العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ مايو -يونيو 2016م
العرب في مواجهة الشتات
رقما أنا لست ً
أليكسييفيتش:بوتين أنفق أموال النفط على الجيش برهان غليون :أدونيس يخاف من الجماهير!
صورة المثقف العربي بعد الثورات www.alfaisalmag.com
بنيس :يا أصحاب القرار التخافوا منا! تصاميم زها حديد أعمال فنية
k É`ã``jó``M Qó`°U
ô``jô`ë`J á``ª`Lô`J
´Gô°üdG AÉ£Z â– Ée ∞°ûµj ÜÉàc øª«dG ‘ á«∏Ñ≤dGh á«°SÉ«°ùdG ÖîædG ÚH www. research.kfcris.org research@kfcris.com
«
» ﺗﺠﻮل ﻓﻲ ﻣﻮﻗﻊ
ﻣﻘﺎﻻت ﻟﻨﺨﺒﺔ ﻣﻦ أﻫﻢ اﻟﻜﺘﺎب ﻣﻠﻔﺎت وﺗﺤﻘﻴﻘﺎت وﻗﻀﺎﻳﺎ ﻋﻦ اﻟﺮاﻫﻦ اﻟﺜﻘﺎﻓﻲ واﻟﺴﻴﺎﺳﻲ ﻣﻊ إﻃﻼﻟﺔ ﻋﻠﻰ اﻹﺑﺪاع ﻓﻲ ﻣﺨﺘﻠﻒ اﻟﻔﻨﻮن
alfaisalmag @alfaisalmag www.alfaisalmag.com editorial@alfaisalmag.com
أسسها عام 1397هـ1977/م
األمير خالد الفيصل يصدرها
رئيس مجلس اإلدارة
األمير تركي الفيصل العددان - 476-475السنة الحادية واألربعون
الناشر
الثقافية
دار
رئيس التحرير
ماجد الحجيالن editorinchief@alfaisalmag.com تعبر عن وجهة نظر اآلراء المنشورة ّكتَّابها ،وال تم ِّثل رأي مجلة الفيصل. تكفل المجلة حرية التعليق علىموضوعاتها المنشورة شريطة االلتزام بالموضوعية. تحتفظ المجلة بحقوق ملكيتها للموادالمنشورة فيها ،ويتطلب إعادة نشر أي ورقيا الحصول على إلكترونيا أو مادة ً ً موافقة المجلة مع اإلشارة إلى المصدر. ترسل المواد إلى بريد المجلةاإللكتروني:
editorial@alfaisalmag.com لالطالع على سياسة النشر يرجى زيارةالموقع اإللكتروني
www.alfaisalmag.com ردمد ٨٥٢٠ - ٠٤١١ رقم اإليداع مكتبة الملك فهد الوطنية 41/2450 العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
في هذا العدد نورة بنت تركي :المملكة وسياسة النفط
10
السفارة السعودية تعود إلى بغداد
52
محمد عبدالمطلب :العرب نقلة ال مبتكرون
60
علي الدميني :الصوت واألجراس
66
موجة ثالثة في الرواية السودانية
70
من عصفور إلى النمنم ..مدرستان وتسع وزارات
108
رؤية ثقافية لمجابهة التطرف
130
لطفية الدليمي :تحويل األحالم إلى أفعال
138
هيثم حسين :البحث عن الحب عبر الخرافة
142
عبد العزيز العريفي :قصور الطين
146
أين الثقافة في التلفزيون المعاصر؟
152
فنانون يخلطون بين الحداثة والمفاهيمية
166
مقاالت آمال موسى
78
هاني نقشبندي
88
محمد بنيــس
112
علي الشدوي
144
عباس بيضون
184
تقارير
دراسات
56
74
المثقفون اليمنيون
الظواهر الجديدة لدى شعراء
من تسويق الموت إلى «الهروب الجميل»
شباب من السعودية والخليج
شخصيات
ثقافات
126
134
جورج طرابيشي ..أخرج
اإلشكالية اللغوية
«العربي» إلى رحاب الحداثة
في الجزائر
104قضايا
عالقة
الدين بالفنون
ملف العدد
العرب في مواجهة الشتات شارك في ملف هذا العدد: نبيل سليمان أحمد إبراهيم الفقيه غوالي ظاظا دنى غالي صهيب أيوب رنا نجار رحب علواني أسامة أمين -جعفر العقيلي
14
المركز
بعد عقدين من اإلنجازات
ابن جنيد يغادر األمانة العامة للمركز أعرب رئيس مجلس إدارة مركز الملك
فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية األمير تركي الفيصل عن شكره وتقديره البالغ لألستاذ الدكتور يحيى محمود بن جنيد األمين العام للمركز الذي
ترجّ ل من منصبه مطلع شهر رجب 1437هـ مختتما بذلك مسيرة حافلة في األمانة العامة للمركز، وأكد األمير تركي الفيصل أن الدكتور ابن جنيد
حقق إنجازات علمية وبحثية نفخر بها ،مشددا على أن المركز سيظل يستفيد من رأي الدكتور يحيى بن جنيد ومشورته وأبحاثه ،بما يمتلكه
4
من مكانة أكاديمية وملكة في البحث والتحقيق،
حيث أسهمت معرفته الواسعة وعالقاته العلمية
في استقطاب أبرز األسماء الثقافية السعودية والعربية والعالمية التي شاركت في محاضرات المركز
وأبحاثه وإصداراته المتنوعة.
وكان الدكتور ابن جنيد قد تولى األمانة العامة للمركز منذ عام 1418هـ1998/م وعمل على تطوير
أعمال المركز والتخطيط لبرامجه وفعالياته؛ حتى أضحى أحد أهم الصروح الثقافية ال على مستوى
المملكة فحسب ،وإنما على مستوى العالم العربي ،من خالل أنشطته المتخصصة التي وجدت التقدير من الوسط الثقافي العربي ،ونال على تميز تلك البرامج واألنشطة جوائز كثيرة.
ومن الجهود المميزة التي بذلها الدكتور يحيى في المركز اإلعداد واإلشراف على البحوث العلمية،
وتحديث المكتبة وتطوير قواعد المعلومات والعناية بالمخطوطات العربية واإلسالمية النادرة ،هذا إلى جانب رئاسة تحرير مجلة الفيصل العريقة التي أضاف إلى إصداراتها «الفيصل األدبية» ثم ترأس تحرير
«الفيصل العلمية» التي تصدر بالتعاون بين المركز ومدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية ،كما أسس ابن جنيد مجلة «اإلسالم والعالم المعاصر» وترأس تحريرها ،باإلضافة إلى مجلة «الدراسات
اللغوية» ومجلة (عالم الكتب) التي يرأس تحريرها منذ عام 1400هـ ،ومجلة عالم المخطوطات والنوادر . يذكر أن الدكتور يحيى ،الذي حاز جائزة الملك فيصل العالمية ،عمل مستشار مكتبة الملك فهد
الوطنية والمشرف على مرحلة التشغيل من 1407حتى 1410هـ .وأيضا أمين مكتبة الملك فهد الوطنية المكلف من 1410هـ إلى منتصف 1416هـ ،وله ما يربو على ستين كتابا وبحثا ودراسة ألفها في مجاالت
اهتمامه المتنوعة ما بين التحقيق والتاريخ والمكتبات والرحالت والحضارة اإلسالمية.
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
مئة مخطوطة «نادرة» في معرض المخطوطات العربية في مناسبة يوم المخطوط العربي
دشن
مركز
الملك
فيصل
للبحوث
والدراسات اإلسالمية بالتنسيق مع المعهد ً معرضا بعنوان« :يوم العربي بالقاهرة، المخطوطات العربية» تحت شعار «قيم الثقافة وثقافة القيم» .وضم المعرض الذي
انطلق في إبريل الماضي نحو مئة مخطوطة
نادرة ،يعود بعضها إلى القرن الثالث الهجري ،وتشمل عددًا من الفنون والعلوم مثل :الطب ،والقانون ،والمنطق ،إضافة
إلى الهندسة والتراث اإلسالمي. ومن
المخطوطات
النادرة،
التي
عرضت في المعرض ،مخطوطة كتاب
«أخبار النساء» ألسامة بن منقذ ،وهي النسخة الوحيدة في العالم .والكتاب
يختلف عن الكتب التي ألفت في أحكام النساء من الناحية الفقهية ،مثل كتاب
ابن الجوزي وغيره ،وجاء ترتيب الكتاب ً شائقا للقراءة ،وسلك فيه المؤلف أسلوبًا
أدبيًّا ،من ناحية اإلتيان باألشعار والنقول األدبية من كبار األدباء .ومن
المخطوطات النادرة التي ضمها المعرض« :فقه اللغة» للثعالبي،
وهي أقدم نسخة في العالم وجدت حاليًا ،منسوخة في حياة المؤلف وقبل وفاته بثالثين سنة .ومن المقتنيات مصحف مملوكي عمره نحو
700سنة ،وهو منسوخ في القرن الثامن الهجري ،وقد أوقفته حدق
القهرمانية المشهورة بالست مسكة ،وهي معتقة السلطان محمد بن قالوون .وكانت مربية ابنه السلطان حسن بن محمد بن قالوون.
«اإلسالم والعالم المعاصر» و«الدراسات اللغوية» صدر العدد الجديد من «اإلسالم والعالم المعاصر» ،وهو دورية نصف
سنوية تصدر عن المركز ،وتعنى بقضايا اإلسالم والعالم المعاصر ،ويرأس
تحريرها الدكتور يحيى محمود بن جنيد .ومن أهم المواد التي ضمها العدد:
سلفية تونس :حداثة النشأة وتعدد المسارات ،بن عيسى الدمني .محددات
السياسي والديني في خطاب إسالميي المشاركة بالمغرب ،البشير المتاقي. مذكرات حاج إيراني في عهد الملك عبدالعزيز ،أبو الفضل حاذقي .المسلمون في رومانيا :حرية المعتقد واختالف الثقافات ،بركة الله محمد أبو األنوار
سليمان .يهود العراق ودورهم في التاريخ العراقي ،محمد حيان حافظ.
كما صدر العدد الجديد من مجلة «الدراسات اللغوية» التي تصدر عن
المركز ويرأس تحريرها الدكتور تركي بن سهو ،وتضمن العدد باقة من
الدراسات واألبحاث ،منها :المصطلح النحوي (التركيبي) عند برجشتراسر، عبدالله بن شهاب .مسألة تعدد ما بعد (إال) البن هشام األنصاري ،سعيد الغامدي .نقض الهاذور ألبي علي الفارسي ،لمشعان بن نازل .ائتالف الصوامت
في بنية الكلمة العربية عند اللغويين القدماء ،خالد المساعفة .االنحراف اللغوي في العربية المعاصرة ،عاطف إبراهيم.
5
المركز
تطوير مكتبة المركز تشهد مكتبة مركز الملك فيصل
للبحوث
والدراسات
اإلسالمية
خطوات تطويرية عدة ،منها مشروع
الرقمنة ،ويهدف إلى إنشاء مكتبة
رقمية
داخل
المركز،
وإتاحتها
للباحثين والدارسين .وتطوير قاعدة
الرسائل الجامعية في المركز التي
تقوم باستقطاب الرسائل الجامعية أو القوائم الببليوغرافية من الجامعات للباحثين والدارسين بما يمثل النتاج الفكري في الجامعات السعودية
والعربية ،وضمها تحت قاعدة تسمى قاعدة الرسائل الجامعية ،وذلك لتسهيل
6
الوصول
إلى
المعلومة
الببليوغرافية عن الرسائل الجامعية
الممنوحة أو المسجلة في الجامعات السعودية والعربية ،سعيًا إلى عدم تكرار كتابة الرسالة الجامعية ،للحصول على درجة الماجستير والدكتوراه .وقد بلغ عدد الرسائل الجامعية المسجلة في القاعدة 139772رسالة .والمركز يفيد الطالب بأن الموضوع سبق بحثه أم ال.
من ناحية أخرىّ ، أمد مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية المكتبة الرئيسة بأكثر من 1500عنوان،
من معرض الرياض الدولي للكتاب .وتغطي العناوين مجاالت متنوعة؛ علمية وفكرية وأدبية وإبداعية وتربوية
واقتصادية وسياسية واجتماعية .ويتوقع أن تلبي هذه العناوين الجديدة مطالب رواد المكتبة الذين ال يقتصرون على سكان مدينة الرياض فحسب ،إنما يشملون طالبي المعرفة من خارج الرياض ،فمكتبة المركز ّ تعد واحدة من أهم المكتبات في السعودية والعالم العربي ،نظرًا إلى ما تضمه من آالف الكتب المهمة واألساسية في المجاالت
المختلفة .ويمكن التواصل مع خدمة المعلومات في المركز على البريد اإللكترونيis@kfcris.com :
حسين يغادر «الفيصل» غادر الزميل مدير تحرير مجلة الفيصل الدكتور حسين حسن حسين إلى موقع آخر، بعد مسيرة عملية طويلة بدأت عام 1994م أثبت خاللها مهنية عالية في كل مجاالت
العمل الصحافي توّجها بنيله جائزة الصحافة العربية من نادي دبي للصحافة .وكان الدكتور حسين أشرف خالل عمله على عدد كبير من اإلصدارات والمالحق الصادرة عن دار الفيصل الثقافية ،كما تولى ً أيضا إدارة محتوى موقع المجلة ،وشارك في إعداد
العدد التذكاري الخاص بثالثينية المركز .وتولى ً أيضا إدارة تحرير مجلة الفيصل األدبية،
ويعمل حاليًا مدي ًرا لتحرير مجلة الفيصل العلمية .الزميل حسين تميز في كل األعمال التي ّ كلف بها بروح الجد واإلخالص والتعاون مع رؤسائه وزمالئه.
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
7
كاريكاتير
فعاليات
تركي الفيصل: استفحل اإلرهاب ألن البشرية لم تجهد في البحث عن جذوره الرياض
قدم رئيس مجلس إدارة مركز الملك
فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية األمير
8
تركي الفيصل في 5رجب 1437هـ ( 12إبريل
2016م) محاضرة في جامعة اإلمام محمد بن
سعود اإلسالمية بالرياض .ضمن اللقاء الدوري
لكراسي البحث العلمي. وتناولت
محاضرته
التعليم
الجامعي
والبعد األخالقي والتربوي ،وتطرق إلى ما تمر به المجتمعات العربية من إرهاب ،كما توقف
عند التصنيفات الفكرية التي تعصف بالمجتمع، طارحً ا عد ًدا من المقترحات من أجل التصدي
لذلك.
واستهل األمير تركي المحاضرة بالتأكيد على أن النظام
وتوقف طويلاً عند الجانب األخالقي ،ليذكر أن أقوال
التعليم الجامعي» ،مشي ًرا إلى تفرد الحضارة العربية
قيم مُ ثلى والتربوي للجانب التعليمي؛ «ألن العلم من دون ٍ ً ووسيلة ال أكثر ّ تحميه يصبح مطي ًّة ّ لكل صاحب لكل غرض،
ً خصوصا التعليمي في أيّ أمة «هو مقياس تقدّ مها وتطورها، واإلسالمية بوجود الجامعات فيها طوال ثالثة قرون« ،قبل
أن يبدأ األوربيون بإنشاء أول جامعة لهم» .وقال :إن النظام
التعليمي في عصور ازدهار األمة امتاز «بأنه لم يكن نظامً ا جامدً ا ال يهتمّ إال بإيصال المعلومة وتدريسها ،وإنما أَو َْلى البناء األخالقي والتربوي للطالب ّ جل اهتمامه ،وهو ما ساهم بسياج تربويٍّ منيع في بناء المجتمع أخالقيًّا ،وإحاطة أبنائه ٍ
يحمي قيم المجتمع ،ويسهم في رقيّه».
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
سلف األمة وعلمائها تواترت على أسبقية الجانب األخالقي
هوًى» .وخاطب قيادات الجامعة بقوله :إنه إذا كانت مسؤولية ً ً شاملة أخالقيًّا مسؤولية الجامعة في عصور ازدهار األمة
ّ ً مسؤولية الموقرة تتحمّ ل وتربويًّا وتعليميًّا «فإن جامعتكم ً ضاعفة في هذا الشأن؛ ألنها تأسّ ست في بلد اإلسالم األول، مُ
وتحمل في اسمها صفة (اإلسالمية)؛ لذلك فعليها أن تعكس َ الواضحة ،وأن تكون للعالم صورة اإلسالم الصافية ،و ِقيَمَ ه
ً خصوصا أن الجامعة نبراسً ا واضحً ا في طريق الحق والنور،
بين جماعة المسلمين ،والحمد لله رب العالمين» .وقال
تؤدي رسالتها في زمن تراجعت فيه القيم ،وأصبح إسالمنا ّ محل ّاتهام؛ بسبب شرذم ٍة قليل ٍة من بني جلدتنا ،ال العظيم لاًّ ً يرقبون فينا وفي إسالمنا إ وال ذمة».
األمير تركي مخاطبًا الحضور« :ال يخفى عليكم أن االنفتاح ً رسوخا ،والعقل مضاءً ؛ على الحضارات األخرى يزيد القلب لذلك كانت المملكة سب ً ّاقة إلى بذل الجهود في مجال الحوار
االبتعاد من التصنيفات ّ ودعا الجامعة إلى أن تحقق معنى االجتماع الذي يشير إليه اسمها على أرض الواقع؛ «فتكون رم ًزا لوحدة الجماعة
وأضاف« :لقد استفحل اإلرهاب ،وازدادت قدراته؛ ألن ً جاهدة عن جذوره ،بل يساعد النظام البشرية لم تبحث
الوطنية وتالحمها ،وأن تبتعد عن التصنيفات الفكرية
التي قسمت العالم اإلسالمي وشوّهته ،وأدّت بنا إلى حال
مزري ٍة ...تلك التصنيفات التي حذر منها الملك عبدالله بن
بين الحضارات والثقافات».
الدولي بما يشهده من صراعات مكتومة أو مُ علنة بين قواه
الدولية على تنامي اإلرهاب» ،مشي ًرا إلى أن ما يحدث في الساحة السورية خير دليل على ذلك .وذكر أن عدم تب ّني المجتمع الدولي خيار الشعب السوري منذ البداية ،وسكوته
عبدالعزيز -رحمه الله -في مناسبات مختلفة؛ فأدرك بعمق
عن دعم المحور (الروسي -اإليراني -ومعهم الميليشيات
فقال« :سبق لي أن ُ قلت ،وأك ّرر أمامكم اآلن ،أن هناك أمرين
حدَب وصوب .ولم يقتصر ساحة القتال المتطرفين من كل ٍ الوضع الكارثي على الساحة السورية فقط ،بل امتدت آثاره إلى
وعيه ،وبُعد نظره ،خطورتها على أمن البلد واستقراره؛ ال يمكن التساهل فيهما ،وهما :شريعتنا اإلسالمية ،ووحدة
هذا الوطن .وأصارحكم القول :إنني أرى أنه ال يتناسب مع قواعد الشريعة السمحة ،وال مع متطلبات الوحدة الوطنية،
بجهل ،أو بسوء ني ٍة ،بتقسيم المواطنين أن يقوم البعض ٍ إلى تصنيفات ما أنزل الله بها من سلطان؛ فهذا علماني،
وهذا ليبرالي ،وهذا منافق ،وهذا إسالمي متطرف ،وغيرها من التسميات .»...وفي محاضرته عول األمير تركي كثي ًرا على جامعة اإلمام في أن تكون نموذجً ا جليًّا لجامعات في
أزهى العصور اإلسالمية« ،نريد لها أن تكون منب ًرا للبحث ً رافعة لواء الحوار الب ّناء، العلمي الجا ّد في مختلف العلوم، ً متوقفا الذي عرفه التاريخ اإلسالمي باسم «المناظرة»، عند الكلمات التي ختم بها «الملك المؤسِّ س عبدالعزيز بن
عبدالرحمن آل سعود -طيّب الله ثراه -كلمته التي افتتح بها المؤتمر اإلسالمي األول ،الذي ُعقد في مكة المكرمة
سنة 1344هـ؛ إذ قال« :إن المسلمين قد أهلكهم التف ُّرق في المذاهب والمشاربَ ،ف ْ ائ َتمِ ُروا في التأليف بينهم ،والتعاون على مصالحهم ومنافعهم العامة المشتركة ،وعدم جعل
اختالف المذاهب واألجناس سببًا للعداوة بينهم ...وأسأل وجل أن ّ ّ ّ الحق ،وخدمة يوفقني وإيّاكم إلقامة دينه الله عز
حرمه وحرم رسوله صلوات الله وسالمه عليه ،والتأليف
عدم تب ّني المجتمع الدولي خيار الشعب السوري منذ البداية؛ أفرز لنا وضعا كارث ًّيا جذب إلى ساحة القتال ً ب وصوب حد ٍ المتطرفين من كل َ
الطائفية) لبقاء نظام األسد؛ «أفرز لنا وضعً ا كارثيًّا جذب إلى
أوربا نفسها ،من خالل أزمة الالجئين التي تهدّ د أوربا كلها... ً صارخا إلغفال المجتمع وتبقى القضية الفلسطينية نموذجً ا الدولي البحث عن منابع اإلرهاب وتجفيفها». تغول اإلرهاب
ولم يجد األمير تركي ما يختم به محاضرته« ،أفضل
من تلك الكلمات الجامعة لسيدي خادم الحرمين الشريفين
الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله -في افتتاح المؤتمر العالمي «اإلسالم ومحاربة اإلرهاب» ،الذي ّ نظمته رابطة العالم اإلسالمي بمق ّرها في مكة المكرمة في ربيع اآلخر
سنة 1436هـ؛ فقال -أيّده الله -مخاطبًا ضيوف المؤتمر:
جلل يهدّ د أمتنا اإلسالمية «إنكم لتجتمعون اليوم على أمر ٍ والعالم أجمع بعظيم الخطر ج ّراء تغوّل اإلرهاب المتأسلم بالقتل والغصب والنهب وألوان شتى من العدوان اآلثم في
كثير من األرجاء ،جاوزت جرائمه حدود عالمنا اإلسالمي ً وبهتانا ،وهو منه براء ...المملكة متمترسً ا براية اإلسالم زورًا
العربية السعودية -كما تعلمون -لم تدّ خر جهدً ا في مكافحة ً بكل الحزم ،وعلى ّ ّ كل األصعدة... وممارسة اإلرهاب فك ًرا تصدّ ى علماؤنا األفاضل بالر ّد الحاسم على ما ّ يبثه اإلرهابيون من مسوّغات دينية باطلة يخدعون بها الناس ،وبيّنوا تحذير اإلسالم من العنف والتطرف والغلو في الدين ،وتحزيب األمة، والخروج على والة أمرها ،وأن الوسطية واالعتدال والسماحة
هي سمات اإلسالم ومنهاجه القويم ،وأن مَ ن حا َد عن هذا المنهاج ال يمكن أن يخدم األمة ،وال يجلب لها إال الشقاء
والفرقة والبغضاء» ،مشددًا على أن الملك سلمان وضع الخطوط العريضة« ،وليس علينا سوى التنفيذ».
9
فعاليات
الرد على المزاعم حول ّ دوافع المملكة وسياستها في سوق النفط نورة بنت تركي آل سعود باحث رئيس -مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية
10
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
عقد مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية حلقتي نقاش في إبريل الماضي ،تتعلقان
بالطاقة والنفط ،بحضور عدد من كبار االقتصاديين واختصاصيي نفط محليين ،وعدد من رؤساء شركات النفط ،إضافة إلى سفراء كل من الصين واليابان وروسيا ،ورئيس مركز دراسات الطاقة في
جامعة كولومبيا في نيويورك الدكتور جيسون بوردوف.
وهذا المقال هو ورقة تقدمت بها الباحثة إلى إدارة البحوث في المركز ،وأعد بناء على معطيات ً تفنيدا للمزاعم حول دور المملكة العربية السوق النفطية في شهر أكتوبر من عام 2015م ،وتضمن السعودية في ارتفاع أو هبوط أسعار النفط ،وألن ً بحثا كهذا يكتسي أهمية مضاعفة في ضوء ما تشهده سوق النفط حاليًا من جدال اقتصادي وسياسي؛ فإن الفيصل تنشره كاملاً : ازدادت التنبّؤات بشأن قرارات المملكة العربية السعودية
في سوق النفط منذ انخفاض أسعار النفط في خريف عام 2014م؛ ً عادة على أنها المنقذ لسوق النفط؛ فقد فالمملكة يُنظر إليها
ّ وتقلبات األسعار منذ ازدهار تحمّ لت عبء اضطرابات سوق النفط صناعة النفط فيها ،وهو ما ّاتضح بجالء في السنوات التي تلت حظر النفط العربي في سبعينيات القرن الماضي .وتغيّر هذا التوجّ ه ّ تخلت المملكة العربية السعودية عن خالل العام الماضي؛ إذ ً ّ رافضة أن المتمثل في العمل على استقرار السوق، دورها المعتاد،
تتحمّ ل وحدها عبء حماية األسعار .وقد أثارت هذه الخطوة غير ً ضجة حول احتمال اندالع حرب نفطية عالميةّ ، هامات وات المسوّغة ٍ
بأن المملكة ضالعة في إستراتيجيات تسعير مض ّرة ،وشكو ًكا حول
نيّتها استخدام النفط سالحً ا سياسيًّا للضغط على الحكومات األخرى كي تذعن لها.
في الواقع ،ما حدث هو تحوّل كبير في أسواق النفط العالمية؛
إذ تغيّرت األدوار التقليدية ،فدخلت دول منتجة جديدة في السوق، وتحوّلت بعض الدول المستوردة للنفط إلى دول مصدّ رة ،وما زال المصدّ رون التقليديون الذين يعملون في بيئات سياسية وأمنية
حساسة مستم ّرين في تحدّ ي التوقعات ،وإثبات مرونة صناعات ّ النفط لديهم من خالل زيادة حجم اإلنتاج. ّ ً وبينما كان الهبوط في أسعار النفط أم ًرا مفاجئا وغير متوقع كان زخم اإلنتاج يتصاعد بجالء حسب تأرجح مستويات اإلنتاج،
واستجابة المنتجين لذلك؛ فقد أدّى االنحسار المؤقت لإلمدادات في الشرق األوسط وشرق إفريقيا ووسطها ،الذي ُقوبل بزيادة
المعروض من النفط الصخري في أميركا الشمالية ،إلى إيجاد بيئة أسعار مستقرة لم ت ّتضح معالمها آنذاك ،وأدّى هذا الوضع المبهم إلى تراكم كميات النفط في السوق شي ًئا فشي ًئا ،وأصبح السوق ً متخمً ا بالنفط في نهاية المطاف ،وأصبح ّ استجابة للتهديدات أقل ّ وتعطل اإلمدادات. اإلقليمية
11
فعاليات
وعندما أصبح الوضع جليًّا ،وبدأت األسباب تعبّر عن
نفسها ،بدأ منتجو النفط يدعون إلى (إصالحات) تقليدية
لمواجهة هذه المشكلة ،وتحوّلت جميع األنظار إلى السعودية ّ مترق ً تخفض إنتاجها .لم يكن مستغربًا ً بة أن ّ إذا -أن يكون قرارالمملكة الحفاظ على مستويات إنتاجها خالل اجتماع أوبك في ً خطوة تهدف إلى الحفاظ على حصتها في نوفمبر عام 2014م
المتحدة األميركية من السوق ،وهو ما أطلقت عليه وسائل
اإلعالم «حرب النفط».
وعلى الرغم مما سبق فإنه من باب تسطيح األمور أن
نحكم على النوايا ،وأن نرى أن مثل هذه الوسائل تعود بفوائد خالصة ،أو ّ تحقق النتائج المرغوبة؛ فقد استم ّر المنتجون في
السوق تقودها خبرة وتجربة أذهلت العالم في ظروف مماثلة
الواليات المتحدة في استخراج النفط على الرغم من انخفاض مستوى اإلنتاج وصناعة المعدات ،وهي ظروف ُتعزى من دون
ً مقتصرة على السعودية ،أسعار النفط إلى مزيدٍ من تكن
كما تواصل السعودية السحب من احتياطياتها المالية
في منتصف ثمانينيات القرن الماضي؛ فقد قادت إستراتيجية «د َْعه يعمل ..د َْعه يم ّر» ،التي ّاتخذها جميع المنتجين ،ولم
ٍّ شك إلى قوى السوق التي تعمل وفق ما ُتمليه عليها مصالحها.
السقوط الحر.
اإلستراتيجية؛ إذ تناضل من أجل زيادة ّ حصتها في السوق،
إن أهم تغيير في السوق كان الصعود غير المحسوب
ويواصل االنفصاليون في شبه جزيرة القرم القتال تحت رعاية
االقتصادية المواتية ،التي دفعت إمدادات النفط في السوق ّ التدفقات النفطية في السوق في إلى زيادات جديدة ،وجعلت
فاعل واحد ،أو (اتحاد احتكاري للمنتجين -كارتل) ،لديه القدرة ّ التحكم بشكل انفرادي في أسعار النفط ،أو في استقرار على
لكميات إنتاج النفط الصخري في الواليات المتحدة األميركية، الذي أصبح ممك ًنا بفضل التقدّ م التكنولوجي والظروف
حالة تغيير مستمر .ومن المثير لالهتمام أنه على الرغم من أن
الطفرة النفطية األميركية الواضحة منحت الواليات المتحدة
12
المملكة المتعمّ دة إلخراج النفط الصخري الذي تنتجه الواليات
الفرصة الستعادة دورها التاريخي بأن تكون (المُ ن ِتج البديل أو ً إضافة المرجّ ح) بحكم وجود كميات جديدة متاحة اقتصاديًّا، إلى الخصائص الفريدة إلنتاج النفط الصخري الذي يسمح لها ّ بتدفق إنتاجها ووقفه بسهولة ،إال أن كثي ًرا من العاملين في
ميدان الطاقة وغيرهم من المراقبين ال يزالون يرون السعودية
الكيان الرئيس الذي يقع على كاهله تصحيح مسار األسعار. حرب النفط
بدأ ترويج الدعاية والتنبّؤات على نطاق واسع بشأن
برنامج العمل السعودي األميركي للضغط على روسيا في إطار
االهتمامات المشتركة والفردية (مثل :ضمّ شبه جزيرة القرم، ّ المتعلقة بجهود واألنشطة الروسية في سوريا) ،والمزاعم
دافع سياسة الطاقة السعودية عامةً هو الحاجة األساسية إلى تأمين الطاقة ،وضمان المصالح االقتصادية لمواطنيها على المدى البعيد ال يوجد فاعل واحد لديه القدرة على التح ّكم بشكل انفرادي في أسعار النفط ،أو في استقرار السوق
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
روسيا ،وبوتين مستمر في دعم حكومة األسد في سوريا. ً ً واضحة لسوق متطوّرة؛ إذ ال يوجد صورة ترسم هذه األمور
السوق ،أو الرغبة في ذلك ،بل العمل باألحرى في ميدان يعمل فيه الفاعلون في ّ ظل شروط وظروف سوق حرة حيث
المنافسة هي التي تحدّ د السلوك .وي ّتضح هذا الموقف ً أيضا في
قرار المملكة عدم خفض اإلنتاج من جانب واحد؛ لمنع تراجع
أسعار النفط.
إن انخفاض تكلفة اإلنتاج لدى شركة أرامكو السعودية، واالحتياطيات األجنبية الكبيرة في المملكة؛ جعال المملكة ت ّتخذ قرارها السليم بعد التحليل بتب ّني موقف ّ يمكنها من تحمّ ل إنتاج تلك الكميات من النفط في ّ ظل ظروف انخفاض السعر الحالي َّ يشل اقتصادها بشكل كبير ،ومع ذلك فإن مدى من دون أن
استمرار المملكة على هذا النحو له حدود. وبعد ّ أقل من عام من بدء التنبّؤات األوّلية عاود الخطاب
ذاته الظهور اليوم حول النفط السعودي الذي يُشحن إلى ّ تسلط الضوء على بولندا؛ فالبيانات والتصريحات القوية التي مصطلحات مثل« :اإلغراق» في قضية بيع النفط لبولندا، و«حرب النفط» ،ظهرت ً مرة أخرى في وسائل اإلعالم ،ومثل هذا الخطاب يتناقض مع المبادئ األساسية لعمليات السوق
التي يهيمن فيها التنافس المحموم على المشهد.
في الواقع ،كان بيع النفط السعودي لبولندا قرارًا ثنائيًّا،
على أساس الهدف الجيوإستراتيجي لالتحاد األوربي؛ للحدّ
من اعتماده على الطاقة الروسية من جهة ،ورغبة السعودية
في توسيع ّ حصتها في السوق من جهة أخرى .وكان االتحاد األوربي قد ّاتخذ تدابير للتخفيف من حدّ ة االضطرابات ،وتعزيز مرونة قطاع الطاقة لديه ،حتى قبل انضمام شبه جزيرة القرم
إلى روسيا؛ ردًّا على إساءة استخدام روسيا الغاز كأداة ضغط
الرد على المزاعم حول دوافع المملكة وسياستها في سوق النفط ّ
إلجباره على إبرام اتفاق سياسي أو اقتصادي من خالل وقف
بكثير المنافع المحتملة على المدى القصير من دفاعها عن
وكانت خطوة االتحاد األوربي تنطلق في األساس من حاجته
ثانيًا -تعمل أرامكو السعودية ،وهي شركة النفط الحكومية ،في ّ ظل ظروف عمل صارمة ت ّتضح في ممارساتها المهنية ،ومعامالتها التجارية .وتسترشد الشركة في ّاتخاذ
بالطاقة؛ ففي فبراير عام 2015م اقترح رئيس الوزراء البولندي
ّ ومخصصات معدّ ة لمواجهة متغيّرات السوق ،تدفعها صارمة،
الصادرات الروسية.
الماسة إلى تقليل اعتماده على الغاز الروسي ،وصعّ د المجلس األوربي ً أيضا من تدابيره الرامية إلى االبتعاد من االعتماد على
ّ المتعلقة النفط الروسي ضمن غيرها من التدابير واالهتمامات رئيس المجلس األوربي اآلن -إطارًا لتعزيز مرونة الطاقة لدىاالتحاد األوربي في مواجهة انعدام أمن الطاقة الناتج من ّ تعطل
االستيراد والفجوات في سوق الطاقة .وشدّد اإلطار على تعزيز
أسعار النفط.
قراراتها إلنتاج النفط وتسويقه وبيعه بتوجيهات حكومية
قيمها األساسية ،والمنافسة ،وزيادة أرباح القيمة المضافة لمصلحة مساهميها؛ ألن الهدف اإلستراتيجي للشركة -كما هو ّ موضح على موقعها على شبكة اإلنترنت -هو أن تصبح بحلول
والمضي قدمً ا في الجهود تدابير الكفاءة ،وتكامل األسواق، ّ الرامية إلى خفض نسبة انبعاثات ثاني أكسيد الكربون ،وعرض خيار االستفادة من بيئة انخفاض السعر حاليًا فيما أُطلق عليه
المستديم والمتنوّع القتصاد المملكة ،وتمكين قطاع الطاقة
الثالثة األولى في قائمة مستوردي النفط الروسي في االتحاد األوربي .وبسبب هذه الظروف فإن لدى هذه الدول ّ كل
لدى أرامكو السعودية ،وهي تتيح لها خيار تقديم نفطها بأسعار ً ّ مقارنة مع مورّدين آخرين ،وتستند بشكل رئيس إلى مخفضة
كانت تستورد معظم احتياجاتها من النفط عبر خط أنابيب من روسيا ،بمعدل 424برميلاً في اليوم عام 2014م ،وهو ما
ضمن أمور أخرى .وتسمح هذه اإلستراتيجية للشركة ببيع
(الفرصة التاريخية). ّ في عام 2014م كانت ألمانيا وهولندا وبولندا تحتل المراكز
الحوافز للتنويع؛ فبولندا التي تنتج القليل من النفط محليًّا
ّ يمثل نحو ٪90من طاقة التكرير ،وأكثر من ٪80من الطلب في البالدً . بمستغرب عليها. إذا ،فاالنتقال إلى التنويع ليس ٍ
وهناك جانب آخر مهم يُؤخذ في الحسبان ،وهو أن أعمالاً من هذا القبيل ليست من جانب واحد؛ فروسيا ً أيضا زادت شحنات التصدير إلى بلدان آسيا؛ إذ تسعى إلى ضمان
وصولها إلى األسواق الكبرى في الشرق ،وتعويض األسواق التي فقدتها في األميركيتين ،والحدّ في نهاية المطاف من
اعتمادها على السوق األوربية ،التي تصدّ ر إليها حاليًا أكثر
من ٪70من إجمالي صادراتها النفطية .وبين عامي 2013 و2014م زادت الصادرات الروسية إلى الصين واليابان بنسبة ٪5و ٪3على الترتيب ،وتراجعت صادراتها إلى أوكرانيا إلى النصف ،وانخفضت صادراتها إلى بولندا كذلك بنسبة .%1
تأمين الطاقة ً وألن هناك آراء مختلفة بشأن السلوك السعودي في سوق
بمكان أخذ بعض النقاط األساسية اآلتية في النفط فمن األهمية ٍ
عام 2020م «شركة الطاقة والمواد الكيميائية المتكاملة الرائدة في العالم ،مر ّك ً زة في تعظيم الدخل ،وتسهيل سُ بُل التوسّ ع السعودي النابض بالحياة من المنافسة عالميًّا». ً ثالثا -فروق األسعار هي التي تحدّد إستراتيجية التسعير
تكلفة الشحن ،وجودة الخام (النوعية ،ومحتوى الكبريت)، نفطها الخام إلى مصافي التكرير بأسعار تنافسية (صافي الدخل
المرجّ ع). ً رابعا -أثبتت التجارب السابقة أن السعودية ال يمكنها
السيطرة على أسعار النفط؛ ألن القرارات التي تعود بأرباح
صافية على المدى القصير تشهد غالبًا انتكاسات على المدى
الطويل .وقد دفعت تجربة السعودية في ثمانينيات القرن الماضي -بوصفها أحد األمثلة الدقيقة -إلى ّاتخاذ مزيدٍ من ّ المتعقلة اليوم؛ إذ أدّت زيادة المعروض ،وتراجع الخطوات الطلب في المقام األول ،إلى انخفاض تدريجي تاله انهيار لألسعار في ثمانينيات القرن الماضيُ ،قوبل بخفض كبير ً وسيلة لتحقيق التوازن في السوق .وألن إلنتاج المملكة بوصفه
تلك اإلستراتيجية استم ّرت في السنوات التالية ،فقد شهدت ً انخفاضا في حصتها المملكة ،التي عملت وحدها منتجً ا بديلاً ،
في سوق النفط العالمية ،وتع ّرضت لضائقة اقتصادية؛ إذ استم ّرت األسعار تهوي مع دوامة االنهيار ،فغيّرت المملكة مسارها في أواخر عام 1985م .ومع أن المملكة سعت خالل األشهر الالحقة إلى استعادة حصتها التي فقدتها في السوق،
الحسبان: اً ً عامة هو الحاجة أول -دافع سياسة الطاقة السعودية
فإنه الحت في األفق بوادر انهيار لألسعار من ج ّراء ذلك ،حتى
لمواطنيها على المدى البعيد .وفي الوضع الحالي ،فإن تأمين
دوالرات أميركية وعشرة للبرميل بحلول عام 1986م ،وهو
األساسية إلى تأمين الطاقة ،وضمان المصالح االقتصادية النسبة التي ترغب فيها المملكة من حصتها في السوق تفوق
على الرغم من احتدام المنافسة بين المورّدين لزيادة اإلنتاج، وصلت األسعار إلى أدنى مستوياتها ،فراوحت بين تسعة
انخفاض وصل إلى ٪29من سعر الذروة في عام 1980م.
13
ملف العدد
العرب في مواجهة الشتات
رقما» «أنا لست ً
فجأة لم يعد هناك وطن .تحول محض كلمة في بطاقة الهوية ،مفردة في دفاتر الهجرة والجوازات.
الوطن الذي كان في األمس ،أصبح جحيمً ا مفتوحة ،تلتهم الجميع .في غياب الوطن ال وجود ألي شيء ً خوفا من التعرض لالضطهاد بسبب سوى التيه والشتات .ماليين البشر اضطروا للخروج من أوطانهم؛
انتماءاتهم العرقية أو الدينية أو القومية أو االجتماعية ،أو بسبب توجهاتهم السياسية ،وبعد أن كان
14
لكل منهم حياته الشخصية ،ومكانته االجتماعية ،ومنصبه الرفيع ،أو مهنته التي توفر له حياة كريمة، ً جميعا يحملون الصفة نفسها« :الجئ» ،تلك التسمية التي تحمل في طياتها االنكسار ،والحاجة أصبحوا
ً جميعا أرقامً ا في للمساعدة ،والرغبة في اقتسام الطعام والسكن مع مواطني البلد المضيف .أصبحوا
جداول وتقارير دولية.
في الشتات يجد الالجئ من ينظر إليه بشفقة وعطف ،فتقتل هذه النظرة كبرياءه ،أو يرى نظرة
الكراهية ،والدعوة للعودة من حيث جاء ،فتضيق عليه األرض بما رحبت.
سوريون وعراقيون ،ليبيون ويمنيون ،وغيرهم من جنسيات أخرى ،قرروا أن يخرجوا من ديارهم .انتهى المطاف ببعضهم في دولة مجاورة ،ولكن آخرين قصدوا بال ًدا بعيدة ،ذات ثقافات وعادات ولغات غريبة؛ ألنهم سمعوا مثلاً أن ألمانيا تخصص 40إلى 50ألف يورو سنويًّا لرعاية الطفل الواحد ،الذي يهاجر من
دون أهله .لكن هل تعوض هذه األموال الطفل عن اقتالع جذور انتمائه لوطنه؟ هل تستحق أن يلقي شاب في السابعة عشرة من عمره بنفسه من القطار؛ خشية إعادته إلى بلده الذي هرب منه ،ليموت في جنة الغرب ،بدلاً من العيش في جحيم وطنه؟
الشعار الذي وضعته األونروا لمسابقة التصوير الفوتوغرافي «أنا لست رقمً ا» ،ويستهدف تسجيل
لحظات خاصة في حياة الالجئين الفلسطينيين ،يمكن استعماله في أحوال وحاالت كثيرة ،تنطبق اليوم
على أوضاع الالجئين العرب في شكل عام ،هؤالء الذين ليسوا أرقامً ا بالتأكيد ،إنما عواطف وحيوات
وتطلعات ،هؤالء ليسوا أرقامً ا إنما آباء وأمهات وإخوة وأخوات وشباب وشابات ،فيهم الطبيب والمثقف والفنان والنحات والمهندس والموظف الكادح.
في هذا الملف الذي تتبناه «الفيصل» ،مقاربة واسعة ومتنوعة ألحوال «العربي» في لحظة مفصلية من تاريخه؛ إذ األحالم بصباحات جديدة ترتد تنكيلاً ثم تهجيرًا .والهجرة هر ًبا من الموت ال تنتهي سوى إلى الموت .ولئن طغى حضور الالجئ السوري في هذا الملف ،فإن الجئين حضروا ً أيضا بقصصهم وتفاصيل يومياتهم التي تراوح بين الـ«هنا» والـ«هناك».
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
15
الالجئون العرب في ألمانيا
ضيوف أم أصحاب بيت؟ أسامة أمين صحفي مصري مقيم في ألمانيا
16
أجلس في القطار الذي يربط مدينة بون بمدينة ساربروكن ،وأقرأ في كتاب باللغة األلمانية،
يصعد ثالثة شبان وشابتان ،كلهم عرب ،يرتدون بنطلونات جينز ،وجواكت سوداء ،وكأنه زي مدرسي موحد للجنسين ،باستثناء الفتاتين كانتا محجبتين ،يجلسون في المقاعد المقابلة
والمجاورة لي ،كل واحد يحمل هاتفه الحديث ،يتحدث فيه أو يكتب رسائل ،عيونهم حمراء بلون الدم ،ويبدو عليهم اإلرهاق البالغ .بعد دقائق قليلة ،يغلبهم النعاس ،ويبقى واحد منهم ً مستيقظا للحفاظ على أمتعتهم القليلة المتواضعة. فقط
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
يرن الهاتف ،ويرد أحدهم وصوته مختنق من الغضب والتعب ،قائلاً « :نعم ركبنا القطار الخطأ ،وضاعت ساعات
بتدليل األهل لهم ،واالنتظام في دراستهم ،والعيش في دارهم؟
عشرة ،من قطار آلخر ،نحن اآلن في القطار الصحيح ،لكني ال
صلفة؟ هل هؤالء من يخاف األلمان أن يغيروا نمط معيشتهم،
حتى انتبهنا إلى ذلك ،من الساعة الثانية صباحً ا ،حتى الحادية أعرف المحطة ،وأخاف أن نضيع مرة أخرى ،»...قاطعته وقلت
إلي له :إنني سأدله على المحطة .أنهى المكالمة فورًا ،ونظر ّ مذهولاً ،وفتح البقية عيونهم ،وتساءلوا في نفس واحد« :أنت عربي؟ لقد تكلمنا طوال الوقت من دون انتباه؛ ألننا حسبناك
ألمانيًّا ،بسبب الكتاب الذي تقرؤه ،وعدم ظهور أي انفعاالت
على وجهك من حديثنا» .أكدت لهم أني لم أنصت إليهم؛ ألني كنت مشغولاً بالقراءة .وسألتهم عما بهم ،فقالوا :إنهم وصلوا
الظروف؟ هل حرمتهم الحرب طفولتهم وشبابهم ،واالستمتاع هل يعرفون ما ينتظرهم في معسكرات الالجئين من حياة وأن يجعلوا من بالدهم (جمهورية ألمانيا اإلسالمية)؟ ليسوا مجرد أرقام
يلقون أطفالهم في البحر ،مثل أم موسى عليه السالم،
ويدعون الله أن تلتقطهم قوات حرس السواحل ،وتنقلهم إلى
الليلة الماضية ،بعد رحلة استغرقت أسابيع ،من سوريا إلى
ألمانيا ،وإن بعض مرافقيهم لم يكمل الرحلة من فرط العناء، واضطروا هم لمواصلة الرحلة بدونهم.
للمرة األولى ألتقي الجئين سوريين فور وصولهم ،وقبل أن
يذوبوا في المجتمع العربي الذي يوجد في ألمانيا منذ سنين طويلة ،أدركت للمرة األولى أن الالجئين ليسوا أعدادًا ،بل
بش ًرا ،يحمل كل واحد منهم أحالمه ،وآماله في حياة أفضل، وأن التفكير فيهم باعتبارهم مثل (الطوفان) ،هو أمر يفتقد إلى الحس اإلنساني .كانت معي زجاجة ماء زمزم ،أخرجتها من
حقيبتي ،وقدمتها لهم ،وطلبت منهم أن يشربوا منها ،ويدعوا الله أن ييسر لهم أمورهم ،فرأيت فرحة غامرة ،وكأن ذلك آخر
17
ما كان يخطر على بالهم ،أن يحصلوا على ماء زمزم في قطار
ألماني ،لكنهم بالرغم من ذلك كانوا حذرين للغاية ،إذا تحدثوا بينهم خفضوا أصواتهم؛ حتى ال أسمع .يبدو أن الرحلة القاسية
التي قطعوها علمتهم أال يثقوا فيمن ال يعرفونه.
هل كان أهل هؤالء الشباب والفتيات سيقبلون أن يتركوهم
يسافرون بمفردهم كل هذه اآلالف من الكيلو مترات في غير هذه
ملف العدد
الشاطئ األوربي ،ويقولون :الموت ً غرقا أفضل من الموت أشالء
لم يأت كل السوريين في قوارب متهالكة في عرض البحر
حتى إذا ما وصل األطفال إلى هناك ،وجدوا الرعاية واالهتمام،
دلوهم على المناطق الحدودية التي يتسللون من خاللها من
جراء القنابل المتفجرة ،التي تلقيها الطائرات المتوحشة،
وطلبوا (لمّ الشمل) ،وجلبوا آباءهم وأمهاتهم وبقية إخوتهم.
األبيض المتوسط ،ولم يعتمدوا جميعً ا على المهربين الذين دولة ألخرى ،بل حصل بعضهم على تأشيرة دخول ،وجاء
ثم قررت أسر بأكملها أن تحمل أرواحها على أكفها ،وتقطع
بالطائرة ،ولم يجد أي صعوبة في الدخول مثل أي سائح أو
القطار بالترحاب ،ثم زاد عددهم فغاب المرحبون ،ثم زاد
ال يرغب فيهم أحد ،وبين القلة التي تفتح لها األبواب؟
الطريق بأي وسيلة ممكنة؛ لتجد من يستقبلها على محطات
ضيف .فما الفرق بين مئات اآلالف من السوريين المعذبين الذين
عددهم أكثر ،فوجدوا من يسد الطريق ،ويطلب منهم العودة من حيث جاؤوا ،وكأن هناك بي ًتا يمكن أن يعودوا إليه.
المسافات بين الصفوف؛ ألن عدد رواد المسجد قد تضاعف
وبدلاً من أن يتحدث الناس عن الطقس ،أو السؤال عن الصحة،
سوريا ،ثم استأنف خطبته مطالبًا بأن نقدم لهم يد العون ،وأال
لم يعد هناك ما يشغل بال األلمان مثل قضية الالجئين،
أصبحوا يتحدثون عن هذا الفيضان البشري الذي غطى ربوع بالدهم ،وبعد أن كانت مستشارة ألمانيا ،أنغيال ميركل ،أكثر
السياسيين شعبية في بالدها ،فقد مُ ِني حزبها بخسائر فادحة
في االنتخابات المحلية في ثالث واليات ،بعد استياء كثير من الناخبين من تمسكها باستقبال الالجئين السوريين ،ورفضها إغالق الحدود في وجههم ،أو وضع حد أقصى ألعداد الالجئين
التي ستستقبلها ألمانيا ،وفي المقابل حققت األحزاب الرافضة
18
الطبيب السوري يعالج األلمان
الستقبال الالجئين مكاسب ضخمة .فهل يعيد المهاجرون العرب رسم خريطة ألمانيا السياسية ،واالجتماعية والدينية؟
يقطع خطيب الجمعة حديثه ،ليطالبنا بأن نتزاحم ،ونضيق
خالل األسابيع الماضية ،بعد قدوم اإلخوة واألخوات من نتركهم يواجهون نفس الصعوبات التي مررنا بها عند وصولنا
إلى ألمانيا ،وحذرنا من األنانية ،وبخاصة أن بعضنا يقول :إن هؤالء الالجئين السوريين كثير منهم يملك المال في بالده،
وعاش دومًا حياة رغدة ،عكس غيرهم من الذين جاؤوا من قبلهم من دول العالم األخرى.
وما كادت الصالة تنتهي حتى جاء صديقي طبيب األسنان ً شخصا آخر لم أره من قبل ،قائلاً : السوري الشهير ،وقدم لي إنه طبيب أنف وأذن وحنجرة ،جاء األسبوع الماضي من سوريا،
وسيعمل في مستشفى بون ،ويحتاج إلى ممارسة اللغة
مليون شخص دخلوا ألمانيا في العام الماضي ،احتل
األلمانية ،حتى يتمكن من التفاهم مع المرضى ،وهذا هو الشرط
377ألف سوري في المدة من يناير إلى سبتمبر من العام
السوريين ،المعروف عنهم االجتهاد ،والمستوى العلمي الذي
السوريون المرتبة األولى بينهم ،وقد سجلت السلطات األلمانية الماضي ،ويمثل الالجئون السوريون في ألمانيا %5فقط من
إجمالي السوريين الالجئين في مختلف دول العالم .فهل يشكل هؤالء فعلاً ً فيضانا يجتاح هذه البالد؟
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
األساسي لكي يمارس عمله .اتضح أن ألمانيا ترحب باألطباء ال يقل عن نظرائهم األلمان؛ لذلك يحصلون بسهولة على تأشيرة دخول إلى األراضي األلمانية ،وتصريح عمل ،وغالبًا
يجدون وظائف في انتظارهم؛ ألن المستشفيات األلمانية دومً ا
في حاجة إلى أطباء .ومرة أخرى هي الحرب التي جعلت طبيبًا
سوريًّا يحتاج إليه آالف المرضى والجرحى في بالده ،يضطر
إلى السفر إلى الخارج؛ ليضمن أن يبقى على قيد الحياة ،وأن
بعد أن يتخلص من المعاناة التي لم تعد تطاق.
الجئ
سور ي
جنس
ألتقيه في شهر رمضان ،وأستمع له ،وهو يتحدث عن
2
ي ات أ خر ى
6
يكتسب المزيد من الخبرة ،لعله يعود يومً ا ويعالج بني وطنه،
0
3 77 ٫ 0 0
0 3٫00
اإلفطار في بالده ،مع أفراد أسرته المشتتين حاليًا في داخل
سوريا وخارجها ،وكيف كانت الحياة رغدة في بيت والده الطبيب
الشهير ،والمزرعة الكبيرة المطلة على البحر ،ثم االنتقال إلى العاصمة دمشق ،بعد أن وقعت مدينتهم الساحلية في يد هذا
التنظيم أو ذاك ،ثم قصف الجيش السوري .كل ذلك دفعه
للهجرة ،والعيش اآلن في غرفة متواضعة ،لم يكن يتخيل يومً ا أنه سيعرف هذا الصنف من الحياة.
الالجئون الذين دخلوا ألمانيا عام 2015م لكنه فعلاً مضطر ،وال يفكر فيما يغضب الله ،ويضيف قائلاً :
«هذا ثمن العيش في هذه البالد!» تمر أسابيع قليلة ثم يأتيه
حصل على االعتراف بدراسته ،وتصريح مزاولة المهنة
عرض جيد بوظيفة كاملة ،وبراتب يسمح له أن يستأجر شقة
للعمل في عيادة في مدينة ميونيخ ،صحيح أن الراتب ليس
ألنه قرر أن يكمل نصف دينه ،وكانت النهاية التي تبدو سعيدة،
كطبيب كامل التأهيل مثل أي طبيب ألماني ،وانتقل من بون
بدون فتاة فرنسية فيها ،بل له وحده ،ولزوجته السورية مثله؛
راض .اضطر للسكن في شقة مع جيدً ا ،والمدينة غالية ،لكنه ٍ
لكنه يصر على أنه ال يعرف طعم السعادة ،خارج بالده.
شاب ألماني ،وفتاة فرنسية؛ مما أغضب أهله ،لكنه ال يجد بديلاً بإيجار معقول ،يعد والديه أن يراعي الله في كل شيء،
19
رفيق شامي يرفض العودة كي ال يصافح أشخاصا أيديهم ملطخة بالدماء ً
رفيق شامي
األديب رفيق شامي هو بالتأكيد أشهر سوري في ألمانيا ،جاء إلى هذه البالد قبل أكثر من أربعين عامً ا ،وأصبح اآلن أحد أهم األدباء األلمان ،ومن أكثرهم شعبية وشهرةّ ،ألف 62كتابًا ،عدد صفحات أحدها يبلغ 900صفحة ،وهو رواية «الجانب
المظلم من الحب» ،ولعله األديب الوحيد القادر على أن يحكي قصصه من دون أن يقرأ من كتاب أو ورقة ،فيبهر مستمعيه،
وهو يستخدم لغة ألمانية ذات صور شرقية ،جعلت األلمان يعرفون حواري دمشق ،بل قرية معلولة التي جاء منها هذا المهاجر السوري .يقول :إن كل مهاجر يتملكه الحنين للعودة إلى مكان طفولته ،لكنه وهم يجعل المهاجر يرسم صورة وردية لهذا
المكان ،حتى إذا عاد يومً ا وجده غير الصورة التي رسمها له في مخيلته ،وإذا تحدث مع الناس ،اكتشف أنه لم يعد قادرًا على التفاهم معهم؛ ألنهم سيتكلمون معه عن أمور سطحية ،لكن ً أحدا لن يطرح عليه السؤال الجوهري ،وهو :ما الذي جعله
يرحل؟ يقول :إن المهاجر يحتاج إلى الصبر والضحك ،فالضحك هو الزاد الذي يجعل المهاجر قادرًا على التحمل والمقاومة، والعيش طويلاً في المنفى ،والضحك هو مصدر القوة ،وهو الذي يجعل العقل منفتحً ا على القضايا الصعبة. ذكر رفيق شامي أن السفير السوري في ألمانيا عرض عليه عام 2009م ،أن يعود إلى بالده ،وأن يحصل على مركز ثقافي يحمل
ً أشخاصا أيديهم ملطخة بالدماء .وانتقد المثقفين المزعومين اسمه ،ولكنه رفض هذه الفكرة؛ ألن ذلك سيعني أن يصافح
الذين يقبلون نفاق الزعماء الذين قتلوا شعوبهم ،وروى ما شاهده في التلفزيون السوري من وقائع مؤتمر للشعراء ،وقف أحدهم يمدح األسد قائلاً :إن سوريا صغيرة عليه ،وإنه يستحق أن يكون ً قائدا للعالم أجمع ،وليس لسوريا وحدها. يرسم رفيق شامي البسمة على وجوه األلمان ،ويضع مرآة أمام عيونهم؛ ليسخروا من أنفسهم ،ولذلك ال نستغرب أن
يصنع األمر نفسه مع بني جلدته ،وعلى الرغم من تناوله لقضايا سياسية في أعماله األدبية ،ومقابالته الصحفية ،فإنه يرفض أن يقوم بدور سياسي ،ويأبى أن تستغله وسائل اإلعالم؛ لكي ينشر الخوف من المسلمين باعتباره مسيحيًّا.
ملف العدد
مقيمون ال الجئون
سوريون ويمنيون يفضلون القاهرة على أوربا «ال يوجد في مصر الجئون سوريون» هكذا قالت الشاعرة السورية رشا عمران وهي تحدثنا عن أوضاع السوريين في مصر ،موضحة أن
20 القاهرة
مصر البلد الوحيد الذي لم ينشئ معسكرات للسوريين على أرضه، جميعا نعيش ً ً معا ،وال أشعر أنني ولم يعزلهم عن أبنائه« ،نحن
غريبة عن وطني ،حتى إنني فضلت البقاء في مصر على الذهاب إلى أوربا ،فمن الصعوبة االندماج مع أبناء وطن ليس لهم نفس اللغة
والتاريخ والقيم ،وكل ذلك متحقق بالنسبة لي في مصر ،وال أعاني ً جميعا في حياتهم اليومية». أي مشكالت سوى ما يعانيه المصريون
ال يختلف وضع اليمنيين العالقين في مصر عن
ذلك؛ إذ إنهم ال يعانون سوى غالء المعيشة وكثرة اإلجراءات الحكومية ،فضلاً عن ازدحام القاهرة وضجيجها ،بحسب ما أوضح ناصر األرياني .األرياني
وهو أحد الدارسين في جامعة القاهرة ،يرى أن المركز الرئيسي لليمنيين هو حي الدقي بالقاهرة ،ففيه العديد من فنادق الدرجة الثالثة التي ينزلون بها في البداية،
وسرعان ما يحصلون على شقة أو ما شابه عبر مساعدة أصدقائهم وذويهم الذين سبقوهم في المجيء ،لكن
اليمنيين ال يعملون في مهن كثيرة ،وأغلبهم جاء
للتجارة أو التعليم أو العمل مع أحد أقاربه في القاهرة. العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
رشا عمران
21
تعيش القاهرة ما يبدو أنه عصرها اإلمبراطوري، حيث الحضور القوي لغير المصريين ،وحيث يعيش الجميع كمواطنين من دون حضور لثقل كلمة الجئ ،أو فكرة معسكر يحول بينهم وبين اندماجهم
ملف العدد
ومن ثم فجميعهم مرتبط بالدقي بشكل رئيسي. ً ضجيجا سوريون يفضلون المدن األقل
باحثين عن عمل في المدن األقل سرعة وضجيجً ا.
كان زياد قد جاء إلى القاهرة ليقيم مع بعض من
أهله وجيرانه الذين سبقوه إليها ،في البدء كانت القاهرة
على النقيض من ذلك يذهب زياد الصالحي ،وهو
محطتهم األولى ،لكن غالء السكن وقلة العمل المتوافر
المصرية اآلن ،فهم يبتعدون عن زحام القاهرة وغالئها
لتاكسي .ويقول زياد :إنه يقيم في مصر منذ عامين وال يعرف حتى اآلن عن مفوضية حقوق الالجئين شي ًئا ،وال
شاب سوري في الخامسة والثالثين من عمره ،ويعمل ً سائقا لتاكسي ،إلى أن السوريين ينتشرون في أغلب المدن
350ألف سوري يعيشون في مصر مسجلين لدى المفوضية السامية غير َّ لشؤون الالجئين ،وعدد المستفيدين من المعونة المالية الشهرية واحد
بها دفعهم للذهاب إلى طنطا ،وهي مدينة إقليمية تتوسط ً سائقا المسافة بين القاهرة واإلسكندرية ،هناك عمل زياد
يرى أحدً ا ممن ذهبوا إليها ،موضحً ا أنها ال تفيد إال في الحصول على إقامة.
وأكد زياد أن المصريين يرون أن السوريين في بعض
األحيان يزاحمونهم في فرص العمل ،لكنهم ال يقدرون الظروف السيئة التي يعيشونها.
وفي الوقت الذي تكاد تنعدم فيه األرقام عن اليمنيين
وثالثون ألفً ا فقط
المقيمين في مصر؛ بسبب توتر األوضاع في اليمن،
ورغم صدور بيان من السفارة اليمنية في القاهرة عقب
22
يوم واحد صالح للحياة
بدء العمليات العسكرية في شهر مايو الماضي يوضح أن عدد اليمنيين الذين لم يستطيعوا العودة إلى بالدهم
يقدر بنحو خمسة آالف مواطن ،لكن هذا الرقم ال يمكن التأكد منه بشكل واضح ،ولم تعمل الجمعيات األهلية
علي المقري
يقول الشاعر والكاتب اليمني علي المقري ،الذي
تمكن من الوصول إلى القاهرة قبل سفره إلى فرنسا ليتسلم جائزة هناك :إنه خرج بمعاناة شديدة من
صنعاء إلى عدن ،ومنها إلى جيبوتي عبر البحر ،ليمر
من أمام سفن القراصنة ويقيم بين جماعات متشددة في جيبوتي لمدة شهرين ،شاع ًرا بأن الخطر مُ حدق به
كل لحظة ،وهو ال يستطيع االتصال بأهله في اليمن وال العودة إليهم ،وال حتى الخروج من جيبوتي؛ ألنه ليس ً معروفا متى ستتوافر الطائرة التي ستقله إلى القاهرة. علي الذي حصل أخي ًرا على إقامة تؤهله للجوء كامل إلى باريس ،يحصل على دوالرات عدة في الشهر من
مفوضية الالجئين هناك ،ويتمنى العودة إلى القاهرة؛
ليقيم بين أصدقائه بها ،لكنه يتمنى أكثر أن توقف آلة
الحرب عملها في بلده؛ كي يتمكن من رؤية يوم واحد صالح للحياة.
وال المؤسسات الرسمية على التحقق منه ،إال أن ذلك ال
يدعونا إلى المبالغة؛ إذ إن المعاناة التي يالقيها أي من
اليمنيين حال تفكيره في المجيء من اليمن إلى مصر ال تجعل القاهرة وجهته األولى.
من ناحية أخرى ،تتوافر الكثير من األرقام عن
السوريين ،ففي الوقت الذي قالت فيه رئيس مجلس إدارة مؤسسة «فرد» األهلية رشا أبو المعاطي :إن ستين
ألف طالب سوري مسجّ لون في المفوضية ،من بينهم ألفا يذهبون إلى المدارس ،وعشرون ً أربعون ً ألفا يجلسون
في المنازل بال تعليم ،فإن رئيسة إدارة المرأة واألسرة والطفولة بجامعة الدول العربية السفيرة إيناس مكاوي
أكدت أن ما يقارب 350ألف سوري يعيشون بمصر غير َّ مسجلين لدى المفوضية السامية لشؤون الالجئين ،وأن عدد من يستفيد من المعونة المالية الشهرية الخاصة بالمفوضية هم واحد وثالثون ً ألفا فقط ،يتقاضى كل منهم
ً مبلغا ماليًّا قيمته تراوح بين أربع مئة جنيه ،وألف وخمس
مئة جنيه مصري ،وذلك حسب عدد أفراد العائلة التي
يعولها.
يحرص اليمنيون ذوو الوجود األقدم في القاهرة على
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
التجمع بمطاعم خاصة بهم ،وما أكثر المطاعم
التي تحمل اسم حضرموت ،مثلما تنتشر سلسلة مطاعم ياقوت الحموي السورية في القاهرة
31.000 350.000 يعيشون في مصر وغير مسجلين لدى مفوضية الالجئين
المستفيدون من المعونة المالية الشهرية ( 400إلى)1500 جنيه للفرد
والمدن اإلقليمية ،لكننا في بعض المطاعم
ً وأنوعا من اليمنية سنجد األواني القديمة األطعمة الجبلية الحريفة ،سنجد مناخاً يشعرنا أننا انتقلنا إلى اليمن بهضابها
60.000
وجبالها ،أو أن الهضاب والجبال بمأكوالتها قد
هبطت إلينا. ً لكننا مع السوريين الوافدين حديثا على
طالب سوري مسجل في المفوضية
الجئون سوريون في مصر
20.000
يجلسون في المنازل بال تعليم
يذهبون إلى المدارس
القاهرة ،سنلحظ أنهم جميعً ا في حالة انتظار للعودة،
40.000
فعلى الرغم من توزعهم على العديد من الحرف واألعمال
إال أنهم لم يشعروا بعد باالندماج الكامل في المجتمع على نحو ما حدث لليمنيين ،وما زالت الغربة بادية على
وجوههم ،رغم أن القاهرة تبدو كما لو أنها تعيش عصرها
بخالف اليمنيين لم يشعر السوريون بعد باالندماج الكامل في المجتمع ُ المصري
اإلمبراطوري ،حيث الحضور القوي لغير المصريين، وحيث يعيش الجميع كمواطنين من دون حضور لثقل
كلمة الجئ ،أو فكرة معسكر يحول بينهم وبين اندماجهم في المكان.
23
ملف العدد
التغريبة الجديدة.. المثقف السوري الجئا
24
نبيل سليمان ناقد وروائي سوري
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
ربما لم تكن (الدياسبورا السورية) بأوجع الكلمات التي رمتنا بها سنوات الزلزال الخمس الماضية. والدياسبورا ،كما هو معلوم ،كلمة يونانية تعني الشتات ،وقد ارتبطت تاريخ ًّيا باليهود ،فكانت الدياسبورا اليهودية ،أي يهود الشتات ،بعد الزلزال البابلي عام 586ق.م .وإذا كانت الحرب العالمية الثانية قد أنعمت ً مليونا بالتهجير واللجوء ،فلم تكد الحرب تهدأ حتى كانت الدياسبورا الفلسطينية عام على ستة وعشرين
1948م ،والتي تجددت عام 1967م ،كما أعلن ذلك العام عن والدة الدياسبورا السورية بمن لجؤوا من الجوالن
إلى أرجاء سوريا بعد االحتالل اإلسرائيلي. لاً ً خافتا ،فقد تفجر حديث الدياسبورا العراقية بفضل وإذا كان الحديث عن الدياسبورا األمازيغية -مث – يظل
الدكتاتورية وبفضل الحرب ،حتى نيَّف عدد الالجئين العراقيين في أرض المنافي والشتات على أربعة ماليين، لكن كل ذلك يبقى ً هينا أمام هذا الذي ال يصدق من الدياسبورا السورية ،وخالل زمن قياسي!
25
لوحة للفنان السوري مصطفى يعقوب
ملف العدد
لسبب لغوي على األقل ،أفضل أن أقول (التغريبة السورية)
بدلاً من الدياسبورا .تذكروا تغريبة بني هالل في التاريخ وفي األدب الشعبي .وتذكروا المسلسل التلفزيوني السوري
الموجع والبديع الذي أخرجه حاتم علي :التغريبة الفلسطينية. وألنها التغريبة السورية ،حسبي هنا أن أشير إلى ما للمثقف
فيها .وقد كان أول ذلك في اللجوء أو النزوح الداخلي ،حين أخذت ألتقي في الالذقية ،بأصدقاء مثقفين فارين من الرقة أو حلب .واتسعت الدائرة حين بدأ التواصل هاتف ًّيا مع آخرين
في طرطوس أو دمشق ،قادمين من تينك المدينتين أو من سواهما :األكاديمي والمترجم فؤاد مرعي والروائي محمد أبو
معتوق من حلب ،الروائي ممدوح عزام من قريته المتاخمة للسويداء إلى السويداء نفسها ،الفنان إسماعيل العجيلي والروائية نجاح إبراهيم والباحث منير الحافظ من الرقة...
ومنهم من كان اللقاء به في لجّ ة مئات اآلالف من الذين لجؤوا إلى الالذقية ،وبخاصة من حلب وإدلب ،وبأقل من الرقة وحمص وحماةً ، مدنا ومحافظات .وبالطبع ،فقد كان لكل لقاء مرارته التي تفجرها الذكريات ،كما يفجرها االختالف ،فمن موال ً أيضا، المثقفين الالجئين داخل سوريا وخارجها من هو ٍ
وإن يكن فقد بيته أو ذويه أو عمله أو!...
26
ذكريات ومرارات
غير أن كل ذلك يظل هي ًنا جدًّ ا إزاء ما يجري هناك ،بعيدً ا
قريب .ومن األصدقاء األكراد ،هو ذا الباحث إبراهيم محمود
في بيروت ،أن هذه الطفلة أو هذه الشابة اللتين (تشحذان)
سنوات اللجوء بمؤلفاته الجديدة :الجسد البغيض للمرأة،
أو أبعد .هكذا ،ما كان لي أن أصدق ،وأنا أسير في شارع الحمرا من العابرين ،سوريتان مهاجرتان .ثم ما كان لي أن أصدق
األمسية التي جمعتني بأصدقاء ف ّروا من عنت النظام :الباحث
حسان عباس ،والشاعر والطبيب محمد فؤاد ،واإلعالمية ديما ونوس ...ومن بعد ستشتبك اللقاءات والذكريات والمرارات
واالختالف ،من فضاء إلى آخر .فبنعمة الهاتف والواتساب والفيبر والبريد اإللكتروني ،عانقت األصدقاء الذين عمّ دت ّ تخفى في صداقتي معهم مياه الفرات في الرقة ،ومنهم من
دمشق بعدما صار مطلوبًا من األمن ،ثم ف ّر من دوما حيث اختطفت زوجته ،ولم يظهر لها ولمن اختطف معها أثر حتى اليوم ،وكان فرار هذا الذي ّ لقب منذ الشهور األولى بحكيم الثورة ،إلى مدينته الرقة التي كانت الرايات السود فيها قد
اعتقلت شقيقه.
ومن الرقة ف ّر الحكيم إلى تركيا ،حيث سبقه أو لحق
الذي ف ّر وأسرته من القامشلي إلى دهوك ،ومنها زودني في بروق :سيرة فكرية ،أبراج بابل ،والروائي حليم يوسف الذي سبق إلى ألمانيا ،والصحفي والروائي إبراهيم اليوسف الذي
زودني من ملجئه األلماني بسيرته «ممحاة المسافة».
ومن المثقفين الفلسطينيين الذين عاشوا في سوريا –
ومنهم من ولد فيها– حتى دفعتهم سنوات الحرب السورية إلى تغريبتها ،كأن لم تكفهم التغريبة الفلسطينية ،فالروائية نعمة خالد تطوحت من تركيا إلى ألمانيا ،والقاصة سلوى
الرفاعي تطوحت من تركيا إلى النرويج ،أما المفكر الفلسطيني دبي بلقائه مرارًا ،كما أنعمت علي ّ أحمد برقاوي فقد أنعمت ّ
علي بلقاء االقتصادي عارف دليلة ،والفنانة واحة الراهب، ّ والمخرجين مأمون البني ووليد القوتلي .وممن لم أكن علي اإلمارات ً أيضا بلقاء الكاتبين أعرفهم من قبل أنعمت ّ إسالم أبو شكير وعبدالله مكسور.
أما القاهرة فمن نعمها الكثيرة لقاء الشاعرة رشا عمران
به الفارّون من جحيم داعش وأخواتها :ماجد رشيد العويد وإبراهيم العلوَش من ك ّتاب الرواية والقصة ،وأيمن ناصر
والباحث الفلسطيني سالمة كيلة .وقد تضاعفت هذه النعمة
ومنحوتاته في شوارع الرقة ،كما اعتقلت ابنه حتى أمس
صبحي حديدي الذي أربت سنوات منفاه على الثالثين ،ومثله
الفنان التشكيلي والروائي الذي حطمت داعش مرسمه
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
أثناء مؤتمر الرواية في القاهرة (آذار – مارس 2015م) بلقاء
سمر يزبك
خليل النعيمي وسلوى النعيمي وبطرس حالق القادمون من
باريس ،وزادتهم سنوات الزلزال نفيًا على نفي .وألن القائمة تطول ،حسبي أن أجدد شكري لوسائل االتصال التي تجعلني أسمع صوت صديق أو صديقة من المثقفين أو المثقفات
الذين توزعتهم المالجئ :هيثم حقي ،وهالة محمد ،وراتب شعبو ،وسمر يزبك في فرنسا ،وروزا ياسين حسن في ألمانيا،
وخطيب بدلة في تركيا ،وغازي أبو عقل في الكويت ،ووفيق خنسة في لوس أنجلس ،ومحمد جمال باروت في الدوحة،
ومنذر بدر حلوم في موسكو ،ومحمد حبيب في النرويج... براءات الذمة الوطنية
وهكذا ،هكذا ضرب المثقف (ة) السوري (ة) في اآلفاق،
الشاعر والروائي والباحث والممثل والمخرج والصحفي،
ودائمً ا ينبغي أن نضيف الـ (ة) .ومن أوالء من ولد عمله األول
في بلد اللجوء ،ومنهم من كان نجمً ا قبل اللجوء ،لكن سنوات اللجوء ّ عطلت إنتاجه .ومن أوالء ً أيضا من لم يدفعه دافع من نظام أو من معارضات مسلحة إلى اللجوء ،لكنه
آثر الخروج ،ومنهم من كان حتى بعدما زلزلت سوريا زلزالها
ذا شأن في اإلدارة الثقافية أو السياسية للنظام ،وإذا به في ً معارضا ،يوزع من الشاشات براءات الذمة غمضة عين نجمً ا
روزا حسن
واحة الراهب
هيثم حقي
27
ما كان لي أن أصدق ،وأنا أسير في شارع الحمرا في بيروت ،أن هذه الطفلة أو هذه الشابة اللتين (تشحذان) من العابرين ،سوريتان مهاجرتان الوطنية ،وبخاصة على من لم يغادروا البلد ،ومنهم من ناله ما ناله من شر النظام أو من شر الرايات السود ،أو منهما معً ا.
ال أحسب أنني بحاجة إلى أن أشدد على أن معاناة أي
مثقف الجئ ال تقاس بمعاناة طفلة (تشحذ) في شارع الحمرا في بيروت ،أو الجئ في مخيم الزعتري ،أو الجئة في عينتاب...
ومع ذلك ،فمن مثقفي ومثقفات اللجوء من يتعالى على أوالء ويم ّنن الجميع ،في المالجئ ومن هم تحت القصف أو أسرى الرايات السود ،بتفضله على الجميع باللجوء .وكما يقال ًّ حقا :الغربة ّ كشافة ،وتهتك األقنعة ،وقد كشف مواطن
اللجوء زيف عدد غير قليل من المثقفين والمثقفات .ويبقى الرهان على مثقف (ة) لم يرتهن لبريق مالي أو سياسي ،بل يصرف زمن اللجوء في اإلبداع والنشاط اللذين يقربان اليوم
الموعود بالعودة إلى الوطن الحر واآلمن.
ملف العدد
الجئون
يحومون حول بيوتهم البعيدة جعفر العقيلي صحفي -عمان
يأخذ تعريف اللجوء واالبتعاد من الوطن المعنى نفسه تقريبًا ،سواء عند شاعرة ومثقفة مثل
28
الشاعرة السورية المقيمة في باريس مرام المصري التي تقول« :نحن المغتربين ،نحوم حول
بيوتنا البعيدة ،كما تحوم العاشقات حول السجن؛ ليلمحن ظالل أحبتهن» .أو عند امرأة شبه بسيطة مثل أم معتصم ،الالجئة في مخيم الزعتري ،فمهما كان شكل اللجوء وطبيعته ،فهو
عندها ليس سوى «موت بطيء» .أم معتصم لم تستطع أن تحبس دموعها وهي تروي حكاية لجوئها إلى األردن هر ًبا من الحرب الدائرة في بلدها ،فبعد مقتل زوجها في إحدى المظاهرات ً ولديها ،كان عليها أن تنجو بمن ّ واعتقال َ عابرة بهم الحدود تبقى من عائلتها( :ولدان وبنت)، مشيًا على األقدام.
لم تكن هذه المرأة األربعينية لتأبه ّ بكل ما سيواجهها ُ وشغلها الشاغل أن تنجو خالل رحلة األلم ،فهمُّ ها
مخيم الزعتري الذي يضم أكثر من 45ألف أسرة
غدا اليوم كأنه مدينة داخل المدينة ،وبخاصة مع إطالق
بـ«صيصانها» على حد تعبيرها وهي تروي قصتها .وهو ما ّ تحقق لها في النهاية رغم النيران المجهولة المصدر التي
ً وخصوصا األطفال منهم ،ومن من مصاب الالجئين
أربعة أشهر قضتها «أم معتصم» في مخيم الزعتري
الثقافة والفنون وأشكال اإلبداع األخرى وسيلة للتخفيف
ُ متاعها خيمة ال تقي بر َد الشتاء وال ح ّر الصيف ،والقليل
ومساعدتهم على تخطي األزمات التي تعترض طريق
كانت تحيطها من كل جانب خالل الساعات الثالث التي استغرقتها المغامرة غير المحسوبة النتائج.
المتاخم للحدود السورية األردنية ،وكان تحت التأسيس، من الطعام.
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
آالف المشاريع والحمالت اإلنسانية بهدف التخفيف
ذلك افتتاح مكتبة «القلب الكبير» التي تضمنت زهاء ثالثة آالف كتاب .كما أُطلقت مبادرات متنوعة تتخذ من عن هؤالء األطفال ،وتمكينهم من التعبير عن أنفسهم، طفولتهم.
مخيم الزعتري الذي يضم أكثر من 45ألف أسرة غدا اليوم كأنه مدينة داخل المدينة ،وبخاصة مع إطالق آالف المشاريع والحمالت اإلنسانية بهدف وخصوصا التخفيف من مصاب الالجئين ً األطفال منهم
29
ملف العدد
الفنان والمخرج نوار بلبل الذي يدير مبادرة تحمل اسم
ً وخصوصا في مجال األطعمة والمأكوالت في التنقل والعمل،
أمام األطفال لممارسة هواياتهم في الرسم ،أو حضور عروض
حتى بات يُخيّل للما ّر من شارع المدينة المنورة في العاصمة
«خيمة شكسبير» ،قال :إن الهدف من «الخيمة» فتح المجال مسرحية مستوحاة من أعمال شكسبير .كما قامت مجموعة من الفنانين من الالجئين بإطالق مبادرة لرسم لوحات فنية على
جدران البيوت المتنقلة (الكرفانات)؛ إلكساب المكان لمسة جمالية فنية ،تبعث على األمل والفرح.
«الحمد لله ،وضعنا في المخيم يتحسن بمرور الوقت» يقول الستيني أبو خليل ،مثم ًنا الخدمات التي تقدم لالجئين من
إنشاء مشفى ،ومدارس للطلبة السوريين في المخيم ،ومؤكدً ا
األردنية عمّان أنه في أحد شوارع دمشق؛ لكثرة فروع المطاعم ّ ٌ فروع حملت أسماء ومحال الحلويات والعصائر السورية فيه، توقد الحنين.
يحاول الالجئون السوريون التعويض عن نمط الحياة
الذي اعتادوا عيشه في بلدهم ،بأن يحتفظوا ببعض العادات ّ متنفسا لهم من الضغوطات على اختالف وشكلت التي ألفوها، ً أنواعها ،ومع حلول الربيع بدأ الكثير منهم القيام بنزهات
أن تأسيس مخيم «مريجيب الفهود» على الحدود الشمالية الشرقية لألردن الذي يسع ستين ً ألفا ،خفف الضغط الذي كان
غوطة دمشق وفي األرياف عمومً ا كل يوم جمعة ،يقول الالجئ
هذين المخيمين؛ ليستقروا في المدن والضواحي والقرى،
والدمار في بلدنا ،وبالرغم من األوضاع االقتصادية الصعبة
يعانيه «الزعتري» .عدد كبير من الالجئين استطاعوا مغادرة
وبخاصة شمال األردن ووسطه ،وهو ما أتاح لهم حرية كبيرة
مرام المصري :نحن المغتربين، نحوم حول بيوتنا البعيدة ،كما تحوم
30
بمختلف أصنافها -وهو مجال اشتهرت «دمشق» به منذ القدم-
العاشقات حول السجن ليلمحن ظالل أحبتهن
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
أسبوعية تشابه طقس «السيَران» الذي كانوا يقومون به في عدنان الشامي« :مع كل هذا األلم الذي تعرضنا له نتيجة الحرب
التي نعيشها هنا ،إال أنني وعائلتي ال نفوّت فرصة للخروج إلى
الطبيعة للتنفيس عن ضغوطاتنا».
ً مليونا و350 وحملت موجة اللجوء السوري إلى األردن
ألف الجئ يعيش %15منهم فقط في المخيمات ،والباقي في المجتمعات المضيفة ،وشكلت حالة العيش المشترك بين المجتمعين الكثير من المفردات والمصطلحات من اللهجة
السورية المستخدمة في الحياة اليومية؛ فبات الكثير من
األردنيين يستخدمونها ،وهو أم ٌر َعزاه الباحث االجتماعي
موسى العموش إلى اندماج السوريين في سوق العمل األردني ،والقرب الجغرافي والديمغرافي بين البلدين.
ويضيف العموش« :على المقلب اآلخر ،تنتشر اللهجة األردنية بشكل كبير في أوساط السوريين ،وبخاصة
فراس الريموني :األردن خسرت «فرصة ذهبية» الستقطاب الفنانين والمثقفين السوريين
األطفال منهم ،الذين التحقوا بالمدارس األردنية ،إلى درجة يصعب معها في كثير من األحيان ،تمييز الطالب
السوري عن زميله األردني».
وبالعودة إلى السورية «أمّ معتصم» التي استطاعت
أن تؤمن كفاف يومها عبر إعداد المأكوالت البسيطة ،فإن هذه المرأة تعدّ أسرتها محظوظة مقارنة بغيرها من األسر
الالجئة التي ال تستطيع تأمين قوتها اليومي إال بمساعدة ّ تخلت عنهم المفوضيةَ ، أهل الخير بعدما وشحَّ عطاء أغلب الجمعيات الخيرية .وها هي تتضرع إلى الله رافعة يديها أن يكون الحل قريبًا؛ ليعود الالجئون إلى ديارهم
التي تركوها ،وأن يمنّ الله عليها برؤية منزلها وترميمه بعدما رأت ما ّ صور أرسلها دمار وتخريب في حل به من ٍ ٍ إليها جيرانها عبر وسائل التواصل االجتماعي.
31
مثقفون يواجهون صعوبات في العمل يواجه الالجئون المشتغلون في المجال الثقافي واإلعالمي على وجه التحديد ،صعوبات كبيرة في العمل؛ بسبب ّ فيفضل كثير منهم المغادرة دون عودة ،وهو أمر أ ّكده الفنان والكاتب امتناع الحكومة األردنية عن إصدار تصاريح عمل لهم، المسرحي السوري وائل قدور ،موضحً ا« :أتمنى ألاّ يُغادر المثقفون السوريون الذين بقوا في األردن ،بمن فيهم أنا ،وأتمنى أن تتم إعادة النظر في وضعهم بحيث يتم تسهيل حركتهم وتمكينهم من السفر والعودة؛ ألن ذلك مهم ّ جدً ا بالنسبة لهم حتى يتمكنوا من المشاركة ويُصبحوا جزءً ا من الصورة األكبر» .ويلفت قدور إلى أن مُ شاركة المثقفين السوريين في معظم
الفعاليات تواجه العديد من الصعوبات؛ بسبب القيود المفروضة على زيارة السوريين وسفرهم .وعلى الرغم من أن هناك تفهّمً ا لما يبديه األردن من تخوفات أمنية ،وبخاصة تسلل عناصر من تنظيم «داعش» اإلرهابي ،إال أن النظر إلى المسألة ً مختلفا عند الحديث عن المُ ثقفين والفنانين؛ فاحتياجات هذه الفئة تنحصر في حصولها على صفة قانونيةٍ، ينبغي أن يكون ً إضافة إلى حرية الحركة من األردن وإليه .ويدعو قدور وزارة الثقافة األردنية إلى «االستثمار وإدماجها في المشاريع الثقافية،
في الفنانين والمثقفين السوريين الموجودين ،والعمل معهم على مشاريع ثقافية ضمن إطار احترافي». وفي هذا السياق يؤ ّكد المخرج المسرحي األردني الدكتور فراس الريموني أن الدولة خسرت «فرصة ذهبية» الستقطاب الفنانين والمثقفين السوريين ،على عكس ما حدث مع موجة اللجوء العراقي األولى في التسعينيات؛ إذ استطاع المثقفون
العراقيون حينها العمل بأريحية كبيرة ،فأغنوا المشهد الثقافي ،وأسسوا عددًا من دور النشر وشركات اإلنتاج الفني ،وتم قبول بعضهم أعضاء في رابطة الكتاب األردنيين ،أما الموجة الثانية من اللجوء العراقي في عام 2003م ،فكانت على عكس
األولى؛ إذ كان أصحابها من ذوي رؤوس األموال الضخمة ،واشتغل معظمهم بالتجارة ،ال سيّما تجارة العقارات .وجاءت
موجة اللجوء العراقي الثالثة مختلفة عن سابقتيها؛ إذ غلب عليها البعد الديني ،فكانت تتشكل في معظمها من المسيحيين واإليزيديين الذين هربوا بعد سيطرة «داعش» على الموصل ونينوى في شمال العراق ،وكان األردن بالنسبة لهم بلد العبور؛ إذ
تمت إعادة توطين غالبيتهم في بلدان أوربا وأميركا ،بعد أن أقاموا في األردن ألشهر عدّ ة فقط ،بحسب ما أفاد به عمر عبوي،
مدير البرامج في جمعية «الكاريتاس».
ملف العدد
مواسم الهجرة القاتلة إلى الشمال تفاقمت مشكلة الهجرة غير المقننة (وال أقول غير الشرعية) من دول الجنوب إلى دول الشمال ،في السنوات األخيرة ،ووصلت أعداد المهاجرين إلى أرقام مهولة ،فقد بلغت هذه األعداد خالل أربعة
عقود بعد الحرب العالمية الثانية ،ما يزيد عن ثالثين مليون مهاجر،
وقفزت في العقد األخير فقط إلى رقم مضاعف أي أكثر من ستين ً مليونا ،أما أخطر ما رافق هذا التزايد في الهجرة فهو قوارب الموت؛ إذ لم يكن التسلل من بالد إلى بالد ،يتسبب في هذا الموت الجماعي
32
للمهاجرين ،كما يحدث مع قوارب الموت وإحصائياتها المفزعة.
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
مطاطية قابلة للعطب والغرق ،بعد أن تسلبهم مدخراتهم، وحوادث نصب كثيرة تحدث ،يجد فيها المهاجر المسكين
أحمد إبراهيم الفقيه روائي وكاتب ليبي
كان خطر الهجرة غير المقننة محدودًا جدًّ ا ،وال يصل
إلى موت المهاجر أثناء عبوره للحدود ،إال عدد قليل وحاالت فردية ،نادرة الحدوث ،مثل تلك التي جعل منها ً موضوعا لروايته الكاتب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني
الشهيرة التي احتفت بها السينما «رجال في الشمس»؛ إذ فقدت مجموعة من المتسللين عبر الصحراء في طريقها إلى الكويت حياتها؛ ألنها اختفت داخل خزان ماء فارغ موضوع
فوق سيارة لشحن الماء ،نتيجة لسوء تصرف قائد الرحلة، الذي لم ينتبه إلى دقات الرجال داخل الخزان ،ولم يستطع
تقدير الخطورة التي يمثلها القيظ في الصحراء على زبائنه
داخل صندوق حديد.
وسجلت أعمال أدبية غربية ،وبخاصة في األدب
األلماني مثل هذه الحاالت الفردية ،ورصد بعضها ما يتعرض له المهاجرون تسللاً عبر حائط برلين من ألمانيا الشرقية إلى الجزء الغربي من المدينة ،وكيف كان بعضهم يسقط
تحت رصاص الحراس ،ولعل أكبر أعداد من المهاجرين
في األزمنة الماضية كانت تلك التي تسللت بشكل سري إلى أميركا عبر حدودها من المكسيك ،وهي ً أيضا كانت موضع أعمال أدبية أميركية. قوارب الموت
نفسه يدور في حلقة مفرغة؛ مثل :حاالت حصلت في ليبيا، تنقله العصابة من شاطئ البحر في جزء من الشاطئ الليبي،
وتضعه في جزء آخر من نفس الشاطئ ،باعتباره وصل
إلى جزيرة إيطالية ،بينما هو ال يزال في ليبيا وقد عاد إلى المربع صفر بعد أن فقد كل ما يملك من أموال أعدها ثم ًنا للحصول على الهجرة.
وتشكل بالدي ليبيا في سنواتها الخمس األخيرة ،التي ً مكانا أعقبت ثورتها على نظام الطغيان العسكري االنقالبي، مثاليًّا لعصابات المتاجرة بالمهاجرين السريين ،وتهجيرهم
عن طريق البحر األبيض المتوسط ،فلليبيا حدود مفتوحة مع العمق اإلفريقي؛ إذ هي تتاخم مناطق دارفور السودانية، وتربطها حدود طويلة مع تشاد ومع النيجر ،وهذه البلدان
نفسها ترتبط بعالقات عشائرية مع بلدان أخرى تتاخمها؛
مثل :نيجيريا ومالي ،وهناك حركة حرة لهذه العشائر، تسهل لعناصرها الدخول إلى ليبيا ،وبخاصة بعد أن غابت
الدولة ،وصارت الحدود الليبية مع الجوار اإلفريقي قابلة لالنتهاك لضعف الرقابة ،وانهيار اإلدارة ،وضعف مؤسستي
األمن والجيش ،وانتشرت بجوار عصابات المتاجرة بالبشر،
عصابات التطرف اإلسالمي؛ مثل :داعش والقاعدة ،وهي
عصابات تستحل لنفسها ما حرم الله؛ من أجل تمويل ً أيضا في تهريب البشر ،وتهريب نفسها ،فدخلت هي
السالح ،وتهريب العملة ،وتهريب البضائع الممنوعة؛ مثل:
الحشيش وغيره من المخدرات ،وصارت ليبيا بسبب حالة
الفوضى التي تعيشها مصدرًا من مصادر التوتر في العالم،
غير ذلك فإنها ظاهرة حديثة جدًّ ا هذه التي جعلت
ونقطة انطالق للهجرة غير المقننة ،ومحطة للهاربين من ً ضغطا على العدالة من مجرمين وإرهابيين ،وهو أمر يضع
والمهولة التي حصلت في البحر األبيض المتوسط ،المتمثلة
بانهيار الدولة ،وحالة االحتراب القائمة بين الميليشيات،
الموت جزءً ا من المغامرة ،وجعلت الفواجع الكبيرة في قوارب الموت ،تستنفر الضمير العالمي ،وتفزع كل
كائن يملك قلبًا ينبض ،وتتصاعد األصوات من مختلف
أنحاء العالم ،بل ومن قلب الغرب المستهدف بالهجرة، تطالب بوجود صيغة أكثر رحمة وأكثر إنسانية للتعامل مع
الهجرة التي يسمونها خطأ هجرة غير شرعية ،ويقترحون لها اسمً ا آخر مثل طالبي اللجوء ،أو الهجرة غير المنظمة ،وأن
يسعى المجتمع الدولي النتزاعها من براثن العصابات التي تتاجر بالبشر ،وهي التي تحملهم بأكداس بشرية فوق قوارب
33
أهل الحراك السياسي؛ من أجل معالجة الفراغ الذي تسبب
وهناك ضغط عالمي وجهد تقوم به األمم المتحدة؛ من أجل وجود صيغة تؤمن ً نوعا من الحل الذي يؤدي إلى قيام الدولة بكامل مؤسساتها الدستورية واألمنية العسكرية والقضائية؛
لقطع الفرصة على هذه العصابات ،ومحاصرتها ،وإنهاء
وجودها فوق التراب الليبي. وليبيا تعطي مثالاً واضحً ا لكيف أن الهجرة غير المقننة، صارت جزءً ا من منظومة اإلجرام العالمي التي تدخل فيها
عصابات المخدرات ،وعصابات تهريب العملة ،وعصابات
ملف العدد
تهريب السالح ،ثم أخي ًرا عصابات اإلرهاب الديني وأهل
السالم في هذا الجزء من العالم الذي ابتاله الله بحروب
من الدين ،والدين منهم براء.
الموت يطوف في الشوارع ،فكانت الهجرة عملية هروب ً وأحيانا عملية هروب من الموت ،حتى لو كان من الفاقة،
التطرف والمغاالة من أهل الجرائم الذين يتلمسون غطاء
حروب أفرغت البلدان من مواطنيها
أفرغت بلدانه من مواطنيها ،وأغلقت مصادر الرزق ،وجعلت
المهاجر يعرف أنه يخوض عملية خطرة قد تنتهي بالموت؛ ألن ً موتا محتملاً في البحر أفضل من موت مؤكد في شوارع
ولهذا فإن الحل لمشكلة أو ظاهرة الهجرة غير المقننة، ليس فقط حلاًّ أمنيًّا ،وال حلولاً تقتصر على قوارب إنقاذ
مدينته.
تبدأ بالبحث عن أسباب الهجرة ،وتجفيف مواردها ،بدءً ا
المسلحة ،الحالة االقتصادية المتردية ،وبخاصة في بعض
تبحث عن الغرقى وتحاول إنقاذهم ،إنما حلول جوهرية، بإنهاء الفتن والنزاعات والحروب األهلية ،وخلق حالة من
وهناك غير الحرب والقالقل الناتجة عن الصراعات
الدول اإلفريقية؛ مما يستوجب جهدً ا إنسانيًّا عالميًّا لخلق نوع من التوازن الحضاري ،بين شمال العالم وجنوبه،
وإنشاء صناديق دعم لبعض األقطار الفقيرة في القارة
الهجرة عملية هروب من الفاقة، وأحيا ًنا عملية هروب من الموت ،حتى لو كان المهاجر يعرف أنه يخوض عملية خطرة قد تنتهي بالموت؛ ألن
34
موتًا محتمال في البحر أفضل من موت مؤكد في شوارع مدينته
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
السمراء ،وصناديق أخرى؛ لخلق عمل لبعض العاطلين
داخل بلدانهم ،وتنمية مواردهم؛ مما يمنع عنهم العوز، وينهي البطالة ،التي تدفعهم إلى الهجرة ،وضمان حزمة اإلجراءات المطلوبة إنسانيًّا ،وتسهيل قواعد الهجرة ،وخلق
مسارات قانونية تجعل الهجرة أقل خط ًرا مما هي اآلن، ويمكن لكل دولة تحصين نفسها بجملة من القوانين التي تحقق رفع الضرر عن المهاجر ،وفي نفس الوقت تأمين
الوطن المستهدف بالهجرة من األزمات ،والمشاكل التي
تحدث بسبب هؤالء المهاجرين.
مقابر على امتداد الذاكرة...
وإسطنبول تخفف من آالم المنفى غوالي ظاظا صحافية سورية تقيم في إسطنبول
35
ملف العدد
قبل خمس سنوات قرر السوريون بناء وطن أفضل ،وبعد خمس سنوات ما زال كفاح السوريين يدور حول الهدف نفسه بثبات وآالم كبيرة ،مع دخول شرط آخر الستمرارية الهدف األول :البحث عن منفى أفضل ،تارة عبر االنتقال من بلد إلى آخر ،وتارة أخرى بتحويل االضطرار (اللجوء إلى تركيا) اختيارًا .تركيا
التي يقيم فيها قرابة مليوني سوري والذين باتوا مرة أخرى مادة تجارية في لعبة األمم خارج بالدهم.
بين الوطن القريب والمنفى الجديد مساحة شاسعة آلالم تنهش يوميات السوريين وذاكرتهم ،وحاضر مسكون بالهلع قانونيًّا ونفسيًّا .انطباعات رحلة الخروج األولى المفترض أن تكون قصيرةّ ، حتمت عليهم ّ عملية تكيّف مرهقة عبر إعادة تعريف دائم لكافة مناحي الحياة ،تعريفات تتحايل على «المؤقت»
لتشمل خمس سنوات وما يأتي من بعده ،وتتحايل على الديمومة حتى حين باتت مقابر السوريين ممن فارقوا الحياة في تركيا بمساحة بلدات سورية كبيرة ،على أمل أن يتحول درب اآلالم الذي سلكوه إلى الخارج هو نفسه طريق الحرير الذي سيعيدهم إلى الداخل .إسطنبول بهذا المعنى منفى أعاد
السوريون بناء صورته لتطويعه ،بحيث يخفف من وطأة شعور السوري بأنه «غريب» .ويشكل البحث ً موضوعا فكريًّا ،فإسطنبول بالنسبة للشاعر والكاتب علي سفر :منفى، عن الخصائص المرغوبة للمكان
لكن في الوقت نفسه «هذا المنفى نفسه حادث وليس اختيارًا ،مثل أي شخص يتعرض لحادث ما». المنفي قليلاً « ،فهي مدينة ويروي سفر لـ«الفيصل» بعض مزايا هذه المدينة؛ منها أنها تخفف عن ّ مانحة للطاقة ،تدفع بفتنتها إلى العقل ،وتجبر اإلنسان على الغرق فيها وبتفاصيلها».
36
العالج بالكتابة
ويرصد الكاتب والشاعر السوري علي سفر الكيفية التي
تخفف بها إسطنبول من وطأة آالم المنفى فهي المدينة «القريبة جدًّا من دمشق حيث يلمح السوري صورته في الكثير من
ً مطلقا قبل الثورة ،فاألولوية ترتبط بـ«مسألة العودة ،وكل المخططات الشخصية مبنية على مفترقات الطرق السياسية». حق العودة
لكن انخراط المثقف في العمل السياسي يعني ً أيضا
زوايا المدينة وحاراتها ومعالمها التاريخية ،ويمكن للمصابين بالنوستالجيا أن يجدوا ُق ً وتا لمعاناتهم ،وهي المدينة التي تنقل
ظهور خصوم جدد وقتلة محترفين أمامه ،فالكاتب السوري
يقترن بالحداثة ،وإمكانية الحفاظ على التراث بالتجاور مع غزو
النظام ،وأضيف اليوم إلى سلسلة خصومه من يسميهم:
السوري من أنموذجه الذهني ،إلى شكل آخر لمعنى المدينة، حداثي» .ال خالف على أنّ هناك قسمً ا كبي ًرا من السوريين في
خطيب بدلة ،خرج من سوريا في عام 2012م مرغمً ا بسبب اللصوص والمتطرفون ،ومطلوب من جهات عدة .ومن بين
تركيا قرروا عدم ترك المكان حتى لو أتيحت لهم فرصة الهجرة إلى أوربا ،وهؤالء بالضرورة أكثر أملاً ،وأمهر في تطويع األلم،
المتأقلمين مع الحياة الجديدة في إسطنبول مستندً ا في ذلك
وال تفوته اإلشارة إلى أن «األمكنة المشتهاة ليست بعيدة،
إنه قابل للتكيّف مع األماكن الجديدة بسرعة ،ويفسر ذلك
وكما يقول سفر :إن «الكتابة عن األمكنة جزء من العالج»، وإحاالتها تقترن اآلن بالموت ،ولهذا يصبح التفكير باألمكنة
الجديدة هو تفكير بالحياة ،لهذا ليس لدي خيار سوى أن أنتمي للمكان الجديد» .وتحتضن تركيا الجزء األكبر من المؤسسات السياسية المعارضة للنظام السوري ،وكذلك أنشطة المنظمات
العيّنة الثقافية التي التقتها «الفيصل» يعد خطيب بدلة أكثر على عنصر أساسي وفرته له تركيا وهو األمان واالحترام .ويقول:
بتنقله المتكرر أثناء الثورة بين عدة مدن وقرى وبيوت وبيئات، وفي تركيا عاش في الريحانية وغازي عنتاب وإسطنبول. ويضيف« :في الريحانية ،حيث الحياة بسيطة والوقت طويل،
ُ أنجزت كتابين ومجلة كش ملك ،وفتحت مشاريع أخرى .في
غير الحكومية المنتشرة بكثافة في الواليات الحدودية .ونظ ًرا ألن فكرة العودة إلى الوطن باتت ً شأنا سياسيًّا ،فإن الشاعر
واإلبداعي» .ويعمل بدلة حاليًا على مشروع قصة طويلة
الثقافي ،بات يكتب في الشؤون السياسية ،وهو ما لم يفعله
العيش في ألمانيا ،وأقام شهرين في ريف هامبورغ ،لكن
علي سفر ،مثله مثل الكثير من السوريين البارزين في الحقل
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
إسطنبول أوزع الوقت القليل بين العمل السياسي ،واإلعالمي
بعنوان« :صعود نجم عبدالحميد الفارط».كما حاول تجربة
«الحياة في ألمانيا تخلو من المشاكل على نحو مرعب ،ولذلك
ُ عدت إلى تركيا» .لكن هل تركيا هي المحطة األخيرة؟ يجيب بدلة بأنه قبل أيام قليلة طالب المعارضة السورية بأن ترفع
شعار «عودة السوريين إلى ديارهم». الذاكرة المزدوجة
الحديث عن الذاكرة لدى السوريين المقيمين خارج
خطيب بدلة
بالدهم بات يشبه الحديث عن المقبرة ،وبقدر المجازر التي ارتكبها النظام ،يواجه السوريون آالم الذاكرة الشخصية ً أيضا
كل منها في ملف مستقل مثل أي ملف على جهاز الكومبيوتر
تفاصيل «الشخص السابق» الذي «كانه» .استدعاء أي تفصيل للحظات يعني عويلاً مُ ًّرا .الغرق في هذه الحالة كفيل بحفر
ً ّ لحثي على محتفظا باألرصفة وأعمدة الكهرباء وصياح أمّ ي
المؤلم مجرد اجتماع للعائلة حول مائدة الطعام .أمام هذه
بحوارات الواتساب مع دمشق وجلسات السكايب في ساعات
علي سفر
بمجازر من نوع آخر ،فيها الكثير من المكابرة المثمرة في طرد
«الذاكرة الدمشقية في ملف ،والذاكرة اإلسطنبولية في ملف َ «توقف التحميل على الملف األول ،وبقي آخر» .وتضيف:
خطوط على الوجه على مسار الدموع .قد يكون التفصيل
االستيقاظ المبكر ،أما الملف الثاني (اإلسطنبولي) فمليء
الحالة لجأت الكاتبة فاطمة ياسين إلى اعتماد ذاكرة مزدوجة،
توافر الكهرباء هناك».
عقدت فاطمة «هدنة طويلة األمد مع المدينة الجميلة
باتت مقابر السوريين ممن فارقوا الحياة في تركيا بمساحة بلدات
بشقيها األوربي واآلسيوي» وتحاول اكتشاف الجانب الدمشقي
في إسطنبول ،لكن تبقى جوانب ال يمكن تعويضها ،فهنا للبحث والتناص المكاني حدود «إذ ال غوطة هنا» .وما الذي
سورية كبيرة ،على أمل أن يتحول درب
أخذته منها سوريا؟ تجيب فاطمة« :الكثير من المالبس التي
نفسه طريق الحرير الذي سيعيدهم
لرياض الصالح الحسين ،تخليت عنها على أمل العودة
اآلالم الذي سلكوه إلى الخارج هو إلى الداخل
لم أستطع حشرها في الحقيبة الوحيدة ،ومجموعة شعرية
37
السريعة لمطالعتها» .ورغم الصعوبات البيروقراطية في ً ّ بيئة شكلت إسطنبول على مدار سنوات المجال اإلداري،
ملف العدد
لتقديم العديد من السوريين أنفسهم بطريقة أفضل مما كانوا
وصفها .والمفارقة أن اإلعالمية الشابة تخشى من فكرة أن َّ توثق كالجئة في أوربا ،ورغم إقامتها الطويلة في تركيا إال أنه
على الكاتبة فاطمة ياسين التي أتاح وجودها في إسطنبول
ً الذعا لمن يصوّر السوريين في تركيا البحر .وتوجه والء نقدً ا
ً خصوصا في مجاالت إبداعية ،وينطبق األمر عليها في سوريا،
ولقاءاتها مع المثقفين السوريين بأن تدخل عالم الكتابة، وتتناول مجاالت السياسة واألدب في صحف عربية مرموقة. تناقص الصحون
يبقى الموت هو الجزء األكثر هلعً ا في آالم السوريين .أن
يموت أحد أفراد العائلة داخل سوريا ،فتسمع خبر الوفاة
عبر مكالمة أو رسالة ،فيدفن الفقيد فيما أقرب الناس إليه ال يعرف حتى كيف سارت طقوس الدفن ،فيكون الموت في دمشق والتعازي في إسطنبول .هذا السيناريو بات يتكرر في
وكأنهم يعيشون على حساب الرئيس التركي أو معوناته، بل ترى أن هؤالء قاموا بضخ أموال هائلة في سوق العمل
التركي ،ولم يحصل السوريون إلى اآلن على وثيقة عمل لضمان حقوقهم التي تتعرض لالنتهاك ،فضلاً عن القوانين
غير السلسة بخصوص اإلقامة. خزان المياه
مهما بلغت درجة «السالم الداخلي» للسوريين في تركيا، ً مبعثا لحالة خوف وقلق تبقى الجوانب اإلدارية في هذا االنتقال
حياة السوريين في الخارج .والتقت «الفيصل» حالتين من ً وأيضا اإلعالمية (والء )...التي هذه الفواجع :فاطمة ياسين
ً خصوصا لمن ال يتقن اللغة التركية ،وهي ال يمكن اإلحاطة بها،
وتقول« :اليوم اختفى هذا الصحن ،وكذلك صحن أبي،
يكشف منصور عن ّ غصة يشعر بها بتركه البلد« :تركنا تاريخنا
كان على طاولة عائلتها في دمشق صحن زائد دائمً ا للضيف.
وسُ رقت الطاولة» .أتاح وجود والء في إسطنبول خوض مجال عمل جديد في اإلعالم ،وتعتقد أنه ما كان لها أن تنال هذه
38
ال شيء يثبت رسميًّا أنها الجئة فضلاً عن هاجس الغرق في
الفرصة في سوريا .وتكتشف في إسطنبول أن الجاذبية األرضية
خفيفة أثناء سيرها في أزقة هذه المدينة مقارنة بدمشق ،وهي التي كان يالحقها وصف «النازحة الجوالنية» طيلة حياتها في
سوريا .هي ال تنتمي إلى هذا المكان الذي يتوسط آسيا وأوربا مستأجرة: حيث تختبر ألول مرة «حياة اإلقامات» ،هنا تعيش ِ تستأجر أسرة وعملاً ومنزلاً وأصدقاء .ومثلها مثل كل من
التقتهم «الفيصل» ،لم تتعلم حتى اآلن اللغة التركية ،وتبرر ذلك بأن هذه اللغة يلزمها عمق أكبر لتكون أخف على اللسان. الكثيرون ممن رفضوا التوجه إلى أوربا رغم الموجة
المثيرة للجدل من الالجئين ،يحصون األيام من أجل العودة إلى سوريا .وتركيا بلد جيد للعودة السريعة كما تقول والء،
حتى لو لم تمتلك ثمن تذكرة الطائرة ،فإن خبرة السوريين في اجتياز األسالك الحدودية تسهل من األمر كثي ًرا ،على حد
مهما بلغت درجة «السالم الداخلي» للسوريين في تركيا ،تبقى الجوانب اإلدارية في هذا االنتقال مبع ًثا لحالة خوف وقلق وتوتر دائم ،وكل فترة تصدر قوانين جديدة بخصوص السوريين ال يمكن اإلحاطة بها
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
وتوتر دائم ،وكل فترة تصدر قوانين جديدة بخصوص السوريين حال معظم السوريين ،ومن بينهم اإلعالمي مهند منصور. وماضينا هناك ،لدي ملفات عملي القديم وبدايات مهنتي،
فيديوهات وبرامج وملفات ومجموعة من الكتب ،جاءت عناصر األمن إلى المنزل ولم أكن حينها هناك ،فقام أخي برمي جهاز كومبيوتري الذي يحتوي على كل هذه الملفات ،في خزان المياه ..ليتني استطعت أن أجلب معي خزان المياه ذاك».
األلفة مع إسطنبول «ألفة خجولة» وكثير منه ادعاء باأللفة كما يقول اإلعالمي السوري .اإلحساس باإلقامة المؤقتة تبرر له عدم قيامه بمتطلبات المقيم الدائم مثل تعلم اللغة التركية.
بإمكان منصور االتخاذ من إسطنبول قاعدة لنشاطه المهني، ً ً مكانا للمساهمة في ثورة شعبه ضد األسد .ويقول :إنه وأيضا
بالرغم من وجوده في إسطنبول ،لكنه يشعر بأنه على حدود
الوطن« .هنا رائحة الشرق ،أما الذهاب إلى أوربا يعني نهاية حلم العودة» .وينتقد منصور الذي يعمل في حقل اإلعالم منذ
عشر سنوات ،حالة االنفالت اإلعالمي في أوساط المعارضة
السورية ،المتحررة من االنضباط والمعايير المهنية .عن سؤاله: أين الوطن الحقيقي؟ يجيب منصور« :حيث لك أموات وطنك الحقيقي» .ورغم أن اإلجابة تضمر احتمالاً واحدً ا ،وهو سوريا،
إال أن طول إقامة السوريين في المنافي االضطرارية جعلت مقابرهم تمتد على قارات العالم أجمع. جمهورية الغرق
ليس الثبات في تركيا ديْدَ ن السوريين طالما أنهم كانوا
مادة ألكبر موجة لجوء إلى أوربا تسببت انعكاساتها بأزمة ما
زالت تهدد وجود االتحاد األوربي نفسه .في تجربة المنافي
يرسم عارف حمزة مشهد عودة السوريين كما يتمنى بصورة شعرية: «أن يعودوا في نفس اللحظة إلى ْ أن يدخل فجأة داخل البلد البعيدْ . خمسة ماليين شخص دفعة واحدة؛ والء عواد
فاطمة ياسين
المتعددة ،يرصد الشاعر عارف حمزة ً نوعا من إعادة بناء
الهوية السورية في الخارج .ويقول الشاعر المقيم في ألمانيا: «حكمنا أناس لعشرات السنوات لم يجعلوا من مواطني هذا البلد أهلاً لبعضهم حتى تحدث هذه الحرب األهليّة .ولكن
كنا أهلاً لبعضنا في المنفى وخالل الغرق في البحر األبيض
لرفع أنقاض هذا البلد الوحيد» منبوذي هذه األرض» .لم ينقطع حمزة عن كتابة الشعر سواء ً سابقا إلى في تركيا أو ألمانيا رغم أنّ استدراج ما تخلى عنه األماكن الجديدة صار أم ًرا مري ًرا .ويوضح ذلك بالقول« :لم
المتوسط» .ويحسب حمزة للنظام السوري حسنة وحيدة
علي شيء بالنسبة لكتابة الشعر .هناك صور جديدة يتغيّر ّ حولي؛ نعم ،وعمران وطبيعة وحجارة سميكة بسبب الحياة،
المنفى وهو داخل سوريا؛ مما جعل خروجه إلى تركيا في
أعرف قصصهم ،ولم أنجح في مراقبة حياتهم الخفيفة .ليس
انعكست عليه إيجابيًّا ،وهي منحه اإلحساس بأنه عاش في
األول من سبتمبر عام 2013م «خفيف الوطأة» .ويروي كيف
أنه كان يحرص على االحتفاظ بتخطيطات الرسامين من ُ غادرت إلى أوربا أجل الكتابة عند العودة للبلد ،لكن «فجأة ّ وظل وحدي .وهناك استقبلني المنفى بذراعين واسعتين. صاحبي الصامت في ّ كل مكان .حتى ّإنه ي ّ ُشغل المنامات التي علي رؤيتها هنا وأنا ّ أتقلب في سرير نام عليه شعب كامل من ّ
ولكن ال أفهم معاناة الناس الذين يسكنون هذه البالد ،ال
هناك كلمات جديدة أحصل عليها حتى اآلن ،بقدر ما صارت كلماتي القديمة تعيش حياتها هنا ً أيضا ،ولكن بروح قد تبدو مغايرة» .يرسم عارف حمزة مشهد عودة السوريين كما يتمنى بصورة شعرية« :أنْ يعودوا في نفس اللحظة إلى داخل البلد البعيد .أنْ يدخل فجأة خمسة ماليين شخص دفعة واحدة؛
39
لرفع أنقاض هذا البلد الوحيد».
ملف العدد
أنظر بشجن إلى البصرة
من منفاي الدنماركي البعيد
ليس هناك من خيار على الدوام في القرار .وهي لم تكن هجرة ً ً مرغما على الحقا .حين وجد أبي نفسه ومصطلح «المغتربين» جاء
ترك العراق في عام 1979م من ضمن المئات واآلالف الذين الحقتهم
سلطة البعث ،ولم تترك للكثير منهم فرصة حتى لتوديع أحبتهم اختار أبي الكويت .إنها على الحدود ،قريبًا من مدينته البصرة، المسافة قصيرة ،والمشوار ال يتجاوز الساعتين .فكر حينها أن األمر
40
دنى غالي روائية عراقية تقيم في الدنمارك
لن يتعدى ربما شهورًا ويعود ،والوعد الذي كان يردده يوميًّا بالنوم
على سطح البيت من جديد ،دام ألكثر من ثالثين سنة .طبيعة المناخ في الكويت ال تسمح بتحقق الحلم البسيط( ،وال أظنها
تسمح اليوم في العراق كذلك) .ولم يكن هناك من خيار في مواصلة الرحلة من مكان إلى آخر حتى االستقرار في دولة من دول المنفى.
عشرات النصوص واألغاني والجلسات التي جمعت
اجتماعي إثني سيكولوجي .مع دخول األميركان أو ضده،
اختلف اليوم فقد وجدنا أنفسنا بحاجة إلى تعريف جديد
والتوقيع على عشرات البيانات ،واالنضمام إلى عشرات
الفنانين والرسامين واألدباء كلها كانت تبكي الوطن .كل ذلك ألنفسنا .ذلك الحلم البعيد تحقق ولكن ما الذي تغير ،ذلك التوق والشعور بالنفي وفكرة الحرمان من الوطن صار محض اختيار اآلن ولكن ...حدث خلل عظيم في واقع األمة بغالبها، والتجارب تعددت وتباينت من شخص آلخر ،ومن عائلة
ألخرى ،على اختالف المنابت واألديان والمذاهب واهتمامات دول العالم الكبرى بنا .ما الوطن؟ ما االنتماء؟ وجلدك هل
تسلخه لتتجدد وتنفض عنك ما تكلس وسكن القمل بين حراشفه ،أم تحافظ عليه لئال تفقد توازنك وتتهاوى في مكانك؟ السياسة تسري في عروقنا ّ اختلفنا فيما بيننا؛ كاتبات وكتاب ،اكتشفنا أن السياسة
تسري في عروقنا ،وصرنا متخصصي تحليل جغرافي سياسي العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
مع المحور الروسي أو ضده ،والية الفقيه والتكنوقراط، المنظمات ،والمشاركة في التظاهرات .انفجار في المحطات الفضائية والصحف اإللكترونية ،ومن ثم ّ حلت سيول وسائل التواصل االجتماعي حتى أغرقتنا تمامً ا في وحول التطرف
والتخوين والتقسيمات .انتشرت األمراض ،وصرنا بانتظار
اكتشاف لقاح يقضي على وباء نشعر بعجز تام عن مقاومته. رحنا نكتب عشرات الصفحات في تأملنا لتلك البقعة
من مكاننا في المنفى ،بعضنا تمرد على مرجعياته ،واآلخر
واصل على خطاها .األدب كان الوعاء الذي احتوى نزفنا،
وقيحنا ،ودموعنا؛ امتزج كل ذلك بخيوط من مرابع الطفولة ونقائها؛ نخيل ،وأنهر ،وأسماك ،وصديقات ،وأصدقاء، وجارات ،وجدات .إنها بكل ما فيها بمنزلة لحظات صفاء
نادرة ،مراجعة وتوثيق إنساني حقيقي لزمن متسارع غريب،
41
ال يمكن اللحاق بإيقاعه مع كل المتغيرات التي تحدث
خالله .األدب هو المرآة واآللة الصادقة لتسجيل ما مررنا به، وما زلنا نمر به. من أنا؟
وأنا ما الذي حاولت قوله في كل ما كتبت؟ أين كنت حين
كتبت ما كتبته؟ من أنا؟ الكاتب الروائي العراقي والباحث
سالم عبود يرى أني «أنظر إلى المنفى المزمن من بصراي التي لم أفارقها قط» ،والكاتب والقاص العراقي محمد خضير يراني «أنظر بشجن إلى البصرة من منفاي الدنماركي
البعيد» .في المنفى تصدعت الصور ،وذهبت بجزء كبير من
براءتنا ،ولكنها يقظة ال بد منها لنقع على الخلل المشترك الذي نشكو منه .يدٌ تضرب على يد بجسدٍ واحد ،أذنٌ تكذب ً أذنا في ذات الجسد ،عين ترى الجمال ،وأخرى ترى الزيف ال غيره ،والقلب موزع ،يواصل في جسد ،ويعلن اعتزاله في
حدث خلل عظيم في واقع األمة بغالبها ،والتجارب تعددت وتباينت من شخص آلخر ،ومن عائلة ألخرى على اختالف المنابت واألديان والمذاهب واهتمامات دول العالم الكبرى بنا آخر .ولكني كما الحياة التي تبدأ بحلم أود أن أختم بحلم ،أن
أكتب رواية حب خالصة .لست معنية بالتاريخ في ماضيه وال
حاضره ،هذا الكره والحقد في العالم ،ال أحب مرأى الدم،
وشبعت من األخبار العاجلة السيئة .لن أكتب عن الحرب
بعد ذلك ،لن أكتب عن المنفى ،سأكتب من مكان متخيل حيادي ال جذور لي فيه ،وال هواء مشترك .أن أكتب بقلم
قادر على مسح كل المعلومات المدرجة في هويته.
ملف العدد
اللجوء في حياة الفنانين الشباب..
أسئلة الحنين والحريات صهيب أيوب صحافي -باريس
42
إيبي إبراهيم
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
إيبي ويوميات الهجرة القسرية
هذا ال يخفف من وطأة الغياب ،وال يؤنس الوقت ،إال أنه
حين غادر المصور والمخرج اليمني إيبي إبراهيم
يمرر جزءً ا من الشوق .لكن ما يدفعه إلى التفاؤل دومً ا أنه
فنية داخل مبنى «سيتيه دو آرت» .لم يفكر يومها أن يمنه
الكاملة» ،وفق ما يقول في مقابلة مع مجلة «الفيصل» .إال
صنعاء ،كانت وجهته باريس .قضى ثالثة أشهر في إقامة
يمارس هنا فنه بكثير من الحرية« .الحياة تمنحك هنا الحرية
السعيد سيتحول إلى جحيم .كان كل شيء يبدو طبيعيًّا إلى أن ّ حط رحاله في برلين ،واندلعت الحرب .فكر مليًّا بالعودة،
بين انتماءات عدّ ة ،ومشاعر صاخبة ،تحل في ثيمات أعماله.
حيث هو اليوم .بعيدً ا من ألم صنعاء ،الذي يحمله كهواء
الذي يرى أن مشاركتها للعالم عبر أعمال بصرية وتشكيلية
عال شارك رفاقه هذا الهم .كانت النصيحة بأن يبقى وبصوت ٍ ثقيل في يوميات هجرته القسرية.
يتجاوز إيبي بصعوبة مشاعر الحنين والخيبة المباغتة
في مدينة باردة .ال تشبه بشيء صنعاء التي عاش فيها طفولته ومراهقته ،قبل أن يتعلم في الواليات المتحدة،
ويقرر استخدام «فعل الفن» في مكان تنغلق فيه سبل الحياة والتجربة الح ّرة بما فيها من آفاق لفنان شاب وثائر .يقول إيبي: إن قرار عدم عودته كان صعبًا ،ولم يفكر يومً ا في أن يغادر
مرسمه الواسع وسط «الحي السياسي» في صنعاء؛ ليتركه منهوبًا لعصابات الحرب والقتلة الجوالين .إال أن الحرب تفرض مسارات أخرى ،وهي على قدر ما تؤلم ناسها ،تكون
«مضاعفة» على الفنان نفسه .فتشكيل الحياة ويومياتها،
والعيش في زمنين ومكانين ،يخلق في الفنان عوالم هشة.
يتعامل إيبي مع حياته بشيء من الخفة .كأن يبادر إلى ً تزيين جدران غرفته بأقمشة يمنية ،أو يعدّ طبقا تقليديًّا،
أو يحتسي القهوة العدنية ،ويستمع إلى أغنيات فيروز .كل
أن هذه الحياة «ناقصة» ،وتكبر في الفنان «هوّة» صارخة، فالحرب وهولها وهوامشها عوالم حاضرة في أعمال إيبي،
وتجريبية أمر في غاية األهمية« .اليمن حاضر في كل أعمالي .وهو بالنسبة لي ليس وط ًنا أو جنسية بل هو صديق. علي مساعدته بكل الطرق الممكنة والموارد صديق يعاني؛ َّ المتاحة» .ويضيف أن صعوبات كثيرة واجهته ،وتواجهه في
ً فرصا ،عليه اقتناصها ليتحدى مكانه الجديد ،إال أنها تشكل نفسه« ،أريد أن أجعل اليمن فخورًا بي ،فخورًا بما أنتج عنه.
إني أحمل اليمن في كل أعمالي وعروضي».
أيضا بحالة من االنعتاق المنافي ترتبط ً والتحرر من قيود الذاكرة .االنعتاق مما مضى ،من الـ«هناك» ،هو تجربة
43
لمتخيل، تحرر لألقصى ،الذاكرة تتحول ّ لتجربة سردية
أحد أعمال إيبي
ملف العدد
مغني الهيب هوب
وانتقاد واقعها» .وحين قرر اللجوء إلى فرنسا ،كانت لحظة
لم تكن رحلة اللجوء بالنسبة لمغني الـ«هيب هوب»
ثابتة وحتمية .فبيروت والقوانين المجحفة فيها بحق
كما يحصل مع معظم الهاربين من الحرب .هو ال يصنف
لهجرة معظم الفنانين السوريين إلى بالد أوربا .وجهة «وتر»
السوري خيري البش ،المعروف بـ«وتر» شاقة بطبيعة الحال، نفسه هاربًا؛ إنها الوجهة االضطرارية ،التي تحمل معاني
السوريين الالجئين وعدم تجديد إقاماتهم ،سبب رئيسي
االضطرارية ،لم تتضح مساراتها بعد بالنسبة له؛ «ألني جديد
القسوة ،لكنها ليست هروبًا .كانت بيروت إحدى محطات
ولم يتعدّ وصولي أشه ًرا فقط .لكن ما هو واضح بالنسبة
آت من زمن المذبحة السورية، كانت بيروت لفنان سوري ٍ ً أنيسا لخوض غمار تجربة في مخاض الـ«أندرغراوند» مكانا ً
حكاياتنا وغضبنا نحن ،إضافة إلى أن وجودي داخل الحدث
«وتر» باستعجال بين مسارح وأرصفة تضج بالثورة وأفكارها.
الفرنسيين له ولقصة ثورتنا وقضايانا» .أما بالنسبة للجوء،
خيري ومكان تألقه وتجريبه كتابة األغاني واألداء .يومها
العربي ،قبل استقراره اليوم في فرنسا .تجربة انتقل فيها
لي هو صعوبة التواصل مع الناس هنا عبر الموسيقا؛ ألن الكالم الذي أكتبه هو عربي لهجة ولح ًنا ً أيضا .ومغزاه يتناول
السوري وفهمي له وفهم معاناته يختلف تمامً ا عن نظر
يومها كانت الثورة السورية جزءً ا من محاكاة جيل شاب ،إال أنها ً أيضا غربة من نوع آخر.
أن أثر اللجوء مختلف عليهم .يقول :إن «الفنان هو إنسان
زال في الفرقة ،ويلقب بـ«أبو كلثوم» .وبدأت هذه الفرقة
وتفصيل األمور والتحدث بلسان الناس العاديين .وهذا ما
أسس خيري فرقة «لتلتة» مع صديقين له ،أحدهما ما
تنتشر منذ عام 2011م ،وكانت السياسة أهم ثيماتها« .حين
بدأنا لم نكن منخرطين ،أو نهدف لالنخراط في الثورة أو السياسة ،لكن الهيب هوب هو في الواقع مجاراة للسياسة
فنظرة خيري تختلف كثي ًرا عن معظم الفنانين ،الذين يرون
عادي .لكن الفرق أن الفنان قادر على التعبير وتوضيح يخلق جمهورًا يستمع إلى الكالم والموسيقا .ولكن اإلحساس باللجوء أو الغربة اإلجبارية هو شعور واحد ومشترك لدى
كل الالجئين».
44
خيري البش العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
يقول عمار ،الذي انتقل منذ عام تقريبًا إلى باريس :إن
المنتج الفني بخصائصه الفنية يتداعى ،ويتم تجاهله أمام مفهوم «الشفقة» .الرؤية المرتبطة بـ«الغريب» بوصفه مهمّ ًشا يختزن فانتازيا إلى جانب تراجيديا جبل عليها .لهذا يتم النظر إلى صاحبه بوصفه قادرًا على اإلنتاج ،بل وإثارة
اإلعجاب ،الموضوع حساس لكنه منتشر بكثرة».
وال ينكر المأمون ،الذي يعدّ من أبرز األصوات السورية
جرأة ونقدً ا ،ويملك كتابة شابة ومطواعة في المسرح
والنقد األدبي ،أن األبواب والقنوات الجديدة «مفتوحة» أمام المهاجر ،ال تقدر بثمن ،صحيح أن أنظمة المؤسسات في الـ«هنا» ً أيضا خاضعة لسياسات وأجندات ،لكن ال يمكن
إنكار خبرتها التاريخيّة».
ويوضح المأمون ،الذي عاش طوال حياته في دمشق،
واشتغل في مسارحها ثم عمل في الصحافة البيروتية كناقد فني وأدبي ،وانتقل إلى الصحافة الدولية ،ونشرت له مقاالت
مترجمة في «ال كورييه إنترناسيونال» ،أن «المنافي ترتبط ً أيضا بحالة من االنعتاق والتحرر من قيود الذاكرة .االنعتاق عمار المأمون
الحرب وهولها وهوامشها عوالم حاضرة في أعمال إيبي إبراهيم ،الذي يرى أن مشاركتها للعالم عبر أعمال بصرية وتشكيلية وتجريبية أمر في غاية األهمية انشطار «األنا» بين «هنا» و«هناك»
يبدو أن تجربة المنفى والعمل الفني واألدبي المرتبط
بها ،تستدعي الوقوف على حافة الالحسم ،بين أن تحضر «هنا» في الجغرافيات الجديدة وبين الـ«هناك» الماضي والجغرافيات التي تتحول إلى ذاكرة متخيّلة .فبالنسبة
مما مضى ،من الـ«هناك» ،هو تجربة تحرر لألقصى ،الذاكرة
تتحول لمتخيّل ،لتجربة سردية .تتالشى النظرة الرومانسيّة في التعامل مع الماضي؛ ألنها محكومة بالخيال ال بالتجربة
الجغرافية».
45
ويؤكد المأمون ،الذي يسكن اليوم في شقة صغيرة في
باريس ،ويقضي وقته بين الكتابة واالستماع إلى موسيقا «الجاز» و«األوبرا» ،ومتنقلاً بين مسارح المدينة وعروضها،
أن «تجربة المنافي والرحيل ترتبط بالجسد ،بالتجربة الفيزيائية داخل جغرافيات جديدة ،ال ذاكرة سابقة عن المكان ،وإعادة تكوين لعالقات جديدة مع المكان لتكوين
الذاكرة ،لتكوين حساسيات جديدة ،هناك قطيعة ال بد منها مع الماضي ،ال بد من انتصابات جديدة ،إعادة تكوين
لحساسيات مع المكان ،ال يعني هذا النسيان ،يعني إعادة
تكوين حضور جديد».
للمسرحي والكاتب السوري عمار المأمون ،الذي يعدّ كتابًا
عن «أنطولوجيا الدكتاتور» ،ويعمل على كتابة أعمال مسرحية باللغة العربية ،ترتبط صعوبات اللجوء ،بـ«المنتج
الفني والمسرحي» ،وهو ما يستدعي إعادة التفكير بالتجربة الذاتية نفسها ،فالـ«أنا» تنشطر بين «هنا» حيث «المركز»، حيث تغيب الخبرة بطبيعة عمل المؤسسة الثقافية والفنية
(بغض النظر عن انتمائها) ،و«هناك» جغرافيات الصمت والعنف ،واألهم ما يرتبط بتلقي المنتج الفني (األجنبي -
المهاجر) بوصفه فانتازيا في الكثير من األحيان.
ملف العدد
ربيع بيروت الثقافي يصنعه الجئون سوريون رنا نجار صحافية لبنانية -بيروت
46
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
يبتكر الالجئون السوريون في لبنان حياة جديدة مواجهين الموت والمنفى والتيه، ً مؤقتا وقد يصبح بديلاً ! باحثين عن ذات جديدة ،وعن عمل جديد ،وعن وطن قد يكون بيروت ودمشق اللتان طالما تقاسمتا الهموم والمعاناة والقضايا السياسية نفسها (كما
طرابلس وبعلبك وصيدا وشتورا وحلب وحمص ومدن الساحل السوري) تواجهان اليوم الموت ً معا .لكن للثورة واللجوء السوريين فضل على بيروت اليوم ،على عكس ما كانت
دمشق وسوريا عامة مدينة لمناخ بيروت الديمقراطي والثقافي الح ّر في رفع صوتها ً عمدا لعقود طويلة. «المخنوق» لبنان الذي يستضيف اليوم ،بحسب األمين العام لألمم المتحدة ،أكبر
عدد من الالجئين في العالم بالنسبة إلى الفرد الواحد ،فيه اليوم ما يربو
على مليون الجئ مسجّ ل فقط .وهناك تخمينات تقول :إن في لبنان نحو
مليوني سوري ،من مقيم وعامل والجئ ومقيم مؤقت .وهذه القضية التي تثير مخاوف الدولة اللبنانية وبعض األحزاب العنصرية ،أدت إلى خوف البعض من هذا العدد الهائل من البشر الذي يحتاج إلى مأكل ومشرب
ومسكن وطبابة ومدارس في بلد يفتقد فيه مواطنوه أدنى حقوقهم المدنية والصحية والمعيشية عامة .لكن اقتصرت اعتراضاتهم على تعليقات هنا وحركات هناك .فلبنان كان وال يزال ً أرضا خصبة الستقبال الالجئين مهما كانت جنسيتهم ،وليست تلك العنصرية التي يمارسها البعض على الشعب
السوري إال «حركات صبيانية» يح ّركها أحزاب وسياسيون لمآربهم الخاصة
47
ويستثمرونها لحساباتهم الشخصية. روح بيروت وفراشاتها
بينما على الصعيد الثقافي ،يختلف األمر تمامً ا؛ إذ عرف المثقفون
اللبنانيون أن زمالءهم السوريين هم روح بيروت وفراشاتها التي تزيدها ً رونقا ،فحضنوهم وأسسوا معهم مشاريع ثقافية رائدة .لكن المشكلة تكمن
في الدعم الرسمي لهذه النخبة السورية التي تحتاج ً أيضا إلى مسكن ومأكل ومشرب وحماية من الموالين للنظام السوري ،وال ننسى أن الفنانين والكتاب
كانوا مدعومين من الدولة في سوريا بشكل أو بآخر ،أما في لبنان فالثقافة ً وخصوصا التهديد األمني هي مبادرة فردية محض .على الرغم من كل ذلك،
للمثقفين السوريين المعارضين ،فقد بقيت بيروت مالذهم المفضل ،إال
أرضا خصبة الستقبال لبنان كان وال يزال ً الالجئين مهما كانت جنسيتهم ،وليست تلك العنصرية التي يمارسها البعض على الشعب يحركها أحزاب السوري إال «حركات صبيانية» ّ وسياسيون لمآربهم الخاصة
ملف العدد
رئيسا لتفاعل ثقافة في حاالت معينة .فبيروت باتت مختب ًرا ً
مسلسل «روبي» اللبناني -السوري -المصري المشترك .وهذا
والتظاهرات الموسيقية ،وشركات اإلنتاج الدرامية ،والفنانين
اللبنانية وردّها إلى حلبة المنافسة مع «لو» ،و«اإلخوة»،
الشتات السورية؛ إذ احتضنت المسارح ،وصاالت العرض، السوريين الذين أضافوا إلى المشهد الثقافي اللبناني نكهة
ذكية تفاعلية ،ح ّركت الساحة .في البدء لم يتأقلم الفنانون السوريون ،وغالبيتهم من الشباب ،مع الجو الثقافي اللبناني،
لكن سرعان ما اندمجوا فيه ،وأغنوا فضاءاته ،مفضلين ً أحيانا اإلقامة في ديار الجار الذي يفهم لغتهم وإن اختلفت وجهات النظر والمواقف السياسية مع بعضهم .وهنا نتحدث عاكسا نظرته عن جيل الثورة الذي أتى حاملاً رؤاه وأساليبه ً إلى الواقع ،في أعمال تشكيلية لتمام عزام وفادي اليازجي
وسبهان آدم وياسر صافي ومحمد عمران على سبيل المثال، وأعمال موسيقية ،مثل :مغني الراب هاني السواح ،وفرقتي «طنجرة ضغط» و«لتلتة» ،وأعمال مسرحية لوائل قدور،
ومحمد العطار ،وعبدالله الكفري، ويامن محمد ،وأسامة حالل ،وأمل
عمران ،وغيرهم كثر.
48
الدراما اللبنانية ونكبة السوريين
في لبنان جار «الرضا» ،خلطت
األزمة السورية األوراق في اإلنتاج الثقافي كما في السياسة .وعلى نقيض الفوضى والتوترات األمنية واالقتصادية والتهجير والفقر واالنقسامات التي
الثراء ،وإن كان تأثيره محدودًا ،استطاع انتشال المسلسالت
و«لعبة الموت» ،و«روبي» ،وغيرها.
ً مضاعفا مع أعمال في عامي 2015و2016م كان التأثير
مشتركة تحصد جماهيرية عالية ،مثل« :تشيللو» ،و«24
قيراط» ،و«العراب» بنسختيه ،و«بنت الشهبندر» ،و«درب
الياسمين» ،و«عين الجوزة» ،وأخي ًرا «سوا» .وبهذه الحالة، بات من غير المنطقي تصنيف غالبية المسلسالت التي ُتصوَّر في لبنان ،على أنها لبنانية محض أو سورية محض .فمسلسل
«غدً ا نلتقي» لرامي حنا الذي تربّع على عرش المسلسالت ً صدقا وتجسيدً ا العربية في شهر رمضان الماضي؛ ألنه األكثر
للتغريبة السورية ،يُصوَّر في بيروت مع فريق عمل لبناني- سوري مشترك ،وإن كان الممثلون كلهم سوريين .من هنا، تأتي «وحدة المسار والمصير» متالحمة بين البلدين على الصعيد الدرامي، ولصالح لبنان ،ربما ،من حيث تحريك سوق الدراما ،وإيجاد فرص عمل
أكبر للتقنيين والمصورين والمديرين
الفنيين ،هذا ما عدا استفادة الممثلين اللبنانيين من خبرة السوريين الذين لمع
نجم مسلسالتهم عاليًا.
ولكن ،في النهاية ال بدّ من اإلشارة
اللبناني -السوري المشترك (مسرح ،وتشكيل ،وسينما،
إلى أن الفنان أو المثقف أو المناضل هاني السواح يبحث ً أيضا عن مستقبل أفضل ،وعن ّ المرفه؛ لذا كان األمن واألمان ،وعن المستوى المعيشي
ِعدّ ة ،منذ سنين طوال ،هي األكثر استفادة من «نكبة» الدراما
يقول المسرحي محمد العطار ،ترك لبنان؛ للبحث عن ملجأ آمن يحترم اإلنسان وحقوقه ويؤمّ ن له دعمً ا ماد ًّيا ومعنويًّا
تحدثها السياسة ،يأتي اإلنتاج الثقافي
ودراما ،وبرامج تلفزيونية ،وموسيقا) بعد الثورة ،إيجابيًّا. ومما ال ّ شك فيه ،أن الدراما اللبنانية التي تعاني أزمات تشرذم
السورية المتأثرة باألزمة السياسية واألمنية .فنزوح ممثلين
ومخرجين وعاملين في الحقل الدرامي السوري إلى بيروت، أَثرى هذا القطاع الذي كاد يموت قبل ارتفاع أسهمه مع
احتضنت المسارح وصاالت العرض والتظاهرات الموسيقية وشركات اإلنتاج الدرامية في بيروت ،الفنانين السوريين الذين أضافوا إلى المشهد الثقافي اللبناني نكهة ذكية تفاعلية، حركت الساحة ّ العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
لبنان لهؤالء صعبًا وقاه ًرا ،فقرر جزء منهم «مكرهً ا» كما
ّ محطة مؤقتة لجزء لمشاريعه الثقافية .وال ننسى أن لبنان كبير من السوريين ،وليس للمثقفين فقط. ٍّ مغن يستثمر اللجوء هاني السواح
ليست بيروت أفضل مدينة لالجئين ،لكنها قد تكون
فأل خير ،أو قد تعطي مساحة إيجابية إلنتاج مشروع فني أو ثقافي .هاني السواح الذي نزح من سوريا ،اختار بيروت لتكون
ملجأه بغض النظر عما يعانيه أبناء بلده هنا من عنصرية أو
معاناة .هاني السواح (الملقب بالدرويش) هو مغني راب،
ومهندس صوت ،وشاعر يكتب أغاني وقصائد بالمحكية السورية .صدر له أخي ًرا ألبوم بعنوان« :أرض السمك» ،كتب عنه النقاد والموسيقيون بإيجابية عالية ،ويمكننا القول :إن
هذا األلبوم الذي ُطبخ وسجّ ل في
شوارع بيروت ،رسّ خ اسم هاني السواح كفنان موهوب في عالم
الراب أو الشعر الشعبي واإليقاع.
وهو األلبوم األول البن حمص التي استفزت ثورتها موهبته المكبوتة، ونقلته كتابة شعاراتها من طفل غاضب إلى ناضج يعرف كيف ومتى
وأين يص ّرف هذا الغضب ،ليؤلف منه أغنية ،ويوصل هواجسه إلى الناس .السواح الذي ترعرع في
ج ّو عائلي ملمّ بالثقافة واألدب، يلجأ إلى الشعر الشعبي واإليقاع؛
لوصف
األحداث
السياسية
واالجتماعية السورية المتسارعة،
ونقدها بلغة شخصية حميمة،
تنطلق من األنا لتصل مع موسيقا اللبناني مازن السيد (الراس) إلى النحن والهُمْ ّ وكلنا... مجلة
«الفيصل»
التقت
السواح بوصفه نموذجً ا ناجحً ا لالجئ ومثقف سوري لم توقفه الحرب ولم تكبّله بيروت .عن االندماج يقول« :أنا
ال أعتبر نفسي مندمجً ا مع المجتمع اللبناني ،وال أعتبر
أن «الدمج» هو ما نبحث عنه ،فهو ما يحدث عندما ينوي الـ«الجئ» البقاء في البلد المضيف ،وعن نفسي أنتظر
وقت ممكن». الفرصة المناسبة ألعود إلى سوريا في أقرب ٍ
49 ليست بيروت أفضل مدينة لالجئين، لكنها قد تكون فأل خير ،أو قد تعطي مساحة إيجابية إلنتاج مشروع فني أو ثقافي
ويضيف« :في بيروت مؤسسات تحاول دعم الفن المستقل
بغض النظر عن جنسية الفنان .فإيجابيات الوجود في بيروت هي المساحة التي تمنحها هذه المدينة لمريدي اإلنتاج».
صوت مستقلاًّ يعمل السواح إضافة إلى الفن خبير ٍ ً أحيانا للسينما والتلفزيون ،وهذا ليس ثاب ًتا ،قد «ألجأ
بأجر ثابت» .أما عن الدعم المادي للغناء إلى وظيفة ثابتة ٍ والكتابة ،فهو كما يفيد« ،في األحيان الكثيرة يكون من ً وأحيانا ُتقدم مؤسسة دعمها أو مساهمتها حسابنا الخاص، كما فعلت «آفاق» مع ألبوم أرض السمك حين ساهمت باإلنتاج».
من مجرد وجوده هنا في بيروت ،وهل يواجه عنصرية؟ بصدق ُ «لست حزي ًنا ،فاألصدقاء في بيروت أكثر من يجيب السواح: العنصريين ،وتع ّرضت فيها للدعم النفسي والمعنوي من أشخاص أكثر مما تع ّرضت للعنصرية ،لكنني من المحظوظين
القالئل ،وبرأيي هذا السؤال جوابه بديهي في دولة وزير
خارجيتها جبران باسيل يحمل راية الخطاب العنصري ليرميه منبر يقدم له». على أي ٍ
جملة هاني السواح األخيرة كفيلة لتوضح الفرق بين
ً مناخا ولكن هل تعتبر أن بيروت أعطتك شي ًئا إيجابيًّا ،أو
احتواء الشعب اللبناني ومثقفيه للسوريين ،وبين السياسة
يجيب السواح الوسيم والهادئ« :طبعً ا ،إيجابيات الوجود
الشخصي .لكن بيروت تبقى هنا بالقرب من الشام لتقول :ال
ما لتنتج ألبومً ا ،وتشارك في إنتاجات وأغنيات راب مع غيرك؟
في بيروت هي المساحة التي تمنحها للذين يريدون أن يكونوا منتجين وأن يعملوا بجدية» .من ناحية ،هل يشعر بالحزن
أو بعض السياسيين الذين يستغلون أي قضية لصالحهم للعنصرية ،ونعم للحرية وللعودة إلى البلد األم الذي قد يبدو مشهده ً أيضا صعبًا وبعيدً ا ،إنما نحن محكومون باألمل.
ملف العدد
الرقة..
جنازة مؤجلةعلى ضفاف الفرات
ٌ َ َ َ النعش ،بل قوم فيها يحملون جنازة ،ال الفرات مثل أمواج تسري ببطءٍ ِ ٌ ُ ٌ وأموات ً في النعش أحياءٌ والنعش معا ،أكفانهم سودا ُء كالحة كإعتام الدجى
رحب علواني كاتبة سورية
50
ٌ ٌ بحجم مدينةٍ ٌ ْ بثقل برم نعش السحاب. متن طيف على يجري سابحً ا وكأنه ِ ِ ِ ُ َ َ ْ المكلوم عصرًا ،يستبيحُ الفائت َ َ نسي يوقظه الم يعص ُر قلبك حمولتهَ ..مرآه ِ َّ َ ُ أوتار ُ ْ ٌ ناي يستغيث رأس بالغياب .في النعش المسجّ ى فوق ويخطو ِ ِ بصوت ٍ يستفيق الدفُّ ُ ُ عميق نوم أشباههِ ، مختنق ،يرنو إلى ِ ٍ يستنهض األنغام من ٍ ٌ تنتحب ،تتوسلُ ٌ ُ ْ ظبي يضرب ال صدى يأتي وال لحن يجيب ..وربابة من جلدِ ٍ َ َ القوس الضري َر لينفض الحزن المغشى من غبار الوقت أو ليعانق األوتار
َ والصوت الغريب. ٌ ٌ الليل يا َ َ ْ الفرات أال ليل ترنيمة بدوية ثكلى تناجي استجب! جس ُر الرشيدِ ِ سكران معقوفَ هناك في أقصى اليسار ّ ُّ ّ َ تقطعت أوصاله و«الزل» يغفو تحته ِ ّ ً وحيدا أقدام فتيّة ..يبدو ضرب المعكر تحته من النهاية ينحني ليغازل الماء ِ ٍ َ الجناة الجاثمين على السرب الحزين كأنه لم يدر أن الموت قد ترك خارج ِ ّ َ واغتصب الضحيّة. الحق صدور ِ
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
ٌ في مركز النعش ُ ْ الزمن ..إذ أدركت أن الوجوه تبدلت وغزاة هذي ساعة قد أعلنت إضرابها عن رصد دقات المسجّ ى ً ً َ ّ معاندة جحافل حقدهم، قلب ساحتها وبنت ُه، األرض قد جمعوا ليغتالوا الفرات مختارة وجه السماء كشاهدٍ فتسمرت في ِ
يأبى الرضوخ لسلطة السيف الملطخ بالدماء. ُ َ وأنا هنا وحدي على ذاتي أصلي يا أبي ..فجنازتي ال َ ملح وماء.. إنس فيها ،مثل نعش مدينتي ،والصورة اكتملت بال ٍ ٌ ّ العمر َ َ قبل والد ٍة وهميّةِ األطوار واألبعا ِد سنين ضربت ها وكأن ٍ، ة قصيد بألف شيخوخة تجتاحُ عشريني ًّة في حجر ٍة حُ بلى ِ ِ َ ضرب لي ترانيم ّ ُ باب هذي ّ ُ يطرق َ ُ ار والعتم الشقاء وال كمنجة ههنا.. لصاحبها سوى َشرَف الهويّة! ال ُعو َد َي لم تمنح ِ الد ِ ُ َ ْ ّ ٌ ّ ُ ُ وأجمع سائ َر طب الغبيّة .وأنا أر ّبي وحدتي وحدي برسائل الن الجبين كأنه ساعي بريدٍ مثقل مخسوف ِ كبات واآلهات والخ ِ ِ ِ مترين من سجّ اد ٍة منقوشةٍ باألحمر القاني ُت ّ ُ بحفل ذكرني وأصارع الشكوى على متكامل، كامل الخيبات في جيبي ببط ٍء ِ ِ ٍ ٍ ٍ راقص أو بركةٍ لدماء طفل لم ينله من الحكايةِ ِّ دور ّ ٌ الضحية. سوى ر دو ها كل ٍ ِ ٍ ً َ ُ ُ ُ الضيق الموبوء الفضاء هذا على تضفي سيرة ك ة الحيا ريح من نبتاع أبي يا وطيفي وأنا النافذة! خلف العتم ِ ِ ِ ْ دعائك! بالمعنى قليلاً من ُ ُ ألب يغاد ُر باكرًا األركان متآلف كبياضها ﻻ شيءَ في هذي البال ِد يهزني ،فسوا ُدها ِ أضيق من رثا ِء قصيد ٍة ٍ ِ َ َ األحزان يرويهاّ ، ُ يطو ُعها ير ّبيها ،فينسج من أغانيها كتا ًبا مدرسيًّا. يطرب قبل الثالثين الطريّة .ال شيء حولي َ ً ّ ّ ويلمع ّ اعات الس األسفلت مبتكرًا طالءً من رنين الحنجرة، ويرم ُم بائعا متجولاً يغزو الصباحَ بصوته ال ِ الظمآن ماءً من دعاءٍ أو تحيّة! ال شيء يشبه بلدتي ال زينةُ ّ ً َ َ مبتسما ويسقي ظلها والجدران والعتبات ِ المرور وال الحروف األبجدية.. الجدران تشبهها وال جهة ِ ِ َ عنيدا ً ً ُ ّ َ بالجو أو بحوادث ليس بـآبه والوقت ثابتا منتظ ًما الساعات عقارب حول الكون يدور فهنا ِ ِ ِّ الشق البعيد من الخريطة.. البحر في وراء ما ة الصغير ببغداد حدثت الطرقات أو بجريمةٍ عبثيّةٍ ِ ِ ِ ُّ َ َ للحاضر للتحوير للماضي وال للتبرير للتفكير وقت الخطوط المسبقة! ال الكل يجري ههنا وفق ِ ِ ِ ِ ِ ُ تربكه وتغزو َن َ ظمه أو يستبيح الوقت طائرات فوق هذا أو األمور الثانوية! ال ِ ٍ القاصي وال للطارئات ِ َ َ الص ُ ثقب ّ َ األخيرة في خبايا فقاعة الصبر راخ ي صب ذراع على المستريح الرضيع هديرها وسن ّةٍ ِ ِ َ أضغاث الرؤى في المسرحيّة. وسط صدرها فاهتزت الذكرى أمام عيونِها سكرى وتاهت ِ
51
النعش يجري يا أبي.. ُفات ّ أرجوك أسرع!ْ َ ور ُ َ فلتمسك الوقت المرير بقبضتك، رقتنا هناك تصارع الموت اللعين.. ِ ُ ساهمات.. فالمساجد موحشات ..والمآذن ِ ً أكوام التراب بال صالة؟ بعيدا تحت هل ُتدفن الذكرى ِ
ملف العدد
تقارير
السفارة السعودية تعود إلى بغداد بعد ربع قرن
مثقفون عراقيون يرون الثقافة جس ًرا بين البلدين صفاء ذياب بغداد
كان عام 1990م بداية إنهاء تاريخ طويل من العالقات العراقية السعودية ،ذلك العام الذي شهد حقيقي في الدولة العراقية وتاريخها ،وصولاً إلى مرحلة دخول القوات األميركية بداية انهيار ّ
بغداد وانهيار الدولة بالكامل .خمسة وعشرون ً عاما من دون أي عالقات دبلوماسية .وعلى
الدبلوماسي لم الرغم من عودة العالقة بين العراق والسعودية عام 2004م ،فإن أطر التمثيل ّ تكتمل إال وعام 2015م على أبواب الرحيل ،وهو ما أ َّدى إلى فتح باب جديد من التصريحات وردود
52
األفعال الدبلوماسية وغير الدبلوماسية في الوقت نفسه.
إذا كانت السياسية سببًا لالختالف والشقاق ،فإن هناك توافقا ثقافيًّا كبي ًرا بين ّ ً مثقفي البلدين ،حتى إن مجموعة من المثقفين العراقيين قد دُعوا إلى زيارة الرياض ،وتقديم فعاليات
ثقافية أكثر من م َّرة.
الثقافي ربما هو الوحيد القادر على ردم الهوَّة الشأن ّ السياسية .فالثقافة من شأنها تغيير وجهات النظر ،أو البحث
عن بدائل جديدة تعمق تلك العالقات .بعض المثقفين واألدباء العراقيين كانوا متخوّفين من الخوض في الحديث عن هذه العالقات ،وبعضهم اآلخر يرى فيها ً أفقا آخر لحفظ حياة
العراقيين ،وإعادة بناء مُ دُ نه بالمحبَّة والتسامح.
الباحث واألكاديمي ناصر الحجاج ،يقول :إن العراق بلد
منهار ،و«بنظرة عاجلة نرى أن أقرب وأقدر الجيران المؤهلين ُ المملكة العربية السعودية»، لإلسهام في إعادة بناء العراق
ويأمل الحجاج أنه كما أسهمت المملكة في دعم خالص
العراقيين من الديكتاتورية «أن تسهم خطوة فتح سفارة المملكة في العراق؛ في إعادة المياه إلى الروافد الثقافية والعلمية والتاريخية بين البلدين ،فالعراق اليوم في حاجة إلى
االستفادة من الخبرات السعودية في مجاالت البناء الحضاريّ والعمراني ،في ّ ظل انهيار المنظومة التعليمية والتربوية فيه، ّ
فالجامعات العراقية تحتاج إلى مراكز أبحاث رصينة؛ مثل: مركز الملك فيصل لألبحاث الذي أسهم ،ال في رفع مستوى
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
االجتماعي ،بل في تطوير قطاعات اإلنتاج ،وخدمة الوعي ّ االقتصاد السعوديّ بشكل كامل». ويرى الحجاج أن العالقة العراقية السعودية «ال يمكن
الدبلوماسي، أن تختزل في بروتوكول زيارات متبادلة للسلك ّ الثقافي الذي يسهم في بناء هويتنا العربية إنما بفتح األفق ّ والمعرفي العلمي المشتركة ،وهذا في جوهره رهين التبادل ّ ّ واإلنساني الذي نرجو من هذه الخطوة أن تسهم في تأسيسه؛ ّ ّ من أجل خير الشعبين الشقيقين ،فالتحديات الكبرى تتطلب
قرارات كبرى».
من جانبه يبيّن الناقد علي حسن الفواز أن مواجهة ّ ّ وتتطلب تتطلب دائمً ا مسؤولية وشجاعة، التحديات القومية رؤية واضحة لما يجري ،وإنّ رأب الصدع بين أبناء األمة هو
الخطوة الفاعلة التي يجب التأسيس عليها؛ ألن حجم األخطار
التي تواجهنا جميعً ا تستدعي وعيًا ومراجعة وقرارات باسلة.
ويرى الفواز أن إعادة فتح السفارة السعودية في بغداد «هو األفق الذي ينبغي له أن يع ّزز مسار هذه المواجهة ،ويعمّ ق أُ ُطر العالقات بين البلدين والشعبين ،ليس على المستوى الثقافي الذي يعني تقريب السياسي فقط ،إنما على المستوى ّ ّ وجهات النظر لصناعة رأي عامّ مشترك ،في اتجاه توسيع آفاق
والضرار» التي يحاول بعض العناصر زرعها في حياتنا» ،ويشير
إلى أن الرهان على المستقبل هو األكثر جدوى ،و«تعميق مسار
الحوار بكل مستوياته هو األكثر حميمية في التعبير عن المصالح
والخيارات المشتركة ،وبخاصة أن أمتنا تواجه اليوم أخطارًا مرعبة ُتشيعها الجماعات اإلرهابية ،ونزعات العنف والكراهية، وعصبيات الفتن الطائفية المقيتة». اإلحساس بخطر الجهل
يشير الباحث الدكتور عمار أحمد ،إلى «أن ما يعنينا ،نحن المثقفين ،من فتح السفارة السعودية في العراق هو ملحقي ُتها
الثقافية؛ إذ ال شأن لنا بالدبلوماسية والسياسة والتفاصيل األخرى التي يُعنى بها آخرون» ،ويضيف أحمد قائلاً « :لطالما
السياسي الثقافة عبر تاريخ طويل ،وكانت ثقافة الباحثين وجّ ه ّ الهبات والمِ َنح هي السائدة ،أو الثقافة المادحة المنحازة إلى عن ِ ُ ً فئة ...فإن بإمكان الملحقية في السفارة ،مدفوعة بنوايا األخوَّة
والجوار واإلحساس بخطر الجهل المستشري ،أن تقوم بفعل الثقافي ثقافي يسهم في ثورة حقيقية ،باالنفتاح على المشهد ّ ّ الحقيقي :موسيقا ،وأدب ،وسينما ،ومسرح ،بكل العراقي ّ ّ
حقيقية وواقعية للتفاعل والشراكة ،بعيدً ا من مكاره «الضرر
القصيدة العراقية حطام ناي مخبوء في غابات األرز! ٍ
53 عبدالله الزيد شاعر سعودي
قال ناقد يومً ا :أحْ ِي َي الشعر العربي الحديث في مصر .لكنه عاش في العراق .هكذا نلقاه حينما نستعرضه منذ ثالثينيات
القرن الماضي .قائمة طويلة من الشعراء .كتبوا .حاكوا .طوّروا .ثم ّ أصلوا لقصيدة التفعيلة التي يجمع كثيرون على أنها أكثر ّ محاوالت العرب في التوفيق بين المعنى ،أو ما يعرف اصطالحً ا بالمضمون ،وبين اإليقاع الشعري ،الذي ظل في تاريخ
ً القصيدة العربية «المعجزة التي لم يؤمن بها أحد» تتطور حوله القصيدة ً وحدثا وهويّة من دون أن تمسه حتى جاءت لغة ّ ليتولى بدر شاكر السياب مؤونة اإلقناع نازك المالئكة ،تلك الفتاة العراقية الجامحة ،وكسرت عمود الشعر العربي القديم؛ به في الشارع العربي الذي فوجئ بقصيدة عذبة ،تستمد رؤاها من إيقاعها.
هذا الملمح الثقافي اإلبداعي يجعلنا نقف مع واقعنا الثقافي الذي يعد الشعر «ذاكرتنا فيه» مع ذلك الماضي العريق
الذي تقبع جذوره منذ القدم في أرض «السواد» كما سمّ اها العرب حيث دار الحكمة واالنفتاح األكبر في تاريخ الحضارة
العربية على علوم وثقافات اآلخرين. ً إذا نحن أمام خارطة ثقافية بطبعها؛ تاريخها الضوء ،وحاضرها انتشاره .لكنها تف ّردت دائمً ا بقراءتها الصادقة للواقع، ّ فكوّنت دائمً ا مرايا للحياة فيها .لهذا شكلت نكباتها السياسية المتتابعة هوية الحزن الذي يالمس القلب دائمً ا .سواء جاء
على هيئة قصيدة أو أغنية أو رواية ،وهو حزنٌ ال نغادره شج ًنا ،وال نهمله هروبًا ،وال نقنط منه نفورًا .إنه ذلك البعد الوجودي
الذي يبحث عن الجمال تحت حطام القبح ويكتفي به ،بل ويصدّ ره لنا ثقافة المست الخلود دائمً ا ...كثيرة هي األسماء التي في وفي اآلخرين ً أيضا :علي الوردي فتح اآلفاق الفكرية أمامي .السياب أخبرني عن دهشة القصيدة .وسنان أنطوان أثرت ّ أخبرني عن كيف تتألم الرواية وهي ُتك َتب في أحضان المنفى.
تقارير
جماليات تشكلها ،وبكل محموالتها من النشاط التنويريّ ،بهذا الفعل نستطيع ردم الفجوة السوداء التي ت ّتسع بحكم هيمنة (الجهل العام والتجهيل المتعمد) ،وهي فرصة الملحقية في ّ السفارة؛ لتبسط في األرض العراقية منجز المثقف السعوديّ
بعيدً ا من صورته النمطية التي ترسّ خت عبر عقودُّ ، وكلنا يعرف ّ يمت أن سبب الترسيخ لم يكن ثقاف ًّيا ،بل كان غير ذلك بما ال
بصلة إلى ثقافة التقارب ،واإلحساس بجمال الحياة ،وتقديم العربي كما يجب أن تقدم». صورة ّ
الثقافي من وجهة نظر الكاتب في حين يكون التواصل ّ أساسي في مستوى ّ تلقي اآلخر «فعل الدكتور أحمد الظفيري ّ وفهمه ،فالثقافة هي المرآة التي تعكس التفكير والسلوك،
وعلى الرغم من أن العراق والسعودية متجاوران ،لكن القطيعة الطويلة في العالقات الدبلوماسية َّ ولدت حاج ًزا فكر ّيًا وثقاف ًّيا،
خالص العراقيين من الديكتاتورية، نأمل أن تسهم خطوة فتح سفارة المملكة في العراق في إعادة المياه إلى الروافد الثقافية والعلمية والتاريخية بين البلدين األهم الذي يمكن من خالله خلق تقارب فكريّ بين العراق والسعودية ،ويمكن من خالله إيجاد مشتركات ثقافية تكون ً الثقافي مستقبلي ،وسبيلاً إلى ممارسة العمل منطلقا لتعايش ّ ّ والفني الذي ّ الطائفي بين البلدين». يخفف الفعل ّ ّ
سواء على مستوى اإلفادة من اآلخر أو فهمه» .ويضيف أن
الخطوة بدأت بفتح السفارة السعودية في بغداد ،غير أن
مشوشة عند الطرفين؛ ألنها حملت في أثناء هذه المدة صورة
جعل هذه السفارة ،ومثيلتها في الرياض ،جس ًرا حقيقيًا بين
هذه المدة الطويلة من القطيعة بين البلدين «جعلت الصورة
عدائية فقط ،وال بدَّ من تغييرها من أجل مستقبل آمن للمنطقة
عامة».
54
كما أسهمت السعودية في دعم
التساؤل األهم :ماذا بعد هذه الخطوة؟ وكيف يمكن العمل على
البلدين.
الثقافي «هو الجسر ويوضح الظفيري أن التواصل ّ
أصول عبقرية نهضت باإلبداع العربي
إبراهيم الوافي شاعر سعودي
أستطيع القول :إن الفن العراقي بأنواعه كافة؛ من موسيقا ،وشعر ،ورواية ،كان أصلاً عظيمً ا من األصول العبقرية التي
نهضت بالذائقة واإلبداع في الوطن العربي ،ولم أكن ً بدعا وال استثناء في ذلك ..فمنذ بداية تشكيل الموهبة الفنية والرسم
بالكلمات لدي ،كان الفن العراقي بأنواعه من موسيقا وشعر ورواية يسهم بشكل فاتن في تكوين عالم الفن واإلفصاح.. وألني ُخلقت من وهج الشعرية وما يتصل بها ،فسأتحدث بخاصة عن تأثير الموسيقا والشعرية العراقية في ذائقتي الفنية
والشعرية .فمما تركه الموسيقار محمد القبانجي وناظم الغزالي مرورًا بفن فاضل عواد ،وحضيري أبو عزيز ،إلى أنوار عبدالوهاب كنت أتشكل فنيًّا ويرتفع لدي المثل في اإليقاع ورتم الزمن.
وفي المسألة الشعرية ،تمثلت تجربة السياب والبياتي ونازك المالئكة وسامي مهدي في ترجمة المضامين ،وموسيقا
القصيدة ،وطريقة األداء ،والمونولوج الداخلي ،والحوار ،وتنويع األصوات ،وتوظيف األسطورة ،والثراء المسرحي في
النص الشعري ..كل ذلك في عالم تتحول فيه المعلومة إلى موهبة ،ورسم التجربة إلى تلقائية آسرة .طبعً ا تم ذلك بوعي
وتفرد وخلق شخصية فنية شعرية مستقلة بعيدً ا مما قد يؤدي إليه مثل هذا التماهي والتمازج والتمثل من الموت والفناء في األنموذج بشكل عدمي محزن .ومن المظاهر الواضحة لتأثير الفن العراقي ،وبخاصة الموّال في تجربتي الشعرية هذه
الخصائص :طول الجملة الشعرية .طول العناوين .طول النص الشعري .وتلك أشياء ال يمكن ألي محلل أو ناقد أن يتجاوزها.
وفي المضامين سيتبين بشكل ال يحتاج إلى دليل أن التجارب الحزينة والتراجيديا هي الخيط الذي ينتظم نصوص مجموعاتي!
وأود أن أشير إلى قصيدة طويلة نشرتها في ديوان مستقل بعنوان« :توثيق عهد بانتصار من أجل تاج األنبياء» ،اعترضت فيها على تردي سعدي يوسف شعريًّا وموضوعيًّا ولغة واهتمامً ا .هذه القصيدة تسجل بجالء خالصة انتمائي الفني والشعري
للتجربة العراقية.
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
نصوص
الرشيد سليم ُّ عبدالله بن ُ
للسؤال جدار
شاعر سعودي
ُ َ َ َ التحطيم والتفتيتا ـب ُتوالي قلت :إن الجمال ِمطرقة القل ِ َ ُ جلده عفريتا يلوح لكم ظبـيًا ويخفي في قلت :إن الهوى ِ
َ َ ُ ُ السراب الشتيتا تستدرج لألرواح تكاذيب قلت :إن المنى ِ
ً َ ُ يقنع الكبريتا؟ النار ،ولكن من جديد في سير ِة حسنا! ال ِ
55
الهرب من الميالد ُ بعيد صوت روحِ ه من جاءه ٍ ّ فتدلى
ُ الخيال
له
طيو ًرا
ُ َ النبض يسقي يسابق وتهادى ُ ّ الحقيقة َم ْ س ًخا فتجلت له *
*
*
َ األحالم في ُعهد ِة الشو بعض أ ْب ِق ِ
ُ أهون من أن اآلمال فانتظا ُر ِ
ّ وتمطى
عليه
ٌ شوق
َّ مفو ْه
َّ ُ الم َم َّو ْه الزمان خد الثمات ٍ ِ َ ً الغد ُك َّو ْه فاتحا إلى وقته ِ
َ ً قابعا ُق َ رب ُه ّو ْه العين أزرق ِ ِق،
*
وداع ْ ب ِ
*
*
َ أطيافها
َّ وتأو ْه
ُ ْ َ َ َّ المشو ْه ديج يولد الحل ُم كالخ ِ
تقارير
المثقفون اليمنيون في ظل الحرب من تسويق الموت كمنتج تحت مسمى الشهادة إلى «الهروب الجميل» جمال حسن روائي وصحافي يمني -صنعاء
ً واحدا في صورة المثقف ،إنها أشبه ببورتريه ممزق المالمح ومحطم كما ال تترك الحرب نسيجً ا
في لوحات بيكاسو .وبالنسبة للمثقف في اليمن ،كما يقول الكاتب والفنان التشكيلي نبيل قاسم ،ال ً دوما خاسر« .الحرب هي ذلك السعار الملعون يربح سواء كان البلد في حالة حرب أو حالة سلم ،هو
56
الذي يدفع نصف اآلدميين إلى إرسال النصف اآلخر للسلخانة» ،يقول الروائي الفرنسي سيلين .وفي تلك أحيانا يصبح ً ً بوقا تحريضيًّا .ومع أن الحرب حالة يأس جماعي ،مأساة الثنائيات المميتة ال ينجو المثقف.
ً وحيدا في ظالم شاحب ،وهو يرتدي قناع صرخة مكتومة ً هلعا .وفي الطرف الكل ،هناك صورة إنسان يقف اآلخر حيث الساحات الخربة ،أو األزقة التي ال تبلغها الشمس ،يصبح القناع ساخرًا ،في نسخة هوليودية
لقاتل عابث .النقطة المشتركة في تضاد :هزلية سوداء .ومع ارتفاع وطأة الحرب ،هناك من أعاد النظر في ذاته ،أو انساق في مفرمة قلق وحشي .هكذا يروي المثقفون اليمنيون بصور مختلفة ،انعكاسها عليهم.
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
فعالية ثقافية بصنعاء
يقول نبيل قاسم« :خالل فترة الحرب زادت مساحة الظالم، ً أوراقا بيضاء عادية وزادت مساحة الخوف ،وجدت بالصدفة
مدني ،ثم عادت تدريجيًّا .وبصورة استشرافية تحدث نبيل :لم
رسمت أكثر من 200لوحة ،لنقل إنها بلغة الفن إسكتشات» .يلفت
مع توقف العمل الخاص ،ركز الشاعر محمد الشميري
ً ألوانا خشبية وقلم رصاص ،وبدأت اللعب. بحجم ،A4وجدت المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه إلى العالقة الوثيقة بين الفن
والخوف؛ إذ إن الرسم والنحت تولدا كسعي ثابت ضد الموت .فن الصورة من أجل تخليد سمات زائلة .قرأ نبيل العديد من الكتب
الحرب توقفت األنشطة الثقافية التابعة لمؤسسات مجتمع نعترف بالموت ،وكنا نصر بأن الحياة تنتصر بعد كل حرب.
اهتمامه بالتجمعات الثقافية في الحديدة؛ حيث قام وآخرون بتفعيل دور نادي القراءة ،من أجل تنويع فعالياته أدب ًّيا وفنيًّا.
يقول :إنه مع زيادة وقت الفراغ صار يقضي ساعات كثيرة في
والروايات .وكتب أشياء كثيرة لن يعرف كيف سيصنفها .إال أن الحرب من وجهة نظره ،جعلتنا ً أيضا نعرف «كثي ًرا من المثقفين
كبيرة كان سببها مثقفين ،أو من كان يعتبرهم كذلك ،حين
باسم الدفاع عن الوطن» .لقد التقى القبلي ،بالمناطقي،
هل يمكن إزالة صفة المثقف نتيجة سقوطه المدوي سياسيًّا.
ً أحيانا ظهروا عبر مواقفهم السياسية مؤيدين للحروب والقتل،
بالديني ...،وهذا شيء جعله ينأى بنفسه بعيدً ا .وأضاف :لم تكن هناك في السابق حياة ثقافية لنخسرها بالحرب .لم تكن هناك مسارح أو دور سينما ل ُتغلق .يتعلق األثر السيئ بالحياة اليومية
القراءة ،أو متابعة ما يُكتب هنا وهناك .يقول محمد :إن صدمة تحولوا فجأة إلى أدوات حرب دقيقة أقسى من القناصة .لكن ماذا عن الفيلسوف األلماني هيدغر ،الذي انساق في مناصرة النازية وآلة قمعها القائمة على وهم التفوق العرقي الجرماني.
بالنسبة للشميري أخذت الحرب منحيين في أثرها على المثقفين
للناس التي ُكسرت برأيه ،أطفال اختنقت ألعابهم وضحكاتهم.
اليمنيين؛ األول سلبي وتمثل بمثقفين سوّقوا الموت كمنتج
عاديًا ،أن نرى األطفال يُستخدمون كأدوات للقتل.
الجوانب الفكرية والجمالية ،وأعادوا النظر في إنتاجاتهم ،وهو ما اعتبره ً نوعا جميلاً من الهروب.
ظهور هذا العدد من القتلة حين يصبح الحديث عن القتل أم ًرا
انتصار الحياة بعد كل حرب
الجميع تضرر ماليًّا واقتصاديًّا بمن فيهم المثقف ،ال يوجد
تحت مسمى الشهادة .واآلخر إيجابي ،وهم بنظره قلة ركزوا في
إال أن أكثر شيء يرعبه هو تصاعد نظرة سلبية تجاه
المثقفين ،حتى بين المثقفين أنفسهم .وأشار محمد إلى نبرة
رابح سوى تجار الحروب .أما الثقافة في نظر نبيل فهي الطريق ً مثقفا عليك أن تكون المعبد للخسران في اليمن .لكن حتى تكون
حالة كفر تضرب المجتمع بدور الثقافة ،اعتبرها كارثة عميقة
من خالل منتدى التبادل المعرفي برنامجً ا كل سبت ،عبارة عن
ً تسرعا ،وأكثر على األقل انخفض مستوى األمل لديه .صار أقل
عنيدً ا .ينشط نبيل مع مؤسسة بيسمنت الثقافية ،التي تقدم
ندوات ،ومحاضرات ،وحفالت موسيقية ،ومعارض فنية .بداية
بدأت تعلو بين الناس :انظروا ماذا يفعل المثقفون .هناك في الوعي الجمعي .أما عن نظرته لألمور فيؤكد أنها تغيرت،
توقعً ا للخيبات .كانت اللحظة األكثر إيالمً ا ،عندما نزح أقارب له
57
تقارير
من الموت في تعز ،إلى منزلهم في الحديدة .يقول :إنه حين ارتدى ابنه ثياب المدرسة وحمل حقيبته ،لمح طفلاً بينهم يبكي بحرقة .سأله عن السبب .رد بحرقة :ليش أنا مش قادر أروح مدرستي بتعز؟ ما زال الشميري منشغلاً عما بعد الحرب،
وآثارها العميقة.
إحساس قوي بالخراب
بصورة أخرى يتحدث الكاتب والصحفي لطف الصراري
حول كلفة ال تقتصر على القتلى والدمار ،إنما تداعيات نفسية
الصراعات ،يهدد الثقافي بعواقب أسوأ
صراخ أطفاله إثر تجارب الخوف ،وال آخرها أحذيتهم الممزقة وألعابهم الحربية .تجربة الحرب ً أيضا تختلف بالنسبة ألولئك
الذين عاشوا ظروفها الدامية وسط المدن».
يصف الكاتب نشوان العثماني ،وهو مراسل لـ«مونت كارلو»
سيدفعها جيالن على األقل في اليمن .أما أكبر أثر على المثقف
في عدن ،كيف أحاطتهم الحرب من كل ناحية في عدن .ونتيجة
إحساس قوي بالالجدوى والخراب يعمه وهو يراوح بين الرجاء
أما القات فلم ينقطع عدا أيام قليلة .تضاعفت أسعار المواد
على عقب خالل الحرب ،بعد توقف الصحيفة التي كان يعمل
الغاز .شاهد الموت حيث سقطت صواريخ كاتيوشا وقذائف
يقول :إنها «تدفعه إما إلى تجزئة ضميره أو إلى الجنون».
واليأس .على الصعيد الشخصي تبدلت حياة الصراري رأسً ا
بها ،وتوقف معظم الصحف األهلية العام الفائت .إال أن الحرب
ولدت لديه دافعً ا إلعادة النظر في كثير من مفاهيم الحياة .وفي المحيط السوداوي وجد وق ًتا للكتابة ،وللقراءة.
القلق زاد إدمانه على مضغ القات .كانت المواد الغذائية تنعدم، الغذائية ،لحظات مشحونة بالرعب والمأساة .انعدمت أنابيب
جواره؛ لتقتل أبرياء في حيه.
عاش لحظات فاقدً ا األمل ،وحاول التماسك ،مستعي ًنا
بالروايات؛ ليستدين منها عوالم متخيلة .وبينما كان ينسى ما
حفزت مأساوية الحرب أفكارًا كثيرة لدى
حوله داخل رواية ،تعيده أصوات قذائف أو صواريخ إلى الواقع المرير .لم يقرأ شي ًئا آخر سوى الروايات وكتب أوشو والفلسفة
ناحية ،ومخاتلة مخاوف الموت وإغراءات
توحش الناس ،وفقدان قيم المحبة والتسامح .سأل أصدقاء
الصراري .يقول :إن «بعضها ينضج ومعظمها
58
دخول الحرب حلقة مفرغة من توالد
يتفتت نتيجة الهم اليومي للمعيشة من الحياة من ناحية أخرى» .مع هذا تمكن من إصدار مجموعة قصصية شغلت الحرب معظم نصوصها .بالنسبة له ً سابقا، حياتنا لن تعود كما كانت ومنطلقات الكتابة وموضوعاتها لن تكون هي نفسها .ويضيف« :هذا يشغلني كثي ًرا بقدر ما تشغلني
أمنيات السالم» .فذاكرة الحرب
تترك الكثير من الندوب ،ليس أولها
البوذية .كان يبحث عن السالم الداخلي؛ ألن أكثر ما يخيفه هو له في الهند ومصر وسوريا :كيف يستطيع اإلنسان أن يعيش ً محافظا على سالمه الداخلي ُ وعرا المحبة؟ في الحروب ويظل
يرى نشوان أن أحلك الليالي قد تبشر بصباح ندي .فهل سيأتي
هذا الصباح على اليمن ،أو سينتج عنه وطن على طريق األفغنة ً أو الصوملة؟ ال تتساوى اآلمال .لكنّ نشوانا يحلم بأن يستيقظ
الوعي في فترة بهذا اإلظالم .فإن أحلك الليالي قد تبشر بصباح ندي .كان شعاري في الحرب وال يزال :لن َر ما يكتبه الله وكل ما
يكتبه الله جميل .لكن الجانب األكثر قسوة ،بالنسبة للثقافة برمتها ،هو صورة المثقف المعرضة للتنكيل في المخيلة العامة لليمنيين .تتشكل في الوعي الجمعي ،أحكام سلبية ستساهم في
ارتفاع الفكر األصولي ،واتساع رقعة العنف.
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
نصوص
الحياة ليست صديقة للجميع
فاطمة محسن كاتبة سعودية
منزلي كلما اضطرت لديها جدا ٌر أثير تسحبه خلفها ككلب ّ
إلى الخروج .تحب لعزلتها أن تكون ثابتة ،صارمة ،وال مجال
لتخطيها .تقيس المسافات بعناصر التجهّم األولية؛ بعدد
الم ّرات التي ّ كشرت فيها ،والتي زمّ ت شفتيها فيها ،والتي
أرسلت فيها بصرها بنظرة معدنية ثابتة على نقطة وهمية في
الفراغ .تفزع من كلمة «مرحبًا»؛ ألن لها جدار مهابة قصي ًرا
يمكن القفز فوقه بسهولة ،وتخشى الضلوع في مشاهد الحياة فقدت منطقيتها كأن هناك مَ ن جمع ّ ْ كل الكلمات اليومية التي المطموسة في المسوّدات وألقى بها وسط الحوار ،وتخشى ّ ً التعثر في خيوط الكالم ،والنظرات الملفوفة بين أيضا-الناس .داخل كل هذا الصخب ،هي كالليل الذي مهما غمرناه ً هادئا ينجز فكرته. بالمصابيح ،يبقى تكتفي حياتها بوحداتها الصغيرة ،وبهيكلها الخالي من
الزوائد .هذه الصيغة األولية للحياة تبدأ دائمً ا من حيث بدَ ْ أت .وعلى عكس المعتاد ،تؤمن بأنـه عندما تتسع
الحـياة ،يضيق النفس؛ لذلك تعيش الحياة بمفهوم
الشذرة؛ أي خوض تجربة يتيمة موجزة ذاتية مضغوطة
وبال طموح ،وتنتهي بحكمة كما لو كانت مرحلة طويلة
وغنية مـن التـعـاطي مـع وضع أو شخص .ثـمّ ترتب هذه
الخالصات (الحياتية) فيما يشبه دليل المستخدم لشدّ ة
إيمانها بفاعليتها ودقتها.
تنس عبارة مفزعة لصديقتها: بقيت وحيدة دائمً ا؛ ألنها لم َ
أن تكوني أمّ ا ،أن يقدر أصغر أمر على إخافتك .الصديقة التي
سألتها م ّرة لمَ لم تسمعها قط تشتكي من سوء يومها ،فردّت بأنها ال تحب عبارة ّ «أف ..هذا يوم سيّئ»؛ ألنها تفترض أن بقية األيام ليست كذلك .عندما يزورها الحظ في لحظات
نادرة ال تكون مستعدة ،وتركله حتى تصادفه في يوم آخر .وتعتقد أنه في النهاية ليس سي ًئا أن يكون أليامك نفس القافية.
تجهز جملتها األخيرة ،جملة قصيرة ونافذة؛
ألن هذا العالم المتروك كنسخة تجريبية تعمل في الكون بال أي محاولة لتفادي األخطاء ،يقودنا َ الحافة ،حيث لن يتبقى لدينا هناك وقت كثير إلى
للكالم.
59
دراسات
60
مناهج الحداثة والتراث العربي
العرب نقلة ال مبتكرون إن تحوالت الواقع الثقافي العربي ما هي إال صدى لتحوالت الثقافة الغربية ،لكن –بالضرورة– هناك مفارقة بين التحوالت التي تجري في الواقع العربي ،والتحوالت التي تجري في
الغرب؛ ذلك أن تحوالت الغرب رد فعل للتحول الحضاري والثقافي ،بينما التحوالت العربية مجرد نقل لتحوالت الغرب ،وربما يفسر لنا ذلك كيف أن مراحل التحول في العالم العربي لم تبدأ إال بعد انتهاء زمنها في الغرب ،وهو
ما يدعونا إلى متابعة المساحة الزمنية لهذه التحوالت هنا
وهناك؛ لتوثيق مقولة أننا كنا نقلة ال مبتكرين.
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
محمد عبدالمطلب ناقد مصري حائز جائزة الملك فيصل العالمية هذا العام
بدأت (الكالسيكية) في الغرب مع عصر النهضة –
القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميالديين ،واستمرت سيطرتها اإلبداعية والنقدية حتى قامت (الرومانتيكية) على
أنقاضها في القرن الثامن عشر ،واستمرت سيطرتها إلى
القرن التاسع عشر؛ إذ جاءت (الواقعية) في نهاية القرن،
واستمرت إلى أوائل القرن العشرين ،ومع بداية هذا القرن فرضت (الحداثة) حضورها إلى منتصف األربعينيات ،لتبدأ
مرحلة (ما بعد الحداثة) باسطة نفوذها إلى زمن التسعينيات من القرن العشرين؛ إذ في هذا الزمن ظهرت مرحلة طارئة مجاوزة ما سبقها من مراحل ،هي مرحلة( :بعد ما بعد الحداثة) التي استمرت حتى لحظة الحاضر.
النص صاحب الحق الشرعي في إنتاج وتبعا مواصفاته ،وتحديد شروطه، ً لذلك أوغلت النصية في السير في الطرق غير المعبدة ،والتعامل مع غير المعقول أو المنطقي ،يستوي في ذلك النص الشعري والنثري ناحية أخرى ،ثم خضع كل ذلك للشك في منجزات العلم الحديث التي أصبحت صاحبة السلطة في العالم الجديد،
أما في العالم العربي فقد بدأت (الكالسيكية) بعد
ومن هنا تعددت وجهات النظر ،ومال الوعي اإلنسانــي إلى
القرن العشرين ،ثم جاءت (الرومانتيكية) في عشرينيات
وصاحبت الحداثة كل هذه التحوالت وتوابعها التنفيذية
غيابها في الغرب ،أي في أخريات القرن التاسع عشر وأوائل القرن ،واستمرت سيطرتها اإلبداعية والنقدية حتى منتصف
األربعينيات ،لتتدخل (الواقعية) باسطة سيطرتها حتى بداية السبعينيات؛ إذ فرضت (الحداثة) حضورها إلى
بداية التسعينيات ،وتزاحمها في سلطتها مرحلة (ما بعد
الحداثة) التي ما زالت مسيطرة حتى لحظة الحاضر ،أي أن الواقع العربي لم يدخل بعد مرحلة (بعد ما بعد الحداثة).
(النسبية) ،وابتعد قدر اإلمكان عن (المطلق والكلي والعام). حتى وصلت إلى ما يمكن أن نســميه( :أزمة) داخل الحداثة بين الواقع بكل محموالته الفكرية والنفسية ،وبين التطلعات المستقبلية بكل خصوصيتها المأمولة ،وأخذت مالمح األزمة في الظهور في كثير من اإلحباط الذي سيطر
على (جيل 1968م) ،الذي رفض مجمل المواضعات الفنية
واألدبية التي صاحبتهما منذ أخريات القرن التاسع عشر.
وال بد أن نعي أن هذا التحديد الزمني هنا وهناك ،تحديد ً أحيانا ،كما أن كل مرحلة تقريبي؛ إذ إن المراحل تتداخل
قادمة ،هي( :م ــا ب ــعد الحداثــة)،)postmodernism( :
والمهم أن مجمل هذه التحوالت في الغرب كانت
األربعينيات من القرن العشرين ،واستمرت صاحبة السيادة
جاءت الكالسيكية مع عصر النهضة األوربية التي قامت
لظهور هذه المرحلة بظهور (التفكيكية) وتردُّد مقوالت
ً إرهاصا بالمرحلة القادمة. كانت تحمل
صدى للتحول الحضاري والثقافي –كما سبق أن ذكرت -إذ
على إحياء التراثين :اليوناني والروماني ،مع االحتكام للعقل المنطقي ،وفصل األجناس بخواصها الفارقة ،ثم
جاءت الرومانتيكية صدى للثورة الصناعية ،وإعالء الذات
الفردية ،واالحتكام للعاطفة ،ثم تبعتها الواقعية بوصفها
صدى للثورة العلمية وتوابعها الحضارية والثقافية؛ لكشف سلبيات الواقع.
* * *
لقد بدأت الحداثة ( )modernismفي الغرب مع نهاية
القرن التاسع عشر ،واستمر حضورها الفاعل حتى منتصف
األربعينيات تقريبًا ،وكانت بدايتها موازية لرفض الواقع الذي
وازاه إبداع يعتمد المحاكاة والمماثلة؛ ألن العقيدة الجمالية
ال شك أن هذه التحوالت كانت بمنزلة تمهيد لمرحلة
وكانت مالمح هذه المرحلة آخذة في التجلي منذ منتصف
الثقافية حتى زمن التسعينيات ،ويؤرخ بعض المختصين (دريدا) عن تجدد المعنى النصي مع كل قراءة ،بل نظر إلى
القراءة الجديدة بوصفها تفسي ًرا آخر للنص ،مع صعوبة الوصول إلى المعنى النهائي (الذي يحسن الوقوف عليه)
–كما يقول البالغيون العرب -وتبع ذلك فك االرتباط بين اللغة ومرجعها الخارجي والمعجمي ،ومن ثم ساد (الشك واالختالف واإلرجاء)؛ ليكون ذلك كله عالمة واضحة على
مرحلة ما بعد الحداثة.
ولم يكن النص بعيدً ا من هذه التحوالت ،التي الحقت
كثي ًرا من المقوالت التي تنتمي له ،والتي أخذت مكانة
شبه مقدسة تبعً ا لبعدها الزمني واإلبداعي ،وفي مقدمتها ً حقوقا قبله ،كما لم مقولة (المعنى)؛ إذ لم ي ُِعد للمتلقي ً شروطا ومواصفات (سابقة التجهيز)، يَعُ د النص يتقبل
الحداثية ترى أن لإلبداع عالمه الخاص ،وخصوصيته تكمن
فالنص صاحب الحق الشرعي في إنتاج مواصفاته ،وتحديد
الشؤم من ناحية ،وتفككت عناصر الواقع المركزية من
المفرغ دالليًّا ،والسير في الطرق غير المعبدة ،والتعامل
في تنافيه مع هذا الواقع ،ومع هذا التنافي ،ازدادت مالمح
شروطه ،وتبعً ا لذلك أوغلت النصية في التحليق في األفق
61
دراسات
مع غير المعقول أو المنطقي ،يستوي في ذلك النص الشعري والنثري.
ولم يكن السرد بعيدً ا من كل هذه التحوالت المتسارعة،
فقد اغتالت (الحداثة وما بعد الحداثة) كثي ًرا من خواصه
الفارقة؛ إذ غاب (الخط األفقي) الذي يحكم مسيرة السرد الحكائية ،وغاب الربط بين الوقائع واألحداث والشخوص
منطقيًّا وسببيًّا ،ولم تعد النتائج مرتبطة بمقدمات تحتمها؛ أي أن النصية وقفت على مسافة التحدي من الموروث النقدي،
وتبعً ا لذلك تعددت المسارات األفقية والرأسية ،وتعددت
الحكايات في النص الواحد وتداخل بعضها في بعض ،وهو ما مأل النص بالفراغات الزمنية والمكانية والحدثية.
ويجب اإلشارة إلى أن هذه التحوالت قادت الحداثة إلى
(أزمة) مهدت لتردد مجموعة من المصطلحات التي تكاد تربط بين الحداثة وما بعد الحداثة ،وهي المصطلحات
التي حددها الباحث األميركي (راؤول إيشلمان) وترجمتها
الباحثة (أماني أبو رحمة) :الحداثة العائدة – الحداثة الزائفة – الحداثة اآللية – الحداثة المغايرة – الحداثة الرقمية –
جاك دريدا
الحداثة الفائقة – الحداثة األدائية ،ويبدو أن المصطلح
األخير هو أقربها لمرحلة (بعد ما بعد الحداثة).
62
* * *
وافر من السخرية ،أي أنها أصبحت( :محاكاة ساخرة)،
ومعها دخل الزمن سيولة غيبت ثالثيته الخالدة( :الماضي –
إن المالحظ أن مرحلة الحداثة حرصت على إحداث نوع
الحاضر – اآلتي) ،ثم تدخلت (التفكيكية) ساعية إلى طمس
اإلنساني خالل الحربين العالميتين ،وهو انفالت سيطرت
من عمقها الزمني؛ مثل ثنائيات( :المحسوس والمعقول،
من التوازن مع الواقع العام ،وبخاصة في زمن االنفالت
عليه غيبوبة العقل والمنطق ،وشاعت فيه العدوانية، وكانت مالمح هذا التوازن في استعادة اإلبداع لالنسجام الداخلي الذي يعمل على أن يستعيد اإلنسان إنسانيته أولاً ،
ومن ثم يستعيد العالم هذا االنسجام اإلنساني ثانيًا.
مجموع الثنائيات الوجودية التي اكتسبت قدرًا من القداسة والحضور والغياب ،والدال والمدلول ،واألدب والنقد،
والذكورة واألنوثة) ،وكان البديل الطارئ( :اللعب الحر).
معنى هذا أن الحداثة استهدفت استعادة النظام في مواجهة النزعة التدميرية ،ثم جاء ما بعد الحداثة محاولاً
وعلى هذا التأسيس اتجه إبداع الحداثة إلى اإليغال في الحقائق المعرفية اإلنسانية؛ لتكون بديلاً من (العَ َرض)
المرحلتين إلى بداية التسعينيات تقريبًا ،وكان هذا الجدل
الحربين العالميتين ،وكان لكل فعل رد فعل ،قد يكون
الحداثة) ،وكان ظهورها في الوعي اإلنساني ً نوعا من مقاربة
الزائف الذي ش ّوه اإلنسان في زمن الصراع التدميري خالل إيجابيًّا ،وقد يكون سلبيًّا ،ويبدو أن السلبية في هذا االتجاه تمثلت في تغلب االنشغال المعرفي على الذائقة الجمالية،
أو لنقل :إنها أزاحت النسق الجمالي إلى الهامش ،ولعل هذا
كان أحد دوافع إبداع ما بعد الحداثة إلى استعادة الجمالي وفق شروطه ،ال وفق شروط سابقة التجهيز ،دون أن ينفي
ذلك الموقف المتحفظ للحداثة وما بعـدها علـى (المعنى) على وجه العموم .ويمكن القول :إن هذا التحفظ على
المعنى ربط إبداع الحداثة وما بعدها (باللحظة الراهنة)،
وتبع ذلك مقاربته (للمحاكاة) مرة أخرى ،مع إشباعها بقدر العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
تقويض هذا النظام ،واستمر الجدل المعرفي والواقعي بين التبادلي ممهدً ا لمرحلة جديدة ،هي مرحلة( :بعد ما بعد الحسم؛ إلنهاء التذبذب الذي سيطر على ثالثة أزمنة( :ما
قبل الحداثة – الحداثة – ما بعد الحداثة) ،وهو ما يمكن إيجازه في عناصر محددة( :الحداثة) معها النظام والتجديد المنضبط( ،ما بعد الحداثة) (المحاكاة الساخرة) ثم( :بعد
ما بعد الحداثة) ،ومعها تعددت اإلحاالت ،والتعارضات، والتداخالت النصية ،وارتباط المجاز بالتداول الحياتي،
واتساع الفضاءات النصية.
* * *
إن الفواصل الزمنية التي ارتبطت بها( :الحداثة ،وما
مناهج الحداثة والتراث العربي ..العرب نقلة ال مبتكرون
تحوالت الغرب رد فعل للتحول الحضاري والثقافي ،بينما التحوالت العربية مجرد نقل لتحوالت الغرب
ٍّ متلق – جهاز نظرية رباعية الركائز( :مصدر إنتاج – رسالة -
كمبيوتر) وهذا األخير يمتلك قدرات تخزينية وإنتاجية هائلة، ويمتلك إمكانات فكرية وعملية تتيح له التدخل والمشاركة
عند االستدعاء ،بل إنه قد يمارس هذا التدخل دون ً شريكا مركزيًّا في نظرية االتصال، استدعاء ،أي أنه أصبح وهي مشاركة لها مخاطرها في تهميش مصدر اإلنتاج ،وقد
بعد الحداثة ،وبعد ما بعد الحداثة) تكاد تكون فواصل
يدفعه هذا التهميش إلى نوع من السلبية اعتمادًا على أن
بعد الحداثة) كان في زمن التسعينيات من القرن الماضي،
استكمال الناقص ،واستحضار الغائب ،وتعديل المعوج،
تقديرية ،ال تخضع للحسم الرقمي ،وما جد في (بعد ما ويمكن القول :إن (الزمن) فيها أصبح زمن السرعة التي تكاد
ال تدرك؛ إذ أصبحت السرعة تفوق قدرة اإلبداع والنقد على المالحقة( ،فالثانية) أصبحت الوحدة الزمنية التي يقاس بها
الوجود ،بل إن الزمن دخل فيما يسمى (الفيمتو ثانية) ،وهو ما أعجز اإلنسان عن مالحقة التحوالت والمواقف والتقنيات واآلالت ،وكل ما استوعبه أصبح من ذاكرة الماضي ،وإن عليه أن ينظر ما تأتي به (الثانية) القادمة ،فهو في حالة
انتظار وترقب ال تتوقف.
في هذا الزمن تداخلت األعراف والتقاليد ،وأخذت
الفروق النوعية والجنسية في الذوبان ،ووصل هذا التداخل
ذروته في كسر الحاجز بين ثنائـية (اإلنسان والحيوان)، ومن توابعه تكاثر الجماعات المطالبة بحقوق الحيوان
على نحو شبيه بالدعوة التي تتبناها جماعات الدفاع عن حقوق اإلنسان ،ثم اجتمعت الدعوتان السابقتان في مقولة
واحدة ،هي :الحفاظ على حقوق (الكائنات الحية).
ثم امتد ذوبان النوعية إلى ثنائية( :اإلنسان واآللة)،
مفيدة من منجزات العلم الحديث فيما وصل إليه من إنتاج
(اإلنسان اآللي) الذي امتلك قدرات تفوق قدرات اإلنسان
جهاز الكمبيوتر يؤدي المهمة التي كان يقوم بها المبدع في أي أن الجهاز قد احتل مكان ومكانة المن ِتج؛ إذ إنه يقدم المعلومة المطلوبة وغير المطلوبة ،ويقدم االحتماالت
الممكنة وغير الممكنة.
إن هذا المنجز العلمي فاق كل تصورات الخيال ،وهو
ما يذكرنا بمنجزات سابقة كان لها تأثيرها الثقافي في المنتج اإلبداعي وغير اإلبداعي ،وبخاصة في الخطاب السردي الذي ضم بعض الحوارات التي ال يحضر أطرافها في الخطاب، وإنما تحضر عن طريق (الهاتف) ،ومعها ظهرت (الرسائل
البرقية) و(البريد السريع) و(الفاكس) ،وكان لكل ذلك تأثير في زمنها يوازي تأثير (الفضاء اإللكتروني) و(النت) ،مع
الفارق بين هذه وتلك.
لقد استحوذت هذه األجهزة على كثير من حقوق اللغة
المنطوقة والمكتوبة ،وأصبح من المألوف أن يجمع الخطاب ً السردي بين شخوص متباينة ً ومكانا ،وشخوص ربما لم زمانا
تتقابل أبدً ا ،ولم يكن بينها عالقة ما ،وبرغم ذلك تتحاور وتتبادل الرأي والفكر ،بل تتبادل التأثير والتأثر دون مواجهة مباشرة.
* * *
ومن المهم أن نشير إلى أن ذوبان النوعية في مرحلة (بعد
الحي الجسدية والعقلية ،وهذه الثنائية ساعدت زمن (بعد ما بعد الحداثة) على الوصول إلى الثنائية األخيرة –مؤق ًتا–
سبق اإلشارة إلى هذا المصطلح ،وتأتي أهمية اإلشارة إليه من
بمنجزاته الخارقة وصل إلى تصنيع األعضاء البشرية ،وتصنيع
مسبوق ،وهنا ال بد أن نسترجع بعض مقوالت مرحلة (ما بعد
لتذويبها ،وهي ثنائية( :الطبيعي والصناعي)؛ إذ إن العلم
األنوثة والذكورة ،و(الجمال المصنع) ،و(الرشاقة المصنعة)، و(المطر الصناعي) ،و(الزهور والجواهر الصناعية) ،وتصنيع
الجمادات والمزروعات ،وتصنيع العقول اآللية الحاسبة والمفكرة بقدرتها التخزينية الهائلة.
ما بعد الحداثة) وصل إلى ما يسمـى (الحداثة الرقمية) ،وقد
تأثيره البالغ في النصية األدبية؛ ألنه عدل فيها على نحو غير الحداثة) وبخاصة مقولة( :النص المفتوح والنص المغلق)،
ويهمنا هنا أن نستعيد مقولة (النص المفتوح)؛ إذ كان المقصود منه :انفتاح النص على تعدد النواتج الداللية ،ثم خضوع هذه
النواتج لالحتمال والشك والتأجيل ،وهو ما يغاير مفهوم
ومع ظاهرة التصنيع تأثر كثير من القضايا النظرية
االنفـتاح مع (الحداثة الرقمية)؛ ألن االنفتاح فيه يعني (تعدد
فهي –في جوهرها– تعتمد ثالث ركائز :مصدر اإلنتاج –
العالمية) (اإلنترنت) ،يقدم المؤلف نصه للقراء ،سواء أكان
التي تتعلق بالخطاب النقدي؛ مثل( :نظرية االتصال)،
الرسالة– المتلقي ،صارفين النظر عن (الموضوع والكود) فهما داخالن في الركائز السابقة ،والذي أراه أن نظرية
االتصال قد تم تعديلها جوهريًّا من نظرية ثالثية الركائز ،إلى
المؤلف) ،و(تعدد مستويات النص) ،فعلى (شبكة االتصال النص شع ًرا أم نث ًرا ،وهنا يتتابع القراء على هذا النص بالتعليق
تارة ،واإلضافة تارة أخرى ،وكل إضافة تنتمي إلى صاحبها بوصفها بصمة تعبيرية وثقافية له ،وقد تتوافق مع النص
63
دراسات
األول ،وقد تتنافر معه ،أو تكون في حالة بين التوافق والتنافر.
معنى هذا أن الحداثة الرقمية ألغت على نحو ما (اإلبداع
التي تربط مظاهر التقدم الحضاري الراهن بالجذور األولى، ً شريكا في أي أن المرحلة استردت للتراث حقه في أن يكون لحظة الحاضر دون قطيعة ،ودون هدم ،ال بوصفه دخيلاً
البصمة التعبيرية ،وإلى تعدد مستويات النص ،سواء كان
المقوالت التراثية( :ال جديد لمن ال قديم له) ،و(كل قديم
الفردي) ،واستحدثت بديله في( :اإلبداع الجماعي) ،وغياب الفردية ،وسيطرة الجماعية يقود األدبية –تلقائيًّا– إلى غياب
التعدد على المستوى الصياغي ،أو كان على المستوى الفكري والثقافي ،وفي هذا وذاك يمكن أن تغيب الجمالية
البالغية ،وهو ما يهدد النصية بالتخريب لحساب الذين تدخلوا في إنتاج النص رغمً ا عنه ،ورغمً ا عن مبدعه األول.
كان جديدً ا في زمنه) ،و(ال أبناء دون آباء) ،وهو ما يمكن أن يساعد في أن تستعيد الجمالية والبالغية بكل بعديهما
التراثي والحداثي مكانتهما األدبية مرة أخرى.
ولعل كل ذلك يفسر لنا بعض التحوالت اإلبداعية
ً سياقا ويبدو أن (النصية الرقمية) قد أتاحت للمبدع
األخيرة؛ إذ مع استعادة االحترام للتراث ،استعادت بعض
يحتاج إلى سنوات طوال ،وتراكم إبداعي مستمر ،وهو ما
النصية تحاصر الغموض ،وتحوله إلى طبيعة شفافة،
(لالنتشار السريع) ،ودخول هذا السياق –فيما سبق– كان يمكن أن يتيح ألنصاف الموهوبين ،أو فاقدي الموهبة أن
يدخلوا سياق االنتشار الذي أسميه (االنتشار الكاذب المثل يمكن أن يتيح هذا المنجز العلمي لفاقدي المعرفة النقدية وغير المؤهلين أن يمارسوا عملاً نقديًّا ،هو أشبه (بالغش الصناعي) ،وقد ساعد على كل هذه السلبيات أن
معظم المتعاملين مع هذه التكنولوجيا هم
من أجيال الشباب وطلبة المراحل التعليمية
64
ً شريكا ممهدً ا ،وربما يتوافق هذا مع غريبًا ،وإنما بوصفه
المختلفة الذين لم تستحكم ملكاتهم ومواهبهم
األدبية والنقدية.
إن هذه اإلطاللة الموجزة على المراحل
الثالثة( :الحداثة – ما بعد الحداثة – بعد ما بعد الحداثة) يمكن أن تقفنا على موقف ثقافي معرفي تبنته كل مرحلة على نحو نسبي ،وعلى نحو ظاهر حي ًنا ،ومضمر حي ًنا آخر ،وأقصد
هنا موقف هذه المراحل من (التراث) وكل من
عايش زمن (الحداثة) ،وتابع مقوالت روادها، يدرك أن مقولها الحضاري كان (القطيعة مع التراث) ،وأن (الحداثة انقطاع) أو (انفصال) أو
(ابتعاد) وترددت كثي ًرا على ألسنة الحداثيين
هذه المقوالت.
ثم جاءت مرحلة (ما بعد الحداثة) لتكون أكثر إيغالاً في هذا الموقف الثقافي؛ إذ أقامت فلسفتها الحداثية على (هدم التراث) أو الخالص
منه تمامً ا ،وكأنه المبنى الخرب الذي يحتاج إلى
اإلزالة الفورية.
وكان لكل مرحلة من هاتين المرحلتين وجهة
نظرها ،ومنطقها ،وحججها ،ثم كانت المفاجأة
في مرحلة (بعد ما بعد الحداثة) التي أهملت
المقولتين السابقتين ،مؤثرة مقولة( :االنعكاس) العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
التقنيات التي هجرها اإلبداع احترامها مرة أخرى؛ إذ أخذت واتجهت إلى (المجاز الحياتي) ،واستعاد النسق السردي طبيعته المحفوظة في التسلسل والترابط ،وحجّ م الفجوات الزمنية والمكانية ،والءم بين الشخوص ووظائفها السردية،
ثم الءم بينها وبين مجمل الوقائع ،مع اختصار تقنيات (علم ً حفاظا على النصية من تكاثرها المدمر ،وهي تقنيات السرد)
مناهج الحداثة والتراث العربي ..العرب نقلة ال مبتكرون
جاوزت خمسين تقنية الحقت الزمان والمكان والشخوص واللغة على نحو تفتيتي ال يقبله منطق اإلبداع ،وال تقبله
الذائقة الفنية الجمالية.
* * *
إن مقولتنا عن استعادة التراث لبعض حقوقه الشرعية
تدعونا إلى التوقف السريع أمام بعض المناهج النقدية
الحداثية الوافدة؛ للكشف عن موازيها التراثي ،على أن يكون في الوعي دائمً ا :أن هناك مفارقة ضرورية بين ما تقدمه
الحداثة وما يقدمه التراث ،نظ ًرا للسياق الحضاري والثقافي المغاير تاريخيًّا.
الحداثة استهدفت استعادة النظام في مواجهة النزعة التدميرية ،ثم جاء ما بعد الحداثة محاو تقويض لاً هذا النظام ،واستمر الجدل المعرفي والواقعي بين المرحلتين إلى بداية تقريبا التسعينيات ً
وربما كانت (األسلوبية) من أهم المناهج النقدية
ثم يخرج الباقالني على الموروث النقدي السابق عليه
في سبعينيات القرن الماضي ،وإن كانت جذورها الوافدة
اإلعجاز القرآني ،وكان خروجه قريبًا مما قدمته الحداثة
الوافدة ،والتي فرضت سيطرتها على الخطاب النقدي العربي ترجع إلى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وتمثلت مالمحها في ثالثة مسارات:
أ – الصلة بين الشكل والفكرة المُ عبر عنها.
ب – الطريقة الفردية في بناء األسلوب.
ج – التعبير عن الفكرة بأفضل السبل التعبيرية.
ومع الستينيات جاءت (أسلوبية االنحراف) ،ثم تبعها
انشطار األسلوبية إلى ثالثة مسارات:
أ – األسلوبية اإلنتاجية التي تربط األسلوب بمنتجه.
ب – األسلوبية التأثيرية والتي تربط األسلوب بمستقبله.
والذي وجد حرجً ا في ربط األسلوب بمنتجه عند القول في في مقولتها األثيرة« :األسلوب بصمة لصاحبه»؛ ذلك أن
الرجل اعتمد ربط األسلوب بمنتجه عندما ربطه (بالنطق
والخط) ،فالنطق هو مجسد حركة المعنى داخليًّا ،والخط هو مصورها المرئي(.)3
وتصل مباحث األسلوب في التراث إلى قمتها عند عبدالقاهر
الجرجاني في كتابيه( :دالئل اإلعجاز .وأسرار البالغة) ،ومتابعة الفكر األسلوبي في هذين الكتابين يحتاج إلى دراسة مستقلة،
ومن ثم أشير إلى بعض الركائز األساسية عنده:
أ – ربط األسلوب بنظريته في النظم؛ أي العالقات النحوية
ج – األسلوبية التعبيرية والتي تربط األسلوب بخواصه
التي تربط بين المفردات والجمل داخل السياق الكالمي ،مجملاً ذلك في مقولته« :األسلوب الضرب
المركزية لكل هذه اإلجراءات األسلوبية في التراث العربي،
ب – ربط األسلوب بازدواجية الداخل النفسي المتمثل في
الصياغية(.)1
وقد آثرت هذا التفصيل ،ولكي أكشف عن المشابهات
وال يسمح المجال باإلفاضة في ذلك ،لكن المؤكد أن هناك أوجهًا كثيرة للتالقي بين الوافد الغربي والتراث العربي على مستوى التحديد المعرفي ،وعلى مستوى اإلجراء التطبيقي، فعلى مستوى التحديد المعرفي ،يقول الزمخشري (تـ 538
هـ)« :سلكت أسلوب فالن؛ أي :طريقته وكالمه على أساليب
حسنة»(.)2
وعلى مستوى التقديم النظري نجد عند الباقالني
إشارات مبكرة عن األسلوب وأقسامه وصلته بصاحبه ،يرى
من النظم والطريقة فيه» . ()4
الحركة الذهنية ،والخارج المنطوق أو المكتوب بكل
تقنياته التعبيرية والتخييلية..
والحق أن متابعة التراث في األسلوبيات تكشف عن حضورها
الكثيف ،ولكنه حضور مبعثر ،ولم يتجمع في نيق مكتمل إال عند
حازم القرطاجني في كتابه (منهاج البلغاء) الذي عقد فيه منهجً ا
عن األسلوب ،واستطاع أن يوفق فيه بين ما جاءه من عبدالقاهر الجرجاني ،وما جاءه من أرسطو عن األسلوب.
الباقالني أن األسلوب قسمان :األسلوب النفسي الداخلي – أي الفكرة – واألسلوب الخارجي – أي المنطوق أو المكتوب،
ثم يضيف إلى ذلك قسمين مهمين ،هما:
أ – األداء الفني في الشعر والرسائل والخطب ،وهي مجال الفصاحة والبالغة.
ب – األداء اليومي المألوف الدائر في المحاورات ،ويتميز بشدة التفاوت؛ ألن التعمّ ل فيه قليل.
الهوامش:
– 1انظر :البالغة واألسلوبية – د .محمد عبدالمطلب – الهيئة المصرية العامة للكتاب1984 ،م ،ص 25وما بعدها.
– 2أساس البالغة – الزمخشري – كتاب الشعب 1960م( ،سلب).
– 3إعجاز القرآن – الباقالني – تحقيق السيد أحمد صقر – دار المعارف، 1963م ،ص .35
– 4دالئل اإلعجاز – عبدالقاهر الجرجاني –قراءة شاكر– الخانجي1984 ،م، ص .368
65
دراسات
الصوت ..واألجراس أفق الحداثة من «العواد» إلى «العلي» علي الدميني شاعر وناقد سعودي
«كان العواد طالبًا يضيق به مقعد الدراسة كما يضيق به
أكثر مدرسيه؛ لجرأته وشذوذ فكره ،وراحته مع الكبار!!»(.)1 تمتد إمكانية «تعليق الجرس» من حالة العدم واالستحالة
66
حتى الضبابية إلى أن تصل إلى الحد الذي يمكن أن تتحول فيه
أي خطوة نمشيها في البيت أو الشارع أو مقعد الدراسة هي ً متسعا لكل محاولة لرفع ذلك الجرس .وفيما يبدو الفضاء هنا إنسان لتجربة ذلك االحتمال ،إال أن الفارق الوحيد بيننا ينهض من قدرة ذلك الفرد أو القلة من األفراد على إحداث الصوت ً إشارة إلى النجمة المختلف الذي يجعل من حمل األجراس البعيدة!
ولذلك يغدو الكالم عن هذه النجمة ـ «الحداثة» وروادها ً حديثا عن اإلشارة إليها وهي تل ّوح ببريقها لنا من في بالدنا
أعالي أمكنتها من دون أن تترجّ ل إلى وهادنا الصحراوية
العصي إليها. الشاسعة ،ودون أن نمتلك الجرأة على الصعود ّ
ذلك أن الحديث عنها في واقع عربي ينتمي إلى عصور ما قبل الحداثة ،والذي يتسم ويفتخر بسمات تغييب العقالنية وانعدام الحرية ،وبعدم وجود المناخ الثقافي الضامن لنمو
الفرد وملكاته وحقوقه ،وبتسييد ثقافة تحتفي بالنقل ضد العقل واالتباع من دون اإلبداع ،سوف يغدو في أفضل أحواله ً حديثا عن نسبية مفهوم «الحداثة» التي يمكن أن يتبنى التفكير
في أسئلتها الجذرية فر ٌد أو أفراد ّ قلة من أمثال ذلك الطالب
المتسائل والمتمرد «محمد حسن عواد» أو«عبدالله القصيمي» أو «محمد العلي» ومن حضر بعدهم!
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
وفي إطار هذه النسبية نستطيع أن نف ّرق بين مستويين من مستويات إمكانية «الرنو» إلى الحداثة وتب ّني أهم اشتراطاتها ـ
التي أنجزتها شعوب الغرب عبر أكثر من خمسة قرون ـ فاألول يقع ضمن حيّز الفضاء الفردي الخاص وتحديدً ا في تكوين البنية
الثقافية للفرد؛ ألنه ممكن نسبي تستجيب فيه الذات لجدل العالقة بالواقع الواسع الذي يتجاوز المحيط االجتماعي المكاني
إلى الواقع الثقافي الكوني برمته ،أما الثاني ،وهو األهم ،فإنه
ال يتحقق إال على مستوى تبنيه من قبل مجتمع أو شعب من الشعوب وفي مختلف مجاالت الحياة السياسية واالجتماعية
والفكرية واإلبداعية ،وهو ما دونه خرط القتاد!!
لكل هذا يمكن «لحامل األجراس» أن يرفع أسئلة الحداثة
حتى في واقعه المنغلق أو المعزول عن العالم ،بيد أن صوته الذي يتغياه من هذه الحموالت المعرفية والتبشيرية سيظل
قليل األثر والتأثير في محيطه االجتماعي ،بل إن صوته سيكون ً عرضة للقمع وبشراسة في أغلب األحيان؛ ألن شرط الحداثة كما يقول «كانت»ـ مرتبط جذريًّا بشروط الحرية!محمد حسن عواد (1979 – 1902م)
سيغدو ذلك الطفل المولود على عتبات القرن العشرين في عامه العشرين ،حاملاً للمصباح واألجراس ،في مجتمع يتخلف
عن أوربا بميراث أكثر من خمسة قرون من التحديث والتنوير ّ المتجذر في قلب الحداثة األوربية واإلبداع الفكري والفلسفي التي بدأت منذ اختراع الطباعة في منتصف القرن الخامس عشر.
وهذا الشاب الذي نعته أحد معلميه بالمتمرد والشاذ قد
حمل مبك ًرا بذرة التساؤل والشك والنقد والتمرد على واقعه،
وسيكون أحد النماذج التي تؤكد على قدرة اإلنسان الفرد
ـ حتى وهو في قفصه ـ على التحليق في اآلفاق حتى يصبح «برومثيوس» سارق النار ،والمنصت للصوت الحضاري القادم
من األقاصي البعيدة من مجتمعه المحلي المنغلق على أوهام
الهوية والعطالة واالكتمال .وسيرى في فكر األنوار وفيما أبدعه التقدم الصناعي من مخترعات ،عقالنية ديكارت وحرية كانط، كما سيرى في مفهوم القوة لدى «نيتشه» ،حف ًزا للصوت الذي
تبنى دق أجراسه في بيانه الشهير ،كتاب «خواطر مصرحة».
وقد قال عزيز ضياء عن هذا الكتاب« :العواد هو الكاتب
الوحيد الذي تميز بشجاعة األبطال ،بل ليس من المبالغة في
شيء أن نقول بأنه الشجاع الوحيد الذي وضع رأسه على كفه
محمد حسن عواد
ليقول الكلمة التي لم يجرؤ أحد من (المجتمع) أن يقولها»(.)2
لقد كان الكتاب صرخة نقدية مدوية للواقع المزري لمجتمعه، ً واستنهاضا وجدانيًّا وثقافيًّا ً ً يقظا واستشرافا قويًّا للمستقبل، لبني قومه؛ لألخذ بكل أسباب الرقي الصناعي والحضاري
والفكري الذي تبناه الغرب.
معنى الصوت وفرادته
لكي نقف بشكل أكثر تحديدً ا على مضامين ما حمله الكتاب
وسواه من كتاباته ،سنختار بعض العناوين الدالة على معنى
الصوت وفرادته في تلك المرحلة التي رافقت عقد اكتمال عهد وحدة المملكة على يدي الملك عبدالعزيز؛ إذ كانت تلك
الوحدة مصدر فخر واعتزاز للعواد وحلمه في بناء وحدة عربية كبرى أسماها «المنتجع الفسيح»!
« -نحن في بدء ثورة فكرية هي ثورة الجديد على القديم،
والحرية على التقليد» ص .26
« -عش ح ًّرا ،كن مفك ًرا ،اندفع إلى التقدم ...هذه هي
دساتير الحياة العصرية التي يريدها منا الفكر اإلنساني العالي،
والتي هي آخر ما وصل إليه فكر اإلنسان من وضع سنن الحياة الكاملة بحذافيرها» ص .57
« -إن التطور هو االنسالخ من الماضي ،بما له وما عليه».
« -نحن بحاجة لتعلم اللغات األجنبية» ص .63
-وفي مقالة بعنوان« :أيها المتشاعرون» ،يوجه خطابه إلى
الشعراء المنخرطين في كتابة الشعر الشكالني ال في إبداعه، وتخميسا وتشجي ًرا قائلاً « :نظم الشعر جميل ،ولكن أين تشطي ًرا ً
67
دراسات
الشعر فيما تنظمونه أو تروونه؟ كل هذا أيها المتشاعرون صديد
الحقيقة ،والنور خلق ليقضي على الجمود ،وليضع حدًّ ا
إلى الشعر ...وما الشعر إال روح شيطانية عاتية تأبى أن تسكن ً ألفاظا ومعاني هذه الخرائب البالية المحطمة ...والشعر ليس
أن وظيفته هي أن يعلمنا الصوم والصالة واالعتكاف فحسب»
وقبس من التاريخ ،ولمح ٍة من «بطرف من الفلسفة، ٍ ٍ هائل من التفكير ،يتكوّن األدب العصري وتيار العواطف، ٍ ٍ
«تعليم المرأة س ّنة مدنية يجب أال يهملها الشرقيون»ّ «فكري ،واكتبي، ص ،117كما يقول في خطابه إلى المرأة:
فكري ،وقيوء لو أنفق العمر أجمعه في مثلها لما وصل الناظم
فقط ،وإنما الشعر أم ٌر آخر خلف األلفاظ والمعاني» ص .46
الصحيح» ص .116
« -أحسن وسيلة لتربية العقل هي التفكير بحرية ،وعدم
قبول األشياء على عالتها» ص .113
« -أتى الدين ليسدد خطوات اإلنسان ،ويقوده إلى طريق
للتعصب العنصري ،والغشاوة الفكرية ،ويُنهض الروح من مَ بَارك كان معتقلاً فيها ،فال يجب أن نشوّه سمعته ،فنفهم ص .114
ٌ مستقبل واقرئي ،واستعدي ،وتعلمي ،ودعي التقليد ،فأمامك ٌ حافل بما حملته إلى الشرق وإلى الغرب ،وستحمله مدنية مثير القرن العشرين» ص .56
-يقول في مقدمة الطبعة الثانية للكتاب« :إن األساس الذي
بني عليه هذا الكتاب -بجزأيه -ليس هو تطوير فن الكتابة وحده،
فهذا بعض جوانب األساس ،ولكن هو الخلق ..اإلبداع ..إبداع
يمكن «لحامل األجراس» أن يرفع أسئلة الحداثة حتى في واقعه المنغلق أو المعزول عن العالم ،بيد أن صوته الذي يتغياه من هذه الحموالت المعرفية والتبشيرية سيظل قليل األثر والتأثير
68
في محيطه االجتماعي
الواقع وخلق المستقبل عن طريق فن الكتابة وفن التفكير .وأنا أستعمل كلمة «خلق» هنا وأكررها عمدً ا وأضغط عليها للفت نظر المعنيين باإلصالح من والة األمور العامة ،والمعنيين من
حملة األقالم الجريئة ،إلى وجوب تحطيم الوهم القائل «ليس
باإلمكان أبدع مما كان»(.)3
هذه العناوين وتفصيالت مضامين مقاالتها ،تعيننا
على رؤية حامل األجراس وهو يقرعها بعنف؛ ليصل صدى
أصواتها إلى من حوله ،ناطقة بلسان فصيح بأن طريق الرقي
حامل مشعل التنوير على الرغم من محاصرة الضوء الذي حمله العواد وبعض أقرانه ،ورغم كل ما عاناه من القوى المحافظة والمهيمنة في
كافة أبعادها ،إال أنه واصل العطاء -في حدود ما سمحت به الظروف والتحديات -بالروح الوثابة نفسها ،كحامل لمشعل
النهضة والتنوير والرن ّو إلى آفاق الحداثة الشعرية في بالدنا؛ إذ عمد في جهده النقدي األدبي إلى تعميق معنى الشعر ،وارتباطه
بالوجدان الثقافي والفني للمبدع ،بغض النظر عن قوالب التعبير اإليقاعية عن تلك الحالة الشعرية؛ إذ يقول في مقدمة ديوانه
«األفق الملتهب»« :طبيعة الشعر تتصل بالروح والنفس وما فيها من أفكار ومشاعر وخلجات ،وهذه أشياء داخلية .أما طبيعة العروض فتتصل بالعمليات الفنية الخارجية التي تباشر قوالب الشعر وليس الشعر ذاته ،وهذه العمليات هي أساليب لنظم الشعر »...إلى أن يقول« :ليس بالالزم أال يكون الشعر إال منظومً ا»(.)6
ّ الجدة إن هذه اآلراء النقدية األدبية حول مفهوم الشعر تتسق مع تكوين ثقافة وتطلعات هذا المثقف الرائد والباحث عن
واالبتكار واإلبداع في مختلف اآلفاق ،حيث يغدو هنا مشر ًّعا لكسر حصر الشعرية في النمط الشعري الموروث ،حين يمضي
باتجاه اإلمساك بالشعرية الكامنة خلف الوزن والقافية وعمود الشعر ،التي يمكن أن نجدها في أي إبداع شعري ،يمتد من القصيدة العمودية إلى قصيدة التفعيلة ،وحتى قصيدة النثر التي رأى أنها تنطوي على إيقاعها الشعري الداخلي! ً طريقا نهضويًّا صوب آفاق الرقي والحرية واإلبداع ،وقد بقي لنا من مسيرته الطويلة صدى صوته المدوي لقد اختط العواد
الذي خنقته الظروف والمؤسسات ،بيد أن هذه االنشغاالت الجليلة ًّ حقا وما رافقها من تحديات ،قد جعلت من القصيدة عنده ً لبث خطاب «الرسالة» من دون العمل على تطوير شعرية النصً ، فضا ًء ّ وصياغة وعذوبة شعرية ،فغلبت على قصائده لغة
حموالت الرسالة التنويرية األقرب إلى التقريرية المباشرة ،بما أدى إلى حرماننا من أن يكون أحد آباء حداثتنا الشعرية الفاعلة!(.)7
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
الصوت ..واألجراس أفق الحداثة من «العواد» إلى «العلي»
والتقدم ينطلق من ثورة فكرية تسعى لتسييد
كمثقف طليعي ينشد أسباب القوة لكيان األمة،
ثقافة الوهم ،وحرية الفرد وتعبيره وتفكيره ضد
وال يضير العواد أن تفجّ رت رغباته العميقة في
العقالنية ضد الخرافة ،والمعرفة العلمية ضد
عبر انهمامه بموضوعة االتحاد العربي.
التحرر من قيد الوزن بعد أن قرأ ًّ نصا عاديًّا لشاعر
القمع ،وحرية اإلبداع الجديد ضد السائد والنمط المستهلك ،وضد االتباع والتقليد!
وحين نمد هذه العناوين إلى جذورها
العميقة في الفكر والحقوق واإلبداع واالجتماع ،سنرى أنها تتقاطع -على بساطتها هنا -مع أهم مرتكزات «الحداثة» القائمة
على العقالنية والحرية ،وكيان الفردانية وحقوقها ،وفي الثورة على النمط واالتباع في اإلبداع .وحيث نرى -من منظور زمني ومعرفي مختلف -أن متون هذه العناوين تفتقر إلى العمق
المعرفي والمنهجي ،فإنها في لحظتها التاريخية تلك ستكون-
ً ً وتشوفا مبكرين صوب آفاق الحداثة ،وقد نزوعا رغم كل شيء- استق ّرت في كيان هذه الذات المتمردة!
عزيز ضياء
عراقي مجهول رمز السمه بـ«ب.ن»؛ ألن العواد
أكد هذه الرغبات الطموحة والمتجاوزة للسائد في كتابه وعناوينه التي أشرنا إليها ً آنفا .هذا السبق التاريخي قد
ً ّ وتشك ًكا لدى بعض الباحثين ،ومنهم الدكتور اختالفا أحدث عبدالله الغذامي ،ولكن الدكتور محمد الصفراني الناقد األدبي والباحث الجاد قد ّ وثق هذا السبق التاريخي للعواد في كتابة
شعر التفعيلة ،في بحث عميق بالعنوان نفسه . ()4
وقد القت هذه التجربة الجديدة لكتابة الشعر الحر صدى
واسعً ا في الوسط األدبي في الحجاز؛ حيث تصادى معها عدد من الشعراء منهم :عبدالوهاب آشي ،ومحمود عارف ،وعباس
حلواني ،ومحمد علي باحيدرة ،وحمزة شحاتة ،ومحمد حسن
شهادة من أبرز المنافسين
فقي ،وسواهم .وقد جمع محمود عارف كل تلك القصائد في
لعل من أهم الشهادات التي عبر عنها أحد أبرز مجايليه
مسودة كتاب مخطوط بعنوان «نفثات ح ّرة»؛ إذ باركها وتفاعل
الكتاب« :والذين يعطون العواد صفة «الشعلة االجتماعية» أو
العمودي ،ومحمد سرور الصبّان ،وعبدالله فدا ،واستعد
من المنافسين والمحبين في آن ،هو ما قاله عزيز ضياء عن هذا من يعتبرونه حامل شعلة رسالة اجتماعية أكثر من كونه شاع ًرا
ينصفونه ويضعونه في المكانة الرفيعة التي استحقها عن جدارة.. وكتابه «خواطر مصرحة» كان أشبه بقنبلة ،ال أدري شخصيًّا
كيف استطاع طباعته ونشره .وذلك في حد ذاته معجزة لم يسبق لها مثيل ،ولم تتكرر حتى اليوم .وليس في أسلوب الكتاب ما يُنظر إليه كإبداع أو عمل فني متميز ،ولكن الموضوعات التي
عالجها –وبصراحة -هي التي استوقفت األنظار ،وزلزلت السطوح الراكدة والعقول الغافية أو الخامدة ...،وكان العواد فتى فقي ًرا جدًّ ا ،ولكنه اكتشف ما وراء ذلك الواقع البائس من غدّ ، فألف كتابه وطرحه في األسواق (س ًّرا) وقد بلغ من شجاعته أن أص ّر
على كل كلمة قالها وكانت مما يجب أن يقال ...إلى آخر الشهادة المثبتة بكاملها في مجلة النص الجديد.
()4
ورغم كل ذلك فقد استمر العواد في قرع أجراسه التنويرية في الكثير من المجاالت .وفي عنفوان ثورته على القديم شكلاً
ً ومضمونا ذهب مبك ًرا في استهداف تحطيم «رمزية» اإللف
واالعتياد والنمط السائد ،بكسر العمود الشعري بكل أركانه ً ً مختلفا حين نشر خلقا شعريًّا البالغية المهيمنة؛ ليبتكر
قصيدتيه من الشعر الحر في صحيفة القبلة عام 1921م ،وهما: ُ يهراق دم» .وفيهما كان «تحت أفياء اللواء» ،و«نطلب الع ّزة أو ً سابقا لمحمد فريد أبو حديد ولعلي أحمد باكثير ،ناهيك عن
نازك المالئكة ،وبدر شاكر السياب في الذهاب إلى كسر قيد ً وداللة بما عبّر به عما يمور في وجدانه النمط الشعري شكلاً ،
معها عدد من أدباء تلك المرحلة ،منهم :عمر عرب ،وسعيد الصبان لطباعتها على نفقته الخاصة . ()5
غير أن القوى المحافظة ،متجلببة بالتقاليد الموروثة
والمقدس لم تترك لحامل األجراس فسحة كافية ليصل صدى صوته إلى محيطه ،فتوقف الناشر عن طباعة تلك التجربة
الشعرية الرائدة ،التي لو قيض لها الطبع واالنتشار لكنا قد مضينا على دروب اإلبداع والتجديد والحداثة الشعرية مبكرين، ً بعضا إن لم يكن كل العواصم الثقافية العربية في بل وسبقنا
هذا المجال؛ إذ كان مقدرًا للتجربة أن تفتح األذهان على الخلق
الجديد في مختلف مجاالت الحياة في بالدنا ،وبخاصة ما يتعلق
بفضاء الفن واألدب. هوامش:
( )1د .محمد الصفراني – السبق التاريخي لمحمد حسن عواد في كتابة شعر التفعيلة – المجلة العلمية لجامعة الملك فيصل – العدد 2
من عام 2010م.
( )2حوار مع عزيز ضياء – مجلة النص الجديد – العدد الخامس– إبريل عام 1996م.
( )3مرجع اإلحاالت إلى كتاب خواطر مصرحة – ضمن المجلد األول ألعمال العواد الكاملة – القاهرة -دار الجيل للطباعة – عام 1981م.
( )4د.محمد الصفراني – المرجع بعاليه.
( )5محمد حسن عواد – المرجع بعاليه.
( )6د .محمد الصفراني – المرجع بعاليه.
( )7عبّر الشاعر عبدالكريم العودة عن ذلك في مقالة له بعنوان« :نحن جيل بال آباء» – مجلة اليمامة – عام 1980م.
69
دراسات
موجة ثالثة في الرواية السودانية..
روائيون شباب يكتبون رؤيتهم للعالم يقود الحراك الروائي مؤخرًا في السودان إلى مؤشرين مهمين بدآ
يميزان هذا الشكل السردي من األدب السوداني .المؤشر األول كمي يحمل بدوره دالالت ثقافية وظواهر اجتماعية تتيح للمتتبع
للتحول االجتماعي في السودان مالحظة اتجاه شريحة عريضة من الشباب صوب نافذة الكتابة والفن في محاولة «اجتماعية -
سياسية» للتعبير عن طموحاتهم ورؤاهم للعالم .أما المؤشر
الثاني فكيفي ،ومن خالله بإمكاننا التحدث عن بروز أصوات
70
وتيارات روائية جديدة ،لها سمات الخصوصية من حيث التجربة ً تماسكا من واإلضافة ،وهذه األصوات والتيارات تتخذ مسارًا أكثر المراحل السابقة لها في الكتابة الروائية في السودان ،وذلك من حيث العوامل واألدوات والمعالجات الفنية والتوظيف اللغوي والتوجهات الموضوعية ،ومن ثم اإلفالت من سياج األستاذية
المدرسية ،والخوض في مغامرة الكتابة بحرية أكثر وجرأة أكبر.
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
الصو ِّيم منصور ُّ روائي سوداني
التيارات السابقة
وصفه بالنقلة الشبيهة بالطفرة اإلبداعية والنقدية؛ إذ تميزت
يمكنني التحدث بثقة عن موجتين سابقتين في الكتابة
أغلب أعمال هذه الحقبة بالنضج الفني والثراء الموضوعي ،وإن
لألدباء السودانيين في طرق هذا الشكل الجديد من الكتابة
-مدرسي أو نقدي ،وأبرز كتابها الطيب صالح «موسم الهجرة
الروائية السودانية ،األولى شكلت اإلرهاصات والبدايات األولى وقتها ،وأعني هنا بدايات سنوات الخمسينيات حتى أواسط
الستينيات من القرن الماضي .فأعمال كتاب وكاتبات مثل :خليل عبدالله الحاج «إنهم بشر» ،وملكة الدار محمد أحمد «الفراغ العريض» ،وأبوبكر خالد «الحائط القصير»؛ مثلت الموجّ ه
األول لما سيأتي بعدها من أعمال ،وبالطبع تميزت كتابات هذه
المرحلة بتأثرها البين باألدب المصري ،وبالميل نحو الرواية االجتماعية الرومانسية ،ولكنها تجربة مهمة في عملية المخاض
السردي العنيف التي ستجتاح السودان بعد ذلك بنحو يزيد عن
نصف قرن من الزمان.
جاء ذلك في شكل أعمال متناثرة ال يربط بينها أي رابط جمالي
إلى الشمال» ،وعيسى الحلو «أيها الوجه الجميل الالمرئي»،
ومحمود محمد مدني «جابر الطوربيد» وإبراهيم إسحاق صاحب أعمال «الليل والبلدة» و«مهرجان المدرسة القديمة». الفراغ العريض
تكاد الحقبة التي أعقبت الموجتين األوليين قبل بروز
الموجة الثالثة أن توصف بالفراغ العريض .فبعد األعمال المميزة للطيب صالح وعيسى الحلو وإبراهيم إسحاق خالل الستينيات
والسبعينيات من القرن الماضي ،دخلت الرواية السودانية في
أما الموجة الثانية التي أصلت ألدب الرواية في السودان،
حاالت سبات طويل ربما امتد ألكثر من ربع قرن ،مع وجود
بشكل متقطع ومحدود حتى أواخر ثمانينيات ذات القرن؛ لتليها
أمثال الدكتور بشرى هباني صاحب الرواية السيكولوجية البديعة
فبدأت منذ أواسط الستينيات في القرن الماضي ،واستمرت بعد ذلك الموجة الثالثة والتفجيرية التي نلمس تأثيرها الحاد في األدب السوداني حتى اآلن .فكتاب الموجة الثانية امتازوا بما يمكن
تيارات ثالثة تتالقى وتتقاطع في نقاط عدة؛ أهمها التأصيل األسلوبي الذي يحدث اآلن للرواية السودانية ،ويؤسس بالتالي لنموذج خاص ج ًّدا من السرد الروائي المكتوب باللغة العربية
ومضات هنا وهناك ،تمثلها أعمال منفلتة وأحادية لروائيين من
«مسرة» في الثمانينيات ،وكاتب رواية «الزندية» إبراهيم بشير،
الذي نشر عددًا من الروايات المتميزة قبل أن يتوارى في فراغ
الثمانينيات وبداية التسعينيات العريض ،ثمة تجارب أخرى تميزت باشتغالها على موضوعات ستطفو على السطح من جديد
خالل الموجة الثالثة؛ مثل :الروائي مروان الرشيد الذي اشتغل على موضوع الهوية من منظور سردي «مندكورو» ،والكاتب
صالح حسن أحمد الذي اغترف من التراث السوداني ،وأنتج
ملحمة سردية تسائل الحاضر في جمالية موحية ومدهشة في
روايته «سن الغزال».
71
دراسات
الموجة الثالثة وتشكل التيارات
وسياسيين وفقراء وأثرياء ،وتوضح حالة الدمار
الموجة الثالثة ،أو الموجة التفجيرية في مسيرة
التي أزهقت أرواح الجميع .رواية «قصة آدم»
عقده التسعيني ،واحتدمت واحتدت في العقد األول
مقاربة السياسي واالجتماعي سرديًّا بنجاح كبير؛
الرواية السودانية ،بدأت مع نهايات القرن الماضي في من األلفية الجديدة ،وتميزت هذه الحقبة بكثافة
اإلنتاج والنشر ،وتعدد األسماء ،وارتفاع مناسيب
للروائي عاطف عبدالله ،التي أرى أنها استطاعت
إذ تمكن كاتبها في عرض بانوراما تعكس بشاعة الفساد والحرب ،والتراجع والتقهقر الثقافي
االهتمام األدبي العام بالرواية كجنس سردي منفتح وقابل للتطويع من حيث االشتغال الفني
والجمالي والموضوعي ،كما أنه الشكل األدبي األكثر طلبًا في السنوات األخيرة ،في مجالي النشر
والترجمة ،واالستحواذ اإلعالمي ،إضافة إلى دخول الرواية في السودان أو خارجه إلى حلبة المسابقات ذات العائد المادي
الكبير ،والنقلة اإلعالمية الضخمة لمن يحقق مكاسبها.
أهم ما ميز هذه الموجة عن سابقتيها هو انطالق كتابها من
ً إجماعا إلى منصات فكرية وإبداعية مختلفة ومتنوعة ،وميلهم
كسر قيود المدرسية األدبية السائدة في السودان في المراحل السابقة لهم ،فال أحد من كتاب هذه الموجة خرج من ورق
المالحق الثقافية للصحف الرسمية أو غير الرسمية ،وال أحد منهم جاء ظهوره بتقديم من كاتب آخر (ع َّراب) سابق له ،أو
72
مع صعود الخرافة والدجل وموجة الثقافة
الطيب صالح
االستهالكية مرفقة بكل قيمها السلبية في
الغناء والموسيقا ،وكل شيء سوداني
وإنساني أصيل ،كما أبدع كاتب الرواية في
خلق تناص مقلوب ما بين بطل روايته «آدم» وبطل رواية «موسم
الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح ،فبينما تحترق روح مصطفى سعيد في غربته شمالاً خارج الوطن ،يحترق آدم في وطنه بعد عودته من غربته التي كانت ً أيضا إلى الشمال ،لكنه عاد منها سالمً ا؛ ليكتوي بنار العذاب والحريق في بلده السودان. روايات وأسماء
بال شك هناك روايات عدة يمكن ذكرها في هذا التيار ،لكني
أكتفي هنا فقط باإلشارة إلى بعض األسماء المهمة للروائيين:
انتخب من داخل صالون أدبي أم درماني نخبوي أو أيديولوجي،
«أمير تاج السر ،ومحمد الحسن البكري ،ومحسن خالد ،وآن
أن يتحول إلى نقطة تأسيسية لكل كاتب روائي جديد .هذا ما
خير عبدالله ،وعماد براكة ،وعمر الصايم ،وعماد البليك،
فما حدث يشبه التمرد الفوضوي الصادم في بداياته قبل يظهر عند فهمنا التفسيري لما تم توصيفه وقتها (بداية األلفية)
لدى النقاد المصدومين من سرعة وتيرة النشر الروائي بـ(حمى الرواية) أو حريقها ،في محاولة للجم هذا التمدد المتسارع، وإعادة صكوك التعميد إلى مظانها القديمة( :الصحف، والصالون ،واألستاذ ،والناقد) دون االنتباه إلى التغيرات التقنية
والمعرفية الكبرى –ثورة االتصاالت واإلنترنت -التي اجتاحت العالم ،وأبدلت مفاتيح األشياء.
الصافي ،وحمور زيادة ،والزين بانقا ،وسارة الجاك ،ومحمد
ورانية مأمون ،وهشام آدم ،وكلتوم فضل الله ،وأميمة عبدالله ،وياسين سليمان».
التيار الثالث المهم بين تيارات الموجة الثالثة للرواية
السودانية ،هو تيار الرواية الشعرية والفلسفية ،وهو بطبيعة
الحال تيار خافت وأقل ضجيجً ا من التيارين السابقين؛ البتعاده
نسبيًّا من القضايا المباشرة التي تالمس الناس ،والنشغاله
بقضايا وإشكاالت سردية تتعلق بالتخليق اللغوي ،والبناء الفني
أما من حيث السمات األسلوبية والفنية فيمكنني اإلشارة
والتخييل ،وعلى الرغم من بعد األصوات المشتغلة في هذا
الرواية السودانية الحديثة ،التيار األول ارتبط بقضايا السودان
مشاريعها اإلبداعية فإن صوتها وصورتها وصال للقارئ ،وتعرف
إلى بروز ثالثة تيارات أساسية ميزت هذه المرحلة من تاريخ
االجتماعية والسياسية الملحّ ة ،ورأى أن وسيلته الفضلى
التيار من األضواء ،وتفضيلها االنزواء والعمل في صمت على على نماذج مهمة؛ أذكر منها الروائي محمد الصادق الحاج الذي
لمساءلتها ومناقشتها هي الرواية ،فقضايا الحروب والنزوح
يهتم في أعماله إلى درجة كبيرة بالتخييل اللغوي ،والتشييد
السودانية المنشورة مؤخ ًرا ،ويمكن اإلشارة إلى بعض
تأطيره ،كما في روايته المنشورة أخي ًرا «هيسبرا» ،التي سيفشل
والتشرد والقمع؛ أصبحت سمة مالزمة ألغلب الروايات العناوين :رواية «المجالس» لعبدالماجد عليش ،وفيها تناول
بشكل توثيقي الفت التحلل الذي أصاب المجتمع السوداني
خالل السنوات الخمس والعشرين األخيرة .رواية « 7غرباء في المدينة» للروائي أحمد حمد الملك ،وتتناول تأثيرات الحرب
األخيرة في دارفور وعلى مجمل السودان وكافة الناس قادة العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
المعماري المراوغ والمنفلت تمامً ا عن أي محاولة لموضعته أو قارئها تمامً ا في أي محاولة لربطها بالواقع ،فهي محض خيال
وابتداع لغوي يصل إلى حد الترف الجمالي .روائي آخر اشتغل على اللغة مزاوجً ا لها مع الفلسفة ،هو الروائي مازن مصطفى
صاحب رواية «عنقاء المديح المنمق» التي تصعب قراءتها على معتادي الشكل التقليدي من الرواية ،حيث ال قصة أو حكاية
موجة ثالثة في الرواية السودانية ..روائيون شباب يكتبون رؤيتهم للعالم
تروى في نسق واحد ،إنما مجموعة أنساق لغوية وفلسفية
الذي يحدث اآلن للرواية السودانية ،ويؤسس بالتالي لنموذج
تسميته بالرواية ،ويشارك مازن في هذا األسلوب الروائي ناجي
عن نموذج الرواية العربية المنتشر والمبني على موضوعات
تطرح أسئلتها الجمالية سرديًّا في شكل اصطلح كاتبه على البدوي كاتب رواية «رومانس شجري»؛ إذ يوغل في براري اللغتين العامية والفصحى ،وينحت لغته الخاصة التي ترهق
القارئ العادي ،وتصدمه في ذات الوقت ،على حين تهَب من
يصبر على إكمالها لذة ال متناهية.
هذه التيارات الثالثة ،على الرغم من هذا البعد التصنيفي
فإنها تتالقى وتتقاطع في نقاط عدة .أهمها التأصيل األسلوبي
الموجة التفجيرية في مسيرة الرواية السودانية بدأت مع نهايات القرن الماضي في عقده التسعيني، واحتدمت واحتدت في العقد األول من األلفية الجديدة ،وتميزت بكثافة اإلنتاج والنشر وتعدد األسماء ،وارتفاع مناسيب االهتمام األدبي العام بالرواية كجنس سردي منفتح
خاص جدًّا من السرد الروائي المكتوب باللغة العربية ،يختلف محددة ،تكاد تكون خارج دائرة االهتمام السوداني؛ مما يشي
بصعود للخصوصية السودانية سرديًّا وسط الكم العربي الهائل
من النتاج الروائي ،الشيء اآلخر الذي يجمع هذه التيارات أكثر مما يفرقها هو السيولة والسهولة التي يتحرك بها الروائي السوداني متنقلاً ما بين التيارات الثالثة في محاوالت تجريبية دؤوبة ،مثلما فعل بركة ساكن في روايته الشعرية «ما يتبقى كل ليلة من الليل» ،وسارة الجاك في روايتها الفلسفية «السوس»،
وكلتوم فضل الله التي تصهر كل هذه التيارات في أعمالها الروائية المختلفة والمفارقة ،كما في روايتها الصادرة مؤخ ًرا «الصدى اآلخر لألماكن».
يبقى أخي ًرا أن الرواية في السودان في صعودها التأسيسي
المتقطع بدأت تجني اآلن ثمار بذرتها التكوينية ،التي ستقود حتمً ا خالل السنوات المقبلة إلى نمو شجرة هذه الرواية، وإيراقها وإزهارها فيما يمكن أن أصفه بالموجة الرابعة ،أو
الموجة األخيرة ،التي سيكون مسماها (الرواية السودانية) ،وهي تجربة األجيال القادمة المزودة بخالصة تجارب األولين الحذرة، ومغامرة األخيرين العنيفة والمتفجرة.
73
قضايا الهامش والهوية التيار الثاني من تيارات الموجة الثالثة ،هو تيار ما يعرف
بقضايا الهامش والهوية ،وهو أكثر التيارات انتشارًا من حيث المقروئية والمواجهات النقدية األدبية وغير األدبية ،وبروز
هذا التيار مرتبط بالتغيرات السياسية األخيرة التي زلزلت
السودان خالل الربع قرن األخير ،وانفتاح رواده أيديولوجيا على مشروع السودان الجديد الذي بشر به الزعيم الجنوب
سوداني الراحل جون قرنق ،ويأتي على رأس كتاب هذا التيار الروائي عبدالعزيز بركة ساكن ،صاحب الرواية المثيرة
للجدل والممنوعة داخل السودان «الجنقو مسامير األرض»، التي اشتغل عليها بواقعية متعرية على وقائع حياة عمال
الزراعة الموسميين في شرق السودان ،وأغلبهم من النازحين من دارفور ،وما يواجهونه من تمييز ،والكيفية التي يديرون
بها حياتهم المقتطعة على هامش المدن بال رعاية أو اهتمام
من أي جهة رسمية.
الروائي اآلخر الذي صعد من قضية الهامش والثقافات
السودانية سرديًّا هو الروائي والمفكر أبكر آدم إسماعيل،
عبدالعزيز بركة ساكن
أبكر آدم إسماعيل
الذي جعل من روايته «الطريق إلى المدن المستحيلة»
مرافعة سردية عن المهمشين داخل المدن السودانية
الكبرى الوسيطة والشمالية .كما يمكن إدراج أعمال الروائيين
الشابين منجد باخوس «جمجمتان تطفئان الشمس»،
ومحمد دهب تلبو «مدارج السلسيون» في هذا اإلطار ،وكذلك رواية «مندكورو» السابقة لبروز هذا التيار بما أنها تناولت
تمثالت اللون واللغة بالنسبة لآلخر (الجنوبي) في التصور الشمالي والعكس ،إضافة إلى الرواية المهمة «زهرة الصبار»
للزين بانقا التي طرق فيها إحدى أكثر القضايا حساسية في
السودان ،قضية «تجارة الرق» ،والعالقات التي انبثقت عنها اجتماعيًّا حتى بعد مرور قرن أو يزيد على إلغائها.
دراسات
قراءة في الظواهر الجديدة لدى شعراء شباب من السعودية والخليج
عندما يصغي الشعر إلى الكون ويعيد الحياة إلى األشياء لقد مرت القصيدة العربية الحديثة بعدد من التحوالت التي مارس
74
فيها الشعراء إبداعهم بدءً ا من خلخلة نظام البيت التقليدي واستبدال السطر الشعري به ،إلى اعتماد االنزياح وتوظيف الرموز وإعادة النظر في التراث ،وصولاً إلى استمرار التجريب عبر التخلي عن
الوزن واستبدال مفاهيم اإليقاع به ،وتداخل األجناس األدبية وغير األدبية تحت مسميات متعددة؛ كقصيدة النثر أو النص أو الكتابة، ً معرضا لتقنيات مختلفة ،تتيح مداخل بحيث أضحت القصيدة
متنوعة للقراءة. ً وبعيدا من التحقيب الزمني المرتبط بتقسيم التجربة الشعرية إلى
ميساء الخواجة ناقدة سعودية
أجيال شعرية ،يحمل كل جيل فيها سمات ترتبط به ،فإن النظر في
عدد من اإلصدارات الشعرية األولى لجيل من الشباب الذي مارس
اختيارات كتابية خاصة به ،يمكن أن يصل المالحظ إلى وجود عدد من المالمح الهامة التي ال تكفي ورقة واحدة لإلحاطة بها ،من دون أن
يعني ذلك استنساخ التجربة ،أو تطابق مالمحها بين هؤالء الشعراء، بقدر ما يعني خصوصية في االختيارات الفنية والفكرية التي تحمل في
طياتها مساءالت حول مفهوم القصيدة ودورها ،وعالقتها بالماضي والحاضر في آن ً معا.
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
االنقطاع عن اآلخر
اإلنساني والحميمي ،ولتتحول الحداثة إلى نقيضها ،أي إلى
انفتح عدد من الشعراء الشباب في إصداراتهم األولى على
«ما بعد الحداثة»( .طيب تيزيني ،من الحداثة إلى ما بعد
األول هو ما تطرحه هذه اإلصدارات من مالمح لالنقطاع عن
ويفسح المجال للثقافات المهمشة التي تسعى إلى التعبير عن
التجريب بمختلف أشكاله ،ولعل مما يلفت النظر في المقام
اآلخر ،والغوص أكثر فأكثر في العوالم الذاتية للشاعر ،بشكل
يتهمش فيه العالم الخارجي ،ويتضاءل فيه دور المثقف الفاعل، وذلك بالقياس إلى الدور الذي مارسته األجيال الشعرية السابقة
التي آمن عدد من شعرائها بدور الشعر في التغيير ،ونادت بالقصيدة الرؤيا كما عرف عند شعراء الستينيات والسبعينيات ومن تالهم .وهنا يرد تساؤل جوهري حول ما إذا كان غياب هذا
الدور يرتبط بممارسة ترميزية للواقع ،أو بفعل مثاقفة انفتح فيها هؤالء الشعراء على تجارب شعرية غربية ،ارتبطت بفكر ما
بعد الحداثة على مستوييه التنظيري والتطبيقي؟ لقد انطلق فكر ما بعد الحداثة في الغرب
في اللحظة التي تحول فيها العلم إلى مأساة
حين فشل في تحقيق طموح اإلنسان إلى السيطرة على األشياء المحيطة به ،ليجد
نفسه وحيدً ا في ظل هيمنة التكنولوجيا
وانفتاح الفضاء المعرفي بال نهاية.
الحداثة ،ص .)34 ،33وبذلك تتحلل العالقات االجتماعية،
نفسها بالضرورة وبالقوة إن لزم األمر ،األمر الذي يوجد تعددية
ثقافية ،يدعمه رفض ما بعد الحداثة للفصل بين الثقافة الراقية وثقافة الجماهير .إن الفكر ما بعد الحديث ال يقبل أبدً ا وضع اإلنسان إزاء العالم ،يراه ويعيد إنتاجه في صور؛ ذلك ألنه -كما
يرى آالن تورين -يضع اإلنسان في العالم من دون مسافة( .آالن
تورين ،نقد الحداثة ،ص .) 196 ،194
في مجتمع ما بعد الحداثة وفكره انحلت الثنائيات
التقليدية بين الشعبي ـ النخبوي ،والذات ـ الموضوع ،كما انحلت
الجدران التي تعزل الحقول المعرفية في ظل هيمنة الوسائل السمعية البصرية ،ورفضت األنساق الفكرية الكلية ،وفكرة التقدم الذي تسيطر األنساق
على توجيهه ،صار الوعي بال مركز ،وأعلنت
نهاية سلطة العقل ومركزية اإلنسان ،كما أعلنت نهاية التاريخ ،ونفيت الحقيقة المطلقة
على اعتبار أنها من المفاهيم السلطوية التي
وبقدر ما تعاظمت إمكانيات التقدم
توظف دائمً ا لخدمة فئة بعينها ،وكما يقول
بين اإلنسان واإلنسان إلى عالقة مباشرة مع
لكيانه ،ولم يعد بوسعه أن يلعب دوره ،إنه
الصناعي والتكنولوجي ،تحولت العالقة الطبيعة المصطنعة ،بعيدً ا من «اآلخر»، ومن ثم فإن جدلية الذات والموضوع اختزلت
إلى ثنائية بين موضوع وموضوع ليعلن نعي
بوديار« :لم يعد بوسع الفرد أن يضع حدودًا اآلن صفحة نقية ومعبر لكل شبكات التأثير»( .بدر الدين مصطفى ،فلسفة
ما بعد الحداثة ،ص ) 31 ،29 ،28وبذلك
75
دراسات
يصير اإلنسان شي ًئا ضمن الموجودات األخرى ،وهو ما يفسر
وأنزلوه من عليائه ،لم يعد هو مركز الوجود ،كما لم يعد هو الذي يتحكم في الموجودات والطبيعة حولهً . أيضا لم يعد دور
المثقف الفاعل وغياب التفاعل اإلنساني الحميمي.
وبالتالي تساوى اإلنسان بالموجودات األخرى ،وأصبح جزءً ا
النزعة الفوضوية والعدمية وحالة القلق واالغتراب التي وصف بها مجتمع ما بعد الحداثة ،كما يمكنه أن يفسر انحسار دور
الفن تصوير الطبيعة بقدر ما صار يهدف إلى االمتزاج بالحياة،
من دورة الحياة اليومية .وقد ينتج عن ذلك كله أن الفن ينزل من عليائه ،وال يصير فعلاً معرفيًّا متساميًا بقدر ما هو نمط
انهدام الحدود بين أشكال اإلبداع لاً تطرح المفاهيم السابقة لما بعد الحداثة سؤا جوهريًّا يرتبط بتصورها للفن ومفهومه ،فالفنان ليس ً ذاتا تبدع أو تخلق
األخرى ،كما يفتح المجال -في الوقت نفسه -لدخول الهامشي
فهو «يحفظها» و«يشملها» بالرعاية .هو حافظها وليس مبدعها.
لخدمة القضايا الكبرى ،وال للمشاركة في القضايا الجمعية،
«كائنات جميلة» ،إنه «يدع» الكائنات تأخذ محلها من الكينونة، إن الشعر -كما يقول هيدغر« -يخترق كل فن من الفنون ،وكل فعالية تنكشف من خاللها ماهية الوجود في الجمال»( .محمد
الشيكر ،هيدغر وسؤال الحداثة ،ص ) 105 ،104وهو ما سيقود
تعددي قابل لالستهالك والتنوع ،شأنه في ذلك شأن األشياء
والعرضي وأصوات من ال صوت لهم .لم يعد الشعر مسخ ًرا
بل اقترب مما هو يومي وعادي ،ولعل ذلك ينبثق من تالشي
دور اللوغوس والكلمة المركز القادرة على إعادة خلق العالم،
إلى انهدام الحدود والفواصل بين أشكال اإلبداع ،وبالضرورة
إلى انمحاء الفواصل بين الشعر والنثر.
لقد تمرد جيل ما بعد الحداثة على مركزية اإلنسان،
يمكن القول :إن ما يكتبه الشعراء
76
الشباب في الخليج العربي يمكن أن يندرج في إطار التحوالت الكبرى التي يشهدها العالم
تراجع اإليمان بقدرة اإلنسان على التغيير لقد هيمن على الكثير من النصوص غياب الصوت اإلنساني الجمعي ،وتراجعه إلى خلفية المشهد الشعري،
مع تراجع دور المثقف الفاعل واإليمان بقدرة اإلنسان على التغيير .لقد بدت النصوص وكأن أصحابها ال ينتمون
إلى مكان أو زمان محددين ،هي ذات تسبح في فضاء مطلق ،تنكفئ فيه على نفسها ،وال تعيش لغير عالمها الفردي الخالي من التواصل أو حتى من القدرة عليه ،ليختفي اإلنساني والحميمي ،وينعدم التواصل على ً مكونا من أشيائه اليومية ودائرته الصغيرة المستويين الجمعي والفردي .تختفي الجماعة ويصبح عالم الشاعر التي يعيشها في يومياته.
ولعل هذا ما يفسر بروز اليومي والهامشي في الكثير من تلك النصوص ،ونزول اللغة الشعرية إلى شكل بسيط من التعبير؛ لتبني النصوص شعريتها على محددات أخرى كالمفارقة ورصد التفصيالت .كما يفسر ً أيضا
ذلك التماهي مع الجماد والحيوان ،والحديث بصوتهما في بعض األحيان ،وإذ يتشيأ اإلنسان يتأنسن الجماد والحيوان ،وتهيمن حاستا الرؤية والسمع من حيث هما الوسيلتان األساسيتان لمالحظة األشياء المحيطة. هكذا ينزل الشعر من عليائه ،ويتخلى عن تعاليه المعرفي ليصير شي ًئا يوميًّا حياتيًّا ،ويستمع الشاعر إلى أصوات
الموجودات التي تماهى معها ،وأخذ موقفها ،فسمع صراخها وألمها ،ليقف معها في مقابل اآلخر ـ البشر
والمجتمع الذين اضطربت العالقة بهم ،وعززت صور الوحشة والعزلة التي تراجعت بدور اإلنسان ودور المثقف
إلى الهامش في عصر العولمة ،والهيمنة المتزايدة للتكنولوجيا ووسائل االتصال الحديثة.
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
قراءة في الظواهر الجديدة لدى شعراء شباب من السعودية والخليج
وبالتالي تناقص دور اإلنسان وقدرته على التغيير أو التحكم فيما حوله.
ومن هنا يمكن القول :إن المشهد الشعري قد أخذ يشهد
تحولاً صوب الهامشي والعرضي ،كما يمكن القول :إن ما يكتبه الشعراء الشباب في الخليج العربي يندرج في إطار التحوالت
الكبرى التي يشهدها العالم ،وفي إطار االنفتاح الثقافي وانتشار التكنولوجيا ووسائل االتصال الحديثة التي جعلت العالم كينونة كبرى متصلة .ويمكن أن يكون في الوقت نفسه استجابة
للتحوالت السريعة التي تمر بها أوطانهم مع االحتفاظ النسبي بالنمط االجتماعي التقليدي والثقافة الشعبية التي تؤمن بالعشائري والحفاظ على التقاليد.
هكذا تتولد في القصيدة -ال سيما قصيدة النثر -شعرية
الكونية المتسارعة التي جعلته يشعر بالحيرة والعجز أمامها، فإن الموجودات األخرى تحمل وجودها الموازي الذي تتساوى ً أحيانا ،وبذلك كينونته مع الكينونة اإلنسانية ،وتتماهى معه
يعيد الشاعر النظر في األشياء الجامدة ويؤنسنها ،ويتماهى معها حتى لتكاد تكون هو .لقد تعلم الشعر أن يصغي إلى الكون
على طريقة هيدغر ،ليعيد الحياة إلى األشياء التي كانت مجرد وسيلة .واتسع الهامشي ليشمل اإلنسان والجماد والحيوان على حد سواء .وعندما يكتب الشاعر عن الجماد أو الحيوان فإنه يكتب عنهما باعتبارهما منطقة للتبادل ال للتصوير ،أو
االستعمال ،أو االستفادة.
إن الحديث عن تسلل قيم ما بعد الحداثة الغربية ،وعن
النص ما بعد الحداثي ،ال يعني أن الشعراء الشباب يقومون
جديدة هي شعرية نثر الحياة اليومية بتفاصيلها ،في محاولة للدخول إلى جوهرها وأنسنتها كما لو كانت ً ذاتا أخرى فاعلة،
بقدر ما يعني وجود امتداد معرفي ،وتنوع ثقافي سمح بظهور
المعجم اللغوي لعدد من الشعراء؛ إذ طغت مفردات الحياة
ال سيما مع االنفتاح الثقافي والتكنولوجي الذي سمح لوسائل
مؤثرة ومتأثرة .وقد بدا هذا واضحً ا في العالم الشعري وفي اليومية ،ومالت اللغة إلى البساطة ،وابتعدت عن التكثيف
الداللي الذي قامت عليه قصيدة «الرؤيا» الحداثية ،ليخرج الشعر من تعاليه ،ويقترب من البسطاء بتفاصيلهم الحياتية
وحكاياتهم اليومية .ويمكن أن نرى هذا المعجم اليومي في نصوص عدد من الشعراء؛ مثل :سميرة السليماني ،وأحمد
العلي ،وصالح زمانان ،وماجد الثبيتي ،وفيصل الرحيل ،وزاهر السالمي ،وعبدالله المحسن ،ورقية الفريد ،ويحيى الناعبي،
وزهران القاسمي ،وصبا طاهر ،وغيرهم. بروز مفردات التكنولوجيا
تشترك معظم النصوص الشعرية في تناول اليومي
والهامشي ،وفي بروز مفردات التكنولوجيا التي باتت تهيمن على حياة اإلنسان فتجعله موجودًا ضمن الموجودات األخرى، بشكل يكاد يختفي فيه اإلنساني والحميمي لتبقى الذات
وحيدة ال يشاركها غير الموجودات التي تقصيه ،وفي الوقت نفسه تشكل مالذه وعالمه الخاص .وإذا كان اإلنسان يتحول
إلى مجرد «شيء» ضمن األشياء الموجودة في ظل التغيرات
لقد تمرد جيل ما بعد الحداثة على مركزية اإلنسان ،وأنزلوه من عليائه، لم يعد هو مركز الوجود ،كما لم يعد هو الذي يتحكم في الموجودات والطبيعة حوله
بحركة نسخ آلية لما وصل إليه الفن في المجتمعات الغربية، ما سمي بـ «الثقافات المهمشة» التي حاولت التعبير عن نفسها،
االتصال واإلعالم الحديثة بنقل معطيات الحضارة الغربية إلى العالم العربي؛ مما عزز ثقافة االستهالك ،وخلق ً نوعا من الهوة بين الثقافي واالستهالكي ،وبالتالي بين الشاعر ـ الفرد وبين
المجتمع .وقد تزداد هذه الهوة في ظل ما يعيشه الواقع العربي من تأزم وتمزق وصراعات تسير به صوب المجهول .وربما كان ذلك كله وراء بروز عدد من الثيمات التي لوحظت في إنتاج عدد
من هؤالء الشعراء على تفاوت وتنوع فيما بينهم.
77
مقال
قصيدة الذات والمواطن الحاكم الحداثة ليست حديثة العهد والتاريخ ،كما قد تدل تسميتها للوهلة األولى .فهي كمفهوم ،يمكن القول :إنها غير محدودة
زمنيًّا ،وإن كل ما تتوافر فيه شروط االستمرارية والحياة عبر مختلف األمكنة واألزمنة ،فهو حديث ،الشيء الذي يجعل من امرئ القيس وجميل بثينة والمتنبي وغيرهم أكثر حداثة من شعراء يتحركون بيننا اليوم أحياء يُرزقونّ . وكلما استطاعت التجربة النفاذ إلى زمن آخر ،فهي تكتب حياة جديدة ومتجدّ دة ،تؤكد صلتها بالحداثة ذاتها.
أما بالمعنى العلمي والسوسيولوجي ،فإن الحداثة انطلقت كما نعلم مع الثورة الصناعيّة ،وتمظهرت أكثر مع الثورة الفرنسيّة؛
إذ حصل االنتقال من مجتمع تقليدي محافظ تتحكم فيه المؤسسات االجتماعية إلى مجتمعات فعالنية ،وأكثر فردانية ،وأقل حتمية اجتماعية .حصل االنتقال المرحلي والبطيء السريع من الفرد بوصفه ً عونا اجتماعيًّا إلى خطاب الفاعل االجتماعي. لذلك فإن نشأة علم االجتماع وعلم النفس وعلم النفس االجتماعي وغيرها من االختصاصات المعرفية المهمة التي ظهرت
في القرن التاسع عشر ،إنما كانت نتاج فعل الحداثة في مجتمعات ما قبل الحداثة ،وهو ما عبر عنه عالم االجتماع األلماني الكبير
ماكس فيبر بقوله :إن علم االجتماع هو «موروث الحداثة».
طبعً ا الكالم عن الحداثة كفكر وكمنظومة قيميّة مغايرة للرأسمال الرمزي لمجتمعات ما قبل الحداثة ،هو كالم ال نمل منه،
ولن نمل؛ ألننا في مرحلة مخاض من نوع مخصوص مع الحداثة ،باعتبار أن قيم الحداثة وفكرها تقوم على الديناميّة المتواصلة
78
والمستمرة حيث الحركة محركها األساسي ،والتحقق فعل يتجسد رويدً ا رويدً ا إلى ما ال نهاية. ً أيضا فإن الحداثة شاسعة وسع التاريخ والكون والعقل اإلنساني .ورغم هذا االتساع الالمحدود والالثابت ،فهي كفكر ،منظمة
جدًّا ومتقشفة في عناصر تكوينها إلى أبعد حدود التقشف .فهي أشبه ما تكون بالهرم ثالثي النقاط والرؤوس ،وتولي االهتمام األكبر بثالث قيم رئيسة :اإلنسان الفرد ،والعقل ،والحرية .وكل ما تبقى من القيم واألفكار الوجيهة جدًّ ا والجوهرية ً أيضا ،إنما هي
متناسلة ومتفرعة عن القيم الثالث المشار إليها .فعندما نتحدث عن العقل والعقالنية ،فإن ذلك يعني آليًّا أن العقل هو المقدس الجديد الذي يعلو وال يعلى عليه ،وتبشر به الحداثة ،وأن ماهية العقل ،كما ذهب إلى ذلك الفيلسوف هيغل ،ال يحدّ دها شيء،
فهي ماهية مطلقة ومتعالية.
لذلك فهو أداة التأمل والنقد واالنقالب على األفكار والقيم المتواصل ،وهو العجلة التي يدور بها عقل الحداثة ،ومنطقها،
وطرائق اشتغال الفكر فيها ،وكلها قدرات معرفية إدراكية ،لن نبدع في غياب قيمة الحرية ،وذلك من منطلق كون عدم إمكانية –بل
استحالة -إعمال العقل دون حرية ،التي وحدها تجعل من النقد ممارسة مضمونة ومُ حصنة ومؤسسة ثقافيًّا وحقوقيًّا وقانونيًّا ضد ما يمكن أن يَحجر على العقل باسم الهيمنة.
فالحداثة تدافع عن العقالنية ومكانة العقل وحرية الفرد؛ أي النقد الذي يعكس تجسيدً ا للمبادئ اإلنسانية الكونية ،التي نادى
بها فالسفة عصر األنوار .ففي هذا اإلطار نفهم مقولة هربرت ماركيوز «التقويم النقدي هو الحقل الفعلي للمعرفة» وذلك في كتابه «اإلنسان ذو البعد الواحد» الصادر في سنة 1965م بباريس.
إذن كما أسلفنا القول :الحداثة قديمة وشاسعة وأكبر من أن تحد أو يحسم في شأنها؛ لكونها بصدد االعتمال الدائم ،وهو ما ً ينتج ً وأيضا على كيفية نقدها وتلقيها. نوعا من التشويش على عملية تحققها، غير أن ما يعنينا في هذه المساحة تحديدً ا هو تصور الحداثة للذات ،وكيف أن هذا التصور يطبع مجاالتها كافة.
وكي نكشف عن هذه النقطة وندلل عليها ،نشير على سبيل الومضة إلى حقلين اثنين هما :الحقل الشعري والحقل السياسي،
وذلك تبعً ا لتقسيم عالم االجتماع الفرنسي بيار بورديو لحقول الفعل االجتماعي .فكما احتفل الشعر الحديث بالذات ،احتفلت
الحداثة السياسية بالفرد ،وسمّ ته المواطن الحاكم الفعلي في الدولة الحديثة.
وفي الفضاء الثقافي العربي نالحظ أن التعاطي مع فكر الحداثة ،وإن انطلق متأخ ًرا عن الفضاء البريطاني الفرنسي األوربي
بشكل عام مهد الحداثة ،فإن تسرب الفكر الحداثي بدأ يتبلور أكثر بعد استقالل الدول العربيّة ،حيث إن حدث االستقالل اشترط ً ً خفيفا أو قويًّا ،حسب الخصوصيات مخصوصا ،اختلف من بلد إلى آخر مع مسألة الحداثة .ولكن رياح الحداثة هبت هبوبًا تعاطيًا العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
الثقافية والتركيبة السوسيولوجية لمجتمعاتنا.
ويبدو لي أن التجارب الشعرية العربية الحديثة التي أولت عناية مخصوصة لشعرية الذات ولبوح الذات ،وقاطعت إما قليلاً أو كثي ًرا
أو نهائيًّا الموضوعات الكبرى وشعرية الضجيج ،إنما هي التجارب ً عميقا في نشر القيم الحداثية في مجتمعاتنا ،وذلك من التي حفرت
خالل االستبطان الشعري للحداثة .بل إن قصيدة النثر التي ال تزال رغم الفتوحات الشعرية المهمة ،تالقي من التهميش والتكفير الشعريين
المصرح بهما والمسكوت عنهما في ربوعنا الثقافية الشعرية ،هي التي فتحت الباب واسعً ا لدخول قيم الحداثة ،وعلى رأسها قيمة الذات
واإلنصات لبوح الذات وتفاصيلها بعد أن كانت الجماعة هي الموضوع
آمال موسى شاعرة وأستاذة جامعية -تونس
المهيمن على القصيدة.
منذ تاريخ السبعينيات من القرن الماضي ،عندما بدأت تهرب قصيدة بودلير جه ًرا من بيروت إلى بغداد إلى القاهرة إلى دمشق وصولاً متأخ ًرا إلى المغرب العربي ،بدأت قصيدة الذات تقتنص بعض المساحة على أرض لطالما تصورناها على شاكلة العمودي،
مع العلم أن التفعيلة بدأت في االلتفات إلى الذات ،وتعيد النظر في المركز الشعري الذي تستحق .قصيدة الذات التي بات يحتاجها الشعر ً أيضا الذي أضناه تأخر مركزية الذات في الشعرية العربية. فمنذ الخمسينيات من القرن الماضي وقصيدة الذات تكتسح األرض تلو األرض؛ حتى أصبحت أنا الشاعر مستبدة بالقصيدة،
وأصبحت نافذة الكونية واإلنسانية .بل إن الذات الشاعرة أصبحت معيار جودة التجربة الشعريّة ،ودليل بناء عقد جديد بين الشاعر واللغة والذاكرة والحياة والشعر ،وهو ما نلمسه بوضوح مثلاً في تجربة محمود درويش التي عرفت تحولاً نوعيًّا مع مجموعة
ٌ تحول أشبه ما يكون بانقالب الشاعر على الشاعر ،فتمّ االنتقال من معجم إلى آخر ،ومن الذات «لماذا تركت الحصان وحيدً ا»؛
الخصوصي الفرديّ . الجمعية إلى الذات الخاصة المفردة ،فكان العمق أعمق ،وحتى الجمعي تراءى على نحو أكثر صفاء في شكله ّ هكذا بدأ االنتباه إلى شيء اسمه الفرد والذات في مجتمعاتنا ،حيث كان الفرد كائ ًنا مبهمً ا ومقفلاً وال صوت له .وهكذا ً أيضا انتقلنا من ضجيج الجماعة والحشد والقبيلة والعشيرة إلى دنيا الذات الصاخبة ،ولكنْ صخب من نوع خاص ،يمكن الذات من
البوح ،ومن أن ترى ذاتها ،وفي نفس الوقت فهم الجماعة والمجتمع أكثر والعالقات وعوائق التفاعلية والتمثالت والمخيال في منعطفاته الظاهرة والمختبئة.
هكذا فرضت قصيدة الذات نفسها في الحقل الشعري العربي ،وهكذا تبوأت الذات في القصيدة المكان الجوهر والمركز،
وحتى هامشية الذات تغيرت وأضحت هامشية متطورة .ولمّ ا كان الشعر خزان المعرفة وسكة التغيير الثقافي السحرية ،فإن ذلك
مهد الطريق للحداثة السياسية .فتلك الذات الجالسة بارتياح في فضاء القصيدة العربيّة ،والتي يبوح فيها الشاعر والشاعرة بأدق
دهاليزها ،قد بدأت تنتج مجتمعات مختلفة من ناحية طبيعة العالقة مع الذات .وتعاضد ذلك مع توريد قيم العقالنية ،وتطعيمها مع موروثنا في خصوص مقاربة العقل ،فظهرت عالمات الفردانية ،وبدأ االنفصام بين ثقافتين وقيم متنافرة.
لم يعد باإلمكان االستمرار في واقع سياسي عربي غير منقطع الصلة بمظاهر الحداثة السياسية المعروفة والمحدّ دة في إعالء
شأن الفرد المواطن ،واالمتثال لقيم المواطنة ،والتواصلية العقالنية ،والفصل بين السلط ومفهوم حكم الشعب :من حكم الحاكم
ومفهوم الرعية والراعي؛ انتقلنا إلى معجم سياسي جديد.
لقد انتصرت الحداثة الشعرية لقيمة الذات بوصفها أحد مرتكزات الفكر الحداثي .والحداثة السياسية امتثلت لدكتاتورية
المواطن باعتباره األرض التي تدور حولها الحداثة السياسية. ً بعضا منها. وما بين الحداثتين وشائج قربى أبرزنا
79
حوار
وظفنا الدين لمصادرة العقالنية ..ومهمتي كانت ثورية
برهان غليون:
80
من اآلن فصاع ًدا.. لن تخمد نار الحرب! العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
باريس
يرى المفكر السوريّ برهان غليون أن الفكر جزء من الممارسة ،وأن المفكر ،بالتالي ،ينبغي له أال ينفصل عن المجتمع الذي ّ االجتماعي ،وعن التفكير في التحديات التي يفكر داخله ،وال يمكنه أن ينفصل عن سياقه ّ
ً ً العربي، سليما ،يتفاعل مع المجتمع الذي يعيش فيه .قبل ثورات الربيع شخصا يواجهها مجتمعه إذا كان ّ
كان لصاحب «بيان من أجل الديمقراطية» ،موقف من المعارك األيديولوجية والسياسية واالجتماعية واالقتصادية الدائرة فيه .وعندما اندلعت هذه الثورات قام بواجب المواطن ،أي مواطن ،في التعبير عن رأيه
والمشاركة في رسم مصير المجتمع الذي ينتمي إليه. ً ً برهان غليونً ، وفقا لهذه الرؤية ،لم يغادر موقعه بوصفه مثقفا منخرطا في تحويل مجتمعه وتغييره، ومقاومة ُن ُظم القهر من أيّ نوع كانت .وهو قذف بنفسه في الثورة السورية ،كما يقول في حوار مع ـ«الفيصل»؛
َّ َّ مهمة جوهرُها بمهمة ثورية وليست سياسية، مثل أي ناشط سوريّ ،وقبل أن يرأس تآلف المعارضة للقيام ُ وحشد الدعم لثورة الشعب السوريّ ،وتنسيق عالقاتها بالعالم .في هذا الحوار يتطرق توحيد المعارضة، مؤلف «اغتيال العقل» ،إلى محطات من حياته وإلى أطوار من مشروعه الفكريّ . على الرغم مما أوليته من اهتمام بمسألة الثقافة،
بوصفها مجموعة القيم العامة ،التي يستطيع العقل أن ّ يطل من خاللها ،اّإل أن هذه المسألة تبدو أبعد كثي ًرا من ّ أي اهتمام يمكن أن توليه الحكومات العربية ،فهل يمكن
أن نتوصل إلى حلول لمشكلة النهضة ومشاكل النهوض، من دون اهتمام بهذه المسألة الثقافية؟
أساسي بالطبع ال .الثقافة والتعليم والتربية هي محورّ من محاور التحديث واللحاق بالعصر .وال يعرف قيمة الثقافة، أي في الواقع إغناء شخصية الفرد وإثرائها من الناحية العقلية
واألخالقية والفنية ،سوى المجتمعات المتقدّ مة التي تراهن على اإلنسان ،وعلى قواه اإلبداعية ومبادرته .المجتمعات التي لم تدخل المنافسة الحضارية تتمسك أكثر بالهوية الساكنة،
وتتغطى بالتراث؛ لتخفي فراغها وهامشيتها إزاء الحضارة ً نقيضا للحداثة أو والتاريخ؛ لذلك تميل إلى وضع التراث الثقافة .وهي ال تكاد تف ّرق بين ِّ الدين والثقافة؛ أي بين اله ُِويَّة والحُ رية.
َّ احتلت الحركة ضمن مشاغلك الفكرية الكثيرة، ُّ وتأمل أسباب نشوئها وتطورها اإلسالمية المعاصرة، َّ ً ًّ مهما ،لكن هل توقعت أن تمضي هذه الحركة موقعا في سيرورات غير مفهومة لكثيرين حتى اآلن؛ لتتكشف
العربي عما آلت إليه اليوم ،أم أن ما يحدث في الراهن ّ ً ِّ مفاجئا؛ بسبب تراكمات وارتباك العالقة بين الدين ليس والدولة؟
ما يحدث في مجتمعاتنا من عودة إلى ِّالدين والتراث هو ثمرة سياساتنا الثقافية والقواعد التي َت َب َّنيناها في التعامل مع الفرد على مستوى األسرة والعشيرة والدولة والمجتمع. وجميعها ُت ِّ شكك في الحرية وتخافها ،وللتحوط تمنع الفرد
والحس النقديّ ،وتشجّ ع لديه النزوع إلى العقالني من التفكير ّ ّ ً االمتثال والتقليد واإلمَّ ِعيَّة .عوضا من أن يكون ِّ الدين أحد الموارد
ُ عقلية المحافظة والخوف المثرية للشخصية العربية حوَّلته ُّ من الحداثة والحرية إلى سياج يمنع الفرد من تمثل القيم الجديدة ،واالنفتاح على األفكار واآلفاق المبتكرة .وبدل من أن ُّ وتعلم تتخذ معارضته واحتجاجه على أوضاعه المجحفة غالبا،
نقد السياسات الخاطئة ،واقتراح بدائل سياسية ،أو إصالحات، والعمل على تطبيقها؛ فإنهم يميلون إلى قلب النظام ،وتقويض
أسسه المعنوية؛ أي تجريده من الشرعية ،وإقامة نظام جديد
مكانه .وليس لصعود المدّ اإلسالمي منذ أربعة عقود سوى ّ ُ ُّ مُ ح ِّرك واحد هو نزع الشرعية عن النظم السياسية القائمة على ً تطابقا مع ما يعتقدون أنه أمل إقامة ُن ُظم أخرى مكانها أكثر أقرب إلى العدالة مثلما تعرفها بعض األوساط المشايخية .وهذا
الثقافي للمجتمعات وتحصينها ضدّ هو كما ترى ثمن التصحير ّ الحرية ،واستخدام الدين بوصفه مصدرًا للشرعية ،ومن ثمََّ
تسويغ األوضاع القائمة .ال تستطيع ال ُّن ُظم التي تتالعب بالشرعية الدينية كي تؤمِّ ن هيمنتها وسالمها أن تحول دون استخدام
الشرعية ذاتها من خصومها؛ لتقويض سلطانها .وهذا ِّ يهدد اإلسالم أكثر من أيّ دِين آخ َر؛ ألنه ال يوجد في اإلسالم ،مثلما هي الحال في المسيحية ،أيُّ سلطة أو مرجعية دينية مركزية
81
حوار
واحدة ،تضمن ألاَّ يتحول ِّ الدين إلى مصدر لشرعية مناقضة ،بل
لمرجعيات وشرعيات متنافسة .وهذا ما حصل عندنا ،وكانت ُ السياسية من جهة؛ أي :غياب نتيجته كما هو واضح الفوضى
أيّ نصاب واضح ومقبول للسياسة ،وخراب السلطة الدينية
نفسها ،وانقسام مرجعيتها إلى تيارات ومذاهب ال يمكن ألي هيئة دينية أن تسيطر عليها من جهة ثانية .وهذا ما نسميه بعد
ابن خلدون «خراب العمران». لم أغادر موقعي
أين يمكن للمفكر أو المثقف أن يقف اليوم؟ ما الذي
يستطيع أن يفعله في الواقع العربي الذي نعيشه؛ أنت اً مثل -غادرت موقعك بوصفك مفك ًرا له أدواته ومفاهيمهفي ُّ تأمل التحوالت واألشياء إلى موقع آخر فيه كثير من
المواجهة والمباشرة مع الواقع ،ثم بعد مدة أعلنت ً ثانية إلى موقعك األول؛ ما الذي خرجت به من هذه العودة التجربة؟
ّ المفكر ينبغي أنا أعتقد أن الفكر جزء من الممارسة ،وأنله ألاَّ ينفصل عن المجتمع الذي ِّ يفكر داخله ،وال يمكنه أن
82
االجتماعي وعن التفكير في التحديات التي ينفصل عن سياقه ّ
ً شخصا سليمً ا يتفاعل مع المجتمع يواجهها مجتمعه إذا كان العربي كان لي دائمً ا موقف الذي يعيش فيه .قبل ثورات الربيع ّ
في المعارك األيديولوجية والسياسية واالجتماعية واالقتصادية الدائرة فيه .وعندما اندلعت هذه الثورات قمت بواجب المواطن، أي مواطن ،في التعبير عن رأيه ،والمشاركة في رسم مصير
المجتمع الذي ينتمي إليه.
ً ً منخرطا في تحويل مثقفا أنا لم أغادر موقعي بوصفي مجتمعه وتغييره ،ومقاومة ُنظم القهر من أيّ نوع كانت. لكنني رميت بنفسي في الثورة السورية مثل أيّ ناشط سوريّ ،
ُ وقبلت أن أرأس تآلف المعارضة؛ للقيام بمهمّ ة ثورية وليست
سياسية؛ جوهرها توحيد المعارضة ،وحشد الدعم لثورة الشعب السوريّ ،وتنسيق عالقاتها بالعالم .لكنني لم ّ أكف عن
نحن على أبواب حقبة جديدة من المراجعة التي بدأتها أنا شخص ًّيا، كثيرا من وهي مراجعة تستدعي ً الشجاعة والبصيرة والشفافية والبحث
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
سياسي بعد انتصار التأكيد أنني ال أتطلع إلى احتالل أيّ منصب ّ
الثورة .وبعد أن اضطررت إلى تقديم استقالتي بِناءً على طلب من الناشطين الثوريين ،لم ّ أرشح نفسي إلى أي منصب جديد
منذ أربع سنوات .كنت مع الثورة ،وحاولت أن أضع المعارضة ّ صفها وخدمتها ،لكنني أخفقت. المنقسمة والمتنازعة في وعدت إلى الصفوف التي أنتمي إليها ،التي وضعتني بالرغم من
الوطني. المعارضة على رأس المجلس ّ ّ اآلن أنا في مكاني األول ،مثقف في خدمة ثورة شعب فاقت تضحياته من أجل حريته واستقالله َّ ُ كل التصورات والحدود.
كتابك «بيان من أجل الديموقراطية» على الرغم من
صدوره في وقت مبكر ،فإن االحتياج إلى قراءته ،والتعمق إلحاحا من ّ ً أي وقت مضى، في أطروحاته ،يبدو اليوم أكثر
فمع ما أبرزته من مخاطر تتهدد العرب ،فإن تلك المخاطر، ال تزال تكشف عن نفسها في أشكال وحركات ووجوه ُّ ّ بتجدد اللحظة؛ في رأيك ما الذي يجعل مفك ًرا ما أو تتجدد
أفكا ًرا ما ،تحضر في كل األزمنة ويغدو االحتياج إليها ًّ ملحا
باستمرار؟
-قراءة موضوعية وخالصة عن هوى الواقع والتاريخ .رؤية
الواقع كما هو لكن ليس في صورته الجامدة ،ليس كبنية ثابتة
وجامدة ،إنما كحركة وديناميكية واتجاه .وجوهرها الحس ّ التمكن من بعض األدوات السليم أكثر من أيّ شيء آخر ،مع
المعرفية والعلمية .مشكلة القراءات الخاطئة التي يكذبها ً عامة ينظرون إلى الواقع من خالل الواقع تنبع من أن الناس
أهوائهم ورغباتهم وأوهامهم؛ لذلك يخطئون التحليل.
النخب أعادت الشعب إلى الحظيرة ّ «تحول الشعب المسكين إلى شعب من الالجئين...
الجئين في أوطانهم» ،تقول في كتابك «بيان من أجل ً الجئا في الديموقراطية» :إال أن الشعب المسكين لم يعد وطنه ،إنما خارجه ،ماذا َي ْعني لك ذلك؟ ً قرونا طويلة مُ غيَّبة عن الفعل ،وتابعة عاشت شعوبناللطغاة الذين ّ تعلموا كيف يخضعونها على م ّر األزمان .وعندما
انهارت السلطنة العثمانية ،تح ّررت الشعوب من هالة القوة والعظمة ورُهاب السلطة .وحدث في أعقاب ذلك أن ال ُّن َخب الصاعدة من المجتمعات المحلية كانت في حاجة إلى دعم َّ ّ محل وتحل الغربي، الشعب؛ لتع ّزز موقفها أمام االستعمار ّ
السلطة السلطانية الزائلة ،فاضطرت إلى تعبئته ،وإدخاله في الحياة السياسية ،وأعطت له آمالاً كبيرة في المشاركة .وبفضله استطاعت بالفعل أن تربح النزاع مع االحتالل وسلطات الوصاية األجنبية ،وتبني دولاً وطنية خاصة بها .وكانت هذه اللحظة
فصاعدا ..لن تخمد نار الحرب! برهان غليون :من اآلن ً
من اللحظات التاريخية المهمة والمضيئة والحاسمة في تاريخ العرب الحديث.
لكن ما إن استتب األمر لهذه ال ُّن َخب حتى بدأت مسارًا
معاكسا ،وهو إعادة الشعوب إلى الحظيرة ،وإجبارها على ً
ِّ التخلي عن مكتسباتها .منذ االستقالل كان هَ مُّ ال ُّن ُظم الحاكمة هو
تجريد شعوبها من آمالها وتطلعاتها في المشاركة والتحوُّل إلى رجال أحرار قادرين على المساهمة في تقرير مصير مجتمعاتهم.
باستثناء مرحلة سيطرت عليها الشعبوية؛ أي :مخاطبة الشعب المهمَّش مع اإلبقاء على تهميشه ،وهي ما ُنسمِّ يه المرحلة
القومية؛ إذ اصطبغ تاريخ هذه الشعوب بالديكتاتورية الدموية وحكم القهر والعنف.
العربي التي فجَّ رت العنف المختزن لدى بعد ثورات الربيع ّ
الشعوب لم يَعُ د من الممكن ضبط المجتمعات بالديكتاتورية والقمع ،ولم يَعُ د لدى ال ُّن َخب الحاكمة مجال لالحتفاظ بالسيطرة إال بتشريد هذه الشعوب وتخييرها بين الخضوع أو
العربي الموت أو الهجرة .وللعلم قبل هجرات ما بعد الربيع ّ كانت نسبة المهاجرين من العرب بالنسبة إلى تعداد السكان هي األعلى بين كل شعوب العالم .اآلن سيتضاعف اللجوء بوتيرة
هشام جعيط
قياسية ،وسيحتاج العالم إلى عقود حتى يستدرك تأخره عن
العرب في هذا الميدان.
سوء اإلدارة ،والديكتاتورية ،والعنف ،والفساد ،وانعدام
المسؤولية ،واالستهتار بمصير الشعوب ومصالحها ،وانسداد مجتمعات طارد ٍة أبناءها ،وهذا هو اآلفاق؛ حَ و ََّل مجتمعاتِنا إلى ٍ الدليل على أننا سرنا وال نزال نسير على الطريق الخطأ.
ْ َ وطالتك تعرضت في المدة األخيرة إلى االنتقاد، ُ االتهامات من خصومك؛ ما موقفك من هذه االتهامات
واالنتقادات؟
-أسمع عن هذه االتهامات من أصدقاء لكنّ نادرًا ما أقرؤها.
هناك دائمً ا ما يشغلني أكثر من ذلك .وفي الحقيقة ال أشعر
أن لديَّ رغبة في الخصومة مع أحد .لديَّ شعور بالواجب، والقيام بهذا الواجب هو المهمّ ،بصرف النظر عما يثيره ذلك
من اعتراضات وانتقادات واتهامات لدى اآلخرين .أعرف أن هناك من اتهمني باإللحاد عل ًنا في القنوات التلفزيونية؛ ألنني كما يرى ماني ،ومن يتهمني بدعم من الجهاديين والتكفيريين .ال أعتقد ِع ْل ّ أن هناك أيّ ْال ِتباس في موقفي منذ بدأت الكتابة :أنا مع الدولة
الديمقراطية واحترام الحريات واآلراء الشخصية ،والتعايش بين
المذاهب واألديان واألعراق ،وتنمية القيم واألخالق اإلنسانية التي َتعْ ِني المساواة العميقة ونبذ العنصرية ،والرهان على تربية
واألخالقي ،من أيّ قومية أو دِين. المدني وعي الفرد ّ ّ حاولت في العقود الماضية أن أعمل كل ما بوسعي؛
الغرب الذي كنا نعرفه ونطابق بينه والنزعة الكونية واإلنسانية قد نثري انتهى ،وولد في مكانه غرب ّ يتحول بشكل متسارع إلى الركاكة ّ والرثاثة األخالقية والقِ َيمية لتفكيك القنبلة الموقوتة التي هي الصدع داخل مجتمعاتنا بين والع ْلمانية الذي عمل عليه وعمَّ قه مثقفون ورجال اإلسالمية ِ
دِين صغار وضيِّقو األفق ومتعصبون .وسعيت للمساهمة بكل ما كتبت في ردم ال ُهوَّة بين َّ شقي المجتمع المنقسمين؛ العتقادي
أنه من دون ذلك لن يكون لدينا أمل؛ ال في ديمقراطية ،وال
دولة ،وال أمن ،وال سالم ،وال تقدم ،وال ازدهار .لكن ال حياة لِمَ ن ُتنادي .وها نحن نعيش انفجار هذه القنبلة التي صنعناها
بأنفسنا في جسدنا ،وتفجيرها ثوراتنا ،وإحراقها ربيعنا المأمول. عندما تجلس أمام مرآة نفسك ،كيف ينظر برهان
غليون الشيخ إلى برهان غليون الشاب ،أي منعرج تراك سلكته بعد أعوام وأعوام من االشتغال المثابر وااللتزام، ما الذي تغير في رؤيتك؟ وماذا تبدل في آليات اشتغالك؟
83
حوار
أشعر أنني بين بين .لم أعد كما كنت بالتأكيد لكنني لمشيخا بالتأكيد ً ً أيضا .ما زلت أحلم وأعتقد أن هناك قيمً ا أصبح
العالمي المن ِتج، والثقافي والتقني الصناعي جزءً ا من المجتمع ّ ّ ّ ّ أصبحنا سُ ً ِّ وقا استهالكية للدُّ وَل المتحكمة فيها ،ونحن نتحول
وهذا هو معنى الشباب في نظري؛ استمرار الحلم والتطلع ُّ والتعلق بالتحوالت الكبرى والمثيرة .ما دام اإليمان إلى اإلنجاز
بشرية .ومهاجرونا هم جزء من هذه الموا ّد الخام التي نصدّ رها ّ وتعلقنا إلى السوق المعولمة .رفضنا الحداثة المن ِتجة والفاعلة،
وغايات كبرى ال يمكن التوقف عن الصراع من أجل تحقيقها. ٍ
بالحرية والعدالة والمساواة واألخوة هو الذي يسكننا ويحركنا
بالحداثة ال َّر َّثة فلم َيب َْق أمامنا من خيار سوى العولمة السوقية؛
الشيخ ،بالرغم من فتور الهمة والعزيمة.
فهم ما حصل لنا في السنوات الخمس الماضية ومصير تحوُّالتنا السياسية إذا لم نراجع تفكيرنا ،ونفهم إخفاقنا في تطوير ُن ُظمنا
ويلهمنا فنحن لم نغادر الشباب .كما ترى ال يزال الشاب يصارع
معولمون أم مشاركون؟
أي :نفايات العولمة ،وضحايا ديناميكياتها التدميرية .وال يمكن
المدنية والسياسية واإلنتاجية؛ لتصبح على مستوى التفاعل
تقول« :ال يمكن درء مخاطر العولمة وهي كبيرة سوى ً تماما كما هي الحال مع االنحناء للعاصفة»، باالندراج فيها َ هناك من يرى أن العرب شاؤوا أم أ َب ْوا هم مندرجون في العولمة ،في شكل أو آخر ،لكن من دون وعي ،اندراج ّ هش
في تعاطيك مفك ًرا وكاتبًا مع الثورة السورية ّ تتخفف كثي ًرا من عتادك بوصفك مفك ًرا؛ وتداعياتها الدموية،
-بالطبع .نحن ال نختار أن نكون في العولمة أو ضدها؛ ألننا
والتراكيب المعقدة ،هل لكل لحظة أسلوب تعبير مختلف،
من دون أسئلة يطرحها العرب على أنفسهم في هذا الشأن؟
ال نستطيع أن نخرج من العالم .لكننا نستطيع أن نختار بين أن واع ،ومتفاوض نكون معولمين بالرغم منا أو مشاركين بشكل ٍ عليه في العولمة التي تريد طحننا .وألننا لم َن ْسعَ للمشاركة
84
إلى ق َِطع غيار لها أو موا ّد خام لخدمة أغراضها من موارد وقوى
المنتج مع الفضاءات العالمية ،وتحمينا من مفاعليها السلبية.
ً بعيدا من لغة المفاهيم، تكتب بلغة مباشرة وواضحة، «منطوق» يأخذ شكله من مالمح راهنيته؟
فيها ،ولم نفاوض على موقعنا ولم َنعُ دّ شروط االنخراط اإليجابي فيها ،ونطوّر سياساتنا ،وهياكل مجتمعاتنا بما يجعلنا ّ
أدونيس يخشى الجمهور
أدونيس
اً أعمال مهمة من خالل ما أتيح لك من اطالع على ما كتب من أدب عن الثورة السورية؛ هل ترى أن هناك ّ تظل أكبر من أن يستوعبها األدب؟ صدرت في هذا الخصوص ،أم أن القضية
ثمار أدب الثورات العربية بالكاد بدأت تظهر ،فهي تحتاج إلى مسافة عن الحدث وإلى اختمار كي تنضج .لكننيلهم أجيالاً كثيرة قادمة من المبدعين العرب ال أشك أن هذه الثورات التي حوّلت إلى نكسات ونكبات ٍ ومآس سوف ُت ِ والسوريين .اآلداب العظيمة هي ثمرة اآلالم العظيمة التي هي بدورها ثمرة الكفاح العظيم للمجتمعات؛ لتحقيق
الحرية واالنعتاق والخروج من القوالب الجاهزة والقماقم البائدة.
بالمناسبة ما رأيك فيما أُثير و ُيثار حول أدونيس ومواقفه مما يحدث؛ هل تشعر ،اً مثل ،بخيبة أمل؟
أبدً ا .لم يكن لديَّ أي وهم حول موقف أدونيس الذي أعرفه عن قرب .لم يكن أدونيس يهتمّ في أي وقت بمسألةالحريات العامة والسياسية خاصة .همّ ه ّ مركز في كل ما هو فرديّ وامتيازيّ واستفزازيّ وتفرديّ ؛ مثل كثيرين غيره
من المثقفين «المتنورين» أعتقد أنه يخشى الجمهور ما لم يكن من معجبيه ،ويخاف ويقلق من الجماهير والشعوب والجماعات ،وباألحرى من ثوراتها ،ربما ألنه ال يرى فيها سوى الفوضى والسديم والالتميز واالنغالق.
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
فصاعدا ..لن تخمد نار الحرب! برهان غليون :من اآلن ً
-كل كتابة أو باألحرى خطاب هو تواصل أو محاولة تواصل
مع جمهور .في الكتابات العلمية يكون التواصل مع المختصين،
وال بد من استخدام لغة االختصاص؛ كي يكون لخطابك معنى، يصب فيه .في الكتابات الموجّ هة وي َّتسق مع الميدان الذي ّ ِّ ُ اللغات االختصاصية لجمهور عامّ من غير المختصين تشكل ً عائقا للتواصل؛ لذلك يميل المتكلم إلى استخدام لغة مفهومة
يحدث ،بتشجيعه السياسات المتعجرفة من جهة ،وصمته ً ّ تغول بعض األنظمة من جهة ثانية ،ومن جهة أحيانا عن ً تفهما ثالثة يمارس مفهوم الدولة ودولة القانون ،ويبدي
كبي ًرا لحقوق البشر أينما كانوا ،ويفتح لهم حدوده؛ كيف ترى مواقف الغرب؟
-الغرب الذي كنا نعرفه ونطابق بينه والنزعة الكونية
واإلنسانية قد انتهى .وولد في مكانه غرب نثريّ يتحوّل بشكل
من الجميع .أعتقد أن السهولة في االنتقال من لغة مخاطبة إلى لغة أخرى ناجمة عما ذكرته من ُ قبل في التمييز بين العالِم
متسارع إلى الركاكة والرثاثة األخالقية وال ِقيَمية .غرب لم يَعُ دْ
يكن هَ مّ التواصل مع أوسع جمهور ممكن غائبًا عن جيل الباحثين
اجتماعية تهتمّ اليوم أكثر بشؤونها الداخلية ،وإرضاء ناخبيها،
االختصاصي وبين المُ ِّ فكر .حتى الكتب العلمية أو المختصة ،لم ّ
العرب الذين اشتهروا في الحقبة الماضية .ثم إن هؤالء كانوا على العموم ذوي هموم سياسية ومعظمهم جمعوا في حِ َقب المعرفي؛ من عبدالله العروي إلى السياسي والهَمَّ مختلفة الهَمَّ َّ َّ محمد عابد الجابري إلى هشام جعيط ،وهناك كثيرون غيرهم.
نكبات كثيرة حدثت في أصقاع متفرقة من العالم، ِّ وكانت تداعياتها مؤثرة ومثيرة لكثير من األسئلة والتساؤالت، اً ُ ّ السوري سيل واسع من التعاطف ،لكن نكبة الالجئ ومد ّرة كانت مختلفة؛ مشاهد الفرار ليس من سوريا فحسب،
العربي كله ،كانت مرعبة ،لكن السؤال هنا إنما من العالم ّ ِّ ً رئيسا فيما الغربي ،الذي من جهة يمثل سببًا يتعلق باآلخر ّ
هو نفسه منتشيًا بتاريخه ومبادئه وحضارته الفكرية .كل نخبة وتأمين عملية انتخابية مقبولة ،وطمأنة الناخبين على استمرار المرافق والخِ دمات العامة والتأمين الصحي ودعم النمو وإيجاد
يوجد قلق كبير من مصير األقليات؛ بسبب تصاعد موجة اإلسالم السياسي ،وبخاصة َد ْور التنظيمات ّ اإلسالمية الجهادية ،واحتمال سيطرتها على السلطة
يأت جيل بعدكم تنتمي إلى جيل من المفكرين العرب ،ربما يصعب تعويضهم ،أو على األقل ،لم ِ ُ يتمتع بمالمح معينة ،ويشتغل بمشاريع كبرىُ ، أسئلة النهضة والتقدم والتخلف والعقل والتراث ،ربما وتقلقه وجد مفكرون ينتمون إلى لحظة مختلفة جاءت بعدكم ،لكن هؤالء المفكرين لم يلفتوا االنتباه ويحظوا بانتشار
التاريخي وقراءة مثلكم ،حتى في أوساط الدوائر المتخصصة؛ من المسؤول هنا؟ المفكر نفسه أم الواقع ّ واالجتماعي والسياسي الذي وجد فيه ،أم أمور أخرى؟ ّ ال أعتقد أن هناك مسؤولاً .أعتقد أن السياقات التاريخية والظروف هي التي تخلق ّّ ومفكريها .المكانة مثقفيها ُّ والتطلع إلى بناء والدَّ وْر الذي أدَّاه جيل المفكرين الذين تتحدث عنهم ارتبط بسياق الخروج من الحقبة االستعمارية ُّ َ ً المجتمعات الحديثة .وولد في هذا وتطلعاته ُجاري في تقدُّ مه وأُ ُطر تنظيمه عربي جديد، عالم ِ ّ دولة ومجتمعً ا ،ي ِ
ّ خاص على مثقف ال يقتصر َدوْره على تقديم معرفة ِعلمية و ْ َصفية اختصاصية ،إنما يربط هذه الظرف طلب من نوع ً األيديولوجي، المثقف نشأ وهكذا والتحديث. والتقدم النهضة سؤال عن تجيب وشاملة تاريخية برؤية أيضا-المعرفة ّ
َ وإلى ٍّ الوطني الذي سبقه وقبله المثقف المثقف حد كبير العضويُّ أو المتفاعل مع المجتمع والتاريخ ،الذي و َِرث َّ تكسرت تغيب عن الذهن والنقاش؛ اإلصالحي ،وقبلهما مثقف النهضة التجديديّ .اآلن تكاد مشاريع النهضة التي ّ ّ ْ لتفتح الباب أمام حِ قبة جديدة يسودها المختصون من علماء االجتماع والسياسة واالقتصاد والتاريخ؛ لذلك يتراجع ّ َّ ّ ً ليحل المفكر أيضا -استخدام لفظاألكاديمي أو العالِم .وفي اعتقادي سوف يَزيد الطلب على محله مصطلح الباحث أو ّ
نفسها ،وانحسار الحديث في المعرفة االختصاصية في المستقبل بشكل أكبر مع االنكفاء على إعادة بناء المجتمعات َ المشاريع التاريخية الكبرى التي كانت تختفي وراء أفكار النهضة والوَحْ دَ ة َ القوْمية والحَ دَ اثة ،التي ربما تعود فيما بعد
ِّ والصيَغ والمفاهيم. في حُ َّلة مختلفة من المناهج
85
حوار
فرص عمل جديدة.
الغرب يعيش اليوم في تاريخية عادية ليس لها أيّ عالقة
بتاريخية العظمة التي كان يسعى للحفاظ عليها سواء أكان بوساطة ُّ تطلعه إلى القيادة والسيطرة الحضارية والتماهي مع
القيم اإلنسانية الجامعة وحقوق اإلنسان ،أم بوساطة مساعدته الشعوب األخرى؛ للحاق ب َر ْكب حضارته التي كان يراها دائمً ا كونية .أحداث ربيع الثورات العربية الكبيرة أظهرت انسحاب
الغرب وتقوقعه على ذاته ،ليس على مستوى نشر القوى ُّ والتطلعات .ال العسكرية ،إنما على مستوى المبادئ والقيم يريد أن يكون محس ًنا وال كونيًّا وال قدوة وال حاميًا وال وصيًّا.
يريد أن ينقذ رهاناته األساسية .وهو يراها أكثر فأكثر في الحفاظ على التناغم واالنسجام داخل مجتمعاته وبيئته الداخلية .األمن والصحة والسالم هي القيم الثالث الرئيسة التي تحكمه وتتحكم
الطبيعي أن تبدو موجات الهجرة القادمة في سلوكه .ومن ّ تهديدًا كبي ًرا لهذه التوازنات ،ما لم ترد على حاجة اقتصادية
مثلما هي الحال في ألمانيا .لم يفقد الغرب إرادة السيطرة ً العالمية التي كانت تح ّركه لكنه فقد أيضا« -كرمه» المعنويّأي أريحيته .ما يريده اليوم هو الراحة واالستقرار والرخاء. َ العالمَ ،وربما لن باختصار ،الغرب يعرف اليوم أنه ليس
86
َ العالم ،ويريد أن يحتفظ بما يمتلكه من َيبْقى طويلاً في قلب تراث و ِقيَم لنفسه .ال يهمُّ ه اآلخر؛ أي :ال يهمه موت اآلخر ً أيضا-وال مصيره.
اعتدنا ً ً وجها آخر للنظام؛ نمطا من المعارضة يكون ِّ ِّ ويسوق برامجه؛ كيف يمكن أن ويسوغ أفعاله، يتماهى معه نصل إلى معارضة تفضح بشاعة النظام وتواجه تغطرسه،
وتساعده على اكتشاف خططه الخاطئة ،وتهوره في صنع القرار؟
-في غياب الحريات ،كما هي الحال في جميع ال ُّنظم غير
الديمقراطية ،ال توجد وال يمكن أن توجد معارضة فعلية وفاعلة
وديناميكية .المعارضة هي وظيفة سياسية في نظام يسمح بتعدُّد القوى ،ويعترف بتعدُّد المصالح وال ُّر َؤى ووجهات النظر،
وبشرعية التنافس بوصفها آلية للتصحيح والتعديل؛ لتحقيق االنسجام والتوازن فيما بينها ،ومن َثمَّ االستقرار الطويل المدى.
في غياب هذه الوظيفة وهامش المنافسة المرتبط بها؛ تنشأ ُ هدفها التغطية على الجمود وانعدام إمكانية معارضة شكلية التعديل والتصحيح ،من جهة ،وهي بالضرورة معارضة طفيلية تعيش على جسم النظام .وهذا هو وضع معظم معارضاتنا؛
إذ تغيب هوامش الحرية .أما الوظيفة األساسية التي تسمح
بتعديل األوضاع وتسوية المصالح فيما بينها ،فال تتحقق من داخل النظام لكن من خارجه ،وتتخذ شكل رفض لهَ ، وتتم َّرد عليه .وهي بالضرورة ودائمً ا ذات طابع متط ِّرف ،وفي مجتمعاتنا َ شكل الفقيرة بالثقافة السياسية ،يتخذ تم ُّردُها وتط ُّرفها انشقاق ال يجد مصدرًا للشرعية سوى ِّ الدين .هذا هو أصل نشوء
الحركات اإلسالمية السياسية .ومن الواضح أنه ال المعارضة العائشة كالطفيليات على جسم النظام القائم ،وال المعارضة
التم ُّردية الناقمة على النظام والرافضة لشرعيته ووجوده؛ ٌ قادرة على ملء الوظيفة الشاغرة التي تتعلق بإيجاد آلية للحراك
والتفاوضي للمصالح السلمي والسياسي والتعديل االجتماعي ّ ّ ّ ّ ُّ والتوازنات؛ كي يتحقق حدٌّ من االنسجام واالستقرار .الحل هو
خلق شروط المعارضة السياسية الطبيعية ،وهي مرتبطة بوالدة أنظمة سياسية ديمقراطية تعدُّدية وتداولية.
لزمن طويل هيمنت الثنائيات
العربي ،األصالة على خطاب الفكر ّ والمعاصرة ،التراث والحداثة ،إضافة ّ صلة إلى موضوعات عامة ،تكاد ال تمت بِ ِ
إلى مجتمع معيَّن ،على ما يذهب الكاتب حازم صاغية ،وهو يتأمل حالتك بوصفك مفك ًرا يواجه ً عنفا لفظيًّا ،ويعاين انتقالك
ّ ّ المحدد، الوطني العام المحض إلى من ّ ً إذا هل نحن أمام لحظة ستغير كثي ًرا من
قناعات المفكر؛ أي ِّ َ وست َهبه فرصة مفكر، ّ تعوض؛ الختبار كثير من أفكاره في ال لحم الواقع؟ َ الممارسة أسئلةً ُ ْ طرحت عل َّي بالتأكيد.
وتحديات لم أكن أعرفها وال وإشكاليات ٍ ٍ
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
فصاعدا ..لن تخمد نار الحرب! برهان غليون :من اآلن ً
أتوقعها .وأنا أشعر أن هناك ورشات عمل نظرية كثيرة ،كنا قد تجاهلناها وهي تفرض نفسها بقوة اآلن .فيما يتصل بي ،بعد
تركيزي في مؤلفاتي السابقة على محور َِي الثقافة والسياسة؛ أشعر اليوم أن هناك عملاً نظريًّا كبي ًرا لم ُ نقمْ به بعدُ على صعيد تحليل المجتمعات المدنية ،أو ال ِب َنى االجتماعية واألنثربولوجية والنفسية واألخالقية لهذه المجتمعات .إذا لم تغ ِّي ْر ُ مثل هذه األحداث العظيمة والمآسي واإلخفاقات الرهيبة أفكارَنا فلن
تتغير أبدًا .وال أتحدث عن المفكرين والعلماء فحسب ،إنما عن عموم العرب وإنسانهم.
العنف سببه اإلخفاق في االندماج
تعيش في باريس وتعمل في جامعتها المرموقة، ً العربي؛ كيف ترى منخرطا في قضايا الواقع لكنك بقيت ّ
اليوم ما يحدث في الغرب ،وبخاصة باريس ،من اعتداءات وإرهاب ،يقوم بها أناس يحملون جنسيات أوربية ،وفي الوقت نفسه ينتمون إلى اإلسالم والعرب؛ لماذا على ً أوضاعا مأساوية في أطوار اإلسالم و«العربي» الذي يعيش
كثيرة من تاريخه ،أن يدفع ثمن كل ذلك؟
ما يحدث من عمليات عنف يقوم بها فرنسيون أو أوربيون عربي مسلم هي نتيجة ْالتقاء عاملين؛ األول إخفاق من أصل ّ بعض المهاجرين في االندماج في مجتمعاتهم؛ ألسباب شخصية أو جماعية ،واألزمة الكبرى التي تعيشها المجتمعات العربية وانعكاساتها على هؤالء المهاجرين في العمق هي تعبي ٌر
عن اليأس الذي يلعب في إنتاجه إخفاق سياسات اإلدماج في
كثير من الدول األوربية ،وإخفاق إقالع المجتمعات العربية وتقدُّ مها ،والسبب الثاني هو وجود البيئة المتفجّ رة الداعمة نفسيًّا وماديًّا فوضى الصراع الدامي الذي تعرفه المجتمعات العربية الراهنة .وكالهما أزمة اندماج المهاجرين أو األوربيين من أصول مسلمة عربية ،وأزمة اندماج المجتمعات العربية في
الحضارة وتحقيقها تطلعات شعوبها يوجِّ هان إصبع االتهام إلى الغرب.
عمليات االعتداء التي تتك ّرر تعكس رُوح االنتقام التي تعبِّر
عن التخبُّط واليأس أكثر مما تعكس رؤية أليّ مشروع طويل المدى .هي ردود أفعال مخفقة ُ ّ يغطون ألناس مخفقين على إخفاقهم باستعراض أقصى ما يمكن من العنف والقوة
والعدوان على األبرياء.
َ قلت ذات مرة :إن غياب أجندة قومية أو إقليمية
لدى العرب ،غذى شراهة التوسع واالستحواذ لدى إيران، ً تحولت إلى عامل ُي ِّ وعوضا من أن تكون َظ ِهي ًرا للعربَّ ، قسم ّ َ ويشتتها ،لكن كيف ترى الدعوات التي الدول العربية
فصاعدا ،لن تخمد نار الحرب، من اآلن ً احترام ولن يهدأ القتال قبل أن يصبح ُ حقوق اإلنسان؛ أي :كرامته ،القيمةَ المشتركة بين جميع ُن ُظم المنطقة تطلقها بعض األنظمة العربية إلى إيران؛ لتحقيق عالقة
يطبعها حسن الجوار ،وتوحيد المواقف تجاه مكامن الخطر على إيران والعرب ،بحكم ِّ الدين الذي يجمعهم؟ لم يَعُ دِ ِّ الدين يجمع أحدًا ،حتى داخِ ل المذهب الواحد.
وأنت ترى الصراعات داخل صفوف الحركات اإلسالمية السياسية ذاتها .منطق العالقات الدولية شبيه باألواني المستطرقة ،حيثما يظهر فراغ تتحرك القوة األقرب لِمَ ْل ِئه .ما َّ تبقى هو خطاب إلضفاء
الشرعية على الفعل .لكن الفعل ال عالقة له بالخطاب ،لكن
باختالل التوازنات في القوى .ما حصل في منطقتنا هو أن إيران َتحوَّلت إلى قوة نشيطة بعد الثورة اإلسالمية التي عرفتها في الثمانينيات ،مزوّدة بإرادة تأكيد للذات ،وبعقيدة دينية قومية جامعة ،وبسلطة فردية استثنائية فيما تملكه من الشرعية؛ َ إذ ال تشبه سُ ُ لطة ال َول ِّي َ سلطة أحد سوى بابا الكنيسة الف ِقيه
الغربي لها من ُلحمتها الداخلية، الكاثوليكية .وقد عمَّ ق العداء ّ ُّ ِّ التحدي والتطلع إلى الهيمنة اإلقليمية .وجاءت وبعث فيها رُوح العراقي؛ لتفتح أمام طهران الحرب الدولية إلسقاط النظام ّ الخمينية ً ُ آفاقا واسعة لممارسة سياسة التوسُّ ع باسم نشر الثورة
ومبادئها .وفي سياق هذه السياسة التوسعية وركابها انتعشت
رُوح المذهبية ِّ الدينية ،وصارت سالحً ا إضافيًّا لزعزعة استقرار إستراتيجي كبير بعد سقوط البُلدان العربية التي تعيش في فراغ ّ العراقي وتسهيل اختراقها. الحاجز ّ
عربي في وقد نجحت طهران في إيقاع أكثر من نظام ّ أحابيلها ،وراهنت على تعبئة القوى المحلية المذهبية ،وبقينا
خاملين ،نراهن على قوة الدعم األجنبية اعتقادًا أن الواليات
المتحدة األميركية قادرة عند الحاجة على الدفاع عن حلفائها. بينما كانت طهران تنمِّ ي قواها ،كنا نبني الفنادق والمركبات السكنية الفاخرة.
ليس من الممكن عودة االستقرار واألمن والسالم إلى
اإلستراتيجي بين العرب المنطقة من دون استعادة التوازن ّ الوطني العربي وإيران .وهذا يستدعي إعادة هيكلة النظام ّ ّ ً متماسكا وقادرًا على المقاومة العسكرية واإلقليمي؛ ليصبح ّ
والمعنوية.
87
مقال
الرواية وأنا.. صناعة أقدار وصيد بط! يسألون :هل نحن نعيش عصر الرواية؟ وأسال أنا :منذ متى لم يكن للرواية عصر تعيش فيه؟ إنها
شيء خالد كال ُّروح ،الرواية ليست سوى حكاية واحدة آلالف الحكايات التي نعيشها كل لحظة .حتى أكثر
الروايات جنوحً ا للخيال ،هي األخرى تنطلق من حكاية عشناها في زمن ما .أو ال نزال نعيشها؛ كل واحد منا له حكاياته ،كل واحد منها هو بذاته حكاية .أنا .أنت .اآلخرون هم كلهم حكاية .ولكل واحد أسلوب في ً وأحيانا يكتفي صاحب الحكاية بسردها على األصدقاء ،وسواء طرح حكايته؛ بعضنا يكتبها ،فتصبح رواية.
كتب اإلنسان حكايته ،أم اكتفى بسردها ،فنحن جميعنا رُواة بشكل أو بآخر؛ ما يجعل أحدنا أكثر براعة من غيره ،هو األسلوب الذي يطرح فيه حكايته.
في الماضي ،كان (الحكواتي) أو الراوي ،هو الرواية كلها ،فهو جزء من القصة التي يرويها بالترتيب يمل هو ،أو ّ والتسلسل نفسه من دون أن ّ نمل نحن من سماعها؛ ليلى والمجنون ،عنتر وعبلة ،أبو زيد الهاللي، وحكايات أخرى كثيرة .نعرف بداية كل حكاية ونهايتها ،ومع ذلك نسمعها من فم الراوي ،باهتمام شديد كل
88
مرة ،كأننا نسمعها أول مرة ،ويعني هذا أن األسلوب في الطرح ،هو ما يجعل العمل روائيًّا ممتعً ا ،أو يسلبه هذه الصفة ،لكن الحكاية تبقى هي ذاتها ،قطعة من تجربة يومية؛ ُكتبت أم لم ُتك َتب ،رُويت أم لم ُت ْروَ. حينما ُ كنت شديدَ الخجل من مواجهة الناس ،وحينما كنت أتمتع بأسلوب إلقاء تعيس ،فقد آثرت أن ُ أَ َّتجه إلى الرواية المكتوبة ،كنت أعيش كل يوم رواية ،فأحببت أن أسجِّ ل ما أعيش ،لكنني وفي أحيان كثيرة
تم َّنيت لو لم تكن التجربة التي عشتها ،أو سمعتها ،ابتدأت أو انتهت كما حدثت بالفعل .وكم تخيلتها لو بدأت هكذا وانتهت هكذا ،وألنني كنت عاج ًزا عن تغيير الواقع ،فقد التجأت إلى الرواية ،إلى الخيال؛ ألصنع َّدت مُ ً كل شيء كما أريد ،شي ُ دنا كما أريد ،وخلقت شخصيات كما أريد ،وح َّركت األحداث كما أريد ،لقد
كنت أصنع أقدار أبطالي كما تم َّنيت دومً ا أن تكون نجاحاتهم وإخفاقاتهم ،وبداياتهم ونهاياتهم. ُ ُ ما فعل ُته بعد ذلك هو أنني لزمت مكاني صام ًتا ،إن ُ ترفعت عن مراقبة ردود ِفعْ ل الق َّراء قلت :إني ُّ كنت ،في صمتي ،شديدَ كذبت ،بل ُ ُ التطلع إلى معرفة رأي القارئ كائ ًنا مَ ن كان ،ومع على ما أكتب ،فقد
ُ ُ وأصررت في العلن أكثر مما في السر على أن قمة نجاح الروائي هو استمررت في ا ِّدعائي أني ال آبه له، هذا ً أن يكتب فقط ،ربما كان ذلك حقيقيًّا ،كما أدركت الحقا ،لكنني حينها ،وفي البدايات ،كنت خالف ذلك؛ ُ حركت جزءً ا ،ولو ضئيلاً ،من البحيرة. أستجدي كل ثناء أو نقد ،حتى هذا األخير يَعْ ني أنني قد ً وكما ُ الحقا ،أن نجاح الروائي ال يتحقق من خالل ثناء الناس عليه أو رفضهم إياه، قلت ،فقد أدركت وال من خالل جائزة يحصل عليها أو مكافأة ينالها ،فلم تكن تلك الجوائز في رأيي سوى إهانة رهيبة لألدب، ً الحقا ،وبقناعة راسخة ،أن أعظم مكافأة يستحقها الروائي والكاتب أن يتجرد من خوفه، أقول :إني أدركت ويكتب ما هو مؤمن بهَ . ُرضي وتعَ مَّ َق في يقيني أن قمة نجاح الروائي أن يكون أنانيًّا في المطلق؛ أي :أن ي ِ نفسه أولاً وأخي ًرا ،ال أن يسعى إلى إرضاء ُ الق َّراء ،أو استجداء الجوائز. وأنا اليوم هنا بعد رحلة طويلة مع ُ الكتب ،والقلم ،وقدر كبير من الروايات التي كتبتها أو التي قرأتها؛
أتمنى بحسرة لو يمكنني تأسيس جمعية أو منظمة ترسِّ خ غايتها لمحاربة جوائز األدب؛ إذ إن من شأن تلك الجوائز ،إضافة إلى إهانة األدب ،أن تقتله ً أيضا ،ويكفي أنها أصبحت مقياس نجاح الرواية وإخفاقها؛ حتى بات ُ الك َّتاب يستجدون ال ِّرفعة من وراء جائزة يتيمة ،أكثر مما يستجدون السم ّو من إيمانهم الصادق
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
ّ تستحق محض والمخلص بما كتبوا .وها نحن نرى اليوم روايات ال
القراءة ،وقد حصدت من الجوائز ما لم تحصده روايات أعظم ّ منها ً الحظ خذل واحدة، شأنا ،وما الفارق بين هذه وتلك سوى أن وقاد أخرى إلى أصحاب العصمة والقرار. لقد أَسَ َر ِني َ عالمُ الرواية في نقائه؛ حتى ُّ بت أرى في كل
مقاطع يومي ،صباحي ومسائي ،فكرة رواية جديدة ،الوقت َّ ً تتملص مني في أحايين أخرى، أحيانا ،والفكرة نفسها يخذلني ُّ فبت كصياد البط الذي يكمن لفريسته بين أعواد القصب ،لكن ُّ التملص من السقوط في كمائن الكاتب، األفكار مناورة وماهرة في
فالبط يُغيِّر مكانه والصيا ُد قابِعٌ ينتظر ،كان عليه أن يُغيِّر موقعه، ً وهكذا ُّ بحثا عن فكرة طائرة ال تهرب مني، بت أُغيِّر موقعي؛
هاني نقشبندي
فتكون عملاً جديدً ا يبدأ من أرض الواقع ،حيث أنا بين أعواد القصب ،ثم أُ ِّ حلق به أعلى من مستوى البط.
روائي سعودي
ومتى أضحت الفكرة أسيرتي ،ال مجال لهروبها من قلمي ،ال
تلبث تلك الفكرة أن تتعاطف مع القلم ضدي ،فيسعيان معً ا إلى َل ِّي ذراعي؛ لأِ توجَّ َه بالكتابة إلى طريق آخر غير الذي كنت أرمي إليه
89
عندما وضعت الكلمة األولى ،ال أتوقف عن الكتابة وال أستسلم،
ونتحاب ،ثم نتعارك من وال القلم والفكرة يستسلمان ،فنتعارك، ّ
جديد ،فنفترق ونلتقي ،وأخي ًرا يكتمل العمل وقد انتصر أحدُ نا؛ أنا أو هما ،وأيًّا كان المنتصر ،سيكون هناك عمل ما ،وهذا أعلى
درجات النجاح الذي يجب أن ينشده أيُّ روائي.
فعندما يقول أحدهم :إن هذه الرواية قد نجحت وتلك أخفقت،
فإن مثل هؤالء يجهلون تمامً ا ،أنه ال توجد رواية ناجحة وأخرى غير ً ُ ْ نجحت؟ إن كبيرة تكون قد يعات الرواية مَ ِب حققت ناجحة ،فهل لو ٍ ِ كان هذا هو المقياسُ ، فكتب الجنس ال يضاهيها ُك ُتب ،أما إن كان لاً مقياس النجاح هو الجوائز ،فكم من كاتب مات مجهو ثم أضحى عظيمً ا ،ولو كان مقياس النجاح هو تلهف الناس على قراءة العمل،
فكتاب مثل «التاريخ المختصر للزمن» لستيف هوكينغ ال يوجد من
لم يسمع به ،لكن مَ ن قرأه أو استطاع أن يفهمه؟ ال َتعْ دا َد ال ُّن َسخ المَ ِبيعة من الرواية ،وال الجوائز ،وال السمعة
التي رافقتها أو َّ تخلت عنهاُ ،تعَ دُّ مقياسً ا لنجاح الروائي ،فإن كان ِب َ نجاح واحد يُعْ َتدُّ به فهو أن ي ِّ عمله كما مقياس هناك مِن ُقدم الكات ُ ِ ٍ ً ومستمسكا بأخالقياته ،ولو خالف هو مؤمن به ،متج ِّردًا من خوفه، البشرية كلها أو خالف ْته .في هذه الحال سيكون قد َّ حقق نجاحً ا
كبي ًرا ،ولو لم يقرأ عمله إنسان؛ إذ مَ ن يعلم ماذا يخبئ المستقبل. واليوم ..إن كان مِن و َُقود يدفع محرك الكتابة في داخلي
لالستمرار بال كلل ،فهو هذا الشيء وَحْ دَ ه ،ال أكثر.
أتمنى بحسرة لو يمكنني تأسيس جمعية أو منظمة ترسخ غايتها لمحاربة ِّ جوائز األدب؛ إذ إن من شأن تلك الجوائز ،إضافة إلى إهانة األدب ،أن تقتله أيضا ً
قضايا
مثقفون يتأملون أحواله وتأثير السياسة في دوره
العربي هل غ َّيرت ثورات الربيع ّ المثقف وزادته ارتبا ًكا؟ صبحي موسى كاتب وصحفي مصري
العربي، لسنوات ِع َّدة درجت السينما على تقديم صورة نمطية للمثقف في الوطن ّ
العربي ،وظهور وسائط وحصره في كونه الشاعر أو الكاتب ،ومع اندالع ثورات الربيع ّ َّ تواصل وأدوات اتصال جديدة ال يتقنها إال جيل جديد ومغاير ،تأكد للجميع أن مفهوم ُّ والتعدد المثقف صار أوسع وأكبر مما اعتادوه ،ومن َث َّم أخذت هذه الصورة في التغيُّر
90
ّ مهتزة ومرتبكة وغير مفهومة في أعين الجميع .في هذا التحقيق والتبا ُين ،إلى أن صارت تحاول «الفيصل» إعادة صياغة مفهوم المثقف ودوره وصوره التي يجيئنا من خاللها.
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
في البدء ع َّرف وزي ُر الثقافة المصريّ األسبق الدكتور َ ً موقفا المثقف بكونه الشخص الذي ي ّتخذ جابر عصفور
المثقف؛ ألنه صاحب موقف نقديّ ،وإسالم بحيري هو ً موقفا نقد ًّيا من الخطاب نموذج لهذا المثقف؛ ألنه َّاتخذ
قضايا هذا الواقع ،وفي حال اتخاذه موقعً ا وظيفيًّا كأن يكون وزي ًرا أو غير ذلك فالبد أن يظل محاف ً ِظا على
وفاعلة ومتعددة في أماكنها المتباينة ،وإن لم يرصدها
نقديًّا مما يدور في واقعه ،بحيث ال يكون سلب ًّيا تجاه
موقفه النقديّ من قضايا الواقع .وذهب عصفور إلى أن
العربي صورة المثقف هي صورة مهمة وكبيرة؛ ألن الربيع ّ كان ثورة مثقفين بأدوات ّاتصال حديثة ،فالذين قاموا بالثورة هم الشباب أبناء أدوات االتصال الحديثة؛ لذلك كانت حركتهم أسرع من حركة الدولة وأدواتها الروتينية
القديمة المتهالكة. ِّ وقال« :إن المثقف سيظل مؤث ًرا ومهمًّ ا حتى لو تطاول
بعض الناس على صورته» ،وإن صورة المثقف أصبحت ً وقفا على الكاتب أو األديب، متعددة ومتباينة ،ولم تعد «فاإلعالمي مثقف ،والصحافي مثقف ،وكل من ُيعمِ ل َ ً موقفا نقد ًّيا مما يدور حوله فهو مثقف، عقله وي ّتخذ
أما من يُر ِّدد ما يسمع من دون عرضه على قياس الوعي
الثقافي» .وتط ّرق عصفور إلى أن والمنطق فهو خارج ال ِفعل ّ َ اإلعالمي أحمد موسى ال يمكن أن نعُ دَّ ه نموذجً ا للمثقف؛ ّ لاً «لكنَّ رج مثل إبراهيم عيسى هو نموذج واضح لهذا
السائد ،وباسم يوسف مثقف نقديّ له برنامج مميّز وإن اتخذ طابعً ا ساخ ًرا ،ومن َثمَّ فنماذج المثقف النقديّ كثيرة
اإلعالم كما ينبغي لها ،أو يغير الناس فكرتهم القديمة عن المثقف؛ كي يرونه في تبايناته الجديدة». المثقف واألبواق اإلعالمية
العربي بجامعة عين شمس الدكتور: يرى أستاذ األدب ّ
محمد عبدالمطلب ،الذي نال جائزة الملك فيصل
العالمية ،أن ثمة مستويين للمثقف ،يصف المستوى
األول بكونه المحترم ،ويع ّرفه بأنه الذي يلتزم الصدق واألمانة ،ويحافظ على األصول الثقافية لألمة ،ويتح ّرك ِّ مؤكدً ا حركة محسوبة تؤدّي إلى نتائج تخدم الوطن، أن أصحاب هذا االتجاه هم األقلية ،أما المستوى الثاني
فأصحابه هم األغلبية؛ «تحوَّلت إلى أبواق إعالمية أكثرها
وفضائحي ،ومن المؤسف أن هذه الكثرة تتصدَّ ر هزلي ّ ّ الموائد والمؤتمرات ،ويحصدون الجوائز وهاالت التقدير». ِّ ليؤكد من جديد أن أخطر لكن عبدالملطب يعود
91
قضايا
ظاهرة في مصر اآلن هي ضياع مقولة« :أهل االختصاص»؛ ميسر لما ُ خلق «فالثقافة العربية تعرف مقولة« :كل َّ الشعبي يقول« :أَ ْع ِط العيش لخبازه» ،بينما له» ،والمَ َثل ّ َعرفون َّ كل شيء ،ويفتون في كل شيء، المثقفون اآلن ي ِ
على الرغم من أن القاعدة تقول :إن مَ ن يعرف كل شيء فهو ال يعرف أي شيء ،ومن َثمَّ فإننا نجد اآلن ظواهر غريبة
ومدهشة؛ مثل الخبير االقتصاديّ الذي يفتي بعلم أو بغير علم في كل شيء ،والخبير العسكريّ الذي يتحدث عن كل
كتابه ،من دون أن يعرف الدور الذي قام به البخاريّ ،وال الجهد الذي بذله؛ كي يتح َّرى الدقة في جمع أحاديثه». صور متناقضة
من جانبه َّ أكد رئيس اتحاد الكتاب المصريين السابق،
الكاتب محمد سلماوي ،أن صورة المثقف بعد الربيع ِّ موضحً ا أن هناك عدة صور العربي صارت مهزوزة، ّ
شيء ،والجميع صاروا خبراء على الرغم من أنهم ال عالقة
لهم بأيّ شيء؛ نحن أمام فوضى وليس حرية رأي ،أمام أبواق يستخدمها اإلعالم لملء مساحات فراغ ،ولسنا أمام
مثقفين حقيقيين».
وصب عبدالمطلب ،صاحب كتاب «النص المشكل»، َّ
غضبه على الباحث إسالم بحيري الذي يمضي اآلن عقوبة
رؤوف مسعد :على المثقف أن يكون
اإلسالمي ،في السجن مدة عام بعد اتهامه بازدراء الدين ّ برنامج كان يقوم بتقديمه على إحدى القنوات الفضائية.
واعيا دوره في هذه المرحلة ،ليس ً
قال عبدالمطلب« :من المؤسف أن هذه األبواق هي التي
أيضا-مطالبا بالحرية ،لكن فقط ً ً
تتصدَّ ى للدفاع عن انحراف وفساد ومساوئ الظواهر
92
مطالبا بكيفية استخدامها ً
الثقافية ،في أبرز تجلياتها اآلن إسالم بحيري الذي أهان َّ واتهمه بأنه كان يجمع القمامة ويضعها في البخاريَّ
الكفر بـ«المثقف» الديني» واإليمان بـ«المخ ِّلص ّ
عبدالله البريدي أكاديمي وكاتب سعودي
ً ً شديدا في المجتمع ارتباكا بنيويًّا العربي أحدث الربيع ّ والمؤسسات العربي ،فقد ه ّز األفكار واألنساق والرموز ّ ّ
ّ ّ األدلة المؤكدة ـ«المخلص الديني» ،وطفقت تجمع آمنت ب ّ ّ على تضعضع المثقف فكريًا وأخالق ًيا؛ مع قائمة اتهامات
الطبيعي أن تهت ّز صورة المثقف واآلمال والخيبات .ومن ّ ّ العربي في هذه السياقات؛ إذ ال يمكن أن يمثل استثناء، ّ
ُ حيث السطحي» مِ ن «المثقف العميق» ،و«المثقف ّ ُ اإلصالحي» و«المثقف والمنهجية؛ مِ ن «المثقف ال ِفك ُر ّ حيث ال ِقيَمُ والدافعيةُ. ُ االنتهازي» مِ ن
والخرائط ،جالبًا معه منظومة مشوّشة من الرؤى ّ والمتشددة، اإلستراتيجية واآلنية ،واالتجاهات المعتدلة
ّ يحصن نفسه من تلك االهتزازات واالرتباكات ،التي أو أن ّ ً متوقع ،بيد أحدا .إذن االهتزاز في الصورة أمر لم توفر
تزيد وال تنقص .وهناك شريحة أخرى رأت في الربيع ً فرصة مواتية للفرز وإعادة التقويم ،فهي تميِّز العربي ّ
ِّ نحدد ليس لدينا استطالعات رأي عام دقيقة؛ كي العلميّة وزنَ ّ كل شريحة من تلك الشرائح، من الناحية ِ
أن الالفت هو حجم االهتزاز ،فهو ضخم ًّ جدا ،وبخاصة ِّ المتلقين بالمثقف لدى بعض الشرائح ،فقد كفر بعض
وانعكاسات ذلك على صورة المثقف ،وما عسانا نستنتج
العربي ،وثمة شريحة كافرة به مِ ن حيث األصل؛ ألنها ّ
لذلك فإن كل ما يقال هو محض آراء انطباعية ذات بُعد
العربي ،وأعلنوا إفالسه؛ لمحدودية أدواره في الربيع ّ
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
من ذلك بخصوص فاعليته المحتملة في المستقبل؛
العربي المثقف وزادته ارتبا ًكا؟ هل غ َّيرت ثورات الربيع ّ
متناقضة يجري تداولها عن المثقف« ،وهي صور مخالفة للحقيقة التي تقول :إن المثقف كان في قلب الحركة
الجماهيرية في مختلف البلدان العربية؛ ففي مصر على
سبيل المثال ،كانت أول نقابة تعلن تأييدها ثورة 25يناير هي اتحاد كتاب مصر ،وذلك يوم 26يناير؛ أي بعد 24
ساعة من اندالع الثورة في الشوارع المصرية ،وقد أصدر ً بيانا تب َّنى فيه مطالب الثورة ،وقام المثقفون االتحاد
بمسيرة من مق ّر االتحاد إلى ميدان التحرير ،وطوال أسابيع
متوالية حضر المثقفون في مختلف الميادين حيث فئات الشعب األخرى ،وكان كثير من الكتاب العرب يتصلون بي
من مختلف األقطار العربية الشقيقة؛ ليعلنوا تأييدهم
الثورة ،ومن كان يحضر منهم إلى مصر كنت أصطحبه إلى ً تلبية لطلبه». ميدان التحرير
جابر عصفور :المثقف سيظل مؤ ِّث ًرا ومهما حتى لو تطاول بعض الناس ًّ على صورته
وأضاف سلماوي «أن اتحاد الكتاب هو الجهة الوحيدة
في مصر التي سحبت الثقة من رئيس الجمهورية محمد مرسي قبل أن تندلع ثورة 30يونيو ضدّ ه ،وتخرج الجماهير
إلى الشوارع والميادين مطالبة بعزله ،وهو أمر يعدّ األول من َ الثقة من نوعه في التاريخ الحديث؛ أن يسحب اتحا ُد الكتاب
رئيس وهو في السلطة ،وتأتي الثورة لتعضد ما ذهب إليه االتحاد والمثقفون ،هؤالء الذين ذهبوا بمختلف أطيافهم من كتاب وفنانين وتشكيليين وغيرهم إلى مق ّر وزارة الثقافة
تخميني .في رأيي أن فاعلية المثقفين العرب باتت ضعيفة ُ والتراكمية في السياقات المختلفة لعدة من حيث األث ُر
أسباب؛ من أهمها: المجتمعي أولاً -بروز المثقف االنتهازيّ في السياق ّ ّ وتمكنه (وربما تمكينه) من خلط األوراق ،والعبث العام،
بالقضايا الكبيرة؛ ألهداف ومصالح فئوية ،وقد يمتلك ً جيدا من «الذخيرة المنهجية» ،لكنهم ال بعضهم قدرًا ُّ يستخدمونها إال بما يخدم أهدافهم وتطلعاتهم النفعية، مع ُّ تقلبهم وميلهم إلى مَ نْ يدفع أكثر.
ثانيًا -هيمنة األنساق الدينية المعلية لنموذج الديني»؛ في صور :الشيخ ،والمُ ر ِّبي ،والمُ صلِح، «المثقف ّ
حائلين دون سقوطها في براثن فكر اإلخوان وأشياعهم».
العربي ويستدرك سلماوي قائلاً « :لكن لألسف! اإلعالم ّ ال يتحدث إال عن السلبيات ،متصورًا أن ذلك هو الطريقة ِّ تحقق له الرواج ،ومن َثمَّ فإنه إذا لم يجد الصحيحة التي
ً بحثاعن الرواج ،وقد صوَّر هذه السلبيات فسوف يختلقها
والعربي أن المثقفين انعزلوا اإلعالم للمواطن المصريِّ ّ ً ّ تشكل أنساق جديدة لصور المثقف في سياق ثالثا-
الثورة الشبكية المعلوماتية ،وما أفرزته من مناهج التفكير والترميز ،وقد ترتب على ذلك شيوع أنماط «المثقف
السطحي» ،وغلبة تحليالته وتشخيصاته للمشكل ّ
والثقافي واالقتصاديّ والعلمي، واالجتماعي السياسي ّ ّ ّ ّ الشبكي يضجّ بأطروحاتهم البائسة. والمشهد ّ رابعً واإلصالحي ،وانكماشه العميق المثقف انزواء ا- ّ
العلمي والفكريّ ؛ نظرًا إلى في دوائر ضيقة من التأثير ّ التهميش الذي يعانيه من مؤسسات المجتمع ،وارتفاع مستويات اإلحباط لدى نسبة ليست قليلة من جرَّاء تراكم
الخيبات ،وانطفاء شعلة األمل في اإلصالح .ومع ذلك كله العربي في المشهد ولن يموت ،وسيتع ّزز سيبقى المثقف ّ
فقد صارت المجتمعات العربية تنقاد إلى هذا النموذج بطريقة فادحة ،فهي ّ ّ وتمكن هذا تلف حبلاً على رقبتها،
تأثيره في المجتمعات التي تنجح في االستفادة من
انجرار كم متزايد من إليها .وهنا نلتقط سرًّا من أسرار ِ
من أجل تقرير الحريات العامة ،وتوالد أنساق االعتدال ُّ وستضمحل فاعليته في المجتمعات التي والوسطية،
عال المثقف من جرّها إلى حيث يشاء ،مع تلبُّسه بقدر ٍ من التزكوية الذاتية والتقديسية للرموز الدينية التي ينتمي
الشباب إلى الجماعات المتطرفة؛ مثل :داعش وغيرها، فثمة ِّ منظرون بارعون ومس ِّوقون سحرة!
المنهجية واألفكار األخالقية والرؤى النهضوية ،والنضال
ِّ تجدد عقدها مع أرباب العلم الزائف ،ومبدعي الخرافات واألساطير ،ومتوجي النفعيين والتافهين.
93
قضايا
عن الحياة ،ولم يعودوا قادرين على أداء دور مهمّ في
المجتمع ،ولو كلف أي من هؤالء اإلعالميين نفسه بأقل ّ والتقصي َلوَجَ د أن الواقع على درجة من درجات البحث نقيض ما ذهب إليه». خطأ منهجي
أما رئيس التحرير األسبق لجريدة «األهالي» ومجلة
«أدب ونقد» اللتين يصدرهما حزب التجمع المصريّ ؛ الناقدة
ْ ذهبت إلى أن المثقف والناشطة السياسية فريدة النقاش ،فقد
العربي تع ّرض لحالة شديدة من االرتباك بعد أن تحمَّ س ّ ّ حققها شباب ثورات الربيع بصورة هائلة لإلنجازات التي العربي« ،مع الوضع في االعتبار أن إطالق مصطلح (مثقف) ّ منهجي؛ فهناك خطأ هو واحد وقت في المثقفين جميع على ّ
المثقف المنتمي إلى الجماعات الدينية ،والمثقف المنتمي
إلى اليسار ،وآخر منخرط في تشويه ما أنجزته ثورة 25يناير و 30يونيو ،ومن َثمّ فالمثقفون ليسوا ُك ً تلة واحدة ،ومع ذلك
94
المثقف يفقد دوره الطليعي الديني الطليعي والمؤثر فقد المثقف الفرد في العالم دوره ّ لصالح المؤسسات الثقافية التي اضطلعت بها مؤسسات
وكان مسوّغهم أن القادم
الظاهرة؛ إذ أصبحت المؤسسات ومراكز البحوث هي البيئة
هذا اإلطار بين مطرقة الثورة
العربي ليس استثناء من هذه المدني ،والمثقف المجتمع ّ ّ الخصبة النطالق األفكار والنظريات والمبادرات ،ومهما يكن
الثقافي على مدى األمر فإن التاريخ يحفظ للمثقف دوره ّ العصور ،وإن انحسر هذا الدور أو ّ قلت مساحته .ويبقى ً ملحوظا في شريحة المجتمع التي العربي دور المثقف ّ
تتماس مع أفكاره وأطروحاته ،ولو لم َيجْ ِر تقبُّل هذه ّ األفكار واألطروحات بداية؛ إذ وجد كثير من المثقفين أن
المجتمعات العربية تحاربهم في أفكارهم ،لكنها سرعان ما تتبناها بحذافيرها في مرحلة ما؛ ألن المجتمع يتطوّر فكريًّا
العربي قد ولو ببطء -في عالم متسارع .إن صورة المثقفّ ً ً وتشويشا في أثناء «الربيع العربي»؛ لسببين: ارتباكا ازدادت المجتمعي األول -نخبوية المثقف ومحدودية حضوره ّ المباشر في ظل وجود قيادات سياسية ودينية قادت
الثورات إلى مرادها.
األنظمة السياسية القائمة، أسوأ ،فصار المثقف في
سعود البلوي كاتب سعودي
وسندان السلطة ،وأصبح هناك فرز خطير يتبناه الجانبان على أساس أن مَ ن لم يكن معنا فهو ّ ضدنا .من أكثر األسماء العربي؛ الشاعر والكاتب التي أحدثت جدلاً على المستوى ّ
ً –أيضا -أمام العربي السوريّ (أدونيس) ،الذي وجد نفسه ّ خيارين ال ثالث لهما؛ إما الوقوف مع الثورة السورية التي لم
يعرف بالضبط من قام بها وما ستؤول إليه ،أو توظيف الواقع السياسي الموجود الذي ّ يمثل واقع المعيش وهو النظام ّ الحال .
نجد كثيرًا من المثقفين وجدوا أنفسهم في منطقة ال لونَ رماديًّا فيها ،ومن َثمَّ فالحقيقة التي ال يمكن تجاهلها هي أن
العربي قد تغيَّرت أمام الرأي العام ،فأصبحت صورة المثقف ّ
السياسي ،فالمجتمعات العربية لم تتقبّل مرتبطة بموقفه ّ ّ العربي أن ينبذ االستبداد ،وينظر له ،وينتقد من المثقف ّ
العربي نفسه ،وأعني ريبة بعض الثاني -موقف المثقف ّ
ً موقفا مغايرًا ،وهذا أمر السياسات القائمة ،ثم تجد منه
الوضع القائم على التغيير غير المحسوب ،بالوقوف مع
العربي قد كشفت مآالت هذا الربيع «الصيفية» الملتهبة، ّ
المثقفين من ثورات «الربيع العربي» ،واختيار بعضهم
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
مسوَّغ في ظاهره ،غير أن السنوات الخمس التي أعقبت الربيع
العربي المثقف وزادته ارتبا ًكا؟ هل غ َّيرت ثورات الربيع ّ
فريدة النقاش :المثقفون ليسوا تعرضوا ُكتلةً واحدةً ،ومع ذلك فقد َّ جميعا الرتباك شديد ً فقد تع َّرضوا جميعً ا الرتباك شديد من جراء ما حدث خالل
الموجات المتعاقبة للثورة المصرية ،التي أبدعها المثقفون من الشباب ،فالشباب الذين انخرطوا في العمل مع أدوات
االجتماعي ،وأدوات االتصال الحديثة هم مثقفون». التواصل ّ
وذهبت النقاش إلى أنه بعد أن ُسرقت نتائج الثورات
االجتماعي ،أم السياسي ،أم سواء أكان على المستوى ّ ّ
العربية؛ انقسم الجميع على نفسه وأصيب باالرتباك، ً متفقا عليه لدى الجميع «ومن َثمَّ فاألمر الوحيد الذي بات
المثقف -بعد التجربة الثورية -أن بديل األنظمة القائمة
للثورة لم تتحقق بعد ،وأن األهداف األساسية للربيع
إن الخيار كان زوال السلطة العسكرية وحضور السلطة الدينية المباشرة بوصفها بديلاً ؛ مما جعل المنطقة تغرق
مع النظام حول الدولة الوطنية ،وضرورة الحفاظ عليها،
االقتصاديّ في الدول التي مرّت بتجربة الثورة ،فقد وجد
السياسي» ،أو الفوضى ،وبمعنى آخر: ليس سوى «اإلسالم ّ
في الظالم والمصير المجهول أكثر من ذي قبل .وعلى ضوء ذلك فإن ما ّ تبقى للمثقف من دور هو تجارته القديمة التي طالما اشتغل بها ،وهي إثارة الوعي العامّ بقضايا اإلنسان السياسي الذي هو في نهاية األزلية ،بغض النظر عن موقفه ّ المطاف خاضع لمدى تقديره الواقع ،ومدى ربح المكتسب
العربي-الذي نراه السياسي الحضاريّ أو خسارته ،فالواقع ّ ّ اليوم بأُم أعيننا -هو أن البديل أسوأ ،وأن القادم ليس
َ ٌ معتق ًدا إنما هو َتحَ ٍّد وجوديٌّ صعب، حُ لمً ا ورديًّا كما كان
والشريحة التي قامت بالثورات ِفعليًّا اختفت ،فورث الديني ثوراتِها ،وبقي المثقف موجو ًدا من خالل السياسي ُّ ُّ
ما يتركه لمجتمعه من إرث فكريّ وإبداعي ،ولنا في قراءة ّ
األوربي مثال جيد ،فاختالفات المواقف السياسية للمثقف ّ
المواقف السياسية بين جان بول سارتر وألبير كامو قد ذهبت ،وبقي منهما أهمّ ما كانا يفكران فيه وهو اإلنسان!
أن األهداف التي اندلعت من أجلها الموجات المتعاقبة العربي« :عيش ،وحرية ،وعدالة اجتماعية» ال تزال ّ َّ غائبة» ،وأكدت النقاش «أن المثقفين في مصر يتفقون لكنهم يختلفون مع النظام حول أهداف الثورة وآليات تحقيقها» ،مؤكدة أن الطريق طويل أمام المثقفين في
صراعهم مع السلطة؛ لتحقيق هذه األهداف ،مشيرة إلى العربي بعد المشاركة الهائلة في إنجاز أن صورة المثقف ّ «تحسنت بشكل كبير». العربي ثورات الربيع َّ ّ كتاب وكتبة
بينما يذهب الكاتب المصريّ رؤوف مسعد ،المقيم
في هولندا ،إلى «أن لدينا نوعين من المثقفين :األول الثقافي في األساس، كتبة لم ينذروا أنفسهم للفعل ّ لكنهم وجدوا فرصة طيبة لدخولهم هذا العالم ،ورفع
الحقيقي؛ كأن نجد ناش ًرا راية أصحابه كغطاء لعملهم ّ ً ً مثقفا كبي ًرا موظفا يصبح يصبح كاتبًا من خالل عمله ،أو
من خالل موقعه ،وهناك كتاب حقيقيون نذروا أنفسهم لفعل الكتابة والثقافة ،ومن َثمَّ فهم ضمير الوعي لدى
95
قضايا
جماعتهم ووطنهم في اللحظات الحرجة» ،وأضاف
العربي صاحب رواية «بيضة النعامة» ،أن دور المثقف ّ العربي «أصبح أكثر أهمية وقوة ،فللمثقف بعد الربيع ّ ُّ ً حيثية وحضور ،وهو–أيضا -مرجعية قوية ،بدليل توقف المحكمة عن الحكم في قضية الكاتب أحمد ناجي لحين
الرجوع إلى أهل االختصاص؛ كان في مقدمتهم الكاتب محمد سلماوي والناقد الدكتور جابر عصفور ،ومن َثمَّ فعلى المثقف أن يكون واعيًا دوره في هذه المرحلة، ً –أيضا -مطالبًا بكيفية ليس فقط مطالبًا بالحرية ،لكن استخدامها ،فالحرية سالح ذو حدَّ ي ِْن ،ورسالة المثقف أن
يرصد ما يحدث من دون تحيّز ،وأن تكون كلمته بمنزلة َّ تظل ّ ّ كل الناس». المظلة العامة التي ّ ويوضح مسعد قائلاً « :أنا مع النظام ،لكن لست مع ً مثقفا أن أكشف العيوب في النظام الغبي ،ودوري بوصفي
مقاالتي ،وأن أرصد ما يجري في أعمالي الروائية ،وبوصفي
سيد ضيف الله :صار الناشط والمذيع أكثر قدرة على التأثير في التقليدي األحداث من المثقف ّ ً ّ يتمثل في إخراجها إلى مثقفا ينتمي إلى األقلية فدوري النور ،وأن أدافع عن ِّ حقها في عدم التهميش ،وأن يكون
ّ تعصب أو مغاالة ،فاألقلية دائمً ا بحاجة إلى ذلك من دون فهم اآلخر».
صورة ملطخة بالخيبة 96
بالنظر إلى واقع الحال في البلدان العربية التي اندلعت فيها انتفاضات ما باتت ُتعرف بالربيع العربي ،فمؤكد أن
الثقافة بجميع تجلياتها كانت من أكثر الحيوات التي أصابها الخلل والوجع والتهميش ،وكذا هي صورة المثقف العربي.
من يعرف ساحات الثقافة العربية ،يدرك تمامً ا أن األنظمة القمعية العربية ظلت لعقود تطمس كل ما يخص الثقافة
الجماهيرية الحقة ،ومعها تطمس صورة المثقف ،بل وتطمسه وتغيّبه بالسجون والموت إن لزم األمر.
صورة المثقف العربي ظلت لعقود قبل االنتفاضات
مرهونة بسجاالت الساحة العربية الثقافية ،وكان فيها من التجاذب السياسي أكثر مما فيها من اإلبداع واألدب
والثقافة؛ لذا عاش المثقف في ساحة ثقافية مسورة بأسوار عالية ،وبعيدة من واقع حال الناس البسطاء ،حتى
لو كتب بعض األدباء والفنانين عن معاناة الفقر وسطوة الحكم الدكتاتوري.
قليلة هي اللحظات التي كانت لصورة المثقف العربي
فيها لمعة خاطفة ألبصار الجماهير ،باستثناء أولئك
الذين لمّ عت بعض المنصات حضورهم ،وكان الزمن كفيلاً بامتحان بقاء إبداعهم ،أو طيهم تحت تراب دورانه
الدائم .فوسط بيئة قمعية دكتاتورية تكون مساحة حركة
المبدع ضيقة ،ويكون هامش الكتابة والتأثير والتواصل مع
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
المتلقي محدو ًدا .لكن بالرغم من ذلك كانت هناك كتابات
توفرت على عناصرها الفنية الضرورية ،والقت قبولاً
طالب الرفاعي روائي كويتي
وصدى طيبًا لدى الجماهير؛ مما خلق وصلاً واتصالاً بين
بعض المبدعين وجمهور التلقي.
صورة المثقف ،في أي أمة من األمم ،كانت على
الدوام حاضرة في ذهن الشعوب ،متى ما كان هذا المثقف يعيش قضاياهم وهمومهم ويكون صوتهم األعلى ،متحملاً
ما يترتب على موقفه الشجاع والجريء .وعادة ما كان المثقفون يتحركون كمجاميع ،ولذا يحمل تحركهم التأثير. وفي الحالة العربية ،ظل المثقف يعمل منفر ًدا ،ولذا جاء تأثيره أقل ،وظلت صورته مشوّشة.
بعد االنتفاضات العربية ازداد وضع المثقف سوءً ا،
وبخاصة بارتفاع موجة نجوم شبكات التواصل االجتماعي؛
إذ صار المواطن العربي يستمتع بجملة عابرة على تويتر أو فيسبوك ،دون النظر إلى صدق قائلها والقيمة الفكرية المختفية وراءها.
االنتفاضات العربية جارت على الكثيرين ،وفي مقدمة
أولئك يأتي المبدع والمثقف العربي ،وتأتي صورة المثقف
التي تلطخت بألوان الضياع والخيبة.
العربي المثقف وزادته ارتبا ًكا؟ هل غ َّيرت ثورات الربيع ّ
سعود البلوي: ما تبقى للمثقف من دور هو تجارته القديمة التي طالما اشتغل بها ،وهي إثارة الوعي العام بقضايا اإلنسان األزلية من جانبه ،أوضح الناقد الدكتور
سيد ضيف الله ،أن مفهوم المثقف قد تغيَّر« ،فمع ظهور الربيع العربي برز السياسي، على السطح مسمّ ى الناشط ّ
توسع دور مُ ِّ قدمي البرامج الفضائية كما َّ السياسية واالجتماعية؛ إذ أصبح كلّ من الناشط والمذيع أكثر قدرة على
السياسي ،والتأثير في تحريك الشارع ّ األحداث أكثر من المثقف التقليديّ بسعَ ة المعرفة ،الذي يمتلك المرتبط َ ً وتاريخا من النضال رؤية شاملة
السياسي من أجل مجتمع أفضل!»، ّ ويوضح أن مفهوم المثقف «تو ّزع على ً حديثا؛ مثل :الناشط، أدوار ظهرت
اإلعالمي، اإلعالمي ،والمواطن والنجم ّ ّ وساهمت التطوُّرات الكبيرة التي شهدتها وسائل اإلعالم عامّ ة ،ووسائل التواصل
ّ خاصة في تغيير مفهوم االجتماعي ّ المثقف ،لكنها لم تغيِّر الدور الذي يجب أن يقوم به المثقف ،سواء أكان ً نشاطا سياسيًّا ،أم مواط ًنا إعالميًّا ،أم
فحسب؛ ألن تحصيل المعرفة إذا أصبح أكثر يس ًرا بفضل اإلنترنت ،فإن اتساع
قاعدة المعرفة جعلت الثقافة متاحة بشكل أكبر لقطاعات أوسع؛ مما كسر الحاجز بين النخبة التقليدية؛ المعروفة بالمثقفين ،والمواطنين الفاعلين! فلم يَعُ دِ الحاكم هو وَحْ دَ ه مَ ن يُدير المجتمعَ
ويقوده كما كان في الماضي! وهذا في حقيقي للحرية». حد ذاته بداية ربيع ّ
مثقف الجماهير أصبح بال جماهير المثقف العربي أيًّا كان نهجه يقيم
اليوم في الصدع القائم بين جسم الدولة المرتعش والرأس المتسلط ..بين مجتمع
شبه أمي ،ضعيف البنية ،في عالم يزداد ً تعقيدا ومعرفة ..بين بنية قبلية محافظة،
والطموح لمدنية معاصرة ..بين جمر السلفية المخبأ في مواقدنا الروحية وال ندري متى
هاشم غرايبة كاتب أردني
تشب ناره ،والثورة العلمية التكنولوجية ..قبل الربيع العربي كان المثقف
العربي منتشيًا بإنجازه بين أقرانه ،متباهيًا بمعارفه على تالميذه إن كان ً مبدعا .كان وما زال أكاديميًّا ،وعلى متابعيه القليلين إن كان مفكرًا أو السلطان مطمئ ًنا للمثقف سواء كان ممن ينظرون لقدرة الدكتاتور على
قيادة قطار الحداثة ،أو كان من المعارضين المشاغبين يمي ًنا أو يسارًا حتى لو جار في النقد ،فكالهما المثقف والسلطان متواطئ على الرضا،
مطمئن لثبات الحال.
جاء الربيع العربي ليسحب «مخدات» الحرير من تحت رأس
السلطان ،وليسحب فضلة البساط التي يتربع عليها المثقف؛ لنكتشف أن المثقف الذي كان يدافع عن الجماهير ال جماهير له ،والذي كان يتحدث عن األمة لم تسمع األمة به ،والذي كان يتحدث بالالهوت وجد
المتدينين يسخرون منه! المثقف العربي يقف اليوم حائرًا بين الدكتاتور ُّ تستبد؛ ألنها رأته متنحيًا ،ورجال الدين يلعبون والتكفيري ..الدولة يحمل كتابه القديمَ دليلاً ٌ ٌ ُ لعبة طيّعة وسهلة المنال ،والمثقف به ،ألنه ُ ُ وتتناسل السجونُ ،ويؤمُّ اللصوص، لطريق طويلة ومعتمة ،يتكاث ُر فيها ٍ َ ُ الصالة ،ويقرأُ في سير ِة الدم. الجوع ّ لما سلم الربيع العربي قياده لإلسالم السياسي أصيب المثقفون
العرب بالرخاوة ..حتى القوميون والفوضويون والديمقراطيون واإلسالميون المعتدلون تراخت مفاصلهم ،وراحوا يهربون إلى مناطق ّ وتضل (من الضالل) مسالكهم .وفي بعض الحاالت ارتدوا رمادية تظلهم
إلى ذواتهم معلين من شأن «أنا» الفردانية على حساب «أنا» المجتمعية ً وبعيدا من تشوقات الناس العميقة للحرية والحق والجمال. واإلنسانية، الفئات التي تقع مسؤولية يقظتها على المثقف العربي نراهم مستسلمين
لواقع مائع ،مستسلمين لثقافة المياومة .وجلس المثقفون «يتفرجون» على فتنة اجتماعية هنا ،وتفتت عرقي أو طائفي هناك ،ونسينا كلنا
الصهاينة وشرورهم الواقعة على الفلسطينيين بشكل مباشر ،وعلى األمة بشكل غير مباشر .والحال أن الحاجة إلى المثقف ما زالت حاجة قائمة
وراهنة ،بل هي حاجة اشتدت وتعاظمت بتعاظم النكسات والهزائم التي شلت الكيان العربي قيادة وشعبًا.
97
قضايا
اإلشكالية اللغوية في الجزائر
وطار عندما أشعل الطاهر ّ فتيل الصراع
الدكتور حاج أحمد الزيواني (1967م) ،وهو من األسماء
بوداود عميــّـر صحفي جزائري
لعل القضية التي ما برحت تتصدر
98
المشهد األدبي في الجزائر هي اإلشكالية اللغوية ،التي تثير سجالاً تلو آخر .الكتاب الذين يكتبون بالفرنسية ويصدرون رواياتهم وكتبهم بها من ناحية ،والكتاب
الذين يكتبون بالعربية ويصدرون كتبهم
األدبية الجديدة ،التي تكتب باللغة العربية ،وأثبتت حضورها في المشهد األدبي الجزائري ،يرى أن إشكالية الصراع
ّ ومتأصل، األيديولوجي بين المع ّربين والفرانكفونيين متجذر «فأمام سؤال التاريخ ومُ عطى الماضي ،فإن المسألة محكومة
بطول فترة االستعمار الفرنسي بالجزائر ،إضافة إلى ذهنية القابلية للفرانكفونية ،كأحد ّ اللبنات التي عملت عليها منظومة خاف على أحد أنه منذ الرعيل ما بعد الكونيالية ثقافيًّا ،وغير ٍ األول ُ للك ّتاب الفرنسيين المقيمين بالجزائر ،مورست وصاية َ المستلبة ،مما مهّد السبيل بعد فوقية ،على الثقافة الجزائرية ذلك ألن يقتفي ُ الك ّتاب الجزائريون مسار الكتابة بالفرنسية بعد
ذلك» .ويضيف صاحب رواية «كاماراد رفيق الحيف والضياع» ً حديثا عن دار فضاءات األردنية« :في اعتقادي أن الصادرة
من خاللها ،دائمو الصراع والجدل إلى
الصراع بين الطرفين مفتعل؛ إذ ال يمكننا تجاهل ما قدّ مه
أدبية ،إنها تمس وتالمس مفاصل مهمة
على مستوى الفرنسيين المعمّ رين أو الجزائريين ،وحتى نضيّق
حد القطيعة .هذه القضية ليست محض
األدب الجزائري المكتوب بالفرنسية في الفترات السابقة ،سواء
ورئيسة في الكتابة كما في المواقف
من الهوّة ،علينا أن نواجه الحقيقة التاريخية بشجاعة ،ونعتبر ما ُقدّ م بالفرنسية من أدبنا إغناءً له ،وبالمقابل فإن العربية
من عدد كبير من القضايا السياسية
واالجتماعية والفكرية.
ستظل هي اللغة المتجذرة ،وإن ظهرت لنا باهتة بالمركز ،أي
الجزائر العاصمة ،فإن الفرانكفونية سرعان ما تنكمش ،عند
خروجنا من العاصمة نحو المناطق الداخلية».
على حين يعتبر الروائي واإلعالمي الجزائري سعيد خطيبي
(1984م) الذي يكتب باللغتين العربية والفرنسية ،الصراع
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
اللغوي في الجزائر مجرد «اختراع صحافي ،تطوّر بالموازاة مع
لم يأت ذكره ،كأدب جزائري ،على لسان جميع المشاركين
حصل أن وجدت مؤسسات مهمّ ة في الدولة نفسها بين أيدي
اليومين اللذين استغرقتهما الندوة ،على التصدّ ي لألدب
تحوّالت سياسية عرفتها البالد .مباشرة بعد االستقالل (1962م)،
واحدة من النخب :الفرانكفونية أو العربية أو األمازيغية، ّ وكلما وصل فريق ثم حصل تداول على تلك المؤسسات،
في الندوة .فقد اكتفت المداخالت ،واقتصر النقاش ،طوال الجزائري الناطق باللغة الفرنسية فقط ،وكأنه ال أثر ألدب
جزائري باللغة العربية ،أو هكذا استنتج الطاهر وطار.
لغوي ،واجه انتقادًا من الفريق اآلخر» .ويقول صاحب رواية «كتاب الخطايا»« :في الوقت الحالي مثلاً ،نجد أن اإلعالم
من هنا ثارت ثائرته ،وسرعان ما طلب عقد ندوة صحفية مباشرة بعد عودته إلى الجزائر ،ليصدر ً بيانا احتجاجيًّا،
لن يدوم ،ستواصل العجلة الدوران ،وسيتواصل هذا الصراع
«إعادة فتح ملف أدب الجزائريين المكتوب باللغة الفرنسية،
والعدالة تسيطر عليهما غالبية من المع ّربين ،لكن هذا األمر األيديولوجي في عمقه ،فمن سوء حظ الجزائر أنها أخفقت مع
السياسات المتعاقبة في تحديد هوية لغوية لها ،تركت الباب ّ ستظل مفتوحة ،لكن هذا األمر مفتوحً ا ،وبالتالي الصراعات
ال يحمل ،فيما يبدو ،بعدً ا سلبيًّا فقط ،بل إيجابيًّا ً أيضا؛ ألنه أفرز حرا ًكا ثقافيًّا وصدامات انعكسا إيجابًا على حقلي اإلبداع والسوسيولوجيا في البلد».
أما الروائي عبدالقادر ضيف الله (1970م) ،فيعتقد أن
الصراع «مسألة وهميّة ،أو ربما مثل الشمّ اعة التي تعلق عليها
انهزامات كثيرة ،يعيشها الوضع الثقافي المتردّي في الجزائر، إن كان الصراع قد بدأ يومً ا أيديولوجيًّا ،وحاول الكثير استغالله
ألجل مصالح آنية وحزبية تحديدً ا ،فإن الواقع على مستوى الكتابة يختلف ،وبخاصة مع األجيال الجديدة التي أصبحت ّ تتحكم في أكثر من لغة ،وأصبح أمر اللغة األجنبية واالختالف اللغوي ،يشكل أمامها عامل إثراء ،باعتبار اللغة أداة تواصل
في المقام األوّل ،أكثر منها أي شيء آخر» .ويقول صاحب رواية «تنزروفت ،بحثا عن الظل»« :كما أن النفخ فيما نسميه الصراع
اللغوي ليس سوى واجهة تخفي قضايا كثيرة ،ال زلنا نعيش معها من دون حل؛ مثل :قضية المرأة ،وقضية الحرية، وقضية التعامل مع الدين في السياسة ،وإشكالية التعدّ د اللغوي والثقافي الذي يحتاج إلى شجاعة للخوض فيه بعقالنية
وعلمية ،بعيدً ا عن الذاتية الضيّقة».
لكن متى اندلعت شرارة هذه القضية ،ثم راحت تكبر
حتى أوشكت أن تلتهم كل شيء؟ في شهر مارس من سنة 1992م ،أقيمت في باريس ندوة أدبية حول األدب الجزائري، ً وأيضا من شاركت فيها نخبة من الك ّتاب والنقاد الجزائريين،
الك ّتاب الفرنسيين المهتمين بشأن األدب الجزائري ،وكان من
بين الحضور الروائي الجزائري الراحل الطاهر وطار (- 1936
2010م) .تفاجأ صاحب رواية «الحوّات والقصر» ،أن الندوة لم تتط ّرق ،ولو على سبيل التلميح ،إلى األدب الجزائري الناطق
باللغة العربية ،الذي يُعتبر هو نفسه أحد مؤسسيه األوائل،
ّ المثقفين والرأي العام ،يدعو من خالله إلى موجّ هًا إلى
وإعادة النظر فيه ،والعمل على تحديد قيمته وجزائريته»،
الطاهر وطار: نعتبر المفكرين من أصل غير عربي مثل ابن الرومي عربا؛ والفارابي ً ألنهم تكلّموا باللغة العربية ،وكتبوا بها، فبأي حق نتنازل عن هذا المعيار، ونقلبه عند الحديث عن عروبة األدب الجزائري المكتوب بالفرنسية؟
99
قضايا
متسائلاً في البيان نفسه« :هل صحيح أن
القطيعة تبلغ ذروتها
لم يمر الموقف الذي تب ّناه وروّج له الطاهر
الحرب مع فرنسا انتهت؟ الحرب الحضارية لم
وطار مرور الكرام ،فقد تناقلته بتفاصيل أكثر معظم الصحف الجزائرية ،وانبرى الك ّتاب من كال الطرفينّ ، كل واحد منهما يسعى للدفاع عن
تنته ،إن انتشار اللغة الفرنسية في الجزائر، ّاتسع بدرجة كبيرة بعد االستقالل ،مقارنة بما
كان عليه الوضع أثناء الوجود االستعماري»،
ثم يختم بيانه بضرورة تطبيق ما أطلق عليه
«الشرط اللغوي للوطنية» ،في تقويم انتماء األدب الجزائري الناطق بلغة أجنبية« ،نعتبر
المفكرين من أصل غير عربي مثل ابن الرومي والفارابي عربًا؛ ألنهم ّ تكلموا باللغة العربية ،وكتبوا بها ،فبأي حق نتنازل عن
هذا المعيار ،ونقلبه عند الحديث عن عروبة األدب الجزائري، المكتوب بالفرنسية؟».
وجهة نظره .وألوّل م ّرة يحتدم الصراع بينهما،
سعيد خطيبي ويأخذ وجهة أخرى مغايرة ،بلغت حدّ االتهام بالتواطؤ والخيانة ،لم تلبث أن بلغت القطيعة
ذروتها بين الطرفين .قطيعة كانت فيما مضى خفيّة ،لم يسبق
لها أن خرجت للعلن .أولى إرهاصاتها وأخطرها عاش تبعاتها
الطاهر وطار بنفسه ،وهو في مستشفى باريس طريح الفراش، ففي الوقت الذي جاء لزيارته معظم الك ّتاب المع ّربين ،بما
الفرنسية تتصدر المشهد األدبي 100
ّ تتصدر المشهد األدبي في لم يكن أكثر الناس تفاؤلاً في الجزائر يعتقد أن اللغة الفرنسية ستصمد ،بل وستعود بقوّة،
الجزائر ،بعد مضي أكثر من خمسة عقود من نيل الجزائر استقاللها ،رغم سياسة التعريب الشاملة ،المنتهجة من جانب ّ تمكن اللغة الفرنسية عشرات ُ ولعل من أبرز مظاهر ّ الكتب التي ال تزال تصدر باللغة الدولة الجزائرية منذ السبعينيات، ّ وبخاصة على مستوى األعمال السردية. الفرنسية ،إلى جانب مقروئية باتت تنافس اللغة العربية،
وهكذا أصبحت الرواية الجزائرية باللسان الفرنسي ُت ّ شكل الحدث األدبي ليس في الجزائر فحسب ،بل في فرنسا كذلك ،لكن هذه المرّة من جانب ك ّتاب عاشوا في الجزائر ،وتعلموا في مدارسها ،وسرعان ما أصبح حضورهم ملف ًتا،
من خالل ّ ترشحهم لمختلف الجوائز األدبية الفرنسية ،على غرار بوعالم صنصال ،وكمال داود ،ومايسة باي ،وياسمينة خضرا ،وآخرين ...واألمر فيما يبدو ،لم يعد مقتصرًا على الجيل «القديم» بل إن الفرنسية كلغة استهوت عد ًدا من الك ّتاب الجزائريين من جيل شملته سياسة التعريب ،مثل :كمال داود ،ومصطفى بن فوضيل ،وسليم باشي ...إضافة إلى توجّ ه عدد من الك ّتاب الجزائريين المعرّبين ،لسبب أو آلخر ،إلى الكتابة باللغة الفرنسية ،في اختيارهم االنتقال بين كتابة
المقاالت وتأليف أعمال روائية ،على غرار :مرزاق بقطاش ،وجياللي خالص ،ومحمد ساري ،وواسيني األعرج ،وأمين
الزاوي ،وسعيد خطيبي ،أو التأرجح في الكتابة بين اللغتين العربية والفرنسية ،كما هو الشأن بالنسبة لرشيد بوجدرة.
ّ ّ لعل أهمها في اعتقادهم ،حرية البوح التي تتيحها ربما الكتابة باللغة تتعدد مسوّغات االنتقال إلى اللغة الفرنسية، ً بعيدا من إكراهات الرقابة بمختلف أشكالها ،ومن خالل اللجوء قسرًا إلى رقابة ذاتية ،قد يفرضها قارئ معرّب، الفرنسية، ً مؤثثا بالمواقف المسبقة لألشياء .من جهة أخرى ،ثمة عامل االهتمام الذي قد تتيحه اللغة الفرنسية ،من خالل يبدو
إمكانية احتضان العمل من جانب وسط أدبي فرنسي ،يكفل اهتمامً ا إعالميًّا وأدبيًّا واسعً ا له ،كما قد يسمح لكاتب مغمور في بلده ،أن يطمح إلى الحصول على واحدة من آالف الجوائز المتاحة ،وربما جائزة أدبية مرموقة ،وهو ما حدث مع
الكاتب والصحفي كمال داود (1970م) من خالل عمله األول «مينورسو تحقيق مضاد» والذي كاد أن يحصل على جائزة غونكور الشهيرة ،لوال فارق نقطة وحيدة ،رجّ حت في آخر المطاف كفة الكاتبة «ليدي سالفير» للفوز ،ولكنه استطاع مع
ذلك ،أن ينال سنة 2015م جائزة غونكور ألفضل عمل روائي أوّل ،وأن يكتب مقاالت في أكبر الصحف والمجالت الفرنسية، وينتزع هذه السنة جائزة أحسن صحافي في فرنسا.
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
اإلشكالية اللغوية في الجزائر ..عندما أشعل الطاهر وطار فتيل الصراع
في ذلك الكاتب واسيني األعرج ،رغم الخالف
الشديد الذي كان قائمً ا بينهما ،قبل مرضه
بمدة قصيرة. ّ وكان ذلك الخالف قد تجلى من خالل تبادلهما مقاالت «شديدة اللهجة» على صفحات الجرائد الجزائرية ،إثر تراشق واضح،
أفرزه تعارض في موقف كل منهما إزاء األحداث السياسية التي جرت في الجزائر آنذاك،
اليقظة ،ويستمر البرلمان الجديد ...أنا ديمقراطي
حقيقي وال أستنجد بالدبّابة ألحمي النظام.»...
رشيد بوجدرة أبرز المعارضين هو الرأي الذي عارضه شكلاً ً ومضمونا عدد كبير من الك ّتاب الجزائريين ،ال سيما ك ّتاب اللغة ّ سيؤلف رشيد بوجدرة (1941م) رشيد بوجدرة الفرنسية ،وهكذا أحد أبرز المعارضين للطاهر وطار ،خالل تلك
وبخاصة عقب توقيف المسار االنتخابي إثر فوز الجبهة اإلسالمية
المدة ،كتابًا بالفرنسية يحمل عنوان «فيس الحقد» ،يتناول
الجزائريين ،توقيف المسار االنتخابي ،وقطع الطريق أمام حكم
الروائي رشيد ميموني (1995 – 1945م) كتابًا تحت عنوان «عن
لإلنقاذ ،بأغلبية مقاعد البرلمان الجزائري .ففي الوقت الذي أيّد فيه الكاتب واسيني األعرج ،مع كوكبة أخرى من الك ّتاب
اإلسالميين ،فاجأ الطاهر وطار الجميع بموقفه المختلف، معل ًنا معارضته الشديدة لعملية توقيف المسار االنتخابي،
مجسدً ا في حزب «الفيس» (األحرف مخاطر التط ّرف الديني، ّ ّ األولى بالفرنسية للجبهة اإلسالمية لإلنقاذ) .بدوره ،يؤلف ً خصوصا» ،يقول عن عمله إنه الهمجية عمومً ا واألصولية «أشبه بصرخة ملحّ ة اعتملت في داخلي ،كتبته بسرعة فائقة
ومؤيّدً ا فكرة مواصلته إلى آخر المطاف ،مهما كانت درجة ً معترفا أمام الصحافة الجزائرية: األخطار المحدقة بالبلد،
قصد التنبيه إلى المخاطر التي كانت تحدق بالجزائر ،في حال
مس لهذه الوضعيات هو نهاية عهد حساسة ،وكل ّ وضعيات ّ
وقد بلغ الوضع ،فيما يبدو ،سوءً ا بين الطرفين
«لقد تمّ إيقاف المسار االنتخابي لحماية مصالح فئوية ،خلقت
وبداية آخر ،كان رأيي أن يستمر المسار االنتخابي ،وتستمر
عشية االنتخابات التشريعية في كانون األول ،ديسمبر 1991م،
استيالء جبهة اإلنقاذ على الحكم».
المتصارعين ،وبخاصة بين الطاهر وطار ومناوئيه ،عندما شرع
األول في إطالق تصريحاته النارية ضدّ ما يعتبره رموز األدب الجزائري الناطق بالفرنسية ،فها هو مثلاً يعتبر مقتل «الطاهر جاووت» (1993 – 1954م) الصحافي والروائي الجزائري باللغة
الفرنسية ،على أيدي الجماعات اإلرهابية بمنزلة «خسارة لفرنسا» حسب وصفه وليس للجزائر ،رغم ما يمثله هذا األخير
من رمزية كونه أوّل كاتب وإعالمي جزائري تطاله يد اإلرهاب، التي اغتالت بعده مجموعة كبيرة من ّ الصحافيين والك ّتاب، خالل ما بات يطلق عليه في الجزائر «العشرية السوداء» المدة
التي شهدت تنامي العنف فيها.
حرب بالفرنسية ضد الطاهر ّ وطار
كر ّد فعل مباشر لموقف الطاهر وطار؛ ش ّنت الصحافة
الجزائرية الناطقة بالفرنسية حربًا إعالمية ضدّ ه ،ولعلها
لم يمر الموقف الذي تب ّناه صاحب «الالز»
ّ الصحف التي كانت تحظى خالل تلك الحقبة بنفوذ خاص،
معظم الصحف الجزائرية ،وانبرى الكتّاب
بداية االنفتاح اإلعالمي في الجزائر ،من خالل حجم مبيعاتها؛
مرور الكرام ،فقد تناقلته بتفاصيل أكثر من كال الطرفين يدافعون عن وجهة
ومصداقية معيّنة لدى شريحة معتبرة من الرأي العام ،في إذ استطاعت أن تتفوّق على الصحف المع ّربة ،قبل أن تتغيّر
مرة يحتدم الصراع بينهما، نظرهم. وألول ّ ّ
األوضاع في العقد األخير ،وتحتل الصحف المع ّربة الريادة. وهي الحملة التي ّأثرت فيما يبدو ،في نفسية الطاهر وطار،
حد ويأخذ وجهة أخرى مغايرة ،بلغت ّ االتهام بالتواطؤ والخيانة
الجميع عنه ،قبل أن يشتدّ عليه المرض ،وينتقل مضط ًّرا إلى
األمر الذي ألزمه الصمت مدة من الزمن ،بعد أن شعر بتخلي
فرنسا للعالج.
101
قضايا
وهكذا امتنع الك ّتاب الجزائريون باللغة الفرنسية ،حتى
ّ خاصة عن زيارته في المستشفى .وما أثار حفيظة الطاهر وطار موقف الكاتب الجزائري «ياسمينة خضرا» الذي أعلن صراحة
لإلعالم الفرنسي والجزائري رفضه زيارته؛ بسبب المواقف التي ّ وبخاصة في حق الطاهر جاووت ،رغم أنه كان يشغل أدلى بها،
منصب مدير المركز الثقافي بباريس ،خالل تلك الحقبة ،وهي
مؤسسة عمومية تابعة للدولة الجزائرية. يص ّنف الطاهر وطار الك ّتاب الجزائريين بالفرنسية إلى صنفين :ما اصطلح على تسميتهم الرعيل
جمال الدين بن شيخ: أنا أطلب من الذين يكتبون بالفرنسية ،أن يواصلوا الكتابة بها ،ولكن عليهم من جهة أخرى، أال يدلسوا الواقع الحضاري للعرب ّ وكأنه ُكتب أصلاً باللغة العربية .أما بالنسبة
األوّل ،على غرار :كاتب ياسين ،ومولود
للرعيل الثاني ،هناك حسب تعبير الطاهر وطار ّ تشك حتى في أصله العربي اإلسالمي، «من ربما يكون يهوديًّا ،وهناك مثلاً شاعرة
معمري ،ومالك حداد ،ومحمد ديب.
بالنسبة إليه ،هؤالء يمتلكون ً وجدانا جزائريًّا ،حتى وهم
يهودية اسمها مريم بن كوهين ،حذفت
يكتبون بلغة غير لغة الشعب الجزائري ،فضلاً عن أنها
كوهين ،وصارت تدعى مريم بن ،كما أنّ ُكـ ّتابًا مثل رشيد ميموني ،وبوعالم
لغة االستعمار .فالكاتب،
صنصال ،ومجموعة الذين كتبوا فيما
حسب مفهوم الطاهر
بعد ،ليس فيهم من الجزائرية سوى
وطار لمسألة االنتماء ،إذا ً وجدانا عربيًّا كان يملك
102
االسم». ّ في خضمّ النقاش المحتدم ،تدخل
إسالميًّا ،عندها ال يهمّ
بأية لغة يك ُتب؛ إذ بمجرد
الكاتب الجزائري محمد ديب (2003- 1920م)، وهو واحد من الك ّتاب المؤسسين لألدب
ترجمته إلى اللغة العربية،
الجزائري الناطق باللغة الفرنسية ،شارحً ا اإلشكالية
يعود الكتاب إلى جذوره،
لغة الذهاب واالنفتاح على اآلخر من ناحية أخرى ،يشاطر الروائي أمين الزاوي (1956م)
كاتب ياسين رأيه القائل بأن اللغة الفرنسية غنيمة حرب؛
إذ يعتبر أن اللغة الفرنسية اكتسبها الجزائريون ،بحيث أصبحت جزءً ا ال يتجزأ من المشهد والحقل األدبي والثقافي في الجزائر ،كما وصفها «بلغة الذهاب واالنفتاح على
اآلخر» .أمين الزاوي بعد أن بدأ كتاباته باللغة العربية وحدها ،وأنجز مجموعة من القصص والروايات بها ،عاد
في السنوات األخيرة لينجز أعماله ،تارة باللغة العربية، وتارة أخرى باللغة الفرنسية؛ مسوّغات هذا االنتقال
روائي يجيد الكتابة باللغتين الفرنسية يلخصها في أنه ّ والعربية ،ويضيف« :أنا الوحيد من جيلي ،جيل االستقالل، الذي يمارس الكتابة إبداعيًّا روائيًّا من اليمين إلى اليسار،
ومن اليسار إلى اليمين بشكل متناغم ،وما أطرحه من مشكالت وأسئلة فلسفية وتراثية وسيكولوجية وسياسية
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
في رواياتي بالفرنسية أطرحه بالعربية.
صحيح أنّ النصوص مختلفة ،أي ليست ترجمة مطلقة، ولم أحاول يومً ا ترجمة أعمالي من لغة إلى أخرى ،بل ّ كل ّ نص
ووفي للقارئ ،حيث ّإنني ال أخون قائم بذاته ،ولك ّنني أمين ّ قارئي بالعربية كما بالفرنسية ،فما يشغلني من هموم أكتبه في هذه اللغة أو في تلك».
أما الروائي واسيني األعرج (1954م) الذي يعترف بأن اللغة الفرنسية كانت لغة الكتابة األولى له ،وأنه ّ تعلمها في مراحل
التعليم األولى في عهد االستعمار ،يصف اللغة الفرنسية بأنها
«كانت شبيهة بالقدر ولم تكن خيارًا» ،فقد كان الخيار آنذاك إمّ ا
الفرنسية أو األمّ ية ،على حين أن تعلم اللغة العربية كان عن طريق الكتاتيب ،بوصفها فضاء بديلاً للمدرسة الفرنسية ،بادر
بتأسيسها السكان الجزائريون؛ من أجل الحفاظ على الهوية العربية اإلسالمية من محاوالت طمسها من جانب االستعمار
اإلشكالية اللغوية في الجزائر ..عندما أشعل الطاهر وطار فتيل الصراع
اللغوية في الجزائر ،حسب وجهة نظره ،معتب ًرا أن مسألة
أخرى ،ألاّ يدلسوا الواقع الحضاري للعرب.»...
ً طوعا لغة إبداعه ،بل كتب باللغة الوحيدة التي كانت «لم يختر
الطاهر وطار «نموذجً ا حقيقيًّا للكاتب الملتزم بقضايا وطنه،
اللغة ليست اختيارية؛ ألن الكاتب الجزائري في حقبة زمنية في متناوله» ،ثم يمضي مب ّررًا السياق التاريخي ،الذي دفع أقرانه إلى استخدام الفرنسية« ،خالل الحقبة االستعمارية، ّ لتعلم اللغة العربية ،ولم لم تكن هناك إمكانية يكن أمام الشعب الجزائري خيّار آخر سوى إرسال أبنائهم إلى المدارس االستعمارية
ّ لتعلم الفرنسية ،وح ّتى اللغة الفرنسية
لم يكن تعلمها متاحً ا ،سوى لقلة قليلة من أبناء الجزائريين».
الشاعر مالك حداد (1978 - 1927م) يُعتبر وفق منظور
وثوابت أمّ ته» .كما يُوصف مالك حداد بأنه «شهيد اللغة
ّ بالتوقف نهائيًّا عن الكتابة العربية» ،عندما أعلن قراره المبدئي باللغة الفرنسية ،وهو في أوج عطائه األدبي، وقال قولته الشهيرة« :اللغة الفرنسية هي منفاي» .قالت عنه الكاتبة أحالم مستغانمي
في مقدّ مة روايتها «ذاكرة الجسد» ،والتي ّ متأث ًرا بسرطان صمته أهدتها لروحه« :مات ليصبح شهيد اللغة العربية ،وهو أوّل كاتب ً وعشقا لها» .وعلى النقيض يموت قه ًرا
التاريخ وضعنا في ظروف خاصة
تمامً ا يقف كاتب ياسين (1989 – 1929م)
صاحب الرواية الشهيرة «نجمة» معتب ًرا
أما بالنسبة للشاعر والمؤرّخ جمال الدين
«اللغة الفرنسية غنيمة حرب» يُفترض
بن شيخ (2005 – 1930م) يرى أن «اللغة تعيش
استغاللها إيجابيًّا ،واعتبارها مكسبًا
مع الشخص ،واإلنسان عليه أن يقبل التاريخ
لفتح أفق واسع للعلم والمعرفة.
كما هو ،والتاريخ قد وضعنا في ظروف خاصة
عشناها ،وال يمكن القفز فوق هذه الظروف ،فأنا ال ألوم الب ّتة من يستعمل الفرنسية في الكتابة ،ولكن أن
يستعمل هذه اللغة بصراحة ،وال يحاول أن ينافق اآلخرين،
ويقول هكذا وبكل صراحة :إنني خلقت في مرحلة ،ودرست في مرحلة معينة ،ووليد ظروف ...فأنا أطلب من الذين يكتبون
باللغة الفرنسية ،أن يواصلوا الكتابة بها ،ولكن عليهم من جهة
واسيني األعرج :اللغة الفرنسية في خيارا حياتي أشبه بالقدر ولم تكن ً
ّ التعدد الثقافي الفرنسي .إذ يعتبر اللغة الفرنسية ضربًا من
المفيد لألدب الجزائري« :أنظر للغنى اللغوي أو الثقافي
وحتى العرقي كحالة إيجابية ،والتي تفترض بالضرورة القدرة على االستيعاب واالضطالع بالحالة ...اكتساب لغة ً جيدا. جديدة هو فسحة ثقافية تنفتح على عالم ال نعرفه بفضل اللغة الفرنسية اطلعت على جزء مهم من األدب
العالمي ولم أنتظر الترجمة العربية .من عرف لغة قوم عرفهم وعرف جزءً ا من العالم المخفي».
أمين الزاوي
واسيني األعرج
الروائي رشيد بوجدرة (1941م) ،بعد أن كان يكتب في بداياته باللغة الفرنسية ،منج ًزا عشرات الروايات بها ،فاجأ
وهو أمر ال تتيحه له الفرنسية .ورغم أنه عاد من جديد إلى
ها هو يعترف أنه قبل أن يقرأ للكاتب الفرنسي مارسيل
اللوبي الفرانكفوني في الجزائر وفي فرنسا؛ بسبب مواقفه
الجميع بقرار الكتابة بالعربية ،والتخلي عن الكتابة بالفرنسية، بروست ،قرأ ألف ليلة وليلة ،وتأثر بها أيّما تأثر .عالقته باللغة
العربية حسب تعبيره هي عالقة عشقية؛ ألنها بحر ،وأن
الفتوحات اإلسالمية أضافت للغة العربية كلمات من جميع أيضا ّ الدول واألمصار ،وألنها ً تمكنه من استعمال اللهجات
الشعبية المختلفة ،والكلمات السوقية ،ولغة الشارع، الكتابة بالفرنسية ،لكنه تعرّض للتهميش واإلقصاء من المنتقدة لنشاط المنظمة الفرانكفونية ،وموقفه المؤيّد
التجاه الكتابة بالعربية ،مما حرمه ،كما صرح ،من نيل جائزة من الجوائز األدبية الكثيرة ،التي يتيحها المشهد األدبي في فرنسا.
103
قضايا
عالقة الدين بالفنون أحمد بن قاسم الغامدي باحث شرعي ومدير عام هيئة األمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمكة المكرمة سابقً ا
الدين والفنون مشترك فطري إنساني جُ بل الناس عليه ،وكالهما يحقق لآلخر معاني يستدل
104
بها على الحق والصواب والجمال ،وبهما يرتقي العقل والروح والسلوك والحياة ،والفنون يدرك بها الحسن والقبح ومراتبهما ،وتقوى بها ملكات اإلدراك وتمييز الفروق ،وغيابها غياب للمعاني الروحية وجماليات الحياة ،يتولد عنه قصور في فهم الدين ،وجفاء وسطحية في المجتمعات، ّ وأقل ما يمكن أن يورثه القصور المعرفي والعجز ويورث وقوع البعض في الكراهية والتطرف،
المعنوي والفكري.
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
إن الفنون ترتقي بفهم الدين ويرتقي الدين بها ،وتدفع
بالمجتمع المتدين لفتح مجاالت وآفاق جديدة للفنون،
فتقوى الملكات ويقل العجز عن إدراك األفكار والمعاني والحقائق.
الفنون تعين على الوصول إلى الصواب وإدراكه عبر
األدوات الصحيحة ،وهذه القدرة هي التي تمنح اإلنسان
االرتقاء وليس الصواب بذاته ،وبغير ذلك فإن الشخصية
اإلنسانية ستغرق في الضعف والوصاية المولدة للعجز في
الحكم على الواقع ومفرداته وتفاعالته واحتياجاته وأولوياته. إن الفنون تمنح اإلنسان ملكة وذائقة وحدسً ا يحمي
من الضعف ،وبإشراك الفنون فإننا نمضي بالمجتمع إلى المناعة من الخواء والضعف والخوف ونقص المعرفة،
ونخلصه من الوقوع في الكراهية والتطرف. غياب الفنون غياب للملكات
إننا دومً ا بحاجة لرؤية األشياء كما هي ،والفنون تحفز
بحاجة لتلك الذائقة؛ ليدرك الفاسد والقبيح من ضدهما،
وهذه الذائقة كملكة في الحكم على األشياء واألفكار تكاد تنحصر كمهارة يتعلمها اإلنسان من الفنون والجماليات،
التي عندما يفقدها اإلنسان ،فإن تدينه وحكمه على المسائل
ملكات األفراد على التمييز بين الصديق والعدو ،وقياس نضج
واألشخاص يكون خاليًا من القدرة على مالحظة تنوع وتفاوت
والخدمات ،وترتيب األولويات والحكم واالختيار بذائقة
و(اآلخر) ،فيضيّق (األنا) دائرة الدين إلى الطائفة ثم الجماعة
األفكار والمعاني وتمييز مستواها ،والحكم على المنتجات
جمالية محببة للنفس توفر للمجتمع ما ال توفره بيئات التعليم ووسائل اإلعالم والعمل والعالقات والمستجدات اليومية ،وغياب الفنون غياب للملكات وتأسيس للعجز
عن رؤية األشياء كما هي ،ولذلك تتكيف السلع والمعارف والتقنيات واألفكار مع قدرة الناس على الرؤية والتقييم،
فتزداد هذه األشياء في مستواها وجمالها بمقدار فهم الناس وضعفهم.
فالفنون تمنح الناس مهارات وملكات لرؤية هذه
األشياء ووصفها والتعبير عنها ،وتعين على تشخيص الفكرة
المعنوية أو تحويلها إلى واقع محسوس ،ولذلك تدهشنا
قدرة الفنان على مالحظة التفاصيل وعرضها في لوحة فنية
أو مقطوعة موسيقية أو مهارة معمارية أو قصة أو شعر، وغياب تلك الذائقة يفقد كثيرين قدرتهم على رؤية األشياء
على حقيقتها ،ويصبح الناس أكثر عرضة للخطأ والتضليل والتبعية وعدم القدرة على التمييز والتقييم ،فالمجتمع
صوابا إقصاء الفنون وهي لم يعد ً تمنح حصانة ومنعة وذائقة وقدرة على التمييز ،وتعوض اإلنسان عن الوحشة والصعوبة في عالمه المتغير
الخير والجمال في الناس حتى يصبح ليس أمامه إال (األنا) ثم المجموعة حتى يكاد يقتصر على الذات ،ويتسع اآلخر
ليبدأ بمن ليس من (األنا) حتى يكاد يكون كل إنسان آخر.
105
قضايا
إن غياب الفنون يمثل غيابًا لوضوح الحياة ،وغيابًا للنمو
والعلمية والكتب التراثية والتاريخية معه سوى قطرة في
الخواء ،الذي يستوي معه الوجود والعدم ،وعندها لن نمثل ً فرقا ألنفسنا وأسرنا ومجتمعاتنا وأوطاننا.
مجديًا التدين الذي يقدم للناس خارطة طريق جاهزة ،ولم
والنجاح والمشاركة العامة واالنتماء ،فال يكون حينها إال
الفنون ضرورة كبرى للدين والدنيا
يعد صوابًا أن يقال للناس كيف يفكرون ويفهمون وماذا
يقرؤون أو يسمعون أو يشاهدون ،ولم يعد صوابًا إقصاء
الفنون وهي تمنح حصانة ومنعة وذائقة وقدرة على التمييز،
إن الخواء يتشكل عند عجز اإلنسان عن إدراكه الصواب،
وتعوض اإلنسان عن الوحشة والصعوبة في عالمه المتغير،
واالرتقاء إنما يكونان بإدارة نقص المعرفة ،وتحويل هذا
الشعور فيه بالحاجة للمعرفة كسبب للدأب وحماية الذات من ثقل اليقين المتوهم؛ ليشق طريقه مستعي ًنا بملكات
فالصواب وإن كان موجودًا إال أنه قد يتعذر إدراكه ،والنجاح النقص إلى إبداع وارتقاء بالروح والنفس ،وهنا تكون الفنون
ضرورة كبرى للدين والدنيا ،وال يمكن للمتدين أن يستغني عنها ،فالمتدين متى اعتقد أنه يملك الحقيقة ويتبع الحق
فقد وقع في الوهم ،والكارثة تكون عندما يتبع وهمه على أنه اليقين ،ثم يكتشف أنه في وا ٍد آخر ،وكان الواجب أن
يستحضر اإلنسان أنه ال يعرف وإنما يحاول أن يدير عدم معرفته.
إن غياب هذه القدرات يجعل الفرد يلجأ إلى المجموع
ليحمي نفسه ،والمجموع ليس سوى أفراد ناقصي المعرفة
إذا كانوا مثله ،فهم جميعً ا يحتمون باليقين الذي هو في
106
محيط المعرفة المتدفق الهادر المتطور المبهر ،فلم يعد
الحقيقة ليس سوى وهم ،فال يحميه وال يحميهم ،والتواطؤ ً وضعفا ،ويتحول على الوهم وهم مركب يزيد المجموع خواء إلى شعور وهمي بالصواب ،وربما ينظر إلى الصواب على أنه خطأ ،وتواصل متوالية الخواء تشكيل أتباعها في مزيد من
الضعف الذي يقود إلى التعصب والكراهية والتطرف.
فالفنون تعالج ذلك بما تمنحه من ملكات فردية تملك
بذاتها منعتها وتماسكها فيداري الفرد بها عجزه ،وينشئ ً طريقا تحميه ،فيتشكل وعيه لنفسه على نحو صحيح بها
ً انطالقا من قدراته وملكاته الفردية ،فيعرف ماذا يريد وكيف
يحقق ما يريد ،وغياب ذلك يعني أنه يسير في طريق ال يعرفه وال يعرف عنه سوى األنس بالسالكين معه ،ولو كانوا
على باطل.
إننا اليوم في عالم اإلتاحة واإلغراق بالمرئي والمسموع
والمقروء الذي لم تعد الجامعات والمؤسسات الدينية
الفنون ضرورة كبرى للدين والدنيا، وال يمكن للمتدين أن يستغني عنها، فالمتدين متى اعتقد أنه يملك الحقيقة ويتبع الحق ،فقد وقع في الوهم
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
وتقرب المسافة بين الفكرة والمعرفة والتعبير عنها ،وتحفز
الفنون حين تعجز المنظومات المعرفية األخرى عن إدراك
بعض األشياء.
إن الفنون تلهم الحياة والفكر ،وتلهم فهم الدين؛
ألن تذوق الفنون بشكل عام كجزء من الحياة ،يمكن أن يلهم على نحو مباشر وغير مباشر عزيمة وأفكارًا وقدرات
ومعارف ،كما لو أننا نقرأ كتابًا عظيمً ا ،يزيدنا فهمً ا للدين
والحياة والطريق بشكل أمثل.
107
تحقيقات
الثقافة المصرية
من عصفور إلى النمنم.. مدرستان وتسع وزارات القاهرة
108
ألكثر من عشرين ً عاما ظل فاروق حسني هو االسم الوحيد المهيمن والمسيطر على مقاليد الثقافة في
مصر ،لكن بمجيء ثورة الخامس والعشرين من يناير شهدت وزارة الثقافة أسماء لم تكن تحلم بالسالم
على الوزير ،بحسب ما قال الرئيس السابق للهيئة المصرية العامة للكتاب أحمد مجاهد ،فقد حدثت سيولة كبيرة ،إلى درجة أن وزارة الثقافة شهدت خالل خمس سنوات ما يقرب من عشرة وزراء ثقافة،
بعضهم تولى الوزارة ألكثر من مرة؛ كجابر عصفور وصابر عرب ،وبعضهم لم يمكث في كرسيه أكثر من
أيام معدودات كعصفور في وزارته األولى إبان أيام ثورة يناير ،ومن بعده محمد الصاوي في أول أيام حكومة عصام شرف التي لقبت بحكومة الميدان ،لكن ثمة أسماء استمرت لشهور عدة؛ مثل :عماد أبو غازي،
وشاكر عبدالحميد ،وعبدالواحد النبوي ،وحلمي النمنم ،وكان الوحيد الذي أدار الوزارة من خارج مكتبه هو عالء عبدالعزيز؛ إذ قامت عليه ثورة المثقفين ،وتم احتالل مكتبه ،ومنعه من دخوله طيلة مدة توليه الوزارة ،وهي ال تزيد عن شهر وأيام عدة ،إذ قامت بعدها أحداث الثالثين من يونيو وسقط نظام اإلخوان.
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
وزراء بال مشروع
يقول الرئيس السابق للهيئة المصرية العامة للكتاب،
الدكتور أحمد مجاهد لـ«الفيصل» :إن كل من تولوا حقيبة
أعظم وزير ثقافة عرفته مصر
وزارة الثقافة بعد الثورة ظلموا؛ ألن األوضاع لم تكن لتساعد أيًّا منهم على العمل ،ويضيف أنهم جميعً ا ليس لديهم ،فيما
عدا جابر عصفور ،مشروع ثقافي يمكن الحديث عنه ،وحده عصفور هو الذي استطاع أن يوقع بروتوكوالت تعاون بين عدد
من الوزراء؛ لتنفيذ خطة ثقافية شبه شاملة ،لكن لم يتح له مزيد من الوقت لتفعيلها ،كما أنه سقط في فخ القول بأن
ورقته لمستقبل الثقافة هي الورقة التي طرحها السيد ياسين،
فاروق حسني
ثروت أباظة
وهو فخ جعل الكثير من المثقفين ال يتعاطفون مع ورقته وما
يمكن القول :إن فاروق حسني لم يكن أعظم وزير
ً صراعا من جانبه رأى الكاتب والناقد سيد الوكيل أن ثمة
الثقافية الكبرى ،وصاحب المشروعات التي ارتبطت باسمه ،بدءً ا من إنقاذ آثار النوبة ومعبد الكرنك ،وصولاً
المدرسة التنويرية ،وهذه يتزعمها عصفور ،واألخرى تمثل
المصرية ،والمعروف بالثقافة الجماهيرية ،لكن السنوات
طرحه فيها.
بين مدرستين جاء منهما كل وزراء الثقافة بعد الثورة ،هما
ثقافة عرفته مصر ،فقد كان ثروت أباظة صاحب النهضة
مدرستا جابر عصفور ومحمد صابر عرب؛ إحداهما تمثل
إلى إنشاء جهاز التثقيف األكبر واألهم في تاريخ الثقافة
المدرسة األولى جاء منها عماد أبو غازي وحلمي النمنم،
الطوال التي أمضاها فاروق حسني جعلته األشهر واألكثر استقرارًا وبرو ًزا من غيره ،بل إن عهده الذي بلغ اثنين
المدرسة األزهرية ،ويتزعمها عرب.
بينما الثانية مثلها صابر عرب الذي تولى الوزارة بعد شاكر
وعشرين عامً ا شهد عد ًدا من المشروعات المهمة؛
عبدالحميد في أيام الجنزوري ،واستمر مع هشام قنديل في
مثل :مكتبة األسرة ،وتطوير شارع المعز ،وإنشاء جهاز التنسيق الحضاري ،فضلاً عن إنهاء الوجود اليساري في
اإلخوان عاد صابر ترضية للسلفيين الذين اعترضوا على تولي
وزارة الثقافة .في المقابل لم يستطع وزراء الثقافة الذين
يقول الوكيل :إن اختيار الوزراء يتم على أساس الثقة،
االنتهاء من إنجاز مشروع واحد كالمتحف المصري
فاروق حسني ،سواء صابر أو عصفور ،ومن ثم فالحل يكمن
لكن الثورة وعدم االستقرار أدتا إلى إرجاء األمر حتى اآلن.
طرح اسم أسامة الغزالي حرب لوزارة الثقافة ،لكن جماعات
في الجانب الحسن في فاروق حسني ،وهو ثقافة إنجاز
زمن اإلخوان ،وحين خرج جاء من بعده وزير إخواني واضح
وصريح هو عالء عبدالعزيز ،وبخروج عالء وسقوط نظام
الثقافة المصرية ،عبر ما أسماه بدخول المثقفين حظيرة
إيناس عبدالدايم وزارة الثقافة.
أتوا بعد الثورة ،سواء أكانوا مجتمعين أو منفصلين،
وهو ما أدى إلى وجود هاتين المدرستين« ،وهما من أبناء
الكبير ،الذي كان مقدرًا أن يتم االنتهاء منه عام 2011م،
في الخروج من الصندوق القديم ،وكانت الفرصة مواتية حين
وتتابع وزراء إثر وزراء من دون أن يفكر أي منهم
الضغط وأصحاب المصالح مارسوا ضغوطهم حتى تم التراجع
المتاحف ،جميعهم فكر من الجانب السيئ ،ذلك القائم على االحتواء ،فضلاً عن ثقافة البهرجة والتلميع عبر
الوزارة اتصل بجريدة ثقافية طالبًا من محرريها أن يدعموه،
مثل« :مشروع المليون قارئ» ،و«صيف والدنا»،
ولها جمهورها حتى تتحول إلى مركز قوي يمكنه أن يؤثر على
نعيش مرحلة الضجيج وال طحن.
عن اختياره ،والمجيء بجابر عصفور في وزارته الثانية».
يقول الوكيل أيضا« :يكفي أن نعرف أن عصفورًا حين تولى
افتتاحات تلو افتتاحات ألنشطة اعتيادية وشبه وهمية؛
ويكفي أن تكون هناك جريدة أو دار نشر نشطة أو ندوة ثابتة
و«معرض الكتاب» ،و«مهرجان السينما» وغيرها ،وكأننا
الوزير في اختياراته وأنشطته ،إن لم تؤثر على رئيس الوزراء
نفسه في اختياره للوزير».
االستقرار المرادف للموات
تحقيق السيطرة اآلمنة على المؤسسات الثقافية هو
أساس اختيار وزراء الثقافة ،بال أي فعل قد يزعج صناع القرار،
أو يتسبب في جدل من أي نوع .والنموذج الواضح لذلك هو صابر عرب ،وشعاره« :تحقيق االستقرار المرادف للموات بأي ثمن» ،هكذا قال الشاعر المترجم رفعت سالم لـ«الفيصل»،
موضحً ا أنه ليس مطلوبًا من وزير الثقافة -في سنوات ما بعد
الثورة -العمل وفق خطة أو منهج ،أو القيام بتطوير معين
109
تحقيقات
في المجاالت الثقافية« ،بل تأمين وتسكين هذا الركن من
أجهزة الدولة ،واإلمساك بالعصا من المنتصف فيما بين المثقفين وبين األجهزة العليا ،من خالل تنفيذ تعليمات
تلك األجهزة بحذافيرها ،ومغازلة المثقفين؛ لتأمين عالقته بهم .ولهذا ،فعندما أخفق جابر عصفور وعبدالواحد النبوي مثلاً -في تحقيق هذه المعادلة ،تم إقصاؤهما على الفور ،بالً هدفا لـلمنصب تردد وبال فرصة أخرى ،فيما كان صابر عرب
طوال الوقت ،أربع مرات تقريبًا منذ المجلس العسكري إلى اإلخوانُ ، وعرضت الوزارة عليه من جديد مع السيسي، فأوصى بتلميذه عبدالواحد النبوي».
وذهب سالم إلى أن تكرار تغيير الوزراء في مُ دد وجيزة،
«يؤدي إلى إرباك المؤسسات وعرقلتها ،وبخاصة أن كل وزير يقوم باختيار رؤساء جدد يتوافقون معه ،فخالل بضعة شهور قام جابر عصفور بتعيين أربعة رؤساء على التوالي لهيئة
قصور الثقافة ،بمعدل رئيس جديد كل شهرين ،ومن ثم فالمؤسسات الثقافية منهارة تقريبًا داخليًّا .وال تحافظ إال على المظهر الخارجي .بال إنتاج أو إنجاز من أي نوع .وعلى المثقفين
110
أن يتوقعوا استمرار هذا األمر لبضع سنوات مقبلة .فاالستثناء
أن يكمل الوزير العام في منصبه». اختيار محير وعجيب
أما رئيس دار الكتب األسبق ،ورئيس قسم المكتبات
شاكر عبدالحميد
عبدالواحد النبوي
بجامعة حلوان الروائي الدكتور زين عبدالهادي ،فيرى أن
اختيار الوزراء في دول العالم المختلفة يخضع ألصول ومعايير مهنية وسياسية وعلمية عالية جدًّ ا« :أهم هذه المعايير أنهم
ممن يملكون المشروع والعلم واإلرادة السياسية لتنفيذه».
أما كيف يتم اختيار وزراء الثقافة في مصر ،فإنه أمر محير
وعجيب للغاية ،بحسب قول زين عبدالهادي؛ «إذ إنه يكون
ضمن االختيارات العشوائية التي يقع فيها كل رؤساء الوزراء،
أو من يقوم باالختيار أساسً ا».
يقول عبدالهادي« :دعنا نلقي نظرة سريعة على من أتى
بعد الثورة :ثالثة منهم من دار الكتب والوثائق القومية ،هم:
الدكتور صابر عرب ،والدكتور عبدالواحد النبوي ،وآخرهم الوزير الحالي حلمي النمنم ،وهو ذو خلفية صحفية ،وله
دراية معرفية باإلخوان المسلمين ،على الجانب اآلخر ثالثة
توالي الوزراء أثر في سير عمل المؤسسات المتابع ألنشطة مؤسسات وزارة الثقافة يمكنه أن يدرك كم أثر تغيير الوزراء المتتالي في منطق العمل ،فقد صحب ذلك التغيير
المتوالي في رؤساء الهيئات ،بدءًا من المجلس األعلى للثقافة الذي يقوم على رسم السياسة الثقافية في مصر ،والذي تاه في أتون صراعات تغيير الوزراء ،فقد أطاح جابر عصفور بسعيد توفيق ،وأتى بمحمد عفيفي.
ومع خروج عصفور من الوزارة خرج عفيفي من المجلس؛ إذ إن مشروع عبدالواحد النبوي تجسد في أن يكون عالء عبدالعزيز الجديد ،فأوقف التجديد لكل المسؤولين؛ مما أدخله في عداءات لم ينجز من خاللها شي ًئا ،ولم يحصدوا غير اإلطاحة بهم ،فكان محمد عفيفي وأحمد مجاهد وهما من تالمذة عصفور أول المطاح بهم ،في المقابل أُتي بمحمد أبو الفضل بدران الذي أعلن أن المجلس سيخرج بأنشطته إلى كل المقاهي والصالونات والتجمعات الثقافية ،رغم أن المجلس ليس من مهمته ممارسة األنشطة،
ولكن رسم السياسات الثقافية. ً في الهيئة المصرية العامة للكتاب كان األمر مختلفا ،فقد ثار العاملون في هيئة قصور الثقافة على أحمد مجاهد ،الذي تولى الهيئة لمدة ثالث سنوات في زمن فاروق حسني ،فما كان من صديقه عماد أبو غازي إال أن نقله لرئاسة هيئة الكتاب ،غير أن مثقفي
الهيئة رفضوا ذلك ،وحاصروا مكتبه ثالث مرات ،ولم يخرج إال في ظل حماية الشرطة له.
وحين أتى عالء عبدالعزيز كان مجاهد أول المطاح بهم؛ ليجيء بجمال التالوي المحسوب على اإلخوان ،لكنه سرعان ما أطاح ً مجاهدا إلى منصبه ،حتى أطاح به عبدالواحد النبوي؛ لتصبح هيئة المظاهرات به صابر عرب عقب سقوط نظام اإلخوان ،وأعاد
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
الثقافة المصرية ..من عصفور إلى النمنم ..مدرستان وتسع وزارات
عالء عبدالعزيز
عماد أبو غازي
من المجلس األعلى للثقافة ،هم :الدكتور جابر عصفور،
وكان األقرب لفكرة المشروع ،والدكتور عماد أبو غازي، والدكتور شاكر عبدالحميد ،فضلاً عن وزير أتى من القطاع الخاص أليام عدة هو محمد الصاوي ،ووزير أتى في عهد
محمد صابر عرب
حلمي النمنم
اإلخوان من أكاديمية الفنون هو عالء عبدالعزيز ،فما القاسم المشترك الذي يجمع بين كل هؤالء؟ ال شيء سوى التفاهم
ً مشروعا أو طريقة بشكل أو بآخر مع السلطة ،لكن لن تجد
لإلدارة أو إستراتيجية ما» .ويضيف موضحً ا« :إنها فلسفة
المصالح السياسية المتبادلة بين طرفين ،وليست مصالح المستقبل واالقتصاد .أعتقد أنه يجب تغيير منظومة اختيار
تقريبا المؤسسات الثقافية منهارة ً داخل ًّيا وال تحافظ إال على المظهر الخارجي ،وهي بال إنتاج أو إنجاز من أي نوع .وعلى المثقفين أن يتوقعوا استمرار هذا األمر لبضع سنوات مقبلة
الوزراء؛ ألن هناك عشوائية واضحة في دفع بعض األشخاص لتقلد المنصب ،لدينا أكاديميون ومهنيون كبار في العالم
وداخل مصر ،كيف يفوت قطار االختيار هؤالء ،أعتقد أنه يجب اختيار مجموعة ،ويتم االنتقاء من بينها على أساس المشروع واإلستراتيجية التي تتفق مع طموحات المصريين بعد الثورة ،وأن يتم إعداد مجموعة من الشباب لمستقبل
العمل بالوزارات».
والصراعات التي بلغت أن يقام معرض الكتاب عام 2013م من دون أن تطبع بوستراته أو دعواته؛ العتصام عمال المطابع ورفضهم العمل .لم تكن الهيئة األكبر واألهم وهي هيئة قصور الثقافة بعيدة من كل هذه الصراعات ،ففي الوقت الذي اعتبرها كل وزير في أول
تصريح له أنها رهانه األول ،وأنها وزارة الثقافة الحقيقية ،إال أنهم جميعً ا شاركوا في جعلها هيئة منكوبة ال يعيش لها رؤساء ،فقد
تغير عليها نحو عشرة رؤساء ،بعضهم لم يستمر في مكانه أكثر من شهر كعبدالناصر حسن ومسعود شومان ،وبعضهم أوقف كل
التوقيعات إلى أن يراجع كل القرارات السابقة عليه ،فرحل قبل أن يكمل المراجعة ،وبعضهم تولى مرتين كسيد خطاب الذي أتى به منافسا له على الوزارة ،وأتى به من جديد جابر عصفور من أكاديمية الفنون ،لكنه سرعان ما عاد وانقلب عليه حين شعر أنه سيصبح ً حلمي النمنم حين أطاح بأبي الفضل بدران ولم يجد مبررًا لذلك ،فأتى بخطاب كما لو أنه يرد له حقه الذي أهدره عصفور من قبل.
وهكذا خرجت قصور الثقافة من كونها وزارة ثقافة موازية ،تقدم خدماتها عبر أكثر من خمس مئة وخمسين موقعً ا على
مستوى الجمهورية ،ويتبعها نحو عشرين ألف موظف في هذه المواقع ،لتتحول إلى هيئة ال تخلو من الصراعات واأليدي المرتعشة
والخوف من العمل ،بعدما حولتها األجهزة الرقابية واتهامات الفساد المتوالية إلى ساحة حرب حقيقية.
111
مقال
الثقافة ..من الخوف إلى اإلنصات تهب هنا وهناك تستدعي الوقوف مرة تلو أخرى عند مسألة الموقف من الثقافة في العالم العربي .هذا عاصفة العنف التي ّ
رأيي باختصار .في غمرة عاصفة العنف التي تتضاعف شراستها ،يستبدّ الحل األمني بأصحاب القرار في العالم العربي ،كما في كل
مكان يهجم عليه العنف .لكن الوقوف عند مسألة الموقف من الثقافة هو ما يجب عدم التفريط فيه. ليس لي أمل في أن يغير أصحاب القرار نظرتهم إلى المثقفين النقديين العرب ،فيقتربوا قليلاً منهم .لكن المثقفين النقديين ال يتعبون من الط ْرق على األبواب طيلة الليل والنهار .يواصلون الط ْرق؛ ألنهم يدركون أنهم ألجل هذا كانوا ويكونون .أو باألحرى ألنهم
يعرفون أنهم يقولون ما ال يحب أصحاب القرار أن يسمعوه .لقد تعود أصحاب القرار على أن يطلبوا من أبناء بلدانهم ،من أي فئة، أن يقولوا لهم ما هم يحبّون .والمثقفون النقديون يعرفون أن هذا ليس من طبيعة واجبهم .واجبهم هو أن يقولوا ما يفكرون به؛
ألنهم يحرسون حلم الناس جميعً ا بعالم حر ،ينتقل باألرض وأهلها إلى زمن يتخلص من الجهل واالستعباد والكراهية. ً مرتبكا ،حابس األنفاس .ال يدري من أين يقبل هل هذا كثير؟ ربما كان أكثر من كثير ،في عالم عربي يقف اليوم مذعورًا،
ّ والتعلم من العالم يصبح في العنف بهذا الشكل وهذا الحجم .ال يصدق أن كل ما حقق من مراحل على طريق البناء االجتماعي
لمح البصر في مهب عواصف العنف التي تتضاعف مآسيها.
لكن يحق لكل واحد منا ،قبل هذا ،أن يتساءل عن معنى أن يقول المثقفون النقديون ما يفكرون به ،وليس ما يحب أن
112
أصحاب القرار .فالتساؤل قيمة سابقة على القبول وعلى اليقين .قد ال يخطر على بال الشخص أن يتساءل عن معنى يسمعه منهم ُ
ما يتكلم بشأنه المثقفون النقديون ،إما ألنه يجعلهم في مكان اللعنة ،أو في مكان التبجيل .وهما معً ا منافيان ألخالقيات الثقافة وأبجديتها.
ما أفكر به ،شأني شأن كل مثقف نقدي ارتبط مصيره بمصير أهله وأرضه ،هو الثقافة .هي كلمة السر .هي اإلشارة والمالذ.
الثقافة التي تعني المعرفة المتصلة في آن بالفرد والجماعة ،بالواقع والمصير ،باإلنسان واألشياء والكون ،باالكتشاف واإلبداع،
بالذات واآلخر ،بالحياة والموت .كل معرفة تدلنا على هذه جميعً ا هي الثقافة .مهما كانت صيغة التعبير عنها ،أكانت فنية أم فكرية أم علمية .ال أقصد إعطاء تعريف يعيّن الحدود ،بل أفتح الطرقات على الفضاء الشامل للثقافة ،بما كان لها عبر األزمنة،
وما هي عليه في حياتنا اليوم.
تعريف كهذا للثقافة ال يتوقف عند حد معلوم ،ال يتعب من السعي في طرقات الثقافة ،وال يتأفف من طلب استئناف السير
بقدمين لم تتدربا على المشي في المسالك المتشعبة .تعريف يخرج بالتأكيد على صيغ الفرجة التي نرتاح إليها ،وعلى ثقافة
االستهالك التي يكون الهدف منها هو امتصاص الطاقات المبدعة الخالقة .تعريف مستخلص من الثقافة التي تتطلب الجهد والتركيز والمعاناة .وبه تكون الثقافة رفيقة لنا في الحياة ،تدلنا على ذاتنا ،وعلى الفضاء الذي نعيش فيه :فضاء المجتمع والقيم،
فضاء األشياء بما تمثله بالنسبة لي ولك ،فضاء الكون الذي نحن جزء منه. والثقافة هي التي ّ تعلمنا معنى الثقافة .عندما ال نكون باحثين في مجال من مجاالت المعرفة ،ونريد أن نعرف معنى الثقافة،
فمن األحسن أن نتجنب التعريفات القديمة والحديثة ،ونذهب مباشرة إلى ما يشكل الثقافة ذاتها .عندما أقرأ قصيدة أو رواية، ً شريطا سينمائ ًّيا ،عندما أتعرف على نظرية فلسفية أو علمية ،عندما أنصت إلى موسيقا وأستمع إلى عندما أشاهد مسرحية أو
غناء ،عندما أسكن بي ًتا أو أعمل في مكتب ،عندما أركب سيارة أو حافلة أو طائرة ،عندما أتبع طريقة في األكل ،وأفضل لباسً ا على سواه .هذه كلها هي الثقافة.
علي الرؤية أو يمنعها عني .وال شك أن ما أتعلم من كل هذا هو كيف أميز بين ما يمنحني رؤية متجددة إلى الحياة ،وما يشوش ّ
الكتاب يظل المادة األكثر قدرة على تعليمنا معنى الثقافة .الكتاب بتاريخه العريق ،من العهود القديمة حتى اليوم .كتاب متعدد: في األدب ،والفنون ،والتاريخ ،والفكر ،والعلوم .كل فرع من هذه الفروع يتسع ليشمل حقولاً ال عدّ وال حدّ لها .تلك هي الثقافة
التي بن ْتها شعوب عبر تاريخ الحضارات .إنها الثقافة التي صقلت حواس اإلنسان وفكره ،هيأته ليعيش بأفضل طريقة ،ويتعايش مع اآلخرين .هي التي نقلته من وضعية الغاب إلى وضعية الحضارة ،في المدينة والبادية على السواء .هي التي أمدته بالمعرفة، العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
وهيأت له شرائط اإلقامة في وسط مجتمع ومؤسسات دولة .هي التي
حمته من السقوط في الغوغائية ،وهي التي ساعدته على االحتماء من
سطوة الطبيعة ،وإبداع وسائل لتطويعها لصالحه.
لنتأمل تاريخ الشعوب التي بنت حضارات باذخة ،وكان العرب من
بينها .أال يمكن أن نتوقف لنسأل عن السبب الذي كان وراء نشوئها ،منذ الحضارات الفرعونية والبابلية حتى حضارة العصر الحديث؟ سيقودنا السؤال إلى البحث عن معنى الحضارة ،سينقلنا من قبول الحياة كما نحياها إلى الوقوف على عتبة معناها .وستسعفنا الثقافة ،من جهتها،
في جعل حياتنا أكثر امتالء مما هي عليه بدونها .بحساسية اإلبداع
محمد بنيــس شاعر وناقد مغربي
ونور الفكر سنعثر على طرائق لم نعهدها في حياة االنغالق واالستهالك.
وبفضلها سنتكلم مع العالم لغة مشتركة ،وسنقيم على األرض بين جميع أهل األرض.
هذه الثقافة هي التي خاف منها أصحاب القرار في العالم العربي
الحديث .بذل المثقفون النقديون مجهودات متوالية؛ لتفسير مصدر هذا الخوف ،وفي كل مرة يذ ّكرون بأن الثقافة نعمة بدلاً من أن تكون
113
ً وحشا .خاف أصحاب القرار من الثقافة؛ ألنهم لم يفهموا أنها تدل على
كيفية التخلص من التخلف واالستعمار والتبعية .وها نحن اليوم ،بعد قرنين من مشروع التحديث ،نجد أنفسنا في تخلف أكبر مما كنا فيه. تخلف هو الجهل الذي يستولي على العقول ،ومصدره حرمان العربي
من الثقافة.
ما عليه العالم العربي اليوم من ذعر ،وارتباك ،واحتباس األنفاس،
ربما وجّ ه أصحاب القرار إلى ما يجب أن يبدؤوا به .أن ينتقلوا من الخوف
من الثقافة إلى اإلنصات إليها .ذلك شرط يتقدم الشروط كلها .منذ ما بعد 11سبتمبر ،شرع الغرب في توجيه التوصيات إلى أصحاب القرار في
العالم العربي .توصيات العناية بالعلوم اإلنسانية ،بالفلسفة ،بالفكر النقدي إجمالاً .وفي كل مكان من العالم العربي اليوم مجموعات عمل تشتغل على تنفيذ ما ينتظره الغرب منا .لكن الغرب ينسى أن يذ ّكر
أصحاب القرار بضرورة أن ينتقلوا هم أنفسهم من الخوف من الثقافة إلى اإلنصات إليها.
نفسها ال ال يمكن لمؤسسة أن تقوم بتنفـيذ مشروع إن كانت هي ُ
تستوعب فاعلية ما ستقبل عليه .من هنا يصبح اقتناع أصحاب القرار بالثقافة الزمً ا في الخروج من تعليم الجهل الذي أمروا به ،ومن ثقافة
الجهل التي عمّ موها عبر وسائل اإلعالم .أما أنت ،فلك أن تتكلم بحرية صوت ال يخشى ،وصوت ال يتوقف عن الجهر بضرورة اإلنصات إلى
الثقافة.
ما عليه العالم العربي اليوم من ذعر ،وارتباك ،واحتباس وجه أصحاب األنفاس ،ربما ّ القرار إلى ما يجب أن يبدؤوا به .أن ينتقلوا من الخوف من الثقافة إلى اإلنصات إليها. ذلك شرط يتقدم الشروط كلها
نصوص
بصري انحراف ّ وجدي األهدل روائي وقاص يمني
أول شيء لفت انتباهي إلى تدهور حاسّ ة البصر عندي هو ذلك المتبختر الذي يُد ّر السعادة ،لقد بدا أقصر من طوله المألوف! ّ ُ متيقن أنها طويلة ورشيقة؛ أنامل فنان ،وهذا فوقعت في حيرة؛ ألنني وفي يوم آخر تأمّ لت أصابعي ،ولحظت أنها قصيرة وثخينة
بشهادة الجميع ،لكن اآلن وبسبب هذا الخلل البصريّ صرت أراها كمالعق خشبية ذات مظهر خشن بشع ،تناسب رجلاً أمضى ّ ُ لمحت انعكاس صورتي في الزجاج ،فرأيت أن وجهي غير متناسق.. الشاق .وأنا أم ّر أمام متجر مالبس حياته في العمل اليدويّ
آدمي عاديّ .شعرت النصف األيسر منفوخ إلى األعلى والجبين ممطوط (شاقول ًّيا) ،بينما يبدو النصف األيمن طبيع ًّيا كرأس أي ّ
بالحرج من منظري ،لكن عيون المارّة التي كانت تنزلق على وجهي بنظرة عابرة ،وال تتلبّث ،طمأنتني بأن ليس ثمة تشوّه في
114
ُ ذهبت إلى عيادة للعيون ،وأجرى لي الطبيب الفحوص الالزمة ،وضحك بشدة حين أخبرته عن جمجمتي إنما العيب في بصري. ُ جدًّ األشياء المرعبة التي رأيتها في آلة تصوير الشبكية .أخبرني وهو يطفح بالسعادة أنني أعاني من «انحراف بصريّ شديد ا» ،وأنه تأخرت قليلاً لأَ ُ يجب أن أرتدي نظارة طبية ُتصحح هذا االنحراف .قال :إنني لو ّ ُ صبت بالعمى.
ُ حصلت على واحدة بعدستين مستطيلتين ،أنيقة ومتينة ،تشبه حمارًا صبورًا ،ومنحتني على الفور مظه ًرا وقورًا وثالث سنوات ً إضافية إلى عمري ،فلم أعد أشبه مجنونا هائمً ا في الشوارع ،لكن أشبه طبيب نساء ووالدة جادًّا وطيِّب القلب .سألت أصدقائي عن رأيهم في نظارتيّ ، فعلق أحدهم :إنها نحيلة كـ(مايوه) سباحة! ضحكوا جميعهم ،وأما أنا فلم أضحك ،وشعرت بتعليقه كمن في ذلك التعليق السخيف ،وأصابني بحالة من عدم الرضا ،تطوّرت إلى هوس نادرّ ، تمثل في هواية لكزني بين أضالعي .لقد ّأثر ّ
اقتناء النظارات .مواردي المحدودة لم تكن تسمح لي بالذهاب إلى المحالت ذات الديكورات المزركشة؛ لذلك كنت أشتريها من (المفرشين) الفقراء في (قاع اليهود) .عند هؤالء تجد أحشاء الحضارة معروضة للبيع .وفي األغلب ال يزيد رأسمال الواحد منهم كل َّ عن ثمن وجبة طعام متواضعة .لكي تبدأ بالتجارة هنا يكفي أن تفرش قطعة قماش بالية على الرصيف ،وتعرض للبيع ّ الل َقى التي يمكن العثور عليها في حاويات القمامة .مساء اليوم قمت بزيارة ّ بفم أَ ْد َر َد َ ين وخدَّ ِ تفقدية لسوق البؤس هذا ،وجذبني شيخ ٍ غائرين جاثمً ا ك َن ْس ٍر تناساه الموت عند مفرش صغير (متر × متر) يعرض فيه أشياء قليلة؛ من بينها نظارة طبية سميكة العدسات.
ُ أطلقت صيحة اندهاش .أردت أن أتفحصها فضربني على يدي وحذرني اقتربت منه وسألته عن سعرها ،فأجابني ببطء« :ألف ريال». َ بفظاظة« :ممنوع اللمس» .في الحاالت المماثلة كان النزاع سينشب ال محالة؛ ألنني سريع الغضب وطبْعي ناريّ ،إال أن لهذا ُ فتشت المعمر هيبة منعتني من ذلك ،مع أنه في واقع األمر لم يكن سوى كومة من العظام يمكن بنفخة واحدة أن يتناثر إلى حطام. ُ ُ أردت أن أُساومه فحَ دَ جَ ني بنظرة ازدراء ،ولم عدت إليه مضط ًرا ،وجدته يدخن سيجارة، المفارش األخرى فلم أعثر على أي نظارات. علي .نقدته األلف ريال (وشلت) النظارة ،فنفث الدخان في وجهي بعدائية كأنني انتزعت منه تذكارًا عزي ًزا على قلبه. يتنازل حتى للر ّد ّ ّ ُ ْ ناولت زوجتي النظارة ،فغسلتها وجففتها وطرحتها على رف الكتب« :ضحكوا عليك ،زجاج النظارة مشروخ»؛ علقت ببرود
ّ ثم انصرفت .في حاالت مماثلة كنت سأرد لها الصاع صاعين ،لكن الله ّ سلم وكان مزاجي حس ًناّ . وصليت العشاء ،وعقب توضأت للشوكاني. الصالة رحت أقرأ في كتاب «فتح القدير» ّ
خطر ببالي أمر ما؛ أحضرت النظارة الجديدة وتأملتها برهة ..العدستان مستديرتان وأكبر من المعتاد ،لكن تارة أخرى تبدوان
بشكل بيضويّ ! أما زجاجهما فكان سليمً ا وخاليًا من أيّ خدش ،إال أن فيه عقدً ا بالغة الصغر تمتد منها خطوط رفيعة جدًّ ا ،وتارة
تبدو كشبكة خاليا النحل السداسية! وضعت نظارتي األصلية جانبًا ،وارتديت هذه النظارة الغريبة األطوار ،ولعَ جَ بي كنت أرى
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
ُ ُ بدأت أرى الكلمات ثالثية األبعاد ،ويمكن تابعت القراءة ،وبعد عدة أسطر بوضوح!
ُ أبعدت النظارة شاع ًرا بالدوار ،وهرعت لبصري أن يراها من جميع االتجاهات! ُ وأعددت لنفسي قدحً ا من القهوة. إلى المطبخ،
لم أنم ،أرقت وتناوشتني الوساوس .غادرت غرفة النوم إلى حجرة
الجلوس؛ حيث تربض تلك النظارة المشاكسة .اقتربت منها بتوجس ّ وقلبتها بين ّ ُ تشجعت ووضعتها على كفي مدة من الوقت ،ثم ُ مكثت دقائق منتظ ًرا حدوث تلك الرؤية البانورامية ،لكن شي ًئا عيني. ّ لم يحدث .وصلتني رسالة بالواتس آب ،أخذت هاتفي المحمول،
وانشغلت نحو الساعة بقراءة الرسائل الواردة ،وكتابة ردود على بعض منها .فجأة ّ تقلص الهاتف وانكمش حتى اختفى ،وصرت أنظر إلى كفي
وال شيء فيها .رفعت رأسي وذهلت ..حتى إنني فقدت القدرة على النطق،
وأصاب الشلل جسدي كله باستثناء بصري الذي كان يدور من اليمين إلى
الشمال وبالعكس .أين أنا ال أدري ،المكان يشبه حديقة بديعة المناظر داخل أنابيب عمالقة ذات أشكال فنية لم يسبق لي أن رأيت مثيلاً لها .تجمّ ع
حولي عدد من الناس فيهم جمال صارخ يفوق الجمال البشريّ بأضعاف، وعلى مُ حيَّاهم االستغراب ،وسمعتهم يتهامسون بلغة فيها حروف لم تطرق أذني من ُ قبل .أتى أشخاص طوال القامة بمالمح متجهمة ،ووضعوني
داخل فقاعة صابون شفافة لها مقبضان من الخارج ،ثم ّ حل الظالم التامّ .سمعت ً صوتا يناديني باسمي (مهيوب) فانتبهت.
ظل الصوت يك ّرر مناداتي ،فأجبته« :نعم».
سأل مرة أخرى« :أنت بخير؟» .أجبت بامتعاض« :ال ،أخرجوني من هنا»« .أَب ِْعد
ُ أردت تحريك النظارة من عينيك» ر ّد الصوت. يدي َ ُ ووجدتني عاج ًزا عن تحريك فلمْ أجدها،
أيّ عضو من أعضائي أو اإلحساس به ،قلت
بحدة« :ال أستطيع ،أين أنا؟» .بعد صمت طويل أجابني الصوت نفسه« :ال تذعر ..أنت في مكان بعيد جدًّ ا من عالمك ..لكنك
بأمان» .أردت أن أتقدم إلى األمام، أو أرجع إلى الخلف؛ أن أدور حول
نفسي ،لكنني عجزت ،فصرخت غاضبًا:
-عليكم اللعنة ماذا فعلتم بي؟
115
نصوص
ال تلعن أيها اإلنسان ،فأنت من سعى إلينا ،واآلن نحاول إخراجك من هذه الورطة. -من أنت؟ الشيطان؟!
-ال وجود للشياطين في عالمنا.
-حزرت ..أنتم كائنات فضائية اختطفتموني؛ أليس كذلك؟
نحن ال ننتمي للكون الذي تحيا فيه ،نحن نسخة أخرى من الكون ذات ثمانية أبعاد. كون آخر ..يعلم الله كم مليارًا من السنوات الضوئية تفصلني اآلن عن بيتي؟! -ال تقلق ..المسافة بين كوننا وكونكم صفر تقريبًا ..نحن كونان متداخالن.
-لكن لم يسبق أن تشرفنا بمعرفتكم ..أقصد أين أنتم؟
-المسافة التي تفصلنا عنكم ليست مكانية لكنها مسافة زمنية.
-كم؟
-نحن نسبقكم بفارق زمني قدره واحد على المليون من الثانية.
ُ زمني تافه! لست ضليعً ا في الرياضيات ،لكن أتصوّر أن هذا فارق ّ
116
الزمني الذي تحسبه تافه القيمة هو العلة في تمايز كوننا من كونكم؛ لذلك حضارتنا أرقى من حضارتكم، هذا الفارقّ ومستوى ذكائنا أعلى من مستوى ذكائكم؛ ألننا أقرب للمستقبل منكم. َسيمون وسامة مفرطة ..جمال ال ربما ما تقوله صحيح ..اإلناث والذكور الذين أحاطوا بي وتس ّنت لي رؤيتهم لبرهة وجيزة و ِنظير له ًّ حقا بين بني البشر. ك.ه.ي .أنت اآلن جاهز للعودة إلى وطنك. -مهلاً ،أريد أن أعرف الس ّر في انتقالي إلى كونكم هذا.
-النظارة التي استعملتها أتذكرها؟ زجاجها يحتوي على فصوص رقيقة من األلماس ..ويبدو أن العصب البصري لديك مهيأ
للتعامل معها.
-من صممها؟
-إنسان اسمه هيو إيفيرت.
هل هذا اختراع سرّيّ للتواصل مع كونكم؟ -أنت تتلكأ ..أال تريد العودة إلى ديارك؟
بصراحة حياتي هناك ليست فريدة من نوعها ..فهل يمكنني البقاء هنا وأن أعيش حياة طبيعية كما تحيون أنتم؟ممكن ..هل أنت متأكد من قرارك؟
-كل التأكد ،وأقسم أنني لن أتراجع عن قراري هذا أبدً ا.
ُ ذرات جسمك مظهرها لتكون مؤلفة على التوافق مع قوانين -لست بحاجة للقسم؛ ألنك بمجرد أن تلمس واحدً ا منا س ُتغيِّر
كوننا ،وسوف يستحيل عليك بعد ذلك تفكيك ذرات جسمك مرة أخرى. -أخرجوني من هنا وسوف ألمس أول واحد أقابله فورًا.
انبلج الضوء كشروق الشمس ببطء ،وعادت الحياة إلى جسمي بالتزامن مع سقوط الضوء عليه ،فصرت قادرًا على اإلحساس به وتحريكه .كان حولي مجموعة من أفراد الكون الثماني األبعاد يبتسمون بو ّد ولطف .دنوت من شابة جميلة جمالاً ً خارقا ولمستها
ُ انتبهت أنني كنت عاريًا كما ولدتني أمي! شعرت بالعروق والشعيرات الدموية ُتغيِّر تموضعها .أجهزتي الحيوية في سرتها فضحكت،
ُ تحسست قلبي فإذا هو ينبض في الجهة اليمنى. فعلت األمر نفسه.
ُ عشت حياتي وسطهم كواحد منهم في سعادة خيالية ،تساوي السعادة األرضية مضروبة في مليون .ولم أندم قط على قراري
بمغادرة ذلك الكون الرباعي األبعاد الذي ال ينتج سوى مقادير ضئيلة من السعادة. العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
ﺗﺮﺣﺐ ﻣﺠﻠﺔ اﻟﻔﻴﺼﻞ ﺑﺄي ﻣﻘﺘﺮﺣﺎت وأﻓﻜﺎر ﺗﺨﺺ »ﻛِﺘﺎب اﻟﻔﻴﺼﻞ« أﻳﻀﺎ ﺑﺎﻟﻤﺸﺮوﻋﺎت اﻟﺬي ﻳﻮزع ﻣﺠﺎﻧًﺎ ﻣﻊ اﻟﻤﺠﻠﺔ ،وﺗﺮﺣﺐ ً وﻣﺨﻄﻮﻃﺎت اﻟﻜﺘﺐ ﻓﻲ اﻟﻤﺠﺎﻻت اﻷدﺑﻴﺔ واﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ واﻟﻔﻨﻴﺔ اﻟﻤﺨﺘﻠﻔﺔ .وﺳﺘﻘﻮم اﻟﻤﺠﻠﺔ ﺑﺎﺧﺘﻴﺎر اﻟﻤﻨﺎﺳﺐ ﻣﻨﻬﺎ ﻟﻠﻨﺸﺮ. اﻟﻤﻘﺘﺮﺣﺎت واﻟﻤﺨﻄﻮﻃﺎت ﺗﺮﺳﻞ إﻟﻰ اﻟﺒﺮﻳﺪ اﻹﻟﻜﺘﺮوﻧﻲ:
editorial@alfaisalmag.com alfaisalmag
@alfaisalmag
www.alfaisalmag.com
شخصيات
زها حديد .. غرائبية األشكال المعمارية المعاصرة
118
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
تتسم عمارة «زها حديد» المعمارة العالمية ذات األصول العراقية( ،التي
توفيت مؤخرًا في 31مارس (آذار) 2016م ،في أحد مشافي ميامي بأميركا،
إثر نوبة قلبية مفاجئة) ،بسمات محددة ،أفضت إلى أن تكون مقاربتها التصميمية ً ً حدثا ًّ وفريدا في المشهد المعماري العالمي .وهذه المقاربة مهما
المنطوية على تميز واضح ،تستقي إلهامها وجوهرها من ينابيع شتى؛ أضفت عليها ً نوعا من الخصوصية المتفردة واالختالف البين بينها وبين أقرانها من
المعمارين العاملين في هذا الحقل .والحال أن عمارة زها حديد ال يمكن إدراك ماهيتها التكوينية عبر األسلوب التوصيفي .Descriptive
خالد السلطاني معمار وأكاديمي
إذ يظل هذا األسلوب معنيًّا ومحددًا بالنتائج المرئية
تجاهل تأثيرات الفترة األولى للتشكل المعرفي والذوقي، ً (وأحيانا حاسمة) وهي فترة ما انفك ُكثر يعتبرونها هامة
فهم عوامل عديدة أثرت في صياغة وظهور تلك المقاربة،
الثقافات المعرفية الخاصة بالعمارة والفن ،قد استمدتها
للمعطى التصميمي ،على حين أن المطلوب هو الغوص
في كنه تلك المقاربة ،واستجالء جوهرها .وهذا يتأتى من وهي عوامل مختلفة ومتشعبة ،قد ال تكون خاصة فقط في
الشأن المعماري .بتعبير آخر :إن المطلوب هو معرفة خواص «الماكنة» المفاهيمية ،المؤهلة باستيالد مثل تلك التصاميم،
عند ذاك يتم إدراك واستيعاب مسوغات الناتج األخير بكل غرائبية «فورمه» االستثنائي .وهذا بالطبع يقتضي مساحة إضافية من التحليل والمتابعة ال يتوافران هنا؛ لخصوصية
هذه الدراسة ومحدودية غاياتها .آملين أن نعود مرة أخرى لفحص هذه اإلشكالية المعرفية ومساءلتها مستقبلاً . ومع هذا ،مع مثل هذا اإلقرار ،فإن من غير المنطقي
في تك ّون شخصية المرء .إنه ألمر مصيب القول بأن اكتساب زها من خصوصية المجتمع وقيمه الذي أقامت بين ظهرانيه
لفترة طويلة ،وشكلت بالتالي منظومة ذائقتها الجمالية. لكنّ قولاً آخر ليس من دون مصداقية ،يشير بأن تأثيرات
الوعي( ،وربما الالوعي ً أيضا) ،العائدة إلى فترة النضوج،
قد تلعب دورًا موازيًا ال يستهان به في مهام تحديد نوعية الذائقة الجمالية إياها ،وتسهم في تكوين خصوصيتها.
قد يتوقع المرء أن ثمة إضافات «مستترة» تضفيها
المصممة على مشاريعها ذات اللغة المعمارية الفريدة التي ُعرفت بها .وبواعث هذه اإلضافات تظل بالطبع استحقاقات
مركز حيدر علييف -أذربيجان
119
شخصيات
طبيعة المكان ،الذي نشأت فيه المصممة .المكان الذي تتكلم
التي منها تنهل زها خصائص نهجها التصميمي .بالطبع
مثل تلك التأثيرات لن تنعكس بصورة مكشوفة أو ملموسة في
التفكيكية ،التي كثي ًرا ما استقت زها منها توجهاتها .بيد أنها «تغرف» ً أيضا من منابع شتى لجهة ترسيخ نهجها التصميمي
عنه زها بعاطفة وشغف عميقين .على أنه علينا التأكيد ،بأن التصاميم المعدة من مكتب المعمارة؛ ذلك ألن عملها (أي
عمل التأثيرات) سيخضع لعمليات التأويل وستكون متداخلة مع جوهر مقاربتها المعمارية تداخلاً عضويًّا ،ما يجعل من
وبالصيغة التي أصبحت مألوفة في الخطاب ،ولدى كثر من
تكوينات المشاريع المنجزة .كما يجب أال يغرب عن البال
ومختلفة وحتى ...متناقضة.
الوهم توقع حضور مادي لها ،أو إيجاد انعكاس جلي لها في طبيعة عملية إنتاج العمل المعماري المعاصر ،المنطوي
دومً ا على أسلوب القرارات الجماعية المشتركة .نحن نتكلم،
الخاص ،الذي تفصح عنه ببالغة تصاميمها المنجزة، المتلقين .إن «فرشة» هذه المنابع لواسعة .كما أنها عديدة
حلول تكوينية غير شائعة
إذن ،عن مناخ ،مناخ تصميمي يتشكل من خصوصية المكان،
أحد هذه المنابع الهامة في رأي زها ،هو تأثيرات
األشكال المعمارية المعاصرة ،ليست مقتصرة على نتاج زها
غير شائعة في المشهد ،بل وبعيدة من المفهوم «الدارج» لمعنى العمارة وحدود مجاالتها .ثم علينا أال ننسى ً أيضا،
الخصوصية القريبة من ذهنية المعمارة التي ال تزال تشغل حي ًزا ما في ذاكرتها البصرية .يتعين التذكير بأن غرائبية
حديد وحدها ،فالمشهد المعماري متخم بمثل هذه النزعة التصميمية التي سبق أن برر بواعثها «بيتر آيزنمان» ،بكونها تمثيلاً لناتج معماري ما بعد حداثي ،وهذا الناتج عليه أن
يتجاوز بصنيعه أوهام الحداثة المتمظهرة في «وهم التمثيل،
ووهم المنطق ،ووهم التاريخ» .لكن ما تقدمه زها يفوق
120
تقودنا تلك اإلشارات ،مرة أخرى ،إلى خصائص العمارة
ذلك التجاوز ،ويقترب من مهمة جعل «مهرجان» األشكال الغرائبية تبدو وكأنها حدث عادي ،ال يفترض أن يثير الدهشة
أو االستغراب.
والسؤال المهم ،هو كيف تحقق ذلك؟ كيف باتت
«غرائبية» األشكال المصممة تغدو وكأنها محض أشكال «عادية» في مقاربة زها المعمارية؟ بل إن التساؤل األكثر
أهمية ،هو :من أين تستل زها هذه الغرابة التشكيلية لتصاميمها؟ وأين تكمن جذورها؟ ال يمكن اإلجابة عن هذا
التساؤل المشروع من دون تحليل عميق لطبيعة المقاربة «الزهائية» ،ومن دون قراءتها قراءة نقدية متأنية ومتشعبة.
وهو ما ال يمكن تحقيقه اآلن ،ضمن محدودية أهداف هذه الدراسة .ومع هذا فإننا نتطلع إلى اإلشارة ،ولو بعجالة ،إلى
المنابع التي شكلت فيوضها مزيج المرجعيات المتعددة
تصاميم زها حديد يتعين إدراكها بالطبع ،وفي الجوهر ،طبقً ا لما توفره (وخصوصا في طروحات ما بعد الحداثة ً نسختها التفكيكية) من رؤى معرفية غير مسبوقة في الخطاب
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
الـ«كونستروكتفيزم» الروسي وهوسه باستيالد حلول تكوينية
طالما نحن ال نزال في روسيا ،تأثيرات «كازيمير ماليفتش»
ودعواته الرتياد آفاق جديدة في الفن والعمارة ،عبر أنساق
هندسية صوفية وتجريدية ،تهجر السائد وتهجس باآلتي. ًّ خاصا لديها ،تمثل في استيعاب وتأويل وهو ما لقي هوى
زها حديد ..غرائبية األشكال المعمارية المعاصرة
الدرس «السوبرماتي» الماليفتشي .ثم هناك منابع جذورها الشرقية ،المؤسسة لطبقات حساسة تكتنزها الذاكرة، ً أحيانا في «تصحيح» ذائقتها الجمالية. وتفصح عن نفسها لاً ً ثمة عامل آخر ،قد يبدو للكثيرين عام طارئا وربما غريبًا،
لكنه ً وفقا لزها ،كان عاملاً مؤث ًرا من جهة نفوذه وتأثيره على
صياغة نهجها التصميمي ،وهي أعمال المعمار البرازيلي
المعروف «أوسكار نيماير»« :تأثرت تأث ًرا كبي ًرا بأعمال أوسكار نيماير –تعترف زها حديد– وبخاصة إحساسه باتساع المكان، إبداعه وإحساسه هذا بالمكان فضلاً عن موهبته الفذة كلها
مع عناصر أخرى تجعله متمي ًزا وال يعلى عليه .فأعماله هي التي ألهمتني وشجعتني على أن أبدع أسلوبي الخاص مقتدية
ببحثه على االنسيابية في كل األشكال»( .الشرق األوسط25 ،
إذا تجاوزنا مرجعية األشكال المتفردة
إبريل 2008م) .ولئن أثر كل هذا على صياغة مفاهيم زها ،فإن
مشاريع زها حديد ،فإن طبيعة األشكال
بالطبع نوعية ثقافتها المعمارية ،واألجواء المهنية المحيطة
ذات السمة الغرائبية ،الحاضرة في كبيرا من السجال قدرا ذاتها تثير ً ً حولها .فهي ،كما أشرنا سابقً ا ،غاصة
ما أسهم في تحديد مقاربتها بشكل مهني وملموس ،يظل
ً وخصوصا متطلباتها ،واألهم في بها ،وطبيعة متطلباتها؛ كل ذلك القدرة على اإلصغاء لهاجس تلك المتطلبات،
وكيفية تمثيلها بجدارة.
بالتنافر التشكيلي ،وعدم التناغم بين
وإذا تجاوزنا مرجعية األشكال المتفردة ذات السمة
بااللتواءات والهشاشة المتقصدة ،مع
األشكال ذاتها تثير قدرًا كبي ًرا من السجال حولها .فهي ،كما ً ّ غاصة بالتنافر التشكيلي ،وعدم التناغم بين سابقا، أشرنا
عناصر لغتها المعمارية ،وهي مليئة اإليحاء بالحركة والتشظي
الغرائبية ،الحاضرة في مشاريع زها حديد ،فإن طبيعة
عناصر لغتها المعمارية ،وهي مليئة بااللتواءات والهشاشة
121
محطة مترو مركز الملك عبدالله المالي -الرياض
شخصيات
المتقصدة ،مع اإليحاء بالحركة والتشظي .واألمر األساسي
قادرة على تسويغ ما تقدمه زها من أشكال تصميمية؛ ما
المصمم .إنها بالطبع أشكال متميزة .متميزة من السياق، ً أيضا .ولهذا تحتاج إلى تسويغ ومتفردة عن األنساق
مبررات ظهور أشكال المقاربة التصميمية إياها .وحتى ال
فيها هو غياب األشكال المنتظمة ،وعدم «منطقية» الفورم
مفاهيمي ،يبرر حضورها في المشهد ،ويجعل من لغة ً حدثا مقبولاً . عمارتها قد ال يكون الفهم «المنطقي» وما يترتب عليه من قيم
يحملنا إلى تقصي مفاهيم أخرى ،يمكن لها أن تجيب عن نذهب بعيدً ا في تيه التقصيات المتنوعة وربما المجهولة، علينا التذكير بأن مقاربة زها يمكن أن تصنف ضمن «المقاربات
التي تعيد البشرية بين الفينة واألخرى حاالتها المتفردة العصية على االستنساخ والتقليد .فالمخيلة اإلنسانية ظلت على امتداد سفر التاريخ تجنح إلفراز تمظهرات تكون مترعة
بالتعقيد والتناقض ،ومشوبة بالغموض وفرادة األشكال،
كانت تعشق عنصر الخفة وحيوية الحركة على سطح األرض ،ومساحة الحرية التي تمنح القدرة على التحليق فوق سطح األرض
122
كجزء من منظومة جدلية ،تتفاعل بين النظام والالنظام، العقالنية والالعقالنية ،القاعدة واستثنائها؛ والتي بها يغتني
المنتج اإلبداعي اإلنساني ويكتسب فرادته وتعدديته؛ لينجو من تبعات الرتابة وإيقاعها المتماثل الممل» (خالد السلطاني،
عمارة ومعماريون ،2009 ،بغداد).
زها حديد..
تصاميمها أعمال فنية
سمـير غريـب ناقد مصري
حزنت على وفاة زها حديد بأزمة قلبية مفاجئة في الخامسة والستين من عمرها .هذه العبقرية الهندسية العراقية التي ً مشرفا في العالم كله طوال سنوات ،وفي ظروف مناوئة تمامً ا للعرب .التقيتها في القاهرة عام 2009م ،عندما رفعت اسمً ا عربيًّا أتت لعرض تصميمها ألرض المعارض الجديدة الذي لم ينفذ .وكتبت عنها في مقالتي األسبوعية بجريدة األخبار المصرية.
تابعت كثي ًرا من مشروعاتها الفذة عبر العالم .هي ليست المهندسة العربية الوحيدة التي لمع اسمها عالميًّا فقط ،بل هي
المهندسة الوحيدة في العالم األكثر شهرة ،وثاني مهندس عربي يؤثر في العمارة العالمية بعد المصري حسن فتحي عبر التاريخ .فمتى يجود الزمان بمثلها؟
ً طاغ، هي شخصية غير تقليدية ،أحيانا غريبة األطوار ،وانعكس ذلك في تصميماتها المعمارية .لها شخصية قوية وحضور ٍ
حتى إنها حازت لقب واحدة من أقوى نساء العالم؛ لذا فقد اكتسبت من اسمها صفته ،وقالت ذات مرة مازجة اإلنجليزية
بالعربية »Iam a Hadid« :يعني «أنا حديد» .ربما ساعدها تكوينها الشخصي على هذا الحضور ،لكن الذكاء الواضح في عينيها
الواسعتين هو األهم ،وثقتها بنفسها واضحة .بالغة النشاط ،ال تحب النوم كثي ًرا .أحببتها ،فهي تقدم نموذجً ا يحتذى للنساء
عامة ،ولنساء العرب خاصة .تصمم المشروعات ،وتتابع تنفيذها ،وتلقي المحاضرات ،وتشارك في المؤتمرات والمعارض،
فمن يحتذي؟
لديها نحو 1000مشروع معماري في 44بلدً ا .هي ملكة الهندسة المعمارية اإلبداعية في العصر الحديث .لم يكن لكلمة
المستحيل مكان في حياتها ،ولم تكن تتقيد بالقواعد سوى تلك التي تضعها لنفسها ،وكان شعارها في الحياة كسر الحواجز. عندما أقيم معرض إكسبو العالمي في مدينة سرقسطة اإلسبانية ،صممت زها جس ًرا طوله 275مت ًرا ،واستخدمته كجناح
للعرض في الوقت نفسه .وصممت لشركة بي إم دبليو مصنعً ا في مدينة اليبزغ تمر فيه السيارات عبر مكاتب الموظفين!!
أعلنت زها حديد الحرب على الزوايا ،وبدأت منذ أيام الدراسة استلهام أشكال جديدة تتجاوز تصورات ما بعد الحداثة.
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
زها حديد ..غرائبية األشكال المعمارية المعاصرة
مركز الفنون روما
سعت في هندستها المعمارية الديناميكية إلى تجاوز قانون الجاذبية ،كما فعلت في منصة القفز في جبل إنسبروك النمساوي. وكذلك مكتبة الكلية الجديدة في جامعة فيينا التي تمثل مركبة فضائية في خدمة العلوم.
كانت زها حديد صارمة ،وال تقبل المساومة ،وتصر على تنفيذ خطة البناء مهما ارتفعت التكاليف أو تأخر موعد اإلنجاز. متحف الفن الحديث للقرن الواحد والعشرين في روما مثلاً أنجز بعد 11سنة من الموعد المحدد .كانوا يقولون :إن هذا
التصميم غير قابل للتنفيذ ،وظلوا يرفضون لفترة طويلة عرض أعمال فنية في فضاء يتنافس مع الفن .كانت تدرك ذلك من البداية ،وقالت« :أسلوبي غير مألوف في العمل .فهناك عمالء كثيرون يعتبرون تصاميمي ضربًا من الجنون .إنه صراع دائم ضن في بعض األحيان .لكن هذه المعركة والمواجهة المستمرة تجعلك في النهاية أشد قوة» .وقالت في مناسبة أخرى: ومُ ٍ
«يتعين علينا جميعً ا تقديم تنازالت من حين آلخر ،لكن عندما يطلب مني صاحب المشروع التنازل كليًّا عن جانب أساسي منه
فعندها أرفض».
أحد أهم مشاريعها األخيرة هو متحف «إم إم إم كورونيس» على قمة جبل كرونبالتز من جبال األلب اإليطالية .هو نفق
محفور في الجبل ،ومشيد بالخرسانة المسلحة ،ومكون من ثالثة طوابق ،وال نرى منه من الخارج سوى مداخله .جدرانه
كلها غير مستوية ،هكذا تمكنت زها حديد من حفر بصمتها على الحجر .كانت تعشق عنصر الخفة وحيوية الحركة على سطح
األرض ،ومساحة الحرية التي تمنح القدرة على التحليق فوق سطح األرض. ظلت مشروعاتها لسنوات عدة تصنف في خانة الفنون التي تعرض في صالة المعارض ،فكانت تصاميمها تعد أعمالاً
فنية أكثر منها مشروعات للتنفيذ أو غير قابلة للتنفيذ .تعتقد زها حديد أن فكرة الحداثة الجديدة ال تقتصر على وجود أشياء
متطابقة في صورة واحدة ،إنما هي عبارة عن أشياء مختلفة تجتمع في آن واحد .وأعتقد أن من أهم أسباب نجاحها هو تطلعها الشديد الكتشاف جديد ،تكتشفه من داخلها معتمدة على موهبتها ،وما حصلته من علم وخبرة .لم تلق بالاً كثي ًرا لما تحدثوا
عنه من انتمائها للمدرسة التفكيكية في العمارة ،فهي في الواقع كانت فوق المدارس واالتجاهات .هي خلقت مدرستها أو
اتجاهها الخاص .بدأت بعد تخرجها في لندن بأعمال مفاهيمية بحتة ،لكن مشروعها الرئيسي األول كان تصميم مركز إطفاء في ألمانيا ،انتهى تنفيذه عام 1993م .كان هيكلاً خرسانيًّا ضخمً ا مائلاً وله جناح يخرج منه مائلاً ومنحنيًا نحو األعلى كعالمة
بصرية له .شكل هذا المبنى بداية أسلوب زها حديد المتميز .كما جاء تصميمها للمتحف اإليطالي الوطني لفنون القرن الواحد
والعشرين في روما ،الذي تم تنفيذه عام 2009م ،ليؤكد مدرسة زها حديد في العمارة .وهو مزيج طموح من المنحنيات واألنابيب المتقاطعة ،اعتبره نقاد العمارة عملاً رئيسيًّا.
123
شخصيات
رحيل أوالد أحمد نهاية «حالة» استثنائية في المشهد األدبي التونسي حياة السايب
ترك رحيل الشاعر التونسي محمد الصغير أوالد
أحمد الذي وافته المنية يوم الثالثاء 5إبريل
الماضي ،في المستشفى العسكري بالعاصمة
تونس بعد صراع مع مرض عضال -أثرًا كبيرًا
صحافية تونسية
لعلنا نشير إلى أنه نادرًا ما فاز شاعر في تونس ،إذا ما
استثنينا الشاعر المنصف المزغني في فترة ما في مسيرته بقدر
في نفوس محبيه .فقد كان أوالد أحمد -هكذا متميزا بشهادة النقاد ،شهرتهم وشعبيتهم مثلما فعل أوالد أحمد .وقد كان موكب ً يناديه التونسيون -شاعرًا
124
وشخصية معروفة ولها شعبية كبيرة .وأوالد ّ أشعت أحمد من األسماء القليلة في تونس التي
في عالم األدب ،وتمكنت من تحقيق نوع من اإلجماع حولها؛ إذ يقر خصومه قبل أصدقائه بأنه
واسع من الشهرة ،واستطاع أن ينافس نجوم الفن والرياضة في تشييع جثمانه إلى مثواه األخير في مقبرة الزالج بالعاصمة دليلاً
على ما يتمتع به الراحل من شعبية وعلى مكانته االعتبارية؛ إذ
شيّعته جموع غفيرة كما حضرت الموكب شخصيات سياسية عديدة مثلت جميع األطياف تقريبًا ،وحضر رئيس الجمهورية
الباجي قائد السبسي موكب الجنازة ،وانتقل إلى بيته لتقديم
«حالة» استثنائية في المشهد األدبي وفي الساحة عموما في تونس .كلماته تنفذ إلى أعماق رحيل شاعر تونس –هكذا يلقب -باهتمام واسع. ً الثقافية
التونسيين ،وروحه خفيفة عليهم حتى ولو كان ً ً أحيانا .فهو يبقى الذعا ،وسخريته قاسية نقده
العاشق لتونس والمسكون بحبها حتى إنه قبل
التعازي ألسرته ،وواكبت مختلف وسائل اإلعالم الوطنية حدث
شاعر تتكسر على بابه الحواجز
ولئن كان أوالد أحمد ينسب إلى اليسار التونسي ،فإنه
تحول رويدً ا رويدًا على امتداد تجربة برزت منذ ثمانينيات القرن
سويعات من رحيله كتب وهو على فراش المرض: ُ وقلت وقلت أكونها
واالنتماءات .كثيرون في تونس يلتقون عند ذلك الشاعر المتمرد
ونثرًا ً ناقدا
القراء ،وكثيرون يجدون فيه المعبّر عن شيء من ذاتهم .وقد
طول الفصول األربعة
اختالف انتماءاتها وتوجهاتها ،والقيادات النقابية والحزبية
شعرًا
ومبشرًا أنثى
وأمي
ليس لي ...قبر
في الما -بعد( -في األخرى)
سوى هذي الحروف األربعة. العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
العشرين إلى شخصية تتكسر على بابها الحواجز والتصنيفات الذي عثر على الوصفة السحرية للوصول إلى قلوب اآلالف من
ضرب العديد من الوجوه السياسية والثقافية واإلعالمية على في الفترة األخيرة موعدًا عند أوالد أحمد ،الذي كان قد أعلن
بنفسه عن إصابته بمرض السرطان ،عبر صفحته الخاصة على موقع الفيسبوك منذ نحو سنة .كان الملتقى إما في بيته أو في
المستشفى العسكري حيث كان يتلقى العالج .وأغلبهم كانوا
يتباهون بلقائه ،ويحرصون على نشر صورهم بصحبة الشاعر في مواقع التواصل االجتماعي.
وإذا ما أردنا تقديم فكرة واضحة عن خصوصية التجربة
صباحً ا مساء
عن شعر التفعيلة فإنه اختار أن يكون ذلك الشاعر الغاضب
ويوم األحد».
اإلبداعية للصغير أوالد أحمد ،فإننا نقول :إنه وإن لم يتخل
والمتمرد والثائر .كلماته عبارة عن حمم من نار وسخريته سالح ً لصيقا ج ًّدا بقضايا التونسيين يعبر عن همومهم فتاك ...كان وعن أحالمهم وآمالهم ،وقد تحدث األكاديمي والشاعر المعروف المنصف الوهايبي عن أوالد أحمد ،قائلاً « :اآلن أقول
هو شاعر شجن معقود على نفسه حتى الضنى ،ولغة ال تتحالف إال مع نفسها ،ولك ّنها تأخذ من األشياء وتتورّط فيها ،وال تميّز
بين «األنا» و«الهو» في تراسل أو تجاوب بين العالم والذات، بين الداخل والخارج؛ كما لو أنّ ّ كل األشياء تتالقى فيه .ربّما هي طريقة في أن َنرى في ذات اآلن الذي ُنرى فيه .شاعر يلحِ م بالكلمات جرحً ا ال يندمل ،واعيًا أن الشعر تعويض ع ّما ال يمكن تعويضه».
قائد الثورة الشعرية
وقبل الصباح وبعد المساء
ينحدر الراحل أوالد أحمد من سيدي بوزيد (ولد سنة 1955م)
وقد نشأ في بيئة فقيرة ،وظهرت عليه النزعة الثائرة منذ بداية
تجربته التي انطلقت في منتصف العشرينيات من عمره ،واختار أن يكون شعره ونثره لسان حال الفئات الفقيرة والمهمشة التي تتوق إلى الحرية .عانى أوالد أحمد الفقر ،باستثناء سنوات قليلة ً موظفا بوزارة الثقافة ،وكذلك الفترة التي ترأس فيها كان فيها
بيت الشعر (من 1993إلى 1997م) الذي ناضل من أجل بعثه ,فإنه قضى فترة طويلة من حياته عاطلاً عن العمل .مقابل ذلك كان مطلوبًا في األمسيات الشعرية وفي الملتقيات الثقافية داخل
تونس وخارجها ،وساهم بكتاباته في الصحافة التونسية.
صدرت أول مجموعة ألوالد أحمد سنة 1984م بعنوان:
«نشيد األيام الستة» وتواصلت المجموعات ،من بينها« :ولكنني
أحمد» (1989م) ،و«ليس لي مشكلة» (1998م) ،و«حاالت
صدرت للشاعر مجموعات شعرية وكتب نثرية ،منها ما
الطريق» (2013م) .وكان الشاعر الراحل ينوي نشر مجموعة
جديدة ،ودفعت به مجددًا نحو الصدارة حتى إنه ألف كتابًا نثريًّا
الموت وضع حدًّا لهذه التجربة اإلبداعية ،كما أن القدر لم يمهله
نفسا نشر قبل الثورة ،ومنها ما نشر بعد الثورة التي منحته ً بعنوان« :القيادة الشعرية للثورة» عام 2013م ،جمع فيه نصوصه
التي كتبها منذ أواخر سنة 2010م تاريخ اندالع الشرارة األولى للثورة بمحافظة سيدي بوزيد بالوسط التونسي .وقد أثار الكتاب الجدل
في تونس ،فالبعض لم يقبل فكرة أن ّ ينصب أوالد أحمد نفسه
«قائدً ا للثورة الشعرية»؛ ألن هناك شبه إجماع في تونس على أن الثورة لم يهيأ لها ثقافيًّا أو فكريًّا ،وإنما هي فعل تلقائي شبابي
باألساس .لكن هذا ال ينفي عن الشاعر دوره الطالئعي في التعبير عن هموم التونسيين ،وفي شحذ العزائم من أجل الوطن كلما
م ّر البلد بمحنة أو خاض معارك مصيرية ،فهو صاحب القصيدة
الشهيرة «نحب البالد» التي تحولت إلى ما يشبه النشيد الوطني، والتي قال فيها:
«نحب البالد كما ال يحب البالد أحد
موكب تشييع جثمانه كان دليال على ما شيعته يتمتع به الراحل من شعبية؛ إذ ّ جموع غفيرة ،كما حضرت الموكب شخصيات سياسية مثلت جميع األطياف تقريبا ،وحضر رئيس الجمهورية موكب ً الجنازة ،وانتقل إلى بيته لتقديم التعازي
جديدة من الكتب كان يشتغل عليها بكثافة مدة مرضه ،لكن إلى أن يبعث جمعيته «تونس الشاعرة» ،وترك المشروع بين يدي مجموعة من صحبه.
125
شخصيات
جورج طرابيشي.. أخرج «العربي» إلى رحاب الحداثة خاص
لم يمت جورج طرابيشي في 16آذار (مارس) الماضي ،إنما قبل ذلك بأعوام حينما وجد نفسه ال يقوى على ً سقوطا الكتابة ،غير قادر على اإلمساك بالقلم ليخط الفكرة تلو األخرى .عدم القدرة على الكتابة ،كأنما بدا له في سحيق معتم ال هوية له .في غياب إلحاح الكتابة ،أضحى صاحب «شرق وغرب ..أنوثة ورجولة» ،يعيش ما يشبه العدم ،أصبح أقرب ما يكون إلى العجز ،إلى الجسد الذي ينتظر خالصه في أن يلفظ أنفاسه األخيرة،
وهكذا كان في 16من الشهر الماضي.
هي كل حياة الراحل ،حتى ألف ما يربو على المئة كتاب.
التراث العربي تأملاً وتأويلاً ونقدً ا ،وأخرى يهرع إلى التحليل ً كشوفا سيكولوجية النفسي ،ترجمة واستئناسً ا ،مقدمً ا
ال أحد يستطيع أن يفك اشتباكهما ،وال هناك من يقدر على
وواقعه المريض.
ً وتفلسفا وترجمة وتدبيجً ا لمقالة، الكتابة نقدً ا وتفكي ًرا
تحولت حياته طوال العقود الماضية ،إلى صحبة مع الكتابة،
126
التفريق بين أحدهما واآلخر ،كأننا أمام الصوت والصدى،
الشيء وظله .من دون الكتابة ال يعثر صاحب «من النهضة إلى الردة» على نفسه قادرًا على التحديق في مالمحه قدام
المرآة ،كما ال يستطيع تأمل الواقع العربي وتحوالته التي حملت له في تباشيرها األولى وعدً ا بالتغيير ،ببارقة أمل، ً الحقا أشبه بحراب إال أنها سرعان ما ارتدت إليه مسمومة تطعن فيه حتى أنهكته جسديًّا ومعنويًّا.
أدرك صاحب «هرطقات» أن نأي
الكتابة عنه هو الموت بعينه« ،لكنه يبقى على كل حال ً موتا صغي ًرا على هامش ما قد يكونه الموت الكبير
واجتماعية وتاريخية للعقد الكثيرة التي تكتنف «العربي»
بكتبه وأبحاثه وترجماته ،رغم الطعون التي وجهت إليها، ً مثقفا من طراز فريد، بدا جورج طرابيشي مفك ًرا متفردًا، لديه مفاهيمه ومعارفه ومصطلحاته ورؤاه التي تمكنه من
إنجاز مهمة المفكر على أكمل وجه ،وال يعني ذلك بالطبع
أن صنيعه الفكري في منأى عن الشك والخطأ ،وبالتالي ليس
عرضة للنقد ،إنما على العكس كان يستدرج االختالف حول منجزه ،يدفع في هذا الشكل أو ذاك ،إلى أن يكون نتاجه
ً موضوعا للنقد وإعادة النظر ،ذلك أنه الفكري والترجمي كرس هذا المنحى النقدي الجذري في المشروع الذي أنجزه،
حتى تحول إلى إحدى السمات األساسية فيه.
لم يؤشر متحوله الفكري وتنقله من محطة إلى أخرى،
على غياب اليقين ،أو تشوش في الرؤية ،أو تخبط فكري،
الذي هو موت الوطن» ،كما ّ شلت قواه خيبات يقول.
ومنها عدم الركون إلى فكرة أو مدرسة أو تيار ،هو العابر
مآالته التراجيدية ،هو
كل ذلك ،في تمثل خالص ألخالق المفكر ودينامية الفكر
الواقع العربي ،وأنهكته الذي
الفكرة
بقي
يقارع
بالفكرة
والنقد بالنقد ،تارة يغوص في طبقات
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
مقدار ما كان يعيش كنه المفكر ،متماهيًا مع متطلباته، لألفكار والمذاهب واألحزاب واألديان ،إنما كان متعاليًا فوق
وتحوالته.
يقول عنه صديقه وأحد مؤسسي رابطة العقالنيين العرب
الكاتب عبد المطلب الهوني «:جورج طرابيشي مفكر مختلف
عن اآلخرين ،بمعنى أنه خاض في مجاالت كثيرة وكبيرة في
مجال المعرفة .ترجم لفرويد ،أي خاض في مجال التحليل
النفسي ،وهو ما عرفه به القارئ العربي ،والتحليل النفسي
أو الكارثة العربية ،فالنخب المثقفة كانت تتوهم مجتمعات
إليميل برهييه ،في أجزاء عدة».
حاربنا األيديولوجيات وأنكرناها ،رأينا أننا كنا نصنع ألعيننا
مجال في غاية األهمية ،ثم إن الراحل ترجم تاريخ الفلسفة ويضيف الهوني أن هذه المجاالت المعرفية المختلفة التي ً تأليفا وترجمة « ،تدل على موسوعية خاض غمارها طرابيشي
ليست هي المجتمعات التي كانت في الواقع .ونحن الذين نظارة نرى بها الواقع والتاريخ ،وكنا نرى الواقع كما كنا نتمناه، وليس كما هو في الواقع .وعندما تهتك حجاب الحداثة الهشة
الرجل ،وأنه أفنى عمره في محاولة إثراء المكتبة العربية
رأينا مجتمعاتنا ،فوجدناها مجتمعات قدامة بامتياز ،ال تزال
في كل مؤلفاته ،والراحل كان إلى جانب هذا كله ،كوّن مع
راسخة مثل التعايش ،أصبحت ال أساس لها في الواقع.
وتعريف القارئ العربي بعيون الفكر العالمي .وهذا مبثوث مجموعة من المهتمين :نصيف نصار ،ومحمد أركون ،ونصر أبو زيد ،والعفيف األخضر ،وعبدالمجيد الشرفي ،وصادق
جالل العظم ،وعزيز العظمة وأنا؛ المؤسسة العربية للتحديث الفكري ،التي قامت بنشر وترجمة أعمال ال تستطيع
الوزارات الثقافية أن تنشرها لجرأتها ،ثم بعد ذلك قمت معه ،وكان معنا ً أيضا الدكتورة رجاء بن سالمة ،وكوكبة أخرى ،بإنشاء رابطة العقالنيين العرب ،وبلغ عدد المؤلفات
والمترجم فيها أكثر من مئة عنوان .وحدث أن جل هذا العمل
فيما يتعلق بالترجمة ومراجعة الكتب ومتابعة النشر ،ألقي على عاتق الراحل .فهذا ما يتعلق بالمجاالت التي قام بها في
حياته».
ويذكر الهوني أن الراحل حمل رسالة واضحة إلى القارئ
العربي «في محاولة منه إلخراجه من قدامة المجتمعات واألستار المغلقة إلى رحاب الحداثة .كان لجورج طرابيشي
مشروعه الخاص ،الذي قام بالترجمة والتأليف فيه ،واطلع
على عيون المعرفة .كان همّ الراحل األكبر ،تبسيط المعرفة، فكان لنا برامج كبرى في هذا اإلطار ،وكنا نريد أن نبسط
الفلسفة لألطفال ،ولكن لم تكن لنا اإلمكانات المادية ،وهذا من األشياء التي بقيت غصة في حلق الراحل».
والغة في همجيتها ،حتى إن المفاهيم التي كنا نعتقد أنها ً خصوصا سيتبقى الكثير من جورج طرابيشي بعد مماته،
محاولته تحديث الدرس اإلسالمي ،بمعنى أن النسخة
الرائجة من اإلسالم هي نسخة القرن الثاني عشر الميالدي، وهذه النسخة فيها من التشدد الشيء الكثير ،وإن إسالم
اإلمبراطورية ال يمكن أن يكون إسالم الدولة الحديثة ،فقهاء اإلسالم كانوا عظماء؛ ألن هؤالء ال يفعلون شي ًئا إال محاولة تفسير اإلسالم لخدمة المسلمين.
لم تكن توجد دول وطنية ،إنما إمبراطوريات ،وحتى
تستطيع أن تحصن اإلمبراطوريات ال بد من تحصينها من الداخل ،بمقوالت تخدم البشر الذين يعيشون في اإلمبراطورية .وفي وجود الدولة الوطنية ،ال يمكن للفقه
اإلمبراطوري أن يوفي باحتياجات اإلنسان المسلم .لذلك ما
يبقى من جورج طرابيشي هو هذا السبيل الذي بدأه ويريد له االكتمال ،هذا الطريق الذي ولجه وال يزال طويلاً ،ويريد أجيالاً من الفقهاء الجدد ،ومن المفكرين من المسلمين العرب».
ويلفت الهوني إلى أنه حتى نبقي على طرابيشي متوهجً ا
في ذاكرتنا « يجب قراءة موسوعة التحليل النفسي لفرويد التي ترجمها ،فكثير من أمراضنا ال بد أن يلقى عليها الضوء
من التحليل النفسي .كما أن كتبًا ،مثل« :هرطقات» ،أو
ويسرد تفاصيل ما قبل الوفاة فيقول« :عندما رأى الراحل
«المرض بالغرب» ،أو «نقد نقد العقل العربي» ،كلها تحتاج
أمام التعصب ،أخذ يعاني آالمً ا نفسية كبيرة .وأتذكر أن آخر
في التاريخ .كتبه األخرى ،يجب أن تناقش وأن تنتقد في
أن كل هذا السعي والنضال والكفاح من أجل أمته ،يسقط مكالمة بينه وبين اإلعالمي الفاضل تركي الدخيل ،شجعه
األخير على الكتابة وعلى الخروج من اإلحباط .اإلشكالية التي
كنا نعانيها ،هي أننا رأينا ما بات يطلق عليه الربيع العربي
ما يبقى من جورج طرابيشي هو هذا السبيل الذي بدأه ويريد له االكتمال، هذا الطريق الذي ولجه وال يزال طويال، ويريد أجياال من الفقهاء الجدد ،ومن المفكرين من المسلمين العرب
إلى قراءة وإعادة قراءة ،حتى نستطيع تبين أنفسنا وتموضعنا المجال العام .لماذا أدعو إلى ذلك؛ ألن مشكلتنا الكبرى أن ً خصوصا في مجال الثقافة ،يوجد جنراالت في الوطن العربي
وال يوجد ضباط أو ضابط صف ،بمعنى هناك مهمة المفكر، ومهمة المثقف ،ومهمة الصحافي ،فعندما يكتب المفكر ال بد من وجود آخر يوصل أفكاره للناس».
لنتذكر ما حدث في عصر األنوار ،فكتاب لفولتير ،لم
يكن وزع خمس مئة نسخة ،لكن الصحافيين كانوا يقرؤون
كتبه ،ويبسطونها للناس ،فدخلت في البنية الفكرية للشعب الفرنسي .هذه المهمة إلى اليوم ال تجد من يقوم بها في عالمنا
العربي ،ولألسف أنه اليوم شحّ ت القراءة؛ إذ يبدو لي أن الناس ال تقرأ ،وكثي ًرا ممن يقرأ ال يفهم ،وهذه كارثة.
127
مخطوطات
128
مخطوط ( التحفة الشريفة والطرفة المنيفة ) من مقتنيات مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية، ّ النسابة أبو علي محمد بن أسعد بن علي ،الجوّاني المالكي ،المتوفى سنة 588هـ1192/م. ألفه :الشريف ّ
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
129
ّ يتحدث عن نسب النبي صلى الله عليه وسلم ونسب زوجاته أمّ هات المؤمنين وأوالده ،مكتوب وهو مخطوط نفيس، على هيئة مشجّ رات نسب ،كتبت بخط الشيخ عبد السالم بن إبراهيم اللقاني المالكي المتوفى سنة 1078هـ1668/م.
كتب
رؤية ثقافية لمجابهة التطرف يذهب مدير مكتبة الدكتور إسماعيل ً حديثا عن مكتبة سراج الدين في كتابه الصادر
القاهرة
اإلسكندرية ،وعنوانه« :التحدي :رؤية ثقافية لمجابهة التطرف والعنف» ،إلى أن ظهور التيارات
العربي؛ جاء نتيجة الدينية المتطرفة في العالم ّ مجموعة من التراكمات الثقافية ،في مقدمتها
اإلفالس الفكريّ لدى كثير من األنظمة العربية
العربي، مدة زمنية طويلة ،سبقت ثورات الربيع ّ
فقد عجزت تلك األنظمة عن تجديد العقد
130
حقيقي ،إضافة إلى االحتكار االجتماعي بشكل ّ ّ المستم ّر للسلطة من نخبة متواضعة الفكر؛
نخبة كبحت مواهب الشباب ،وفرضت نظامً ا ِّ واالجتماعي، السياسي الترقي من الهيمنة على ّ ّ السياسي بعد أن إضافة إلى عودة اإلسالم ّ السياسي استمر قمعه زم ًنا من جانب الخطاب ّ
والعلماني ،لكنه اكتسب زخمً ا جديدً ا القومي ّ ّ من خالل الثورة اإليرانية ،والتمويل من بعض الدول النفطية وأثرياء العرب ،وظهور حزب الله في لبنان في أثناء الحرب األهلية الطويلة
الدائرة هناك ،ودوره في المقاومة في أثناء الحرب اإلسرائيلية في لبنان .ولقد «تفاقمت» تلك األوضاع وغيرها بعد عودة «العرب األفغان»
الذين تحالفوا مع المجاهدين األفغان ضد الغزو
السوفييتي ألفغانستان؛ مما أدَّى إلى اعتالء طالبان ُسدَّ ة الحكم هناك.
ومن األسباب ً أيضا ،الغزو األميركي للعراق
عام 2003م ،وما تبعه من إخفاق في إدارة
االنقسامات العرقية والدينية الشديدة في ذلك المجتمع ،إضافة إلى الحرب الطويلة التي ش َّنتها أميركا وحلفاؤها على أفغانستان ،وبعدها أعمال
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
القتل الممنهجة للمدنيين باستخدام الطائرات من دون طيار في باكستان وأفغانستان واليمن وغيرها؛ كل ذلك ساهم في تأجيج مشاعر الظلم التي َّ النفسي غذت االستعداد ّ ً لدى األغلبية المسلمة َ تطرفا من شأنها لقبول مواقف أكثر استعادة القليل من احترام الذات والكرامة ،في مواجهة ما
يرونه إهانة متواصلة لكرامتهم.
ويشير سراج الدين إلى إن مصر التي كانت تسيطر على
العربي أصبحت اليوم واحدة من السوق الثقافيّة في العالم ّ
كثير من منتجي الفن والثقافة ،بعد أن أصبح اإلنتاج أكثر ً تنوعا من قبل ،الف ًتا إلى انفتاح دول الخليج ،بما تملكه
يؤكد سراج الدين أن هناك قويا في كثير من نموا ًّ ًّ الصناعات الثقافية ،ولقد تسارع هذا النمو بفضل جيل الشباب من الفنانين، وبخاصة عقب الربيع العربي
من مصادر ثروة هائلة أمام األفكار الجديدة؛ لتصبح مراكز
اإلعالمي والمؤسسات الثقافية .وعلى الرغم عالمية لإلنتاج ّ العربي ،فإن العالم في ًّا ي واقتصاد ًّا ي اجتماع الحال من تدهور ّ ً ً الثقافي ،فاألدب ارتفاعا ملحوظا في النشاط المؤلف يجد ّ
االقتصاديّ الكبرى أث ًرا ال يمحى في أجيال في أميركا،
وفي أغلبية البلدان ترفض النخبة القديمة المسيطرة
السياسي من ظروف أسوأ، وشيوعية .وقلما عانى المشهد ّ لكن التحوالت الثقافية التي طرأت على الغرب لم تدفعها
والسينما والمسرح والموسيقا تشهد ازدهارًا عجيبًا يشير إلى حال فصامية.
على المؤسسات السياسية واالقتصادية والثقافية إفساح المجال الزدهار المواهب الشابة؛ مما أدَّى إلى مناخ لم يشجع إال المواهب المتواضعة ،وكبح قدرة الشباب على
المبادرة ،وخلق فجوة واضحة بين األجيال؛ تفصل بين
النظام من جهة وجيل الشباب من الفنانين والمثقفين والقادة السياسيين المحتملين من جهة أخرى؛ مما زاد من االنفصام الذي حدث نتيجة لتب ِّني جيل الشباب التقنيات الحديثة المتصلة بثورة المعلومات واالتصاالت ،التي
صيرت شكل الحياة جذريًّا ،تلك الثورة التي ال يكاد آباؤهم يفهمونها ،ناهيك عن أن يتمكنوا من أدواتها.
ويتأمل سراج الدين ما حدث من تحول واضح في
الغربي في المدة بين نهاية القرن التاسع الفن واألدب ّ عشر ونهاية الحرب العالمية الثانية ،فقد تهاوت في تلك
المدة اإلمبراطوريات ،وحدثت ثورات ،وتركت حقبة الركود وشهدت ألمانيا تضخمً ا شديدً ا ،وولدت أنظمة فاشية ونازية
قدمً ا النخب والمؤسسات الثقافية ،بل الشباب المتم ّرد
والحركات الثقافية المضادة.
ويؤكد سراج الدين أن هناك نموًّا قويًّا في كثير من
الصناعات الثقافية ،ولقد تسارع هذا النمو بفضل جيل
العربي ،لكن الشباب من الفنانين ،وبخاصة عقب الربيع ّ تلك الجوانب تتوازى مع تنامي التعصب الذي تظهره األنظمة
الشمولية ،وتصاعد التشدّ د من جانب مجموعات تستخدم
السياسي؛ حتى السالح لتحقيق أشكال متطرفة من اإلسالم ّ اإلنساني المتحضر؛ إن بعضها قد تخطى حدود السلوك ّ َ يتبق سوى جزر متفرقة من االنفتاح مثل :داعش ،ولم العربي الممتد منثورة داخل األراضي الشاسعة في العالم ّ األطلنطي إلى الخليج .ومن ثم فإنه يشدد على من المحيط ّ حتمية مواجهة التطرف.
131
إصدارات
األنا والنحن ..التحليل النفسي إلنسان ما بعد الحداثة المؤلف :راينر فونك الناشر :دار جداول ترجمة :حميد لشهب
«نعيش في وقت لم نعد حتى متأكدين فيه من أسمائنا ،من األشياء التي نحب ،لقد أصبحنا فقط ً واصفا الحالة االغترابية مواد اقتصادية يتم استهالكها بأكثر الطرق بشاعة» .» .هذا ما قاله إيريك فروم التي وصل إليها اإلنسان الحديث باعتباره الخسارة األعظم في ظل الربح االقتصادي المخيف وانتشار قوانينه القاتمة .وهذا ً أيضا ما يؤكده كتاب «األنا والنحن :التحليل النفسي إلنسان ما بعد الحداثة»،
الذي يعد وفق رأي كثير من المتخصصين استباقية علمية جدية ،تمكنت من وصف إنسان ما بعد الحداثة في شموليته ،وتحليل األسس النفسية واالجتماعية التي كونته وألغت كينونته الفطرية.
أغنية الطائر المؤلف :أنتوني دو مِ ُّلو الناشر :دار مسكيلياني
ليس هذا العمل عملاً قصصيًّا ،وإن كان الكثير من الدارسين يضعونه في هذا القالب .إنه في
الحقيقة استخالص لقيم معرفية وفلسفية واجتماعية ،عبرت عن نفسها تحت ذريعة الحكاية. ً سابقا فيما يتعلق بالرؤية لقد حاول أنتوني دو م ُِّلو ،المتوفى في عام 1987م ،أن يؤكد ما آمن به
الصوفية ،من أن الجمال يكمن في المعنى الباطن لألشياء ،ومن أن الواضح ما هو إال تمويه لحقيقة الشيء.
132
القطة ..التاريخ الطبيعي والثقافي المؤلف :كاثرين روجرز ترجمة :ريم أحمد الذوادي الناشر :مشروع كلمة -أبو ظبي
َ العالقة بين القطط والبشر ،التي تأرجحت بين التأليه واالحتقار من الكتاب يتتبّع ُ ّ القرون السابقة إلى يومنا هذا الذي تحتل فيه القطط مكانة عزيزة كرفيق أليف إلى جانب
الوفي .يقدم هذا الكتاب معلومات مفيدة ودقيقة عن تاريخ القطط وصورها في الكلب ّ األدب والفن.
أزمة بناء الدولة العربية المعاصرة
المؤلف :أشواق عباس
الناشر :مركز دراسات الوحدة العربية
إحدى اإلشكاليات السياسية المهمة التي واجهها العالم العربي في ظروفه المعاصرة
عامة ،ونظمه السـياسـية خاصة ،منذ الحرب العالمية الثانية ،وخالل المرحلة التاريخية التي رافقت بناء نموذج الدولة العربية المعاصرة؛ هي إشكالية اإلصالح وبناء الدولة ً وخصوصا إذا أخذنا في آن معً ا، العربية المعاصرة .وهي إشكالية وطنيـة وقوميـة ودوليـة في ٍ
الحسبان أنّ تفاعالتها ال تزال نشطة ومتغيرة ،أما نتائجها فال تزال مفتوحة على احتماالت قضية ً ً آنية ملحّ ة بقدر ما هي قضية مسـتقبلية ،بالنسبة إلى كثيرة؛ األمر الذي يجعل منها
ي والمصالح القومية العليا .وإذا كان اإلصالح هو العنوان العريض الدولة والنظام السياسـ الظاهر لتدخل القوى األجنبية في البلدان العربية ،فإنَّ المضمون الفعلي لهذا التدخل يتعدى ،من دون شك ،األبعاد السياسيـة ،ليتحول في مجرى تطور األحداث والتغيرات
العاصفة الكبرى ،إلى جزء من العالقات الدولية وصراعاتها في المنطقة. العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
مجاز العلم ..دراسات في أدب الخيال العلمي المؤلف :سمر الديوب الناشر :الهيئة العامة السورية للكتاب
تتناول مؤلفة هذا الكتاب أدب الخيال العلمي بعد االنطالق من جملة فرضيات ،من
أهمها :أن بالغة العلم تقابل بالغة األدب ،وأن الخيال هو الذي يصنع العلم .موضحة أنه ال
وجود منطقي للفصل بين ما هو علمي وما هو خيالي ،فالعالقة هي عالقة تكاملية صرفة ،بل
للخيال الذي هو إحدى الركائز المهمة الفضل في تدعيم عجلة التطورات العلمية ،ولذا كان اختيار عنوان «مجاز العلم» توسيعً ا لهذا المفهوم ،وتأكيدً ا إللغاء فكرة الحد العلمي الصارم
والحد األدبي.
فالسفة أيقظوا العالم
المؤلف :مصطفى النشار
الناشر :الهيئة العامة لقصور الثقافة
تاريخ الفلسفة ليس فقط مجادالت فكرية وفق وصف المؤمنين بالمنهج العلمي
التجريبي .إنه مرحلة مهمة من الوعي البشري ،ومسبب رئيس في تكوين الحضارة بمجاالتها كافة ،هذا ما يؤكده المؤلف مقدمً ا بذلك أدلة واضحة وجادة؛ لدحض كل المساعي الدينية
أو غير الدينية ،التي تحاول أن تسقط من القيمة الفلسفية في ظل طغيان اآللة والنموذج
الصناعي التجريبي الحديث.
133 المؤلف :إبراهيم الوافي
أقل من الشعر أكثر من الكالم الناشر :مؤسسة االنتشار العربي
يشكل المجاز الشعري القائم على القالب النثري بعدً ا مهمً ا في شعر الوافي تأث ًرا
بالمدرسة الحديثة ،حيث يصفه البعض بأنه متفرد في الساحة السعودية بتكثيف الرؤية المجازية .ومن أجواء الديوان :احتمل ُت َ ك قلت غدً ا سوف تأتي ...لكن غدً ا ال يزال يج ُّر خطاه
ُ تركت لكم في رصيف الحكايات ظلي بساع ِة جدّي! أنا المستب ُّد على عثرتي ..والمنافح عنها/ الذي ال يرافقني حينما ال أكونُ أنا /...احتمل ُت َ ك حين احتملت الخريف الطويل الذي ينتهي مثلما ينتهي.
نقد الفكر الديني
المؤلف :السيد يسين
الناشر :دار العين للنشر والتوزيع
يدرس المفكر السيد ياسين ،في كتابه الجديد ماهية التفكير التكفيري وحال تدهوره، حتى وصل إلى مرحلة اإلرهاب الصريح .ويقدم الكتاب تحليلاً لظاهرة داعش التي أعلنت قيام ما يسمى «الخالفة اإلسالمية» في كل من سوريا والعراق .ينقسم الكتاب إلى قسمين
رئيسيين ،األول عنوانه« :الفكر الديني بين التشدد والتجدد» .ومن محاوره :مناظرة بين
المؤلف ورئيس «االتحاد العالمي لعلماء المسلمين» يوسف القرضاوي .كما يتطرق الباحث في كتابه إلى طبيعة النظرة األميركية بشأن اإلسالم الليبرالي .أما القسم الثاني فموضوعه
«تشريح للسلوك اإلرهابي تحليل ثقافي» ،ويضم فصلين :األول عن ظاهرة اإلرهاب ،والثاني عن تشريح ألبعاده.
ثقافات
الفائزة بجائزة نوبل لآلداب مهمومة بدراسة «اإلنسان األحمر» منذ ميالده حتى انهياره
سفيتالنا أليكسييفيتش: الحرية عمل طويل وشاق ترجمة :محمد جليد صحافي ومترجم مغربي
ال يزال فوز الكاتبة البيالروسية «سفيتالنا أليكسييفيتش» بجائزة
134
نوبل يلقى أصداء واسعة في أنحاء كثيرة من العالم؛ إذ منحت الجائزة تقديرًا لعمل يستكشف اآلثار التي ّ خلفتها الكوارث الكبرى خالل القرن السوفييتي في األذهان (مثل :الحرب العالمية الثانية ،والحرب ضد أفغانستان ،وتشيرنوبيل ،وانهيار االتحاد السوفييتي) .وتتوقف الكاتبة ،في حوار لجريدة «لوموند» ّ وتشكل عملها وحمولته الفرنسية ،عند طريقتها في الكتابة،
الميتافيزيقية .ففي نقدها الالذع لسياسة «فالديمير بوتين»، ترسم ً أيضا الحنين إلى الحقبة السوفييتية التي سادت فيها روسيا ،وإحباطات االنتقال الديمقراطي ،والصحوة القومية التي يفرضها الرئيس الروسي.
ما فتئت «أليكسييفيتش» تستكشف أغوار
الروح الروسية ،منذ الحرب العالمية الثانية حتى عهد «فالديمير بوتين» .في هذا الحوار تسلط الضوء على اهتماماتها األدبية.
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
ما الذي غيرته فيك هذه الجائزة؟
-في جميع الحاالت ،لن تغير هذه الجائزة أي شيء في
طريقة عملي؛ ألن األمر مختلف من الناحية االجتماعية ،حيث وضعي مختلف .فعلى سبيل المثالّ ، وقعت ثالث رسائل مساندة إلى «أوليغ نافالني» (شقيق المعارض الروسي «أليكسي نافالني»
المسجون بتهمة مخالفة مالية) ،وإلى «نادية سافتشينكو» (وهي
جندية أوكرانية أدانها القضاء الروسي؛ بسبب القتل) .وهذا يعني أنه ً هامشا كبي ًرا للمناورة عندما نعيش في كنف نظام سلطوي ،ال نملك والعمل؛ إذ يمكن أن نحصل على ثالث جوائز نوبل ،دون أن يكفي
ذلك إلسماع صوتنا.
قلت مرارًا« :لست امرأة متمردة» .هل أرادت لجنة نوبل أن
تدفعك للعب هذا الدور ً رغما عنك؟
_ كال .أظن أن ما يهمها هو الخاصية األدبية؛ ألن مشروعي
هو دراسة «اإلنسان األحمر» ،اإلنسان السوفييتي ،منذ ميالده حتى
مهما في حيزا يحتل السرد النسائي ً ًّ علي التوجه نحو مخيلتي؛ إذ يصعب ّ الفضاء الذكوري
انهياره .نتمنى أن يرحل هذا الرجل ،لكنه يغادر وهو يصفق الباب ً مخلفا بعض الخوف .جوهر سؤالي هو :ما الذي ترسّ ب في وراءه،
أريد الحديث عن الحب والموت اآلن ،دون شجون بالطبع ،مع
الترسبات؟ مع مجيء الرأسمالية الوحشية والبؤس القائم ،ال نعرف
ولماذا ال نفلح في بلوغها؟ ربما ليس األمر كذلك في كل مكان ،لكني
أعماق الشعب خالل الحقبة السوفييتية ،وما الذي ستفرزه تلك ما سينتهي إليه ذلك؛ فإما إلى ثورة شعبية ،وإما إلى نزعة قومية
قوية جدًّا .ففي جميع أسفاري إلى كل مكان ،في بيالروسيا ،أو
روسيا ،أو أوكرانيا ،أو كازاخستان ،وجدت الناس عدوانيين جدًّا. يقول بعض ّ الكتاب :إن كل كِتاب يستبعد اآلخر .وأنت
مواصلة التحقيق حول المعاصرين لي .لماذا نطمح إلى السعادة؟ سأنشغل بالصيغة الروسية منها! التخلص مما هو مبتذل
كيف تحققين القول الجيد الذي يشكل قيمة كتبك؟
تقدمين اإلحساس بعكس ذلك ،أي أن كل كتاب يمثل لبنة ،وأن
-أسجل كل شيء؛ ألنه قد يفوتنا بعض التفاصيل الدقيقة،
-لدي انطباع بأنني ال أكتب سوى كتاب واحد يروي تاريخ الروح
فحسب .ففيما يخص «توسل» ،وهو كتابي حول «تشيرنوبيل» ،فقد
أعمالي «ليس للحرب وجه امرأة» ،كنت في الثالثين ،وكان يراودني
بمئة .وبالنسبة إلى الشهادات الطويلة ،أذهب لمقابلة الشخص عشر مرات .أحاول أولاً التخلص بسرعة من كل ما هو مبتذل .ما أهتم
لك فكرة مسبقة عن الصرح الذي تشيدينه.
الروسية والسوفييتية .عندما شرعت عام 1978م فيما سيصبح باكورة
عندما نسجل بالقلم؛ إذ ينبغي التقاط بواطن الناس ،ال كلماتهم تحدثت مع خمس مئة شخص ،ولم أحتفظ من التسجيالت سوى
انطباع أولي؛ إذ أدركت ،وأنا أجمع شهادات نساء حول الحرب العالمية الثانية ،أن األيديولوجيا السوفييتية ال تزال قوية .فضلاً عن
به هو التفاصيل الجديدة ودقائق األشياء التي ال نتساءل عنها أبدًا.
جدًّا .لكن عندما ذهبت إلى أفغانستان بعد بضع سنوات ،وتحدثت
الذي نطالعه في الجرائد ،حيث الملموس غائب ،مثلما هو الشأن
ذلك ،لم يكن ليحصل أي انتصار روسي لو لم يكن هذا المثال قويًّا مع الناس هناك ،أدركت أن هذا المثال كان متصد ًعا .هكذا ،فهمت
أن كل هذه الكتب ستشكل مشرو ًعا واحدًا .ثم في عام 1992م كنت
وعلى العموم ،تفتقد المقابلة األولى إلى الطابع المادي .هو ذاك بالنسبة إلى تفاصيل األحاسيس .أما أنا ،فأبحث في رفقة الناس عن المعنى العميق في كل ما عاشوه .في بعض األحيان ،ال يظهر
شاهدة ،بُعيد البيريسترويكا ،على موجة االنتحارات (وقد أع ّد
مضي ثالث أو أربع سنوات على التسجيل .ثم هذا المعنى إال بعد ّ
وقد ألهمني هذا الموضوع كتابي «مسحورون بالموت» ،الذي كان
الحديث عنه بالضبط ،فأجد نبرته الخاصة.
البيريسترويكا طبقة مختارة من المثقفين ،بينما كان الشعب ضائعً ا). بمنزلة مسودة أولى لكتابي «نهاية اإلنسان األحمر» (2013م) .هنا تشكل
نهائيًّا مشروعي حول «اإلنسان األحمر» ،منذ نشأته حتى أفوله.
أع ّد اليوم أن تلك الحلقة حول أصوات الطوباوية انتهت؛ ذلك
ألن الكتابة عما يجري في هذه اللحظة ،في عهد بوتين ،ستكون مجرد عمل صحافي ،حيث ال وجود للمسافة الضرورية .أعرف أنني
إن عنوان الكتاب مهم .فعندما أجد العنوان ،أعرف حينها ما سيدور ستحين ربما لحظة الحديث عن عالقات اإلنسان بالعالم
والحيوانات والكون .لكن العالم الروسي ما زال همجيًّا ،حيث تبقى مسألة العالقات بين الناس هي األوْلى .ففي اللحظة الراهنةُ ،ت ّ حل
مشكالت كثيرة بالقتل ،فمنذ ثالثين سنة ،وأنا أنشغل باألمور المرعبة ،وأحاول إدراك معناها.
135
ثقافات
هل يمكن القول :إن ثمة حمولة ميتافيزيقية في عملك؟
-هذا أمر جوهري ،وإال سيكون مجرد صحافة؛ ذلك ألنني أضع
جاء «بوتين» إلى
الناس أمام ورطة السؤال :من هم؟ ما الذي فعلوه؟ وهم يجيبون
السلطة معل ًنا
عن هذه األسئلة.
قوله« :أصدقاؤنا
يبدو أن النساء يلعبن دورًا في بناء كتبك...
الوحيدون
-أذكر أحاديث النساء داخل المطبخ عندما كنت صغيرة ،فما
زلت أسمع صوت جدتي األوكرانية المحبوبة .أجل ،يحتل السرد علي التوجه نحو الفضاء النسائي حي ًزا مهمًّا في مخيلتي؛ إذ يصعب ّ الذكوري؛ ذلك ألن النساء يستطعن التكلم عن الحرب في المطابخ، لكن بطريقة مختلفة جدًّا .أذكر ،بالنسبة لكتاب «ليس للحرب وجه امرأة» ،أنني التقيت زوجين ذكرياتهما ال تتشابه إلى حد أن كل واحد
منهما كان يندهش مما يرويه اآلخر حوله .أما بالنسبة لحبهما ،فهي تتذكر كل شيء ،وهو ال شيء!
هل هناك ميل روسي نحو االعتراف؟
-أجل ،ينفتح الروس على ذواتهم بسهولة كبيرة .يعود هذا
األمر ،ربما ،إلى الحياة السوفييتية ،وإلى العالقة بالحياة الجماعية.
فالمحكيات حميمية جدًّا ،لكنها ال تملك ،في المقابل ،أي مكون جسدي أبدًا؛ ألن األمر يكون ًّ خاصا جدًّا ،عندما نتكلم عن الحب في
136
هم الجيش واألساطيل» ،فأنفق كل أموال النفط والغاز على الجيش .ولم يقل :إننا يجب أن نفخر بديمقراطية ما ،بل تح َّدث فقط عن روسيا الكبرى واالحترام الذي يك ّنه لها الذي يستعمله «فالديمير بوتين»؛ لتحديد الفضاء الناطق
بالروسية خارج حدود روسيا ،الذي يتحمل مسؤولية ما تجاهه. هل تعترفين ،أنت الكاتبة البيالروسية باللغة الروسية ،بهذا
المفهوم؟
-لي ثالثة جذور :جذور أوكرانية ،وجذور بيالروسية ،والثقافة
األدب ،حيث يغيب الجسد تمامًا .بل ال يشار إليه حتى بكلمة .والحب
الروسية .ولوال الثقافة والفلسفة الروسية ،ما صرت أبدًا ما أنا عليه
الحرب ،أو السجن ،أو محطة «تشيرنوبيل» في حالة سيئة .فحب
عالم «بوتين» ،وهو عالم «تشوستاكوفيتش» ،و«دوستويفسكي»،
الروسي هو ،في الغالب ،تلك المرأة التي تنتظر الرجل ،وهو عائد من
المرأة هو تضحية على الدوام .في كتاب «توسل» على سبيل المثال،
تذهب امرأة لترى زوجها في المستشفى ،حيث أصبح جسدًا مشعًّ ا محجو ًزا خلف الحجب والستائر .تقترب منه رغم المنع .يمد إليها ً تفاحة .تأخذها .بعد ذلك ،تنجب فتاة مشوهة الخلقة ،ستموت بعد بضعة أيام.
أصبحت الكنيسة جهاز مراقبة
ما عالقتك بالدين؟ وما هي نظرتك إلى عودته؟
اليوم ،وما كتبت «توسل» ،لكن «عالمي الروسي» مختلف جدًّا عن
و«تشيخوف» ،و«روستروبوفيتش» ،و«هيرزن» ...أما العالم الروسي
الذي أطمح إليه ،فهو يمر عبر دعم الغربيين أوكرانيا دعمًا قويًّا؛ ذلك ألن نجاح أوكرانيا وتحولها سيكون أفضل حجة تدحض خطابات
«بوتين».
ً عدوانا عسكريًّا ضد لطالما اعتبرت الحرب في «دونباس» أوكرانيا ،واحتاللاً لها .ال مجال للشك في أنه بغياب «بوتين» ،لن تكون هناك أي حرب مدنية في هذا اإلقليم؛ إذ يمكن إحضار خمس
شاحنات من الكالشنكوف إلى بيالروسيا ،فيتكرر السيناريو نفسه،
-تخيفني عودة الشأن الديني؛ إذ أصبحت الكنيسة األرثوذكسية
ً أشخاصا مستعدين إلطالق النار .أما حالة شبه حيث نجد دائمًا
الناطق الرسمي باسمها ،الذي يقول« :من حسن الحظ ،أصبحت
خبر إلحاقها الجديد .لكن يجب إجراء انتخابات حرة ،بغية معرفة ما يفكر فيه السكان فعلاً .لقد وصل الروس بكل بساطة إلى هناك،
الروسية جهاز سلطة ومراقبة .لقد سمعنا في اآلونة األخيرة إعالن
سنوات الثراء وراءنا ،فهي التي تشغل األرواح عن التضحية!» وعلى
جزيرة القرم ،فهي أكثر تعقيدًا .أعرف أناسً ا بكوا فرحً ا لما سمعوا
واستولوا على هذا اإلقليم. ً اإلحاالت على الحرب العالمية الثانية حاضرة أيضا بقوة
مواز ،يستعرض بطريركنا ساعاته الجميلة وسياراته .عندما نحو ٍ أسافر في روسيا ،أرى الكثير من األبرشيات ،لكن استقالل الروح عند القساوسة يختفي شي ًئا فشي ًئا.
في الخطابات الروسية الرسمية ،وفي هذا النزاع...
شيوعيًّا .أنا مؤمنة ،لكني أشبه فنانة :عندما أرى حديقة جميلة،
الروسية الراهنة ورأسمالها الوحيد .عندما مُنحت جائزة نوبل،
أما بالنسبة إلي ،فقد سمّتني جدتي في غياب أبي الذي كان
أجدني محمولة إليها .وعندما فقدت أختي ،ذهبت إلى الكنيسة ،كأن
ذلك أمر بديهي.
تتحدثين عن «العالم الروسي» ،وهو التعبير نفسه
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
-الحرب العالمية الثانية هي الثروة الوحيدة المتبقية للسلطة
سارعت الصحافة الروسية إلى وصفي بالمصابة بالرهاب الروسي والـ«بنديروفيسية» (اسم يطلق على القوميين األوكرانيين الذين حاربوا إلى جانب النازيين) .وعندما كنت في أفغانستان منذ ثالثين
الفائزة بجائزة نوبل لآلداب سفيتالنا أليكسييفيتش :الحرية عمل طويل وشاق
سنة ،كنت أسمع حينها كل هذه اإلحاالت على عام 1941م ،وعلى
دورنا كمحررين .وفي النهاية ،رأيت مدى كره الروس هناك .كان
ذلك بمنزلة صدمة. بوتينية؟
1990م يدعم «بوتين» بقوة ،يردد خطاباته حول اإلهانة ،والحاجة ً أشخاصا مختلفين، إلى زعيم قوي .أما نحن ،كنا نتخيل أن ً أشخاصا أحرارًا سيظهرون؛ ألن هذه العقلية ترتبط كثي ًرا
هل هناك «نزعة بوتينية» ،أو أيديولوجية
بما يحكيه آباؤهم عن الرعاية الصحية المجانية، والتربية ،واالرتقاء االجتماعي السوفييتي ...وربما ينبغي أن ننتظر أكثر ،أو ربما يلزم أولاً أن يتغير
-في عام 1991م ،استيقظ الشعب في بلد
جديد وغامض .والتزم الصمت .ثم عندما أغلقت
من هم في القمة ،حتى تندثر عقلية العبيد هذه.
المعامل أبوابها ،ولم يجد الناس ما يأكلونه
في كل الحاالت يكمن واجبنا في تنوير
سوى البطاطس ،بدؤوا يمقتون «الديمقراطيين
الشعب؛ إذ ال يكفي النزول إلى الشارع وحرق
األحرار» .وبعد عشرين سنة من الصمت ،جاء «بوتين» إلى السلطة معل ًنا قوله« :أصدقاؤنا الوحيدون هم الجيش واألساطيل» ،فأنفق كل أموال النفط والغاز على الجيش .ولم يقل :إننا
العجالت؛ ألن الناس يعتقدون أن وجود زعيم جيد يسمح ّ بحل المشكالت .لقد خرجنا ،في حقبة سابقة ،إلى الشارع ،وصرخنا مرددين« :يلتسين،
فيودور دوستويفسكي
يجب أن نفخر بديمقراطية ما ،بل تحدث فقط عن روسيا الكبرى واالحترام الذي يك ّنه لها ...في عهد «يلتسين» ،كان يقال على الدوام: إنه ال بد من «فكرة وطنية» بغية تعزيز تماسك البلد والمجتمع .وها
هو «بوتين» قد عثر عليها ،فأثار ذلك إعجاب الشعب .وبدأنا ،نحن اإلنتلجنسيا األقلية ،نشعر بالخوف .كنا ننتظر شي ًئا آخر ،وليس فقط شعارات ،وإعادة توزيع البترول على األوليغارشيا وأصدقاء «بوتين». ما يخفيه هذا الخطاب هو أن الغربيين «أهانوا» روسيا
طوال خمس وعشرين سنة .أال تشاطرين هذه الفكرة؟
يلتسين!» ،لكن لم يتحقق أي شيء .فالحرية عمل
طويل وشاق .إنها مسار .هذا ما يجعلني أعارض الثورات والمتاريس؛ إذ يجب أن تحدث التغييرات على أيدي أشخاص أحرار ،وإال لن يفرز
هذا األمر سوى سفك الدماء.
خالل الحقبة السوفييتية ،هل كنت تشعرين بأنك
تنتمين إلى المجتمع الشيوعي؟ وهل تشاطرين الحنين إلى شخصياتك لهذه القيم التي اختفت اليوم ،مثل روح التضحية،
واإليثار ،وازدراء المال؟
-بل كنت أشعر بانتمائي إلى الهامش ،لكنه كان العالم الوحيد
-ثمة جزء من الحقيقة .لقد وعد حلف الشمال األطلسي
الذي عرفته .لقد اتصف الناس باالزدواجية في تلك الحقبة .كانوا
أنه منتصر ،فارتكب أخطاء كثيرة؛ إذ يعد اإلحساس باإلهانة واقعيًّا
كانوا هم أنفسهم من يكتبون بيانات االستنكار التي تفحص داخل
«غورباتشوف» بعدم نصب صواريخ في جوار روسيا ...شعر الغرب
عند الروس .حاليًا ،يشرحون لهم في التلفزيون أن الغرب يريد أن يسرق بترولنا وغازنا.
متحف لضحايا القمع
تصفين على امتداد عملك أثر األيديولوجيا السوفييتية
في األفراد .هل أفرزت هذه األيديولوجيا البوتينية أثرًا ما في اإلنسان الروسي؟
مستعدين للوقوف في طوابير لشراء دواوين «أنا أخماتوفا» ،لكنهم
المعسكرات.
ً بسيطا :بيريا ،ستالين ...لكن هذا كنا نحب أن يكون الشر أم ًرا الشر كان منتش ًرا ومتغلغلاً في كل واحد منا؛ ولهذا أكتب ،ليس ألعرض الئحة الفظائع ،أو ألسحق القراء ،وإنما ليبحث كل واحد
في ذاته عن جانبه من اإلنسانية ،ويحاول الحفاظ عليه .إنها خيارات كل لحظة :فعندما يدعونك إلى مظاهرة لدعم «بوتين» ،عليك أن
تطرح أسئلة ما!
-نعم .ال أتعرف إلى األشخاص؛ إذ فقدت بعض أصدقائي.
عشت سنوات عديدة في أوربا الغربية؛ هل تدركين هذا
التلفزيون حول «تشكيا» (الشرطة السياسية القديمة) وستالين ...بل
-ال يتعلق هذا الخوف بأوربا الغربية وحدها؛ إذ إن بولونيا
لم ننتبه كثي ًرا إلى األعراض األولى ،وإلى كل هذه األفالم التي يبثها
نحاول تبرير أفعال «بيريا» (رئيس المفوضية السوفييتية للشؤون
الداخلية) .وفي مدينة «بيرم» ،حُ وِّل متحف مخصص لضحايا القمع
إلى «متحف عمال الغوالغ ،أي الحرس! ال يأتي كل شيء من فوق، من «بوتين»؛ ذلك ألن بعض المبادرات تأتي من القاعدة ،أي من الشعب.
أندهش من الشباب خاصة .فهم يقودون سيارات جميلة،
ويرتدون بدالت راقية ،لكنهم يبقون عبيدًا؛ إذ إن جيل ما بعد عام
التوتر الهوياتي في أوربا ،وخشيتها من المستقبل؟
صوتت مؤخ ًرا لصالح قوميين ...فرجل الشارع يعيش في الخوف:
الخوف من الدولة اإلسالمية ،الخوف من اإلرهاب ،الخوف من «بوتين» ...أما الخوف من فقدان الهوية ،فال أساس له؛ إذ يعد
مليون الجئ وسط ساكنة أوربية تق ّدر بـ ـ 500مليون نسمة مجرد قطرة
ماء .كنت في مدينة البندقية منذ مدة .انتظمت هناك في حركة معينة ،نزل فيها الناس إلى الشارع ،تعبي ًرا عن مساندتهم لالجئين. في تلك اللحظة ،كنت فخورة بأوربا.
137
ثقافات
138
زين العابدين عبدالكالم..
تحويل األحالم إلى أفعال
ترجمة وتقديم :لطفية الدليمي روائية ومترجمة عراقية
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
يمثل الرئيس والعالم الهندي الراحل زين العابدين عبدالكالم ( 2015 - 1931م) شخصية استثنائية مميزة،
فهو العالم والمهندس وواضع أسس البرنامج الهندي في الميدان النووي والصاروخي ،ولكنه من جانب
آخر رجل رؤيوي من طراز مميز ،ولعل قصيدة «الرؤية» التي قرأها في البرلمان الهندي أثناء حفل تنصيبه رئيسا تكشف ً ً شيئا من شخصيته الرؤيوية: ّ ّ وتسلقت... تسلقت ّ القمة ،يا ر ّبي؟ أين حرثت وحرثت...
أين كنز المعرفة ،يا ر ّبي؟
أبحرت وأبحرت...
أين جزيرة السالم ،يا ر ّبي؟
أ ّيها العظيم القدرة...
بارك ّ أمتي بالرؤية والكدح المفضيين إلى السعادة
نشر عبدالكالم سيرته الذاتية المهنية تحت عنوان «أجنحة من نار» ،وقد ظهرت مترجمة إلى العربية
ّ ولكن ثمة كتا ًبا آخر نشره الراحل تحت عنوان «رحلتي :تحويل عام 2009م ضمن مشروع كلمة للترجمة، األحالم إلى أفعال» عام 2013م ،ويتناول في هذه السيرة الصغيرة تفاصيل شخصية دقيقة من حياته؛ تلك
التفاصيل التي قلما يتم تناولها في العادة. إنها فرصة رائعة ًّ ّ أتقدم لقرّاء مجلة «الفيصل» الكرام بترجمة للمقدمة القصيرة التي كتبها الراحل حقا أن عبدالكالم لكتابه «رحلتي» ً علما أنني سأعكف على ترجمة الكتاب كاملاً متى أتيحت لي الفسحة المناسبة، ً شيئا من احترام مستحق لهذا الرجل الذي أبان لنا كيف يمكن للجهد ولست أرى في هذا الجهد إال
والمثابرة مع الرؤية المقترنة بالطموح أن تحقق أفعالاً أقرب إلى األعاجيب.
نحل جديدة قد ظهرت بين فروعها ،وبينما كنت أحدّ ق بأعلى ً عميقا في أرض هذه المدينة :مدينة الشجرة الضاربة جذورها
المترجمة
تحكي رحلتي هذه تجارب مميزة ومحدّ دة في حياتي ابتداءً ُ تجاوزت الثمانين ،وفي كل سنوات من طفولتي إلى اليوم إذ
نحو عظيم دلهي ،فإنّ شي ًئا ما في تلك البرهة ذ ّكرني وعلى ٍ الوقع والتأثير بأبي :كان أبي هو اآلخر معتادًا على االستيقاظ ّ المبكر من النوم ،وقضاء الساعات المبكرة األولى من يومه مع
الحلم في جميع األطوار المختلفة من حياته ،ومن ثمّ يعمل
ليذرع طرقات البلدة التي كنا نقيم فيها.
هذا فإن النجاح سيكون قريبًا من التحقق ال محالة .أقول دومً ا
الطبيعة وهو يتفحّ ص أشجار الكاكاو العائدة له ،ثم يمضي استرجعت ذاكرتي في تلك اللحظة -مع ابتسامة على ّ المبكرة والناس وجهي وإحساس غامر بالسعادة -طفولتي الذين م ّروا بحياتي وأولئك الذين صافحَ ْ ت يدي أياديهم في مضيت ّ ُ أتفكر مل ًّيا في نوع ال ّرحلة التي رحلة حياتي الطويلة ،ثم ّ مثل ْتها حياتي :المسالك غير المعتادة التي طرق ُتها ،واألشياء ُ رحت التي رأي ُتها ،والحوادث التي كنت جزءً ا فاعلاً فيها ،ثم
أتساءل :هل ينبغي لتلك الذكريات والتجارب أن تبقى لي
حياتي تلك وخالل جميع التجارب التي مرر ُْت بها كان الدرس األكثر أهمية الذي ّ تعلمته منها هو أنه ينبغي للمرء مواصلة
بجدية ومثابرة في سبيل تحقيق تلك األحالم ،ونحن إذا ما فعلنا للكثيرين الذين أقابلهم« :األحالم ليست ما نراه في منامنا ،بل
هي بالضبط ما ينبغي أن يجعلنا ال ننام أبدً ا!!».
ّ أتمشى جاءتني فكرة كتابة هذا الكتاب في أحد األيام وأنا
في حديقة منزلي ،ومثلما يحصل في كل م ّرة وقفت تحت
شجرة األرجونا* الضخمة التي يقارب عمرها المئة من السنوات، ومضي ُ ْت أتأمّ ل فروعها العلوية البعيدة وأتفحص فيما لو كانت
ثمة أعشاش جديدة بنتها الطيور فيها ،أو كانت ثمة خاليا
139
ثقافات
علي أن أتشاركها مع ق ّرائي العديدين إلى وحدي ،أم يتوجّ ب ّ جانب أفراد عائلتي الذين بدأت أعدادهم تتزايد أكثر فأكثر مثل ّ وأتطلع ًّ حقا أن تبلغ أصداء الجذور الكثيفة لشجرة بانيان** رحلتي هذه أحفاد أحفادي!
صور من تجارب الطفولة
ُ ُ ووضعت في بعض تلك كتب حتى اليوم، كتبت بضعة ٍ ُ كتبت الكتاب األول عن الكتب صورًا من تجارب طفولتي :عندما
حياتي (المقصود به هو السيرة الذاتية التي نشرها عبدالكالم عام 1999م تحت عنوان «أجنحة من نار» ،المترجمة) ّ تملكتني
الدهشة ،ومضيْت أتساءل :هل سيكون هذا العمل قادرًا على إمتاع أحدٍ ما؟ على خالف ذلك الكتاب ،فإن رحلتي هذه تولي
اهتمامً ا أكثر للحيثيات الصغيرة جدًّا التي ال يعرفها الكثيرون
عن حياتي .تعمّ ُ دت في رحلتي هذه اإلسهاب في التفاصيل الخاصة بحياة ّ كل من أبي وأمي؛ ألنني حتى اليوم وقد بلغتُ ّ أتمثل القيم واألخالقيات التي تعهّدا الثانية والثمانين ال أزال
140
بغرسها في روحي بمحبّة وألفة. ّ في التي تعلمتها من إن الصفات التي غرسَ ها والداي ّ خالل مراقبة أفعالهما ّ بدقة إلى جانب فهم ردود أفعالهما تجاه المحن والشدائد التي واج َه ْتهُما؛ أقول إن تلك الصفات
ساعدتني على العيش بطريقة أفضل ،وما زال أبي وأمي يعيشان معي حتى اليوم من خالل تلك القيم واألخالقيات.
بعد سنوات الحقة طويلة ال تزال ذاكرتي تحتفظ بذكرياتها
عندما كان والدي يتحدث عن ضرورة تفهّم عقول الناس ،أو
عندما كان يواجه المصاعب برزانة وحصافة ،وما زلت أستحضر صدى كلماته أنا اآلخر متى وجدت نفسي وهي تخوض قتالاً
في جبهات عديدة شديدة الوطأة ،أما في لمسة أمي الحانية وتربيتها الرقيقة المترفقة بأوالدها فقد وجدت فيها عالمً ا رحبًا
من الحب والحنان. ً ُ ً مدفوعا أيضا إلى تسجيل وجدت نفسي في رحلتي هذه ّ التفاصيل الصغيرة الخاصة بكل من مساهمات أختي زهرا، وكرم روحها الالمحدود ،والنظرة المتفتحة الرحبة التي كان ّ معلمي الناصح األول في حياتي :أحمد جالل الدين يحوزها الذي كان أول من شجّ عني على التفكير بحرية واالستزادة
الالمحدودة من الدراسة.
ثمة الكثير من البرهات المح ِبطة والمِ حَ ن الشاقة التي ُ خبرتها في حياتي؛ مثل إخفاقي في االختبارات ،ومن ثم
التأهل لالنضمام إلى القوة الجوية الهندية ،وسواها من برهات اإلخفاق ،ولك ّنها كلها ّ علمتني ضرورة وجود اإلخفاقات في حياة المرء.
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
ثمة الكثير من البرهات المح ِبطة ِ والم َحن الشاقة التي خبرتُها في حياتي ،ولك ّنها علّمتني ضرورة وجود اإلخفاقات في حياة المرء
أوقات عصيبة
نعم ،بدت تلك األوقات العصيبة عصية التجاوز في وقتها، ّ الحق أنه ليس ثمة صعوبة ما عصية التجاوز متى امتلك ولكن المرء العزيمة والثبات في قلبه.
كنت مؤخ ًرا أتمشى مع صديقي البروفيسور آرون تيواري
عندما باغتني بسؤال غير متوقع« :صاحبي عبدالكالم ،هل تستطيع أن ُتجمِ ل حياتك العريضة بجملة واحدة؟» جعلني هذا السؤال ّ أفكر لبرهة ،ثم قلت في نهاية األمر« :صديقي آرون،
الحب إن حياتي يمكن تلخيصها بالعبارات والكلمات اآلتية: ّ
المصبوب صبًّا على الطفل ...الكفاح ...المزيد من الكفاح... دموع تطفح ً حزنا ومرارة ...ثم دموع الفرح والبهجة ...ثم أخي ًرا حياة تطفح بالجمال واإلنجاز مثل رؤية والدة بدر كامل». هوامش المترجمة
* األرجونا :شجرة ضخمة سمّ يت باسم األمير البطل في ملحمة المهابهارتا ،كما أنها في الوقت ذاته اسم إلحدى الشخصيتيْن الرئيستين في النص الهندي المقدّ س المكتوب بالسنسكريتية، الرب». والمسمّ ى «بهاغافادغيتا» الذي يعني «أنشودة ّ
** بانيان :شجرة تين هندية ضخمة ،تمدّ أغصانها جذورًا هوائية حولها، تستحيل جذوعً ا إضافية فيما بعد؛ لذا فإن الشجرة الناضجة الواحدة ّ ّ متوقعة. تغطي مساحة واسعة غير
نصوص
أصابعه كثيرةٌ ُ وم ٌّر فيها العتاب ُ عبدالله السفر شاعر سعودي
ُ ومذاق أغنيةٍ شعبية تحت لسانك لبلدٍ «ع الترعة تصحو ُ تذهل عن حليم ،وتنفتح في الصدر بئ ٌر بتغسل شعرها». جميعه وهي ُ تقط ُر بالدالل قديمة ،تطلع منها عايدة الشاعر ِ ِ
«كايدة العزال أنا من يومي».
* * *
ُ َ الجمال وتمضي ،ال تلوي إال على تصوغ نشمي مهنا!
ْ اطلب؛ ُتجَ ب! لم َتسأل .لم ُتعطَ.
َ ُ اليوم يعود براياتِه تم ُّر في الجلد. السرب الذي نأى ،ها هو ٌ ٌ ّ ستتحصن أ ّيها البائد؟ مكسورة تكيد وتمعن؛ بماذا نافذة
* * *
َّ الليل من غناء. استتب في ضميرك وما ِ ِ
* * * * * *
َّ لكن تلك اليد الممدودة لمن؟ ُ اللفافة استدارت عن فمك. ال .ال .ليس دخانك!
ُ مشيت َ كّ . في التعب، لم أكن ألخونك أ ّيها الليل. تندى ّ ٌ َ ْ الجرح كثي ٌر من ملح األغنية .بِركة زرقاء دعتني وسقط في ِ سقطت فيها؛ َش ً إليها وأغرتني ّ َ ُ عرة منك وفيك. بالقرب أنها ِ شائبة تطفو وتطفو ّ ُ تعيد إنباتي ،ألعو َد حتى هاجت سفني ُ َ إليك فتيًّا أ ّيها الليل .أ ّيها الليل لم أكن ألخونك.
ّ ّ وتوقحَ األلم. أذل ْته األغنية
ّ لم َ ُ أمام َ تسلخ َ َ وتعل ُقها عليها. أيامك ك إال هذه الشاشة يبق ُ إنها الهدية .هي أ ُ ُ تعهد إليه بظالمِ ك لهيتك في هذا النفق ً ً فال يخ ّيب َ ُك؛ يمنحك شاشة تحصي معها ألوانا من النكهة؛
َ هلك سعيد؟ لماذا ينجو سعد ،وقد ُ ُ َ رأسه كمن تجذ ُبه هاويةّ ، السؤال َ ثم ارتجَّ عليه قبل طرق َ َ الرأس بين الرؤوس! ويضع تلك أن يتراجع
* * *
* * *
دع الخاتمَ . ُ فات َ ّ تشع َ ب ،وما تزال في البرق ك سحرُه.
ليلك الخاسر.
* * * * * *
َ ذريعة اإلغفاءة في حدا ٍد طويل لم تلتفت إليه َمن نب ْ ّهت َ بحذر رما َد َ لينهض إلى التابوت. ك ٍ
ٌ ُ كثيرة أ ّيها النايُ ، وم ٌّر فيها العتاب. أصابعه
ُ الوسوسة تحجز الشفتين والنا ُر تلهث.
ُ َ وقوفه أمام ّ التنور. طال أ ّيها الرغيف
َ يصرف عند تمام الثانية ،ينحس ُر ُك ُّم الليل .كيف له أن وجههّ . َ َ ُ هلك الر ُ ُّسل؟ العزم وقد أنى له
َهو ًْنا أيتها النخلةّ . ُ يتبعه. ظلي
* * * * * * * * *
* * * * * * * * * * * *
ُ والجاثوم ال يرحم. تشحّ َط في دمِ ه
141
ثقافات
البحث عن الحب عبر الخرافة «معجزة عادية» للروسي يفغيني شفارتس هيثم حسين كاتب وروائي سوري مقيم في بريطانيا
الروسي يفغيني شفارتس بين النقائض في عنوان يجمع ّ مسرحيته «معجزة عادية»؛ فالمعجزة تحتاج إلى أن تكون خارقة لتوصف بما توصف به ،على حين أن وصفها بالعادية ينزع منها جانب اإلعجاز ،ويصيرها أمرًا عاد ًّيا ،يمكن تكراره،
كانت معجزة ،فمعنى ذلك أنها ليست عادية! وإن كانت عادية، فهي بالتالي ليست معجزة». َّ يشير (الحكواتي) في أثناء استهالله إلى أن حل ما يصفه
ُّ يضخ شفارتس في أو يمكن أليّ أحد القيام به أو إنجازه. ّ مسرحيته (منشورات وزارة الثقافة ،دمشق ،ترجمة آنا عكاش)
باللغز يكمن في أنّ القصة تدور حول الحب؛ يذكر أن هناك شا ًّبا وفتاة جمعهما الحب ،ويصف ذلك ّ بأنه أمر عاديّ . يتخاصمان ،وهذا ليس نادرًا ً ّ الحب. أيضا .يكادان يموتان بسبب
الحب والكره ،والحقد والحسد ،والعداء والتناحر ،من خالل
معجزات حقيقية ،وهذا أمر غريب وعاديّ في الوقت نفسه. ُّ ّ الحب وغناء األغاني التحدث عن يلفت الكاتب إلى ّأنه يمكن
جذوة الصراع بين اإلنجاز واإلعجاز في عمله ،ويثير كثيرًا من األسئلة المتعلقة بالعالقات السائدة بين البشر؛ من حيث االنطالق من دائرة الحب ،واتخاذها بؤرة الحكاية ،ومبتدأ
142
خفيض ،فيقول« :يا له من عنوان غريب؛ معجزة عادية ،إن
ومختتمً ا في الوقت نفسه.
يسوِّغ الكاتب في أثناء استهالل (الحكواتي) الذي ُيظ ِهره
َ اإلشكالي، أسباب اختياره عنوان مسرحيته على المسرح، ّ المثير للجدل من حيث الجمع بين نقيضين؛ إذ إنه يصف ظهور شخص أمام الستارة وهو يخاطب المتفرجين ّ بتفكر وصوت
عال؛ لتبدأ في صنع وأخيرًا تسمو قوة مشاعرهما إلى مستوى ٍ
فيه ،أما هو في حكايته فيروي عنه حكاية خرافية ،ويذكر أنه
في الحكاية الخرافية ،يصطف العادي والعجيب معً ا بطريقة
مريحة ،ويفهمان بسهولة .لو نظرنا إلى الحكاية الخرافية على ّأنها حكاية خرافية ،كما في الطفولة ،أال نبحث فيها عن معنى خفي؟ فالحكاية الخرافية ال تروى لِنك ُتم ،بل لِنبوح ،أن نقول ّ بكامل قوتنا وبملء صوتنا ما ِّ نفكر فيه.
يحدث (الحكواتي) ُ ّ القراء والمشاهدين االفتراضيين بأنه من
بين شخصيات الحكاية الخرافية ،األكثر قر ًبا ،من سيتعرفون إلى أشخاص يضطرون -في األغلب -إلى مصادفتهم .من
شخصيات المسرحية هناك الوزير اإلداريّ ،وصاحب الحانة،
والساحر ،وسيدة البيت ،وسيدة البالط ،واألميرة ،والدب، وغيرهم من أبطال الحكاية الخرافية األكثر شبهًا بالمعجزة،
يقول :إن أولئك محرومون من المالمح الحياتية التي تميز الزمن الحالي.
يتساءل شفارتس على لسان راويه العليم :كيف يستطيع
أشخاص مختلفون مثل هؤالء أن يتعايشوا في الحكاية نفسها؟
يجيب :إنه ببساطة شديدة ،كما في الحياة ،ويسترسل
(الحكواتي) بقوله :إن الحكاية تبدأ من نقطة بعيدة ،أحد السحرة يتزوَّج ،ويستقرّ ،ويقرّر االنصراف إلى االهتمام
باألشغال المنزلية ،لكن مهما أطعمت الساحر يظل منجذ ًبا
دائمً ا إلى المعجزات ،والتحوالت والمغامرات العجيبة .وها هو
قد تورَّط في قصة حب الشابين اللذين يتحدث عنهما ،وتداخل
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
َّ انحل بطريقة مفاجئة لدرجة أنّ الساحر كل شيء ،وأخيرًا نفسه ،المعتاد على المعجزات ،وقف معقود اليدين من ّ شدة
التعجب.
ثوان ،ويمكن يستغرق الساحر في قوله« :إنه ربما لعدة ٍ
أن يحدث ذلك أليّ أحد في ظروف مماثلة .وبعدها ماذا؟ انظر:
هذا إنسان ،إنسان يسير في الطريق مع عروسه ،ويتكلم معها في هدوء» .لقد أعاد الحب صهره لدرجة أنه لن يعود د ًّبا ً أبدا .يا لها من روعة! يجد في نفسه قوة كبرى ،يقول لزوجته :اسمحي
لي ،سأبدأ بخلق المعجزات في الحال؛ كي ال أنفجر من شدة
القوة».في الفصل األول ،يصمّ م الكاتب هندسة داخلية الفتة؛ ً معدني يلمع نظافة .على الموقد إبريق قهوة غرفة كبيرة ،تلمع ّ ملتح ،فارع الطول ،عريض لدرجة تغشي األبصار .شخص ٍ عال ًّ جدا ،إنه بصوت نفسه ويكلم الكتفين ،يكنس الغرفة، ٍ ّ الحب بينه وبين زوجته التي سيد البيت الذي يدور نقاش عن تخبره أنه حين يتحدث عن الحب أو يباشر توصيفه وتعريفه، ّ فإنه كمَ نْ يدق المسامير بالصواعق .وأن العاصفة ،والزلزال
والصواعق كلها أمور بسيطة ،أمام االضطرار إلى التعامل مع
بشر متوحشين.
تذكر سيدة البالط بنوع من المناجاة أن الحيوان ال يريد
أن يفهم أن الهدف األسمى من رحلتهم هو المشاعر الرقيقة، مشاعر األميرة ،مشاعر الملك .وتقول« :ان ُتقينا لنكون ضمن الحاشية المرافقة؛ ألننا نساء رقيقات ،حساسات ،لطيفات .أنا
مستعدة ألنْ أعاني .ال أنام الليالي؛ حتى إنني مستعدة للموت؛ كي أساعد األميرة .لكن ما الداعي إلى تحمل شيء زائد ال يلزم ً جمل فقد حياءه؟». أحدا ،عذابات مهينة بسبب ٍ َ ينوّه الوزير اإلداري بأن العالم كله مركب؛ إذ ال داعي إلى
َ شاه َد فراشة تطير. الشعور بالخجل من أي شيء .يقول« :إنه رأسها صغير ،أحمقُ .تحرِّك أجنحتها بطريقة حمقاء .ويقول: إن المنظر ِّ مؤثر لدرجة أنه سُ رق من الملك مئتا قطعة ذهبية.
يحاول أن يسوِّغ األمر لنفسه بقوله :ما الداعي إلى الخجل إن َ ً مخلوقا على ذوقي؛ شجرة البتوال بليدة، العالمُ كله ليس كان
غبي .الغيوم بلهاء .الناس نصابون، شجرة الدلب حمارة .النهر ّ ُ األطفال الرضع يحلمون بشيء واحد فقط ،األكل والنوم». حتى يختار الكاتب تاليًا توقيت مساء متأخر في حانة صغيرة، ّ يتحدث عن هواجسه حيث يبدأ صاحب الحانة في عرض أفكاره،
وأحالمه بحبيبة افتراضية ،يصف زبائنه؛ يقول :إنه ال أحد يعلم إلى أين ،وال من أين ،وكلهم سيقرعون الجرسّ ، يدقون الباب ،يدخلون ليستريحوا ،ليتكلموا ،ليضحكوا ،ليشتكوا.
وكل مرة يأمل كاألحمق أنها بمعجزة ما ستدخل إلى هناك حين
يصدر أمر بالبحث عن الحب ،يتمرّد الوزير ويتجرَّأ بالقول :أيها
الناس ،أيها الناس ،عودوا إلى رشدكم .ماذا تفعلون؟ لقد تركنا
جذوة الصراع بين اإلنجاز واإلعجاز في كثيرا من األسئلة المتعلقة عمله ،يثير ً بالعالقات السائدة بين البشر أشغالنا ،نسينا مراتبنا ،انطلقنا إلى الجبال عبر جسور ملعونة،
وطرق جبلية ضيقة .ويتساءل :ما الذي أوصلنا إلى هذا؟ لتجيب سيدة البالط بأنه الحب .فيعقب الوزير بأنه ال يوجد أيّ حب في العالم؛ ليؤكد صاحب الحانة أنه يوجد .وأنه شخصيًّا يأخذ على
عاتقه إثبات أن الحب موجود في العالم.
يحاوره الوزير ويخبره أن الحب غير موجود ،وأنه ال يثق ً جيدا ،وأنه نفسه لم يقع في الحب مرة بالناس ،وأنه يعرفهم َ واحدة؛ لذلك ليس هناك ّ حب ،ومن ثمَّ يرسلونه إلى موت حتمي بسبب ُتر ََّهة ،خرافة ،مكان فارغ .فيجيبه صاحب الحانة:
ماذا لو حدثت معجزة؟ ِّ ّ ويؤكد أن المعجزات تخضع لذات يتدخل سيّد البيت
القوانين التي تخضع لها جميع الظواهر الطبيعية األخرى.
وأنه ال توجد قوة على وجه األرض تستطيع أن تساعد الطفلين ويؤكد وجوب اإلقرار بالواقعّ ، ّ وأنه ال ّ بد من المسكينين، َقبول الحياة كما هي عليه .يذكر أن األمطار هي األمطار ،لكن
المعجزات تحدث التحوّالت الغريبة واألحالم السلوانية .يخاطب ُقرَّاءه ومشاهديه االفتراضيين« :ناموا ،ناموا يا أصدقائي .ناموا.
ً بعضا». لينم الجميع ،بينما يودع العُ َّشاق بعضهم
يظهر مسعى شفارتس في مسرحيته في إبراز قوة الحب اإلنسان إنسان َّي َته ،وتوقف تحوُّله إلى الخارقة التي تعيد إلى ِ
وحش ضا ٍر يفتك بالبشر اآلخرين الذين يشاركونه الحياة ،ال ّ الحب وَحْ َده أن يسعى لقتالهم والقضاء عليهم .ويبرز كيف أن يمكن أن ينقذ اإلنسان واإلنسانية معً ا من العتمة والهالك
والفساد والجنون ،ولو كان السبيل إليه عبر خرافة.
143
مقال
شعراء الوطن المفقود المغربي عبدالفتاح كيليطو في كتابه :مفهوم لحظ الناقد ّ
بتجربة كل شاعر يواجه التراث .حينئذ يمكن أن ُنعيد صياغة
بـ«تناسخ المقطوعات الشعرية» أن في بدايات الشعر اهتمامً ا ُّ ّ مستهل والتأثر ،وبالتكرار والتقليد ،فهوميروس في بالتأثير
على تقليد أخرى» .ينطبق هذا على امرئ القيس ،فلو لم يكن علقتهَ ، هناك بقايا َلمَ ا وضع مُ َّ ولمَ ا أنشأ قصائده التي جعلت
المؤلف في الثقافة العربية ،وفي الفصل األول الذي عنونه
ملحمة اإللياذة يتوجّ ه إلى ربَّات الفنون ويناجيها طلبًا للمعونة.
القيرواني يقول عن أثره في شعر الشعراء من بعده: ابن رشيق ّ
ر َّبة الشعر عن آخيل بن فيال
التأثر بالوقوف على األطالل يعدُّ من ُّ شاعر قبله؛ لكن هل ُّ التأثر ُّ التأثر العميق؟ هنا ال يمكننا أن نحسم هذا السطحي أم من ّ
ّ النص من اإللياذة ،واكتفى بقوله« :نعلم أن لم يذكر كيليطو ّ النص من اإللياذة بترجمة سليمان البستاني هوميروس» إلاَّ أن هو:
ً احتداما وبيال أنشدينا واروي
ذاك كـ ـيـ ــد ع ـ ـ ـ ـ ّـم اإلخ ـ ـ ـ ــاء ب ـ ـ ــاله
فـ ـ ـ ـ ــكرام الن ـف ــوس أل ــفت أفوال
هذا مثال ينتقيه عبدالفتاح كيليطو من فجر اآلداب العالمية،
144
سؤاله على النحو اآلتي :ال جَ دْ وَى من وضع أبيات ال تعمل إال
العربي العربي فيتوقف كيليطو عند بيت الشاعر أما األدب ّ ّ الجاهلي عنترة بن شداد: ّ ّ هل غادر الشعراء من متردم ّ توهم أم هل عرفت الدار بعد ِّ يعلق كيليطو على هذا البيت قائلاً « :في فجر التاريخ ْ ُ ً رجوعا إلى فجر سابق ،إلى أصل وأساس ،فجر العربي نل ِفي ّ
«وال ترى شاع ًرا يكاد يفلت من حبائله». و َْف َق وجهة النظر تلك فامرؤ القيس لم يكن «أول من بكى واستبكى ،وليس أول من وقف واستوقف»؛ إنما َّ تأثر بشعر
الموضوع باللجوء إلى الرؤية الشعرية؛ ألنها هي وَحْ دَ ها التي
أساسي في جزء من القصيدة في الشعر تسمح لنا باستنتاج ّ الجاهلي؛ أعني البكاء على األطالل .فما الرؤية الشعرية التي ّ تكمن خلف البكاء على األطالل؟ أَ َّت ِف ُق مع الباحث (عبدالحق
الهواس) على أن البكاء على األطالل في مقدمة القصيدة العربية الجاهلية هو «بكاء على وطن مفقود ،وليس قضية َّ تتعلق ُّ حيوية بسيطة بتنقل القبائل في مضاربها .هناك قبائل ّ متوطنة ،وبكى شعراؤها على األطالل في ُّ واضح نحو تطلع ٍ إقامة وطن موحّ د».
مضى وامَّ حَ ى (ولم يخلف إال بعض اآلثار)؛ لكنه ما زال لعنترة
تكمن هذه الرؤية فيما نرى خلف المقدّ مات الطللية؛ رؤية ُّ ُت ِّ التطلعات والمشاعر واألفكار التي تجمع بين مثل مجموع
غير أن ما لم يَتنبَّه له عبدالفتاح كيليطو هو أن فجر
عن وطن مفقود ،وكل عمل شعريّ كبير مثل أعمال الشعراء
حاض ًرا ينبض بالحياة ،شعر عنترة الذي نميل اليوم إلى النظر
إليه كشروق كان انحدارًا نحو الغروب».
العربي بدأ قبل عنترة بن شداد؛ فالرواة ومؤرِّخو األدب الشعر ّ ْ العربي، الشعر فجر عاشت غامضة، شخصية عن يتحدثون ّ ُتك ّنى بابن حذام ،وقيل :ابن خذام ،وقيل :ابن حمام ،وهي الشخصية التي َّ تأثر بها امرؤ القيس في قوله: عوجا على الطلل المحيل ألننا
نبكي الديار كما بكى ابن حذام
في مطلع القصيدة يعترف امرؤ القيس أنه يدين البن
حذام ،وفي الوقت ذاته يمجِّ د التراث الذي وصل إليه .وهو تراث ي ِّ ًّ ِّ وحثا تحديًا المرئ القيس ُمثل من وجهة نظر شعرية
أعضاء مجموعة واحدة؛ هم الشعراء الجاهليون ،والبحث الجاهليين تعبير عن هذه الرؤية ،وهي رؤية أشبه ما تكون عي ب ََل َغ الحدَّ األقصى في وضوحه التصوُّريّ في وعي بوعي جَ مْ ّ
الشعراء في مقدّ مات قصائدهم.
غير أننا ال يمكن أن نفصل البكاء على األطالل برؤية
مستقلة عن القصيدة كلها؛ فدَّاللة هذه الرؤية الجزيئة يجب أن ُتربط بالقصيدة كلها؛ عندئذ يمكن القول :إن القصيدة الجاهلية في مجموعها (الكل) مجاز عن البحث عن وطن،
تبدأ بالحنين على فقده ،ثم رحلة متعبة إليه على ظهر ناقة
أو فرس .وإذا صحّ أن القصيدة الجاهلية هي في مجملها مجاز
له في آن واحد .إن امرأ القيس مثله مثل عنترة بن شداد ،إذا ف آثار مَ ن سبقهْ ، وليَحْ ُذ كان ال بد من أن يتأثر؛ فليتأثر ،و َْلي َْق َت ِ
تصل إلى أي مكان؛ ألن المكان مفقود في األساس.
عنترة مُ َّ علقته ( )...ال يبدو أن عنترة ينشغل بتجربته ،إنما
الجاهلي لكنها -في األغلب -تمثل الرؤية الشاملة في الشعر ّ ُ عي بشيء مفقود ينتشر بين الشعراء من حيث الوعي الجَ مْ ّ
حَ ْذوَهم؛ لكن الظاهر كما يقول كيليطو« :إن األقدمين لم يأتوا على قول كل شيء ،وإنهم تركوا بعض البقايا ،وإال َلمَ ا وضع
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
عن رحلة شعرية إلى وطن مفقود ،فإن الدليل هو أن الرحلة ال قد تبتعد القصيدة الجاهلية من هذا المجاز أو تقترب منه؛
الجاهليين .لقد أقلقت هذه الرؤية الشعراء ،وعبَّر بعضهم عن
ذلك؛ مثل قول زهير بن أبي سلمى:
ما أرانا نقول إال ُمعارا ً أو معادا من قولنا مكرورا
ونلحظ صياغة القلق من اسم المفعول (مكرورا) من
الفعل (ك ّر) يعني :هجم أو تراجع؛ أي أن الشاعر في حيرة من أمره :أيهجم على ما أوجده (الرؤية) قبله من الشعراء؟
أيتراجع عن تكرار ما قاله (الرؤية) قبله الشعراء؟ وقوله: (مُ عارًا) ّ يدل على أنه ال يملك ما يقوله (الرؤية) ،إنما يستعير
(الرؤية) من آخرين؛ أي أنه في نهاية األمر شاعر مُ ِّ قلد فيما ً مبدعا. يقوله ،وليس شاع ًرا و َْفق هذه الزاوية تحديدً ا ال مجال لفهم هذا البيت كما
فهمه جواد علي؛ أي أن الشاعر اعتقد بتقدُّ م الشعر في مرحلته التاريخية وبتطوره وبتف ُّنن الشعراء الذين عاشوا قبله،
في طرائق الشعر وذهابهم فيه كل مذهب ،حتى صار مَ ن جاء
علي الشدوي ناقد وروائي سعودي
بعدهم من الشعراء عالة عليهم فال يقول إال مُ عارًا.
ثمة أمثلة أخرى يمكن إيرادها؛ لتوضيح عملية التأثير
والتأثر من زوايا مختلفة .فهناك من الشعراء مَ ن وصف الرؤية الشعرية من دون أن يسمِّ يها؛ مثل لبيد بن ربيعة: والشاعرون الناطقون أراهم
سلكوا طريق مرقش ومهلهل
ُتجمَ ع لفظة شاعر على ُشعَ راء ،لكن هؤالء في بيت لبيد بن ربيعة (شاعرون) ال ُشعَ راء .لو أنهم شعراء ًّ حقا َلمَ ا نطقوا إنما ً ً طريقا طريقا معروفة ،إنما فتحوا لهم (أشعروا) ،ولما طرقوا ّ يتكلمون ،بينما الشعراء جديدة .الشاعرون إذن هم الذين
هم الذين يشعرون مثلما شعر المرقش ومهلهل اللذان مَ هَّدا الطريق للرؤية الشعرية التي َّ تأثر بها مَ ن جاء بعدهم. إن في قول القدماء« :إن المهلهل كان أول شاعر وصل ً أبياتا زاد عددها على عدد ما وصل إلينا من شعر شعره إلينا
أي شاعر تقدّ م عليه ،وإنه أول مَ ن ر ُِويت له كلمة بلغت ثالثين بي ًتا» .أقول :إن في هذا القول َلمعنى؛ إذ من المعروف تاريخيًّا أن ُكليبًا أخا المُ هلهل أراد أن يقيم مُ ْل ًكا في جزيرة العرب،
لم يكن ُّ للشعراء إال أبيات قليلة يقولها الرجل عند الحاجة؛ أي أن العرب كانوا مدفونين في حياتهم ،ولم يكن بوسعهم ّ ليتفكروا في أن يتوقفوا عن اللهاث خلف حياتهم اليومية
العربي ما يتحتم طبيعة حياتهم القائمة على الترحال .يفعل ّ
عليه فعله (طلب الكأل والماء) حتى إذا ساءت األمور؛ حينئذ يبقى ِّ الشعر له عزاء ،ولم يكن هذا الشعر بأبياته القليلة إال
استعدادًا ل َِقبول َ القدَ ر الذي ينتهي بهم إلى الموت.
العربي تزايدت األبيات بعد هذه المرحلة من فجر الشعر ّ
علي وتنوّعت طرائق الشعراء في نظم الشعر ،ويُرجع جواد ّ هذا إلى تقدّ م الزمان ،وزيادة الخبرة والمران ،وتقدم الفكر،
وهي أسباب أرى أنها هي التي أدّت إلى أن يكون هناك رؤية العربي يفكر في طبيعة الحياة القائمة شعرية ،فقد بدأ الشاعر ّ ً على الحِ ّل والترحال؛ لكي ال يبقى مدفونا في حياته اليومية
عربي آخر. مثل أيّ رجل ّ بسبب رؤية الوطن المفقود التي ّ تولدت عن تفكير الشعراء
وأن يجعل للعرب وط ًنا ،لكنه ُقتل في حادثة مشهورة، وبكاء المهلهل أخاه ُكليبًا إنما هو في األساس بكاء على وطن
لم يَعُ دِ الشعراء «شاعرين ينطقون» كما عند لبيد بن ربيعة؛ إنما نوابغ كما عند الفرزدق الذي يقول« :وهب القصائدَ لي ُ النوابغ إذا مضوا» .وما يلفت النظر في قصيدة الفرزدق التي
ً ِك إن ما يلفت االنتباه أن امرأ القيس هو أيضا -ابن مَ ل ٍْ ضاعت مملكة آبائه ،ويمكن القول :إن بكاءه على األطالل التي
وهو فيما أرى له عالقة بالظروف التاريخية التي تكوَّنت فيها ً مبلغا عند عنترة كما رؤية الوطن المفقود التي بلغ القول فيها
مفقود؛ مملكة العرب التي تحوَّلت إلى خراب من أجل ناقة
البسوس.
اش ُت ِهر بـأنه أول مَ ن بكى عليها هو بكاء على وطنه المفقود. وعلى أي حال ،قبل أن ُيه َْل ِه َل الشاع ُر المُ ه َْل ِه ُل ِّ الشع َر
َعدَّ َد فيها الشعراء هو قوله« :ومهلهل الشعراء ذاك األول»،
َّ معلقته؛ إذ إن «متردّم» يُفهم من كلمة «متردّم»؛ في مطلع هو القول المحبوك َن ْسجه بإتقان.
145
تراث
عناق األفكار الهندسية في قصور الطين 146
عبدالعزيز محمد العريفي كاتب سعودي
تتداعى أصوات وصور ثالثية األبعاد من وراء التاريخ َّ للبنائِين ،وهم منهمكون في ِّ رص َّ وتتسلل إلى أنفك َل ِبنات الطين ،وتشييد صروح الذكريات الجميلة على مساحات المخيلة، رائحة الطين الممزوج ِّ َ ولجت بالتبْن حتى َل َتكاد تشعر ببرودتها ورطوبتها على وجنتيك كلما قصرًا أو ً بيتا من بيوت الطين القديمة ،وينتابك في أعماق النفس ذلك الحنين والشوق
الجياش إلى االلتصاق بها بحميمية ،وتقبيل ذا الجدار وذا الجدار بشغف العاشق ،فكل جدار من جدرانها المتهالكة وكل زاوية فيها حتى عود ِّ ً جاهدا لعقود التحرُّر من التبْن الذي يحاول جف حول خاصرته؛ ُّ الطين الذي َّ كلها تصرخ بلسان الصمت ،تريد أن تروي لك قصتها ،وتبوح بمكنون أسرارها التي كادت تتالشى في غيابة جُ ِّ ب الماضي ،وتلحّ عليك تلك األحاسيس عندما يرتبط المبنى بحادثة تاريخية ،أو بشخوص ُمهمة من العالم القديم؛ مثل :قصر المصمك في
مدينة الرياض الذي تتجلى فيه قصة فتح الرياض على يد الملك عبدالعزيز -رحمه الله -بكل أبعادها ،حتى لتكاد تسمع صدى سنابك الخيل ،وأصوات الفرسان في خيالك.
القصور والبيوت الطينية ليست مثل المنشآت األخرى التي تعتمد على الدقة الهندسية
والقولبة واآلالت والمواد الكيميائية ،بل إنها نمط معماريٌّ مكتنز بالجمال ،أقرب إلى األعمال ً انفصاما بين الهندسة المعمارية التقليدية وطريقة الفنية اليدوية ،وال َي ْعني ذلك أن هناك َّ بناء بيوت الطين ،بل المقصود هنا أنها ال تلتزم صرامة المنشآت المسلحة الحديثة. العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
147
تراث
بالماء من حين آلخر .بعد ذلك يخلط بأعواد ال ِّتبْن والقليل من (البحص) وهو حصى صغير؛ لزيادة تماسك البناء عند
هطول األمطار ،وأخيرًا يقوم البناؤون بنقل الطين بالمحافر ،والبدء في
عمل العرق األول فوق حفرة األساس المملوءة بالحجارة وبسمك نصف متر
تقريبًا ،يزيد وينقص حسب ما يراه صاحب البيت ،وبارتفاع مماثل ،ويُترَك
إلى اليوم التالي ،أو حتى يصل إلى درجة
من الجفاف تمكنه من احتمال عرق آخر ً واحدا فوقه .وهكذا يجري وضع العروق تلو اآلخر مع مراعاة األبعاد حتى الوصول
إلى االرتفاع الكافي لوضع السقف الذي
عادة ما يكون من جذوع أشجار األثل المتساوية السمك تقريبًا ،وخوص ُّ يصف فوقها بترتيب، النخل الذي ويوضع العازل الذي ربما كان من قماش
الخيش المغموس في القار أو ما أشبه، ثم ي َّ ُغطى بالطين تمامً ا ،وهكذا حتى
148
االنتهاء من بناء الدور الثاني ،وعمل القباب المرتكزة على أميال أسطوانية من الصخور والطين ،والتف ُّنن في عمل ّ تعد من سمات البيت الشرف التي
الطيني ،وأخيرًا وضع الجبس على أجزاء ّ معينة من البيت؛ للحماية والتجميل،
كيف تبنى قصور المدن الصحراوية؟ ُتشيَّد بيوت الطين وفق أنماط وأشكال كثيرة ،أفضلها في
جزيرة العرب ما جرى بناؤه بطريقة العروق ،كما كان متبعً ا في قصور المدن الصحراوية القديمة؛ مثل :حائل ،ونجران، وبعض القرى النجدية ،فتلك الطريقة تضفي على القصر جمالاً معماريًّا ممي ًزا ،إضافة إلى المتانة التي تزيد من عمره
االفتراضي .تتم تلك الطريقة حسب ما ذكر لنا أحد كبار السن، ممن شاركوا في بناء كثير من القصور الطينية ،بإعداد مخطط للبيت أو القصر أولاً ،ثم حفر أساسات الجدران على شكل
خندق ،مع مراعاة ترك فراغات معينة لألبواب والفتحات، ويُملأَ الخندق بالحجارة ،ثم ي َ الطيني ُجلب كثير من التراب ّ
على ظهور الجمال من أماكن شتى ،تكون بعيدة في بعض األحيان ،وي َ ُخلط بالماء ،وتدوسه الجمال حتى يتحول إلى
ما يشبه الصلصال الالزب ،ويُترَك عدة أيام مع ترطيبه العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
والعناية الفائقة بتجصيص المجالس
ً خصوصا ما يطلق عليه الوجار أو وتزيينها بزخارف مميزة ّ تصف الكمار؛ حيث موقد النار أو الكانون ،والرفوف التي فوقها األباريق والدالل وغيرها ،وتسوية األرضية وتركيب األبواب الخشبية المميزة والنوافذ. قصور الطين النجرانية
يزداد جَ يَشان المشاعر عندما تقع عيناك على أحد
القصور الطينية العظيمة في أيّ من المدن السعودية التي تشتهر بذلك ،وكأن من قام بهندستها يمتح من نبع كنوز فنية ال تنضب ،ولنبدأ بمدينة نجران مثلاً لكونها تضمُّ مجموعة
ّ تشد األنفاس حتى إن اسم كبيرة من القصور الطينية التي
نجران له داللة بنائية ،ويعني فيما يعنيه الخشبة التي يدور عليها ِر َتاج الباب ،ويسمى بيت الطين في نجران (درب) ،وهو
التاريخي أنموذجً ا االسم الشائع هناك ،ويُعَ ّد قصر اإلمارة ّ
عناق األفكار الهندسية في قصور الطين
ً فريدا للعمارة الطينية التقليدية في المنطقة ،إضافة إلى كونه ي ِّ ُمثل حِ قبة مُ همة من تاريخ الدولة السعودية في عهدها
الثالث ،وأنشئ القصر عام 1631م مقرًّا لإلمارة والشرطة والمحكمة والبرقية .والمبنى ُشيِّد ليكون قلعة عظيمة ذات ُ عال دائريّ أسوار عالية ،وفي كل ركن من أركانه أقيم برج ٍ ُّ بالشرف والجبس والمقرنصات الشكل للمراقبة ،و ُز ِّين أعاله
ً ً كبيرة ،وبئرًا غرفة النجرانية الجميلة .ويضم القصر نحو 60 ً ومسجدا ،والقصر بأكمله بُني بطريقة مطوية بالحجارة، عروق الطين (المدماك) ،وهي طريقة مشتركة بين مدن
أخرى في المملكة؛ مثل :مدينة حائل في الشمال ،وهي أفضل بكثير من طريقة البناء َ بل ِبنات الطين اله َّ َشة ،وتصمد قرونا طويلة ،وهناك قصر آخر في نجران ال ّ ً يقل أهمية عن َ ً خصوصا من ناحية فنّ المعمار ،ألاَ وهو قصر مق ّر اإلمارة
ألعان ،ويعرف قديمً ا بقصر سعدان .والقصر بأكمله ُشيِّد على ُّ ويعد من أروع نماذج العمارة الطينية قمة جبل عام 1689م،
القصور والبيوت الطينية ليست مثل المنشآت األخرى التي تعتمد على الدقة الهندسية والقولبة واآلالت والمواد الكيميائية ،إنها نمط معماري مكتنز بالجمال ،أقرب إلى ٌّ األعمال الفنية اليدوية حائل وإبداع البناء الطيني
مدينة أخرى من مدن المملكة تزخر بالمباني الطينية
ذات العراقة ،أال وهي مدينة حائل ذات الشهرة الواسعة
في تشييد القصور الطينية داخل منطقة حائل وخارجها،
فعلى سبيل التمثيل :قلعة أعيرف فوق جبل أعيرف التي تشرف على المدينة العتيقة من الجهات جميعها؛ حيث
ُّ تعد التقليدية ،وهناك قصور أخرى عديدة في قرى نجران في مجملها ً آية من آيات اإلبداع المعماريّ التقليديّ ؛ مثل:
تتعانق األفكار الهندسية مع الذائقة الفنية ،والقلعة هي
والمشكاة ،والمخالف ،والموفجة ،وقد رممت الهيئة
الجبل ،وتتكون من طابقين بطول 40مترًا ،وعرض 11
الحامية ،والحضن ،ودحضة ،والشبهان ،وصاغر ،والقابل،
الوطني أغلبية تلك القصور واعتنت العامة للسياحة والتراث ّ
بصيانتها؛ لتكون مواقع أثرية يرتادها السياح.
مبنى مستطيل متدرّج لينسجم مع ارتفاعات وانخفاضات
مترًا ،والمبنى مسقوف بأخشاب األثل وخوص النخل ،مع
أسطح مسوَّرة وبرج دائريّ يزيد ارتفاعه على خمس أمتار ُّ ُّ كلها ُز ِّي ْ بالشرف المغطاة بطبقة من الجبس وبكوّات نت
وفتحات مراقبة ،إضافة إلى األبواب الخشبية المزخرفة
داخل المبنى ،ويتوسط القلعة مسجد ذو رواق واحد ،وله ُ تكويناته على الرغم خمسة أعمدة ،وفناء صغير تستهويك
من بساطتها ،وتشيع في رُوحك ذلك الحنين الغامض إلى ماض تجهل تفاصيله ،ويقال :إنها بُنيت أولاً بالحجر قبيل ٍ
149
تراث
عصر اإلسالم ،وأتت عليها صروف الزمن؛ لتحيلها إلى أطالل لم َ يبق منها إال األساسات ،ثم أُعيد بناؤها في عهد
150
دفاعية في منطقة نجد خاصة ،والمنطقة الوسطى عامة. وهناك مجموعة أخرى غير قليلة من القصور والقالع
آل علي الذين حكموا (حائل) من القرن الثامن إلى القرن ُ جريَ لها الثالث عشر الهجريّ ،وفي العهد السعوديّ أ ِ صيانة وترميم كبيران عام 1404هـ ،أما الترميم األخير الذي ُ جريَ عام 1422هـ فقد َّ تكفلت به حينها وكالة وزارة التعليم أ ِ
للحامية العسكرية في المنطقة ،بمساحة كبيرة تبلغ 20ألف
عمارتها وطرازها عن مثيالتها من المباني التي بُنيت ألغراض
وقصر الدولة في قفار ،وقصر النايف في جبة ،وغيرها.
السعودية لآلثار والمتاحف ،والقلعة ال تختلف في أسلوب
الطينية في حائل ال تختلف عن أعيرف في شموخها وبُعدها تاريخي بُني في التاريخي؛ مثل :قصر القشلة ،وهو قصر ٌّ ّ عهد الملك عبدالعزيز–رحمه الله -سنة (1360هـ1940 /م) مقرًّا
متر مربع ،وقصر برزان الذي يعود إلى عهد أسرة آل رشيد،
ُبناة من علية القوم َّ اهتزت له أرض بالدنا ،وربت االنفجار الحضاريّ الذي
من المفارقات الطريفة أن من يقوم عادة بالبناء هو من أهل البلد أصلاً ،وقد يكون من الوجهاء ومن
وأنبتت من كل زوج بهيج صار ما بقي فيه من بيوتات
البناء منذ البدء في إنشائه حتى االنتهاء صورها لترافق ِ منه ،ففي حائل عندما ّ يهم أحدهم ببناء بيت ،فإن ذلك
في لثة مريضة تستوجب العالج والترميم من أصحابها؛ ً عمراني ،يستحق الحفاظ عليه، شاهدا على تراث لِتبقى ّ
علية القوم ،وتتجلى صفة الكرم واألريحية في أبهى
يعني حتمية المبادرة وحالة استنفار تعاونية للقاطنين حوله؛ إذ عليهم التناوب على دعوة البنائين إلى اإلفطار
والغداء والعشاء طوال مدة البناء ،والمبالغة في
إكرامهم ،وتعكس هذه الحالة مدى التالحم والتكاتف
االجتماعي ،وثقافة النخوة في تلك البيئات ،وفي ظل ّ
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
طينية ،أو باألحرى ما بقي من أطاللها أشبه ببقايا أسنان
والتفاخر به بوصفه منتجً ا إبداعيًّا ربما لن يتكرر.
وفي هذا السياق قام كثير من سكان المدن النجدية
ممن أنعم الله عليهم ببناء استراحات خارج مدنهم، وتح َّر وا في بنائها األسلوب النجديّ القديم في البناء، فبدت كأنها قصور طينية قديمة تعود إلى األثرياء في
عناق األفكار الهندسية في قصور الطين
متاحف طينية وجذب سياحي
َّ تعددت القصور الطينية التراثية في القصيم ،ففي مدينة ً التراثي الذي صار متحفا ،وهو قصر بريدة نجد قصر الدبيخي ّ
ً غرفة مختلفة المساحة ،وقصر تراثي من الطين ،ويضم 12 ّ تراثي يتكون من السويد الواقع في قرية الحمر ،وهو قصر ّ عريشين ،وثماني ُغرف ،وباحة في الوسط ،المعروفة
الداخلي ،وسطح مُ ّ طل على المزارع المحيطة، بالحوش ّ ّ ويعد بحق من أجمل القصور الطينية ،وفي محافظة عنيزة
طيني تزيد مساحته على 3500 يقع بيت البسام ،وهو قصر ّ مبني على الطراز النجديّ المشهور ،ويمثل في متر مربع، ّ
شموخه نمط العمارة في محافظة عنيزة ،ومتحف الحمدان
يهم أحدهم في حائل عندما ّ ببناء بيت ،فإن ذلك يعني حتمية المبادرة وحالة استنفار تعاونية للقاطنين حوله
ً أيضا -وهو مزرعة كبيرة ،ويتضمن مجموعةفي عنيزة َّ من القصور والمباني التراثية ،المبنية من الطين والل ِبن، والمسقوفة بخشب األثل ،وفي البكيرية هناك مقصورة الراجحي؛ حيث َعمَ ْ دت أُ َسر كثيرة في المملكة عامة ،وفي
نجد خاصة في اآلونة األخيرة إلى إعادة بناء مقارّها واستثمار
الثقافي .ومقصورة الراجحي في مدينة البكيرية موروثها ّ شاهد على ذلك ،وهي قصر كبير من الطين ،يحوي غرفاً ً ً ومسجدا وأحواشا ذات طابع معماريّ فريد، ومجالس َ واسعً ا وجميلاً َّ سوان وجود إلى إضافة صة، مجص أعمدة ذا ٍ للسقيا. لرفع الماء ُّ
ومقصورة السويلم بالبكيرية هي قصر أثريّ كبير ،يتضمن
مالحق بُنيت مطلع القرن الثالث عشر الهجريّ ،في عهد أمير
البكيرية عبدالله بن سويلم عقب إنشاء محافظة البكيرية، وكانت مقصورة السويلم مقرًّا لإلمارة مدة من الزمن .وفي
التراثي في هذا السياق يقول الدبيخي صاحب قصر الدبيخي ّ تعد ً تراثا وتجارة» ،مضيفاً ّ بريدة« :إن بيوت الطين القديمة االجتماعي أن هذه البيوت شهدت تحولاً في االستخدام ّ مصحوبًا بنشاط تجاريّ وسياحي ،أعاد إلى األذهان الرغبة ّ االجتماعي واالستثماريّ بمنطقة القصيم؛ للعناية في التوجه ّ
حقبة ماضية على الرغم من أنها قد ُبنيت بالخرسانة
وفق أحدث الطرائق في البناء ،وعولجت بالطين والموا ّد واألخشاب لتبدو كأنها قديمة؛ لرغبة
أصحابها في الحفاظ على تراث األجداد ،وتقريب صورة الماضي للنشء ،متجاوزين بذلك جملة من الصعوبات التي يواجهها عادة ّ كل َمن أراد بناء بيت
طيني؛ مثل عدم توافر العمالة المناسبة، أو قصر ّ
والمقاول المناسب ،والمخططات الهندسية ،فيبقى المبنى لوحة فنية حُ رَّة ال يمكن أن تتنبأ بنتيجتها إال في نهاية المطاف.
بها ،ووضعها في الواجهة من جديد بعد إحيائها وتحويلها إلى متاحف ومواقع استثمارية ،مب ِّي ًنا أن هذه القصور التراثية ً السياحي. نشطة تجاريًّا ،ومن عوامل الجذب أصبحت ّ َّ بالل ِبن :هي الطريقة األقل جودة في طريقة البناء
تشييد المباني الطينية بيد أنها األكثر انتشارًا؛ لسهولتها
وتكاليفها غير الباهظة ،إضافة إلى سرعة إنجازها ،وتعتمد على استخدام َّ ّ الجاف المجهز من قبل بوساطة الطيني الل ِبن ّ تشكيله في قوالب خشبية ،ثم تجفيفه تحت أشعة الشمس، برص َّ ّ الل ِبن وتثبيته بالطين ،وبعد أن وتجري طريقة البناء
تكتمل الجدران ُت َّ غطى بطبقة من الطين بطريقة (اللياسة)، ُ وتسوَّى ،ثم يكمل البناء بالطريقة السابقة نفسها التي تعتمد
على العروق.
151
إعالم
يتحمل أدي ًبا يتحدث خمس دقائق يع ْد أحد َّ لم ُ
أين الثقافة في التلفزيون المعاصر؟ 152
نصر الدين لعياضي باحث وأكاديمي جزائري
ّ يتحسر الفرنسيون على زمن يصفونه بالجميل؛ زمن البرنامج التلفزيوني «أبوستروف» ،Apostropheالمتخصص في ّ َ عالم ُ الك َّتاب ،الذي كان يجمع أكثر من ثالثة ماليين مشاهد ّ يتلهفون على متابعة آراء كل أسبوع .لقد كان كثيرون َ ُ الك َّتاب والشعراء الفرنسيين واألجانب فيما كتبوا ،وترهف األذن للعالقة الخفية التي كانت تجمع رجال السياسة يتذكر الحلقة التي ّ ّ حل والحكم باألدب .ولعل قليلاً منهم فيها الرئيس الفرنسي آنذاك ،فاليري جيسكار ديستان، ً ضيفا على هذا البرنامج ليتحدث عن الروائي الفرنسي «غي دو موباسان».
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
لقد م َّر 26عامً ا على ُّ التلفزيوني عن توقف هذا البرنامج ّ البث إال أن الحديث عنه لم يتوقف في أوساط المثقفين، ُ والك ّتاب ،والناشرين ،ولدى ممتهني العمل التلفزيوني.
الفرنسي «هوبرت نيسن» ،في لقد وصف الكاتب والناشر ّ التلفزيوني بمفخرة هذا إحدى حواراته الصحفية، البرنامجَ ّ ّ الثقافي. ومحل تميّزها من بقية البلدان في المجال فرنسا، ّ
التلفزيوني المذكور يفضي ،دائمً ا، لكن الحديث عن البرنامج ّ إلى التساؤل عن السر في تراجع مكانة الثقافة في القنوات
التلفزيونية المعاصرة عامة ،وليس الفرنسية فقط ،وإلى
النقاش عن الصعوبات التي تعانيها القنوات التلفزيونية
الثقافية؛ لتستمر في الوجود ،فكثير من المثقفين والفنانين يتساءلون عن مصير القناة الرابعة في تلفزيون «بي بي سي»
البريطاني ،التي توصف بأنها متخصصة في الثقافة. ّ
زمن الحنين
لم يكن طموح البرامج الثقافية في التلفزيون في الماضي
لِتكتفي بإعالم الجمهور الجديدَ في مجال الموسيقا والسينما
والمسرح والفنون والرواية والشعر ،إنما كانت تعمل ّ ليشكل محر ًكا ثقافي وفكريّ متواصل على تأسيس نقاش ّ
الفرنسي «جون كلود لعجلة الصناعات الثقافية .فالناشر ّ غواسويتش» ،يتذكر جيدً ا أنهم كانوا ينتظرون بفارغ الصبر، كل أسبوع ،ساعة اإلعالن عن ُ الك ّتاب والشعراء والمفكرين الفرنسي التلفزيوني الذين يستضيفهم صاحب البرنامج ّ ّ َ المذكور؛ ليسرعوا إلى استخراج مؤلفاتهم من أ ْق ِبيَة المطابع وتوزيعها على المكتبات! كيف ال وال ِك َتاب الذي يحظى بالنقاش
التلفزيوني تقفز مبيعاته من ثالثة آالف نسخة في هذا البرنامج ّ إلى أكثر من ثالثين ألف نسخة .فبعد أسبوع من استضافة
الروائية الفرنسية «مارغريت دوراس» في هذا البرنامج قفزت مبيعات روايتها «العشيق الصيني» من 80ألف نسخة إلى 240
ألف نسخة! ليس هذا فحسب ،إنما اعترف الشاعر والكاتب
العائلي الفرنسي «فيليب دلرم» أن ال أحد من محيطه ّ ّ
153
إعالم
وأصدقائه كان يعُ دّ ه كاتبًا ،ويأخذ ما يكتبه مأخذ الجدّ حتى ً ّ الموسيقي التلفزيوني المذكور .حتى ضيفا في البرنامج حل ّ ّ
الروسي الشاب راشمنوف المغمور ،نال نصيبه من الشهرة ّ بعد أن جرى اقتباس مقطع من موسيقاه في «تيتل» Title البرنامج المذكور.
ْ أصبحت مثل هذه البرامج في حكم الماضي ال تثير لقد
آت ،أي :مِ ن سوى الحنين إلى ما فات ،والخوف مما هو ٍ
مستقبل الثقافة في القنوات التلفزيونية ،ليس في فرنسا فحسب ،إنما في كثير من بلدان العالم .فإضافة إلى تقليص
والمعرفي الذي يؤهّ له التعليمي الذي ال يملك المستوى ّ ّ لفهمهاُ ، ً بعضا ممن يَملك هذا المستوى لجمودها. وتقصي وتنصرف القنوات التلفزيونية إلى بث البرامج الجماهيرية
والتوافقية التي تحظى بإجماع ،فتجمع المشاهدين وال ّ ّ المخصص التلفزيوني البث يفسر تزايد مدة تف ّرقهم ،وهذا ما ّ ّ
للرياضة واأللعاب والمسلسالت التلفزيونية؛ أي أنها تساير االستهالكي في المجتمع. المنطق ّ وهكذا اختفت مواعيد المسرح من الشاشة الصغيرة
البرامج الثقافية في شبكة البرامج التلفزيونية لتصل إلى نحو %5من جُ ّل القنوات التلفزيونية العامة ،جرى تأخير موعد ّ بثها
خارطة البرامج التلفزيونية .لقد طبعت هذه النوادي البرامج
فأصبحت تسمّ ى برامج «المنوعات»؛ للتأكيد على ّ خفتها
أو بعض ممثليها في أستوديو التلفزيون؛ لمناقشة طريقة
إلى ساعات متأخرة من الليل؛ العتقاد راسخ في أنها برامج نخبوية ،وال توجّ ه إلى جميع المشاهدينُ . وغيِّرت طبيعتها، وذوبانها في الترفيه؛ مثل :المسابقات التلفزيونية ،والبرامج الغنائية التي تسعى للرفع من شأن الضيوف والنجوم والترويج
لهم على حساب الموضوعات والمضامين.
إن غاية البرامج الثقافية في التلفزيون ليس اإلمتاع
فحسب ،إنما إثارة الفضول ،والتزود بالمعرفة ،وإرهاف
154
العتقادها أنها عسيرة الهضمّ ، ً قطاعا واسعً ا من الجمهور وتنفر
اإلحساس ،والدفع إلى التفكير والتأمل .إنها تتطلب قدرًا من
االنتباه والتركيز ،بينما تسعى كثير من القنوات التلفزيونية المعاصرة لالستحواذ على أكبر نسبة مشاهدة؛ لِجَ ْني أكبر َ الثقافية؛ حصة من سوق اإلعالنات؛ لذلك َتستبعد البرامجَ
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
في كثير من القنوات التلفزيونية ،وزالت نوادي السينما من التلفزيونية ،في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، فكانت ّ تبث األفالم السينمائية الرائدة ،وتستضيف مخرجيها
ُّ توقف البرنامج عاما على مر 26 ّ ً التلفزيوني «أبوستروف» عن البث إال ّ أن الحديث عنه لم يتوقف في أوساط المثقفين ،وال ُكتّاب ،والناشرين، التلفزيوني وممتهني العمل ّ
أين الثقافة في التلفزيون المعاصر؟
إبداع وابتكار وليس ًّ وتوزيعا بثا ً ربما النظرة إلى عالقة التلفزيون بالثقافة تتغير عما سبق عرضه إذا استخدمنا مفهوم «الثقافة التلفزيونية»، الذي يجعل من التلفزيون َ أدات ْي إبداع وابتكار ثقافيين ،وليس قناة بث وتوزيع فحسب .في هذا اإلطار سعت دول
ّ التلفزيوني ،ضمن سياساتها الثقافية .بدأتها بفك البث األوربي لفرض مجموعة من القيود القانونية على االتحاد ّ ّ
ّ العام أو الدولة؛ إذ ترى أنه االرتباط بين التلفزيون التجاريّ -التابع للقطاع الخاص -والتلفزيون التابع للقطاع
َ ُ من غير المعقول أن يقدم التلفزيون الذي ّ التلفزيون التجاريّ ، المضامين ذاتها التي يقدمها تموله خزينة الدولة الذي يعتمد على عائدات اإلعالن في تمويله .وإلزام التلفزيون التابع للدولة بتخصيص وقت من ّ بث نشرات المحلي المتنوع ،ونسبة من الثقافي التلفزيوني أخباره لألحداث والتظاهرات الثقافية ،وفرض نسبة من اإلنتاج ّ ّ ّ
بث البرامج الثقافية األوربية؛ للتخفيف من لجوء القنوات التلفزيونية األوربية إلى البرامج المستوردة من الدول األجنبية ،وبخاصة الواليات المتحدة األميركية ،مع تنويع مواعيد بثها؛ وعدم إدراجها في الساعات المتأخرة
من الليل .وتحديد المدة الزمنية المخصصة لبث اإلعالنات؛ سواء أكانت المدة مخصصة للقنوات التجارية أم
مخصصة للقنوات التابعة للدولة؛ لتحرير القنوات التلفزيونية من قبضة اإلعالن ،وما يمارسه من ضغوط على ّ الحد األدنى األوربي أن هذه اإلجراءات تشكل نوعية البرامج التلفزيونية وبخاصة الثقافية .وتعتقد دول االتحاد ّ الذي ّ يمكن التلفزيون من تطوير «الثقافة التلفزيونية». إخراجها وقيمتها الفنية ،وإن أبقت على بعض البرامج الثقافية
األدباء والمفكرين في ساعة ذروة المشاهدة ،وفتح أذرعه
التلفزيونية القليلة الخاصة بالكتاب ،التي ال تزال صامدة
يتوددون للجمهور ويمازحونه في ديكور فاخر كثير البذخ،
فقد غيَّرت بنيتها ،وأسلوب تقديمها ،وغايتها .فالبرامج
ومستمرة في شبكة البرامج التلفزيونية؛ أصبحت تروم الترويج المحض للكتاب ،وانزاحت عن مناقشة موضوعه،
وتحليل مضمونه وأسلوبه؛ االنزياح الذي ال يشترط من المذيع قراءة معمّ قة ُ للكتب التي يروجها. كائن يتطور بتطور المجتمع
حي يتطور يعتقد بعض المتخصصين أن التلفزيون كائن ّ
الفرنسي التلفزيوني ومقدمه بتطور المجتمع .فمُ ِعدّ البرنامج ّ ّ التلفزيوني فقد الصبر ،ولم يعد المذكور أعاله يؤكد أن العمل ّ
األديب أو المفك َر؛ للحديث مدة خمس يتحمل منح الكلم ِة َ
دقائق متواصلة؛ ليشرح في هدوء آراءه من دون أن يقاطعه
المذيع ،أو تغيير لقطة التصوير.
التلفزيوني على صعيد التصوير بالفعل لم يتغير البرنامج ّ
فحسب ،وال في اإليقاع الذي أصبح سريعً ا ليواكب سرعة
العصر ،إنما تغيَّر في نوعية الديكور. لقد كان ديكور البرامج الثقافية في السابق بسيطاً ً كراس َّي وطاولة ،وحُ ْزمة من ومتقشفا كثي ًرا ،ويقتصر على ِ ُ الكتب أو الصور ألفالم أو مسرحيات؛ ألن هاجس هذه البرامج كان النقاش ،ود َْفع المشاهِ د إلى التركيز فيه .أما اليوم فالنقاش ذاته تغيّر إن لم يكن فقد مضمونه .لقد ّ كف كثير من القنوات التلفزيونية في كثير من بلدان العالم عن استضافة
الستضافة نجوم الفن والطرب واألزياء والرياضة والطبخ الذين ومبهر إلى حد السحر.
وهناك من يعتقد أن األمر يتجاوز التلفزيون؛ ألن النظام ً مكونا أساس ًّيا من مكونات الصناعات الثقافية اإلعالمي أصبح ّ
التي تخضع لمنطق السلعة ،وليس الخدمة .فلم يكن للقنوات َ تحظ برضا التلفزيونية أن تنجرف إلى «تسليع» الثقافة إن لم الجمهور .وهذا الجمهور هو ابن المجتمع الذي تغيَّر هو اآلخر،
فتناقص فيه تعداد المكتبات في األحياء السكنية والمدارس، َّ وقلت دُور النشر فأصبحت تطبع ُن ً سخا أقل من الكتب ،وتبيع كميات قليلة جدًّ ا مما تطبعه .واختفت النوادي الثقافية أو ّ جف ّ نشاطها، وتقلص تعداد رُواد المحاضرات والندوات الثقافية أمام تزايد جمهور الحفالت الغنائية ،ورواد مالعب كرة القدم.
لقد تكاثرت وفرة البرامج التلفزيونية ،وتعدّ دت حوامل ّ وتشذر الجمهور ،وتراجعت الثقافة وقنوات توزيعها، ّ ظل استشراء المشاهدة الجماعية لبرامج التلفزيون في
«المشاهدة التلفزيونية المؤجلة» الفردية سواء في مواقع ّ منصات القنوات التلفزيونية في شبكة اإلنترنت أم في بعض
االجتماعي. التواصل ّ حقيقة لقد انتشرت شرائط الفيديو وحوامله ،في نهاية
السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي ،فح ّررت المشاهد التلفزيوني .أما اليوم فقد اتسع هامش من إكراهات توقيت البث ّ واالتصالي عن الثقافي الحرية كثي ًرا في ظل انفصال المحمول ّ ّ
155
إعالم
االستدراكي Catch up TVأو الحامل ،وفي زمن التلفزيون ّ الفيديو تحت الطلب (.video on demand (VOD تفسر جزئ ًّيا تراجع البرامج الثقافية كل هذه العناصر ّ في التلفزيون المعاصر .لكن لماذا جزئ ًّيا فقط؟ ألنها تحمّ ل
الجمهور مسؤولية انصرافه عن متابعة البرامج الثقافية،
ثقافة بالمعنى الدقيق للكلمة ،إنما يوجد ترفيه جماهيريّ ّ الصحافي يتغذى من المواد الثقافية .فالشعر -حسب ّ
الفرنسي توماس يادان -تحوّل في بعض األحيان إلى شعار ّ ً ً ومادة للتدافع، موضوعا للتنافس إعالني ،والموسيقا أصبحت ّ
وأضحى الفنان تاج ًرا يتاجر بف ّنه في التلفزيون .ربما يمكن ً توصيفا لواقع يتضمن ً نوعا تصنيف هذا األمر بأنه حكم ،وليس
وتبرئ ساحة التلفزيون والمسؤولين عن إدارته من تراجع هذه البرامج ،وتتس ّتر على العقل المدبّر الذي ضاعف البحوث التلفزيوني ،وأشكال تسويق برامج ُ (الف ْرجة) المتعلقة باإلعالن ّ
من المبالغة ،وال ينطبق على كثير من القنوات التلفزيونية،
الضارية بين القنوات التلفزيونية.
والفنانين .لقد احتفوا به في الخمسينيات ومطلع الستينيات
والترفيه ،واستطالعات الجمهور إلعادة توجيه رغباته وصقلها، ورسم إستراتيجيات البرمجة التلفزيونية في ّ ظل المنافسة
زمن المراجعة
يعتقد كثير من المفكرين والمثقفين أن ما سبق قوله ال يشخص بكل ّ ّ دقة العالقة الملتبسة بين الثقافة والتلفزيون؛
إذ يرون أن التلفزيون يتعارض جوهر ّيًا مع الثقافة؛ ألنه يميل ميلاً كبي ًرا إلى االستعراض و(الفرجة) ،ويروم التسلية والمتعة ،ويشجّ ع اآلني ،ووليد اللحظة ،بينما الثقافة وليدة
فكر يستثمر في الزمن ،ونتيجة صبر وعناد .وتعتقد الفيلسوفة
156
والنتيجة ،كما تقول الفيلسوفة في الكتاب ذاته ،لم تعُ دْ هناك
األميركية المنحدرة من أصول ألمانية حنا أرنت في كتابها الموسوم بــ«أزمة الثقافة» أن الثقافة المعاصرة تعيش أزمة
وبخاصة في المنطقة العربية ،إال أنه يعبّر عن حالة من ّ المثقفين خيبة األمل فيما آل إليه التلفزيون في نظر كثير من من القرن الماضي ،واعتقدوا أنه سيكون أداة فعّ الة في خدمة
المعرفة والتربية ،ووسيلة لنشر الثقافة وتحرير البشر ،لكنه ّ ّ ويبلد يسطح الوعي سقط في مخالب التجارة والترفيه الذي اإلحساس ،وسقط معه األمل.
إنها الخيبة ذاتها التي جعلت بعض الفالسفة والمفكرين، بل ُ الك ّتاب يرون أن الثقافة ال تجني كثي ًرا من التلفزيون؛ لذلك
نالحظ أن ريجست دو بري ،وجيل دولوز ،وفيليب موراي ،على سبيل التمثيل ،ش ُّنوا هجومً ا كبي ًرا على برنامج «أبوستروف» .
الفرنسي موراي يعتقد أن هذا البرنامج أض َّر فالروائي ّ باألدب أكثر مما نفعه ،وخ َّربه ألنه خدم منطق «النجومية»، ً عوضا من أن ير ّكز في الكتاب ،وحاول ودفع بالكاتب إلى الشهرة
حقيقية ترجعها إلى عملية إضفاء الطابع الجماهيريّ عليها. فجمهرتها َتعْ ني بالضرورة «إعادة إنتاجها ،وتسطيحها،
ً انطالقا من موضوعات عامة تبدو األدبي أن يتط ّرق إلى اإلنتاج ّ
ذات استهالك واسع».
السالم ،واألحذية ،ومنظمة الدول الناطقة باللغة الفرنسية،
وتكيّفها في الصور حتى تصبح مادة قابلة للتسويق؛ أي سلعة وال يمكن تناسي َدوْر التلفزيون في جمهرة الثقافة.
أنها بعيدة من األدب؛ مثل :الشوكوالتة ،وآالم المسيح عليه
والموت ،والطفولة ،وغيرها من الموضوعات.
بالطبع ،إن هذا النقد يعجز عن إخفاء النوايا في محاكمة
التلفزيون ،وتجريم الترفيه ،والتزام التصور النخبويّ للثقافة، وحصر البرامج الثقافية في التلفزيون فيما يسمّ يه المختصون بالثقافة الراسخة والمؤسسة؛ أي الثقافة العالِمة؛ مثل:
الكتاب والمسرح والسينما.
ويربط انحطاط التلفزيون بغياب هذه الثقافة في برامجه، وهذا ما يفضي إلى النقاش العميق الذي عمر طويلاً ،وحاول
اإلجابة عن السؤالين التاليين :ما معنى تلفزيون ذي نوعية جيدة؟ ومن يملك شرعية الحكم على جودة التلفزيون؟ الفرنسي جون أرسي عام وهو النقاش الذي أشار إليه الكاتب ّ 1959م ،عندما أ َّكد أنه «من الخطأ أن نطلب من التلفزيون ًّ ً جافا، خالصا ،وبرنامجً ا إعالم ًّيا أن يقدّ م لنا برنامجً ا ترفيه ًّيا
وبرنامجً ا تربو ّيًا صارمً ا وأبو ّيًا ،بالعكس أعتقد أن البرنامج الترفيهي الجيّد هو الذي يمزج الفئات الثالث؛ أي البرنامج ّ آن واحد». واإلعالمي في الوقت ذاته ،والتربويّ ّ ّ والترفيهي في ٍ
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
أين الثقافة في التلفزيون المعاصر؟
من المحتمل جدًّ ا أن يكون هذا الرأي مقبولاً ،ويحظى بإجماع في الخمسينيات من القرن الماضي ،لكن اليوم تداخلت هذه
الفئات الثالث ،وأضحى من الصعوبة بمكان فصل الترفيه
واإلعالم والتربية عن التسلية.
ثقافة تلفزيونية أم برامج ثقافية؟
الثقافة التلفزيونية والفهم المغاير تختلف نظرة األنثربولوجيين إلى عالقة التلفزيون بالثقافة عن نظرة ُ الك َّتاب والمثقفين النقديين؛ إذ
بين اليأس من مساهمة التلفزيون في خدمة الثقافة؛
َ الثقافة، يرون أن هذه العالقة تتوقف على تعريفنا
أنه ثقافة مثلما يؤ ّكد األنثربولوجيون؛ ّاتجه كثير من الدول إلى
اإلنساني 1870م بالقول« :إنها الحضارة بمعناها ّ ركب ُ الم ّ األوسع؛ أي ذلك ُ الك ِّل ّي الذي يشمل المعرفة
لسماته التي تتعارض مع مفهوم الثقافة حسبما ذهب إليه أنصار الثقافة العالِمة ،والتعامل مع كل ما ّ يبثه على أساس
إنشاء قنوات تلفزيونية متخصصة في الثقافة ،ومن المحتمل أن تكون آخرها قناة روسيا الثقافية ،التي قال عنها رئيس تحرير
مجلة «فن السينما» دانيل دوندوري :إنها بمنزلة مطعم رفيع ً خالفا للقنوات التلفزيونية العامة يقدم وجبات غذائية جيّدة
األخرى ،التي تعدّ شبيهة بمطاعم «ماكدونالدز» التي تتميز بأكالتها االصطناعية غير اللذيذة والمض ّرة بالصحة .لكن هناك
البريطاني دين إدوارد تايلور عرّفها عام فالعالِم ُّ
والمعتقدات والفن واألخالق والقانون واألعراف والقدرات والعادات األخرى ،التي يكتسبها اإلنسان
ً عضوا في المجتمع» .فلو اعتمدنا على هذا بوصفه التعريف ،فالتلفزيون ذاته يتح ّول إلى مؤسسة ثقافية ،وكل ما ينتجه أو ُي ّ قدمه يندرج تحت الثقافة:
برامج الطبخ ،واألزياء ،والرياضة ،والمسابقات،
من يأخذ على القنوات التلفزيونية الثقافية أنها ال تستقطب ً عريضا ،وأن متابعي برامجها محدود جدًّ ا .فمجمل جمهورًا
واألفالم ،والمسلسالت التلفزيونية ،وغيرها؛ لذلك
التلفزيون في روسيا.
عن مساهمة المسلسالت التلفزيونية في إعادة بناء
مشاهدي القناة المذكورة ال يتجاوز % 5من مجمل مشاهدي تنخفض هذه النسبة لدى جمهور القناة الفرنسية -
األلمانية «آرتي» الثقافية ليصل إلى % 3فقط .إنه المأخذ الذي َ الفرنسي «دومنيك ولتن» على القول :إن هذه الباحث حدا َّ
القنوات التلفزيونية الثقافية ال تخدم الثقافة! لقد أ ّكد أن غاية متخصصة في الثقافة ليس محض سدّ ّ وجود قناة تلفزيونية
حاجة أقلية متميزة من الناس إلى الثقافة ،بل يجب أن تعمل على تقريب قطاع واسع من الجمهور من األعمال الثقافية التي بسبُل أخرى ،وجعلها في متناولهً . إذا إن هذه القنوات ال يصلها ُ
نلحظ أن كثيرًا من الدارسين والباحثين َ سعوْا للكشف
الهوية الوطنية ،فالباحثة إميلي سياسكا تعاملت مع المسلسالت األرجنتينية بوصفها مادة ثقافية تسعى
إلعادة صياغة ُه ِويّة األرجنتين .والباحث بتراكيم لويس
كارلوس بيّن في كتابه الموسوم بـ«وسائل اإلعالم
والسلطات والهويات» كيفية مساهمة المسلسالت في تشكيل الهوية البرازيلية.
األسترالي من ويمكن النظر إلى تجربة التلفزيون ّ هذه الزاوية .لقد ّ تبنى هذا البلد نظامين للتلفزيون:
َ الثقافة من أغلبية بعد ،في نظر هذا الباحث، التلفزيونية ُت ِ مشاهدي التلفزيون؛ ألن قليلاً منهم فقط يتابعها.
البريطاني األميركي ،وهو نظام تجاريّ ،والنظام النظام ّ ّ
أي تحرمهم اقتسام ما يشاهده القسم األكبر من المشاهدين
غيرها بخضوعها لشروط الخدمة العامة .فقناة إيه بي
ُ بعد ،في الوقت ذاته ،متابعيها من بقية المشاهدين؛ وت ِ
في القنوات التلفزيونية غير المتخصصة.
الفرنسي فليب موراي الروائي ُّ أضر باألدب أكثر يعتقد أن هذا البرنامج ّ خربه؛ ألنه خدم منطق مما نفعه ،بل ّ «النجومية» ودفع بالكاتب إلى الشهرة عوضا من أن يركز في الكتاب ً
الذي يستند إلى تجربة قناة «بي بي سي» التي تتميّز من
سي ABCاألسترالية وجّ هت مسلسالتها التلفزيونية
في الثمانينيات من القرن الماضي إلى خدمة الذاكرة
الوطني بتاريخ أستراليا. الشعبية ،وتعزيز الشعور ّ ونعتقد أن بعض المسلسالت العربية التي ّ بثت في
ّ تصب في اتجاه تعزيز الذاكرة أكثر من فضائية عربية الجماعية ،وتعضيد الهوية الوطنية.
157
فنون
اإلنترنت وسيلتي للخروج من دائرة العقبات التي تواجه المسرحيين 158 عباس الحايك كاتب مسرحي سعودي
لم تكن بداية المسرح في السعودية متأخرة إذا ما قيست بظهور التجارب األولى على مستوى دول
الخليج وبعض الدول العربية ،فأكثر الروايات التي وردت حول البدايات والتي أرجعت ظهور المسرح
إلى الفكرة التي كانت تراود األديب الراحل أحمد السباعي في تقديم عرض مسرحي في مكة بعنوان «فتح مكة» في عام 1960م ،وهي الفكرة التي لم تظهر للنور رغم المحاوالت الحثيثة من السباعي والتي اصطدمت برفض اجتماعي آنذاك .أو تلك التي أشارت إلى أن البداية كانت في عام 1974م ،يوم عرض
المسرحي إبراهيم حمدان مسرحيته «طبيب بالمشعاب» المعدة عن مسرحية موليير «طبيب رغم أنفه» وعرضها في العاصمة الرياض ،أو ً أيضا تلك الروايات التي حددت البدايات بعام 1972م وهو التاريخ
الذي وصلتنا فيه أول مسرحية موثقة من فرع جمعية الثقافة والفنون باألحساء «العزوبية» تأليف خالد
الحميدي وإخراج حسن العبدي ،ومسرحية «ريتا» تأليف وإخراج حسن العبدي التي انطلقت منها فكرة
جمعية الثقافة والفنون وخرجت رسميًّا للنور في عام 1974م ،فات هذه الروايات الرجوع لوثيقة تؤكد أن المسرح المدرسي كان موجو ًدا قبلها بسنوات وبالتحديد في عام 1928م وهي مسرحية «بين جاهل
ومتعلم» قدمتها المدرسة األهلية بعنيزة والتي أسسها صالح بن صالح أحد رواد التعليم في المملكة.
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
ومع هذا التأكيد على قدم المسرح في المملكة إال أن
أي نشاط مسرحي من دون استجداء الدعم من القطاع
اإلبداعية موازاة مع الحركة المسرحية في دول الخليج رغم
تعطيل العديد من المشاريع المسرحية المهمة ،كجمعية
هذا المسرح كان وال يزال يواجه عقبات تؤخر من مسيرته ما قدمه هذا المسرح من تجارب إبداعية لفتت االنتباه ،لكن ّ تتأت إال من نضال المسرحيين السعوديين هذه التجارب لم أنفسهم؛ من أجل مسرح سكنهم فعشقوه ،فلم يقفوا عند
كل عقبة بل حاولوا تجاوزها ،ولكن العقبات تتراكم وتتكاثر فتضعهم في أزمة وجود. اجتهادات شخصية
هناك عدد من العوامل تظافرت مسؤوليتها على
عدم تطور المسرح السعودي وبقائه في دائرة االجتهادات الشخصية وإن كان بعضها الف ًتا .فالبداية في النظرة االجتماعية
الخاص الذي بدوره ال يبدي حماسة للمسرح .أضف إلى ذلك
المسرحيين ،ومهرجان المسرح السعودي الذي يفصلنا عن
آخر دورة له ثماني سنوات رغم الوعود المتكررة بإقامته.
والعامل األهم ،ويبدو أكثر إثارة للسجال ،هو غياب المرأة
عن المسرح في السعودية سوى عن العروض النسائية البحتة
التي يمثل فيها نساء في حضرة جمهور من النساء ،االفتراق بين جنسين مسرحيين؛ مسرح رجالي وآخر نسائي (ليس بالضرورة نسوي) يضع كتاب المسرح والمخرجين في مواجهة
صعبة مع هذا الغياب .هناك عامل آخر أجده يؤثر سلبًا في المسرح في السعودية وتقع مسؤوليته على المسرحيين أنفسهم ،فمن يطالع أخبار المسرحيين في الصحف أو في
الملتبسة للمسرح ،والفهم الخاطئ لرسالة المسرح وجدواه،
مواقع التواصل االجتماعي ،يجد أنهم يقضون كثي ًرا من
التي أخرت االعتراف بالمسرح كفن يمكن أن يقدم للمجتمع
تضيع عليهم الوقت الكثير الذي يكفيهم ليتفرغوا إلبداعاتهم،
وهو ما جعل بعضهم يقف موقف الضد تجاهه ،هذه النظرة رسائل قيمية وجمالية .وثاني العوامل هو الجهات المنوط
بها دعم ورعاية واحتضان المسرح ،كوزارة الثقافة واإلعالم؛ إذ إنها لم تخصص للمسرح ما يكفي لدعمه معنو ّيًا وماد ًّيا؛
وقتهم في الجدال والسجاالت التي ال تنتهي ،والخالفات التي
فالمسرح يحتاج لتواصل واتصال ،وعالقات وتآلف ،ال عالقات
تتسم باالختالف والصراعات.
معنو ّيًا بالتغطيات اإلعالمية واهتمام التلفزيون مثلاً بالعروض
159
المسرحية والبرامج التي ستساهم في ترسيخ هذا الفن اجتماع ًّيا بين جمهور التلفزيون ،وماديًّا في شح ما تقدمه
الوزارة للمسرح ،فهي لم تقدم البنية التي يمكن أن تخدمه، كالمسارح والقاعات في المدن الكبرى بالمملكة ،ولم تخصص
له موازنات كافية؛ لتسير عجلة المسرح بشكل طبيعي، فالذي ينظر إلى مخصصات لجان المسرح في فروع جمعية
الثقافة ،ويقارنها بمخصصات الفرق المسرحية الشبابية في
دول خليجية مجاورة؛ تتجلى له صورة المأزق الذي يعيشه المسرح السعودي الذي وصل إلى حالة تقشف يعانيها اآلن
كل فروع جمعية الثقافة والفنون التي ال تتمكن من إقامة
الفهم الخاطئ لرسالة المسرح وجدواه جعل بعض الجمهور يقف موقف الضد تجاهه
من مسرحية «زهرة الحكايا» .عمان
فنون
تجاوز العقبات
وعلى المستوى الشخصي ،فأنا ككاتب مسرحي ربما
و«جزيرة األماني» في فلسطين المحتلة وفي عمان ،إضافة
تتشارك فيه المرأة والرجل في حكاية واحدة ،أكتب من دون
العربي « 2001فصول من عذابات الشيخ أحمد» التي قدمت في ً بعضا منها افتتاح مهرجان أيام الشارقة المسرحية ،2003وقدم
حاولت تجاوز تلك العقبات بالكتابة لمسرح مختلط ،مسرح
سقف ،ومن دون حواجز ،ووجدت أن مواقع اإلنترنت وسيلة
سهلة لوصول نصوصي ألكبر عدد من المهتمين بالمسرح؛
لتقرأ نصوصي ،وتنفذ خارج دائرة المسرح السعودي الذي ال أملك فيه من رصيد سوى عرضين مسرحيين «المزبلة
الفاضلة» لماهر الغانم ،و«بارانويا» لياسر الحسن ،وثالث
مسرحيات اجتماعية .بينما نصوصي كلها تقريبًا نفذت في دول عربية وبرؤى إخراجية مختلفة ،فـ«المزبلة الفاضلة»
نفذت أكثر من عشر مرات في دول خليجية وعربية ،بلغتها األصلية وبلهجات محلية؛ مثل :اللهجة العمانية واللهجة
الجزائرية ،كما ترجم لي نص «هجرة النوارس البرية»
وقدم باللغة السريانية شمال العراق ،وقدمت لي مسرحية «المعلقون» في الكويت وعمان ،ونص «الموقوف رقم »80
كثيرا من وقتهم المسرحيون يقضون ً
160
في عمان والجزائر ،و«صبية كان اسمها حنين» في المغرب،
في سجاالت ال تنتهي
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
إلى أول نصوصي التي فزت بها في جائزة الشارقة لإلبداع
ً الحقا في البحرين المخرج عبدالله السعداوي.
اإلنترنت كان وسيلتي للخروج من دائرة العقبات
والصعوبات التي تواجه المسرحيين في السعودية ،فهو
الفضاء الحر والجسر األقرب لخشبات المسرح العربي، فلواله لما وصلت نصوصي ألكثر الدول العربية؛ لتنفذها الفرق المسرحية العربية ،وتكون مشاريع تخرج ومادة إخراج
في معاهد وكليات فنية ومسرحية ،فانتظار مخرج تقنعه
نصوصي لينفذها في المملكة ربما يطول كثي ًرا ،واألسماء التي تنفذ نصوصها صارت معدودة على األصابع ،وصار لكل فرقة كاتبها الذي ال تخرج عن طوع نصه؛ لذا كان لزامً ا
علي أن أبحث عن منفذ جديد لنصوصي المسرحية؛ لتخرج ّ من أدراج المكاتب .وهذا ما أحاول تمريره على ك ّتاب النص المسرحي ،وأطلب منهم أن ينشروا نصوصهم في مواقع
اإلنترنت المسرحية المتخصصة ،فالباحث عن النص يلجأ لهذه المواقع أولاً .
نصوص
مديح الفراغ عماد أبو صالح شاعر مصري
ال أحتاج أشعارًا
على شفاه المرضى
ال كتب فلسفة
في جلوكوز المزهريات
ً خفيفا أريد أن أبقى
على قصص الحب بين َّ عشاق كاذبين
-على األصح-
يا أختي
أكنس رُوحي
مَ ن يذبحك
وال لوحات وال تاريخ
خاويًا
أو
جاهل
ال معرفة في المكتبات هي ّ -حيث ال يتوقع أحد-
وتلفظي آخر أنفاسك
من شهادة الزور
لست مجرد ثمرة أنت ِ ِ أنت ِّ قديسة عائلة الخضروات تمتلئ عيناه بالدموع
رائحتك الناس ال يطيقون ِ
ألنها كريهة كالحقيقة
في غرفة تغذية البطون ،ال العقول
أطبخ وأتأمل
في المطابخ
كل طبخة درس
أين تحديدً ا؟
أحضن بَصلة بحنان بين َك َّف َّي
أقربها من فمي وأكلمها: يا صديقة الخدم يا حرة نفسك
يا أجمل من وردة
البني الفقير ُك ثوب ِ ّ ينقذك من العَ ْرض مقطوعة الرقبة-في الفاترينات
من رميك وسط الجثث في المقابر
من أن ترسمي ابتسامة
كل بَصلة حكمة تقشير البصل
-طبقة وراء طبقة-
يكشف جوهر الوجود :الفراغ
161
فنون
نحات يجري عمليات تجميل لوجوه المدن طالل الطخيس: تعلمت من النحت الصبر والرقة
162
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
هيثم السيد
على الرغم من أن الفن واحد ،فإننا نعرف طاللاً
النحات أكثر من طالل التشكيلي ..هل أنت متصالح مع
صحفي -الرياض
تعد تجربة النحات طالل الطخيس واحدة من أبرز
العالمات الدالة على وجود ظاهرة «الفرد المشروع» في المشهد الفني السعودي ،فالشاب الذي يمارس مهنة
التعليم هو كذلك صاحب تجربة في تجميل الشوارع واألحياء بالمجسمات الفنية ،إضافة إلى أنه يسخر ً وقتا هائلاً لدعم زمالئه الفنانين من خالل جمعية أسسها
ويعمل على تقديمها كمنصة إبداعية بديلة عن العديد
من المؤسسات ،التي يرى أنها لم تخدم حركة الفنون في المملكة بالشكل المطلوب« .الفيصل» التقته
وحاورته حول تجربته وموضوعات أخرى:
فرضية مثل هذه؟
نعم متصالح مع هذه الفرضية ،دافنشي ُعرف رسامً ا معً نحاتا مع أنه برع في أنه برع في النحت ،و مايكل أنغلو ُعرف الفن التشكيلي ،فال مانع أن يكون للفنان عدة تجارب أو عدة
خطوط ينثر فيها إبداعه ولكن مؤكد أنه سوف يميل إلى أحد هذه المجاالت ،لي عدة تجارب تشكيلية وجداريات تشكيلية
وتجارب متعددة على خامات مختلفة في مجال النحت.
وصفت اختيارك لهذا القالب بأنه «البداية من
األصعب »..أخبرنا ما هي دروس تجربة النحت على
ً عموما؟ شخصيتك ،وعلى ثقافتك الفنية
ً خالفا لما -تعلمت من النحت الصبر والرقة في التعامل
يعتقده الكثير ،فأنا أتعامل مع قطعة الحجر كروح موجودة، أتحاور معها بلطف وذكاء لينتهي حوارنا بجمال وإبداع.
ما هي فضاءات اإلبداع المتاحة في هذا النوع من
الفنان السعودي يقع بين سندان التسويق ألعماله ومطرقة مشاغله اليومية والبحث عن لقمة العيش الفن ..ولماذا يبدو األقل قدرة على خلق الدهشة للمتلقي ؟ ً عمقا فهو يعتمد -أعتقد أن متذوق فن النحت هو األكثر
على قراءة اإلحساس بالوجود والكتلة والفراغ وتحريك الجمود باإليماءات ولمسات فنية.
تجاربي في إيطاليا وبريطانيا هل يمكن أن نرى أعمالاً لطالل الطخيس في مجال
التجسيد بشكل عام ،وباستخدام مواد متعددة؟
-لي تجارب مختلفة على عدة خامات نفذتها في إيطاليا
وبريطانيا ،تناولت فيها موضوع التجسيد بشكل مختلف،
ولكن لم تظهر بعد.
لك عمل ميداني تابع لمدينة الدوادمي ..هل أنت
راض عن مستوى توظيف الفن حاليًا في إثراء البعد الجمالي ٍ للمدن؟
-البعد الجمالي للمدن له أثر كبير على المجتمع في
نشر الثقافة والفن وما زال ينقصنا الكثير في هذا المجال؛
بصمة مكة
لذلك نحاول جاهدين أن نكرر هذه التجربة ونطبقها في أغلب
163
فنون
المدن ،وقد تبع تجربة التجميل في الدوادمي تجربة في تجميل جدة ،وفي
ُعمان ،مدينة مسقط.
تعد من أنشط الفنانين على
مستوى المشاركات ،ما هي أبرز الفروق التي تراها بين فعاليات
الفنون الداخلية والخارجية؟
-نعيش في فترة ركود من قبل
المشاركات المدعومة من الجهات المعنية ،وهذا مؤثر على حركة الفن
داخل البالد ،وأوجّ ه دعوة لجميع
الدرعية
الفنانين إلى عدم االعتماد على أي
جهة ،واالعتماد على الذات ،واالطالع على التجارب العالمية،
متذوق فن النحت أكثر عمقً ا ،فهو يعتمد على قراءة اإلحساس بالوجود والكتلة والفراغ وتحريك الجمود
164
باإليماءات ولمسات فنية
والسعي للتطوير وزيادة الثقافة الفنية واالنتشار ،تتميز غالبية
المشاركات الدولية باالحترافية من ناحية مستوى العرض والتسويق واإلعالم واإلعالن ،فكل من يعمل على هذه األمور بالخارج متخصصون في هذا المجال ،ولكن لألسف في
معارضنا الداخلية ال يحضرني أي اسم متخصص في أحد هذه األمور.
الحاجة إلى كليات متخصصة
أنت أحد القائمين على مشروع النادي التشكيلي، ً مطلعا على تجارب شابة عديدة ..من خالل وهذا جعلك هذا االطالع إلى أين يتجه الفن المعاصر في المملكة؟
-لدينا تجارب مميزة ،ولكن ال نستطيع إخفاء حاجتنا
الملحّ ة لكليات متخصصة في مجال الفنون ومتاحف فنية ترتقي بمستوى الفن داخل المملكة.
هل يمكن القول :إن التجربة اإلبداعية للفنان تبقى
ناقصة ما لم يستطع التسويق لنفسه بشكل جيد؟
-يفترض أن يقوم التسويق بالتجربة الفنية عن طريق
الصاالت الفنية والمتاحف ودور المزادات ،ولكن الواقع في ً متفرغا بالدنا عكس ذلك تمامً ا ،يفترض أن يكون الفنان
للعملية اإلبداعية ،ولكن لألسف الفنان يقع بين سندان
نقطة انطالق
التسويق ألعماله ومطرقة مشاغله اليومية ،والبحث عن لقمة العيش للوظيفة ،فذلك من شأنه التشويش على العملية اإلبداعية لدى أي فنان.
أخيرًا ،هل تعتقد أن الفنان السعودي
ينحت في صخر من أجل التعريف بنفسه محليا والوصول عالميا؟
-بالتأكيد ،فنحن نفتقد إلى تلك
المعارض والمناسبات التي تبنى على أسس
عالمية ،وتستطيع أن تلفت أنظار العالم لتجربة
الفن السعودي. العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
نصوص
دائرة وردة قاسمتـُها خوفي ْ علي ألوانها اختلطت َّ
وكنت قبل قد اختلطت لم أستقم ٌ علي وعيتـُه آن ّ ٌ آن وأستلف الكالم ً أقيم منه قصيدة لتماسكي
ْ أصل بعد... لـم َح َوت حيرتي الورد َ َ وتماسكه، ضوءه س َر َقت ُ أغام ُر خوف يزيد يغامرني ثم ال أهل حين ال َ أهل تك ُبر فيك القصيدة وفي الشارع ُ الح ّر تختا ُرهم تـَعودتـَهم َ لست تختا ُر ُحـبـًّا َ تعودت ّ حد التوحش إن لم يكونوا لكن
ُ تغيب عن الوعي حين (يكونوا) ً غشاء عليك ٌ ال َن َف َ ناهض بهم س ٌ ال َن َف َ ناهض دونهم س عودوك على موتهم ٌ غربة ُم َّر ٌة أو فأهل أم ّر أين تتجه اآلن؟ َ كبرت
يحيرك الورد أكثر أكثر ما َ زلت تشكو لغربتك األهل َ تعودت فاحتجت أنت لن تنتهي
هدى الدغفق شاعرة سعودية
براءة والغيم ينظر للنوافذ كانت الجدران نائمة ولطفلة سـتزيح سلطان الفراش راح البياض يهيئ اإلفطا َر َ واألحالم والطرقات ً اتساعا وازداد وجه البياض وتاجه السلطان يهوي َ َح َـل َ الغمام ب ّ وصب أكواب الحليب
165
فنون
الفن المفاهيمي في السعودية
فنانون يخلطون بين الحداثة والمفاهيمية 166
سامي جريدي ناقد وتشكيلي سعودي
عمل للفنان سامي جريدي العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
167 عمل للفنان عبدالناصر غارم
موضعا ً ً قلقا ال يزال الفهم الحقيقي للفن المفاهيمي عند الفنان العربي عامة والفنان السعودي خاصة
لرسم الخطاب ،وهو أمر ال يقتصر خطابه على فهم الزمن الفني بقدر ما هو قلق مصيري .فإذا كان الزمن الفني يرتبط بهوية الفنان ،وذلك من خالل إعادة الفهم الفلسفي لمسألة الوجود اإلنساني فإن إدراك ً باحثا عن هويته الثقافية والبصرية الزمن التاريخي في الفن مسألة مهمة في ذلك؛ أي أن الفنان ال يزال التي تمثل فنه الخاص.
والهوية في الفن من أهم القضايا والموضوعات التي ما زالت تؤرق فنان هذا العصر ،حتى إن بعض الباحثين حاول من خالل ذلك قراءة المتغيرات التي طرأت على األصالة وتاريخ الفنون الحديثة ،ومدى
قابليتها للتبلور الجديد.
والهوية التي يسعى لها الفنان العربي وبخاصة الفنان المفاهيمي هي ذات أفق داخلي ،تحدده طبيعة
العمل الفني الذي يريد الفنان أن يعبّر من خالله عن هويته؛ ألن الهوية في الفن المفاهيمي أخذت
تذوب إلى حد كبير ،والسبب في ذلك يعود إلى تعددية الرؤى التي يوفرها هذا النوع من النصوص البصرية الجديدة ،ويحاول أن يلغيها ً أيضا. ً وصفا أراه جي ًّدا لفهم فنون ما بعد الحداثة تقول :إن «ما بعد لقد وصفت الكاتبة الراحلة مي غصوب
الحداثة أشد انجذا ًبا إلى العبث» ،وفي موضع آخر ربطت مي بين السخرية ومفهوم ما بعد الحداثة في التفسير اللغوي ،وهي بالفعل نقطة مهمة جديرة بالتأمل.
فنون
ً طريقا إلى التعبير الفوضى
فالسخرية والفوضى والعبث هي سمات الفن
عليها في بعض األعمال المتمردة على سياسة األشكال الفنية. كما تهتم المفاهيمية بالصناعات والمنتجات والتطور
المفاهيمي ،يقول أندريه ريستلر« :الجمالية الفوضوية ً انطالقا من مسلمات فلسفة اليوم هي جمالية فنانين ،وهي
التقني والتكنولوجيا الحديثة التي هي رافد فني من مدارس
نتيجة التفكير المستقبلي لدى رواد الفكر الفوضوي الحديث،
الصناعية في أوربا ،فاآللة قتلت اإلنسان ،وجعلته يعاني
اجتماعية مخ ّربة ،»...ويقول ً أيضا« :الجمالية الفوضوية هي
وهي اتجاه جمالي لحساسية فاعلة جديدة .»...ويذكر جان دوفينيو« :أن أكثرية مسائل اإلبداع الفني في المجتمعات
المعاصرة ناتجة عن الفوضوية» ،وكأن الفوضى طريق آخر
إلى التعبير الفني.
فنية أخرى كالدادا والمستقبلية التي هي وليدة للثورة
البطالة ،وسلبته حقوقه كإنسان فاعل في هذه الحياة. فلسفة نهاية المصير
كما يحظى بعض فناني المفاهيمية بالتشاؤم كما يقول
إن خصائص العمل المفاهيمي تتضح من خالل عدد من
فرانسيس فوكوياما« :إن التشاؤم الكبير في عصرنا يرجع جزئيًّا
القبح -حيز الفراغ – العدمية -العكوسية – اإللغاء -العبث -
تلك التوقعات» .وبرز هذا التشاؤم في تجارب بعض الفنانين
المفاهيم المصابة بداء الحياة ،مثل :الفوضى -جماليات
سوء التناسق -الضد -اإلحساس بالضياع – التشظي -هيمنة اآللة – التفتيت ،وهذا ليس دليلاً قاطعً ا على أنها سمات دائمة
أغلب الفنانين السعوديين جاء إلى
168
للفن المفاهيمي بقدر ما تمثله من معايير نستطيع أن نعثر
المفاهيمي من باب فكرة العمل الفن ّ التركيبي والنحت الحديث ،وهو فن
على األقل إلى الصدمة القاسية العائدة إلى الخيبة التي القتها
السعوديين بدءً ا من اختيار الخامة واللون إلى تسمية العمل الفني نفسه ،وعلى سبيل التمثيل :تجربة اللون األسود في
مشروع «السواد األعظم» عند الفنان هاشم سلطان ،وتجربة الظلمة في معرض «عتمة» أليمن يسري ،وكذلك األمر في
فكرة التابوت في عمل «نعي» للفنان حمدان محارب ،وهي في حقيقة أمرها تعبير عن فلسفة الموت ونهاية المصير.
لم تكن هناك نشأة واضحة ومحددة لمفهوم المفاهيمية
لكن كانت هناك محاوالت فنية ،وإشارات فنية دلت على
بمفاهيمي ،األمر الذي حداثي ليس ّ
والدة هذا الفن في السعودية ،علمً ا أن نشأة الفن التشكيلي
وما بعدها ،وبين ما بعد الحداثة
والشام ومصر .وإذا أمعنا النظر في مسألة التحديد التاريخي
جعل أكثرهم يخلط ما بين الحداثة والمفاهيمية أشد االختالط
كانت متأخرة عن غيرها من البلدان العربية المجاورة كالعراق
لنشأة المفاهيمية كفن تجريبي خاض عوالمه الفنان ،نجد أن منتصف التسعينيات الميالدية كانت هي الوالدة الحقيقية
عمل للفنان مهدي الجريبي العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
الفن المفاهيمي في السعودية ..فنانون يخلطون بين الحداثة والمفاهيمية
لهذا الفن المفاهيمي؛ أي في (– 1994 1995م) وذلك على أيدي مجموعة من
الفنانين الشباب ،الذين مارسوا التجريب
الشكلي دون وعي كامل بهذا النوع من الفنون آنذاك.
الخلط ما بين الحداثة والمفاهيمية
كما نجد أن غالبية الفنانين السعوديين
جاءت إلى الفن المفاهيمي من باب فكرة العمل التركيبي والنحت الحديث ،وهو بمفاهيمي ،األمر الذي فن حداثي ليس ّ جعل أكثرهم يخلط ما بين الحداثة وما بعدها ،وبين ما بعد الحداثة والمفاهيمية أشد االختالط ،ومما كان ال يعيه الفنان
عمل للفنان مساعد الحليس
التشكيلي أن العمل الفني قد يكون ما بعد
ّ يمت بصلة إلى المفاهيمية؛ حداثي لكنه ال
ألن المفاهيمية ليست بذلك وإن تقاطعت معها في شرايين
الفهم البصري.
ويذهب أحد الباحثين إلى اإلشادة بفنانين سعوديين
اثنين في الفن المفاهيمي على الرغم من أنه كان من أشد
169
المعارضين لهذا الفن ولفنون ما بعد الحداثة ،يقول هذا الباحث« :وهذا فإن الفنان السعودي ،وإن كان في أسلوبه
يتجه إلى المدارس الفنية المعروفة في العالم ،إال أنه ينفرد
بخصوصية تمسكه بعاداته وتقاليده وبيئته المتميزة في
عمل للفنان صديق واصل
أعماله ،وهناك بعض الفنانين الذين تطرقوا إلى المفاهيمية،
ونجحوا في طرحها ،بدليل فوز هاشم سلطان بالجائزة الكبرى في بينالي بنغالديش الدولي الرابع عشر ،ومحمد الغامدي بالجائزة األولى في بينالي الشارقة الخامس».
المفاهيمي ومما يكشف عن طبيعة تلقي اآلخرين للفن ّ حتى وإن لم يكن الرضا بهذا الشكل الفني الجديد مكتملاً ،
مسألة ترتبط بطبيعة المتلقي السعودي الذي ال يزال يعيش
السخرية والفوضى والعبث هي سمات الفن المفاهيمي ،يقول أندريه ريستلر في كتابه« :الجمالية
صدمة التطور االقتصادي والنهضة الفكرية في ميادين العلم والمعرفة والفن.
ولعل من الفنانين السعوديين المفاهيميين على سبيل
التمثيل ال الحصر :أحمد ماطر ،وبكر شيخون ،ومحمد
حيدر ،وصديق واصل ،ومهدي جريبي ،ومحمد الغامدي، وسامي جريدي ،وعبدالناصر غارم ،وعبدالله إدريس ،وزمان جاسم ،وخالد عريج ،ومساعد الحليس ،وحمدان محارب، وفهد القثامي ،وقسورة حافظ ،ومنال الضويان ،وسعيد
قمحاوي ،وماجد الثبيتي ،ومها ملوح ،وعبدالله العثمان، ومرضي عبدالعزيز ،وعلي مرزوق ،وأشجان السليماني،
وسعود محجوب ،وراشد الشعشعي ،ورامي القثامي،
الفوضوية اليوم هي جمالية فنانين،
وهاشم سلطان ،وهؤالء الفنانون وغيرهم لم يزالوا مستمرين
مخربة»... اجتماعية ّ
المفهوم عبر حقيقته الثقافية المعاصرة التي ال ترضخ لشكل
مسلمات فلسفة انطالقا من وهي ً ّ
في تجربتهم البصرية باختالف ،وهذا االختالف هو منطق فن
بصري واحد وال لرؤية واحدة مستقلة.
فنون
ً محظوظا بسبب بعض األبطال الذين آمنوا به موسيقي أميركي يعد نفسه
محمد فيروز:
ليس من السهل تحقيق النجاح في الموسيقا ..إنها تنافسية إلى حد التحارب
170
نيويورك
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
تتوالى األعمال الموسيقية للفنان اإلماراتي األميركي محمد فيروز (المولود عام 1985م)؛ لتأخذ طابع المشروع الذي لئن تعددت مكوناته وتنوعت مفرداته ،فإنها تنطلق من رؤية شمولية تخترق األعمال
كلها ،رؤية مرتكزاتها األساسية تقوم على التعايش وحوار الحضارات ،فهو يحرص على المزج بين نصوص عربية ،فلسطينية ويهودية مثلاً ،وبين نصوص لشعراء من أنحاء مختلفة من العالم .كما
ً ووفقا لهذا المشروع فإن محمد فيروز ،ليس مجرد يجمع بين المقامات الشرقية والموسيقا الغربية. موسيقي إنما ً أيضا حامل رسالة إلى العالم .من أعماله :سادات .صالة إلى العالم الجديد .عالم أحببت .الشام .أغنية ألمانية رومانسية .زابور ،غابرييل .منابع الضوء .دبكة هندستانية .أي شيء يمكن
أن يحدث .بوش .جبل لبنان .تحرير .للضحايا .وأصدر مجموعته األولى «فولو ،بويت» المستوحاة من أبرز شعراء القرن العشرين ،وقد أصبح مع هذه المجموعة أصغر مؤلف تصدر له عالمة «دوتش
غراموفون» العريقة ،مجموعة كاملة .وهو يعمل حاليًا على وضع الموسيقا لملحمة أوبرالية مشتقة
من كتاب «األمير» لمكيافيلي أعد نصوصها الكاتب والصحافي األميركي ديفيد أغناتيوس ،وستقدم األوبرا تحت عنوان «األمير الجديد»« .الفيصل» حاورته حول مشروعه الموسيقي وعدد من القضايا:
ً تحديدا؟ ما الذي جعلك تختار الموسيقا
-مدخلي األول إلى الموسيقا كان عبر القراءة ،أتذكر صغي ًرا
عال كتابًا لألطفال ،ثم جلوسي في حضن والدتي ،أقرأ بصوت ٍ
171
حانت لحظة كانت فيها إحدى شخصيات الكتاب تغني ،وبشكل
طبيعي نظرت إلى الكلمات على الصفحة وبدأت أغني ..والدتي
تعجبت من هذه النغمة الجديدة التي أنشأتها وسألتني« :من أين جئت بهذه النغمة؟». لاً أشرت إلى النص على الصفحة قائ « :إنه هنا» .طبعً ا في
سني ذاك تخيلت أن جميع من يقرأ هذه الكلمات سيسمع
النغمة نفسها التي كنت أغنيها ،لكنني كنت أصنع موسيقاي.
إلى جانب كونك موسيقيًّا تبدو ً أيضا صاحب رسالة
عالمية تحرص على إيصالها؛ فما هي رسالتك؟
يبدو في عملك محاولة لتعزيز التبادل الثقافي والحوار
-عندما يقرر أي شخص أن يكرس حياته لتأليف الموسيقا،
بين الحضارات من خالل الموسيقا ،وذلك عبر المزج بين
المخططات المعمارية لبناء مسجد عظيم أو تخطيط مدينة؛
أنك ستستطيع أن تغير الصورة النمطية في الغرب عن العرب
أو كتابة الروايات ،أو المقاالت ،أو تعليم األطفال ،أو تصميم
موسيقا من الثقافة اإلسالمية والثقافات األخرى ،هل تعتقد
والمسلمين؟
عندما يقرر أي شخص فعل ذلك أو سواه؛ فهو يرسل رسالة واضحة :نحن نك ّرس حياتنا للبناء بدلاً من الدمار ،هذه حقيقة
-أتذكر كلمة الراحل األمير سعود الفيصل حين قال:
البصريات ،أو ابن رشد في دراسة التاريخ ،أو إسهامات أبي نواس
متناقض ،الحضارات ليست سلعً ا متنافسة في السوق ،بل
سواء فكرنا بإسهامات الكندي في الموسيقا ،أو ابن الهيثم في
الشعرية ..والقائمة تطول .هؤالء جميعً ا قالوا :إنهم راغبون في التنوع اإلنساني وليس بتدمير اإلنسانية ،هذه هي الرسالة ،وهي
ليست كافية للقول :إننا ملتزمون بالسالم والبناء ،بل يجب أن
نعمل بجد إلنشاء بنية ملموسة لعمل يسهم في الحضارة.
«أعتقد باستحالة وجود صراع حضارات بيننا؛ ألن هذا تعبير نتاج الجهد الجماعي للعبقرية البشرية بمساهمات متراكمة من ثقافات متعددة».
لقد كان معه حق ،وفي الحقيقة إن اإلنسانية اليوم في
صراع من أجل الحضارة وليس بين الحضارات ،الصدام يظهر
فنون
حين ال يفهم الناس بعضهم ً بعضا ،ويصبح الواحد منهم يخاف
اآلخر ،إنه ليس أم ًرا يسي ًرا أو لحظيًّا ،لكن كل الصور النمطية
-أعتقد أن حرية التعبير قد أسيء استخدامها تمامً ا كما
المحبة .المعرفة هي البداية ،فلنتذكر هذه اآلية القرآنية( :يَا اس إِ َّنا َخ َل ْق َنا ُكم مِّ ن َذ َك ٍر وَأُ َ نثى وَجَ عَ ْل َنا ُكمْ ُشعُ وبًا و ََقبَائ َِل أَ ُّيهَا ال َّن ُ ِل َتعَ ار َُفوا) (الحجرات.)13 :
أفكارهم ،لكني أصر على أن تكون هذه األفكار مثقفة ومصقولة، وأنا أقف بحماس مع االحترام ،فحرية التعبير ليست ً إذنا
يمكن تغييرها عبر تعرف الناس إلى بعضهم البعض ،ومن خالل
تعاملت في موسيقاك مع نصوص شعرية لشعراء
أسيء استخدام األسلحة ،أنا أقف مع حق الناس في التعبير عن
الستعمال لغة مدمرة أثبتت أنها خطيرة على نسيج المجتمع الواحد.
في اإلمارات العربية المتحدة على سبيل المثال؛
فلسطينيين وعرب ،إضافة إلى شعراء يهود وغربيين؛ ما
نحن سيطرنا على وجهات النظر المتطرفة ،ومنعناها من
-الحقيقة أننا عشنا مع اليهود آلالف السنين بدون أي
فنتائج الخطاب المتطرف كانت تخرب العالم ،سواء بتدمير
العصور المظلمة في أوربا ،لقد تشاركنا الموسيقا والثقافة
الغربية األخرى ستحسن صنعً ا لو أنها احتوت الخطاب المتطرف
هدفك من هذا الجمع؟
مشكالت ،لعلك تتذكر أننا نحن العرب كنا حماة لهم في والقصص بكل األشكال وبكامل الحرية بدون مشكالت ،القضية التي آمل معالجتها عبر الدبلوماسية الفنية هي الصراع الحالي
مع إسرائيل .فعلى الرغم من أهمية التقاء الناس في مناسبات غير سياسية لمشاركة الشعر والموسيقا والثقافة؛ إال أني
أقول :إن الدبلوماسية الفنية غير كافية ،أتمنى أن تقبل إسرائيل مبادرة السالم العربية التي أطلقها الراحل الملك عبدالله،
172
حدثنا عن هذا الموضوع.
وكما قلت من قبل :نحن عشنا مع اليهود لقرون كثيرة بدون مشكالت ،واليوم هناك حل ناجع للنزاع مع إسرائيل ،لكننا
نحتاج من اإلسرائيليين أن ينصتوا لمخاوفنا ،فال يمكن أن نرى
الفلسطينيين يعيشون بالطريقة التي يعيشونها اآلن .نحتاج إلى السالم.
كيف تنظر إلى من يتعصب للموسيقا الكالسيكية،
ويرفض التجديد واالنفتاح على الموسيقا العالمية؟
-أراهم كما أرى أي مجموعة أخرى من الناس المنغلقين،
إن مقاومة االنفتاح على العالم ،هي أمر خطير ومضر ،وفي
النهاية رتيب ،وغير مثير لالهتمام .
أنت مع حرية التعبير ،كما أنك ضد األعمال اإلرهابية،
الحصول على المنابر السياسية والدينية ،وذلك لسبب وجيه المجتمعات ،أو حياة اإلنسان الفردية .الواليات المتحدة واألمم الخطير ،ولم تخلطه مع الحرية .فحرية التعبير هي فكرة عظيمة ما دام الناس يطورون أفكارهم ،ويمارسون االحترام قبل فتح أفواههم.
بصفتك موسيقيًّا أميركيًّا من أصول عربية؛ هل كان من
السهل عليك الوصول إلى العالم وتحقيق كل هذا النجاح؟
أعتقد أنه ليس من السهل ألي أحد أن يحقق النجاح فيً وأحيانا تصل إلى مهنة الموسيقا .إنها تنافسية بشكل مذهل، ً محظوظا جدًّ ا؛ لكوني حصلت على حد التحارب .أعد نفسي
أساس متين من الدعم وبعض األبطال الرائعين الذين آمنوا بي .لقد وصلت لهذه المرحلة ليس فقط عبر الموهبة والعمل الشاق؛ بل ً أيضا عبر اللطف الرائع ،ووقوف عدد من الناس العظماء معي .لهذا كله أنا ممتن جدًّ ا.
هل تعتقد أنك نجحت في تغيير الصورة النمطية عن
العرب والمسلمين؟
أرجو أن أكون على الطريق الصحيح ،وإن بخطواتً سابقا :المعرفة هي البداية ،ورهاني دائمً ا صغيرة ،وكما قلت على مشاركة هذه المعرفة ،ودعوة الناس لالطالع على ثقافتنا،
سواء تعلقت بأشخاص أو بمؤسسات إعالمية أو غيرها..
وفي الوقت نفسه االستماع لهم ،والتعامل مع ثقافتهم .وإذا
عشنا مع اليهود آلالف السنين بدون
أكثر فصاحة حول طريقتنا في الحياة ،نحن شعب محافظ، وهذا ليس شي ًئا سي ًئا ،ولكننا ً أيضا أناس معروفون بالكرم متى
العرب كنا حماة لهم في العصور
ننجح في كسب قلوب الناس في الغرب وعقولهم .معظمهم
أي مشكالت ،لعلك تتذكر أننا نحن المظلمة في أوربا
كان هناك من نقد بناء لنا في الخليج؛ فهو أنه يجب أن نكون
دخل اآلخرون قلوبنا ومجتمعاتنا .إذا أوضحنا هذا كثي ًرا فسوف
ال يكرهنا لكنهم ببساطة ال يعرفوننا .المعرفة هي أفضل سالح للتغلب على الخوف .وفي النهاية أعتقد أننا جميعً ا نكتشف
وجود كمّ كبير من القواسم المشتركة بيننا. العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
نصوص
معطلة بئر ّ
عبدالرحمن بن إبراهيم العتل
أتذك ُر كيف استفاق الدجى
َ ْ املرسلة؟ أشواقنا ُيلمل ُِم
وين ُ القلوب اف رث فوق َش َغ ِ ِ
رانيم من أغنيات َ َ الو َل ْه َت
ُ ُ قلتيه املنى شعل من ُم فن ِ
الليل ما أَ َ ُ ُ جمله! فينتفض
َ ُ أحالمها ويسكب يف الرُّوح
و َيروي
اآل ِف ْ لة
عطاىش من الفرْح ّ حد البكاء
ومن وجع الحزن ما ْ أث َ قله! ِ ِ
هجري الطريق َتلوحُ لنا يف ِ
وس َط املدى ُمقب ْ ُ لة قوافل ْ ِ
َ الورَى ورائدها من ُتراب
ثق ْ ُخطاه بما انتعلت ُم َ لة
َ َت ُ انتجاع اللقاءِ القريب روم
َمتد أين وما أَ َ في ُّ طول ْه!
َ ُّ نني نعب من ِ البرئ ماءَ األ ِ
ْ ْ جلجلة الدل ُو يف فيَنكس ُر
َ َّ ٌ زيز الحياة ُمعطلة من أ ِ
َ نزله وال ث َّم قص ٌر ترى َم ِ
وَحْ ٌ شة
صدره قاحِ ْ لة أناخت عىل ْ ِ
فضاءٌ ويف ط ِّيه
أمانيَنا
النجوم التي ونحن انتشاء ِ
َتناءت ولمَ َّا َت َز ْل
ِّ حد ما نشتهي َه ِوينا إىل
سارَى بال َمأْ َم ْ ُ وع ْدنا َك َ لة
َ ونذك ُر كيف استفاق ُّ الدجى
موت أشوا ِقنا الراحِ ْ لة عىل ِ
ُم ْش َع ْ لة
شاعر سعودي
173
سينما
174
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
فيكتوريا هزيمة الفرد في المدينة الكبيرة هاني حجاج سينمائي مصري
ً أحيانا، ما الذي يدفع أحدهم إلى خوض تجربة التمثيل الصعبة ،بل المريرة حتمي؟ السؤال يجيب عنه الممثل الكبير أنتوني وتعريض حالته النفسية الضطراب ّ ّ النص عالقة تبدو غريبة األطوار، هوبكنز؛ إذ يقول« :كثيرًا ما تنشأ بيني وبين كاتب ٌّ ّ الشد والجذب ،والمنفعة المتبادلة ،فكل منا يستفيد من اآلخر ،ويا فيها كثير من حبذا لو كانت هذه العالقة متوترة بعض الشيء ،وهذا جزء من مسبّبات التجاذب بين الطرفين» .صحيح أن التمثيل هو األقرب من التواصل مع الناس ،لكن أحدهم لم يسأل الممثل عن نفسه وهو يمثل.
175
سينما
فيلم «فيكتوريا» الذي صور في ،2015يثير مثل هذه
في قصة بوليسية :فيلم (ضربة شمس) ،وشوارع العشوائيات
األلماني بجائزة لجنة التحكيم نوعها .فاز فيلم Victoria ّ الخاصة في مهرجان برلين 2015م؛ لتف ُّرده في عملية اإلنجاز
يؤمن بأن ثقافة الشاشة قد أصبحت وسيلة سائدة للتعبير الفني ،وإذا كنت تعتزم أن تصبح ً فنانا عاملاً في عالم اليوم، ّ فإن عليك أن تصارع مع هذا على مستوى من المستويات.
األسئلة ،وهو يحاول البحث عن إجابة في تجربة فريدة من
البصريّ المتقن ،وعنصر التجريب الالفت المُ ستخدم بعناية؛
إذ إن 138دقيقة هي مدة عرض الفيلم تحوَّلت إلى لقطة
ينتقل في لقطة واحدة طويلة من مالمح البؤس على وجه
ينتقل بكاميراه إلى عالم المهمشين الذين ال صوت لهم،
لمرقص ،تحاول أن تستعيد فيه رُوح الشباب وبعض المرح،
واحدة متصلة من دون انقطاع .المخرج سيباستيان شيبر
ورأيهم ذائب في المجموع ،وينقل صورة األفراد وما يرتبط
فيكتوريا وهي تشعر بالغربة والحنين إلى التفاصيل الصاخبة ثم تخرج منه إلى شوارع المدينة الواسعة الطاحنة؛ لتفتح
بها من تقدير وتحقيق الذات ،وما يمكن أن يسهم فيه كل شخص وَحْ دَ ه؛ كي يشعر بقيمته في المجتمع ،ومعه َتتجدَّ ُد
نراها بعين المخرج الذي ترك لها حرية (تقمُّ ص)
إسبانية جاءت إلى برلين للعمل ،وحيدة تدير مقهى ما ،من
ترك لها ولألبطال األربعة اآلخرين ترجمة كل ما يعبّر عنه سيناريو الفيلم المكتوب في اثنتي َع ْش َ ً صفحة فقط( ،كتبت رة
الطموحات واآلمال ،فيغيب عن معاناته النفسية ولو دقيقة، ً الحقا .فيكتوريا (الممثلة لوال كوستا) فتاة وإن شعر بها دون أصدقاء أو مواهب خاصة أو أي شيء متميّز ،نموذج
لنقيض البطل ( ،)Anti-Heroوسرعان ما نرى بقية أبطال الفيلم بالكيفية نفسها؛ أشخاص عاديون ال يرمزون إلى أي
شيء ،وال يمكن إسقاط أي قيمة عليهم ،لكنهم موجودون
بكثرة .إنهم بيننا .إنهم أنا وأنت.
176
والمهمشين في قصة رجل واحد ضائع :فيلم (الحريف) .شيبر
لقطة واحدة طويلة
أبواب المقهى الذي تعمل فيه.
الشخصية بتفاصيلها كاملة؛ وهذا رافد جديد لتجربته ،لقد
القصة مع المخرج :أوليفيا نيرجارد هولم) تسأل نفسها :ماذا تريد؟ كيف يتجاوب عقلها الباطن مع عالمات الوَحْ دَ ة والشعور
بالفراغ؟ نرى على الشاشة المكان الفسيح ،تسكنه المقاعد من دون ُروَّاد ،والشوارع مفتوحة قبيل الفجر من دون مارّة،
نرى الذي يقف هناك وحيدً ا (مسمّ ًرا) كأنه عمود نور .ويظهر أن ثمة (مقتربًا مفاهيميًّا) يبدو أنه ّ مبشر وواعد أكثر من السابق في تجارب التصوير في الشوارع المفتوحة الفعلية ،ارتكز على
خرج سيباستيان شيبر من البالتوهات الجاهزة
القياس بالثورة الرقمية (اإلنتاج لشركة مونكي بوي ،ودوتش فيلم ،وراديكال ميديا) ،لكن من الواضح أنه يلقى إغفالاً من
المصريُّ محمد خان بآلة التصوير إلى شوارع القاهرة الكبرى
ّ النص إلى مشهد ،وسلطة بالتقنيات الرقمية؛ مثل :ترجمة
واالستوديوهات الملفقة إلى الشارع ،انتقل من مقهى ،إلى صحُ ف ،إلى سوبر ماركت ،كما انتقل من ُ بائع ُ قبل المخرج
النقاد في عالم السينما ،ربما لعوامل أخرى ال تتعلق مباشرة
لقطة من الفلم
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
فيكتوريا هزيمة الفرد في المدينة الكبيرة
ينتقل المخرج في لقطة واحدة طويلة من مالمح البؤس على وجه فيكتوريا وهي تشعر بالغربة والحنين إلى التفاصيل الصاخبة لمرقص المقهى اإلخراج ..إلى غير ذلك .ومن َثمَّ فقد تهدّ د هذا المقترب
باإلخفاق في لفت االنتباه وإثارة مشاعر الثورة التي شعر بها المراقبون للتغيرات في دراسة السينما بصريًّا في التسعينيات.
بوكسر قد سُ جن من ُ قبل ،والتصرفات العفوية كلها كانت تخفي وراءها كثي ًرا من العلل. تتذ ّكر معهم معاناتها عزف البيانو والحلم المجهض؛
بسبب غيرة زميالتها في المعهد ،لقد راقتنا البساطة
التلقائي .وأحببنا الحوار الكاشف والغياب الكامل والتمثيل ّ ّ للنص (التحتي) وللمهمات المعروفة .يتورّط األصدقاء
في سرقة ،وتقود فيكتوريا السيارة ،هذا الملمح يُعيد إلى
األذهان المأساة التي ينتهي بها فيلم (ثرثرة فوق النيل)؛
الفراغ والقنوط والعبث الذي يدفع إلى الجريمة دفعً ا. والشرطة لهم بالمرصاد ،تصيب اثنين منهم ،وتهرب هي وسوني إلى بناية للهروب إلى مغامرة جديدة.
تنتقل الكاميرا المحمولة الواحدة كأنها فقرة متصلة
كل هذا في لقطة واحدة طويلة بمنزلة رحلة مشاعر تجعلك توتر ُّ في حالة ُّ وترقب طوال الوقت ،وال يعمد المخرج إلى مؤثرات
الذين يدخلون عالمها ،تصعد معهم وتهبط ،إنهم أربعة من
أو تنظيف الساحات (كان مدير التصوير المصريّ طارق التلمساني
فيكتوريا ..والذين يدخلون عالمها
في رواية يجب أن تكون كاملة المعنى ،بين فيكتوريا وبين
الشباب األلمان :يتع َّرف إليها سوني (الممثل فريدريك الو)، الذي بوساطته َتتع َّرف إلى بقية األصدقاء :بوكسر الضخم، وفوسي الصاخب ،وبلينكر المرح .وثمة دعوة إلى قضاء ليلة واحدة من القلب ،أشبه باليوم الذي قضاه البطل مع البطلة
في (إجازة في روما) أو في نسخته العربية (يوم من عمري). هذه ليلة واحدة في المدينة الكبيرة التي تضمّ الجميع ،تسير
معهم بدرّاجتها الهوائية ،أما سوني فينطلق في ادعاءات
صبيانية كاذبة تثير ضحكاتها ،والليلة التي بدأت بالمرح ّ الظل تدخل في منحنى بعض االضطرابات ،وتعرف أن وخفة
خاصة تفصل المشاهد عن الواقع؛ مثل :المكياج المبالغ فيه،
يغسل األشجار في الطريق قبل العمل؛ كي تعود إلى حالتها الم ُْغ َب َّرة بغبار المدينة) ،أو أمطار صناعية .آالت التصوير تقترب
وتبتعد من زوايا وجهات نظر مستحيلة لشخصيات حقيقية الس ْرد ي َّ َتدفق في تيار واحد ،ال يتكلمون كاإلنسان بالكامل؛ َّ
اآللي ،وال يسقطون لفافات التبغ ،إنهم يسرقون ليعيشوا ليلة ّ ً ً لطيفة سهرة ظريفة فحسب ،تنتهي بالدم والمطاردة .ما بدأ انتهى بخسارة إخوتها األربعة الجُ دد ،بهمسات وحسرات على
أسطح إحدى البنايات ،أما فيكتوريا التي يشير اسمها إلى االنتصار يتضح أنها مثال لهزيمة كل فرد في المدينة الكبيرة.
177
زمان الفيصل
178
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
179
زمان الفيصل
180
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
181
مقال
رسالة سعود الفيصل األخيرة
ماجد الحجيالن رئيس التحرير
182
اليوم أستعيد هذا الموقف ،وأعرف كيف رسم سعود الفيصل المبادرة ،وأشرف على تفاصيلها ،وكيف تجاوزت نظرته البعيدة ردود الفعل اآلنية إلى النتائج
70يومً ا فصلت بين طلب األمير سعود الفيصل إعفاءه من وزارة الخارجية ً إعالنا رام ًزا عن هذا االرتباط الوثيق بين ووفاته رحمه الله ،مدة وجيزة كانت العمر والعمل ،بين حياته الشخصية ومكتبه في وزارة الخارجية ،بين معاناته وطائرته التي كانت أبدً ا في وضع االستعداد ،كأنما وهب نفسه لهذه المهمة ما عاش ،فلما انتهت المهمة أسلم الروح لبارئها .أربعون عامً ا قضاها في الطائرات واالجتماعات والمفاوضات ،كان يؤجل الراحة ويؤخر العالج حتى تعالج القضايا وتنتهي الملفات ،غير أن هذه الملفات والقضايا ما لبثت تتناسل بما تنوء به أكتاف ٍّ بتحد، رجل واحد كان في همّ ة أمّ ة .تعامل مع المرض واأللم في السنوات األخيرة فكأنما كان يسخر من أوجاع لن تستطيع تثبيط عزيمته .أتذكره في السنين األخيرة يم ّر أمام الصحافيين ويلوح بعصاه :من يسابقني؟ وأعرف ممن دوّنوا ذكرياته عناده لنصائح األطباء ووصايا المحبين بالراحة ،أتذكر كلماته البليغة وعباراته المصقولة عن قضايا العرب ،وهو يعالج عشرات األزمات ويتناسى عامدً ا أن للجسد طاقة ،وأن الحمل الكبير سيكون له أثره على قامة سامقة وعقل متوقد وبالغة لم تؤت ألحد في جيله من السياسيين ..وهنا أشارك من كتب عن الراحل الكبير بعض مواقف عشتها صحافيًّا أالحق األخبار. في مايو 2011م كان وفد دبلوماسي خليجي في صنعاء ينتظر في السفارة اإلماراتية أن يقبل علي عبدالله صالح توقيع المبادرة الخليجية بعد أن ّ وقعتها المعارضة ،تجمّ ع حول السفارة مسلحون ليحاصروها ،وكان الموقف يتصاعد ويزداد خطورة بمرور الوقت ..في هذه األثناء كان المجلس الوزاري الخليجي منعقدً ا في قاعدة الرياض الجوية ينتظر عودة الوفد الخليجي بقيادة األمين العام لمجلس التعاون ومعه المبادرة موقعة من الطرفين ..وكنا مجموعة من الصحافيين خارج قاعة االجتماع نتابع األخبار ونجري االتصاالت .حين بلغ الصحافيين والدبلوماسيين خارج القاعة نبأ احتجاز الوفد الدبلوماسي الخليجي ومعه عدد من السفراء الغربيين ،ووجود مسلحين بالمئات يهددون سالمة الوسطاء؛ اشتعلت التكهنات حول كيفية الرد الخليجي على هذا التصرف من الرئيس اليمني السابق الذي كان قد زعم موافقته على المبادرة واستعداده للتوقيع ،ثم أخلف وعده .حينها سألت دبلوماسيًّا خليجيًّا مطلعً ا :ماذا تتوقع أن تكون ردة الفعل؟ هل سترد دول الخليج بقوة؟ تسحب المبادرة؟ تذهب لمجلس األمن؟ تتحرك عسكريًّا؟ وكنت أعلم أن هناك دولاً خليجية راغبة في ردع الرئيس اليمني والرد على هذا التصعيد ..قال لي« :ما دام سعود الفيصل في هذا المجلس فال تتوقع رد فعل غير دبلوماسي ..سيكون الرد مدروسً ا؛ ْ ثق بذلك» .وفعلاً عاد الوفد الخليجي بعد انتظار ست ساعات تقريبًا دون توقيع المبادرة الخليجية، وأعلن المجلس حينها «تعليق المبادرة» لحين التزام األطراف كافة بها ..كان هذا ً هادئا ،وال يمثل ردًّا موجعً ا على الرئيس اإلعالن من وجهة نظر إعالميين حينها اليمني السابق ..بعد أقل من خمسة أشهر على هذه الحادثة كان علي عبدالله صالح في الرياض ّ يوقع المبادرة الخليجية ويتنازل عن السلطة ،وأيًّا كان ما جرى بعد هذا التاريخ؛ فإن المبادرة الخليجية ظلت حتى اليوم هي مرجعية األطراف اليمنية كافة ،وتحظى باعتراف الشرق والغرب. اليوم أستعيد هذا الموقف ،وأعرف كيف رسم سعود الفيصل المبادرة، وأشرف على تفاصيلها ،وكيف تجاوزت نظرته البعيدة ردود الفعل اآلنية إلى النتائج ،كان يمكن للمجلس الوزاري حينها أن يعلن مواقف قاسية ،ويخرج
العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م
بعناوين عريضة تشفي صدور المتحمسين ،لكنه ّ فضل تجاوز الموقف ليصل للغاية، وهي تجنيب اليمن حربًا أهلية كانت على وشك االندالع حينها ،وأعرف أن الفضل األكبر في ذلك يعود إلى حكمة سعود الفيصل ،وبعد نظره ،وحصافته ،وسيسجل التاريخ يومً ا أن الفيصل كان المهندس الحقيقي لالنتقال السياسي في اليمن ،وأن الذين غدروا بالعملية السياسية –يا للمفارقة! -ما زالوا يرون المبادرة مرجعيتهم األولى إلنهاء األزمة. بعد ذلك بقرابة العام ،وتحديدً ا في مارس 2012م ،جاءت هيالري كلينتون وزيرة الخارجية األميركية إلى الرياض؛ لحضور الحوار اإلستراتيجي بين دول الخليج ً عرضا مرئيًّا لوزراء الخارجية والواليات المتحدة ،وكان معها طاقم عسكري قدّ م حول نظام دفاع صاروخي باليستي تقترحه الواليات المتحدة على دول الخليج ،وفي المؤتمر الصحافي سأل صحافي األمير سعود الفيصل وهيالري كلينتون عن هذا النظام الصاروخي وفاعليته ،وموقف دول الخليج منه ،ما زلت أذكر كيف راحت كلينتون تحاول جاهدة شرح النظام الصاروخي ،وتأثير انحناء األرض ،وأنماط الرياح على أنظمة الرادار والتحكم! سردت كلينتون ما سمع ْته من العسكريين بشكل مرتبك.. وكان الفيصل يرقب ما تقوله الوزيرة ،حتى إذا انتهت من اإلجابة ابتسم وقال بإنجليزية رفيعة« :زمالؤنا األميركيون يحبون الحديث في الشؤون العسكرية ،ويمكنكم أن تروا كيف أن دبلوماسيتنا لم تتطور بنفس سرعة الدبلوماسية األميركية ،فهم يستطيعون اآلن الحديث بلغة عسكرية بينما ال نستطيع ذلك .سنستعين بخبراء!». ً الذعا ومحمّ لاً بالدالالت ،والرسالة السياسية وراءه أن الحوار كان الجواب اإلستراتيجي الذي يريده الخليج مع الواليات المتحدة يتعلق بمواقف سياسية كمفاوضاتها السرية مع إيران ،وأهمية المساعدة في حل المعضلة السورية ،ولم يكن الخليج آنذاك مشغولاً بصفقات ّ تسلح ،فضلاً عن أن المجلس الوزاري لم يكن مفو ً ّضا ً متخصصا في شراء أنظمة صاروخية ،بل كان ذلك تخصص وزارات الدفاع .لقد وال كان حضور سعود الفيصل الذهني في المؤتمرات الصحافية مثي ًرا لإلعجاب ،ولم تكن األسئلة والمواقف السياسية المختلفة تبعده من أهدافه المباشرة. ولم يشأ الفيصل أن يرحل من دون أن يدوّن كلمات أخيرة في سجله الحافل، فقبل ثالثة أشهر من وفاته وفي الجلسة الختامية لمؤتمر القمة العربية في شرم الشيخ نهاية مارس 2015م؛ ألقى كلمة حاسمة ردًّا على رسالة الرئيس الروسي للقمّ ة العربية، طلب الفيصل الكلمة ليرد مفصلاً رأيه في الموقف الروسي من األحداث في سوريا، ووجوب أن تكون العالقة بين الدول العربية وروسيا ندّية ،وقائمة على مراعاة مصالح الطرفين ،وهنا أتذكر شهادة الدكتور يوسف السعدون أنه والوفد المرافق دهشوا لهذه الكلمة رغم أن األلم كان قد ّ تمكن من الراحل بحيث ال يسمعون ما يقول قبيل الكلمة بدقائق ،فيما جاءت الكلمة مثالية في قوتها ودبلوماسيتها ،وتناسب مدرسة سعود الفيصل في الدقة والبالغة. وكأنما كانت هذه الكلمة رسالته البليغة األخيرة ألمته العربية ،كان واجبه يناديه، وكان استقبال كلمة الرئيس الروسي بال تعليق أم ًرا غير مناسب للقمة وللعرب ..تحامل على ألمه وارتجل خمس دقائق يمكن وصفها بالنادرة في القمم العربية ،كانت ،على قوتها ،تحتفظ ّ بحق روسيا في حماية مصالحها ،وعلى عنايته بالكلمات؛ فقد أوصل رسالة ناقدة ،أثارت وسائل اإلعالم ،واحتلت عناوين الصحف والوكاالت ،بما يليق بمكانة سعود الفيصل وتاريخه وثقة السياسيين برجاحه رأيه. رحم الله سعود الفيصل ،كان أمّ ة في رجل ،وسيظل مكانه شاغ ًرا في القلوب والعقول التي عرفته وأحبته.
www.alfaisalmag.com مدير التحرير
أحمد زين
اإلخراج
ينال إسحق التنفيذ
رياض دفدوف مبارك علي الموقع اإللكتروني
معتز عبدالماجد
المراجعة اللغوية
محمد نصير سيد مراسالت التحرير واإلدارة
ص.ب ( )3الرياض 11411 المملكةالعربيةالسعودية هاتف )+966( 11٤٦٥3027 : )+966( 11٤٦٥٢٢٥٥ فاكس)+966( 11٤٦٤٧٨٥١ : contact@alfaisalmag.com
اإلعالنات هاتف .11٤٦٥٢٢٥٥ :ـ فاكس.11٤٦٤٧٨٥١ : advertising@alfaisalmag.com االشتراكات والتوزيع
.11٤٦٥٢٢٥٥تحويلة6640 : subscriptions@alfaisalmag.com
مقال
الصحافة الورقية وموت السياسة يمكن القول :إن عهد الصحافة الورقية موشك عندنا ،كما في بقية
العالم ،على الغياب .وفيما يخصنا فإن الصحافة اإللكترونية غير مجهزة ّ ّ محلها .إذا كانت المسألة بالدرجة األولى مسألة تمويل .والحال أن لتحل الصحافة اإللكترونية غير قادرة على أن تفعل شي ًئا في هذا السبيل .إنها
تقلل الخسارة لكنها ال تحول دونها .إذا كانت الصحافة الورقية خاسرة
بمعنى أن عائدها ال يساوي كلفتها ونفقاتها ،فإن الصحافة اإللكترونية
عباس بيضون شاعر وكاتب لبناني
خاسرة من حيث المبدأ على اإلطالق؛ ذلك ألنها مجانية وال تباع في بالدنا وال تتلقى نسبة كافية من اإلعالنات ألسباب تحتاج إلى تمحيص.
الحال ليست كذلك في الغرب .صحيفة اللوموند ،مثلاً ،ال تنشر في
طبعتها اإللكترونية كل محتوياتها بل تجتزئ من المقال جانبًا ،وتوصي من
يريد إكماله بشراء العدد كله.
ما يمكن قوله :إن الصحافة الورقية في الغرب أكملت طورها الورقي،
184
وتستعد لالنتقال إلى الطور اإللكتروني ،والشروط لذلك موفورة ،والسبل
مفتوحة.
ليست الحال هكذا عندنا .الصحافة الورقية لم تكمل طورها ،وشروط
االنتقال إلى الطور اإللكتروني ليست تامة ،واألرجح أننا بين عهد لم يكتمل،
وعهد لم تتوافر أسبابه .لم ندخل بعد العصر اإللكتروني ،أو أننا ال نزال
إذا كانت الصحافة الورقية خاسرة ،بمعنى أن عائدها ال يساوي كلفتها ونفقاتها ،فإن الصحافة اإللكترونية خاسرة من حيث المبدأ على اإلطالق
على أطرافه وضواحيه ،ولو توافر الحاسوب في أسواقنا ،وانتشرت تقنيات الميديا االجتماعية.
العصر اإللكتروني ليس ألمم ال تزال تعيش في العصر الورقي كما هي حال أممنا وشعوبنا .في مجتمعات ال تزال األمية سارية
فيها ،وال تزيد فيها نسبة القراءة عن بضعة أفراد في األلف ،ال يمكن أن ننتقل بسهولة إلى عصر يستوجب القراءة المكثفة ،كما يفترض فرديّة ال تتوافر في مجتمعات ال تزال تعيش عالقات قبلية ومذهبية ومناطقية وجهوية .الصحافة عندنا تعاني ذلك ،فهي بين عهدين ال تستطيع أن تكون في أي منهما.
ذلك يعني موت الصحافة أو احتضارها الطويل الذي يعني في جملة ما ،انتكاس عصر كانت الصحافة من مقوماته ،كما يعني
في جانب منه انتكاس السياسة التي كانت الصحافة عصبها ومسارها ،كما يعني انصراف الدول والممولين كافة عن دعم الصحافة، األمر الذي يؤدي إلى موتها ،وموت السياسة معها .السياسة التي لم تبلغ بعد أشدّ ها ،وال تزال العالقات الجهوية والعشائريّة تشدد
عليها الخناق. ً إنّ الكالم عن موت السياسة عندنا ليس كالمً ا مجانيًّا .السياسة بوصفها اتفاقا على مواقف ووجهات تتطلب مجتمعات
للمصلحة ولالستقالل الفردي ،وللتربية الديمقراطية أثر عميق في تكوينها. ً تاريخا ومسارات لم نعرفها .موت الصحافة قد يكون المقدمة األولى ،أو من المقدمات األولى لموت هذه السياسة هذا يتطلب ً الجنينية التي تكافح لتقوم وتتصوّر خلقا سويًّا. أما في لبنان الذي كان في يوم من عواصم الصحافة العربية ،فهنا فوق ذلك تفتت مجتمع هو مع ذلك مسيّس إلى أبعد درجة.
الصحافة ال تعني كثي ًرا لطوائف وجماعات منخرطة بجميع أفرادها فيما يسبق السياسة ،وفيما يجعلها مسبوقة باستمرار .هكذا
تصنع الجماعات بكل أفرادها األحداث وتفسرها قبل أن تصل إلى الصحف .هكذا تتضاءل الحاجة للصحافة يومً ا بعد يوم ،فرؤساء الجماعات والجماعات نفسها في معركة دائمة ،وال حاجة لالستفسار عنها وقراءتها في صحيفة. العددان 476 - 475شعبان -رمضان 1437هـ /مايو -يونيو 2016م