقة التي يعيشونها اآلن‪ .‬نحتاج إلى‬ ‫السالم‪.‬‬

‫كيف تنظر إلى من يتعصب للموسيقا الكالسيكية‪،‬‬

‫ويرفض التجديد واالنفتاح على الموسيقا العالمية؟‬

‫‪ -‬أراهم كما أرى أي مجموعة أخرى من الناس المنغلقين‪،‬‬

‫إن مقاومة االنفتاح على العالم‪ ،‬هي أمر خطير ومضر‪ ،‬وفي‬

‫النهاية رتيب‪ ،‬وغير مثير لالهتمام ‪.‬‬

‫أنت مع حرية التعبير‪ ،‬كما أنك ضد األعمال اإلرهابية‪،‬‬

‫الحصول على المنابر السياسية والدينية‪ ،‬وذلك لسبب وجيه‬ ‫المجتمعات‪ ،‬أو حياة اإلنسان الفردية‪ .‬الواليات المتحدة واألمم‬ ‫الخطير‪ ،‬ولم تخلطه مع الحرية‪ .‬فحرية التعبير هي فكرة عظيمة‬ ‫ما دام الناس يطورون أفكارهم‪ ،‬ويمارسون االحترام قبل فتح‬ ‫أفواههم‪.‬‬

‫بصفتك موسيقيًّا أميركيًّا من أصول عربية؛ هل كان من‬

‫السهل عليك الوصول إلى العالم وتحقيق كل هذا النجاح؟‬

‫ أعتقد أنه ليس من السهل ألي أحد أن يحقق النجاح في‬‫ً‬ ‫وأحيانا تصل إلى‬ ‫مهنة الموسيقا‪ .‬إنها تنافسية بشكل مذهل‪،‬‬ ‫ً‬ ‫محظوظا جدًّ ا؛ لكوني حصلت على‬ ‫حد التحارب‪ .‬أعد نفسي‬

‫أساس متين من الدعم وبعض األبطال الرائعين الذين آمنوا‬ ‫بي‪ .‬لقد وصلت لهذه المرحلة ليس فقط عبر الموهبة والعمل‬ ‫الشاق؛ بل ً‬ ‫أيضا عبر اللطف الرائع‪ ،‬ووقوف عدد من الناس‬ ‫العظماء معي‪ .‬لهذا كله أنا ممتن جدًّ ا‪.‬‬

‫هل تعتقد أنك نجحت في تغيير الصورة النمطية عن‬

‫العرب والمسلمين؟‬

‫ أرجو أن أكون على الطريق الصحيح‪ ،‬وإن بخطوات‬‫ً‬ ‫سابقا‪ :‬المعرفة هي البداية‪ ،‬ورهاني دائمً ا‬ ‫صغيرة‪ ،‬وكما قلت‬ ‫على مشاركة هذه المعرفة‪ ،‬ودعوة الناس لالطالع على ثقافتنا‪،‬‬

‫سواء تعلقت بأشخاص أو بمؤسسات إعالمية أو غيرها‪..‬‬

‫وفي الوقت نفسه االستماع لهم‪ ،‬والتعامل مع ثقافتهم‪ .‬وإذا‬

‫عشنا مع اليهود آلالف السنين بدون‬

‫أكثر فصاحة حول طريقتنا في الحياة‪ ،‬نحن شعب محافظ‪،‬‬ ‫وهذا ليس شي ًئا سي ًئا‪ ،‬ولكننا ً‬ ‫أيضا أناس معروفون بالكرم متى‬

‫العرب كنا حماة لهم في العصور‬

‫ننجح في كسب قلوب الناس في الغرب وعقولهم‪ .‬معظمهم‬

‫أي مشكالت‪ ،‬لعلك تتذكر أننا نحن‬ ‫المظلمة في أوربا‬

‫كان هناك من نقد بناء لنا في الخليج؛ فهو أنه يجب أن نكون‬

‫دخل اآلخرون قلوبنا ومجتمعاتنا‪ .‬إذا أوضحنا هذا كثي ًرا فسوف‬

‫ال يكرهنا لكنهم ببساطة ال يعرفوننا‪ .‬المعرفة هي أفضل سالح‬ ‫للتغلب على الخوف‪ .‬وفي النهاية أعتقد أننا جميعً ا نكتشف‬

‫وجود كمّ كبير من القواسم المشتركة بيننا‪.‬‬ ‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬


‫نصوص‬

‫معطلة‬ ‫بئر‬ ‫ّ‬

‫عبدالرحمن بن إبراهيم العتل‬

‫أتذك ُر كيف استفاق الدجى‬

‫َ‬ ‫ْ‬ ‫املرسلة؟‬ ‫أشواقنا‬ ‫ُيلمل ُِم‬

‫وين ُ‬ ‫القلوب‬ ‫اف‬ ‫رث فوق َش َغ ِ‬ ‫ِ‬

‫رانيم من أغنيات َ‬ ‫َ‬ ‫الو َل ْه‬ ‫َت‬

‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫قلتيه املنى‬ ‫شعل من ُم‬ ‫فن‬ ‫ِ‬

‫الليل ما أَ َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫جمله!‬ ‫فينتفض‬

‫َ‬ ‫ُ‬ ‫أحالمها‬ ‫ويسكب يف الرُّوح‬

‫و َيروي‬

‫اآل ِف ْ‬ ‫لة‬

‫عطاىش من الفرْح ّ‬ ‫حد البكاء‬

‫ومن وجع الحزن ما ْ‬ ‫أث َ‬ ‫قله!‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬

‫هجري الطريق‬ ‫َتلوحُ لنا يف‬ ‫ِ‬

‫وس َط املدى ُمقب ْ‬ ‫ُ‬ ‫لة‬ ‫قوافل ْ‬ ‫ِ‬

‫َ‬ ‫الورَى‬ ‫ورائدها من ُتراب‬

‫ثق ْ‬ ‫ُخطاه بما انتعلت ُم َ‬ ‫لة‬

‫َ‬ ‫َت ُ‬ ‫انتجاع اللقاءِ القريب‬ ‫روم‬

‫َمتد أين وما أَ َ‬ ‫في ُّ‬ ‫طول ْه!‬

‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫نني‬ ‫نعب من‬ ‫ِ‬ ‫البرئ ماءَ األ ِ‬

‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫جلجلة‬ ‫الدل ُو يف‬ ‫فيَنكس ُر‬

‫َ‬ ‫َّ ٌ‬ ‫زيز الحياة‬ ‫ُمعطلة من أ ِ‬

‫َ‬ ‫نزله‬ ‫وال ث َّم قص ٌر ترى َم ِ‬

‫وَحْ ٌ‬ ‫شة‬

‫صدره قاحِ ْ‬ ‫لة‬ ‫أناخت عىل‬ ‫ْ ِ‬

‫فضاءٌ ويف ط ِّيه‬

‫أمانيَنا‬

‫النجوم التي‬ ‫ونحن انتشاء‬ ‫ِ‬

‫َتناءت ولمَ َّا َت َز ْل‬

‫ِّ‬ ‫حد ما نشتهي‬ ‫َه ِوينا إىل‬

‫سارَى بال َمأْ َم ْ‬ ‫ُ‬ ‫وع ْدنا َك َ‬ ‫لة‬

‫َ‬ ‫ونذك ُر كيف استفاق ُّ‬ ‫الدجى‬

‫موت أشوا ِقنا الراحِ ْ‬ ‫لة‬ ‫عىل‬ ‫ِ‬

‫ُم ْش َع ْ‬ ‫لة‬

‫شاعر سعودي‬

‫‪173‬‬


‫سينما‬

‫‪174‬‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬


‫فيكتوريا‬ ‫هزيمة الفرد‬ ‫في المدينة‬ ‫الكبيرة‬ ‫هاني حجاج‬ ‫سينمائي مصري‬

‫ً‬ ‫أحيانا‪،‬‬ ‫ما الذي يدفع أحدهم إلى خوض تجربة التمثيل الصعبة‪ ،‬بل المريرة‬ ‫حتمي؟ السؤال يجيب عنه الممثل الكبير أنتوني‬ ‫وتعريض حالته النفسية الضطراب‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫النص عالقة تبدو غريبة األطوار‪،‬‬ ‫هوبكنز؛ إذ يقول‪« :‬كثيرًا ما تنشأ بيني وبين كاتب‬ ‫ٌّ‬ ‫ّ‬ ‫الشد والجذب‪ ،‬والمنفعة المتبادلة‪ ،‬فكل منا يستفيد من اآلخر‪ ،‬ويا‬ ‫فيها كثير من‬ ‫حبذا لو كانت هذه العالقة متوترة بعض الشيء‪ ،‬وهذا جزء من مسبّبات التجاذب‬ ‫بين الطرفين»‪ .‬صحيح أن التمثيل هو األقرب من التواصل مع الناس‪ ،‬لكن أحدهم لم‬ ‫يسأل الممثل عن نفسه وهو يمثل‪.‬‬

‫‪175‬‬


‫سينما‬

‫فيلم «فيكتوريا» الذي صور في ‪ ،2015‬يثير مثل هذه‬

‫في قصة بوليسية‪ :‬فيلم (ضربة شمس)‪ ،‬وشوارع العشوائيات‬

‫األلماني بجائزة لجنة التحكيم‬ ‫نوعها‪ .‬فاز فيلم ‪Victoria‬‬ ‫ّ‬ ‫الخاصة في مهرجان برلين ‪2015‬م؛ لتف ُّرده في عملية اإلنجاز‬

‫يؤمن بأن ثقافة الشاشة قد أصبحت وسيلة سائدة للتعبير‬ ‫الفني‪ ،‬وإذا كنت تعتزم أن تصبح ً‬ ‫فنانا عاملاً في عالم اليوم‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫فإن عليك أن تصارع مع هذا على مستوى من المستويات‪.‬‬

‫األسئلة‪ ،‬وهو يحاول البحث عن إجابة في تجربة فريدة من‬

‫البصريّ المتقن‪ ،‬وعنصر التجريب الالفت المُ ستخدم بعناية؛‬

‫إذ إن ‪ 138‬دقيقة هي مدة عرض الفيلم تحوَّلت إلى لقطة‬

‫ينتقل في لقطة واحدة طويلة من مالمح البؤس على وجه‬

‫ينتقل بكاميراه إلى عالم المهمشين الذين ال صوت لهم‪،‬‬

‫لمرقص‪ ،‬تحاول أن تستعيد فيه رُوح الشباب وبعض المرح‪،‬‬

‫واحدة متصلة من دون انقطاع‪ .‬المخرج سيباستيان شيبر‬

‫ورأيهم ذائب في المجموع‪ ،‬وينقل صورة األفراد وما يرتبط‬

‫فيكتوريا وهي تشعر بالغربة والحنين إلى التفاصيل الصاخبة‬ ‫ثم تخرج منه إلى شوارع المدينة الواسعة الطاحنة؛ لتفتح‬

‫بها من تقدير وتحقيق الذات‪ ،‬وما يمكن أن يسهم فيه كل‬ ‫شخص وَحْ دَ ه؛ كي يشعر بقيمته في المجتمع‪ ،‬ومعه َتتجدَّ ُد‬

‫نراها بعين المخرج الذي ترك لها حرية (تقمُّ ص)‬

‫إسبانية جاءت إلى برلين للعمل‪ ،‬وحيدة تدير مقهى ما‪ ،‬من‬

‫ترك لها ولألبطال األربعة اآلخرين ترجمة كل ما يعبّر عنه‬ ‫سيناريو الفيلم المكتوب في اثنتي َع ْش َ‬ ‫ً‬ ‫صفحة فقط‪( ،‬كتبت‬ ‫رة‬

‫الطموحات واآلمال‪ ،‬فيغيب عن معاناته النفسية ولو دقيقة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫الحقا‪ .‬فيكتوريا (الممثلة لوال كوستا) فتاة‬ ‫وإن شعر بها‬ ‫دون أصدقاء أو مواهب خاصة أو أي شيء متميّز‪ ،‬نموذج‬

‫لنقيض البطل (‪ ،)Anti-Hero‬وسرعان ما نرى بقية أبطال‬ ‫الفيلم بالكيفية نفسها؛ أشخاص عاديون ال يرمزون إلى أي‬

‫شيء‪ ،‬وال يمكن إسقاط أي قيمة عليهم‪ ،‬لكنهم موجودون‬

‫بكثرة‪ .‬إنهم بيننا‪ .‬إنهم أنا وأنت‪.‬‬

‫‪176‬‬

‫والمهمشين في قصة رجل واحد ضائع‪ :‬فيلم (الحريف)‪ .‬شيبر‬

‫لقطة واحدة طويلة‬

‫أبواب المقهى الذي تعمل فيه‪.‬‬

‫الشخصية بتفاصيلها كاملة؛ وهذا رافد جديد لتجربته‪ ،‬لقد‬

‫القصة مع المخرج‪ :‬أوليفيا نيرجارد هولم) تسأل نفسها‪ :‬ماذا‬ ‫تريد؟ كيف يتجاوب عقلها الباطن مع عالمات الوَحْ دَ ة والشعور‬

‫بالفراغ؟ نرى على الشاشة المكان الفسيح‪ ،‬تسكنه المقاعد‬ ‫من دون ُروَّاد‪ ،‬والشوارع مفتوحة قبيل الفجر من دون مارّة‪،‬‬

‫نرى الذي يقف هناك وحيدً ا (مسمّ ًرا) كأنه عمود نور‪ .‬ويظهر أن‬ ‫ثمة (مقتربًا مفاهيميًّا) يبدو أنه ّ‬ ‫مبشر وواعد أكثر من السابق‬ ‫في تجارب التصوير في الشوارع المفتوحة الفعلية‪ ،‬ارتكز على‬

‫خرج سيباستيان شيبر من البالتوهات الجاهزة‬

‫القياس بالثورة الرقمية (اإلنتاج لشركة مونكي بوي‪ ،‬ودوتش‬ ‫فيلم‪ ،‬وراديكال ميديا)‪ ،‬لكن من الواضح أنه يلقى إغفالاً من‬

‫المصريُّ محمد خان بآلة التصوير إلى شوارع القاهرة الكبرى‬

‫ّ‬ ‫النص إلى مشهد‪ ،‬وسلطة‬ ‫بالتقنيات الرقمية؛ مثل‪ :‬ترجمة‬

‫واالستوديوهات الملفقة إلى الشارع‪ ،‬انتقل من مقهى‪ ،‬إلى‬ ‫صحُ ف‪ ،‬إلى سوبر ماركت‪ ،‬كما انتقل من ُ‬ ‫بائع ُ‬ ‫قبل المخرج‬

‫النقاد في عالم السينما‪ ،‬ربما لعوامل أخرى ال تتعلق مباشرة‬

‫لقطة من الفلم‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬


‫فيكتوريا هزيمة الفرد في المدينة الكبيرة‬

‫ينتقل المخرج في لقطة واحدة طويلة‬ ‫من مالمح البؤس على وجه فيكتوريا‬ ‫وهي تشعر بالغربة والحنين إلى‬ ‫التفاصيل الصاخبة لمرقص المقهى‬ ‫اإلخراج ‪ ..‬إلى غير ذلك‪ .‬ومن َثمَّ فقد تهدّ د هذا المقترب‬

‫باإلخفاق في لفت االنتباه وإثارة مشاعر الثورة التي شعر بها‬ ‫المراقبون للتغيرات في دراسة السينما بصريًّا في التسعينيات‪.‬‬

‫بوكسر قد سُ جن من ُ‬ ‫قبل‪ ،‬والتصرفات العفوية كلها كانت‬ ‫تخفي وراءها كثي ًرا من العلل‪.‬‬ ‫تتذ ّكر معهم معاناتها عزف البيانو والحلم المجهض؛‬

‫بسبب غيرة زميالتها في المعهد‪ ،‬لقد راقتنا البساطة‬

‫التلقائي‪ .‬وأحببنا الحوار الكاشف والغياب الكامل‬ ‫والتمثيل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫للنص (التحتي) وللمهمات المعروفة‪ .‬يتورّط األصدقاء‬

‫في سرقة‪ ،‬وتقود فيكتوريا السيارة‪ ،‬هذا الملمح يُعيد إلى‬

‫األذهان المأساة التي ينتهي بها فيلم (ثرثرة فوق النيل)؛‬

‫الفراغ والقنوط والعبث الذي يدفع إلى الجريمة دفعً ا‪.‬‬ ‫والشرطة لهم بالمرصاد‪ ،‬تصيب اثنين منهم‪ ،‬وتهرب هي‬ ‫وسوني إلى بناية للهروب إلى مغامرة جديدة‪.‬‬

‫تنتقل الكاميرا المحمولة الواحدة كأنها فقرة متصلة‬

‫كل هذا في لقطة واحدة طويلة بمنزلة رحلة مشاعر تجعلك‬ ‫توتر ُّ‬ ‫في حالة ُّ‬ ‫وترقب طوال الوقت‪ ،‬وال يعمد المخرج إلى مؤثرات‬

‫الذين يدخلون عالمها‪ ،‬تصعد معهم وتهبط‪ ،‬إنهم أربعة من‬

‫أو تنظيف الساحات (كان مدير التصوير المصريّ طارق التلمساني‬

‫فيكتوريا ‪ ..‬والذين يدخلون عالمها‬

‫في رواية يجب أن تكون كاملة المعنى‪ ،‬بين فيكتوريا وبين‬

‫الشباب األلمان‪ :‬يتع َّرف إليها سوني (الممثل فريدريك الو)‪،‬‬ ‫الذي بوساطته َتتع َّرف إلى بقية األصدقاء‪ :‬بوكسر الضخم‪،‬‬ ‫وفوسي الصاخب‪ ،‬وبلينكر المرح‪ .‬وثمة دعوة إلى قضاء ليلة‬ ‫واحدة من القلب‪ ،‬أشبه باليوم الذي قضاه البطل مع البطلة‬

‫في (إجازة في روما) أو في نسخته العربية (يوم من عمري)‪.‬‬ ‫هذه ليلة واحدة في المدينة الكبيرة التي تضمّ الجميع‪ ،‬تسير‬

‫معهم بدرّاجتها الهوائية‪ ،‬أما سوني فينطلق في ادعاءات‬

‫صبيانية كاذبة تثير ضحكاتها‪ ،‬والليلة التي بدأت بالمرح‬ ‫ّ‬ ‫الظل تدخل في منحنى بعض االضطرابات‪ ،‬وتعرف أن‬ ‫وخفة‬

‫خاصة تفصل المشاهد عن الواقع؛ مثل‪ :‬المكياج المبالغ فيه‪،‬‬

‫يغسل األشجار في الطريق قبل العمل؛ كي تعود إلى حالتها‬ ‫الم ُْغ َب َّرة بغبار المدينة)‪ ،‬أو أمطار صناعية‪ .‬آالت التصوير تقترب‬

‫وتبتعد من زوايا وجهات نظر مستحيلة لشخصيات حقيقية‬ ‫الس ْرد ي َّ‬ ‫َتدفق في تيار واحد‪ ،‬ال يتكلمون كاإلنسان‬ ‫بالكامل؛ َّ‬

‫اآللي‪ ،‬وال يسقطون لفافات التبغ‪ ،‬إنهم يسرقون ليعيشوا ليلة‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫لطيفة‬ ‫سهرة‬ ‫ظريفة فحسب‪ ،‬تنتهي بالدم والمطاردة‪ .‬ما بدأ‬ ‫انتهى بخسارة إخوتها األربعة الجُ دد‪ ،‬بهمسات وحسرات على‬

‫أسطح إحدى البنايات‪ ،‬أما فيكتوريا التي يشير اسمها إلى االنتصار‬ ‫يتضح أنها مثال لهزيمة كل فرد في المدينة الكبيرة‪.‬‬

‫‪177‬‬


‫زمان الفيصل‬

‫‪178‬‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬


179


‫زمان الفيصل‬

‫‪180‬‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬


181


‫مقال‬

‫رسالة سعود الفيصل األخيرة‬

‫ماجد الحجيالن‬ ‫رئيس التحرير‬

‫‪182‬‬

‫اليوم أستعيد هذا‬ ‫الموقف‪ ،‬وأعرف كيف‬ ‫رسم سعود الفيصل‬ ‫المبادرة‪ ،‬وأشرف على‬ ‫تفاصيلها‪ ،‬وكيف تجاوزت‬ ‫نظرته البعيدة ردود‬ ‫الفعل اآلنية إلى النتائج‬

‫‪ 70‬يومً ا فصلت بين طلب األمير سعود الفيصل إعفاءه من وزارة الخارجية‬ ‫ً‬ ‫إعالنا رام ًزا عن هذا االرتباط الوثيق بين‬ ‫ووفاته رحمه الله‪ ،‬مدة وجيزة كانت‬ ‫العمر والعمل‪ ،‬بين حياته الشخصية ومكتبه في وزارة الخارجية‪ ،‬بين معاناته‬ ‫وطائرته التي كانت أبدً ا في وضع االستعداد‪ ،‬كأنما وهب نفسه لهذه المهمة ما‬ ‫عاش‪ ،‬فلما انتهت المهمة أسلم الروح لبارئها‪ .‬أربعون عامً ا قضاها في الطائرات‬ ‫واالجتماعات والمفاوضات‪ ،‬كان يؤجل الراحة ويؤخر العالج حتى تعالج القضايا‬ ‫وتنتهي الملفات‪ ،‬غير أن هذه الملفات والقضايا ما لبثت تتناسل بما تنوء به أكتاف‬ ‫ٍّ‬ ‫بتحد‪،‬‬ ‫رجل واحد كان في همّ ة أمّ ة‪ .‬تعامل مع المرض واأللم في السنوات األخيرة‬ ‫فكأنما كان يسخر من أوجاع لن تستطيع تثبيط عزيمته‪ .‬أتذكره في السنين األخيرة‬ ‫يم ّر أمام الصحافيين ويلوح بعصاه‪ :‬من يسابقني؟ وأعرف ممن دوّنوا ذكرياته‬ ‫عناده لنصائح األطباء ووصايا المحبين بالراحة‪ ،‬أتذكر كلماته البليغة وعباراته‬ ‫المصقولة عن قضايا العرب‪ ،‬وهو يعالج عشرات األزمات ويتناسى عامدً ا أن‬ ‫للجسد طاقة‪ ،‬وأن الحمل الكبير سيكون له أثره على قامة سامقة وعقل متوقد‬ ‫وبالغة لم تؤت ألحد في جيله من السياسيين‪ ..‬وهنا أشارك من كتب عن الراحل‬ ‫الكبير بعض مواقف عشتها صحافيًّا أالحق األخبار‪.‬‬ ‫في مايو ‪2011‬م كان وفد دبلوماسي خليجي في صنعاء ينتظر في السفارة‬ ‫اإلماراتية أن يقبل علي عبدالله صالح توقيع المبادرة الخليجية بعد أن ّ‬ ‫وقعتها‬ ‫المعارضة‪ ،‬تجمّ ع حول السفارة مسلحون ليحاصروها‪ ،‬وكان الموقف يتصاعد‬ ‫ويزداد خطورة بمرور الوقت‪ ..‬في هذه األثناء كان المجلس الوزاري الخليجي‬ ‫منعقدً ا في قاعدة الرياض الجوية ينتظر عودة الوفد الخليجي بقيادة األمين‬ ‫العام لمجلس التعاون ومعه المبادرة موقعة من الطرفين‪ ..‬وكنا مجموعة‬ ‫من الصحافيين خارج قاعة االجتماع نتابع األخبار ونجري االتصاالت‪ .‬حين بلغ‬ ‫الصحافيين والدبلوماسيين خارج القاعة نبأ احتجاز الوفد الدبلوماسي الخليجي‬ ‫ومعه عدد من السفراء الغربيين‪ ،‬ووجود مسلحين بالمئات يهددون سالمة‬ ‫الوسطاء؛ اشتعلت التكهنات حول كيفية الرد الخليجي على هذا التصرف من‬ ‫الرئيس اليمني السابق الذي كان قد زعم موافقته على المبادرة واستعداده‬ ‫للتوقيع‪ ،‬ثم أخلف وعده‪ .‬حينها سألت دبلوماسيًّا خليجيًّا مطلعً ا‪ :‬ماذا تتوقع أن‬ ‫تكون ردة الفعل؟ هل سترد دول الخليج بقوة؟ تسحب المبادرة؟ تذهب لمجلس‬ ‫األمن؟ تتحرك عسكريًّا؟ وكنت أعلم أن هناك دولاً خليجية راغبة في ردع الرئيس‬ ‫اليمني والرد على هذا التصعيد‪ ..‬قال لي‪« :‬ما دام سعود الفيصل في هذا المجلس‬ ‫فال تتوقع رد فعل غير دبلوماسي‪ ..‬سيكون الرد مدروسً ا؛ ْ‬ ‫ثق بذلك»‪ .‬وفعلاً عاد‬ ‫الوفد الخليجي بعد انتظار ست ساعات تقريبًا دون توقيع المبادرة الخليجية‪،‬‬ ‫وأعلن المجلس حينها «تعليق المبادرة» لحين التزام األطراف كافة بها‪ ..‬كان هذا‬ ‫ً‬ ‫هادئا‪ ،‬وال يمثل ردًّا موجعً ا على الرئيس‬ ‫اإلعالن من وجهة نظر إعالميين حينها‬ ‫اليمني السابق‪ ..‬بعد أقل من خمسة أشهر على هذه الحادثة كان علي عبدالله‬ ‫صالح في الرياض ّ‬ ‫يوقع المبادرة الخليجية ويتنازل عن السلطة‪ ،‬وأيًّا كان ما جرى‬ ‫بعد هذا التاريخ؛ فإن المبادرة الخليجية ظلت حتى اليوم هي مرجعية األطراف‬ ‫اليمنية كافة‪ ،‬وتحظى باعتراف الشرق والغرب‪.‬‬ ‫اليوم أستعيد هذا الموقف‪ ،‬وأعرف كيف رسم سعود الفيصل المبادرة‪،‬‬ ‫وأشرف على تفاصيلها‪ ،‬وكيف تجاوزت نظرته البعيدة ردود الفعل اآلنية إلى‬ ‫النتائج‪ ،‬كان يمكن للمجلس الوزاري حينها أن يعلن مواقف قاسية‪ ،‬ويخرج‬

‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬


‫بعناوين عريضة تشفي صدور المتحمسين‪ ،‬لكنه ّ‬ ‫فضل تجاوز الموقف ليصل للغاية‪،‬‬ ‫وهي تجنيب اليمن حربًا أهلية كانت على وشك االندالع حينها‪ ،‬وأعرف أن الفضل األكبر‬ ‫في ذلك يعود إلى حكمة سعود الفيصل‪ ،‬وبعد نظره‪ ،‬وحصافته‪ ،‬وسيسجل التاريخ‬ ‫يومً ا أن الفيصل كان المهندس الحقيقي لالنتقال السياسي في اليمن‪ ،‬وأن الذين غدروا‬ ‫بالعملية السياسية –يا للمفارقة!‪ -‬ما زالوا يرون المبادرة مرجعيتهم األولى إلنهاء األزمة‪.‬‬ ‫بعد ذلك بقرابة العام‪ ،‬وتحديدً ا في مارس ‪2012‬م‪ ،‬جاءت هيالري كلينتون‬ ‫وزيرة الخارجية األميركية إلى الرياض؛ لحضور الحوار اإلستراتيجي بين دول الخليج‬ ‫ً‬ ‫عرضا مرئيًّا لوزراء الخارجية‬ ‫والواليات المتحدة‪ ،‬وكان معها طاقم عسكري قدّ م‬ ‫حول نظام دفاع صاروخي باليستي تقترحه الواليات المتحدة على دول الخليج‪ ،‬وفي‬ ‫المؤتمر الصحافي سأل صحافي األمير سعود الفيصل وهيالري كلينتون عن هذا النظام‬ ‫الصاروخي وفاعليته‪ ،‬وموقف دول الخليج منه‪ ،‬ما زلت أذكر كيف راحت كلينتون‬ ‫تحاول جاهدة شرح النظام الصاروخي‪ ،‬وتأثير انحناء األرض‪ ،‬وأنماط الرياح على‬ ‫أنظمة الرادار والتحكم! سردت كلينتون ما سمع ْته من العسكريين بشكل مرتبك‪..‬‬ ‫وكان الفيصل يرقب ما تقوله الوزيرة‪ ،‬حتى إذا انتهت من اإلجابة ابتسم وقال بإنجليزية‬ ‫رفيعة‪« :‬زمالؤنا األميركيون يحبون الحديث في الشؤون العسكرية‪ ،‬ويمكنكم أن تروا‬ ‫كيف أن دبلوماسيتنا لم تتطور بنفس سرعة الدبلوماسية األميركية‪ ،‬فهم يستطيعون‬ ‫اآلن الحديث بلغة عسكرية بينما ال نستطيع ذلك‪ .‬سنستعين بخبراء!»‪.‬‬ ‫ً‬ ‫الذعا ومحمّ لاً بالدالالت‪ ،‬والرسالة السياسية وراءه أن الحوار‬ ‫كان الجواب‬ ‫اإلستراتيجي الذي يريده الخليج مع الواليات المتحدة يتعلق بمواقف سياسية‬ ‫كمفاوضاتها السرية مع إيران‪ ،‬وأهمية المساعدة في حل المعضلة السورية‪ ،‬ولم يكن‬ ‫الخليج آنذاك مشغولاً بصفقات ّ‬ ‫تسلح‪ ،‬فضلاً عن أن المجلس الوزاري لم يكن مفو ً‬ ‫ّضا‬ ‫ً‬ ‫متخصصا في شراء أنظمة صاروخية‪ ،‬بل كان ذلك تخصص وزارات الدفاع‪ .‬لقد‬ ‫وال‬ ‫كان حضور سعود الفيصل الذهني في المؤتمرات الصحافية مثي ًرا لإلعجاب‪ ،‬ولم تكن‬ ‫األسئلة والمواقف السياسية المختلفة تبعده من أهدافه المباشرة‪.‬‬ ‫ولم يشأ الفيصل أن يرحل من دون أن يدوّن كلمات أخيرة في سجله الحافل‪،‬‬ ‫فقبل ثالثة أشهر من وفاته وفي الجلسة الختامية لمؤتمر القمة العربية في شرم الشيخ‬ ‫نهاية مارس ‪2015‬م؛ ألقى كلمة حاسمة ردًّا على رسالة الرئيس الروسي للقمّ ة العربية‪،‬‬ ‫طلب الفيصل الكلمة ليرد مفصلاً رأيه في الموقف الروسي من األحداث في سوريا‪،‬‬ ‫ووجوب أن تكون العالقة بين الدول العربية وروسيا ندّية‪ ،‬وقائمة على مراعاة مصالح‬ ‫الطرفين‪ ،‬وهنا أتذكر شهادة الدكتور يوسف السعدون أنه والوفد المرافق دهشوا لهذه‬ ‫الكلمة رغم أن األلم كان قد ّ‬ ‫تمكن من الراحل بحيث ال يسمعون ما يقول قبيل الكلمة‬ ‫بدقائق‪ ،‬فيما جاءت الكلمة مثالية في قوتها ودبلوماسيتها‪ ،‬وتناسب مدرسة سعود‬ ‫الفيصل في الدقة والبالغة‪.‬‬ ‫وكأنما كانت هذه الكلمة رسالته البليغة األخيرة ألمته العربية‪ ،‬كان واجبه يناديه‪،‬‬ ‫وكان استقبال كلمة الرئيس الروسي بال تعليق أم ًرا غير مناسب للقمة وللعرب‪ ..‬تحامل‬ ‫على ألمه وارتجل خمس دقائق يمكن وصفها بالنادرة في القمم العربية‪ ،‬كانت‪ ،‬على‬ ‫قوتها‪ ،‬تحتفظ ّ‬ ‫بحق روسيا في حماية مصالحها‪ ،‬وعلى عنايته بالكلمات؛ فقد أوصل‬ ‫رسالة ناقدة‪ ،‬أثارت وسائل اإلعالم‪ ،‬واحتلت عناوين الصحف والوكاالت‪ ،‬بما يليق‬ ‫بمكانة سعود الفيصل وتاريخه وثقة السياسيين برجاحه رأيه‪.‬‬ ‫رحم الله سعود الفيصل‪ ،‬كان أمّ ة في رجل‪ ،‬وسيظل مكانه شاغ ًرا في القلوب‬ ‫والعقول التي عرفته وأحبته‪.‬‬

‫‪www.alfaisalmag.com‬‬ ‫مدير التحرير‬

‫أحمد زين‬

‫اإلخراج‬

‫ينال إسحق‬ ‫التنفيذ‬

‫رياض دفدوف‬ ‫مبارك علي‬ ‫الموقع اإللكتروني‬

‫معتز عبدالماجد‬

‫المراجعة اللغوية‬

‫محمد نصير سيد‬ ‫مراسالت التحرير واإلدارة‬

‫ص‪.‬ب (‪ )3‬الرياض ‪11411‬‬ ‫المملكةالعربيةالسعودية‬ ‫هاتف ‪)+966( 11٤٦٥3027 :‬‬ ‫‪)+966( 11٤٦٥٢٢٥٥‬‬ ‫فاكس‪)+966( 11٤٦٤٧٨٥١ :‬‬ ‫‪contact@alfaisalmag.com‬‬

‫اإلعالنات‬ ‫هاتف‪ .11٤٦٥٢٢٥٥ :‬ـ فاكس‪.11٤٦٤٧٨٥١ :‬‬ ‫‪advertising@alfaisalmag.com‬‬ ‫االشتراكات والتوزيع‬

‫‪ .11٤٦٥٢٢٥٥‬تحويلة‪6640 :‬‬ ‫‪subscriptions@alfaisalmag.com‬‬


‫مقال‬

‫الصحافة الورقية‬ ‫وموت السياسة‬ ‫يمكن القول‪ :‬إن عهد الصحافة الورقية موشك عندنا‪ ،‬كما في بقية‬

‫العالم‪ ،‬على الغياب‪ .‬وفيما يخصنا فإن الصحافة اإللكترونية غير مجهزة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫محلها‪ .‬إذا كانت المسألة بالدرجة األولى مسألة تمويل‪ .‬والحال أن‬ ‫لتحل‬ ‫الصحافة اإللكترونية غير قادرة على أن تفعل شي ًئا في هذا السبيل‪ .‬إنها‬

‫تقلل الخسارة لكنها ال تحول دونها‪ .‬إذا كانت الصحافة الورقية خاسرة‬

‫بمعنى أن عائدها ال يساوي كلفتها ونفقاتها‪ ،‬فإن الصحافة اإللكترونية‬

‫عباس بيضون‬ ‫شاعر وكاتب لبناني‬

‫خاسرة من حيث المبدأ على اإلطالق؛ ذلك ألنها مجانية وال تباع في بالدنا‬ ‫وال تتلقى نسبة كافية من اإلعالنات ألسباب تحتاج إلى تمحيص‪.‬‬

‫الحال ليست كذلك في الغرب‪ .‬صحيفة اللوموند‪ ،‬مثلاً ‪ ،‬ال تنشر في‬

‫طبعتها اإللكترونية كل محتوياتها بل تجتزئ من المقال جانبًا‪ ،‬وتوصي من‬

‫يريد إكماله بشراء العدد كله‪.‬‬

‫ما يمكن قوله‪ :‬إن الصحافة الورقية في الغرب أكملت طورها الورقي‪،‬‬

‫‪184‬‬

‫وتستعد لالنتقال إلى الطور اإللكتروني‪ ،‬والشروط لذلك موفورة‪ ،‬والسبل‬

‫مفتوحة‪.‬‬

‫ليست الحال هكذا عندنا‪ .‬الصحافة الورقية لم تكمل طورها‪ ،‬وشروط‬

‫االنتقال إلى الطور اإللكتروني ليست تامة‪ ،‬واألرجح أننا بين عهد لم يكتمل‪،‬‬

‫وعهد لم تتوافر أسبابه‪ .‬لم ندخل بعد العصر اإللكتروني‪ ،‬أو أننا ال نزال‬

‫إذا كانت الصحافة‬ ‫الورقية خاسرة‪ ،‬بمعنى‬ ‫أن عائدها ال يساوي‬ ‫كلفتها ونفقاتها‪ ،‬فإن‬ ‫الصحافة اإللكترونية‬ ‫خاسرة من حيث المبدأ‬ ‫على اإلطالق‬

‫على أطرافه وضواحيه‪ ،‬ولو توافر الحاسوب في أسواقنا‪ ،‬وانتشرت تقنيات‬ ‫الميديا االجتماعية‪.‬‬

‫العصر اإللكتروني ليس ألمم ال تزال تعيش في العصر الورقي كما هي حال أممنا وشعوبنا‪ .‬في مجتمعات ال تزال األمية سارية‬

‫فيها‪ ،‬وال تزيد فيها نسبة القراءة عن بضعة أفراد في األلف‪ ،‬ال يمكن أن ننتقل بسهولة إلى عصر يستوجب القراءة المكثفة‪ ،‬كما‬ ‫يفترض فرديّة ال تتوافر في مجتمعات ال تزال تعيش عالقات قبلية ومذهبية ومناطقية وجهوية‪ .‬الصحافة عندنا تعاني ذلك‪ ،‬فهي‬ ‫بين عهدين ال تستطيع أن تكون في أي منهما‪.‬‬

‫ذلك يعني موت الصحافة أو احتضارها الطويل الذي يعني في جملة ما‪ ،‬انتكاس عصر كانت الصحافة من مقوماته‪ ،‬كما يعني‬

‫في جانب منه انتكاس السياسة التي كانت الصحافة عصبها ومسارها‪ ،‬كما يعني انصراف الدول والممولين كافة عن دعم الصحافة‪،‬‬ ‫األمر الذي يؤدي إلى موتها‪ ،‬وموت السياسة معها‪ .‬السياسة التي لم تبلغ بعد أشدّ ها‪ ،‬وال تزال العالقات الجهوية والعشائريّة تشدد‬

‫عليها الخناق‪.‬‬ ‫ً‬ ‫إنّ الكالم عن موت السياسة عندنا ليس كالمً ا مجانيًّا‪ .‬السياسة بوصفها اتفاقا على مواقف ووجهات تتطلب مجتمعات‬

‫للمصلحة ولالستقالل الفردي‪ ،‬وللتربية الديمقراطية أثر عميق في تكوينها‪.‬‬ ‫ً‬ ‫تاريخا ومسارات لم نعرفها‪ .‬موت الصحافة قد يكون المقدمة األولى‪ ،‬أو من المقدمات األولى لموت هذه السياسة‬ ‫هذا يتطلب‬ ‫ً‬ ‫الجنينية التي تكافح لتقوم وتتصوّر خلقا سويًّا‪.‬‬ ‫أما في لبنان الذي كان في يوم من عواصم الصحافة العربية‪ ،‬فهنا فوق ذلك تفتت مجتمع هو مع ذلك مسيّس إلى أبعد درجة‪.‬‬

‫الصحافة ال تعني كثي ًرا لطوائف وجماعات منخرطة بجميع أفرادها فيما يسبق السياسة‪ ،‬وفيما يجعلها مسبوقة باستمرار‪ .‬هكذا‬

‫تصنع الجماعات بكل أفرادها األحداث وتفسرها قبل أن تصل إلى الصحف‪ .‬هكذا تتضاءل الحاجة للصحافة يومً ا بعد يوم‪ ،‬فرؤساء‬ ‫الجماعات والجماعات نفسها في معركة دائمة‪ ،‬وال حاجة لالستفسار عنها وقراءتها في صحيفة‪.‬‬ ‫العددان ‪ 476 - 475‬شعبان ‪ -‬رمضان ‪1437‬هـ ‪ /‬مايو ‪ -‬يونيو ‪2016‬م‬




Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.