العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ يوليو -أغسطس 2016م
عن الفنون في السعودية:
الحياة بال موسيقا
هشام جعيط :االستشراق انتهى على يدي
السعودية وإيران .. هل هناك أمل؟
روالن بارت لماذا أخفى حزنه؟
هل غادرت القاهرة موقعها الثقافي؟
الكاتبة الخليجية تواجه مجتمعها
www.alfaisalmag.com
k É`ã``jó``M Qó`°U
www. research.kfcris.org research@kfcris.com
«
» ﺗﺠﻮل ﻓﻲ ﻣﻮﻗﻊ
ﻣﻘﺎﻻت ﻟﻨﺨﺒﺔ ﻣﻦ أﻫﻢ اﻟﻜﺘﺎب ﻣﻠﻔﺎت وﺗﺤﻘﻴﻘﺎت وﻗﻀﺎﻳﺎ ﻋﻦ اﻟﺮاﻫﻦ اﻟﺜﻘﺎﻓﻲ واﻟﺴﻴﺎﺳﻲ ﻣﻊ إﻃﻼﻟﺔ ﻋﻠﻰ اﻹﺑﺪاع ﻓﻲ ﻣﺨﺘﻠﻒ اﻟﻔﻨﻮن
alfaisalmag @alfaisalmag www.alfaisalmag.com editorial@alfaisalmag.com
اﻟﻌﺪدان ٤٧٨ - ٤٧٧ﺷﻮال -ذو اﻟﻘﻌﺪة ١٤٣٧ﻫـ ﻳﻮﻟﻴﻮ -أﻏﺴﻄﺲ ٢٠١٦م
أسسها عام 1397هـ1977/م
ﻋﻦ اﻟﻔﻨﻮن ﻓﻲ اﻟﺴﻌﻮدﻳﺔ:
اﻟﺤﻴﺎة ﺑﻼ ﻣﻮﺳﻴﻘﺎ
األمير خالد الفيصل يصدرها
اﻟﺴﻌﻮدﻳﺔ وإﻳﺮان ..
روﻻن ﺑﺎرت ﻟﻤﺎذا أﺧﻔﻰ ﺣﺰﻧﻪ؟
ﻫﻞ ﻏﺎدرت اﻟﻘﺎﻫﺮة ﻣﻮﻗﻌﻬﺎ اﻟﺜﻘﺎﻓﻲ؟
اﻟﻜﺎﺗﺒﺔ اﻟﺨﻠﻴﺠﻴﺔ ﺗﻮاﺟﻪ ﻣﺠﺘﻤﻌﻬﺎ
ﻫﻞ ﻫﻨﺎك أﻣﻞ؟
رئيس مجلس اإلدارة
ﻫﺸﺎم ﺟﻌﻴﻂ :اﻻﺳﺘﺸﺮاق اﻧﺘﻬﻰ ﻋﻠﻰ ﻳﺪي
األمير تركي الفيصل
www.alfaisalmag.com
العددان - 478-477السنة الحادية واألربعون
الناشر
الثقافية
دار
2
في هذا العدد هل غادرت القاهرة موقعها في الثقافة العربية؟
60
تنازع الروائي والتاريخي في روايتين إلسماعيل فهد
68
حوار هشام جعيط
82
الكاتبة الخليجية ..أحالم بال حدود
98
السعودية و إيران ..هل هناك أمل؟
104
عبدالله الشبل ..اإلداري واإلنسان
120
مطاع صفدي قامة فكرية عالمية خسرناها
122
المشهد الثقافي المغربي بائس في المغرب...
128
رئيس التحرير
ماجد الحجيالن editorinchief@alfaisalmag.com تعبر عن وجهة نظر اآلراء المنشورة ّكتَّابها ،وال تم ِّثل رأي مجلة الفيصل. تكفل المجلة حرية التعليق علىموضوعاتها المنشورة شريطة االلتزام
تاريخ األدب الكردي
134
روالن بارت ..المفكر الذي أخفى حزنه
138
سيرة هشام ناظر وتركي الدخيل ومرآة الغريبة
142
نور الدين فارح :قائد الحركة النسوية في الصومال
150
بالموضوعية. تحتفظ المجلة بحقوق ملكيتها للموادالمنشورة فيها ،ويتطلب إعادة نشر أي ورقيا الحصول على إلكترونيا أو مادة ً ً موافقة المجلة مع اإلشارة إلى المصدر. ترسل المواد إلى بريد المجلةاإللكتروني:
editorial@alfaisalmag.com
مقاالت
لالطالع على سياسة النشر يرجى زيارةالموقع اإللكتروني
www.alfaisalmag.com ردمد ٨٥٢٠ - ٠٤١١ رقم اإليداع مكتبة الملك فهد الوطنية 41/2450 العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
رشيد بوطيب
64
محمد الحرز
80
عبدالعزيز ساكن
112
عبدالسالم عبدالعالي
154
حازم األمين
164
جمال خاشقجي
184
شخصيات
قضايا
94
اتحاد األدباء اليمنيين
عاما عاش اثنين وثمانين ً مألى بعصامية نادرة نقلته من دائرة مغلقة إلى مدار مفتوح ،فلم يرض بانغالق مثلما لم َ وظل اندالق، إلى ينقد ْ َّ اإلنسان في داخله ُ متحكما في ظاهره.. ً
114
عبدالله العثيمين :محددات الشخص ومكونات النص
من ربيع الوحدة إلى شتاء االنقسام!
دراسات
فنون
72
178
نصوص
اإلرهاب في أفق النقاش
أفالم مارك فورستر:
الفلسفي..
دع رؤيتك ترشدك
عبدالرحيم الخصار
58
زين العابدين الضبيبي
78
جميلة عمايرة
111
حسن دعبل
124
عبدالوهاب أبو زيد
127
سعود اليوسف
149
عارف حمزة
163
ملف العدد
الحياة بال موسيقا شارك في ملف هذا العدد: الشريف حاتم بن عارف العوني علي فقندش أحمد الواصل خليل المويل محمد العثيم عبدالله الدحيالن عبدالله التعزي نداء أبو علي يحيى مفرح زريقان -سلطان البازعي
10
-عبدالله بن بخيت
3
المركز
«الفيصل ..شاهد وشهيد» يستأنف جوالته
4
استأنف معرض «الفيصل ..شاهد
وشهيد» جوالته في مختلف أنحاء المملكة، وكانت محطته الجديدة في نادي األمانة بحي
الخالدية في العاصمة المقدسة مكة المكرمة، وافتتحها مستشار خادم الحرمين الشريفين
أمير منطقة مكة المكرمة األمير خالد الفيصل ،بحضور رئيس مجلس إدارة مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية
األمير تركي الفيصل وعدد من المسؤولين. ويرصد المعرض بالصوت والصورة مسيرة الملك فيصل رحمه الله ،ويضمّ أهم مقتنياته
الخاصة ،وأبرز مراحل حياته .وأقيمت هذه
المحطة ،التي استمرت إلى التاسع عشر من شهر رمضان المبارك ،تزام ًنا مع بداية اإلجازة الصيفية .وسبق للمعرض أن طاف
منذ افتتاحه في العاصمة الرياض في جمادى األولى سنة 1429هـ ـ مايو 2008م اًّ كل من :منطقة
عسير ،ومدينة جدة ،وفعاليات المهرجان الوطني للتراث والثقافة الرابع والعشرين (الجنادرية) بالرياض ،والمدينة المنورة، ومنطقة القصيم ،والمنطقة الشرقية.
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
مسارات ودراسات وقراءات واصلت إدارة البحوث بالمركز إصدار دورياتها ً حديثا (مسارات ،ودراسات ،وقراءات)؛ فصدر عنها
عدد مسارات رقم ( )23بعنوان« :فهم صعود حزب الله
اللبناني ..صراع المنطقة األمنية في جنوب لبنان-1985 : 2000م» ،ويتناول دور حزب الله اللبناني في استمرار بشار
األسد في السلطة في سوريا ،والتكيّف الداخلي للحزب في التحوّل من حركة حرب عصابات خمينية واسعة
في مراحله األولى إلى دولة داخل الدولة في لبنان .كما صدر عدد مسارات رقم ( )24بعنوان« :خالف في القمة:
أربعة عقود من الوئام والصراع والمصالحة بين هاشمي رفسنجاني وعلي خامنئي» .ويرصد ّ تأثر المشهد اإليراني
على مدى السنوات الثالثين الماضية بالسباق المستمر
عقب الثورات العربية ،وما تشهده المنطقة من تطورات
إقليمية على خلفية أزماتها االقتصادية المزمنة.
كما صدر عدد قراءات رقم ( )3بعنوان «أصل
وتصارع األيديولوجيات بين القائد األعلى آية الله علي
مصطلح الهويتشو وتطوّره :كيف جاء مُ سمَّ ى المواطنين ّ لمؤلفه الباحث الصيني الدكتور الصينيين المسلمين؟»
بعنوان« :المغرب العربي بين استحقاقات التحوّل
في الصين المعاصرة ،التي ظهرت في منطقة تشيو
خامنئي والرئيس األسبق أكبر هاشمي رفسنجاني.
وأصدرت اإلدارة كذلك عدد دراسات رقم ()10
وان لي ،ويع ّرف العدد بجماعة الهوي هوي العرقية
الديمقراطي ومواجهة اإلرهاب :حصيلة 2015وآفاق
(المناطق الغربية الموجودة على الجانب اآلخر من
2016م» للدكتور محمد السبيطلي الباحث الرئيس في وحدة دراسات المغرب العربي بالمركز ،الذي يرصد
اآلفاق اإلستراتيجية لدول منطقة المغرب العربي في مخاض سياسي واجتماعي داخلي ضوء ما يحدث من ٍ
إقليم شينجيانغ الحالي) منذ أواسط القرن السابع عشر الميالدي ،وهم من المهاجرين األوائل من المناطق ذات
األغلبية المسلمة في آسيا الوسطى الذين استقروا داخل األراضي الصينية.
«ددن عاصمة مملكتي دادان ولحيان» جديد الذييب ً حديثا عن المركز كتاب «ددن عاصمة مملكتي دادان ولحيان» صدر ّ ّ لمؤلفه الدكتور سليمان بن عبدالرحمن الذييب وآخرين .ويمثل الكتاب التقرير األوّلي للموسم العاشر (عام 2013م) ألعمال التنقيب التي يقوم بها طالب قسم اآلثار في كلية السياحة واآلثار بجامعة الملك سعود
في موقع دادان (الخريبة) بشمال المملكة العربية السعودية بإشراف ّ محل المؤلف نفسه .ويستعرض الكتاب التسلسل الطبقي للمنطقة التنقيب ،والمراحل المعمارية التي م ّرت بها ،والعناصر المعمارية التي ُعثر عليها؛ من ُغرف ،ووحدات مبهمة ،وساحات ،ومعثورات. ً رئيسا في وحدة الدراسات السعودية باحثا ويعمل مؤلف الكتاب ً بإدارة البحوث التابعة للمركز.
5
المركز
أساليب عصرية لتطوير متاحف المركز
يعتزم مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية بدء خطة تطويرية جديدة لمتاحفه تناسب أحدث األساليب العصرية في عرض المقتنيات والمجموعات المتحفية .وتشمل الخطة إعادة تأهيل قاعة المخطوطات ،التي تضمّ كنو ًزا
ً ً مهمة من نوادر المخطوطات والوثائق على مستوى العالم .كما تشمل الخطة تطوير متحف التراث اإلسالمي ،الذي تراثية
6
يهدف إلى اإلسهام في التعريف بالجوانب المشرقة للحضارة اإلسالمية ،ويضم نماذج من الفن اإلسالمي تبلغ أكثر من مئتي قطعة ّ تغطي المدة من القرن الثاني إلى القرن الرابع عشر الهجري.
مبنى لمعهد الفيصل ُمجهز بأحدث التقنيات
انتهى مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية من بناء مقر جديد لمعهد الفيصل لتنمية الموارد البشرية،
مُ جهز بالتجهيزات والخدمات كافة ،بما في ذلك قاعات تدريبية تتسع ألكثر من 300متدرب ،ومعامل لغة وتقنيات متطورة ،استعدادًا لتدشين مرحلة تطويرية جديدة في المعهد الذي تجاوز 15عامً ا من العمل المتخصص لخدمة شرائح
عديدة من المجتمع.
وتشمل الخطة التطويرية الجديدة للمعهد المقرر البدء بتطبيقها قريبًا العديد من البرامج التدريبية في مجاالت:
اإلدارة والسالمة ،والقانون ،واإلعالم ،والتنمية البشرية ،الموجهة للموظفين والشباب على السواء ،وتعزيز العديد من اتفاقيات الشراكة مع بيوت خبرة محلية وعالمية ،إضافة إلى عنايته باللغة العربية التي تعد من أهم التوجهات الجديدة للمعهد من خالل سلسلة من المستويات التعليمية ،سواء للناطقين بها؛ لالستزادة والتعمق في ّ تعلمها أم الناطقين بغير
العربية من المقيمين في المملكة.
كما يواصل المركز تقديمه برامج متخصصة؛ لخدمة موظفي مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية لرفع
قدراتهم وتمكينهم من امتالك أحدث المهارات في مجاالت عملهم ،بما ينسجم مع أهداف المركز ورسالته للعالمين العربي واإلسالمي.
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
7
كاريكاتير
فعاليات
ستيفن هيرتوغ: ارتباك السوق النفطي ينذر بصعوبات ستواجهها منطقة الخليج فواز السيحاني
8
أكد الباحث االقتصادي والسياسي في جامعة أكسفورد الدكتور ستيفن هيرتوغ أن النفط في الخليج هو القصة الجميلة بالنسبة للمواطن في السعودية والخليج ،من خالل توافر مجموعة من الخدمات :الصحية والتعليمية وغيرهما ،إضافة إلى ارتفاع مستوى دخل الفرد وانخفاض مستوى البطالة .جاء ذلك في ندو ٍة نظمها مركز الملك حضور فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية في مايو الماضي ،وأدارها يزيد الراشد وسط ٍ من المهتمين والمهتمات باألطروحات االقتصادية والسياسية التي يقدمها المحاضر. في بداية الندوة قام الدكتور هيرتوغ بسرد مجموعة من
وأشار هيرتوغ إلى أن االستقرار السياسي في الخليج أسهم
نقطة زمنية معينة ،أي منذ عام 1979حتى عام 2010م؛ ليخلص
«من ناحية توافر السيولة المالية ،وتمتعه برأس مال جيد، ً مستعرضا بعض التقارير الدولية التي ومستوى ربحي مقنع»،
اإلحصائيات الرقمية والمعلوماتية التي تبين ارتفاع نسبة مستوى ً انطالقا من التعليم والجوانب الخدمية األخرى في السعودية من خالل قياس المتوسط اإلحصائي إلى تسجيل نسبة تتجاوز
بشكل فاعل في تكوين النمو في القطاع البنكي السعودي،
قامت بتصنيف القطاع المصرفي السعودي كرابع أفضل وأقوى ً ووفقا ً أيضا لتصنيف وكالة فيتش نظام مصرفي في العالم،
%150وهي التي في السابق كانت بالكاد تصل إلى ،%40مشي ًرا ً أيضا إلى أن نسبة الوفيات نتيجة سوء التغذية أو عدم توفير
العالمية للتصنيف االئتماني في أعوام قريبة« .وكان لهذه
استيراد األدوية واألدوات الصحية بكميات هائلة وبمبالغ ضخمة من الخارج يعد دليلاً على تقدم المملكة في الشرق األوسط في
سواء بالنسبة لإلقراض أو االقتراض ،دور مهم في بقاء القطاع المصرفي السعودي معزولاً نسب ًّيا عن تقلبات األسواق المالية
الخدمات الصحية وصلت إلى %0في مستوياتها الرقمية ،كما أن
الجانب الطبي.
العوامل وغيرها ،مثل محدودية انكشاف القطاع على الخارج
العالمية في السنوات األخيرة».
الدكتور ستيفن هيرتوغ أكد خالل الندوة أهمية مقولة
وأوضح أن اإلحصائيات تشير إلى أن النظام المصرفي في
ثورة هناك فقر» .وأوضح أن ذلك يعكس الوعي السياسي
الخليج العربي وعلى المستوى الدولي .فعلى الصعيد الدولي
الراحل الملك فيصل إلى حاكم دبي حين قال« :خلف كل
لدى المملكة خاصة ،وحكام الخليج عامة .وع ّد هذا االرتفاع
الخدماتي في الجوانب المتنوعة التي تقوم على خدمة المواطن الخليجي وتوفير حياة ذات رفاهية عالية« ،قائمً ا على ركيزتين
أساسيتين إحداهما :وجود كميات نفطية هائلة ،ومشاركة حقيقية في اإلنفاق الحكومي من الشعب».
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
المملكة «يعدّ من أفضل األنظمة المصرفية أداءً في منطقة
يحقق النظام المصرفي نسبًا مرتفعة من العائد على األصول والعائد على حقوق الملكية ،تزيد على مثيالتها في الدول
العربية واآلسيوية والدول المتقدمة إضافة إلى أن القطاع المصرفي السعودي يعد األكبر حجمً ا من ناحية إجمالي
القروض وإجمالي الودائع».
وتطرق هيرتوغ إلى الصعوبات التي ستواجهها منطقة الخليج مستقبلاً في ظل ارتباك السوق النفطي ،وتسابق الدول المجاورة
لتقديم نصائح فعالة وأكثر شمولية مما هو مطروح اآلن»؛ إذ
من خالل الرؤية التي جرى إعالنها قبل مدة وجيزة تحت شعار
للكثافة السكانية التي تشهدها منطقة الخليج حاليًا والمملكة
والمستوردة نحو البحث عن بديل للطاقة ،الف ًتا إلى أن هذا يتضح
« »2030مشددًا على ضرورة تجاوز تلك الصعوبات المستقبلية «التي قد تع ّد مخيفة فعلاً ،عبر التركيز على محاور عدة تشكل بعدً ا مهمًّا في صناعة حلول واقعية وملموسة» ،وذكر من هذه
المحاور :العمل بين القطاع العام والخاص والتنسيق بينهما؛ «إذ يعد ذلك مساهمً ا أساسيًّا وحقيقيًّا لخفض معدل األزمات
إلى جانب استقطاب جهات استشارية معتمدة وعالمية إن المتطلبات المستقبلية ،كما يرى ،ستكون في ازدياد «نظ ًرا
تحديدً ا ،إضافة إلى أن تلك الكثافة السكانية تتركز في فئة عمرية
معينة وهي فئة الشباب الباحثين عن العمل».
وأوضح الدكتور ستيفن هيرتوغ أن سوق العمل غير ً عروضا مغرية وتحفيزية لجذب الحكومي حتى اآلن «لم يقدم األيدي العاملة الوطنية ،فالقيمة المالية التي تقدم شهريًّا لتلك
المتعلقة بسوق العمل والقوة الشرائية مستقبلاً ،والحفاظ ً منخفضا نسبيًّا مقارنة بالدول على مستوى البطالة الذي يعد
وال تتجاوز الخمسة آالف ،مع األخذ في االعتبار عدم شفافية
مجال الشراكة بين القطاعين العام والخاص كمفهوم وممارسة
بالمرتبات» .وهذا يشير ،كما يقول هيرتوغ ،إلى أن الضغط على
المحيطة .إضافة إلى استمرار النشاط االقتصادي ،فالتطور في هو نتاج لإلدارة العامة الحديثة التي ظهرت أواخر القرن العشرين
والضغوطات التي فرضتها العولمة».
وقال هيرتوغ :إن هذه الشراكة «تلعب دورًا كبي ًرا في تطوير
البنية التحتية للقطاع العام ،واالستفادة من الخبرات المتنوعة.
النفط هو القصة الجميلة بالنسبة للمواطن في السعودية والخليج، من خالل توافر مجموعة من الخدمات
األيدي الوطنية في متوسطها ال تقل عن ثالثة آالف ريال شهريًّا، الجهات الخاصة في عرض األرقام الحقيقية حتى اآلن فيما يتعلق الجانب الحكومي ما زال قائمً ا «ما سيخلق أزمة مستقبلية في رفاهية المواطن وعدم قدرته على االستفادة من الخدمات
البنكية أو التأمينية المهمة».
يذكر أن ستيفن هيرتوغ يعد من أهم الباحثين األكاديميين
المتخصصين في منطقة الخليج وشمال إفريقيا ،وتتجاوز خبرته البحثية عشرين عامً ا ،نشر خاللها كثي ًرا من البحوث
واسعة االنتشار فيما يتعلق بالشرق األوسط وتحركاته
االقتصادية ،إضافة إلى اهتمامه بسوق العمل الخليجي ودور البيروقراطية في الحد منه.
9
ملف العدد
عن الفنون في السعودية:
الحياة بال موسيقا إنه تاريخ طويل غير مدوّن للفنون في المملكة العربية السعودية؛ من الدراما والمسرح إلى التشكيل
والفلكلور ،لكن الفنون الموسيقية والغنائية وحدها مرت بأطوار الفتة ،فقد تأسس لها في الستينيات
10
الميالدية ما يشبه المؤسسات الرسمية عبر فرق اإلذاعة والتلفزيون ،وجمعيات الثقافة والفنون في وقت ً ملحوظا لما يقرب من ثالثة عقود ،ثم غابت الرعاية ،وتفرّق الفنانون، الحق ،وشهدت حركة فنية وتطورًا
وتفككت الفرق الفنية.
والواقع أن ما مرت به الموسيقا ينسحب على مجمل ما مرت به قطاعات الثقافة؛ بسبب غياب جهة
واحدة راعية للكتاب والمنتج الثقافي واإلبداعي ،واعتماد رعاية الثقافة وتمويلها على مبادرات مختلفة بين عدد من الجهات العامة والخاصة ،مراحل كثيرة مرت ..وصولاً إلى إعادة هيكلة القطاعات الثقافية في
المملكة التي ما زالت مستمرة حتى يومنا هذا.
وقد استبشر الموسيقيون والفنانون أخيرًا برؤية السعودية 2030م التي أعلنت ضمن برامجها الطموحة
عن إنشاء مجمع ملكي للفنون ،كما باشرت وزارة الثقافة واإلعالم إعادة تأسيس فرقة موسيقية وطنية، يكون مقرها القناة الثقافية السعودية ،وفي أثناء إعداد هذا الملف عن الموسيقا في المملكة ما زالت
األخبار تتوالى عن التفاتة جدية إلى الفنون والموسيقا التي جرى تناسيها مدة من الزمن ،وكان لجوء الفنانين والموسيقيين إلى القطاع الخاص ،أو المبادرات الفردية ،أو الهجرة الفنية إلى دول الجوار؛ عاملاً
مهمًّ ا في تأكيد إصرار الفنون على الحضور في المشهد الثقافي رغم كل العقبات.
«الفيصل» تخصص ملف هذا العدد الستعادة الحديث عن الموسيقا في المملكة وجدلها من زوايا متعددة ،وسيجد القارئ المشاركين في هذا الملف متعددي المشارب والتوجهات؛ تدوي ًنا لتاريخ ً ً تطلعا لمستقبلها.. وصفا لحاضرها ،أو الموسيقا ،أو
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
11
منزلة االختالف الفقهي في الموسيقا بين االعتبار وعدم االعتبار
فقهاء يبيحون الموسيقا ويضربون بالعود! 12
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
ُ آالت المعازف (الموسيقية) منذ العصور الجدل الفقهي لقد صاحب ِ ً خالفا معهو ًدا مشهورًا ،وما زال مستمرًّا حتى اليوم .على األولى ،فصار ٌ ً ً ّ أحيانا أخرى. أحيانا ،في أزمان وأعراف ،ويلين يحتد جدل أنه فما هي حقيقة هذا الجدل؟ وكيف يمكن أن نفسره؟ وهل دوافعه ً وحديثا؟ أم انتابها وأسبابه واضحة عند المختلفين في الموسيقا قديمً ا
الشريف حاتم بن عارف العوني أستاذ الدراسات العليا بجامعة أم القرى
من التشنج والتقليد ما جعلها خفيّة متوارية؟ وإلى أي ٍّ حد يمكن أن يكون هذا الجدل مقبولاً وظاهرة علمية ثقافية مقبولة؟ أو ال يكون كذلك؟ ال شك أن تناول ذلك من جميع جوانبه أم ٌر مستحيل في مقال مختصر؛ لذلك سأكتفي بإشارات فقط :وأبدأ بالتنبيه إلى عدم ظهور مفسدة للموسيقا؛ إذ من المعلوم عند العلماء أن األصل في جميع أحكام الشريعة –غير تلك التي علتها التعبد–
أنها إنما جاءت لتحقيق المصالح وتكثيرها أو لدرء المفاسد وتقليلها ،فهي أحكام معللة ،مفهومة السبب. فتحريم الخمر كان ألجل تغييبه للعقل ،وتحريم الربا جاء لكونه ظلمً ا ودرءً ا لمفاسده االقتصادية ،وتحريم الزنا جاء لحفظ العرض وبناء األسر والنسل ،وهكذا جميع األحكام المتعلقة ببيان عالقة العبد بالمخلوقات
وموقفه منها :أنها أحكامٌ مصلحية .وهنا يجب أن نسأل أنفسنا :لماذا كانت الموسيقا حرامً ا؟
13
ملف العدد
ال يمكن أن يدعي أحد أن مفسدة الموسيقا مفسدة
ً وحديثا -من اجتمع في (رحمه الله) ،وكبار العلماء قديمً ا
في الموسيقا الحزينة أو الحماسية أو الهادئة أو التي تشبه
الخالصة :أن دعوى ظهور مفسدة الموسيقا يجب
ظاهرة كالخمر والربا والزنا ونحوها؛ إذ أي مفسدة ظاهرة
تناغم صوت البالبل وخرير الماء؟!
لن يستطيع أحدٌ أن يزعم ظهور مفسدة الموسيقا إال
بمصادرات على المطلوب ،فيذكر أمورًا غيبية ،إنما بناها على اعتقاده التحريم!
اإلقرار بانتفائها ،ويحق لمن كان قد رجّ حَ التحريمَ أن يظن مفسدة ال ُتعلم (غيبية تعبدية) ،وإنما ّ ً لها دله التحريمُ
الذي يرجحه هو على وجودها ،ال غير.
فإن اتفقنا على أن مفسدة الموسيقا خفية غير ظاهرة،
كأن يقول المحرمون :إنه ينبت النفاق في القلب (على
وأن وجود هذه المفسدة المدّ عاة ال تصح إال على اجتهاد
سيقول لهم المبيحون :هذا أمر غيبي غير مفهوم السبب،
حكم الموسيقا ال مبرر له وال معنى ،وأنه يحق لمبيح
ما جاء عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه) ،وعندها
فإن صح معنى هذه العبارة فهي محمولة على الغناء
الماجن الذي ال يبيحه أحد ،ال على مجرد الموسيقا أو
الغناء غير الماجن.
من يرجح حرمة الموسيقا :يتضح أن التشنج في نقاش الموسيقا أن يمنع من وجود مفسدة للموسيقا ،وال يكون ً مخالفا ألمر ال تصح مخالفته. بذلك مكاب ًرا وال
وخفاء هذه المفسدة –على التسليم بوجودها– يفيد
وكأن يقولوا ما قاله ابن قيم الجوزية (ت751هـ) في
في تحرير درجة حرمة الموسيقا عند من حرمها ،أي :هل
قلب عبدٍ ليس يجتمعان في ِ
من ينظر في حدة النقاش المعاصر حول الموسيقا :أنها عند المح ِّرمين من أكبر الكبائر؛ فهل هي ًّ حقا كذلك؟
دعوى باطلة ال دليل عليها ،ويردها الواقع أقوى ردّ ،فكم
الكبائر وجدها كلها مما تتضح مفسدتها أعظم وضوح ،بل
نونيته:
ب الكتاب وحب ألحان الغنا حُ ُّ
وعندها سيقول المبيحون :هذا قول بهذا اإلطالق
14
قلبه حب القرآن الكريم كأعظم الحب وحب الغناء!
رأينا من كبار ق ّراء القرآن -كالشيخ عبدالباسط عبد الصمد
بتطبيق الضوابط القطعية يكون معتبرا، االختالف في الموسيقا اختالفً ا ً سائغا ال ويكون القول بإباحتها قو ً لاً يجوز إنكاره وال التشنيع عليه ،بل يجب احترام وجاهته
هي عنده من كبائر الذنوب أم من صغائرها؟ إذ ال يكاد يشك
إذ من استعرض كبائر الذنوب المتفق على كونها من
كل الكبائر مفسدته عظيمة غاية العظم؛ كالقتل والسرقة
وعقوق الوالدين وشهادة الزور والفرار يوم الزحف ونحوها
يأت النص من الكبائر؛ حتى إن هذه الذنوب الكبائر لو لم ِ بتحريمها ّ لدلت الفطرة السوية على وجوب منعها وتعظيم خطرها.
ال مفسدة في الموسيقا
فإن أتينا إلى الموسيقا وجدناها بخالف تلك الكبائر
تمامً ا ،فهي ال تظهر لها أي مفسدة :ال كبيرة وال صغيرة؛ إال
دعاوى اإلجماع المنقوضة في زعم التحريم سوف يستغرب المتعجلون قليلو الفقه من هذا التنزيل للخالف في الموسيقا ،بسبب التشنج الذي صاحب الجدل
الفقهي فيها ،وبسبب دعاوى اإلجماع المنقوضة وغير الصحيحة في زعم التحريم ،وبسبب ضعف التدقيق في أدلة التحريم
عند من حرم :هل كانت داللة ظنية أم قطعية؟ وبسبب عدم النظر في أدلة المبيحين وردودهم على أدلة المح ِّرمين. ولما أن كان هذا المقال مقالاً مختص ًرا فسأكتفي هنا باإلشارة إلى بعض ما يدل على سواغ االختالف في الموسيقا عند
جمع من العلماء ،أو إلى التعاطي الراقي لدى المح ّرمين مع من اجتهد فأباحها ،وأنهم لم يُسقطوا المبيحين ،وال حطوا من ديانتهم وال من علمهم.
فهذا اإلمام الذهبي (ت748هـ) ،يذكر العالم الفقيه إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف الزهري (185هـ)، سماع المالهي ،وال َي ِـجدُ دليلاً ناهِ ً َ ضا على وكان ممن يبيح الموسيقا ،فيقول« :من أئمة العلم ،وثقات المدنيين .كان ُيـجَ ِّو ُز التحريم؛ فأدّاه اجتهادُه إلى ال ُّرخصة ،فكان ماذا؟!!».
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
المفسدة التي هي محل النزاع بين المحرمين والمبيحين؛
ً ثالثا عليه الضياء المقدسي (ت643هـ) في تذييله عليه،
العلم بها بظاهر أمرها.
عندهما .وكذلك الحال مع ابن جرير الطبري (الذي حصر
ألنها مفسدة مبنية على القول بالتحريم فقط ،ال على
فقط ،ولم تكن الموسيقا والغناء من بين هذه الكبائر
وقد استعرضت عامة كالم العلماء وكتبهم في الكبائر،
الكبائر في تسع كبائر فقط) ،ثم أبي طالب المكي الذي
(ت301هـ) صاحب أول كتاب مصنف في الكبائر يصل إلينا،
الدين» ،والذهبي في كتابه الشهير «الكبائر»؛ وكلهم لم
منذ جيل الصحابة رضوان الله عليهم ،إلى البرديجي
فقد بلغ عدد الكبائر عنده ثالث عشرة كبيرة فقط ،وزاد
حصرها في «قوت القلوب» ،والغزالي في «إحياء علوم
يعدّ وا الموسيقا من الكبائر.
ولم يذكر الموسيقا ضمن الكبائر كل من الرافعي
والنووي وابن ال ِّرفعة .بل إن اإلمام الغزالي (ت505هـ)
إن أتينا إلى الموسيقا وجدناها بخالف
في «إحياء علوم الدين» –وهو ممن أباح النشيد الديني
مفسدة ،ال كبيرة وال صغيرة
على أن المالهي (الموسيقا) من الصغائر ،حيث ذكرها مع
تماما ،فهي ال تظهر لها أي الكبائر ً
(السماع) ،ولكنه رجح تحريم الموسيقا– يحكي اإلجماع غيرها من الذنوب ،ثم قال« :ولم يذهب أحد إلى أن هذه
15
الماجشون أبو سلمة الفقيه الثقة المدني (ت185ﻫ) ،يوثقه اإلمام يحيى بن معين، وهذا يوسف بن يعقوب بن أبي سلمة ِ
مع قوله عنه« :ال بأس به ،كنا نأتيه فيحدثنا في بيت ،وجواريه في بيت آخر له يضربن بمعزفة» .ويقول مصعب الزبيري: «وكان الماجشون أول مَ ن علم الغناء مِ ن أهل المروءة بالمدينة».
ويقول الحافظ الخليلي (ت446ﻫـ) عنه« :ثقةُ ...عمِّ َر حتى سمع منه يحيى بن معين ...هو وإخوته ي ِّ ُرخصون في السماع...
(ثم أورد كالم ابن معين السابق ،وقال ):وابن عمّ ه يُعرفون بذلك ،وهم في الحديث ثقات ،مخ َّرجون في الصحاح».
الماجشون (ت164ﻫ) ،وهو اإلمام الثقة الفقيه صاحب ثم أورد الخليلي ترجمة عبدالعزيز بن عبدالله بن أبي سلمة ِ
الناس التصانيف ،ومن كبار فقهاء المدينة ،ومن أقران اإلمام مالك في العلم والسن ،حتى كان يُصاح في المدينة« :ال يُفتي َ ٌ مالك وعبدُ العزيز بن أبي سلمة» ،فقال الخليلي عنه« :مفتي المدينة ،روى عنه األئمة ،مخرجٌ في الصحيحين ،يرى إال
ِّ ويرخ ُ ص في العُ ود». التسميع، ٌ فهذه أمثلة فيها توثيق األئمة وثناؤهم وإجاللهم لهؤالء األئمة ،مع اعتقادهم فيهم أنهم كانوا يبيحون الغناء وآالت المعازف ويسمعونها ،بل من هؤالء الفقهاء من كان يضرب بالعود بنفسه!
ملف العدد
األمور من الكبائر». ولم ُتعدّ الموسيقا من الكبائر؛ إال عند بعض
المتأخرين ،وأول من أدرجها في الكبائر –بحسب ما
وهكذا يالحظ القارئ تزايد النفور تاريخيًّا من الموسيقا
مع امتداد الزمن ومع تناقص العلم! وال شك أن عدم ظهور
مفسدة للموسيقا مما يرجح بقوة أنها ليست من الكبائر.
وقفت عليه -هو أبو زكريا بن النحاس (ت814هـ) ،في كتابه «تنبيه الغافلين» ،دون أن يذكر دليلاً على عدّ الموسيقا
درجة االختالف فيها :هل هو خالف معتبر؟ أم غير معتبر؟
غيرها ،وكأنه فيها مجرد ناقل لقول ال يقره .كما أن ابن
أهم األمور؛ ألن االختالف المعتبر يمنع من اإللزام بأحد
في الكبائر ،وإنما حكاه عن العراقيين ،بخالف عادته في النحاس أحد المتوسعين في إحصاء الكبائر ،فقد بلغت عنده ( )171كبيرة.
ثم في القرن العاشر الهجري فما بعده ذكر غير واحد من العلماء الموسيقا ضمن الكبائر :كابن ُنجيم الحنفي
(ت970هـ) ،وقبله ابن حجر المكي الهيثمي (ت947هـ) ،فقد
ذكر المعازف في الكبائر في كتابه «الزواجر عن اقتراف ً مرفوضا، الكبائر» ،وهو من المتوسعين في الكبائر توسعً ا
كما أن عدم ظهور مفسدة للموسيقا مما يعين على معرفة وتحديد منزلة االختالف هل هو معتبر أم ال :من
ترجيح على من القولين ،وال ُيـجيز اإلنكا َر من صاحب ٍ ٌ خالف معتبر يخالفه .فلو تبيّن أن االختالف في الموسيقا
لم َيـجُ ْز للمح ِّرمين اإلنكا ُر على المبيحين ،ولم َيـجُ ْز لهم
إلزامُ مخال ِفهم بعدم السماع .وتصبح حينئذٍ المسألة ً راجعة إلى تدين الشخص ورقابته الذاتية على نفسه :فإن
قاده االجتهاد أو االتباع والتقليد المنضبط إلى التحريم: التزم بذلك في نفسه ،وال يحق له إلزام المخالفين له في
حيث بلغت عنده ( )466كبيرة! حتى كادت أن تكون عامة ٌ خالف كبي ٌر منه لما جاء في المعاصي عنده كبائر!! وهذا
ً اتباعا وتقليدً ا لمن أباحها من العلماء.
سبق.
الكالم فيها في كتابي «اختالف المفتين» ،وبتطبيق تلك
النصوص ،ولما عليه عامة العلماء ممن عدّ الكبائر ،كما
16
ذلك من المبيحين ،ما داموا قد أباحوا الموسيقا اجتهادًا أو وضوابط تمييز االختالف المعتبر من غيره قد ّ فصلت الضوابط القطعية يكون االختالف في ً اختالفا معتب ًرا ،ويكون الموسيقا القول بإباحتها قولاً ً سائغا ال يجوز إنكاره وال التشنيع عليه ،بل يجب
احترام وجاهته؛ كما أن القول ٌ قول سائغ معتبر مثله. بالتحريم
واقع االختالف في حكم الموسيقا لدى عامة المعاصرين انحرف عن مساره الصحيح ،وصار التعصب والتشنج والتخوين في الدين والتجهيل في العلم هو سمة عامة المح ِّرمين تجاه المبيحين! وهذا خلل كبير ،ال يقبله العلم ،وال يقره الدين
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
ماذا قال األئمة عن إسحاق الموصلي؟ َ .... وسعُ فقهاء المدينة المنورة في الموسيقا في وت ُّ
جيل أتباع التابعين ثابت عنهم ،وممن نسبه إليهم يحيى
بن سعيد القطان -وهو من أئمة أتباع التابعين (ت198هـ)، ونسبه اإلمام أحمد إلى فقهائهم ً أيضا. ُ وفي هذا السياق ً األئمة عن أيضا :انظر ماذا قال أحد الـمُ َغـ ِّنـين الموسيقيّين المشاهير ،وهو إسحاق بن
إبراهيم بن ميمون الموصلي (ت235هـ) .فمع أن صنعته
كانت هي الغناء ،حتى كان أشه َر المغنين ببغداد؛ إال أن العلماء قد ّ ُّ وتحفظِ ه وثقوه؛ لتديّنه وقيامه بالفرائض
من الفواحش! ولذلك قال عنه إمام الحنابلة -في زمنه- ً إبراهيم الحربي (ت285هـ)« :كان ً صدوقا عالمً ا ،وما ثقة
سمعت منه شي ًئاَ ، ول َو ِدد ُ ُ ُ سمعت منه ،وما كان ْت أني ُ أردته». يفوتني منه شيءٌ لو الخطيب البغدادي (ت463هـ) ترجمة إسحاق وبدأ ُ
الموصلي بقوله« :كتب الحديث عن سفيان بن عيينة، وهُ َشيم بن بشير ،وأبي معاوية الضرير ،وطبقتهم .وأخذ األدب عن أبي سعيد األصمعي وأبي عبيدة ونحوهما، وبرع في علم الغناء ،وغلب عليه ،ف ُنسب إليه .وكان حسنَ المعرفة ،حُ ْل َو النادرة ،مليحَ المحاضرة ،جيد
َّ معظمً ا عند الخلفاء .وهو الشعر ،مذكورًا بالسخاء،
صاحب كتاب األغاني».
ثم أورد الخطيب توثيق إبراهيم الحربي له!
الشيخ المغامسي: علما ألجمه الله من كتم ً لجاما من نار يوم القيامة ً أكد إمام وخطيب مسجد قباء في المدينة
المنورة الشيخ صالح المغامسي ،أن ما قاله فيما يخص الموسيقا هو ما يدين به لله «في
مقام ُسئلت فيه» ،موضحً ا أنه ال يتوقع «أن يقبل الناس جميعً ا ذلك تسليمً ا؛ ألنه من المستحيل،
لكن ما يحضني على ذلك أمانة الكلمة والعلم».
وقال الشيخ المغامسي لـ«الفيصل»« :ال
هذا هو موقف العلماء مع أشهر مغني بغداد،
أستطيع أنا أو غيري من المتأصلين شرعيًّا
بعيدً ا؟! فهذا اإلمام ابن حزم (ت456هـ) ،ومحمد بن طاهر
سبحانه وتعالى ،فكيف بما ليس فيه داللة
نذهب بل أشهر مغني المشرق اإلسالمي في زمنه! ولمَ ُ
المقدسي (ت507هـ) ،وغيرهما من العلماء ممن أباحوا
الموسيقا ،هل نجد من جرحهم بهذا االجتهاد؟! أو منع الصالة خلفهم بسببه؟!
وبهذا يتضح أن واقع االختالف في حكم الموسيقا
لدى عامة المعاصرين قد انحرف عن مساره الصحيح، وصار التعصب والتشنج والتخوين في الدين والتجهيل
في العلم هو سمة عامة المح ِّرمين تجاه المبيحين! وهذا خلل كبير ،ال يقبله العلم ،وال يقره الدين .وفي مثل هذا
الوسط غير الصحي يضعف التحرير العلمي؛ ألنه يخاف الخروج عن الصوت السائد ،ويتردد صاحب االجتهاد المختلف في إعالن اجتهاده ومناقشة المخالفين .فعلينا
أن نسعى إلى معالجة هذا الواقع ،إن أردنا أن نسمع في الموسيقا وغيرها رأيًا شرعيًّا م ّت ً زنا؛ ألنه يعرف آداب
االختالف ودرجاته ،ويحترم االجتهاد المعتبر ،وال يبغي على المخالِف.
17
أن نحلل أو نحرم إال ما حرمه الله أو ما حلله
صريحة كالموسيقا؟» .وأضاف أنه حين قال ما قاله بخصوص الموسيقا ،لم يكن مُ لزمً ا «ولم
أكن أبحث عمن يجادلني أو يناقشني؛ ألني لن
ألتفت إلى ذلك؛ فهو ليس ما أسعى إليه أو أرغب به ،وإنما من باب حديث خاتم األنبياء
والمرسلين صلى الله عليه وسلم« :من كتم علمً ا ألجمه الله لجامً ا من نار يوم القيامة».
يذكر أن الشيخ المغامسي أكد في برنامج
تلفزيوني أواخر مايو الماضي أنه ال يوجد إجماع
على تفسير «لهو الحديث» بأنه الموسيقا، مشد ًدا على أن األمة في حاجة إلى خطاب
تجديدي ،وأن أمانة الدين تملي عليه أن يتكلم، األمر الذي أثار جدلاً بين معارضين ومؤيدين.
ملف العدد
الموسيقا والغناء في الحجاز علي فقندش ناقد فني
ً وتحديدا في الحجاز (مكة المعروف تاريخيًّا أن اإلبداع الموسيقي والغنائي في الجزيرة العربية،
المكرمة والمدينة المنورة) له جانب اجتماعي وإنساني مهم في التركيبة السكانية للمنطقة التي شهدت إبداعا ثقافيًّا وفن ًّيا على مر العصور ،ومن هذا اإلبداع الشعر الغزلي األقرب للغناء ...وفي كتابه «الشعر
18
والغناء في المدينة ومكة لعصر بني أمية» يقول الدكتور شوقي ضيف :من يقرأ في الشعر العربي،
وينظر في نصوصه ونماذجه الكثيرة يجد صورتين متقابلتين منذ العصر الجاهلي؛ صورة تقليدية تعتمد أغان خالصة تعتمد على العزف والضرب على اآلالت الموسيقية». على رسوم وتقاليد كثيرة ،وصورة ٍ
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
من هنا تتضح لنا أهمية األغنية والموسيقا لدى أهل مكة
المكرمة والمدينة المنورة والحجاز بشكل عام؛ األمر الذي
سهّل مهام تطور هذا الجانب ،ونقل صور فن وثقافة كل عربي في هذه المنطقة؛ مما أوجد أسماء عديدة في عالم اإلنشاد والغناء في المنطقة ،وكلنا يعرف كيف اس ُتقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عند وصوله يثرب بالنشيد واألهزوجة الشهيرة والمنغمة ،وهي األغنية التي قيل :إن لبنات النجار
في المدينة المنورة المحبات للفن والغناء دورًا كبي ًرا في ذلك ،وهذا ما سجّ له وأورده كرم البستاني في كتابه «النساء
العربيات»؛ إذ قال :إن بنات النجار كن في مقدمة أهل يثرب المرحبين بالمصطفى عليه الصالة والسالمً . أيضا هناك عامل
عمر كدرس حلقة وسيطة بين أجيال الموسيقا
سنحاول سرد كثير من هذه األلوان ،لكن من خالل الحديث
عن أبرز أساتذتها ،وأبرز من قدمها واشتهر بها ،أو ساهم في شهرتها وانتشارها ،وتحويلها إلى قاعدة تنطلق منها أفكار كثير
من الملحنين الذين وجدوا أمامهم في تراثنا الغنائي ما يمكن أن يكون عملاً فنيًّا ذا جذور ،وليس نب ًتا شيطانيًّا سيما إذا ما
علمنا أن مدينة جدة وفنانيها كانوا أكثر من استفاد من التراث الغني في مكة المكرمة والمدينة المنورة؛ إذ مورست الفني ّ هذه الفنون إلى جانب تراث جدة الموسيقي والغنائي الفعلي
إلى جانب تلك الفنون المكية المدنية ،وربما كان الموسيقار الراحل عمر كدرس عالمة ودليلاً على ذلك ألسباب عدة؛ أهمها أن عمر كدرس كان الحلقة الوسيطة بين أجيال األغنية السابقة
مهم آخر ،وهو التأثير الكبير الذي يحدثه النشيد في الناس في َ العشق هذه المنطقة في كل مناحي الحياة؛ إذ استثمر هذا
الذين حفظ منهم ونقل عنهم ،وبين األغنية الحديثة التي يعدّ
لبضائعهم ،ولعل في قصة الخمار الشهيرة بالمدينة المنورة التي أوردها ً أيضا كرم البستاني خير دليل على تأثير الغناء في
وبصورة شخصية أنه لحّ ن لبعضهم ألحانهم ،وكانوا بالفعل أهلاً لهذه المبادرات منه ،فأصبحوا فنانين كبارًا في مجال
كثي ٌر من التجار باستخدام الشعراء والمنشدين للترويج
المجتمع.
فالمتتبع لخطا الفن واألغنية تحديدً ا يعي أو يخلص
إلى أن الثراء والترف قد ساهما في انتشار الغناء في المدينة
المنورة أيام األمويين عندما ظهر ابن سريج ومعبد كأبرز
مغنيين آنذاك.
ع ّرابها وصانع مجد كثير من الملحنين والمطربين الذين أعرف
التلحين وغيره .كذلك ألنه نبش تراث الموسيقا في المدن
الثالث :المدينة المنورة التي ولد وعاش طفولته فيها ،ونهل من علمها وتراثها ،ثم مكة المكرمة التي عاش فيها طويلاً ،ثم جدة
التي كانت مستق ًّرا له طوال نصف القرن األخير من حياته .وفي
محاوالت رصد للتعرف على أهم أسماء نجوم الغناء وحَ فظة
19
عمر كدرس
ملف العدد
التراث الغنائي في مكة المكرمة والمدينة المنورة في القرن
ومحمود حلواني ،الذي حفظ وقدم كثي ًرا من ألوان أو أغنيات
مثل :سراج عمر ،وجميل محمود ،وأبي األسرة الفنية الغنائية
أصحاب المبادرات األولى في نشر األغنية السعودية ،وكان من
الماضي ،التقيت بكثير من نجوم فنون التراث وكبار الملحنين في المنطقة؛ إبراهيم خفاجي ،وبعدد من حفظة التراث
الغنائي بالمنطقة ومردديه مثل :حامد عبد ربه ،وبكر مدني
رحمه الله -وحسن إسكندراني ،والفنان الشعبي الكبير عليشيخ ،وعلي صائغ -رحمهما الله -ودرويش صيرفي ،والفنان مصطفى إسكندراني الذي بدأت معه .ففي محاولة لجرد أهم
أسماء الجيلين األول والثاني من فناني التراث الذين عاصرناهم ً افتراضا من ساهم في إثراء الساحة الغنائية بدءً ا من ونعدهم
أوائل الفنانين الذين هاجروا إلى البحرين؛ من أجل نشر أغنية
الحجاز ،وأول من سجّ ل أسطوانات غنائية سعودية صالح لبني،
ومحمد الريس عازف الكمان الشهير الذي صنع بدايات طالل مداح في الحفالت تحديدً ا ،وعبدالستار حضرة علي ،وفؤاد بنتن ،وفؤاد زكريا ،وسعود زبيدي ،وعثمان تنكل ،وأسعد
خوندنة ،وعبدالرحمن خوندنة ،وأبو حصة ،ومحمد باموسى، وعبدالله مرشدي ،الذي كان يرأس فرع جمعية الثقافة والفنون
عام 1350هـ ،وأنقل هنا عن الفنان مصطفى إسكندراني ما قاله
بالطائف ،والراحل محمد علي سندي الناقل والحافظ األمين
رحل منهم ،وكانوا بالنسبة لي األمل في تحقيق ما أصبو إليه
ورضا حسن نحاس ،والملحن محمد النشار ،وعمر باعشن،
لي :عاصرت كثي ًرا من هؤالء الفنانين الكبار أو لحقت بآخر من في إثراء ذاكرتي الفنية ،ومواصلة حفظ تراثنا الذي كان عرضة
لالندثار ،ومن هؤالء حسن جاوة ،وصالح حلواني ،وسعيد
أبو خشبة ،وعثمان خميس ،وعثمان كردوس ،وحسن لبني،
والسيد عبدالرحمن المؤذن الذي عرف بلقب «األبلتين» ،وأحمد مراد ،وخليل رمل (جد المغني الذي احتجب بعد نجاحات جيدة
في ساحة الغناء حسن يوسف رمل) ،ومحمود مؤمنة ،وعلي
20
التراث في الحجاز والجزيرة العربية ،كعواد من أبرز وأهم
شيخ ،وعرفة صالح ،الذي سيتحدث عنه فيما يأتي الموسيقار
الكبير سراج عمر الذي ارتبط به كثي ًرا ،ونهل من موسيقاه وغنائه وأساليبه كثي ًرا ،وأحمد عبدالفتاح ،وعبدالقادر شولق،
ودرويش جبل ،ومحمد علي أخضر ،ومحمد علي بوسطجي،
لتراث الغناء الحجازي ،وعبدالعزيز أبو سالمة ،وأحمد شيخ، وعلي باعشن الذي عرف باسم رياض علي ،وسبق له أن رأس فرقة موسيقا اإلذاعة والتلفزيون ،وإبراهيم المطلق ،وخليل كتوري ،ومعتوق يحيى ،ومسفر القثامي ،وإبراهيم الشرقي، ومحمد سيامك ،وعبدالستار بخاري ،وخالد زهدي.
مقام الحجاز نشأ في مكة المكرمة ،وخرج منها إلى العالم كله ،يستخدمه العرب والغربيون؛ حيث تستخدمه العرب كمقام كامل، ويستخدمه الغربيون كجنس من مقام الحجاز
مقام الحجاز نشأ في مكة وخرج منها إلى العالم ً تحديدا كانت للثقافة جوانبها المهمة في كل ما يرتبط بالحياة اليومية والموسيقا واإلنشاد ،التي في مكة المكرمة هي حب أهل الحجاز األول وعشقهم حتى كان لهم «مقام الحجاز» األساسي في مقامات الموسيقا الذي ُتبنى عليه كثير
ً ألحانا عظيمة من هذا المقام كان السنباطي ،وزكريا أحمد ،والقصبجي وغيرهم .كذلك من غنائياتهم .وأجمل من قدم استخدمه محمد الموجي في مقطع « شوف القسوة بتعمل إيه » في أغنية «اسأل روحك» ألم كلثوم ،كذلك فناننا الجميل جميل محمود في أغنية «خايف منك من حبك» لعبادي الجوهر في بداية طريقه مع الغناء ،وطالل مداح -رحمه الله -في
«انتظاري طال يا حلو التثني» و«ما دام معايا القمر» و«يقولوا لي قنع منك».
إلي الفنان الكبير جميل محمود الذي قال :إن مقام الحجاز نشأ في وللفائدة األكبر حول مقام الحجاز وأصوله تحدث ّ
مكة المكرمة ،وخرج منها إلى العالم كله ،يستخدمه العرب والغربيون؛ حيث تستخدمه العرب كمقام كامل ،ويستخدمه
الغربيون كجنس من مقام الحجاز ،والجنس المقصود به هنا جزء من المقام؛ ألن معظم المقامات ثالثة أجناس ،يتزاوج
بعضها مع بعض؛ لينتج المقام الموسيقي الكامل بنوتاته السبع ،وقد استعمله الفنانون العرب في كل البقاع ،وصوروا وسمي بأسماء أخرى مختلفة لكنها بالنسبة للنوتة الموسيقية تعود إلى مقام الحجاز ،ودليل ذلك المقام في غير موقتهُ ،
أن المقامات العربية الموجودة والمستخدمة في العالم العربي يزيد عددها على 3000مقام ،وهي لم تستخدم كلها ،لكن حينما أعيدت إلى أصولها أصبحت 99مقامً ا فقط؛ المستخدم منها أقل من نصف هذا العدد لصعوبة عزفها؛ ألن أبعاد
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
مطربات في ذاكرة الغناء الحجازي
شهدت بدايات القرن العشرين في منطقة الحجاز عشرات
المطربات الالئي أثرين الذائقة الفنية وحفرن في ذاكرة الغناء الحجازي وذاكرة الناس ،وإذا استعرضنا أبرز األسماء التي عرفت في القرن الماضي في مجال الغناء والموسيقا التراثية
لمنطقة الحجاز ،وتحديدً ا في مكة المكرمة والمدينة المنورة
والطائف ،وهنا نلفت النظر إلى أن فن اإلنشاد لم يكن حك ًرا
على الرجل ،فهناك اتصال تاريخي بين ما أنشدته بنات النجار في المدينة المنورة عند استقبال يثرب الشهير للحبيب
المصطفى عليه أفضل الصلوات والتسليم ،والتواصل الذي طارق عبدالحكيم
تشهده األجيال في إنشاد المرأة تحديدً ا الذي كان مزده ًرا
بشكل كبير في هذه المنطقة في القرن الماضي.
وربما يعرف القارئ إبداع نساء شعبيات أثرين عواطفنا
وعواطف من قبلنا من أجيال ،مثل :توحة ،والراحلة صالحة
حمدية ،وبنات شافية ،وغيرهن ،وإبتسام لطفي ،وكان
من هؤالء الفنانات عازفات آلالت موسيقية ،مثل :فاطمة،
وعائشة زايدية –رحمهما الله -اللتان عرفتا بالعزف على
مختلف اآلالت الموسيقية مثل العود والكمان ،ونجد أن أبرز مغنيات مكة المكرمة في القرن الماضي صفية لبانة ،وكرامة
صالح سلطان ،وأمينة عدنية ،وصالحة حمدية ،وفاطمة حمدية ،وزينب هندية ،وزينب روشانة ،وفاطمة عتيبية،
21
وحجية المكاوية ،وغربية المكاوية ،وخميسة المكاوية، جميل محمود
وخديجة نوارة ،وخديجة عبدالله حماد ،وفاطمة إبراهيم
المقامات على اآلالت يميل إلى النقص والزيادة المعروفة بـ«البيمول» و«الدييز» بكل درجاتهما ،ونزيد عليها في العالم
العربي استخدام ربع التون .وقد اعتمد كل الملحنين في العالم العربي التلحين في مقام «الحجاز»؛ لثرائه وشجنه وفرحه وحزنه واإلحساس العميق.
أما فن إيقاع الدانة فهو إيقاع مكي يستخدم مع أي مقام موسيقي حسب رغبة الملحن وتذوقه ،ويعود تاريخه
إلى ما قبل 870عامً ا وينسب هذه اإليقاع إلى يمن البيتي ،المعروف بأبي جعفر يمن البيتي ،وهو من سكان حارة الباب بمكة المكرمة؛ لذلك ُسمي «الفن اليماني» بمكة المكرمة نسبة إلى يمن البيتي ،وإيقاعاته تختلف بين «الدانة» الثقيلة
المعروفة ،وإيقاع الكف ،وإيقاع الرودمان ،واإليقاع الصنعاني ،وهذه هي اإليقاعات القديمة المنسوبة إلى يمن البيتي. والدانات ألوان عديدة ،يعتمد معظمها على القصائد المقفاة الموزونة ،مثل« :قف بالطواف» ،و«على شاطئ الوادي
نظرت حمامة» ،و«أهيم بروحي على الرابية» التي قدمها الموسيقار العميد طارق عبدالحكيم ،وأغنية «ترفق عزولي»،
كما أن معظم القصائد المغناة في الدانات القديمة هي القصائد العربية التي كتبت من المغرب إلى المشرق ،ومن شمال الخريطة العربية واإلسالمية ،إضافة إلى حضور الدانة بوضوح في لحن التراث الذي قدمه محمد علي سندي «أراك عصي
الدمع» ألبي فراس الحمداني وأحمد شوقي أمير الشعراء قدمت له «خدعوها بقولهم حسناء». ً ومعظم نصوص الدانات من الشعر اليمني والحجازي الفصيح ،ومن المعلقات المعروفة أيضا؛ ألن الفن ال وطن له في مفهوم الفنانين القدامى ،وفي مفهومنا نحن ً أيضا .أما بالنسبة للفنون الموسيقية في مكة المكرمة فهي كثيرة ،فمنها: «المزمار» ،و«الطنبور» وكالهما إفريقي اإليقاع ما عدا الغناء واأللحان فهما حجازيان محض.
ملف العدد
الفنانة توحة
بشيت وهذه كانت أشهرهن وأكثرهن مقدرة حتى إن المغنية توحة كانت قد قالت لي في حديث قديم معها :إنها كانت
أستاذتها في الغناء ،بل كانت في طفولتها مغرمة بها ،وكان
لفاطمة بشيت اسم شهرة ُعرفت به في كل أصقاع الحجاز وهو «كاكا» أو الخالة «كاكا» ،وزهرة بنت سمر الدين ،وعطية
22
عبدالله الحضرمي ،وفاطمة عمارة ،وزينب دنقاشية ،وحليمة بنت سرور ،ومعتوقة بنت سعدالله ،ومنسية بنت عبدالله،
وصفا عيادة ،وعائشة حوطية ،وفاطمة حوطية .ونالحظ من تكرار األسماء أن موضوع العوائل واألسرة الفنية كان موجودًا
بوضوح ،فتأثر الفن بال شك في أبناء األسرة الواحدة ،وفاطمة
إبتسام لطفي
كزبرية ،وكل هؤالء من مغنيات مكة المكرمة الراحالت
انطلقن للعربية ،وكانت سببًا مباش ًرا بما تمتلكه من إمكانيات
وفاطمة نجيدية وهن من مطربات جدة الراحالت ،وتوحة
بصورة بسيطة إلى تسجيل الحضور في عالم األغنية التراثية
المحلي ،أطال الله في عمرها ،وحضرت عهد األسطوانات
نجوم الغناء العربي مثل :أم كلثوم ،وأحمد رامي الذي غ ّنت من كلماته ،وحلمي أمين الذي لحّ ن لها وهو ملحن
رحمهن الله جميعً ا ،وشوق الجداوية ،وقمر الطاهرية،
مطربتنا الشعبية الكبيرة التي أثرت عالم الغناء النسائي البالستيكية ،وسجلت العديد من األعمال الغنائية لإلذاعات المختلفة ،واسمها الحقيقي فتحية حسن يحيى.
إبتسام لطفي تلتقي كبار نجوم الغناء العربي
هناك ً أيضا نعمة دنياري ،وليلى حسين ،وإبتسام لطفي
وهي بطبيعة الحال من أهم المطربات السعوديات الالتي
شهدت بدايات القرن العشرين في منطقة الحجاز عشرات المطربات الالئي أثرين الذائقة الفنية ،وحفرن في ذاكرة الغناء الحجازي وذاكرة الناس
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
لعصرنة الغناء النسائي ،والخروج من ثوب التراث المقدم
المطورة واألغنية الحديثة .كما أن إبتسام لطفي التقت كبار
أغنية «عنابي» الشهيرة بصوت كارم محمود ،وسيكون لنا
معها وقفة مطولة عن دورها المؤثر والعظيم في تطوير األغنية النسوية السعودية قبل احتجابها ،وهو نفس الدور
الذي قامت بإكماله سارة (إبتسام قزاز) التي انطلقت في منتصف السبعينيات من القاهرة مع محمد شفيق ،وسراج
عمر ،وسامي إحسان وغيرهم من الملحنين ،وقدمت أغنية سعودية غاية في الروعة ،وهي صوت من أعذب وأجمل
األصوات لوال احتجابها عن الغناء بعد أن ملكت قلوب محبي
الغناء في المملكة .ويمكن أن نذكر نجوى سلم (سمر) ،وهي مطربة عذبة الصوت ،جاءت من اليمن صغيرة في بداية
السبعينيات الميالدية ،وتعلمت الغناء واستفيد من صوتها
الجميل تحت إشراف مصطفى إسكندراني ،وعلي عبدالكريم سيد غناء التراث من جيله.
أما أشهر مطربات الطائف فهن :عطيفة الطائفية ،ومريم
الطائفية -رحمهما الله -ولطيفة مغربي .ومن مطربات المدينة المنورة كانت صفية شتيوي .من أشهر مطربات «ليلة الغمرة»
في األعراس في الحجاز كانت هناك أسماء كبيرة ،وارتبطت
بتأريخ الغناء في أعراس الحجاز منهن :فاطمة خصيفية،
وسلطانة ،ومستورة القريشية ،ومنسية ،وفاطمة بنت أبو حالوة ،وعايضة النفيعية.
فوزي محسون وعبدالله محمد ومحمد علي سندي
حراس التراث
حفلت أوساط الغناء الرجالي في منطقة الحجاز بكثير
من األسماء التي ازدهر عطاؤها في القرن الماضي ،وكان بعضهم أمي ًنا على العمل الفني الفلكلوري ،وظل يحفظ هذا ً متوارثا بأمانة (أي يقدم هذه األلوان كما هي) من هؤالء اإلبداع
فناننا الراحل الكبير محمد علي سندي ،األمين األول على
فوزي محسون
عطاء التراث الغنائي الحجازي ،والراحل محمد باجودة حافظ على التراث الغنائي الشهير .وهناك من ابتكر وابتدع كثي ًرا من األلحان المبنية على التراث إلى جانب اإلبداع الشخصي،
23
ومن هؤالء كان فناننا الكبير فوزي محسون وعبدالله محمد، ومحمود حلواني -رحمه الله -والفنان عبدالله مرشدي،
وكذلك فؤاد بنتن -رحمهم الله جميعً ا -ومصطفى إسكندراني ً أيضا الفنان الشعبي محمد أحمد وغيرهم .ولعلي أذكر
باجودة أحد أبرز مطربي ومؤدي األغنية الحجازية؛ ولد
بمكة المكرمة سنة 1335هـ 1915 -م ،أطلق عليه الفنان محمد
علي سندي لقب قائد قافلة التراث الغنائي؛ الهتمامه بنقل التراث ،وإلمامه بالمقامات ،وعذوبة صوته .بدأ حياته الفنية
سنة 1354هـ بممارسة العزف على العود ،ثم جمعته الهواية
محمد علي سندي
مع مجموعة اهتمت بالتراث الغنائي؛ منهم :عرفة صالح،
ومحمد الريس ،وصالح لبني ،ومحمد علي سندي ،وعمر باعشن ،وعلي باعشن .قدمت له اإلذاعة العديد من األغنيات الشعبية .وفي عام 1967م سجل له التلفزيون مجموعة كبيرة
من هذه األغنيات منها« :بالله تحل العقد المبهمة» ،و«نسيم الصبا هب علينا» ،و«فارج الهم» ،وكانت هذه أول مجموعة غنائية شعبية يقدمها التلفزيون السعودي عند تأسيسه؛ إذ
حرص على عقد جلسة أسبوعية للطرب ومراجعة وترديد
الفنون الشعبية ،وكثي ًرا ما كان يحضرها فنانون كبار منهم:
طارق عبدالحكيم ،وعبدالله محمد ،وفوزي محسون ،وعمر
كدرس ،ومحمد عبده ،وكثير من الفنانين الشباب مثل: محمد أمان وغيره ،وذلك لحفظ الفن الشعبي السعودي.
عبدالله محمد
ملف العدد
مسيرة الغناء السعودي.. تجارب ومراحل في إستراتيجية الذاكرة المستمرة أحمد الواصل أكاديمي وناقد سعودي
إن التراث الثقافي غير المادي –أي المعنوي -من ضمن ما يشمل فنون األداء والقول والحركة،
24
وفن الغناء يعد من الفنون الجماعية الحاوية لفن األداء؛ أي :صوت الحنجرة واآللة ،والقول: أي النص الشعري ،والحركة :أي اإليقاع واللعب أو الرقص المصاحب.
واستطاعت هذه الفنون األدائية المختلفة أن تخلق قالب «األغنية» الذي عبر عن القرن العشرين ً أرشيفا أعاد قراءة التراث وأضاف عناصر جديدة، لكل المجتمعات في الكرة األرضية ،وشكلت وانقطع عن كل هذا إلى المجهول ،ولكل مجتمع مزايا إما أن تجعله يقرأ المستقبل بمواهبه
ومؤسساته ،وإما أن تنتهي كل التجربة الثقافية إلى التبدد.
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
فإذا ما لحظنا من الناحية الجغرافية شبه الجزيرة العربية
وتنوعها البيئي ،وفي المملكة العربية السعودية حيث تشكل
مساحتها الكبيرة قوة في التنوع من حيث توزيع األقاليم وتنوع
ثقافاتها في تفاصيلها رغم اشتراكها في بعض تلك الفنون دون أن يغفل آثار الجوار سواء ألقاليم مشتركة الثقافة داخل شبه
الجزيرة العربية أو من خارجها في القارتين اآلسيوية واإلفريقية: أولاً -اإلقليم الغربي أو الحجازي :مكة ،والمدينة ،والطائف، وينبع.
ثانيًا -اإلقليم األوسط أو النجدي :الرياض ،وسدير ،والقصيم. ً ثالثا -اإلقليم الجنوبي :عسير ،ونجران ،وجازان. رابعً ا -اإلقليم الشرقي :األحساء ،والقطيف.
خامسا -اإلقليم الشمالي :حائل ،وتبوك ،والجوف. ً
الفنون الشعبية في الجزيرة العربية
وما بين تناقل فنون األداء الموروثة عبر الذاكرة الشفوية
بمختلف أنماطها وطرائق أدائها ورقصاتها المصاحبة إن لزم،
وبين نشأة األغنية بعناصرها األساسية ،ومن ثم نشأة صور الملحن المستقل عن المغني ،وأساليب األداء ،واتجاهات
التلحين ،ومدارس الغناء المختلفة؛ ما يبني تاريخ فن الغناء في أي بلد عربي منذ القرن العشرين .أقول :وما بينها يمكن مطالعة
تجمد بعض فنون األداء والقول والحركة حين سجلت بوصفها ً نصوصا من الشعر المغنى ،وال يمكن عزلها عن تقاليد تلزمها وطقوس تصاحبها في أدائها ،ومن ثم التفاعل معها .ويمكن التذكير بموسوعتين –على سبيل المجاز -حفظتا في منطقتين هما أدعى إلى الشعور باكتساح قالب «األغنية» الذي قطع بشكل
إذا كانت تشترك بعض األقاليم في بعض الفنون سواء داخل
نهائي مع أنماط فنون األداء والقول والحركة ،وهما اللتان مهدتا
والكويت والبحرين وقطر كذلك فن النهمة والشعر الزهيري بين
(1994م) الذي أشرنا إليه في المقدمة بوصفه يقدم مداخل لفنون
المملكة أو خارجها مثل :فن السامري والشعر النبطي بين نجد األحساء والكويت والبحرين وقطر ،فإن فن الكسرة يتبع مدينة
ينبع ،والمجرور إلى الطائف ،والزامل إلى نجران غير أن المجس مشترك بين مكة المكرمة والمدينة المنورة.
ألن يصدر كتاب «الفنون الشعبية في المملكة العربية السعودية» من التراث غير المادي في أقاليم المملكة. تقاليد وطقوس
وإذا كان فن المزمار حبشيًّا وافدًا إلى الحجاز ،فإن فن
وما بين النماذج الفائتة انتقلت فنون األداء والقول والحركة
إلى نجران ،والصهبة والدور وافدان من مصر إلى مكة المكرمة،
السامري ،نحو قالب األغنية الذي لم يكن في األغنية السعودية، ً مترسخا في مراكز الغناء العربي خالل القرن العشرين. بل كان
الطنبورة فنٌّ صومالي وافد إلى األحساء مثلما فن المرافع وافد كذلك فن الدان وافد من اليمن إلى الحجاز .غير أن هذه الفنون
الناشئة في كل إقليم متطورة عبر الزمن ،كذلك الوافدة اتخذت صور األداء والتواتر مندمجة في مكان معيشتها؛ ما يجعلها جزءً ا
من العناصر الثقافية والمكونات الحضارية.
من أنماطها ذات التقاليد والطقوس ،مثل فن المجرور أو فن
25
وفي القرن الحادي والعشرين دخلت المجتمعات حالة
جديدة من تطور فن الغناء؛ إذ أتاحت وسائل نقل األغنية وأجهزة تسجيلها صناعة أغنية لعصرها ال يمكن التنبؤ بمستقبلها ،ولعلنا
نجمل تاريخ الغناء السعودي خالل قرن كامل عبر مراحل تلخص هذه التجربة الكبيرة:
ملف العدد
المرحلة األولى -الرحلة الفنية والتسجيالت األولى
يحفظ التاريخ تسجيالت غنائية عام 1909م عن طريق موظفي
القنصلية الهولندية في جدة ،سجلوا نماذج من األذان وتلبيات الحجاج من إندونيسيا ،وأصوات مقرئين من زنجبار واليمن ،وهي تسجيالت الهولندي سنوك هوروخورنيه ،ويذكر الباحث محمود
صباغ حكاية هذه التسجيالت في مدونته« :كان سنوك هوروخرونيه مسؤولاً رفيعً ا في الدبلوماسية الهولندية عبر البحار في مواقع نفوذها في جزائر جاوى وجزر الهند الشرقية .كانت مهمته تنحصر
في رصد واستشراف اتجاهات الفكر لدى السكان الجاويين المحليين،
وكان ذلك باعث رحلته األولى إلى مكة عام 1885م .لكن نزعات
المعرفة واالستطالع نمت لديه ..فاستغل درايته وقدراته اللوجستية
الشريف العبدلي
في رفد حقلي اللسانيات والموسيقا اإلثنيّة وفلكلور الشعوب بمواد رائدة عن مكة .وفي سبيل تنفيذ مشروعه أرسل سنوك الفونوغراف
الخاص به إلى الحجاز عام 1906م عبر ترتيب يشرف عليه السيّد محمد
سعيد تاج الدين أحد أقطاب نقل حجاج جنوب شرق آسيا بالسفن البخارية ،مع القنصلية الهولندية في جدة وعبر مندوبه وشقيقه في الحجاز السيّد جمال الدين آل تاج الدين.
سُ جل على تلك األسطوانات قدر هائل من كل ما يمكن أن يخطر
على البال مما يخص الموروث الحجازي بين عامي 1906و1909م :سور
26
انتقلت فنون األداء والقول والحركة من أنماطها ذات التقاليد والطقوس ،نحو قالب األغنية الذي لم يكن في األغنية مترسخا في مراكز السعودية ،بل كان ً الغناء العربي خالل القرن العشرين
قصار من القرآن الكريم ،وأذان الحرم المكي ،وابتهاالت دينية، وموشحات مديح نبوي وتزهيد ،وغناء محكي ،ودانات مكيّة مُغ ّناة
ومجسات سجلها الشريف هاشم العبدلي عمل بين دانات ّ
على األصول والفروع ،وتسجيل لغناء جماعي في الحارات الشعبية
بمجس من شعر الملك عبدالله األول بن الحسين (انظر ملحق:
على آلة العود ،وألوان من المجرور والحدري والفرعي ،ومجسات كمقاطع من الصهباء المكيّة ويماني الكف ،وغناء نسائي ،وشعر
بدوي ،وغناء لنساء بيشة ،ومقاطع من احتفاالت الزواج ،ومقاطع
ترصد األهازيج المغناة في االحتفاليات العامة مثل :افتتاح محطة معان الحجازية ضمن سكة حديد الحجاز عام 1907م.
لكن في سجالت شركة ميشيان األلمانية حفظ أكثر من
(ت1926.م) –على وجه التقريب -في العهد الهاشمي ،فقد تغنى
الشعر المغنى) ،وحفظت تسجيالت أخرى في الخمسينيات لمغنية تحمل اسمً ا مستعارًا «كوكب الحجاز» تدعى ليلى حسين. ويعد من سجّ ل لهم هذه الفترة طبقة من رواة الغناء
الحجازي التقليدي تشكل جيلين من أبرزهم :سعيد أبو خشبة
وحسن جاوة –من عائلة باجنيد -وعبدالرحمن مؤذن شهير باألبالتين –من عائلة دحالن -وحسن لبني حتى من ورث ذلك
الجيل محمود حلواني ومحمد علي سندي .وقد ارتحل بعض
منهم إلى إسطنبول لدراسة الموسيقا مثل أحمد شيخ (اللهبي، ً سابقا .بينما ،2009ص )24 :وذاع صيته في الشام كما تحدثنا ارتحل بعضهم إلى مصر لتسجيل أعمالهم.
إذا كان الشريف العبدلي ارتحل إلى مصر ليسجل أعماله،
فإن مجموعة من فناني األحساء والرياض ذهبت إلى البحرين
والكويت لتسجيل أعمالها منذ منتصف الخمسينيات حتى ظهرت شركات األسطوانات نهاية الخمسينيات ،فتمكنت من توفير أجهزة تسجيل وإنشاء أستوديوهات في الرياض واألحساء
لشركات مثل :األسود فون ،ونجدي فون والتلفون.
وقد حفظت لنا هذه الشركات أسماء مغنين منها :شادي
سالمة العبدالله العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
القصيم (صالح الدوسري) ،وشادي الرياض (سعد اليحيا)،
وفرج الطالل ،وفتى حائل (سالم الحويل) ،ووحيد الجزيرة (فهد ابن سعيد) ،ومن األحساء عبدالرحمن الهبة ،وعايد عبدالله،
وعبدالله العماني ،وفرج المبروك ،ومن الحجاز عبدالعزيز
شحاته ،ومحمود حلواني ،ومحسن شلبي ،ومن الجنوب علي عبدالله فقيه (بشير ،2009 ،ص.)67
وقد نشأت في تلك الحقبة إذاعات أهلية لعل أشهرها
«إذاعة طامي» في الرياض لصاحبها عبدالله الطامي (-1921
2000م) ،وإذاعة في الدمام لعبدالله الشعالن ،وعلى الرغم من أن إذاعة جدة قد أسّ ست عام 1949م إال أن «إذاعة طامي» ّ تمكنت
من نقل األخبار السياسية واالجتماعية ،وبث األغنيات ،وبخاصة تسجيالت األسطوانات رغم منعها من البث في اإلذاعة الرسمية
قبل افتتاح إذاعة الرياض (1964م).
المرحلة الثانية -انطالق الفنانين واإلذاعة الرسمية
يشير المؤرخ ،محمد علي مغربي ،في كتابه «مالمح من
الحياة االجتماعية في الحجاز في القرن الرابع عشر الهجري»
(1982م) إلى مسألة اجتماعية تختص بتحول في تقاليد تصاحب
فنون األداء والقول والحركة« :كان هناك من يمارس ذلك النوع من الترويح ولكن في السر وبعيدً ا عن العيون واآلذان في أقبية
البيوت ،أو في األماكن المكتومة التي ال تظهر فيها أصوات آالت الطرب ،أو في الخالء بعيدً ا عن العمران».
برغم أن جهاز الغرامافون (أو صندوق الغناء) أتيح نهاية األربعينيات تهريبًا إال أنه لم يسمح به رسم ًّيا حتى عام 1961م.
ولعلنا نعد إنشاء وزارة الدفاع السعودية لمدرسة موسيقات ً حدثا بار ًزا حين عاد من الجيش العربي السعودي عام 1953م
دراسته في القاهرة وترأسها طارق عبدالحكيم ،وحددت أهدافها: أولاً -تقديم التحية العسكرية (السالم الملكي السعودي) .ثانيًا- الترفيه عن الضباط وصف الضباط والجنود.
طالل مداح
نشأت «إذاعة طامي» في الرياض، وإذاعة في الدمام لعبدالله الشعالن، وعلى الرغم من أن إذاعة جدة قد أسست عام 1949م إال أن «إذاعة طامي» ّ تم ّكنت من نقل األخبار السياسية
27
واالجتماعية وبث األغنيات ،وبخاصة تسجيالت األسطوانات بالرغم من منعها من البث في اإلذاعة الرسمية ّ وكلف قيدت أنشطتها في المناسبات الوطنية واألعياد،
وزير اإلعالم عبدالله بالخير عبد الحكيم أن يكوِّن فرقة اإلذاعة عام 1961م لتكون نواة لعمل أستوديوهات اإلذاعة ودعم األغنية الناشئة آنذاك .خالل هذه الحقبة سوف تعرف أصوات كثيرة
بعضها ألول مرة يظهر مثل غازي علي وطالل مداح وجميل
محمود ،وبعضها انتقل إليها من مرحلة الغناء في السهرات واألعراس ،مثل :محمود حلواني ،ومحمد علي سندي ،وعبدالله
محمد ،وفوزي محسون .كما أنه وضع مؤلفات تعليمية تخص
الموسيقا العسكرية ،مثل« :دليل العازفين الموسيقيين ً وحديثا». العسكريين» ،و«تاريخ الموسيقا العسكرية قديمً ا المرحلة الثالثة -انتشار األغنية السعودية
ونورد شهادة لعبدالرحمن اللهبي (عازف كمان هاو) أدرجها
ضمن مذكراته «رجال الطرب الحجازي» (2009م) ،فيقول عن الفنان طالل مداح أحد رموز هذه المرحلة: سعيد أبو خشبة
«وخرج صاحبي في عام 1380هـ (1960م) في حفلة من
ملف العدد
الحفالت التي تقام للملك سعود ،وغنى
تطوير األغنية السعودية ،ووضعها على قدم
على تلحينها عبدالله محمد والريس ،وقد
قوية في القاهرة وبيروت والكويت من خالل
أولى أغانيه (وردك يا زارع الورد) وقد عمل صاحبه الريس محمد على الكمان ،وحامد
فقيه على اإليقاع ،وكانت ليلة انطالقه وشهرته».
المساواة والغناء العربي آنذاك في منافسة
نقالت مهمة في تجربته «وردك يا زارع الورد» (1960م) ،ثم بداية األغنية الطاللية «عطني
المحبة» (1968م) ،ثم حقبة الرومانسية
وقد شهدت هذه المرحلة تكريس
الجديدة أغاني مسلسل «األصيل» (1973م)،
واألسطوانات حين أسّ س طالل مداح
وتعزيزها بأعمال شهيرة بين عامي – 1976
انطالقة األغنية الجديدة من بعد المسرح ولطفي زيني والشاعر المنتظر شركة «رياض
فون» مطلع الستينيات ،واستطاع مداح أن يقدم تجربة الفتة في
مشاكل تواجه التراث الموسيقي وتاريخ األغنية؛ أولاً -إهمال التوثيق واألرشفة ثانيا -انعدام التربية والتثقيف والصيانة. ً الموسيقي للداخل والخارج
28
وهي حقبة تعاونه مع الملحن سراج عمر، محمد عبده 1978م «مقادير ،وأغراب ،والموعد الثاني،
وال تقول ال تقول» كما أسهم في هذه االنعطافة شعراء طوروا
شكل الكتابة الشعرية الغنائية مثل :إبراهيم خفاجي ،وبدر بن عبدالمحسن ومحمد العبدالله الفيصل.
شهدت هذه الحقبة انطالقة محمد عبده ،وسعد إبراهيم،
وعودة سعيد ،وقدم دعم طالل مداح من خالل شركته أسماء
كثيرة مثل :عبادي الجوهر ،وإبتسام لطفي ،وعتاب ،وحيدر
فكري ،وسالمة ،ويسرى البدوية ،وهدى مداح؛ إذ كان حضور المرأة في تأليف األغاني والغناء والعزف الف ًتا بشكل متواز مع
إستراتيجية الذاكرة المستمرة يجب التنبه إلى ما يواجه اإلنتاج الثقافي من مخاطر
التلف والفقد ،وتقديم مقترحات تتيح له عمرًا أطول لتكوين
ذاكرة األجيال المستقبلية.
ويمكن أن نضع هذا السؤال :ما هي المشاكل التي تواجه
التراث الموسيقي (أو الفنون الشعبية) وتاريخ األغنية؟ أولاً -إهمال التوثيق واألرشفة والصيانة .ثانيًا -انعدام
والفنون ،وتشغيل لجان متعددة لحصر وتوثيق الفنون،
وتطوير برامج تعليمية وتثقيفية ،وتوفير صاالت عروض، وبناء أستوديوهات تسجيل ،وتأسيس فرق لكل إقليم بحسب الفنون ومناسباتها.
ويمكن حصر نقاط محددة للدعم األساسي على النحو اآلتي :أولاً -مركز دراسات لفنون األداء :الغناء والرقصات
التربية والتثقيف الموسيقي للداخل والخارجً . ثالثا -انعدام
والنصوص واأللبسة .ثانيًا -إنشاء بيوت ألداء الفنون الشعبية في كل منطقةً . ثالثا -تأسيس متاحف لحفظ األسطوانات
المستمرة» حيث تتمثل في دعم مشترك بين أكثر من جهة
خامسا -تشجيع تأليف الكتب المتخصصة وتفعيلها إلكترونيًّا. ً
حفظ حقوق المؤلف عبر وسائل التداول التجاري.
إذن ال بد من وضع ما أطلق عليه «إستراتيجية الذاكرة
واآلالت الموسيقية .رابعً ا -وضع موسوعة شاملة للفنون
وقطاع ،وهي مهمة وطنية واجبة تتصل بمهمة حضارية
سادسا -إتاحة في الفنون والسير الذاتية لمبدعي الفنون. ً
إنسانية شاملة؛ إذ يتوجب وفق المسؤولية االجتماعية التنبه إلى الحفاظ على «التراث الوطني» –والفنون األدائية فرع منه-
بوصفه همًّ ا مجتمعيًّا يقوم على جهود الطبقات والفئات قبل
المؤسسات والمنظمات وما في حكمهما: الدعم األساسي
يمكن أن تدعم الفنون بإنشاء مؤسسات أو مراكز
دراسات أو تأسيس أقسام بحثية في جمعيات الثقافة
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
تسجيالت اإلذاعة والتلفزيون للباحثين والدارسين والمؤرخين إلكترونيًّا .سابعً ا ،إصدار سلسلة ثابتة :كتب وأسطوانات.
وهي ممكنة حين تجدول حسب اإلمكانيات والخطط
ذات التدرج الزمني ،مع استثمار خبرات القطاعات المختلفة
تحت مظلة «المسؤولية االجتماعية» التي تتضامن مع ذات
االختصاص .إن مشروع التحول الوطني لهو قادر على احتواء االحتياجات األساسية إلنشاء ودعم الذاكرة المستمرة ،وهذا
هو األمل؛ لنعمل جهدنا ليتحقق.
الرجل سواء عند ذوي المرجعية البدوية أو
حيث إثبات الجدارة بمعايير تشابه صعوبات
الحضرية.
مطلع القرن العشرين ،وال تغفل التطور الفني
المرحلة الرابعة -عولمة الغناء العربي
وأساليبه بموازاة التطور التقني وسرعة ابتكاراته
بدأت بوادر هذه المرحلة في النصف الثاني
وتنوعها في الحجم والوظيفة والخدمة.
من التسعينيات (نهاية القرن العشرين)؛ إذ
وعلى الرغم من أن أزمة الملحن دائمة
دخلت صناعة الكاسيت مرحلة النهاية بظهور
في نقصانه مثل الشعراء المجددين غير أن
الشبكة اإللكترونية ،وخدمة تحميل وتداول
الحناجر ،مع شركات اإلنتاج ،تأخذها رغبة
األعمال الفنية رقميًّا بوصفها مادة إعالمية
عتاب
بالرغم من ظهور صناعة األسطوانة الرقمية إال
أنها لم تستطع أن تصمد.
المنافسة في التفرد بأعمال ولو بمستويات متفاوتة دفعت إلى ضخ كمية من األلحان
التي كانت تعبأ في أشرطة الكاسيت ما بين أربع أغنيات وعشر
غير أن الفضائيات شكلت فرصة كبيرة لتحقيق االنتشار ألي
أغنيات ،ثم انتقلت مع األسطوانات الرقمية نحو خمس عشرة
تكريس األسماء الجديدة وإعادة تلميع األسماء المخضرمة .وقد
منفردة ،وال تسلم من هدر الحقوق في النقل والتداول .ولكن
أخرى أن يكسر سلطة جهاز التحكم عن بعد وسلطة نظام برامج
والكاسيت ،واألسطوانة الرقمية) ووسائط النقل التقني (الجوال،
مغنٍّ أو مغنية .وأسهم تصوير األغنيات أو نقل بث الحفالت في
استطاع موقع اليوتيوب وما يماثله أو يعتمد على خدمته من مواقع
الفضائيات وعناء االنتظار والتوقع مكرسً ا طواعية مارد المصباح السحري ،فأمسى حقيقة المصباح اإللكتروني .ظهرت في هذه
الحقبة أسماء جديدة مثل :راشد الماجد ،وراشد الفارس ،ووعد، وجواد العلي ،وعباس إبراهيم ،وأسيل العمران .ودعمت حناجر
عربية في هذه المرحلة وبرز منهن أنغام وذكرى وأصالة ويارا ومنى أمرشة.
وتكشف هذه الحقبة عن تحول في مسار التجربة الفنية من
أغنية ،ومن ثم خضعت لمنطق الوضع المتغير بإصدار أغنية تطور صناعة وسائل التداول (األسطوانات البالستيكية والنايلون، الالب توب ،اآلي بود ،اآلي باد ،اآلي تونز) ومواقع التداول المتنوعة
مثل( :اليوتيوب ،والساوند كالود) دفع بعملية تسهيل الحصول على العمل الفني في أي لحظة ،ونقله وحفظه مع خطورة هدر ً وموزعا ومنتجً ا) في العالم حقوق المؤلف (شاع ًرا ،وملح ًنا ،ومغنيًا
العربي؛ وهو ما يسهم في تفاقم مشاكل ينبغي مواجهتها بالتعاون مع مختلف المعنيين بشكل جدي.
عبادي الجوهر
راشد الماجد
29
رابح صقر
عبدالمجيد عبدالله
ملف العدد
الحاجة إلى ثقافة موسيقية فكرية فلسفية جاء في الحديث «إن الله جميل يحب الجمال» .لقد دعا الله سبحانه وتعالى اإلنسان إلى التدبر فيما يحيط به من بديع الخلق وجميل الصنع.
ذلك أن مُ نشئ هذا اإلبداع والجمال وهذا الصنع والنظم هو الله عز وجل.
خليل المويل باحث في علم الصوت والموسيقا
إن التعاليم السماوية تتالءم مع الخصائص الجسدية والروحية لإلنسان، ً وإن حب الجمال –بشهادة علماء النفسّ - واحدا من األبعاد الروحية يعد المودعة في اإلنسان ،والله هو الذي أودع في وجودنا حب الجمال
لنستدل به عليه.
30
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
إن الموسيقا واإلنشاد «الغناء» كالهما أبرز وأكمل
مصاديق الجمال ومظاهره؛ إذ تجد تأثيرهما العميق في كل إنسان أيًّا كان انتماؤه أو عقيدته ،وأيًّا كان سنه وثقافته
وجنسه ،وبشكل ال يمكن إنكاره أو توصيفه.
واإلسالم يحث على تالوة القرآن الكريم بصوت حسن،
كما ورد في األحاديث.
على الرغم من ذلك ،فإن السالطين في العصور الماضية
من الدولة اإلسالمية ،قد عمدوا إلى توظيف الغناء والموسيقا في مجالس اللهو؛ إذ كانوا ينفقون أموالاً طائلة على
الموسيقيين والمطربين ،وهذا ما يذكره الكثير من المؤرخين
ً وخصوصا أبا الفرج األصفهاني في كتابه «األغاني» في كتبهم.
ًّ خاصا بموضوع الغناء والعازفين والشعر الذي يعدّ كتابًا
واألدب.
وفي عصرنا الراهن يتم التعاطي مع مقولة الموسيقا
والغناء بمختلف األشكال واألهداف .وهذه األنواع المختلفة ً أحيانا إلى تخدير روح اإلنسان وجميع جوارحه ،وتعمل تؤدي على توظيفها واستخدامها في األهواء والشهوات.
من هنا ،ومن هذا االختالف جاءت ردود فعل في تحريم
الموسيقا والغناء ،واختالف رجال الدين حول هذا الموضوع الحساس .فمنهم من رأى أن الموسيقا أداة كسائر األدوات
األخرى كالحاسب اآللي ،والراديو ،والتلفاز ،أو شبكة
اإلنترنت ،لها أبعاد أخرى مختلفة ومتعددة .فيمكن توظيفها ّ والمضلة ،وتسفيه األحالم وإهدار في إطار األهداف الهدامة
غالف المجلد السابع عشر من نسخة أبي الفرج األصفهاني في كتاب األغاني، كتب في الموصل سنة 610هـ 1219 /م ,محفوظ في إسطنبول.
وتمسك أفالطون بالرأي القائل :إن الموسيقا ينبغي أن
تكون وسيلة من وسائل دعم الفضيلة واألخالق ،وكان يرى أن
الموسيقا أرفع من الفنون األخرى على أساس أن تأثير اإليقاع واللحن في الروح الباطنة لإلنسان وفي حياته االنفعالية أقوى
طاقة الشباب الفاعلة في المجتمع .كما يمكن االستفادة منها
من تأثير العمارة أو النحت ،وهكذا فإن الطفل الذي يستمع
وخلق الحوافز والدوافع الروحية والعاطفية في المسار
يشعر عادات وقدرات مرهفة تتيح له تمييز الخير من الشر.
في بلوغ األهداف السامية من قبيل ترويج العلم والفكر، الصحيح.
الموسيقا واألخالق
إلى المقامات الموسيقية المناسبة تنمو لديه من دون أن وقد اتفق أرسطو مع أستاذه أفالطون في هذا الرأي،
وذهب إلى أن مفعول الموسيقا في إثارة االنفعاالت النفسية
كما يتفق مع هذا الرأي الفالسفة القدماء؛ إذ كان
يماثل الدواء في شفاء الجسد ،ومن ثم أثار أرسطو أفكارًا
تستخدم من أجل تحقيق األخالق الصالحة ،وأكد التأثيرات
قدرة التعبير التي تنطوي في األنغام واإليقاعات وتحدث
الفيلسوف اليوناني أفالطون يرى أن الموسيقا ينبغي أن
األخالقية للموسيقا ،ودعا إلى استبعاد بعض المقامات مثل »lonian« :و« »Lydianمن الدولة؛ ألن فيهما ميوعة
تبعث على االنحالل في األخالق .أما المقامان »»Dorian و« »Phrygianاللذان يتميزان بروح عسكرية فمن الواجب
الحث على استخدامهما .فهو يرى أن للمقامات اليونانية صفات أخالقية.
31
انشغل بها فالسفة الجمال المحدثون ،حينما تساءل عن
هدوءً ا واستقرارًا عجيبين في النفس.
ً ارتباطا من هنا نعتقد أن الصوت والموسيقا يرتبطان
قويًّا بأخالق الفرد؛ ألنهما يؤثران في تصرفاته وفي أعصابه،
فاإلنسان مكون عصبي ،يتأثر بما يسمع وبما يرى .قال روبرت
شومان« :إذا أردت أن تعرف أخالق الشعوب استمع إلى موسيقاها».
ملف العدد
من هنا أعتقد أن علينا النظر إلى ما ننتج من موسيقا في
إن مشكلتنا الحقيقية تكمن في عدم وجود ثقافة موسيقية
لشعوبنا .فمنطقتنا عريقة بفنونها وفكرها وموروثها النغمي
تليق به ،ونقدمه إلى العالم .لذلك نحتاج إلى دورات تثقيفية بهذا
بالدنا ،وعلينا أن نهتم بنوعية األعمال الموسيقية التي نقدمها الذي يعكس ثقافة المجتمع عبر العصور. ليس لدينا موسيقيون مثقفون
لدينا كم هائل من المهتمين في المجال الموسيقي،
ولدينا كم هائل من المهتمين بتعلم العزف على اآلالت
الموسيقية ،ولكن هل يوجد مثقفون موسيقيون؟ هل يوجد من هو مهتم بالفكر والفلسفة من وراء الموسيقا؟!
العلم وهذا الفن الجميل؛ كي نرفع من المستوى الفني لإلنتاج الموسيقي .وذلك باستقطاب العلماء والمفكرين المختصين؛
كي يقودوا مسيرة االرتقاء بهذا الفن إلى مستويات عليا.
قال لي أحد الموسيقيين العراقيين ،أستاذ موسيقي في
النمسا« :نحن العرب متخلفون ٦٠٠عام عما وصل إليه العالم
في مجال علم الموسيقا».
فهل باإلمكان تقليل هذه الفجوة التاريخية.
معرفتنا بالموسيقا سطحية جدًّ ا نستخدمها للترفيه
لو تحدثت من خالل تجربتي الموسيقية كمنشد ديني
بشك»؛ ما أدى إلى هذا اإلنتاج الركيك في األعمال
موسيقيين كبار من وطننا العربي ،وكباحث يدرس للطالب،
والتسلية ،ونعدّ الموسيقا لالستراحات وأغاني «الهشك الموسيقية واإلنشادية والغنائية والفنية بشكل عام في شتى مجاالت الفنون.
مشكلتنا الحقيقية تكمن في عدم وجود ثقافة موسيقية فكرية فلسفية
32
فكرية فلسفية علمية ،تؤهلنا لتقديم موروثنا المحلي بطريقة
علمية ،تؤهلنا لتقديم موروثنا المحلي بطريقة تليق به ،ونقدمه إلى العالم
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
عشق علم المقامات الموسيقية؛ إذ تعلمتها على أيدي فسأقول :إن الكثير من هؤالء الطالب الذين أدرس لهم جاء ليتعلم وهو جازم أن الموسيقا ليست علمً ا إنما فقط للتسلية،
وأنها حرام سيتوب منها بعد ترك نزوته هذه .ولكن عندما
يجلس معي بعض هؤالء ،وندخل في نقاش تتغير أفكاره تدريجيًّا ،ألنه أصبح يرى الزاوية األخرى من هذا العلم الجميل.
وما حدث أن بعضهم ترك االعتقاد بأنها فقط للهو والمجون،
وبدأ يتعلم الموسيقا على أصولها العلمية الصحيحة ،ثم أصبح «منشدً ا» ينشد األلحان الوجدانية والتأملية التي تقربنا إلى خالق هذا الكون الرائع.
33
ملف العدد
نهضة موسيقية في الستينيات الموسيقا منذ القدم شيء أصيل في الجزيرة العربية وفي ثقافتها ،وقبل أن نتحدث
عن الموسيقا في المملكة يجب أن نعرف أن الموسيقا هي ميزة تجمع كل الشعوب، ومن يريد أن ينفي الموسيقا من حياة الشعب السعودي هو كمن ينفي حاجة أساسية
في غريزة اإلنسان والمجتمع الطبيعية.
لقد نشأنا على الموسيقا في طفولتنا ،بل إن الحجاز والخليج كانا يحتضنان الموسيقا
من العهد العباسي ،وما زلنا نسمع هذه اإليقاعات حتى اليوم مثل السامري .لم تكن
الموسيقا مرهونة في المملكة بعهد الستينيات من القرن الميالدي المنصرم فقط عندما ظهرت األسطوانة ،إنما كانت قبل ذلك بقرون متأصلة في تاريخ الجزيرة العربية.
34
محمد العثيم كاتب مسرحي
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
كانت
الموسيقا
في
المملكة
خالل
ً خصوصا الستينيات تحظى ببيئة حاضنة لها،
في مكة والرياض ،وهي ما كانت تعرف بأسواق األسطوانة ،وكان هناك من يقتني هذا التسجيل
الغنائي ،ويتخذ منه مهنة أساسية له في ذلك
الوقت ،وعلى سبيل المثال تسجيالت «سالمة القديمة» وكانت تتداول وكان المجتمع آنذاك ً مثقفا موسيقيًّا ،فلقد كان أغلب الناس يعرفون ً إبداعا النغم ،ويعرفون اإليقاع ،ويبدعون في ذلك
كبي ًرا ،ولم يكن هناك أي حالة إنكار أو محاربة للموسيقا بل كانت أشبه بالظاهرة المعروفة لدى
الجميع في المجتمع ،ومن كان ال يريد الموسيقا كل ما عليه ألاّ يستمع لها من دون أن يؤذي أحدً ا. أما اآلن فأنت تريد الموسيقا واآلخر ال يريد
الموسيقا بسبب أيديولوجية فكرية معينة، ويفرض اآلخر عليك ألاّ تستمع بدلاً من أن يترك ذلك الخيار لك.
في حقبة الستينيات كانت صور كل من يغني
تكسو األسطوانات المباعة وواجهات المحالت.
حجاب بن نحيت
وعندما ظهر مسرح التلفزيون أتى للرياض شباب
الحجاز الذين يمتهنون الغناء مثل :طالل مداح،
ومحمد عبده ،وحجاب بن نحيت ،وطارق عبدالحكيم،
وآخرون .وكانوا يتغنون على مسارح الرياض العامة ،ولم
يكن هناك أي مشكلة ،ولم تكن هناك أية صعوبة في إعالنها. الصحوة تمسك بزمام األمور
لكن في حقبة الثمانينيات أخذت الصحوة زمام األمور،
ليبدأ رفض الموسيقا ينمو في داخل المشهد االجتماعي
حتى إننا ما زلنا نعانيه حتى اآلن؛ بسبب تلك األفكار التي ّ تمت للمنطق وال لحس اإلنسان ورغبته في تم تسريبها وال
الجمال.
لقد أنشأت تلك األفكار اعتقادًا لدى جيل بأكمله -بعد أن
كانت األجيال السابقة متصالحة معها -بأن الموسيقا حرام
وبشكل قطعي ال يقبل الجدال ،من دون معرفة أن هناك ً خالفا ،ومع ذلك فأولئك الذين روّجوا لرفض الموسيقا وهم الصحوة ،استخدموا الموسيقا ومقاماتها كوسيلة لترويج
أفكارهم مثل :األناشيد القائمة في حقيقتها على المقامات الموسيقية.
لألسف لم يعرف العالم ثقافتنا؛ ألننا ظلمنا أهم جزء
فيها وهو الموسيقا تحت اسم الخصوصية الثقافية ،وكأن خصوصيتنا الثقافية تتعارض مع الموسيقا التي هي في حقيقتها مطلب بشري للجميع .لدينا تاريخ موسيقي تم تهميشه مثل «فرقة التلفزيون» ،وعلى ما أعتقد أن مكتبة
كانت الموسيقا خالل الستينيات تحظى
الملك عبدالعزيز بالرياض ما زالت تحتفظ ببعض أعمالها،
بأسواق األسطوانة ،وكان هناك من
التاريخية المهمة .باختصار الموسيقا في المملكة قديمً ا
ببيئة حاضنة لها ،وهي ما كانت تعرف يقتني هذا التسجيل الغنائي ويتخذ منه مهنة أساسية له
35
وببعض األسطوانات القديمة ،كتدوين لتلك المرحلة كانت حاضرة بقوة أمام الجميع على مستوى أسواقها
ومسارحها ومن يمتهنون الغناء .لقد كان عهد الستينيات هو عهد الموسيقا.
ملف العدد
المواقف المتشددة من الموسيقا فجرت حالاً من التناقض تحريم من ناحية وانتشار مذهل لألغنية من ناحية أخرى في أغسطس عام 2000م استيقظت الساحة الغنائية والموسيقية في الوطن العربي على فقد هرم فني مخضرم هو الفنان طالل مداح ،وذلك أثناء تأديته
وصلة غنائية على مسرح المفتاحة في أبها جنوب السعودية .محبو الفنان وضعوا سرادقات العزاء وتهافتوا عليها من أجل المواساة ،فطالل كان أ ًبا
روحيًّا لهم ومعلمً ا ألجيال متالحقة في هذا المجال .وأطلق المعزون دعوة
36
عبدالله الدحيالن الدمام
إلى تحويل اسم المسرح الذي شهد وفاته إلى «مسرح الفنان طالل مداح»
ً تخليدا لذكراه ،فيما تضاءلت طموحات اآلخرين بالدعوة إلى تسمية أحد
الشوارع الرئيسية باسمه .وبعد مرور 16عامً ا من رحيله ،لم يتحقق شيء من هاتين األمنيتين.
في الضفة األخرى من المجتمع ،تحولت وفاة مغنٍّ وهو
يحضن عوده على مسرح ،إلى فرصة مناسبة إلصدار عشرات
المحاضرات والخطب الوعظية ،التي جعلت من تلك الوفاة
«سوء خاتمة»؛ إذ تنظر تلك المجموعات إلى الفن والغناء على أنهما ضمن الممارسات المحرمة ،ومن يمارسهما
مرتكب ألثم يعاقب عليه .وشهدت تلك الحقبة تجديد الدعوة إلى تحريم الغناء ،عبر إعادة نشر فتاوى التحريم من عدد من الشرعيين ،بل والذهاب إلى أبعد من ذلك وهو
السعي إلى إيقاف إقامة المهرجانات الغنائية في السعودية.
عندما تكون تهمتك «موسيقا»
في أحد أزقة مخطط ثمانية ،وهو أحد األحياء القديمة
في مدينة الدمام على ساحل الخليج العربي ،يتحدث عبدالرحمن عن والده «حمد أبو راس» الذي رحل عن
ً شخصا الحياة قبل تسع سنوات ،ولم يكن ذائع الصيت أو الف ًتا لألنظار ،ولكن ما تعرض له في نهاية عام 1997م جعله
محط أنظار سكان الحي الذي سرعان ما هجره إلى مقر سكني آخر؛ إذ وقعت حادثة مؤلمة عندما كان االبن يبلغ من العمر سبع سنوات.
ويرى مراقبون أن المثال في األعلى يختصر المشهد
فبعد صالة العشاء ذات يوم وجدت األسرة األب ملقى
للفنون وتسعى إلى استعادة أمجاد حقبة ما قبل نهاية
مبرح من أشخاص يجهل هويتهم ،والذين حرصوا على أن
الفني بمجمله في السعودية .فهناك فئة متعطشة
السبعينيات الميالدية من القرن الماضي ،ولكن دائمً ا ما
يجدون أنفسهم يالحقون سرابًا ووعدً ا ال تجد من يوفيه. وهناك مجموعات متشددة أُعطيت المجال على مصراعيه فوجدت نفسها حارسة للتشريع.
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
على باب بيتهم وهو مضمخ بدمائه بعد أن تعرض لضرب
يؤكدوا له أن الداعي لـ«تأديبه» بهذه الطريقة رأي أدلى به في عدد من المجالس ،كان مختصر رأيه أن األغاني حالل
ً شرعا وليست محرمة ،وأن من يحرم الغناء جاهل وليس لديه أي علم أو فقه .يروي االبن عن أبيه أنه قال له بعد
37
تحولت وفاة طالل مداح وهو يحضن عوده على مسرح المفتاحة ،إلى فرصة إلصدار عشرات المحاضرات والخطب الوعظية ،التي جعلت من تلك الوفاة «سوء خاتمة»
أشهرهم على المستوى المحلي كان الشيخ عادل الكلباني،
الذي كان إمامً ا للمسجد الحرام؛ إذ ذكر في حوار صحافي
معه أنه ال يوجد دليل في القرآن أو السنة النبوية يقضي بتحريم الغناء ،معل ًنا أن الغناء حالل جملة وتفصيلاً وبأي صوت كان حتى بالمعازف .ويأتي من بعده من ناحية تبني هذا الرأي وإحداث دوي بين أوساط الشرعيين قبل غيرهم ،الرئيس السابق لفرع هيئة األمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمنطقة مكة المكرمة الشيخ أحمد بن قاسم
مضي سنوات :إنه تجادل مع أحدهم واحتدّ النقاش في
الغامدي ،الذي ذكر أنها مسألة خالفية ،وأن القائلين
كانت تنبئ بوجود نية إليقاع األذى به ،ولكن لم يتوقع أن
وجاء تحت عنوان «من يشرب الخمر ويسميها بغير
أحد المجالس حول حرمة الغناء ،وكانوا يرمقونه بنظرات
يصل بهم األمر إلى أن يعتدوا عليه.
بالتحريم اعتمدوا على حديث ورد في صحيح البخاري، اسمها» ،وأن الرواية الواردة بذلك الحديث لم يؤيدها أحد
من الثقات .كما أن راوي الحديث انفرد به ،وجميع روايات
من وحي هذه القصة ننتقل إلى ميدان مفتين أباحوا الغناء في سنوات قريبة ،وكيف أنهم ً أيضا قوبلوا
الحديث المذكور مطعون بها ،بحسب تصريح إعالمي له.
مجالستهم ،إضافة إلى التهديد بالتعرض لهم جسديًّا.
المنهج السلفي في شق العصا في هذه المسألة التي ظلت
بهجوم حا ّد وصل إلى مرحلة التشهير بهم والتنفير من
ويكاد يكون هذان الشيخان من أشهر الشخصيات ذات
ملف العدد
ً ممنوعا نبش تفاصيله ،حتى ال ردحً ا من الزمن تابوهً ا
يتعرض هذا الشخص لإلقصاء ،وهذا ما جرى مع الكلباني والغامدي؛ إذ تعرضا لهجوم تم استثمار كافة المنصات
المتاحة فيه ،من فتاوى ومنابر المساجد وشبكات التواصل ً وأيضا االجتماعي ،وتم القدح في شخصهما وأعراضهما، الدعوة إلى محاكمتهما وزجهما في السجون.
الباحث االجتماعي التونسي مصطفى بو غدير يرى
المشهد سوداويًّا؛ إذ يرى بو غدير أن «تكثيف األطروحات التي تحرم الغناء والموسيقا ،وكافة الفنون الجميلة، ً وأيضا وضع إطار قانوني لهذا التحريم من خالل منح
صالحيات لجهة ما لمنع الناس ،ال شك أن لذلك آثارًا
فيما يترك موضوع الغناء والحجاب ،وغيرهما ،الختيار
الشخص المُ كلف ما يناسبه».
استهالك مرتفع رغم «القيود»
أمام الصورة في األعلى ،نجد صورة مختلفة ومليئة
بالتناقضات؛ إذ إن األرقام تشير إلى أن السعوديين من ً استهالكا للفنون ،وهذا ما يتجلى في أكثر الشعوب العربية
أرقام المبيعات والمشاهدات العالية لألغاني والمقطوعات الموسيقية .كما يلحظ المتابع ضخامة المشاركة من السعوديين في مسابقات الهواة في البرامج الكبرى ،والتي
سلبية ليست فقط من ناحية الممارسات الفردية ،ولكن ً أيضا من جهة خلق مناخ خانق تنعدم فيه الجماليات،
يفسر الباحث محمد القحطاني هذه المسألة بأنها
رطبة؛ وهي سالح ضمن أسلحة المجتمعات لتخفيف من
مشي ًرا إلى أن «المهتمين بمجال الغناء والموسيقا
بينما دور اآلداب والفنون هو تهذيب النفوس وجعلها
النزعة نحو العنف ومشاهد الدماء».
وعن النقاش الديني حول حرمة الغناء والموسيقا
من عدمها ،يذكر أن «هذا مؤشر على رغبة في دفع المجتمع إلى االنشغال بمساحة فردية ،بدلاً من
38
المواطن العربي وبخاصة في ظل التحديات الحالية،
االنشغال بمشاريع تنموية كبرى ،وهذا الواجب على
للمفارقة تعود ملكيتها إلى رجال أعمال سعوديين.
«التناقض في مطاردة الممنوع بأدوات المانع نفسه»،
مصطفى بو غدير :الموسيقا سالح ضمن أسلحة المجتمعات للتخفيف من النزعة نحو العنف
موسيقيون يواجهون من القبو لفروع جمعيات الثقافة والفنون المنتشرة على مستوى المملكة قصص وحكايات مع الموسيقا ،ففي الوقت الذي
يفترض بها أن تكون جهة رسمية مرخصة لممارسة هذا النشاط ،عبر تقديم الحفالت والدورات ،نجد أن دورها انحصر حتى اختفى من فروع ولم يعد له وجود ،فيما ال تزال فروع أخرى صامدة رغم الرياح العاتية التي تواجهها.
في قاعة الملحن الراحل صالح الشهري في فرع الجمعية في مدينة الدمام ،صادفت زيارتنا وجود مجموعة من
درسا من أحد األساتذة من أجل إتقان أحد المقامات .ووسط اندماج الهواة المهتمين بالعزف على العود وهم يتلقون ً
العازفين اصطحب مشرف لجنة الموسيقا سلمان جهام شابًّا لالستماع إلى صوته ،وقدم له في نهاية تلك الجلسة
نصائح وطلب منه االنضمام إلى الفرقة ،تمهيدً ا لتقديمه في حفل الموهوبين الذي تقيمه اللجنة كل سنة.
أوضح جهام في بداية حديثنا ضرورة التفريق بين الحركة الغنائية والحركة الموسيقية في المجتمع السعودي؛ إذ
رفض أن تكون هناك حركة موسيقية «نظ ًرا لغياب المؤلفين في مجال الموسيقا وبشكل خاص في مجال غير مرتبط
بالغناء ،وعلى النقيض هناك حراك غنائي نظ ًرا لالهتمام المفرط بتلحين القصائد الشعرية وغنائها» .وذكر جهام
أن «فروع الجمعية مرت عليها حاالت ركود تمهيدً ا للموت ،وكان ذلك بدءً ا من عام 1988م ،الذي شهد صدور قرار
بإيقاف أقسام الموسيقا في فروع الجمعية ،بينما كان الطموح يتجه في حينه إلى تشكيل فرقة موسيقية وإعالن طفرة بهذا المجال» .ويشير إلى أن هذا القرار جعل تلك األقسام تمارس الموسيقا من القبو« ،وهذا األمر جعل من النشاط الموسيقي بال فائدة تذكر؛ إذ كانت كافة األقسام في فروع الجمعية تقدم حفالت ومناسبات جماهيرية ،فيما باتت
بقايا قسم الموسيقا تقتات على هامش فعاليات اللجان األخرى كرديف في تقديم وصالتها».
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
يواجهون تحريمً ا محليًّا عبر مؤسسات وظيفتها الحد من
هذا التوجه ،وحصره في تصور سيئ سيؤثر في النشء في
تربيتهم ونظرتهم للحياة ،وهذا ما يجعلهم منعزلين عن ً مضيفا «وهذا يوجد حالة مجتمعهم في الغرف المغلقة»، نظامي يتيح الصالحية لمنع وتحريم انفصام بين وضع ّ الغناء ،وفي المقابل يجد المشاهد نفسه أمام واقع تزدهر فيه األغاني السعودية وتنتشر الموسيقا بين أيدي
الجمهور».
ويذكر القحطاني أن مشكلة المنع في السعودية
«ستبقى عصية على األذهان ،فيما األصل في مثل هذه الحاالت أن يكون هناك فضاء مفتوح يعبر به الكل عما يؤمن به ،وعلى المتلقي أن يحدد ما يريده ويجد نفسه فيه ،بدلاً من اإلجبار على تحويل الفنون السمعية إلى
جريمة» ،داعيًا في الوقت نفسه إلى «عدم إتاحة المجال
منها ومن أخطارها عبر المنشورات والتسجيالت والخطب
ومجاف للحقيقة؛ إذ كيف والمحاضرات .وهذا بُعد قاصر ٍ
تكون الفنون السمعية بهذا السوء وهي تستخدم محليًّا في النشيد الوطني وفي الفعاليات والمناسبات الوطنية،
وتقدم أمام كبار الشخصيات والمسؤولين».
محمد القحطاني :ما يحدث من موقف تجاه الموسيقا ،يوجد حالة انفصام بين وضع يتيح الصالحية لتحريم الغناء، وفي المقابل يجد المشاهد نفسه أمام واقع تنتشر فيه الموسيقا في أوساط الجمهور
أمام أي طرف كي يفرض وجهة نظره
عبر تشريعات نظامية على شريحة
واسعة أخرى» .وذكر أن تداول الموسيقا يتم كما لو أنها «بضاعة
ممنوعة تعادل في بعض الحاالت المخدرات؛ وذلك في حالة التوعية
39
وبحسب جهام ظل الوضع على
ما هو عليه حتى عام 2010م «إذ تسنى
لنا الخروج من القبو ،أو المشاركة بجوار فعاليات اللجان األخرى ،إلى تقديم أنفسنا على مسرح الجمعية
في أول أمسية تم تقديمها وكانت في الذكرى العاشرة لرحيل الفنان
طالل مداح ،وتم في حينها تقديم وصالت غنائية وتسجيلية للراحل، وسط حضور جماهيري غفير أذهل ً مضيفا «ولن أنسى في الجميع»،
سلمان جهام
تلك األمسية حضور رجل كبير من مسافة بعيدة مش ًيا على األقدام ،وكيف هطلت دموعه وهو يستمع ألغاني طالل القديمة ،وقد كانت هذه الصورة هي األبرز عن الحفل في صفحات الجرائد في حينها» .ومنذ ذلك التاريخ ولجنة الموسيقا تقدم الدورات واألمسيات الغنائية ،على الرغم من هجمات المحتسبين المتفرقة التي تسعى إلى إفساد
بعض تلك الفعاليات ،إال أن مساعيهم تقابل بالهزيمة في غالب تلك الغزوات.
ملف العدد
جمعية الثقافة والفنون بجدة تحلم بالعودة إلى العصر الذهبي موسيق ًّيا وفن ًّيا مثلت المدة التي اشتغلت خاللها في الجمعية العربية السعودية علي للثقافة والفنون بجدة تجربة مختلفة ،بها كثير من األمور الجديدة ّ شخصيًّا .بعضها يحمل الفرح وبعضها اآلخر به بعض األلم ،لكن في المجمل كانت تجربة جميلة ،تعرفت خاللها إلى كثير من الشخصيات
الفنية واإلنسانية الرائعة.
40
عبدالله التعزي روائي ومدير الجمعية سابقً ا
خالل الثالث سنوات والنصف التي عملت فيها في الجمعية ،وإن كانت
في الحقيقة سنتين فقط ،فقد اضطرتني ظروفي الخاصة إلى السفر خارج المملكة واإلشراف على إدارة الجمعية عن بعد إلى أن تقدمت باستقالتي
في نهاية عام ٢٠١٤م من إدارة الفرع بناء على رغبة اإلدارة العامة ،وحاجة
الجمعية للوجود المستمر لإلدارة.
هنا سأقوم بعرض سريع لبعض األنشطة التي نظمت خالل
لجنة الفنون ،والتنسيق مع جميع الفرق الشعبية .وقد كان
كونها أنشطة مميزة ،مارست تأثي ًرا قويًّا في الساحة الثقافية، ً مشرفا مثل :أنشطة اللجنة الثقافية التي كان خالد الكديسي
وجعله أكثر تأثي ًرا وعدل بما يتناسب وتراث جدة والمنطقة
إدارتي ،مع العلم أن هناك أنشطة لم تذكر هنا على الرغم من
عليها ،ومنها أمسيات قصصية وشعرية ،إضافة إلى استضافة
أسماء مهمة في المشهد األدبي مثل :الشاعر عبدالله الصيخان، والقاص على حسون وآخرين ،ومن االحتفاليات التي نظمت في
الجمعية احتفالية موقع سين اإللكتروني الشعرية مرتين على التوالي ،واستقطبت مجموعة من الشعراء الشباب من داخل المملكة وخارجها ،وكانت مميزة بكل المقاييس. فن الصهبة يقاوم االندثار
بعد االنتهاء من عمل بعض الترتيبات اإلدارية كان الرمز
الشعبي محمد سليم الشخص المهم والمحور الكبير في عمل العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
دور اللجنة غير مفعل ،لكن بجهود سليم تم تفعيل الدور، الحجازية بصورة عامة .كان تصريح الفرق الشعبية يحتاج إلى
بعض األمور اإلدارية بالتنسيق مع محافظ جدة األمير مشعل
بن ماجد بن عبدالعزيز ،من خالل وكيل المحافظ محمد ً متعاونا ولديه الرغبة في مدّ يد العون؛ الوافي الذي كان لتكون الجمعية في اإلطار النظامي حتى تقدم مدينة جدة
وفنونها بالصورة المناسبة ،إضافة إلى المحافظة على الفن
الشعبي من التشويه غير المقصود من بعض الفرق.
وقد نظمت الجمعية أمسية لفن الصهبة الشعبي
الحجازي في المنطقة التاريخية بالبلد وسط جدة ،تقاطر إليها كل رجاالت هذا الفن األصيل ،الذي يعد شبه مندثر،
وتم توثيقه .وقد كان حضور الجمهور كبي ًرا؛ إذ إنها المرة
41
من حفالت نادي الطرب
األولى منذ مدة طويلة تقام أمسية في الهواء الطلق .وقد كان
أمسيات وفاء لعبدالله محمد وفوزي محسون وسندي
أكبر األثر في إنجاح األمسية وإخراجها بالصورة الممتعة التي
كان الطموح أن يكون جزء من نشاط الجمعية تدريبيًّا؛
لمجهود عبدالله أبكر في التنسيق مع أهل هذا الفن وأساطينه
قدمت بها .ومن األسماء المهمة التي أسهمت في العمل بلجنة الفنون خالل تلك المدة :محمد سليم ،وعبدالله أبكر،
وعمدة حارة الشام مالك باعيسى ،وكثير من رجاالت حارات جدة المشهورين بنشاطهم الشعبي على مدى عقود سابقة من الزمن.
أمسية لفن الصهبة الشعبي الحجازي جمهورا في المنطقة التاريخية شهدت ً كبيرا؛ إذ إنها المرة األولى منذ مدة ً طويلة تقام أمسية في الهواء الطلق
وكدرس
عال لدى ليكون المستقبل هو األمل في إنتاج حس جمالي ٍ المهتمين بالفن ،سواء كان موسيقا أم ً ً فنونا تشكيلية عزفا أم ً فنونا شعبية. أم تصوي ًرا أم
بدأت أمسيات الوفاء في المق ّر القديم بحي المنار بجوار
مطابع جريدة عكاظ ،وقبل االنتقال إلى المقر الجديد في الكورنيش .فقد كانت هناك ميزانية مرصودة لعمل دورة
موسيقية قصيرة ،وكان حسين األهدل وهو رئيس فرقة اإلذاعة والتلفزيون قد نسق لقيام هذه الدورة ،لكن لظروف
خارجة عن إرادته لم يتم التنسيق في الوقت المناسب. واق ُترح أن تقام بميزانية الدورة نفسها أمسية فنية أطلق
عليها حسين األهدل «أمسية وفاء للفنان عبدالله محمد».
ملف العدد
وبهذا انطلقت أمسيات الوفاء للعديد من الفنانين الرموز في المسيرة الفنية السعودية .فقدمت أمسيات وفاء للفنان فوزي محسون ،ومحمد علي سندي ،وعمر كدرس رحمهم الله،
كما قدمت أمسية وفاء للمونولوغست حسن دردير المشهور ً اعترافا بدوره باسم «مشقاص» ،وقدمت له الهدايا التذكارية
الريادي في الحركة الفنية في المملكة.
لجنة الموسيقا يرأسها سامي إحسان وسراج عمر
في تلك المدة كانت اللجنة الموسيقية في حاجة إلى
العودة إلى نشاطها الرائع الذي كان في بداياته .وقد ترأس اللجنة الموسيقية رموز الفن في المملكة؛ منهم :الفنان
سامي إحسان وسراج عمر ،وجرى من خالل الجمعية تقديم
أصوات مهمة للساحة الفنية ،فالفنان عبدالمجيد عبدالله أحد
اكتشافات الموسيقار سامي إحسان من خالل جمعية الثقافة ً وأيضا الفنانون محمد عمر وعلي عبدالكريم والفنون بجدة، وكثير من الموسيقيين الذين كانت الجمعية بالنسبة لهم
نقطة انطالق ،مثل أهم عازف قانون في المملكة ،إن لم
يكن في العالم العربي ،الفنان مدني عبادي ،وعازف الكمان
الدكتور محمد أمين قاري ،وآخرين.
42
التشكيلي أحمد فلمبان يعزف في جمعية جدة
تأدية واجب العزاء .لم يكن الجو مناسبًا للحديث في كل شيء
لكن افترقنا على أن نتقابل في وقت آخر للتحدث والتشاور. وقد كانت مفاجأة لي اهتمام الفنان سامي إحسان ومتابعته أمور الجمعية؛ إذ لم يستغرق التعارف وق ًتا ،فهو يعرف كل
التفاصيل عن الجمعية وتغيراتها ونشاطاتها .ثم كان اللقاء
الثاني في منزله وبحضور سهيل طاشكندي مسؤول العالقات العامة واإلعالم بالجمعية بجدة الذي ّ رتب اللقاء .وطاشكندي
يتمتع بذائقة موسيقية جميلة ،وعالقاته في الساحة الفنية
والموسيقية جيدة .وكانت نتيجة اللقاء عودة الفنان سامي
لقاء سامي إحسان
خدمتني الصدف بأن ألتقي رئيس اللجنة الموسيقية في ً سابقا الفنان سامي إحسان ،كان ذلك في مقر العزاء الجمعية
بوفاة الفنان طارق عبدالحكيم ،حينها تحدثنا باقتضاب بعد
نظمنا أمسيات وفاء لعبدالله محمد، وفوزي محسون ،ومحمد علي سندي، وعقدنا شراكة مع القنصلية األميركية لتقديم حفالت مشتركة
وفاة سامي إحسان تبدد آمالاً كبيرة وافق سامي إحسان على العودة إلى الجمعية لكن بشرط واحد .قبل أن أعرف شرطه اعتراني خوف كبير ،إال أنه
سرعان ما تالشى ،وتحول إلى تقدير هائل؛ إذ كان شرطه عدم أخذ أي مقابل مادي ،مثل راتب أو مكافأة مالية مقطوعة من الجمعية ،عندها شعرت بفرح كبير ،وبالطبع باتفاقنا ،ووعد الفنان سامي إحسان بأن يقوم بزيارة مقر الجمعية الجديد.
وبالفعل بعد أسبوعين قام الفنان سامي إحسان بزيارة سريعة للمقر ،وشاهد اإلمكانيات المتوافرة في ذلك الوقت .وتم االتفاق على أن يتم الترتيب مع حسين األهدل من جانب الفنان سامي إحسان. ومن ضمن النقاط التي ناقشناها مع الفنان سامي إحسان: • مكان لجنة الموسيقا.
• اآلالت الموسيقية وأماكنها.
• اختبارات األداء للموسيقيين الراغبين في التعلم. • تحديد مواعيد التعلم والتدريب.
• وضع نظام واضح للبروفات المشتركة مع فرقة اإلذاعة والتلفزيون.
إضافة إلى نقاط أخرى ،مثل :استضافة الفنانين المشهورين ،والتنسيق مع التلفزيون والفضائيات.
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
إحسان إلى قسم الموسيقا بجمعية الثقافة والفنون بجدة مرة أخرى ،بعد أن طلبته وألححت في طلبي عليه من أجل العودة. في البداية كنت قد أدركت اإلحباط العام لدى الساحة
إلي شعورًا سلبيًّا الفنية من خالل بعض األشخاص الذين نقلوا ّ
نحو الجمعية ،وما تستطيع أن تقدمه للفنانين .وقد كنت شبه متأكد أن هذا الشعور نفسه لدى الفنان سامي إحسان،
إال أنني في الوقت نفسه ،كنت قد لمست التقدير الكبير للدور الذي لعبته الجمعية ألعوام طويلة في مرحلة الثمانينيات
وبداية التسعينيات ،وكان تقدي ًرا وشعورًا بالفخر يكتسي كل
الذين اشتغلوا في الجمعية تلك الحقبة الفنية الذهبية ،كما يسمونها في أوقات احتدام الحديث .عندما كنت أنظر إلى
الفنان سامي إحسان كنت ألمس بعض هذا التقدير ،وإن كان ً ً الحقا. مغلفا باإلحباط من دور الجمعية المفقود
43
من حفالت نادي الطرب في جدة
ومع شديد األسف ُتوفي الفنان سامي إحسان بعد زيارته لفرع الجمعية بأسبوع .كانت وفاته صدمة شديدة لم أكن ً جدا ،ولم ُ أتوقعها ،فقد كانت صحته جيدة ًّ سائقا تبد عليه أي عالمات المرض ،فقد جاء إلى مقر الجمعية في الكورنيش
ً صحة وطموحً ا وف ًّنا .وبوفاته أسدل الستار سيارته بنفسه ،وليس معه أحد من أبنائه .وجال في مقر الجمعية وهو ممتلئ على كثير من الطموحات الموسيقية ،التي كانت من الممكن أن تختصر كثيرًا من الزمن في المسيرة الفنية في مدينة جدة، إن لم يكن في المملكة كلها.
تم االتفاق مع نادي الطرب بقيادة الفنان فيصل العمري ،وإدارة أحمد كابلي ،على أن تقدم أنشطة النادي على مسرح
الجمعية .وقدم النادي العديد من الحفالت الغنائية والموسيقية المميزة التي حركت الراكد في الساحة الموسيقية؛ إذ
استقطبت المواهب والمهتمين بالفن وكثيرًا من المستمعين .وقد تسابقت القنوات الفضائية إلى عمل اللقاءات المباشرة
مع الشباب في نادي الطرب ،ودعمتهم ،ومنحتهم الفرصة لشرح فكرة نادي الطرب وأهدافه الفنية الجميلة.
كما اشترك فرع الجمعية مع القنصلية األميركية بجدة في تقديم حفالت موسيقية مشتركة بين فرق أميركية
وموسيقيين سعوديين أنتجت بعض المقاطع المشتركة والمميزة ،مما هو موجود على اليوتيوب في اإلنترنت ،يتداولها المتذوقون من وقت آلخر .ومن األسماء المهمة التي أسهمت في العمل بلجنة الموسيقا في الجمعية ،خالل تلك المدة،
الفنانون حسين األهدل ،ومحمد خوتاني ،وأحمد فلمبان ،وسهيل طاشكندي (المسؤول اإلعالمي للجمعية بجدة) وإشراف الفنان غازي علي ،والفنان طالل باغر وآخرين.
ملف العدد
موسيقيون شبان يجربون إيقاعات شرقية وغربية نداء أبو علي كاتبة سعودية
ما بين غياب مؤسساتي ورفض مجتمعي ،يسقط الموسيقيون السعوديون في هوّة االستنكار أو عدم التقدير؛ ما
يفضي إلى إحباطات مستمرة ،ومحاوالت مستميتة تتطلب حفرًا باألظافر في محاولة إليجاد أي طريق نحو النجاح، من دون وجود مالمح تصلح إلعطاء أي قبس من األمل بأن هناك مستقبلاً ً وتشجيعا للفن والموسيقا .إنه بمثابة عزف
في الظالم ،أشبه بمن يصيح بأعلى صوته في فناء يرفض من بداخله اإلنصات إلى أي صوت.
44
في كتاب المفكر والكاتب العراقي علي الشوك« :أسرار الموسيقا» ،يقتبس مقولة جون بارو« :لقد وجدت حضارات
بال رياضيات ،حضارات بال رسم ،حضارات حرمت من العجلة أو الكتابة ،لكن لم توجد حضارة بال موسيقا» .وقد وجد علي الشوك أن الموسيقا ليست نتاج الطبيعة ،بل هي من اجتراح اإلنسان.
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
على الرغم من الضعف المؤسساتي في احتضان المواهب
الموسيقية أو تعليم الموسيقا عبر المعاهد ،يظهر قبس من
االهتمام ،عبر جمعيات الثقافة والفنون ،كتنظيم الجمعية في الرياض برامج تدريبية ودورات عن المقامات الموسيقية ألول مرة في عام 2012م ،وذلك بعد خمس وعشرين سنة من حظر للموسيقا في الجمعية ،يتم تعليم العزف على آلة العود
والكمان ،بهدف دعم المواهب الموسيقية.
بروفيسور أميركية توثق غناء الحجاز
الضعف المؤسساتي يمتد ليصل إلى االفتقار في توثيق
ورصد الموسيقا وإبراز الموسيقيين ،بدءً ا بالتراث والموسيقا الشعبية بشكل أكاديمي دقيق ،وانتهاء بالحقبة الحالية التي تكتنفها العشوائية؛ ما يضيع محاوالت تتبع ودراسة التطور
الموسيقي .في عام 2012م ،قامت البروفيسور ليزا أركوفيتش المختصة بالتراث والموسيقا في جامعة بوسطن بزيارة
لجمعية الثقافة والفنون بجدة لحضور فعالياتها ،ومن ثم قامت بتوثيق للفلكلور الغنائي الحجازي؛ لوضعه في متحف للتراث العالمي في الواليات المتحدة األميركية الذي يحوي
أغلب التراث اإلنساني الدولي.
وإذا كان محترفو الموسيقا في اآلونة األخيرة ماهرين في
45
مواكبة العصر ،سواء عبر استقاء تقنيات الموسيقا العالمية
أو عبر استخدام أفضل الطرائق اإللكترونية للوصول إلى أكبر عدد من المتابعين ،إال أن ذلك ال ينفي حدوث تراجع وتدهور
الذائقة للموسيقا ،وغياب تلك المرحلة التي كان فيها استخدام
األغاني بالصور الشعرية الرفيعة المستوى .أصبحت الموسيقا
تبحث عن استقطاب جماهيري كبير عبر وسائل التواصل االجتماعي ،وهو ما ّ يمكن أي شخص ،وإن لم يكن يمتلك ً إبداعا موسيقيًّا فعليًّا -ألن يصدح بالغناء لآلخرين ،ويجد من يسمعه ،بدءً ا من الفضاء اإللكتروني أو اقتصارًا عليه.
لقد ظهرت محاوالت فردية لسد الفجوة المؤسساتية؛
كإنشاء موقع إلكتروني لرابطة الموسيقيين السعوديين؛
يبزغ محترفون للموسيقا العصرية بدؤوا بتطويرها واحترافها بقالب مختلف؛ كتجربة المنتج والموزع الموسيقي
لمناقشة
المقامات
الشرقية
والغربية
والساللم
الموسيقية ،لضمّ الموسيقيين في السعودية والتثقيف
الموسيقي ،إال أن الموقع لم يستمر من دون توضيح
األسباب باستثناء وجود خلل فني في قاعدة البيانات؛
األمر الذي أدى بالجيل الجديد من محترفي الموسيقا إلى الدراسة على حسابهم الخاص خارج الوطن ،وهذا امتداد لما قام به الموسيقيون في السابق ،أو الغوص في
عوالم اإلنترنت ،وتلقي الدروس عبر برامج كاليوتيوب، أو التواصل مع اآلخرين وبث الموسيقا إلكترون ًّيا .أصبح
ومنسق األغاني السعودي عمر باسعد
الغناء والعزف عبارة عن اجتهادات فردية ،يبرز من
ليعد أول منتج سعودي وعربي يرشح
إنكار تام للموسيقا ،أو غياب للذائقة الموسيقية .أما
الذي تم ترشيحه لجائزة «إم تي في» لهذه الجائزة
خاللها عدد من المحترفين في وسط يتفاوت ما بين
الطراز الموسيقي فشديد التباين وإن كان هناك ميل نحو الموسيقا الغربية ودمجها بالموسيقا المحلية.
ملف العدد
فرق موسيقية تدعو إلى السالم
في عام 2008م شهدنا تجربة فريدة لفرقة أطلقت على
نفسها اسم «الفارابي» أسوة بالفيلسوف أبي نصر الفارابي
الذي تضمنت رؤاه اعتقادًا بأن اإلنسان استحدث الموسيقا ً تحقيقا وإيفاء لفطرته التي تدعوه للتعبير عن أحواله وأن ينشد راحته .فرقة الفارابي التي نبعت من مدينة جدة جاءت
نتيجة تجربة موسيقية ما بين مثنى عنبر وضياء عزوني، لتستخدم الموسيقا التجريبية مع اقتباس لألمثال والقصائد العربية القديمة ألبي نواس والمتنبي؛ لتمزج ما بين الموسيقا
الشرقية والغربية .غناء هذه الفرقة بالفصحى يجعلك تستمع ألبيات من قصائد ألبي نواس مثلاً ،فال تتعجب من مثل:
«سأعطيك الرضا ،وأموت غمًّ ا /وأسكت ال أغمّ ك بالعتاب».
في الوقت الذي تتناغم فيه الكلمات مع موسيقا تحوي
مزيجً ا غرائبيًّا من أوتار العود الكهربائي والغيتار الكالسيكي
والبيانو ،وذلك داللة على التأثر بالتجربة الغربية التي جاءت نتيجة دراسة مثنى في نيو أورلينز وضياء في ليفربول .يظهر ذلك التأثر بالتغريب في نماذج سعودية عديدة كقصي خضر،
وهو مغنٍّ سعودي مختص بالراب والهيب هوب ،ابتدأ طريقه
46
الغنائي حين سافر الستكمال دراسته في الواليات المتحدة األميركية ،وتمكن بدءً ا من هناك واستكمالاً في مدينة جدة
من افتتاح أستوديو ،وإنشاء فرقة موسيقية ،وإصدار ألبوم موسيقي ،فيما يهدف في أغانيه التي تميل للراب إلى نشر
السالم.
ومن التجارب الفريدة تجربة الشاب عالء وردي ،وهو
من أصول إيرانية ،ترعرع ودرس في السعودية ،ثم انتقل
للدراسة الجامعية إلى األردن ليتعلم التأليف والموسيقا .وقد حاز شعبية في العالمين العربي والتركي ،وفي السعودية على وجه الخصوص؛ الحترافه فن «األكابيال» الذي يستعيض
فيه عن اآلالت الموسيقية بالصوت ،كما غرق في العالم اإللكتروني؛ لينشر الموسيقا التي قام بتأليفها وعزفها.
العاصمة في أكتوبر 2015م .هذه الفرقة تجسد الغرق في بيئة ال تقدر مجال الموسيقا؛ إذ تط َّرق قائد الفرقة علي الشيحة
في تصاريح عدة لوسائل اإلعالم إلى صعوبة التمرس في
من جهة أخرى ،يبزغ محترفون للموسيقا العصرية
مجال الموسيقا في ظل عدم وجود عدد كبير من الفعاليات
والموزع الموسيقي ومنسق األغاني السعودي عمر باسعد
على أزمة غياب المعاهد الموسيقية ،واضطرارهم لتعلم
بدؤوا بتطويرها واحترافها بقالب مختلف؛ كتجربة المنتج الذي بدأ العزف على الغيتار منذ سن الثانية عشرة ،وأكمل دراسته حتى حاز شهادة البكالوريوس في الهندسة الصوتية،
وهو يمزج ما بين الموسيقا العربية والغربية الحديثة بطراز «التكنو» ،وتم ترشيحه لجائزة «إم تي في» ليعد أول منتج
سعودي وعربي يرشح لهذه الجائزة.
معان إنسانية فيما ظهرت فرق هواة تسعى لترويج ٍ كالسالم عبر الموسيقا ،كفرقة «نغمة السالم» أو «بيس تون باند» ،وقد شاركت في مهرجان الفرق المسرحية في الرياض العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
والمهرجانات الثقافية المرتبطة بالموسيقا .وشددت الفرقة
دروس الموسيقا من خالل اإلنترنت واليوتيوب.
هناك أصوات بدأت تصدح بالغناء في الفضاء الخارجي
لتصل إلى النجومية عالميًّا ،إال أن المحاوالت تعد فردية ً وأحيانا عشوائية؛ لذلك هي في حاجة إلى تقنين كبير ،ودعم مؤسساتي وتعليمي الحتضانها؛ ليتمكن المجتمع من التفريق ما بين الجيد والرديء من الموسيقا ،وزيادة الوعي وإدراك فحوى الموسيقا المعبرة ،والكلمات العميقة التي تعبر عن
الهوية المحلية.
47
ملف العدد
الموسيقا السعودية تعود إلى «الحياة» يحيى مفرح زريقان ناقد فني
الحياة الفنية في المملكة العربية السعودية كانت موجودة قبل العهد السعودي الزاهر،
ً وتحديدا في الطائف وجدة ومكة والمدينة؛ إذ كانت وبخاصة في اإلقليم الغربي من البالد،
48
تتوافر مالمح حقيقية للنشاط الفني بكامل خصائصه .واستمرت الحياة الفنية بعد ذلك بعد قيام الملك عبدالعزيز آل سعود -رحمه الله -بإعالن دولته التي أمضى يناضل فيها 27عامً ا من أجل تكوينها .وإن كانت بصورة أقل مما كانت عليه من قبل.
وفي عام 1931م أعلن اسم المملكة العربية السعودية
على كامل التراب الوطني ،وبدأت رحلة العمل لبناء دولة
حديثة من مؤسسات مدنية وقطاعات رسمية وأهلية ،وهنا ضعفت الحياة الفنية العتبارات عدة؛ اقتصادية وسياسية
واجتماعية ،حتى أعلن تأسيس اإلذاعة السعودية عام
1948م في جبل هندي بمكة المكرمة ،وهنا بدأت الحياة الفنية تستعيد شي ًئا من وهجها بعد أن تم تقديم بعض األناشيد وإعداد نصوصها وألحانها في صور فنية بسيطة،
النهضة الفنية السعودية
انطلقت النهضة الفنية السعودية بكامل أطيافها في
مطلع الستينيات الميالدية بصورة رسمية .وتعد أبرز المحطات
التي مرت بها الحياة الفنية السعودية هي تأسيس فرقة موسيقا الجيش السعودي التي التحق منسوبوها باإلذاعة والتلفزيون فيما بعد ،واستكملت الفرقة لتصبح أوركسترا
بعد التعاقد مع عدد من الموسيقيين العرب من سوريا ولبنان ومصر آنذاك ،لتنطلق هذه الفرقة إلى العمل بمسرح اإلذاعة
ومع انتقال اإلذاعة إلى جدة بدأت مالمح العمل اإلعالمي تنضج وتتضح شي ًئا فشي ًئا؛ إذ أنتجت اإلذاعة مسرح اإلذاعة
األغاني السعودية مع الفنانين في أستوديو ومسرح اإلذاعة،
الحديثة.
سائر أرجاء المملكة ،وبرزت الفرق الموسيقية ،والفنانون،
الغنائي وهو اللبنة األولى في والدة الموسيقا السعودية
أما في الرياض فلم يكن هناك حضور للموسيقا وإن
وإعداد وتأليف الفواصل الموسيقية ،وتترات البرامج ،وتنفيذ ثم أعقب ذلك انطالق عربة النشاط الغنائي والموسيقي إلى وازدهر األمر بحضور ومشاركة العديد من الفنانين العرب مع
كانت الفنون الشعبية التي تقدم في المناسبات الرسمية والخاصة هي األوفر ًّ حظا باالهتمام والذيوع واالنتشار ،وإن
البث التلفزيوني.
في زيارات متقطعة حتى تم تأسيس إذاعة الرياض عام
الموسيقي والغنائي شحّ الموارد االقتصادية لتوفير متطلبات
ُ يخل األمر من قدوم بعض الفنانين من الخليج العربي لم 1964م ،فبدأت الحياة الفنية تنمو في الرياض وتزدهر.
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
نظرائهم السعوديين في تقديم أعمال مشتركة بعد انطالق ومن أبرز التحديات التي واجهت انطالق النشاط
القيام باألنشطة المجدولة ،والنظرة االجتماعية السلبية
تجاه النشاط الموسيقي والغنائي ،وعدم توافر المعاهد
الموسيقية التي يلتحق بها الهواة وذوو الميول.
وقد أولت الحكومة السعودية اهتمامً ا مبك ًرا بهذا الملمح الحضاري منذ بداية التأسيس ،وس ّنت النظم والتشريعات له ليواكب حاجة البالد والشعب إلى إنتاج المحتوى المطلوب؛ لتشكيل ثقافة ووعي وذوق أبناء الشعب ،بيد أن ثقافة المجتمع كانت منقسمة ،وإن لم تكن بارزة النزعة السلبية
آنذاك في بدايات النشاط الغنائي والموسيقي في ظل تقديم
وإنتاج مسرح التلفزيون واإلذاعة والبرامج المشابهة له، وتنظيم المحافل الفنية في األندية وفي مصيف البالد األول
الطائف الذي كان يعد مهد النشاط الفني السعودي .وفي
وقت من األوقات كانت الطائف أشبه بهوليوود السعودية؛ إذ كانت تتبارى أحياء وحارات الطائف في إقامة الحفالت الغنائية حتى نهاية السبعينيات عندما قام جهيمان العتيبي
بحركته المعروفة في بيت الله الحرام ،وبعد القضاء على
أبرز المحطات التي مرت بها الحياة الفنية السعودية تأسيس فرقة موسيقا الجيش السعودي التي التحق منسوبوها باإلذاعة والتلفزيون فيما بعد ،واستكملت الفرقة لتصبح أوركسترا بعد التعاقد مع عدد من الموسيقيين العرب من سوريا ولبنان ومصر آنذاك
حركته التمردية وإعدامه انطفأت شعلة الحياة الفنية لدينا
المتمثلة في الغناء والمسرح والسينما. حركة فنية مشلولة
شلت الحركة الفنية السعودية بالكامل وبخاصة
الموسيقا ،بعد أن كانت توجد في جدة أربع فرق موسيقية، ومثلها في الرياض ،وواحدة في األحساء ،وأخرى في الدمام.
49
وأذكر أن فرقة اإلذاعة والتلفزيون بالرياض تم إيقافها ونقل بعض موظفيها إلى جدة ،وبعضهم تم تحويله إلى وظائف
إدارية ،وبعضهم تم االستغناء عن خدماته .ومن المؤسف اليوم أنه ال توجد فرقة موسيقية في البالد تقوم بممارسة عملها مثل أي قطاع آخر في الحياة يؤدي رسالته؛ ما دفع فنانينا إلى أن هاجروا بأعمالهم لتنفيذها في الخارج.
ومن المخرجات لهذا األمر المغيب عن حياتنا بفعل
فاعل أن النهضة والتنمية طالتا جوانب الحياة في البالد،
وبلغتا مرحلة متقدمة جدًّ ا من االزدهار إال قطاع الفنون؛ األمر الذي أفضى ألن يلتحق الشباب بالتنظيمات اإلرهابية
التي احتضنتهم ،ووظفتهم لتنفيذ أجنداتها بكل أسف.
وعلى الرغم مما تم اإلشارة إليه فإن األمير الراحل
فيصل بن فهد –رحمه الله -كان يعمل على بناء نهضة
فنية ،تعكس مقدرات البالد والثروات الضخمة التي تختزنها من فلكلور وموروث شعبي وموهوبين قادرين على
إنتاج الموسيقا الحديثة ،وهذا الطموح هو ما نجم عنه رؤية المملكة العربية السعودية 2030م في إطالق األكاديمية
الملكية للفنون وإعادة العمل بالفرقة الموسيقية باإلذاعة والتلفزيون بالرياض مؤخ ًرا.
ملف العدد
الموسيقا عنصر رئيس في أنشطة الجمعية إلى أن جاءت «الصحوة»
سلطان البازعي رئيس مجلس إدارة الجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون
50 الجمعية
العربية
السعودية
للثقافة
ّ بعد الموسيقا والفنون ملتزمة منذ إنشائها أحد الفنون الرئيسة التي تتعامل معها تطويرًا
ً وتشجيعا وتدريبًا ،بل إن مجلس اإلدارة األول
للجمعية الذي رأسه األمير بدر بن عبدالمحسن ّ يضم في عضويته الموسيقار الراحل طارق كان
عبدالحكيم رحمه الله ،كما أن الموسيقار
الكبير سراج عمر كان من األعضاء المؤسسين للجمعية وهو ما زال على صلة وثيقة بها .وأزيد
أن كثيرًا من القامات الفنية الكبرى في مسيرة الموسيقا السعودية مرت على الجمعية في مرحلة ما ،ومنهم الفنانون طالل مداح رحمه
الله ،ومحمد عبده ،وسالمة العبدالله وسعد
إبراهيم رحمهما الله ،إلى الجيل الذي تالهم
مثل :عبدالمجيد عبدالله وعلى عبدالكريم وغيرهما.
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
رئيسا في أنشطة الجمعية بقيت الموسيقا عنص ًرا ً
حتى حدث التراجع فيما يعرف بمرحلة «الصحوة» حيث خبا هذا النشاط مؤق ًتا ،إال أنه عاد بقوة في عدد كبير من فروع الجمعية التي عادت لتقيم الدورات
الموسيقية المختلفة من التدريب على العزف على اآلالت إلى التعليم على قراءة وكتابة النوتة وتدريس
المقامات ،إضافة إلى إقامة األمسيات الموسيقية
ألعضاء الجمعية.
حمالت متشددة لم تحقق مرادها
وصحيح أن الجمعية واجهت عددًا من الحمالت
المتشددة في محاولة إللغاء النشاط الموسيقي في
الجمعية إال أن هذه الحمالت لم تحقق مرادها حينما
الموسيقي عاد النشاط ّ بقوة في عدد كبير من فروع الجمعية مثل إقامة الدورات المختلفة من التدريب على العزف إلى تعليم قراءة وكتابة النوتة وتدريس المقامات ،إضافة إلى إقامة األمسيات الموسيقية ألعضاء الجمعية
المضي فيما نؤمن بأنه الطريق واجهناها باإلصرار على ّ الصحيح ،وأن القول بتحريم الموسيقا ال يثبت أمام ً وحديثا ،وأن هذا آراء كثير من علماء اإلسالم قديمً ا
التحريم لدى رأي فقهي وحيد ال يوجد ما يوجب
51
فرضه على جميع المسلمين؛ لذا استمرت الدورات بل إن ً فرقا موسيقية تشكلت في فروع الجمعية في كل من الرياض وجدة والدمام واألحساء وغيرها.
والجمعية التي أعلنت عن خطتها للسنوات
المقبلة وجاءت متوافقة مع ما حملته رؤية المملكة عام 2030م ستمضي قدمً ا في التوسع األفقي
والعمودي في تعليم الموسيقا بهدف رئيس هو نشر
ثقافة تذوق الفنون الجميلة ،إضافة إلى إمكانية نبوغ بعض المواهب التي تستفيد مما تقدمه الدورات الموسيقية ،وال يحد من هذا الطموح عدم
وجود مقرات مالئمة تعمل الجمعية من خاللها،
إذ إننا سنعتمد نظام الفعاليات المشتركة التي تتيح إمكانية االستفادة مما تزخر به البالد من مرافق غير مستغلة بشكل كامل .كما أننا نجزم بأن الرؤية
عام 2030م بما حملته من وعود ستحقق الكثير
من طموحاتنا في توفير الدعم المالي والمعنوي لنشر الثقافة والفنون في المملكة لتصل إلى كل المستفيدين المحتملين.
ملف العدد
مطرب وموسيقي قال إنه بصدد تشكيل أقسام الفرقة الوطنية والبحث عن كوادر
حسن آل خيرات :الموسيقا والفنون عنوان الشعوب الرياض
52
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
تفاعل وزير الثقافة واإلعالم الدكتور عادل الطريفي مع مقترح َّ تقدم به الفنان حسن آل خيرات حول ضرورة وجود فرقة موسيقية ،وأصدر قرارًا بتأسيس فرقة وطنية للموسيقا مقرها القناة
الثقافية السعودية.
الفنان حسن آل خيرات تحدث لـ«الفيصل» عن الدوافع وراء مقترحه ،فقال« :وطن بال موسيقا ال
صوت لشعبه .ووطننا من أكبر األوطان ،يتمتع بموروث موسيقي هائل ومتنوع إال أنه ال توجد في أي من مدنه فرقة موسيقية تحفظ له هذا التراث والموروث» .وأضاف آل خيرات قائلاً « :أطالب بهذا المقترح منذ مشاركاتي األولى في األيام الثقافية السعودية ،لِما كنت أالحظه من أخطاء تحصل من بعض العازفين ،في مقابل ما كنت أراه لدى فرق موسيقية لبلدان أخرى ،من عازفين مهرة .وما
ً مؤكدا حاجة الوطن حدث أنني وقبل ثالثة أشهر عزمت على أن أوصل صوتي لوزير الثقافة واإلعالم إلى فرقة موسيقية وطنية عربية ،واألهم أن يكون كوادرها سعوديين ،فالوطن مليء بالكوادر
الموسيقية .وجدت صعوبات في البداية ،ولكن بفضل إصراري تمكنت من القول :الموسيقا والفنون عنوان الشعوب ونحن السعوديون منذ ثالثين عامً ا ليس لنا وطن في الموسيقا».
لم يستبعد آل خيرات أن يكون ضمن أعضاء الفرقة
الوطنية في المستقبل عازفات سعوديات ،كما هو حاصل في الفرق الموسيقية الوطنية لدى بعض البلدان
الخليجية« ،الله ميز المرأة بإحساس أدق وأرق ولكن في
البداية يكون تأسيس الفرقة من الشباب السعودي ،وفي ً شريكا أساسيًّا في المستقبل ستكون العازفة السعودية
الفرقة الوطنية».
وذكر أنه سيتم اإلفادة من معلمي موسيقا من مصر
ومن تونس حسب الدروس الموسيقية المقررة ،إال أنه «لن يقف على المسرح غير السعوديين الذين تعلموا
53
وتدربوا على أيدي الموسيقيين العرب».
ويتوقع آل خيرات أن تحظى الفرقة بدعم سخي،
مركز لتدريب الموسيقا يؤول إلى االندثار ً سابقا أسلوب حياة ،حاضرة في تفاصيلنا اليومية ،كان من يريد أن يستمع لها يجد مراكزها كانت الموسيقا ً ً الواضحة وأسواقها المعروفة .لم يكن التشدد مختفيًا سابقا بل ازدادت وتيرته الحقا .ونحن لألسف استجبنا لذلك بعد أن عطلنا عقولنا ،وجعلنا اآلخرين يملكون حق توجيهها. لقد أنشأت في زمن سابق مرك ًزا تدريبيًّا للموسيقا في فرقة اإلذاعة والتلفزيون باجتهاد شخصي فقط .وقمت
بتدريب كثير من الراغبين في تعلم الموسيقا ،كمحاولة شخصية لصناعة هوية موسيقية مستقلة ،تحترم
خصوصيتنا الثقافية وتعبر عن هويتنا الوطنية .وكان ذلك سببًا في جعل موظفين في مركز الدعوة واإلفتاء يقومون ً شرعا ،وكيف لي أن أعمل بزيارتي ومناقشتي في أمر مركز التدريب والموسيقا ،قائلين بأن ذلك ال يجوز ومحرم
في هذه المهنة وأنا ابن لعائلة معروفة وقبيلة مشهورة ،فذكرت لهم الحجج والفتاوى الدينية التي صدرت في متحمسا في هذا الخصوص وكذلك االختالفات الفقهية ،فما كان منهم إال أن صمتوا ومضوا راضين بما قلته .كنت ً
أثناء عملي في الفرقة التابعة لوزارة الثقافة واإلعالم إبان تلك الحقبة ،لكن بعد أن قمت بترك العمل تم تهميش يعتن به أحد ،فآل بسبب اإلهمال إلى االندثار ،فأصبح مجرد أطالل لذكرى تبعث الحزن والشجن معً ا. المركز ولم ِ
عبدالمحسن داود الخلف
ً سابقا المدير العام إلذاعة الرياض
ملف العدد
في ضوء رؤية السعودية 2030م التي تدفعهم كما يقول
برنامج «الزمن الجميل» ،عندما كانت فرقة التلفزيون
2030م نطمح إلى إنشاء أوبرا سعودية .لكن اآلن أنا بصدد
هو المطرب أبو بكر سالم بلفقيه؛ إذ سجل أغاني مصورة
إلى أن يكون طموحهم كبي ًرا« ،فمع الرؤية الجديدة
تشكيل الفرقة الوطنية وأقسامها وتقديم خطة إليجاد
كوادر وطنية موسيقية ،وعمل برنامج تعليمي بجدول زمني معين يتم خالله تجهيز العازفين وإعداد شباب
طموح وابتعاثه إلى معاهد موسيقية عربية للتخصص والدراسة ،حسب االتفاقيات المبرمة بين وزارة الثقافة
واإلعالم وبعض الدول العربية».
ولفت إلى أن الفرقة ستكون منب ًرا لرعاية واحتضان
المواهب الشابة السعودية والعربية كذلك ،كما كانت ً سابقا «لقد تقوم بذلك الدور فرقة التلفزيون السعودي عايشت ذلك حين كنت مع الفرقة في التلفزيون ضمن
وطننا من أكبر األوطان ،يتمتع بموروث موسيقي هائل ومتنوع إال أنه ال توجد في أي من مدنه فرقة موسيقية
54
تحفظ له هذا التراث والموروث
قائمة ،فكان أكثر فنان سجل آنذاك وتفاعل مع الفرقة تفوق ما سجله المطربون السعوديون آنذاك.
وكذلك مطربون من الخليج واألقطار العربية
األخرى ،فلقد كانت الفرقة السعودية التابعة للتلفزيون تسافر وتحيي كثي ًرا من الحفالت الموسيقية الكبرى في كثير من الدول العربية آنذاك ،لكن فيما بعد تشتتت
تلك الفرقة وتشرذم أعضاؤها ،فمن العازفين من ً محبطا مثل :طارق عبدالحكيم ،وعازف الكمان تقاعد سمير مبروك ،وعازف القانون عتيق الحمدان الذين
كانوا من خريجي مصر من الدفعة األولى ،ومنهم من كانوا عربًا بعضهم لم يزل باقيًا حتى اآلن مثل :عازف القانون التونسي الهادي العبيدي ،وبعضهم عاد إلى
بلده مثل :الحفناوي من مصر ،وعبدالرحمن الدلي من ً سابقا ،وكذلك اآلن يقدم تونس .ومع ذلك سيظل وطننا
الجمال والموسيقا عبر مهارات أبنائه من الموسيقيين السعوديين المبدعين».
فضاء واعد نحو مستقبل موسيقي رحب عدد من الفنانين بقرار وزير الثقافة واإلعالم بإنشاء فرقة وطنية للموسيقا ،فوصف الموسيقي عماد زراع القرار بـ«البشرى» ،وقال :إننا كموسيقيين نتطلع إلى أشياء كثيرة في المملكة ،متسائلاً « :هل هذا القرار سيسمح
عال ،أم أن الفرقة الوطنية ستقوم فقط بالمشاركة في بإنشاء معاهد وأكاديميات أو معاهد موسيقية على مستوى ٍ
الفعاليات الثقافية المتنوعة ،سواء في داخل الوطن أو خارجه» .وأشار إلى أن هناك الكثير من التفاصيل لم يتناولها
القرار؛ «ألنها هي ما ستوضح آلية عمل الفرقة الموسيقية».
وأكد زراع وجود الكثير من المواهب الموسيقية «تمتلك مقدرة ال يمكن تهميشها على المستوى السماعي، فكيف لتلك المواهب سواء في الرياض أو جدة أو المنطقة الشرقية أن تمضي من دون أن تجد لها حض ًنا مؤسساتيًّا
يقوم باحتوائها».
ً الموسيقي في «صوتا جديدً ا وفضاء واعدً ا نحو المستقبل على حين قال الفنان فيصل العمري :إن القرار يمثل ّ
المملكة» ،مشي ًرا إلى أنه كان يتألم شخصيًّا بسبب أن غالبية الجهود كانت تتم بشكل فردي« ،وال تندرج تحت بعد
موسيقي يظل حاض ًرا في ثقافة المملكة .يجب أن نؤمن بأن الموسيقا مؤسساتي يملك القدرة على صياغة مشهد ّ هي الوجه األسمى للثقافة ،ومن دونها تصبح الثقافة ناقصة ومبتورة .ولقد كنا نحن معشر الموسيقيين ننتظر هذا
القرار بفارغ الصبر» .وذكر أنه تم تنظيم خمس حفالت موسيقية في مسرح الثقافة والفنون في المنطقة الشرقية، ً مدهشا ،فكيف سيكون الحال حينما يكون هناك عمل منظم يمثل المملكة في محافل «والقت صدى جميلاً وحضورًا العالم العربي كافة».
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
مجمع ملكي للفنون جاءت مبادرة وزارة الثقافة واإلعالم بإنشاء المجمع الملكي للفنون ،بحسب الوزير الدكتور عادل الطريفي؛
من أجل تعزيز الثقافة والفن في المملكة العربية السعودية ،واالهتمام بمتطلبات األجيال من المثقفين والفنانين السعوديين ،وإيجاد مؤسسات قادرة على رعايتهم ،ويستطيعون من خاللها عرض فنونهم وتوثيقها سواء كانت ً فنونا حديثة أو من أنواع الفلكلور الشعبي لمختلف مناطق المملكة. وأوضح الوزير ،في مؤتمر صحافي عقد في يونيو الماضي لعرض مبادرات برنامج التحول الوطني ،أن فكرة
المجمع هي فكرة معمول بها في بلدان عديدة ،وأحد أبرز أهدافه هو المحافظة على الثقافة الوطنية ،وتعزيزها، ً وأيضا يكون المجمع مجالاً إلعطاء األجيال الشابة صورة عن السعودية وتاريخها ووحدتها والعناصر الرئيسة التي
جمعت هذا الكيان منذ أسسه الملك عبدالعزيز رحمه الله إلى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن
عبدالعزيز .وأكد وزير الثقافة واإلعالم أن المجمع سينقل ثقافة المملكة إلى العالم الخارجي ،مستشهدً ا بنماذج
من الفنون التشكيلية في المملكة التي بدأت منذ أكثر من 40عامً ا ،موضحً ا أن بعض الفنانين السعوديين بدؤوا يعرضون أعمالهم الفنية في متاحف ومعارض دولية ،بينما ال يتوافر حتى اآلن مجمع فني داخل المملكة لعرض
هذه الفنون.
وقال الطريفي :على المستوى الفني والمسرحي
يوجد في المملكة عدد من الممثلين السعوديين في مجال الكوميديا وفي
مجال الدراما أصبحوا اليوم وجوهً ا
55
تلفزيونية في العالم العربي ،ولكن
ً خصوصا هذه الكفاءات والطاقات، الطاقات الشابة ال تجد المنصات
التي تمكنها من رعاية مواهبها ودعمها ،ولذلك فمن عناصر
المجمع الملكي للفنون إنشاء مؤسسة غير ربحية؛ لتكون
قادرة على تمويل المجمع ً مضيفا أن لسنوات مقبلة، المجمع سيكون له مجلس
أمناء ومجلس إدارة.
ملف العدد
أحزان تطل من خرائب األغنيات القديمة قبل سنوات قليلة كنت في زيارة لمدينة فانكوفر الكندية؛ مدينة جميلة
وخالبة ،وتحبها من أول نظرة .ذات مساء قبل انهيار الشمس بالكامل، جلست في مقهى يطل من بعيد على البحر .ضفاف المحيط الهادئ الكندية تبعد من الرياض نحو عشرين ألف كم .ال يمكن أن أتخيل أن تجتاحني
ذكريات يفاعتي في الرياض قبل أربعين عامً ا في مكان كهذا.
ولكنه عالمنا الجديد الذي أصبح صغيرًا .في لحظة خاطفة أحسست أني ً صوتا سعود ًّيا بلهجة سعودية هجرتها األجيال الجديدة ،فظننتها من أسمع
إنتاج خيالي المكدود .تركتها تتنامى وتتوسع في وجداني إلى أن أصبحت عبدالله بن بخيت
56
كاتب سعودي
ُّ التفت فشاهدت عائلة سعودية يتوسطها رجل مسن ال يقل عمره حقيقة. عن ثمانين سنة .تأملت في وجهه بنظرات مسروقة ،فتبيّن لي أن هذا الرجل
كان له حضور في األيام الخوالي! تركت البحر وأمواجه وجمال الفتيات الالتي يمضين قدمً ا أمامي ،وتركت أشياء أخرى تحيط بي ،وغادرت الحاضر
ال ألوي على شيء .هرعت أبحث في األيام القديمة؛ من يكون هذا الرجل.
فتحت ملفات لم تفتح منذ زمن بعيد ,عالها غبار النسيان .وأخيرًا شاهدته
شا ًّبا في أمكنة ال يمكن أن يهجرها وجداني. ربما في واحدة من الحفالت الغنائية الكثيرة التي كانت تقام
تريدها ،أو الحقيقة التي يأخذك إليها خيالك .كالهما شيء رائع
له عالقة بالطرب؛ لكن أين أجده؛ في الرياض؟ في جدة؟ في
تبوح به من أطياف .هل شاهدته في حفلة غنائية في الرياض ،في
في النوادي الرياضية السعودية والزواجات الباذخة .هذا الرجل الطائف؟ في كل مكان كنا نذهب إليه كان ثمة حفالت ومطربون وموسيقيون؛ طارق عبدالحكيم ،طالل مداح ،عبدالله محمد
غازي ،علي سعد إبراهيم ،أبو سعود الحمادي ،حيدر فكري، معظم هؤالء شاهدتهم على الطبيعة؛ على مسارح بسيطة. هذا الرجل ال بد أنه واحد من أجوائهم .مستحيل أن يكون أحد المطربين الكبار ,ربما من الخط الثاني؛ ضابط إيقاع ،أو عازف كمان ،أو من الشباب الذين يحبون الرقص الشعبي .صرت أتأمل
فيه؛ ما الذي يمكن أن يكون عليه في شبابه؛ نحيل الجسد، طويل القامة ،أسمر اللون يعاني قصر النظر ،ومن المؤكد أن
العصا المسندة إلى جانبه تعينه على السير .موصفات رجل
مسن ،لكن األطراف األخيرة للحياة تأخذك إلى الحقيقة التي العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
في صراع مخيلتي الراهن .صرت ألتفت إليه وأنتزع من مالمحه ما الطائف ،أم في جدة؟ كثرة الحفالت الغنائية التي كانت تقام في ذلك الزمن وتنوعها تشتت الوعي .شاهدت الفنانين السعوديين
الكبار يتغنون على خشبات المسارح السعودية .شاهدت طالل مداح مرتين في الطائف وجدة ،وعبدالله محمد أكثر من مرة في الطائف ،وطارق عبدالحكيم في نادي الهالل .أما سعد إبراهيم
فقد شاهدته كثي ًرا .المرة األخيرة كانت في إحدى مناسبات نادي النصر .ربما كانت حفلة النصر تلك هي آخر الحفالت الغنائية التي حضرتها في حياتي قبل أن تغلق بوابات الجمال في المملكة،
ويتم إخراس الفن .اخترت أن أفتش فيها عن حضور هذا الرجل. ً سطوعا في لم يكن بين يدي خيارات كثيرة .تلك كانت األكثر
ذاكرتي .جمعت مالمح الرجل ،وأزلت منها ما استطعت من عبث
57
الشيخوخة ،فبدا لي شابًّا من شباب األزمنة القديمة ،لكنه لم
بورصة الغناء السعودي أيام ازدهاره .كل من يريد أن يستمع
يختلف عن مئات الشباب الذين يغنون ويصفقون ويزعقون في
إلى أحدث األغاني السعودية الواردة من أستوديوهات بيروت
الخزان بالرياض تتجاوبه نغمات اآلالت الموسيقية ،وإيقاعات
الناس من صالة الجمعة بين حراج قاسم ،وسوق الزل ،وسوق
كل مرة يخرشنا الفنان بالعود ،أو بموال حجازي .ما زال شارع الطبول والمراويس .استعرضت الفرقة الموسيقية .وجوههم
مألوفة .شاهدتهم مع كل أغنية وحفلة يقيمها التلفزيون السعودي .تسمى فرقة التلفزيون ،تتنقل مع الحفالت الشعبية
التي تقام في الزواجات أو النوادي الرياضية .ال يمكن أن يكون واحدً ا منهم .ال يخطئهم أحد عاش في تلك الحقبة ،ولكنه ربما كان من ضابطي اإليقاع الشعبيين .تلك كانت اآللة الموسيقية األسهل والمتاحة التي ورثت طيران السامري .هذا أقرب ما تأخذك
إليه الظنون عندما تريد أن تنسبه إلى أهل الفن.
فرصة ضئيلة تبقت في ذاكرتي .ربما كان من الشباب الذين
يعملون في سوق األسطوانات أمام مسجد الجامع بالرياض؛
وأثينا يذهب إلى تلك السوق ،وبخاصة يوم الجمعة بعد أن ينتثر األسطوانات .ربما كان هذا الرجل يعمل في تلك السوق .العاملون
في تلك السوق على قدر من الشهرة .رعاة الفن ومنتجوه.
ال يمكن أن أسأله .رجل مسن يحيط به عدد من أحفاده.
تركت األمر على ما هو عليه .قد أخرج من سؤالي بمرارة وألم
ماض جميل تم تقويضه بمنهجية هدّ امة لن يشهد ورثاء على ٍ
مثلها تاريخ الفن اإلنساني .ربما تحول كما فعل كثير غيره. أصبح من الرجال والنساء الذين نزع الفن من قلوبهم .هاجس
ليس غريبًا .يكفي أن رياح الصحوة الهوجاء نقلت الفنان
الشعبي الكبير فهد بن سعيد من فنان عظيم إلى بوّاب على مدارس البنات.
ملف العدد
نصوص
عودة آدم أنا آدم
أول ُ رج ٍل على هذه األرض
كان بمكنتي أن أبقى هناك
لكن يدي طالت شرك التفاح
ُ ليست ً نزلت ريحا تلك التي عصفت باألشجار حين إنها أنفاسي
أنفاس رجل ّ ُ الندم قدميه. شل هذه المياه أُ َ ريد لها أن تم ّر في األراضي األخرى
58
هذه المناديل لم تكن لتجفف شجن أحد
عبدالرحيم الخصار شاعر مغربي
فلم تسعفني ذراعاي.
لم أضع ً يدا في كهف وال ً قدما في غدير
لم أراوح ظل هذه الصخرة
ُ عيني إلى الشمس رفعت ّ ُ ُ فعرفت أن تعاق َ ب الليل والنهار
الم َحن هو س ُّر ِ
القرون ً ُ تباعا ستم ُّر ُ سيحرث أحفادي هذه األرض
ُ ظننت أنها غصن في جسدي أما يدي التي ً غصنا في جسد آخر. فقد صارت
َ نهاية كل صيف وسيجنون غاللاً من َّ الت َعب.
ال زالت رائحة التراب في أنفي
ُ لجذع شجرة أسندت منكبي ِ ُ ُ وجلست أصغي للريح ُ ُ السيدة التي سبقتني إلى األرض؟ تقول هذه ماذا
* * *
الحسرة أهرشها ما بين الساعد والكتف
أما عيناي فيسيل منهما حنيني إلى المالئكة.
* * * كان الغبار كثيفاً
فلم أتبين موطئ أفكاري
َّ تتلم ُ ّ س لها يضج بالكلمات التي طفقت حواسي رأسي
المعنى ُ َّ وما من شي ٍء على األرض ألش ِّب َه به هذا التي ََهان ٌ صديق أو نديم بعد لم يكن لي ُ َ التراب والحجر صادقت جربت أن ّ ُ طائر أو أجدف مثل سمكة أحلق مثل ٍ
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
* * *
ُ سمعت نحيب اآلخرين في نحيبها ٌ ٌ أصوات كثيرة بداخلي: وتعالت بيت بال سرير بكاء طفل بال ٍ ٍ ّ ندم كهل َّ الحظ تخلى عنه ٍ ُ ٌ َ عبد يسوطه عبد آخر صراخ ٍ
ّ ّ تصد تتوسل ليد يد أنين ٍ
جناح أثقلته التعاسة خفق ٍ
شفتين حائرتين ناي بين ِ نواح ٍ
رجل مخذول خرير الما ِء يم ّر في قلب ٍ
ُ أعرف السبب. عويل نسا ٍء وأنا ال
ُ أغمضت عيني
فمرقت الريح بنحيبها
كل تنهيد ٍة تركناها على قارعة الطريق. َ ً ُ سريعا الحياة الزمن هذه سيطوي
ومن غصن في الشجرة ٌ ْ دمعة كبيرة على األرض. سقطت
ويضعها في صندوق. أَ َّ َ تعق ُ األحالم في منامي ب وت َّ َ ُ الكوابيس. تعقبني
قلت للطائر الذي ّ مقربة ّ ُ مني: حط على ٍ
َ عزلة ديناصور ُعزلتي ُتشبه
* * *
ُ تبتسم في النهار «إن الشفا َه التي
ّ تتحسر في الليل ُ ً موجا حين تالمس اليد األخرى إن اليد التي تغدو ّ تتخشب حين تغيب
إن الدمعة التي أسالها الفرح
هي الدمعة التي سيسيلها الحداد». * * *
قال الطائر: «هل ّ تغني لي
أم ّ تغني لوحدتك؟»
* * *
هذه األرض
ربما كانت عقا ًبا
حرب لم أَ ُخ ْ ضها ربما كانت غنيمة ٍ َ ُ غادر مكانها ً يوما ما هذه األرض ستشيخ وست ِ
ُ الزمن مثلما تم ّر األشياء الصغيرة مع الريح سيم ّر النهاية ُبر ً َ ْهة قبل السقوط وسنلمح ُ َ عين الحدأة. األرنب التائه مثلما تلمح
* * *
ٌ يد ما سوف تعلق في غصن شجرة ّ ٌ تتعثر في جسر الخشب قدم صغيرة سوف
ُ ٌ عين أخرى دمعها في عين ما سيسيل ٍ غير أن ّ كل شي ٍء سيمضي ُ ّ َْ سيجرف النه ُر الهادر كل نأمة ّ كل خطو ٍة خطوناها باتجاه بعضنا
* * *
كالنا يمشي على طرفين غير أن رأسه أَ ُ قرب إلى الغيمة يج ّر َ واد إلى واد ذيله من ٍ
ً جانحا إلى الهضاب التي ُتخفي الشمس ّ يدب بمفرده يجثو قليلاً ثم
إلي بعطف يم ّر أمامي ناظ ًرا ّ َ كما لو ّ ٌ غصن سقط من شجرة. أني * * *
ٌ ُ شبه جسدي ومشيت في األدغال حتى بدا لي جسد ُي ِ
وتفج ْ ْ ّ رت ينابيع سقطت ثما ٌر ثم ْ وخفقت طيو ٌر فوق رأسينا
فأخفينا الخجل بالريش وأوراق الشجر.
59
تقارير
هل غادرت القاهرة موقعها المركزي في الثقافة العربية؟ صبحي موسى القاهرة
60
لعبت القاهرة دورًا محور ًّيا في النهضة العربية منذ بدايات القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين ،فكانت الحاضرة التي استوعبت طاقات الكثير من المبدعين العرب ،فهاجر إليها المعنيون بالمسرح والصحافة والفنون واآلداب ،كما هاجر المؤرخون والمفكرون والسياسيون والمناضلون ،لكن األمر تغير مع النصف الثاني من القرن العشرين ،فقد انتشرت الثورات العربية ،وظهر العديد من المراكز الثقافية األخرى بداية من الشام والعراق وبلدان الخليج حتى بلدان المغرب العربي ،وتحوّلت القاهرة من مركز الجذب األول إلى مركز تقليدي يحتفظ بعبق الماضي ،لكنه ال يمتلك القدرة على منافسة المراكز الجديدة ،فما الذي حدث؟ عدد من الكتاب المصريين والعرب يجيبون عن هذا السؤال في تقرير لـ«الفيصل»:
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
يقول أستاذ األدب العربي بجامعة القاهرة الدكتور
عبداملنعم تليمة :إنه أصبح معلومً ا ألي راصد يف الثقافة
العربية الراهنة أن العقود األخرية« ،شهدت تراجعً ا خطريًا
للوجود املصري يف املجتمعات العربية ،بينما األجيال الثالثة يف
النهضة املصرية الحديثة (هي جيل رفاعة الطهطاوي ،وجيل أحمد لطفي السيد ،وجيل طه حسني) قد ربونا عىل أيديهم
وكتبهم عىل أن العروبة ثقافة ،ومن هنا لم يكن هؤالء الرواد يتشددون يف فكرة العروبة باملعنى القومي الفني السيايس املعروف».
عبدالمنعم تليمة
ناظم ناصر القرشي
يف الثقافة العربية والعاملية يف كل أوان بدور نشرها العديدة
وأضاف تليمة« :أما ما بعد جييل أنا فإن السياسات
ومكتباتها العامرة ،وبمؤسساتها الثقافية وبصحفها ومجالتها
قد عزلت مصر عن هذا األفق العظيم الذي نعمل عىل إحيائه
الرصينة واإلبداع والخلق واالبتكار» . وأضاف القريش قائلاً « :كناقد عراقي قدمت يل القاهرة
الحكومية املصرية وما أثمرته من مجالس ومؤسسات ثقافية تمامً ا ،وقد حققنا يف هذا األفق خطوات منذ ثورة يناير املجيدة،
األدبية وأدبائها ومثقفيها ،كانت وال زالت منارًا للثقافة العربية
وال صحة اآلن ملا يقال عن أن ثمة إرادات أخرى من دول عربية
الكثري فقد طبعت دار «كتاب» وعىل نفقتها كتابي «العني ً وأيضا الثالثة» وهو مقاالت يف الشعر العربي املعاصر،
محمد عيل إىل يومنا هذا فيما عدا العقود الثالث أو األربع
بالخصوص مجلة «أدب ونقد» ومجلة «شعر» املصرية التي ستنشر يل ًّ ملفا عن التجارب الشعرية الجديدة يف العراق ،كما
شقيقة للحلول محل مصر ،فهذا غري صحيح وال يرغب فيه
أحد ،وال يملك أحد أن يماري يف ذلك ،فمصر الحديثة منذ
األخرية ،كانت وما زالت الحاضنة األوىل للثقافة واملثقفني
واملبدعني العرب جميعً ا».
الشاعر والناقد العراقي ناظم ناصر القريش يرى أن مصر ليست أم الدنيا فحسب« ،إنما ً أيضا أم الثقافة ...أثرت وتؤثر
نشرت يل مجالت مصرية العديد من مقااليت النقدية .وأذكر
كتبت عن العديد من الشعراء املصريني ،سواء من جيل الرواد
أو أجيال تالية عليه».
التغري يف دور مصر القيادي
من جانبه قال وزير الثقافة األسبق الدكتور جابر عصفور:
«إن املجلس األعىل للثقافة أسهم إسهامً ا كبريًا يف عودة املثقفني
العرب إىل مصر ،ولم يكن هناك مؤتمر يقام إال ويحضره كبار املثقفني العرب ،سواء يف الشعر أو الرواية أو القصة
القصرية أو غري ذلك ،وهكذا ظلت الصلة بني النقاد واملثقفني العرب حميمية ومستمرة ،والفرتة التي
حدث بها ارتباك يف هذه العالقة هي التي أعقبت انتهاء حكم مبارك ،فضلاً عن أن البلدان العربية
61
تقارير
صارت لديها مؤتمراتها التي تستضيف فيها املصريني ،سواء يف
دبي أو الكويت أو املغرب أو تونس أو غريها ،واآلن قد عادت األمور إىل االستقرار يف مصر».
ويلفت عصفور إىل أن الدور القيادي ملصر قد تغري،
«فقديمً ا كان ثمة دول مركزية وأخرى دول أطراف ،لكن الصورة اختلفت اآلن ،فهناك تعددية واضحة ،بمعنى أن الحضور الثقايف لعاصمة كبريوت أصبح مساويًا للحضور
الثقايف لعاصمة كالقاهرة ،والرواية التي لم تكن تكتبها سوى املراكز الثقافية التقليدية صارت تكتبها كل املراكز ،حتى إن السعودية التي طاملا كنا نصفها بأنها ذات ثقافة محافظة بها اآلن العديد من الكاتبات املعروفات ،وال نستطيع أن ننكر أن
حركة الثقافة العربية والتواصل بني املثقفني مستمرة عىل
الرغم من وجود متغريات أخرى يف التعددية التي ساوت بني املركز واألطراف».
جابر عصفور
أحمد قران الزهراني
أسباب وراء تراجع القاهرة
أوضح الشاعر الدكتور أحمد قران الزهراين ،الذي عاش
يف القاهرة أعوامً ا الستكمال دراسة الدكتوراه ،أن للقاهرة
حضورها الثقايف والفني الذي ال يشبهه حضور يف الوطن العربي« ،فهي حفية بزائريها واملقيمني فيها؛ إذ قدمت
للثقافة الفن العربي وأسماء خالدة ما زال تأثريها إىل وقتنا
الحاضر» .وقال« :أتحدث هنا عن القاهرة التي كانت مفتوحة
أحمد قران :القاهرة لم تعد تهتم بالمثقفين العرب بالشكل الذي يجعلها تسترد مكانتها
62
لكل األطياف الثقافية العربية من دون تمييز أو انحياز ،ولعلنا
نتذكر القامات الفنية والثقافية التي انطلقت من القاهرة، هجرة من بلدانها ،ولعلني أذكر هنا من مثقفي السعودية
عبدالله القصيمي وحمزة شحاتة ،وهما قامتان ثقافيتان
مصر لم تعد ِقبلة الكتاب أكد القاص سعيد الكفراوي أن مصر «لم تعد ِقبلة الكتاب الكبار اآلن يف ظل ما تالقيه
من منافسة سياسية واقتصادية وإعالمية كربى ،مدعومة برأسمالية ال قبل لها بها يف الوقت الراهن» .وقال« :إن القاهرة وارتباطها بالكتاب العرب أمر متغري ً وفقا للمتغريات السياسية ،فالقاهرة الليربالية بكل زخمها وأرستقراطيتها وانفتاحها عىل العالم الحر
بعد مشروع محمد عيل لم تكن ساحة الزدهار الثقافة العربية فقط ولكن كان ازدهارها
سعيد الكفراوي
يشارك يف تكوين الوعي العاملي ،عرب مشروع الخديو إسماعيل ،بانفتاحها عىل التجديد والحداثة .كانت القاهرة يف حقبة ً مالذا لكل املثقفني املضطهدين والباحثني عن الحرية». إسماعيل حتى منتصف األربعينيات من القرن العشرين ويشري الكفراوي إىل أنه بقيام ثورة يوليو «استبدل الزعيم نفسه باألمة ،واستثمر كل بقايا الحقبة الليربالية يف املسرح
والفكر يف التأسيس لسلطة ثورة يوليو حتى جاءت هزيمة 1967م ،وكانت منطقة الشام قد أصبحت مرك ًزا للثقافة العربية
إىل جانب العراق كمركز ثقايف ،وكان كالهما يساعد بحضوره الفاعل القاهرة يف دورها الثقايف يف حقبة الستينيات ...لكن بعد النكسة ،وسيادة زمن املصادرات ،ومالحقة الكتاب ،وظهور ما ُعرف بالطيور املهاجرة يف زمن السادات؛ رحل الك ّتاب
العرب واملصريون إىل بالد النفط ،لتظهر مراكز ثقافية متباينة ومتعددة ،فهناك املغرب كمركز ثقايف إىل جانب القاهرة
كمركز تقليدي ورئييس ،وإىل جانب مركز قوي قادر عىل منح الجوائز وتنظيم الرحالت ،وهو مركز الخليج بحكم ما يمتلك من فائض قيمة مالية ،يف حني انحصرت مراكز تقليدية قديمة كالعراق ودمشق؛ بسبب الفوىض العارمة يف السياسة اإلقليمية ،لتختفي شي ًئا فشي ًئا األسئلة الكربى من املشاريع الثقافية الكربى يف العالم العربي ،وتتوقف عند حدود أنشطة
مظهرية؛ كافتتاح معرض ،أو إقامة ندوة ،أو اللهاث خلف جائزة».
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
هل غادرت القاهرة موقعها المركزي في الثقافة العربية؟
كبريتان لجآ إىل القاهرة وأقاما فيها وأنتجا أهم أعمالهما الثقافية ،وكثري من فناين ومثقفي الوطن العربي».
ويذكر الزهراين أن القاهرة بعد أن كانت حميمية مع
زوارها ،تحتفي بهم ،وتقدمهم للجمهور ،وتقيم لهم األمسيات والدراسات« ،تراجعت عن هذا الدور .بعد أن كانت
عاصمة الثقافة والفن العربي أصبحت مثلها مثل أي مدينة
عربية أخرى؛ إذ تخلت عن دورها ،وتراجعت عن تأثريها».
وعدّ د أحمد قران أسبابًا وراء هذا الرتاجع ،من أهمها :االنفتاح الثقايف واإلعالمي الذي وجده الفنان واملثقف ،وأصبح يستغني عن الوصاية من خالل استقالليته .والسبب األهم أن القاهرة فقدت بريقها الثقايف ،أو باألحرى لم تعد تهتم باملثقفني
العرب بالشكل الذي يجعلها تسرت ّد مكانتها ،هي تستضيف مثقفني وتقيم ندوات وأمسيات لكن هذه الفعاليات مثلها
مثل الفعاليات الثقافية يف أي مدينة عربية هامشية ،ربما التغريات السياسية ،وبالتايل التغريات الثقافية يف املؤسسة
الثقافية كان لها دور سلبي عىل الثقافة املصرية ،وبالتايل عىل مكانة القاهرة الثقافية».
دور يف حركة البعث
وأكد الناقد الدكتور صالح فضل أن القاهرة «لعبت كما
هو معروف دورًا أساسيًّا يف حركة البعث واإلحياء العربية،
وقادت تيارات النهضة العلمية والفكرية واألدبية ،حيث
احتضنت كل املواهب واإلمكانات العربية املتفردة».
وقال صالح فضل :إن ذلك «ال يربر عىل اإلطالق ادعاء
البعض اآلن أنها تنازلت عن هذا الدور؛ ألن هذه األدوار ال
تحتكر ،وال تصاب بالعقم ،بل تتعدد وتتوالد وتنتشر لتصنع ً آفاقا جديدة للنمو الحضاري .والقاهرة من أكرث العواصم
استعدادًا للعب هذا الدور الحضاري ...وقد تكون هناك
عواصم أغنى من القاهرة لكن ثراءها ال يصنع لها ثقل القاهرة وبهاءها ،ومن ثم فدور القاهرة الثقايف والحضاري ما زال قائمً ا ،ويتشكل يف كل مرحلة بأشكال مختلفة».
ورفض الشاعر املصري شعبان يوسف القول بأن القاهرة
لم تعد منطقة جذب ثقايف للك ّتاب واملبدعني واملثقفني العرب،
هاني الصلوي :الحديث عن دور مركزي وآخر غير مركزي تغير عما كانت عليه مناقشة هذه األبعاد فيما يتعلق بالثقافة
صالح فضل
شعبان يوسف
وقال« :إنه بحكم وجوده يف مجال العمل الثقايف منذ سنوات
طويلة يعلم تمامً ا مدى التقدير الذي يك ّنه البعض لألنشطة
الثقافية يف مصر ،وبخاصة فعاليات معرض القاهرة الدويل
للكتاب ...وال يم ّر أسبوع من دون أن تكون هناك فعالية لكاتب أو مبدع عربي ،وبخاصة أن دور نشر مثل دار العني أو دار مرييت أو دار شرقيات ال تخلو قوائم النشر فيها من ك ّتاب
ومبدعني عرب من كافة البلدان ...تقدي ًرا للثقل الثقايف الذي
تشغله وما زالت تشغله مصر يف العالم العربي ،وهذا بحكم التاريخ الطويل والعميق للحركة الثقافية ،وكذلك التعدد
الهائل ملراكز اإلنتاج والتنشيط الثقافيني يف مصر». ويقول الشاعر والناقد
63
اليمني هاين الصلوي (صاحب دار أروقة للنشر بالقاهرة):
«بال شك ما زال للقـاهرة دور فعال من كل النواحي ،وقد عادت إليها بعض املركزية -
بشدة -بعد الربيع العربي وبعد
اشتعال
الحروب
هاني الصلوي
يف األماكن التي مثلت مع
القاهرة مراكـز إشعاع ثقايف وتنويري .وهي تمارس دورًا ثقافيًّا
يختلف عما تمارسه عواصم ومراكـز أخرى من حيث كونها
مدينة غري جامدة أو إستاتيكية ،كما أنها متسعة وضاجة ومضيافة ،وقبل ذلك قابلة ملختلف الفئات والشرائح؛ ما
يضيف أهمية عىل ما تقدمه ،ولذلك ما زال الناس يتجهون نحوها ،ويقصدون تنوعها واختالفها».
ونبه الصلوي إىل كون الحديث عن دور مركزي وآخر
غري مركزي «تغري عما كانت عليه مناقشة هذه األبعاد
فيما يتعلق بالثقافة ،تحديدً ا مع هجرة الجميع إىل ً أيضا ميزات الفضاء الرقمي والشبيك .وربما قدّ م هذا
كثرية للتعريف بما خفي عن القاهرة ذات األفق الجميل
والفعاليات الالنهائية» .
مقال
العقل السياسي األلماني بين «الثقافة الرائدة» و«الوطنية الدستورية» تعيش النخبة السياسية األلمانية اليوم على وقع الصدمة التي
رشيد بوطيب كاتب مغربي يقيم في ألمانيا
خلفتها نتائج الحزب اليميني المتطرف «البديل من أجل ألمانيا» في االنتخابات المحلية .ويبدو واضحً ا أن األحزاب التقليدية في حيرة من
أمرها ،أمام الشعبية الكبيرة التي بدأ يحظى بها هذا الحزب ،ليس فقط في شرق البالد ،بل في غربها ً أيضا. لقد أعلن حزب «البديل من أجل ألمانيا» في برنامجه عداءه
الواضح لالتحاد األوربي ،وطالب باستعادة الدولة القومية لسلطاتها
السياسية واالقتصادية من بروكسل .وتساوق هجومه على المشروع
64
األوربي ،مع هجومه على المهاجرين من أصول مسلمة ،ومطالبته بإغالق الكتاتيب القرآنية ومراقبة المساجد ،ووقف استقدام اليد العاملة من الخارج.
أكد الفيلسوف األلماني هابرماس أن االنفتاح على المهاجرين
وثقافتهم ،يشجع ويعبد الطريق إلى انفتاح أكبر للشعوب األوربية
بعضها على بعض ،وخلق ثقافة أوربية متعددة ومنفتحة .كما أوضح
أعلن حزب «البديل من أجل ألمانيا» عداءه الواضح لالتحاد األوربي .وتساوق هجومه على المشروع األوربي ،مع هجومه على المهاجرين من أصول مسلمة ،ومطالبته بإغالق
في محاضرته الشهيرة «أوربا ومهاجروها» التي ألقاها عام 2005م« :إنه من غير الممكن تشكل هوية أوربية مشتركة ،إال عبر انفتاح أكبر داخل
دول االتحاد وثقافاتها الوطنية على مواطنيها الذين ينتمون إلى أصول ً طريقا باتجاه واحد ،وإذا ما إثنية ودينية مختلفة .إن االندماج ليس
نجح ،فإنه سيتسبب في رجة حيوية للثقافات الوطنية القوية ،لتصبح أكثر انفتاحً ا وأكثر حساسية ،وأكثر قدرة على االستيعاب نحو الداخل والخارج في اآلن نفسه».
رفض قيم المجتمع الليبرالي
الكتاتيب القرآنية ومراقبة المساجد ،ووقف استقدام اليد العاملة من الخارج
لكن يبدو أن أحزاب اليمين المتطرف ،وليس في ألمانيا فقط،
اختارت الطريق المعاكس .فهي تتخذ مواقف عدائية ضد المهاجرين
وضد الفكرة األوربية في آن .ويشتمّ من برنامجها رفض لقيم المجتمع
الليبرالي ،بل وتعلن صراحة إعالءها للقومي ولفكرة ضيقة للهوية على حساب المجتمع متعدد الثقافات .إن حزب «البديل من أجل ألمانيا» يعلن في برنامجه الحزبي انتصاره لفكرة «الثقافة األلمانية الرائدة» العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
أولاً -ضرورة الدخول في حوار نقدي مع الماضي وأخطائه
Leitkulturضد ما يسميه «أيديولوجية المجتمع متعدد الثقافات» ،مغفلاً أن التعدد الثقافي مكون من مكونات كل
(القدرة على النقد الذاتي التاريخي).
يعلن رفضه لما يسميه باستيراد التيارات الثقافية ،أي يرفض
الديمقراطية.
مجتمع ،ال يمكن القفز عليه وال تجاهله .كما أن برنامج الحزب التأثيرات الثقافية الخارجية ،وهو ما يفضح فكرته العنصرية
عن الثقافة ،وعن الوحدة الثقافية المزعومة أللمانيا،
التي يؤكد التاريخ الثقافي األلماني نفسه أنها مجرد شطح أيديولوجي.
وثانيًا -االستعداد للدفاع عن القيم الليبرالية - وصف ستيرنبرغر في محاضرة له ألقاها في األربعينيات
المواطن «كذات مفكرة ومسؤولة داخل جماعة سياسية». وهذه الجماعة السياسية يتوجب أن نفهمها برأيه كمجتمع مدني يتكون من مواطنين أحرار ومتساوين .إنه نموذج لم
لكن هذه اليعقوبية الثقافية تفضح نفسها أكثر حين
يتحقق من قبل في رأي ستيرنبرغر في التاريخ األلماني .وفي
وأن تزايد أعداد القادمين إلى ألمانيا من بلدان مسلمة يشكل
إدارة مصير مجتمعاتنا وفي تشكيل دولتنا؛ ازددنا مدنية.
حديثها عن اإلسالم ،معتبرة أن اإلسالم ال مكان له في ألمانيا، خط ًرا على الهوية األلمانية .بل إن برنامج الحزب يدافع عن ً مشروعا لإلسالم. «اإلسالموفوبيا» باعتبارها نقدً ا
هذا المنعطف باتجاه اليمين ،وباتجاه أفكار ومعتقدات،
رأيه كلما تقدمنا في مشروع المواطنة ،أي كلما شاركنا في إن أهم نقطة فيما كتبه ستيرنبرغر ،كما يرى عالم السياسة
األلمانية يان فيرنر مولر ،تكمن في تحريره لمفهوم المواطن من حمولته السلبية التي نجدها عند منتقديه مثل ماركس
ماض اعتقدت النخبة الفكرية في ألمانيا أنها أضحت جزءً ا من ٍ مظلم ،طواه التاريخ ،وتجاوزه العقل السياسي األلماني مع
المواطن كما يرى ليست بالضرورة سيئة أو تقوم على النفاق
نوربرت المرت يلح مرارًا على ضرورة دعم ثقافة ألمانية رائدة،
بإمكاننا أن نكون مواطنين من دون أن نعتقد أننا محاربون،
انهزام النازية ،ليس وليد اليوم .فهذا رئيس البرلمان األلماني
تكون بمثابة النموذج الذي يحتذى بالنسبة لألقليات ،مؤكدً ا أن الوطنية الدستورية وحدها ال تكفي لالندماج .وهو الشخص
نفسه الذي أعلن غير مرة اعتراضه على انضمام تركيا إلى
االتحاد األوربي ،باعتبار أنها دولة إسالمية ،أو دولة لم تعرف تقليد التنوير ،وكلها ادعاءات واهية ،فدول شرق أوربا التي انضمت إلى االتحاد ،ال تتوافر على تقاليد ديمقراطية راسخة،
ولم تعش تنوي ًرا ،وهو ما يبدو اليوم على األقل في أمرين: أولاً -مسيحيتها التي ما زالت يطبعها الطابع القومي،
المُ عادي للسامية ولإلسالم.
وثانيًا -سطوة األفكار اليمينية عليها ،وخضوعها اليوم،
كما الحال في بولندا وهنغاريا ألحزاب شعبوية ،معادية
ألوربا.
مبادئ ديمقراطية بطابع كوني
ونيتشه ،ليضعه في قلب الفكرة السياسية .إن شخصية كما تقول الماركسية .وفي اآلن نفسه يتساءل إذا ما كان
دون فكرة البطولة؟ في مقال آخر سيفرق ستيرنبرغر بين مفهوم «البلد» Heimatومفهوم «الوطن» Vaterland
مؤكدً ا أن مفهوم الوطن يرتبط دائمً ا بمسؤولية سياسية، ويتطلب مواطنين راشدين .إنه مفهوم ال يتحقق إال في
الدستور .فهو ال عالقة له بكل تلك الخطابات التي تتحدث
عن األصل والهوية وروح الشعب .وحبنا لهذا الوطن ال يتحقق عاطفيًّا بل يمر عبر حريتنا ومشاركتنا في دستوره الواقعي .إن
المواطن ليس جنديًّا ،تتحقق مسؤوليته كطاعة ،والجمهورية ً جيشا ،يطلب من جنوده الطاعة واالستعداد برأيه ليست للتضحية.
سيتبنى الفيلسوف األلماني يورغن هابرماس في أواسط
عقد الثمانينيات مفهوم الوطنية الدستورية الذي نحته عالم
السياسة دولف ستيرنبرغر ،ويمنحه بعدً ا كونيًّا ونبرة نقدية ذاتية .لقد بدأ أولاً بإعادة النظر إلى الموقف الذي عبرت عنه
إن تيار «الثقافة الرائدة» داخل ألمانيا ،يقف على النقيض
مدرسة فرانكفورت النقدية بالدستور والقانون حين شككت
قيمة هوية جمعية على الهوية الفردية ،فإن تيار «الوطنية
نظرية تواصلية ،عبرها سينتقل بالمدرسة النقدية إلى فهم
من تيار «الوطنية الدستورية» .فإذا كان التيار األول يعلي من
الدستورية» جاء كرد فعل على األخطاء والجرائم التي ارتكبت
باسم الوطنية األلمانية .وبالنسبة لهذا التيار فإن الدستور ال يعبر عن أمة ،ولكن عن مبادئ ديمقراطية تتمتع بطابع كوني. إن الوطنية الدستورية في مفهوم كل من عالم السياسة
األلماني ،دولف ستيرنبرغر والفيلسوف يورغن هابرماس تقوم
على مطلبين أساسيين:
فيهما واعتبرتهما أدوات بورجوازية ،لكن هابرماس سيطور ً وخصوصا خالل جديد لدولة الحق والقانون وللديمقراطية،
النقاش الذي دار في الثمانينيات حول الهوية السياسية أللمانيا االتحادية ( )Historikerstreitوهنا ،وضد تلك المحاوالت التي كانت تدعو إلى دعم وعي قومي ألماني ،من أجل دعم ارتباطها بالغرب ،رأى هابرماس أن طريق االرتباط
الوحيد بالغرب يمر عبر وطنية دستورية ،وعبر االرتباط
65
مقال
بالقيم الدستورية الكونية ،تلك القيم التي برأيه لم تعرفها
ً ضمانا لوحدة المجتمع، تقدم الوطنية الدستورية إذن
لهابرماس ،فإنه لم يبق أللمانيا ،بسبب ماضيها المظلم،
التقليدية .وهي بذلك تختلف عن القومية الليبرالية ،وعن
ألمانيا وثقافتها إال بعد وعبر آوشفيتز (المحرقة) .فبالنسبة
سوى االرتباط بمبادئ سياسية كونية ،وعبر تلك المبادئ يتوجب عليها الدخول في حوار نقدي مع تقاليدها القومية وممارسة النقد الذاتي .إن الهوية ما بعد التقليدية ،كما
يسميها هابرماس ،تفقد طابعها الجوهراني؛ ألنها تتحقق في
سياق الفضاء العام فقط ،كوطنية دستورية. حوار نقدي مع الماضي
لقد ربط هابرماس دائمً ا بين الوطنية الدستورية وبين
ضرورة الدخول في حوار نقدي مع الماضي ومع التقاليد
األلمانية .أما واجب المواطنين فال يتمثل فقط في الوفاء ً أيضا في الممارسات التواصلية بمبادئ الدستور ،ولكن
التي تبحث عن تحقيق تفاهم حول التأويل الصحيح لتلك المبادئ .فالوطنية الدستورية هي صيرورة وممارسة ،وعلى المواطنين أال يهتموا فقط بالدستور ،ولكن أن ينخرطوا ً أيضا في النقاشات التي يعرفها الفضاء العام .إن مفهوم الوطنية
الدستورية يدعم ،في رأي عالم السياسة األلماني يان فيرنر
66
مولر ،تعايش الثقافات المختلفة داخل المجتمع الواحد. بل يظهر أنه الضمان العقالني للحفاظ على التعدد الثقافي
والوقوف ضد سيطرة ثقافة األغلبية .فكل ثقافة ال تحترم تلك القيم الكونية ،تهدد العيش المشترك.
متجنبة المخاطر التي قد تنتج عن الوطنية في نسختها التصورات التقليدية التي تقدمها المدرسة الجمهورية.
فالوطنية الدستورية تعتبر مصدر الثقة السياسية السائدة بين المواطنين ،وتساهم في استقرار المجتمع .كما أنها تدعو المواطنين لالتحاد ضد األخطار التي تهدد مبادئ الدستور،
كما تحثهم على العمل على تحسين أداء مؤسساتهم أو انتقادها .وألنه ال يمكن أن يحدث توافق بين مبادئ الدستور
وواقع الدستور؛ ألن الواقع غالبًا ما يكون أصغر من المبادئ،
فإن الوطنية الدستورية تتميز بخاصيتين أساسيتين: أولاً -إنها تحقق االستقرار.
ثانيًا :إنها تشحذ العقل النقدي للمواطن ،بل قد تذهب
بالنقد إلى مستوى التمرد المدني.
بالنسبة لهابرماس ،فإنه لم يبق أللمانيا ،بسبب ماضيها المظلم ،سوى االرتباط بمبادئ سياسية كونية ،وعبر تلك المبادئ يتوجب عليها الدخول في حوار نقدي مع تقاليدها القومية وممارسة النقد الذاتي
اعتزاز قومي ال يقبل المساءلة ما ال يمكن تصوره لدى الوطنيين الدستوريين ،كما يكتب يان فيرنر مولر ،هو ذلك االعتزاز القومي الذي ال يقبل
المساءلة ،أو تلك السردية القومية المغلقة ،التي ال تتحدث إال عن االنتصارات والبطوالت ،وهو أمر ممكن لدى القوميين الليبراليين .إن هابرماس يتحدث عن تضامن بين غرباء ،يتأسس على القانون .وعالوة على ذلك ،من الخطأ
اعتبار الوطنية الدستورية ً نوعا من العالقة العمودية بين المواطنين والدولة ،بل هي ال تتحقق إال في العالقة بين المواطنين أنفسهم ،بين مواطنين أحرار ومتساوين.
تملك الوطنية الدستورية أهمية كبيرة في سياق النقاش الدائر حول االندماج ،سواء تعلق األمر باندماج المهاجرين في مجتمعهم الجديد ،أو باندماج الدول في إطار أكبر كاالتحاد األوربي مثلاً .ففيما يتعلق باندماج المهاجرين ،فإن
الوطنية الدستورية ترفض فرض ثقافة األغلبية المجتمعية عليهم .وبدلاً من ذلك تدعو األقلية واألغلبية إلى االتفاق
على مبادئ عامة للعيش المشترك داخل الدولة الواحدة التي ال يتوجب القفز فوقها سواء باسم الثقافة أو الدين .أما ً ضيقا عن الثقافة القومية ،يقوم في نهاية المطاف على أحادية ثقافية .إنه يقوم القومية الليبرالية فإنها تعتمد مفهومً ا
على مبدأ االنتماء -انتماء غير محايد إلى ثقافة معينة -وليس على المسؤولية تجاه الدستور ،وهو ما تعبر عنه بوضوح قضية منع الحجاب في بعض البلدان األوربية ،وما تطمح لفرضه على المجتمع أحزاب يمينية ويمينية متطرفة ،كما هي الحال مع حزب «البديل من أجل ألمانيا».
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
67
@alfaisalmag
دراسات
جا «العنقاء والخل الوفي» و«الظهور الثاني البن لعبون» نموذ ً
تنازع الروائي والتاريخي في روايتين إلسماعيل فهد
الحسن بنمونة
68
ناقد مغربي
«يكتب علم التاريخ تاريخ المجتمعات ال تاريخ اإلنسان».
ميالن كونديرا
في مخيلة القارئ العربي تصور مجانب للصواب
عن السرد في الخليج العربي ،والراجح أنه ال يريد
االعتراف بوجود سرد في هذه البيئة .هذا التصور راجع إما إلى فكرة مسبقة عن البيئة األدبية ،ولهذا ال نستطيع أن نقنعه بتوافر إمكانات سردية عند
كثير من الكتاب من أمثال :ليلى العثمان ،وسعود السنعوسي الذي نال جائزة البوكر للرواية العربية،
وفهد الدويري ،وفرحان راشد فرحان ،وفاطمة ً طبعا يوسف العلي ،وطالب الرفاعي ،...ومنهم
الروائي الكويتي إسماعيل فهد إسماعيل ،وإما راجع إلى أن المجتمع يتوجس خيفة من المجال الروائي،
بحكم أن الجزيرة العربية لم ينبغ فيها إال الشعر،
فقد كان منذ زمن بعيد هو ديوان العرب. العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
ً انطالقا من مبدأ تحكم التطور والتغير في الواقع ،فال شك
بفكرة أن يكون اإلنسان منسيًّا بال هوية وال وطن ،إشكالية
المعاصرة؛ هي المرتبطة بتجربة الروائي إسماعيل فهد إسماعيل .صحيح أن الراهن األدبي العربي لم يعد يعير بالاً
رغبة السؤال والتنقيب ،فال يهم إن كان هذا السؤال فلسفيًّا يحيلنا إلى المفهوم المتفق عليه للهوية التي تجعلنا منتمين
في سبيل تأسيس كتابة جادة أصيلة متجذرة في واقعنا ،ولكن
التي تجمع ال منتميًا بوطن ليس له ،ولكنه يسعى إلى بعثه
أن هذا يجعلنا نفتخر بتجربة رائعة شهدتها الثقافة الكويتية
لكتابنا الشيوخ الذين خبروا أسرار الكتابة ،وأجهدوا أنفسهم هذا ال يعني أنهم منسيون .إن التجارب الخالدة في الكتابة ال
يمكن تجاوزها ،وال يمكن إقصاؤها.
الكاتب من مواليد 1940مّ ، مثل األب الروحي للرواية الكويتية
الحديثة (فهو من كتاب ستينيات القرن الماضي) .صحيح أن
كتابًا كويتيين سبقوه من أمثال فهد الدويري وفرحان راشد
ينبغي لنا مساءلتها .الكاتب كان يسائل المجتمع ،ويثير فيه
لهذه األرض أو لتلك ،أو كان أنثروبولوجيا يريد تفكيك العالقة وتجديده باالنتماء إليه .الفكرة عينها ال تزال حاضرة في رواية أخرى هي «الشمس في برج الحوت» ،وفيها نعاين الغزو
العراقي للكويت سنة 1990م ،وهذه الرواية جزء من سباعية
جعلت الكاتب يحظى بمكانة خاصة في السرد العربي إلى جانب خماسية الروائي عبدالرحمن منيف ،وثالثية نجيب محفوظ.
فرحان ،ولكن التأسيس يربطه الدارسون بهذا االسم .له من
البناء الفني لرواية «في حضرة العنقاء والخل الوفي» يقوم
«البقعة الداكنة» (1965م) ،و«كانت السماء زرقاء» (1970م)،
من سنة 2010م ،سنة الكتابة ،ولكنها تعود بنا إلى ستينيات القرن
األعمال الروائية والقصصية ما يربو على العشرين ،نذكر منها:
و«الشمس في برج الحوت» (1996م) ،و«طيور التاجي» (2014م). ولم يسجن الكاتب نفسه في فن واحد ،بل كان كائ ًنا لمتعدد؛
على تقنية سرد األحداث المتداخلة والمتشابكة ،فهي تنطلق
الماضي وثمانينياته ،وتسعينياته .وهذه المراحل التاريخية
للرواية والقصة القصيرة والمسرح والدراسة والمقالة .وقد توج
في اآلونة األخيرة بجائزة سلطان العويس اإلماراتية تقدي ًرا لما
خلفه من إنتاجات ،عملت على تطوير هذا الفن في الكويت، وفي العالم العربي.
تنوع في الموضوعات واألفكار
إن المتتبع لجوالته التجريبية في الكتابة الروائية واجد
ً تنوعا في الموضوعات واألفكار واألحداث؛ يتناول التوافق
ً انطالقا من النفسي للمواطن الكويتي مع مستجدات العصر
التحول الذي أحدثه النفط في البنيات االجتماعية واالقتصادية، كما أنه ينفتح على التشكالت االجتماعية المحلية ،وهو يعالج
موضوع فئة البدون التي خلقت إشكالية في هرمية المجتمع الكويتي خاصة ،والمجتمع الخليجي عامة .في روايته «في حضرة العنقاء والخل الوفي» ،يتحدث عن إسهام هؤالء في
المقاومة ضد غزو جيش صدام البلد واستشهاد عدد منهم، ومشاركتهم في البناء والتشييد من خالل بطل ال اسم له، ولعل الكاتب وهو يسميه بالمنسي ابن أبيه كان يريد إثارتنا
أرخ روائ ًّيا لمرحلة إسماعيل فهد ّ كولونيالية ،تمثلت في االنتداب وأرخ البريطاني والتدخل األميركيّ ، كذلك لمرحلة مظلمة سادت أواخر القرن التاسع عشر
69
دراسات
ترتبط بأحداث غيرت مجرى التاريخ العالمي،
الرواية كلها بوح وانطباعات وخواطر
الذي انبثق مع الغزو العراقي للكويت .وهذه
عن وطن يمثل االنتماء العرقي والثقافي.
آخرها هو مفهوم النظام العالمي الجديد
وتفتيت للمشاعر تجاه الذات والهوية ،والبحث
األحداث نتعرفها من خالل الرسائل التي
هذا البوح لم يصدر عن شخصية عادية ،بل
يوجهها الراوي والشخصية البنته زينب .نقرأ
صدر عن شخصية استطاعت أن تبذل جهودًا
في ص« :9يا زينب ،منذ عام ،1996كنت وقتها
في خامستك ،وأنا أجاهدني للكتابة إليك»، وفي عدد من الصفحات نعثر على االسم
شهادة الماجستير ،والمساهمة في المقاومة.
اللغز الذي ساهم في تلغيم الحدث ،كما هو الشأن في ص:13
هذا المنحى الذي اتخذه الكاتب في نقل ً اعتباطا ،فالراجح أنه تأثر األحداث من خالل الرسائل لم يأت
في ص« :94البعض محكومون بالبقاء على الهامش» .ينفتح
في المتخيل الغربي ،ولعل تأثره بالكاتب اإلنجليزي صمويل
«صباح الخير يا ابن أبيه» ،أو نعاين الشعور بالمهانة والتهميش
البوح على واقع الدم والغدر والحرب والغزو كما هو الشأن في ص« :190قبل الساعة التاسعة ليلاً أقفرت الشوارع من المارة
عدا دوريات العسكر العراقي بما يكرس اإلحساس بواقعية حدث الغزو» .هذه بعض االقتباسات التي تسعى إلى وضع
الحدث في المسار التاريخي للكويت ،ولألمة العربية جراء ما تكالب عليها من أحداث جسام .والواضح أن الكاتب كان يدين طرفين في الوقت عينه؛ يدين نظرة المجتمع المجحفة تجاه البدون ،ويدين الغزو الذي استباح حرمة وطن آخر .وكأنه كان
70
لتنخرط في النشاط المسرحي والحصول على
يثير األسئلة واإلشكاالت؛ ليخز لحمنا حتى نشعر بما يحدث،
على أساس أنه سيؤثر في التماسك االجتماعي عامة.
طالب الرفاعي
بسرود ضاربة في المتخيل العربي القديم والحديث ،وضاربة ريتشاردسون (1761 - 1689م) واضح للغاية .يتوضح التأثر كذلك بتولستوي الذي انشغل بموضوعات الحرب والحب ،وحب
الوطن ،والفضيلة والبعث. غزل في بيئة متزمتة
تتنوع الموضوعات عند الكاتب ،فنراه ملتف ًتا إلى التاريخ
في روايته الجديدة «في الظهور الثاني البن لعبون» التي نشرت
سنة 2015م ،واالسم في الواقع هو لشاعر شهير في دول الخليج
ولد بالسعودية ،ثم رحل إلى الكويت ،فاستقر فيها إلى أن
مات بالطاعون .الرواية استحضار لتاريخ شعري حقق حضورًا الف ًتا في فترة زمنية غابرة في الكويت ،وخلف أث ًرا لن يمحى
الكاتب يدين نظرة المجتمع المجحفة
في الذاكرة الجماعية ،فكان تعامل الروائي مع الشاعر باعتباره ً ملعونا من لدن المتزمتين أواخر القرن التاسع عشر. شاع ًرا
استباح حرمة وطن آخر
خاصة؛ كيف تعامل شاعر غزل مع بيئة متزمتة تريد النيل منه؟
تجاه البدون ،ويدين الغزو الذي
الرواية تحاول مقابلة الدنيا باآلخرة في بعديهما الفلسفيين
المنسي يستمد رمزيته من النسيان والعدم الناظر إلى الحمولة الرمزية واألسطورية للشخصيتين في الروايتين؛ «حضرة العنقاء والخل الوفي» ،و«الظهور الثاني البن لعبون» ،يقف على أن لداللة المنسي ابن أبيه ب ً ُعدا أنثروبولوجيا يستمد رمزيته من النسيان والعدم،
والهامش والنبذ ،وهذه الدالالت ال تبرح كذلك شخصية الشاعر الذي جابه التقليد بالحب فكان مصيره النبذ ،ولعل الكاتب وهو يؤشر على فكرة الظهور الثاني (وقد يعقبه ظهور ثالث ورابع ...إلخ) كان ً بارعا في اإلثارة والوخز واستنهاض الهمم .أفال تكون الكتابة وخ ًزا وكأنها إبر؟
البحث عن الهوية هو ما يطبع التشابه بين الشخصيتين؛ البحث الذي يذكرنا ببحث جوزيف ك في رواية كافكا
«المحاكمة» عن الحقيقة .وألنها تظل دائمً ا متوارية خلف الغموض واأللغاز ،فقد عاينا في نهاية رواية «في حضرة العنقاء والخل الوفي» ما يشي بأن شخصية المنسي لم تفلح في أن تغير وجهة نظر اآلخر (قد يكون مجتمعً ا أو سلطة
ما) .نرى البطل يتطلع إلى السماء «حدست وجود غيوم بيضاء في السماء ،رفعت عيني ،ال أثر للغيوم بالمرة» ص.386
الغيوم هنا بالمعنى األسطوري ال تنفصل عن مفهوم الخصب والحياة واألمل والبعث .أما بحث الشاعر عن مشروعية ً إنسانا حرًّا. قاس ال يرحم ،فهو بحث اإلنسان عن حقيقة أن يكون الكلمة في مجتمع ٍ
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
تنازع الروائي والتاريخي في روايتين إلسماعيل فهد
هل يستطيع الشعر أن يكسر شوكة الجمود والتخلف الفكري؟
الشعر هنا ليس عيبًا وال حرامً ا ،فالحرام في تصور اآلخر أن
يتكئ على خرق العادات ،وهو لم يأت بجديد إذا كنا نعلم أن شعر الغزل غرض قديم ،فلم يراد له أن يصمت؟ لعل الكاتب يطمح إلى البحث في أسباب هذا التغير ال في الحلول ،فهذه
رهن بالقرارات السياسية العليا.
يقول الكاتب :إنه أراد كتابة سيناريو عن مكان عريق في
الكويت هو المشفى األميركاني الذي بني بداية القرن العشرين،
ليلى العثمان
فاطمة يوسف العلي
ولما انكب على قراءة تاريخ شاعر نظم الشعر النبطي هو حمد
بن محمد بن لعبون وجد نفسه بين كماشتين؛ كماشة المكان وهو جزء من تاريخ الكويت ،وكماشة شاعر ّ مثل ظاهرة أدبية أواخر القرن التاسع عشر أثارت حفيظة المتشددين .فرواية «الظهور الثاني البن لعبون» أراد بها الكاتب اإلشارة إلى أن
التطرف الديني ،والتعصب للرأي ،واإلرهاب ليس وليد هذا العصر ،بل هو وليد عصور خلت .يلتقي الشعر والمكان
والتاريخ في الرواية لنعاين اآلالم اإلنسانية ،والمشاعر الدفينة
الموهوبة ،وقيمة الكلمة التي تستطيع أن توحد بين الفرقاء. رواية عن شاعر منبوذ ألنه ينظم قصائد الغزل ،وهو الغرض
الشعري الذي عرفه العرب منذ العصر الجاهلي ،يتحدث فيها عن النساء والحب .فهل كان الكاتب يسرد لنا تاريخ محاكمة
للحب؟ هذا الحب الذي يبني المجتمعات ،ويحقق السلم
واألمان واألمل.
الكاتب قارئ نهم ألنماط سردية متنوعة من جهة ،ونصوص و ُكتاب من ثقافات مختلفة من جهة أخرى المنبوذ .فهل كان الكاتب ساذجً ا وهو يعود إلى هذه الحقبة
التاريخية؟ الجواب هو أن الكاتب أرّخ روائيًّا لمرحلة كولونيالية، تمثلت في االنتداب البريطاني والتدخل األميركي من خالل بناء
المستشفى ،يكون في ظاهره دعمً ا ومساندة ،ولكن في خفائه يكون احتاللاً ،وأرّخ كذلك لمرحلة مظلمة سادت أواخر القرن التاسع عشر ،بتكفير الشاعر وتهديد حياته ،وهو ما جعل كثي ًرا
من الدارسين يقرون بوجود عالقة بين ما حدث في تلك الفترة، وما يحدث اليوم في عالمنا العربي من تناسل فتاوى التكفير
الرواية ال تخلو من التشويق على الطريقة البوليسية؛
واإلرهاب والقتل باسم الدين .وال ننسى أن هذه الظاهرة ليست
حدث في رواية الكاتب األلماني زوسكيند «العطر .سيرة قاتل». صحيح أن الكاتب يصرح قائلاً ما معناه :إنه بال آباء في الرواية،
أو اتهموا بالزندقة ،أو أجبروا على الرحيل. نلمح ً أيضا تشابهًا بين بطل الروائي الروسي غوغول في
إذ نقف على الجثث المنتمية لبنات الهوى ،وهذا يذكرنا بما
ولكن على اعتبار أن ال كتابة من دون مرجعيات ثقافية قد تكون مرتبطة بالثقافة المحلية أو العالمية ،وهو ما يسمى بالتناص، فإنه يحق لنا البحث في التعالقات النصية .ولهذا نرى أن الكاتب
إسماعيل فهد إسماعيل يكتب تاريخ اإلنسان الكويتي ال تاريخ
مجتمعه بتعبير ميالن كونديرا .نستطيع أن نلمح هذا في توظيف شخصيات تعود بنا إلى بداية القرن العشرين؛ منها: جان دارك البريطاني وجوان األميركية التي تنتمي إلى الثقافة
الغربية ،أو توظيف شخصيات محلية تحيط بعالم الشاعر
«الظهور الثاني البن لعبون» أراد بها الكاتب اإلشارة إلى أن التطرف الديني، والتعصب للرأي ،واإلرهاب ليس وليد هذا العصر
غريبة عن مجتمعنا العربي ،فكثير من الشعراء القدامى قتلوا،
روايته «المعطف» أكاكي أكاكيفيتش وشخصية المنسي. يتشابهان في العيش في الهامش ،واإلقصاء والنسيان وفي
الحلم؛ أحدهما يحلم بمعطف يليق بوظيفته ،واآلخر يحلم ببطاقة هوية .على األقل من جهة كون أن ما حدث للمنسي
يخدم هذا التصور .هناك روايات غربية تناولت فكرة إسهام
مهمشي المجتمع في الدفاع عن الوطن؛ من بلدان مستعمرة كما هو الشأن في الحرب العالمية الثانية ،في فرنسا التي استنجدت بمستعمراتها .وقد استطاع الكتاب الفرنسيون ً أحداثا لويس أراغون وأندري مارلو وسارتر أن يسردوا لنا عن التضحية والبطولة والكرامة والوطنية .بل إن هناك من
ارتأى أن ثمة تأثي ًرا أحدثه كامو في أدب كاتبنا ،وهذا يعني
أنه قارئ نهم ألنماط سردية متنوعة من جهة ،وأنه يحاور ً نصوصا و ُكتابًا من ثقافات مختلفة من جهة أخرى ،فالكتابة في جوهرها سلسلة من الكالم يتلفظ به اإلنسان في أزمنة وأمكنة مختلفة.
71
دراسات
اإلرهاب في أفق النقاش الفلسفي..
هل نستطيع تبرير الممارسة اإلرهابية أخالق ًّيا؟ رقية الكمالي كاتبة ومترجمة
قبل الهجمات اإلرهابية في 11أيلول من عام 2001م ،في الواليات المتحدة ،لم يكن موضوع
اإلرهاب يرتسم في أفق النقاش الفلسفي .عدد الدراسات الفلسفية في اللغة اإلنجليزية التي
72
تتحدث عن اإلرهاب قليل ،إضافة إلى مجموعة من األوراق المتخصصة. وكانت المقاالت حول هذا الموضوع في المجالت الفلسفية قليلة ً أيضا ومتباعدة ،ولم يدخل أي منها الموسوعات الفلسفية الرئيسية.
لكن األمر اختلف بعد هجمات 11سبتمبر وما أعقبها ،حيث أصبح
موضوع اإلرهاب على جدول األعمال الفلسفية :وهو اآلن موضوع
العديد من الكتب والمقاالت الصحافية فضلاً عن أعداد المجالت الخاصة، والمؤتمرات .في حين تدرس العلوم االجتماعية األسباب واألنواع الرئيسية ،واآلثار المترتبة على اإلرهاب ،وتعقب التاريخ ،ومحاولة شرح طريقة اإلرهاب المتطورة مع مرور الوقت ،مع تركيز الفلسفة على مسألتين أساسيتين :األولى مفاهيمية؛ ما هو اإلرهاب؟ والثانية أخالقية؛ أي هل نستطيع تبرير اإلرهاب أخالقيًّا؟
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
إن تاريخ اإلرهاب قد يوازي تاريخ العنف السياسي. ً حديثا نسبيًّا حيث بدأ ومع ذلك ،يعد مصطلح «اإلرهاب»
استخدامه في نهاية القرن الثامن عشر .وعالوة على ذلك، غالبًا ما تستخدم الكلمة في الخطاب السياسي المعاصر كمصطلح جدلي يحمل عب ًئا عاطفيًّا قويًّا .عندما دخلت أول مرة في الخطاب الغربي العام ،كانت كلمة «اإلرهاب»
تعني فترة إرهاب اليعاقبة أو اليعقوبيين «نسبة إلى دير
القديس يعقوب» ،الذي فرض على فرنسا من خريف عام
1793م إلى صيف عام 1794م .كان هدف اليعاقبة هو إعادة
تشكيل المجتمع والطبيعة البشرية .وكان ذلك يتحقق من خالل تدمير النظام القديم ،وقمع أعداء الحكومة الثورية،
وغرس وتطبيق الفضيلة المدنية من وجهة نظرهم .كان الدور المحوري والنفوذ الواسع الذي منح للمحاكم الثورية لتحقيق
هذه األهداف ،مقيدً ا بعدد قليل جدًّ ا من القواعد واإلجراءات. كانت عقوبة اإلرهابيين المعتادة هي الموت ،وكانت المحاكمات واإلعدامات تعني ضرب اإلرهاب وإلقاء الرعب
في قلوب جميع الذين يفتقرون إلى الفضيلة المدنية .اعتقد
اليعاقبة أنها وسيلة ضرورية لتعزيز النظام الجديد .وقدمت هذه الضرورة األساس المنطقي والتبرير األخالقي لسيادة اإلرهاب وسطوته ،الذي انبثق من «الفضيلة» .وكان نقاد
تجاوزات وفظائع الثورة الفرنسية يحذرون من سلطة اإلرهاب منذ البداية .كان هذا اإلرهاب الذي ترافق مع انتهاك متطرف للسلطة ،وارتبط بمفهوم االستبداد والطغيان كما حكم على
ً موضوعا متكررًا في الفلسفة السياسية. أساس الخوف، أساليب مختلفة من الصراع
الفعل» ،كما كانت في معظمها اغتياالت لملوك أو مسؤولين ً وخالفا إلرهاب اليعاقبة ،الذي حكوميين رفيعي المستوى. كان بطريقة عشوائية تقريبًا ،كان هذا النوع من اإلرهاب يعمل إلى حد كبير بطريقة تمييزية للغاية.
وكان هذا ينطبق بشكل خاص على المنظمات الثورية
الروسية مثل إرادة الشعب أو الحزب االشتراكي الثوري ()SR؛ التي رأت أن اغتيال أي مسؤول حكومي مب َّرر أخالقيًّا،
كما أن اغتياله ،من وجهة نظرها ،كان من شأنه أن يصنع ً فارقا ويسهم إسهامً ا مهمًّ ا في النضال .ابتعد عنفهم من
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ،كان هناك
األشخاص اآلخرين ،الذين ال عالقة لهم أو لم يشاركوا في
مختلفة من الصراع السياسي ،استبد بعض الفوضويين
والقتل العشوائي للمواطنين العاديين كان ينفذه الفوضويون
تحول في كل معنى وصفي وتقييمي لهذا المصطلح .بأساليب
الحكم القمعي بما فيه الكفاية .كما أن بعض هذه االغتياالت
والمنظمات الثورية األخرى ،وبعد ذلك بعض الجماعات القومية ً أيضا ،بالعنف السياسي .لقد توصلوا إلى استنتاج
الدعاية التي كانت استثناء وليست القاعدة .وعلى الرغم من
األفعال المتطرفة التي سترعب قلب النظام االجتماعي
األفعال مشروعة أخالقيًّا ،سواء كان العقاب يفترض عدم
مضمونه أن الكلمات لم تكن كافية ،وأنهم يحتاجون إلى والسياسي الجائر ،وتولد الخوف واليأس بين مؤيديه؛
كي يصبحوا قوة مؤثرة تؤدي في نهاية المطاف إلى التغيير السياسي واالجتماعي .لقد سميت هذه األفعال بـ«بروباغندا فعلية» أو «الدعاية عن طريق
الفرنسيون واإلسبانيون في سنوات (1890 - 1880م) من قبيل ذلك ،ادعى الجناة وبعض المتعاطفين مع قضيتهم أن تلك براءة أي عضو من أعضاء الطبقة الحاكمة أم وسيلة ضرورية لإلطاحة بالنظام الظالمً . وفقا للغتهم ،فإن مصطلح
73
دراسات
«اإلرهاب» يتضمن عدم اللوم أو استهجان العنف .بينما نجد
يعتقد تالمذة الدكتاتورية وحكم الحزب الواحد أن اإلرهاب
في العصر الحاضر ،نرى مثل هذا السلوك واضحً ا لدى قادة
يتحسسون من الكلمة ،ويصورون أنفسهم كمدافعين عن الدولة ضد أعدائها في الداخل ،فضلاً عن الخارج.
إدانة قوية لهذه الممارسة عندما تستخدم من اآلخرين ضدهم. تنظيم الدولة اإلسالمية في الشام والعراق وأنصارهم .أو حتى لدى الدول التي تمارس العنف ضد معارضيها وتستنكره عندما تطبقه دول أخرى ال سيما إذا كانت دولاً غير صديقة.
الشمولية؛ إذ لجأت إليه بعض الدول الديمقراطية ضد
الروسية والحرب األهلية .وفي روسيا ،كانت الحكومة التي
عندما قصف سالح الجو الملكي البريطاني « ،»RAFوسالح
وظف مصطلح اإلرهاب من كال الجانبين في الثورة
شكلها البالشفة المنتصرون ،استبدادية ،كما الحكم النازي
في ألمانيا؛ كالهما سعى إلى فرض السيطرة السياسية التامة على المجتمع .مثل هذا الهدف األصولي ال يمكن أن تتبعه إال
طريقة أصولية مماثلة في الصراع؛ أي اإلرهاب الموجه من شرطة سياسية قوية في مجتمع مف ّتت ومنعزل .وكان نجاحه يرجع إلى حد كبير إلى األسلوب التعسفي وعدم القدرة على التنبؤ باختيار الضحايا .في كال البلدين ،قمع النظام أولاً
المعارضة ،وعندما لم تكن هناك معارضة تتحدث عل ًنا ،كانت الشرطة السياسية ُتلقي القبض على معارضين «محتملين» الضطهادهم .في االتحاد السوفييتي ،أطلق العنان على
74
هو طريقتهم للحكم ،هؤالء الممثلون عن األنظمة الشمولية،
الضحايا الذين اختيروا عشوائيًّا .هذا اإلرهاب الشمولي ً ّ ً المنظرة وثباتا للدولة ،كما قالت تطرفا هو النوع األكثر
السياسية األلمانية ،حنة آرنت« :اإلرهاب هو جوهر الهيمنة
االستبدادية» ،ومعسكر االعتقال هو« :المؤسسة المركزية الحقيقية للسلطة التنظيمية الدكتاتورية الشمولية» .في حين
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
ومع ذلك ،فإن إرهاب الدولة ليس حك ًرا على األنظمة
المدنيين األعداء كوسيلة من وسائل الحرب ،ال سيما الجو األميركي « ،»USAAFالمدن األلمانية واليابانية في الحرب العالمية الثانية .أولئك الذين صمموا وأشرفوا على
هذه الحمالت لم يصفوها أبدً ا بـ«القصف اإلرهابي» ،ولكنه
كان الوصف الوحيد الذي غالبًا ما يشار إليه فيما بينهم في
االتصاالت الداخلية.
يمكن للمرء أن يكون إرهاب ًّيا ومناضلاً من أجل الحرية في آن واحد ،فاإلرهاب حكرا على أعداء الحرية أو ليس ً أيضا أن يشغل المتمردين .يمكن للمرء ً منصبا حكوم ًّيا رفيع المستوى ،أو ً مسؤولاً عسكريا ويخطط أو يقوم ًّ بتنفيذ عملية إرهابية
اإلرهاب في أفق النقاش الفلسفي
إرهاب حركات التحرر الوطني
بعد ذروة اإلرهاب الشمولي خالل المدة (1940 -1930م)،
استمر اإلرهاب الداخلي للدكتاتوريات العسكرية في أجزاء ً كثيرة من العالم ،وإن كان ذلك بطريقة أقل ً ونفوذا. ثباتا
في النصف الثاني من القرن العشرين وأوائل القرن الحادي
قبل الهجمات اإلرهابية في 11أيلول من عام 2001م ،في الواليات المتحدة، لم يكن موضوع اإلرهاب يرتسم في أفق النقاش الفلسفي
والعشرين ،تصدّ ر المشهدَ السياسي نوع من اإلرهاب َّ استخدمته المنظمات المتمردة؛ إذ لجأت إليه العديد من
وازدرائيًّا للغاية ،في حين كان المتمردون يصورون اإلرهاب
الوسيلة الرئيسية للنضال ،أو كتكتيك إلتمام حرب العصابات،
وسعوا إلى تغيير نظرة الناس إليهم؛ لكي يعاملوا كجنود
حركات التحرر الوطني من الحكم االستعماري ،إما بوصفه وكذلك فعل بعض الحركات االنفصالية .كما لجأت إليه التنظيمات المبنية على األيديولوجيات المتطرفة ،بوصفه
وسيلة لمحاولة تدمير ما عدّ وه نظامً ا اقتصاديًّا واجتماعيًّا
وسياسيًّا جائ ًرا ،وظالمً ا .وعلى وجه العموم ،اتصف هذا
في أعمالهم كما لو أنه جهاد أو نضال من أجل التحرر، أبطال ،وليس كإرهابيين أو مجرمين .وهم غالبًا ما يصفون
أعداءهم المتمثلين في حكومات الغرب ،أو النظام االجتماعي
والسياسي واالقتصادي لبلدانهم بـ«اإلرهابيين الحقيقيين». بالنسبة لهم ،اإلرهاب ال يعني كيفية القيام به ،وإنما ما هو
النوع من اإلرهاب ،بعدم تمييزه أو اختياره لهدف معين ،فهو
الهدف النهائي للقيام بذلك .فإذا كان الهدف النهائي هو تحرير
(أو غير السياسية) ،أو طبقتهم االجتماعية ،وأسلوب حياتهم؛
أن العنف الذي يهدف إلى الحفاظ على القمع أو الظلم ،يعد
يهاجم الرجال والنساء مهما كانت وجهات نظرهم السياسية
الصغار والكبار ،البالغين واألطفال.
البلد أو العدالة ،فإن استخدام العنف ال يُعَ دّ إرهابًا ،في حين
إرهابًا .من ناحية أخرى ،تميل الحكومات إلى طالء جميع
إنه يطلق النار على الناس ،أو يفجّ رهم عن طريق زرع
أعمال العنف التي ينفذها غير الموالين لها بفرشاة «اإلرهاب».
والمطارات وأماكن العبادة الدينية ،في الحافالت أو الطائرات،
عادة أن اإلرهاب يتمثل بأفعال التنظيمات الالحكومية ،وأن
القنابل في مباني المكاتب واألسواق والمقاهي ودُور السينما
أو في األماكن العامة األخرى المعرضة للخطر .كما يأخذهم رهينة ،من خالل اختطاف الطائرات وغيرها من الطرائق
األخرى .ومن ثم اكتسب مصطلح «اإلرهاب» معنى تحقيريًّا
ويفترض المتحدثون باسم الحكومة ووسائل اإلعالم الموالية الدولة ال يمكن أبدً ا أن تكون مذنبة أو تمارس اإلرهاب (على
الرغم من رعاية بعض الدول لتنظيمات إرهابية حين تقتضي المصلحة التعاون معها).
75
دراسات
تعريف اإلرهاب
حاولت األمم المتحدة اقتراح تعريف لـ«اإلرهاب» يكون مقبولاً لدى جميع الدول وجزءً ا ال يتجزأ من القانون الدولي،
وقد تم إحباط جميع هذه المحاوالت الختالف معنى أو تعريف اإلرهاب .ففي حين ترفض الدول اإلسالمية القبول بأي تعريف يصف حركات التحرر الوطني في الشرق األوسط وكشمير،
على سبيل المثال ،باإلرهابية ،نجد أن الدول الغربية ال تسمح
بتصوير أجهزة الدولة كمؤسسات إرهابية.
لقد تحول المعنى التقييمي لـ«اإلرهاب» إلى معنى وصفي،
فعلى مدى أكثر من قرنين من الزمان ،أشار االستخدام العادي
له إلى سمتين :العنف والترهيب أو التخويف .عادة ما يفهم
اإلرهاب على أنه نوع من العنف .لكن هذا العنف ليس أعمى أو ساديًّا ،بل يهدف بدلاً من ذلك إلى التهديد أو التخويف،
إضافة إلى تحقيق أهداف سياسية ،أو اجتماعية ،أو دينية ،أو على نطاق أوسع ،يهدف إلى اإلكراه .في أول دراسة فلسفية
باللغة اإلنجليزية ،أوضح أستاذ الفلسفة Per Bauhnمعنى اإلرهاب السياسي ،من وجهة نظره ،قائلاً « :هو أداء أعمال العنف ،الموجهة ضد شخص أو أكثر ،بقصد تخويف شخص
76
أو أكثر ،وبالتالي تحقيق هدف أو أكثر من األهداف السياسية ً تخطيطا متعمدً ا يستهدف غير للوكيل» .في حين يراه البعض المقاتلين( ،وممتلكات غير المقاتلين ،عندما تتعلق إلى حد
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
كبير بالحياة واألمن) ،مع ممارسة العنف القاتل أو الشديد… الذي من المفترض أن يؤدي إلى نتائج سياسية من خالل خلق
الخوف .في حين قدم أستاذ الفلسفة ،Igor Primoratz ً تعريفا آخر ،بقوله« :اإلرهاب هو االستخدام المتعمد للعنف، أو التهديد باستخدامه ضد األبرياء ،بهدف تخويف بعض األشخاص اآلخرين في سياق إجراءات معينة التي لوالها َلما
ارتكب أي عمل إجرامي». اًّ هذه التعريفات وضعت جانبًا كل من السؤال عن هوية الفاعل ومسألة ما هي األهداف النهائية أو الغائية من تنفيذ
العمل اإلرهابي ،وركزت فقط على ماهية الفعل والهدف المباشر منه .يمكن للمرء أن يكون إرهابيًّا ومناضلاً من أجل
آن واحد ،فاإلرهاب ليس حك ًرا على أعداء الحرية الحرية في ٍ أو المتمردين .يمكن للمرء ً أيضا أن يشغل منصبًا حكوميًّا رفيع المستوى أو يكون مسؤولاً عسكريًّا ،ويخطط أو يقوم
بتنفيذ عملية إرهابية.
اعتمد المؤرخون وعلماء االجتماع التعريف الشامل لإلرهاب ،بينما فضل الفالسفة تعريفً ا ضيقً ا يركز على الجانب األخالقي لإلرهاب
اإلرهاب في أفق النقاش الفلسفي
هل يمكن تبرير اإلرهاب أخالق ًّيا؟ ال توجد إجابة واحدة عن هذا السؤال؛ ألنه ال يوجد تصور واحد لماهية اإلرهاب .يمكن للمرء أن يبرر بعض أفعال
أو حمالت العنف بطريقتين :قد يجادل بأن الضحايا من غير المقاتلين أي المواطنين العاديين ،ومن ثم ال ذنب لهم ومن الجرم محاربتهم.
أو يتنازل عن براءة الضحايا ويبرر الهجمات ضدهم ،إما من طريق نتائجها التي قد تؤدي إلى موازنة األوضاع لصالح
بالده ،أو من طريق بعض االعتبارات اإللزامية .في أعقاب هجمات 11أيلول 2001م ،قال أسامة بن الدن ،خالل لقاء
صحافي أجري معه في عام 2005م« :يجب أن يتذكر الشعب األميركي أنه يدفع ضرائب لحكومته ،وأنه صوت الختيار
رئيسه .كما أن حكومته تصنع أسلحة وترسلها لدولة االحتالل «إسرائيل»؛ من أجل قتل الفلسطينيين المسلمين. وبالنظر إلى أن الكونغرس األميركي هو لجنة تمثيل الشعب ،فإن الواقع يقول بأنه وافق على اإلجراءات التي اتخذتها الحكومة األميركية ،ومن ثم فإن أميركا بأسرها مسؤولة عن الفظائع التي ترتكب ضد المسلمين»ً . وفقا لمنطق أسامة، فإن الشعب األميركي ساهم في ارتكاب جرائم ضد المسلمين ،وبالتالي يستحق القتل! هذا فهم متعذر وغير معقول
للمسؤولية والتبعية؛ ألنه يدعي أن جميع األميركيين أهل للقتل أو التشويه؛ البعض بسبب وضع وتنفيذ سياسات
أميركا الخارجية ،والبعض اآلخر بسبب المشاركة في العملية السياسية ،أو دفع الضرائب .حتى إذا ما سلمنا -على سبيل الجدل -بإدانة ابن الدن ورؤيته المتزمتة لتلك السياسات ،فإننا ال نستطيع تبرير استخدام العنف القاتل ،والربط
بين مسؤولية الحكومة والشعب .يجب أن يكون هناك حصانة للمدنيين أو المواطنين العاديين؛ لمنع وقوع «كارثة
أخالقية» والحد من القتل والدمار في النزاعات المسلحة بين الدول. هل يجب أن نعتمد على تعريف شامل وواسع أو ضيق
لفهم اإلرهاب؟ يشمل التعريف الواسع تاريخ «اإلرهاب» من
حقبة اليعاقبة في فرنسا إلى وقتنا الحاضر ،وهو يتفق أكثر مع االستخدام العادي الحالي .وهناك تعريف ضيق يحيد
عن االستخدام العادي عن طريق تقييد العنف اإلرهابي بذلك الموجه إلى غير المقاتلين أو األشخاص األبرياء ،وبالتالي
فإنه يستبعد إرهاب «الدعاية الفعلية» في القرن التاسع عشر والعنف السياسي الذي مارسه الثوار الروس.
اإلرهاب ترتبط بأخالقيات الحرب وأحد المبادئ األساسية لنظرية الحرب العادلة ،التي تعنى بحصانة غير المقاتلين
ووجوب حمايتهم والدفاع عنهم.
قطع الصلة بين اإلرهاب والعنف
يسعى البعض إلى قطع الصلة بين اإلرهاب والعنف؛ لذا
يعرف الفيلسوف Carl Wellmanاإلرهاب بأنه «استخدام أو
محاولة استخدام اإلرهاب كوسيلة من وسائل اإلكراه» .وكثي ًرا ما يرتبط اإلرهاب بالعنف؛ ألن العنف يعد وسيلة فعالة جدًّ ا
لذا اعتمد المؤرخون وعلماء االجتماع التعريف الشامل ً ً ضيقا يركز على الجانب تعريفا لإلرهاب ،بينما فضل الفالسفة
للتخويف ،ومن ثم فإن «العنف ليس من الضروري أن يهدف
عالم من االختالف بالنسبة للبعض ،بين زرع قنبلة في مبنى
غير عنيفة» .قد يكون هناك العديد من األفعال التي تعد
األخالقي لإلرهاب .من الناحية األخالقية ،بالتأكيد هناك حكومي لقتل عدد من المسؤولين الذين ينتمون إلى حكومة
ظالمة وقمعية ،وزرع قنبلة في مقهى لقتل مجموعة عشوائية من المواطنين العاديين ،بمن فيهم األطفال .يثير كال الفعلين
قضايا أخالقية خطيرة ،وهذه القضايا ليست متطابقة ،لكنهما
يندرجان معً ا تحت نفس العنوان «اإلرهاب».
إلى الترهيب .في الواقع ،معظم األعمال اإلرهابية هي أعمال
عمومً ا إرهابية ،وال تنطوي على العنف الفعلي ،لكن هذا ال
يكفي لدعم مفهوم «اإلرهاب غير العنيف» ،الذي يبدو غريبًا، على سبيل المثال« ،إرهاب الفصول الدراسية» :حين يهدد أستاذ طالبه بالرسوب وعدم تجاوز االختبارات في حال عدم إنجاز البحوث أو الواجبات في الموعد المحدد؛ مما يسبب
تركز التعريفات المحددة على سمات اإلرهاب التي تسبب
الذعر في الصف ،وبالتالي نشر السلوك اإلرهابي .يقدم لنا
المقاتلين (أو ،بدلاً من ذلك ،ضد األبرياء)ً . ثالثا :التخويف أو
اإلرهاب هو «تكتيك سياسي ،ينطوي على تخويف متعمّ د
لمعظمنا االشمئزاز األخالقي العميق حين رؤية مشاهد تعرض الناس لإلرهاب ،على سبيل المثال :أولاً :العنف .ثانيًا :ضد غير اإلكراه .عند تسليط الضوء على السمة رقم ( ،)2فإن مسألة
أستاذ الفلسفة السياسية واالجتماعية Robert E. Goodin ً أيضا رواية مماثلة ،مؤكدً ا الدور السياسي لإلرهاب ،قائلاً : للناس؛ لتحقيق مكاسب سياسية».
77
نصوص
أشجان لو زين العابدين الضبيبي شاعر يمني
الحب لو كتبنا عن ِّ منْ خوف دون ٍ ِ
بشعريةٍ وعزفنا نشيدَ السالم ِ الحب سينتص ُر ُّ
القاتالن... لنْ يلتقي ِ ُ الطريق قصائدُ نا ستشغلهمْ يف ِ
* * *
* * *
ْ الصخور العيونُ النبجست يف ِ ّ ُ ورف ْ رموش السواقي ت
الدروب وتتوِّهُ همْ يف ِ مرايا املجاز.
78
إىل أنْ يُرى مطلعُ الشمس ِ الكلمات من جهةِ ِ ُ بالصمت يف خدر ِه الليل وينتح َر ِ َ واألرض السماوات ويعمَّ ِ
بصدق يُعري لو كتبنا ٍ ُّ َ أضلوا الطريقَ الحداة الذينَ ُ ً َ منصوبة مشانق الحروف ستغدو ضمري الوجو ِد يف ِ ُ تالحقهم يف األزقةِ
الفراش ويف ِّ َ حي فوق كل ٍّ ِ يموتونَ من بطشها يف الحيا ِة
وبعدَ املمات ِ وتحرجُ هم َ ُ قبل أنْ يسقطوا يف الجحيمْ .
* * *
لو كتبنا عن األدعياءِ ومن يكتبونَ كالمً ا
يتوِّه سكانَ هذا الفضاءِ للشارع العامِّ ستخرجُ ِ ُّ عاريات كل قصائدِ نا ٍ
ُت ُ الرتاب عىل وهمِ هم هيل َ َ لتلدغهم قبل أن تتمادى
االنتظار أفاعي الضج ْر. يف مدى ِ
* * *
لو كتبنا عن الضوءِ ُ ْ الظالم ناطحات النحطمت ِ امللكوت عىل صخر ِة ِ
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
زه ُو البهاء.
لو كتبنا عن املاءِ
بـغنج ي ُ ُميل شجونَ الخرير ِ ٍ ُ وأخرجت األرض أشواقها
واشرأب ْ الجبال ّت بوجدِ ِ ً فواحة بالوعو ِد البنفسج زهو ُر ِ َ َّ وقبَّلت الغيمُ كف الشج ْر.
* * *
البحر يومً ا لو كتبنا عن ِ لاً ً أىت عاشقا حام للطبيعةِ
ما يف خزائِنه ِّ التأمل ليدافعَ عن حقه يف ِ عن ِّ الحنني أمواجه يف حق ِ ِ وغادرَه امللحُ مبتسمً ا َّ َ بالثالث أوجاعه ولطل َق ِ وأصبحَ يف حانةِ األبديةِ ً قارورة من نبيذ. * * *
لو كتبنا لهاجرت العنيُ َّ عش األىس ِّ وأتاها ليعتذ َر الدمعُ عن كل تاريخه وعفا الكونُ عن حز ِنه
واستجار بصدر حبيبته
صقيع شتاءاته من ِ
واسرتاح املحبُّون عن ِّ للنجوم عدهم ِ
رسم صور ِة أحبابِهم وهبّوا إىل ِ باملوارب من سكر الضحكات ِ
جنبات الوجوه. عىل ِ * * *
لو كتبنا سنميض بكم
القواميس خيال للخفي الذي لم ي َِر ْد يف ِ ِّ ِ َ ْ النواميس أو حملته صدو ُر ِ حتى َ نريق عىل ما طواه غبا ُر الخرافةِ عطش يف مدائن لهف ِتكم من ٍ َ ألف كأس مقدسةٍ ٍ
من خبايا الوجود.
* * * ْ لو كتبنا سنلقي بصخر ِة «سيزيف» الغيب يك يسرتيحَ قليل كاهل عن ِ ِ ويك تشربوا من جرار الحقيقةِ ِ
ما تشتهونَ وتشبعَ أرواحُ كم ثمار اليقني. من ِ
* * *
لو كتبنا نجونا بنا وبكم أيها الطيبونَ
عميق الرؤى ولكننا عالقون بوا ٍد ِ متعبونَ ومتهمونَ بإيقاعكم ِ يف شباك الغوايةِ ِ يف يدِ نا وشمُ ٍّ قديم نص ٍ
ومن خلفنا
ُ لعنات الذينَ يقولونَ يف س ِّرهم
لو فعلنا كذا وكذا
لو فعلنا وال يفعلون.
79
مقال
النقد الثقافي وتحليل الثقافة المفكر البريطاني ريموند وليامز أحد المؤسسين للدراسات الثقافية البريطانية هو واآلخر ريتشارد هوغارت يحددان -في إطار
مدونة هذه الدراسات -مفهوم الثقافة في ثالثة مستويات (راجع كتاب «غبش المرايا» إعداد وترجمة خالدة حامد،منشورات
المتوسط 2016م)؛ إذ ال يمكن للباحث أن يغفل عن هذا التحديد إذا ما أراد أن يمتلك أدنى معرفة بالتأثيرات الثقافية على مجمل الحياة االجتماعية للبشر.
أولى المستويات ما يسميها الثقافة المعيشة ،وهي المرتبطة بفئة من الناس الذين يعيشون في زمان ومكان محددين؛ إذ
يصعب استرجاع حياة تلك الثقافة المعيشة عند هؤالء الناس بكامل تفاصيلها اليومية .أما ثانيها فيطلق عليه الثقافة المدونة،
وتعني كل تلك اآلثار المدونة في كتب متنوعة االختصاصات ،أو معالم روحية ،أو فنية ،أو طقوسية يومية،أي بما يشكل في
مجمله ثقافة عصر من العصور ،آخرها ما يسميه ثقافة التراث االنتقائي ،وهو يعني القناة التي تصبح صلة الوصل بين ماضي الناس وحاضرهم،وهو بالضرورة انتقائي.
استحالة اإلمساك باللحظة المعيشة
ويشرح ريموند وليامز عمل هذه المستويات ،ومدى ارتباطها على مستوى التأثير وشكل العالقات .باختصار تمتنع الثقافة
المعيشة أن تكون مكشوفة وقابلة للدراسة في العصور الالحقة؛ لكون اإلمساك باللحظة المعيشة لكل فرد ،ومن ثم توثيق
80
أقوالها وأفعالها في مجرى الحياة اليومية هو من رابع المستحيالت،حتى لو فكرنا في أننا اآلن في عصر تقني سمعي بصري، نوعا من االنتقاء ً يستطيع توثيق كل لحظة في حياتنا .ما البديل إذن؟ الثقافة المدونة هي البديل هنا،وتكون ً أيضا ،لكنه انتقاء ال يخضع بالضرورة لسلطة مهيمنة ،كما يفترض المستوى الثالث من التحديد،بل المدونات الثقافية للمجتمعات والشعوب ترتبط بجملة من األسباب في شأن عالقتها بالمجتمع،فهي أولاً تمثل المنجز «الرفيع» لثقافة المجتمع؛ من فكر ،وفن ،ولغة،
وأدب ،وهي ثانيًا تمثل الفلكلور الشعبي القصصي المتوارث عبر مخيلة شعبية طقوسية ،تنهض عليها شخصية الفرد داخل المجتمع،وهي ً ثالثا تمثل له إحدى القيم الكبرى التي يتصور من خاللها نفسه وعالقته باآلخرين والعالم.
كل هذه األسباب من طبيعة اجتماعية تاريخية اقتصادية ال ترتبط بأسباب هيمنة القوة والسلطة على الثقافة –وإن كان
هناك احتماالت ضعيفة حسب إمكانية القوة– بقدر ارتباطها بالمجتمع نفسه في عالقته الطبيعية بثقافته أي ما اصطلح
عليه «الطبيعة والثقافة» من دون األثر الذي تتركه السلطة على هذه العالقة .صحيح أن هذا المنظور للثقافة ال ينفي هذا األثر كليًّا .لكنه يضع في الحسبان ً أيضا هامش الحرية التي تتركه الحياة (وأقصد الحياة هنا كل ما تحمله الكلمة من داللة
تتعلق بالظروف االجتماعية واالقتصادية والسياسية والفكرية التي ال تستطيع القوى المهيمنة القبض عليها وتغيير مساراتها ً ً وضيقا. سعة لمصلحتها)،وبالتالي وفرة المنجز الثقافي والمعرفي للشعوب والمجتمعات ترتبط بهذا الهامش المالحظ هنا إذا كانت كل حقبة من العصور تشكل ثالثة أجيال على األقل ،وكانت هناك في نفس الوقت الوفرة في المنجز
الثقافي ،فهل يمكن متابعة كل ما أنجزه الجيل األول بالنسبة للجيل الثاني؟ يشكك ريموند وليامز في مثل هذه المتابعة،
ويستعرض عدة أمثلة ،لكني سأكتفي بمثالين من عندي؛ األول معاصر ،والثاني من التاريخ .هل يمكن لنا أن نتصور أن كل ما ً ً قصصا أو مسرحً ا في العقد األول من القرن العشرين في العالم العربي قد تم قراءته ،ناهيك عن إبداعا شع ًرا أو تم إنجازه لاً ً تدوينه أو من طرف المعاصرين لهم،والحقا من الذين عاشوا بعدهم في العقود الالحقة؟ هذا ما ال يمكن التأكيد عليه؛ حيث
االنتقاء والتلخيص يصبحان ضرورة في فهم السمات العامة لإلبداع في تلك الحقبة،وعلى هذا يمكن قياس بقية المنجزات في ثقافة المجتمع.
لذلك نرى ريموند وليامز يعالج هذه الثغرة باستخدام مصطلح البنية الشعورية ،ورغم النقد الذي طال المصطلح من
أطراف عدة؛ أهمهم بالطبع المفكر تيري إيغلتون،الذي يرى الفكرة تجمع بين «لفظتين متناقضين حيث تنطوي على ما يفيد بأن
آن»( .موقع صوت اآلخر،قراءة في كتاب :فكرة الثقافة للمفكر تيري إيغلتون،قراءة سعدون الثقافة محددة وغير ملموسة في ٍ العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
هيل) ،إال أن أهمية الفكرة تكمن من وجهة نظري في هذا التناقض تحديدً ا .فإذا كانت الثقافة من بعض وجوهها عند وليامز هي طريقة
حياة بأكملها فهي إذن نظام مترابط من العوامل ذات المرجعيات المختلفة؛ منها ما هو شعوري نفسي،وما هو عالمات جسدية،وما هو لساني لغوي،وما هو تربوي سلوكي،وبناء عليه ينتج عن مثل هذا
الترابط شعور ال وعي يؤثر في االتصال االجتماعي والقيم والتصورات، ويكتسب الفرد من خاللها االستعداد التام لالنتماء.
المشكلة هنا كيف يمكن القياس؟ عن طريق التجربة المعيشة-
كما يؤكد وليامز -التي نعيشها اآلن،ودائمً ا ما يكون ثمة توافقات في الحياة البشرية بين سيرة حياة حقبة سابقة ،وبين حياة حقبة
الحقة عليها.
أما المثال اآلخر فيتعلق بالموسوعي ،وكاتب السيرة ابن النديم
الذي بدأ تأليف كتابه «الفهرست» سنة 377هـ؛ حيث حاول فيه أن
يرصد ويتابع كل ما كتب في عصره من جميع أصناف العلوم؛ إذ
محمد الحرز
أحصى أكثر من عشرة آالف كتاب ومؤلف ،لكن أغلب هذه الكتب ال
ناقد سعودي
أثر له،وبعض المؤلفين ال ذكر له حتى عند بعض معاصريه كمحمد الخوارزمي مثلاً في كتابه « مفتاح العلوم». فك االرتباط بين الهيمنة والثقافة
81
حين نصل إلى المستوى الثالث للثقافة يكون االنتقاء للتراث
ضرورة أكثر ما تتطلبها السلطة المهيمنة على المؤسسات الثقافية
ومجمل القوى داخل المجتمع ،بما يخدم وجهة نظرها حول التراث نفسه ،بحيث يتم توجيهه حسب قيم السلطة ومصالحها .عند هذه
النقطة يمكن اإلشارة إلى أن نظرية النقد الثقافي كان الهدف من اشتغاالت نقادها هو فك االرتباط بين الهيمنة من جهة والثقافة من
جهة أخرى اعتمادًا على رؤية ثقافة المجتمع من خارج دوائر السيطرة
األكاديمية والتعليمية والتقاليد المنهجية المتبعة .وكون أغلب نقادها جاؤوا من اليسار الجديد للماركسية ،فإن الفاعلية النقدية كما يرى أبرز نقادها البريطاني ستيوارت هيل هي أن تكون على قدر من
االرتباط الوثيق بحياة الناس وقضاياهم التي تؤثر في مصيرهم،بحيث ال تكون هذه الفاعلية في الدوائر النظرية فقط،وإال مارست النظرية النقدية ما حاولت أن تحاربه وتخرج عليه،هي سيرورة من النقد ال
يجب أن تنغلق على نفسها،نقد يتحرك حسب ما تترسخ مظاهر الهيمنة والتهميش للناس الذين ال صوت لهم وال تمثيل.
خالصة ما نريد أن نقوله في هذه المقالة هو أن أغلب الذين
اشتغلوا من المفكرين العرب على منجزات النظرية النقدية،وحاولوا ً انطالقا منها غيّبوا تمامً ا مفهوم جدلية أن يحللوا ثقافة مجتمعاتهم الهيمنة والسلطة والثقافة،بل أحال بعضهم مفهوم السلطة على النسق فقط،وهذه إحدى «الهروبات» المعرفية للمثقف العربي من
مواجهة استحقاقاته ضد السلطة.
أغلب الذين اشتغلوا من المفكرين العرب على منجزات النظرية النقدية، وحاولوا أن يحللوا ثقافة مجتمعاتهم انطالقً ا منها تماما مفهوم غ ّيبوا ً جدلية الهيمنة والسلطة والثقافة ،بل أحال بعضهم مفهوم السلطة على النسق فقط ،وهذه إحدى «الهروبات» المعرفية للمثقف العربي من مواجهة استحقاقاته ضد السلطة
حوار
82
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
قال :إن التونسيين لم يقرؤوا له وإن ثالثيته حول السيرة المحمدية تفوقت على االستشراق
هشام جعيط: الفكر يلزمه فترات من الدعة والعالم اليوم في تغير واضطراب حاورته في تونس حياة السايب
يعد الدكتور هشام جعيط من بين المفكرين والمؤرخين المعاصرين األوائل في تونس والوطن العربي ،الذين اهتموا بتاريخ اإلسالم المبكر والكالسيكي ،وبقضايا الحداثة والهوية التي تفرض نفسها على الفكر العربي الحديث والمعاصر .ألف جعيط مجموعة مهمة من الكتب حول نشأة اإلسالم ،والمدينة في اإلسالم ،والصراعات التي عاشها المسلمون بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم .وبرز المؤرخ والمفكر ً خصوصا بكتابته التاريخية الدقيقة العلمية والنقدية التي اعتمد فيها هشام جعيط على مناهج العلوم اإلنسانية وال سيما علم التاريخ؛ ما مكنه من التفوق على غالبية المستشرقين ،كما يقول هو نفسه ،وعلى قراءاتهم السردية لتاريخ اإلسالم ،فهو صحح الصورة التي نشروها حوله. القت كتابات هشام جعيط التاريخية والفكرية في السبعينيات والثمانينيات من ً ً تحديدا كتبه اهتماما كبيرًا في فرنسا وفي تونس وفي المشرق العربي، القرن الماضي اآلتية« :الشخصية اإلسالمية والمصير العربي» ،و«أزمة الثقافة اإلسالمية» ،و«أوروبا واإلسالم» .ومن آخر مؤلفاته ثالثيته حول السيرة النبوية التي اهتم فيها بالوحي والنبوة والدعوة إلى اإلسالم في مكة ،والهجرة إلى المدينة ،وانتصار اإلسالم.
83
حوار
درس هشام جعيط مادة التاريخ في الجامعة التونسية،
وتوّج مسيرته العلمية بترؤسه للمجمع التونسي للعلوم واآلداب والفنون «بيت الحكمة» مدة أربعة أعوام.
دراسات معمقة ونقد وإبراز لعناصر قد تكون انفلتت عن الكاتب ،ورجوت أن تنشر هذه المحاضرات الجيدة؛ ألنها
في بيته في ضاحية المرسى (المدينة الساحلية الهادئة
متعمقة جدًّ ا ،وألنها كذلك من إنتاج تونسيين ،فقد كتب عني
العاصمة) يعتكف المؤرخ والمفكر ،ويعيش وحدة اختيارية
المغاربة ،وأدين لهم كثي ًرا في التعريف بجهودي البحثية وبكتبي ومقاالتي ،لكن في تونس لم ُتقرأ كتبي ،وإن ُقرئت
والجميلة ،وتعد من الضواحي الشمالية المعروفة لتونس بعد انتهاء مهامه على رأس بيت الحكمة ،وبعد رحيل زوجته ورفيقة دربه ،وهي وحدة تقطعها من حين إلى آخر زيارات
بعض األصدقاء والمريدين وأفراد العائلة ،وبخاصة ممن يستجيبون لرغبة المفكر في إعفائه من الحديث عن تفاصيل
الحياة السياسية في البالد التي يصر أنها تزعجه أكثر مما تثير
انتباهه.
في هذا البيت وتحديدً ا في مكتبه الذي تعبق فيه رائحة
الكتب المنتشرة في كل زاوية من زواياه ،التقت «الفيصل» الدكتور هشام جعيط ،فكان هذا الحوار.
ـــــ
احتفلت مؤخرًا في تونس ومعك عدد مهم من
تالمذتك والمهتمين بتجربتك ،بعيد ميالدك الثمانين
ً عاما كرستها في البحوث وبمرور ما يزيد عن خمسين
84
استمعت في هذا الملتقى الذي خصص لتكريمي إلى
والكتابة في التاريخ وفي مجاالت معرفية وفكرية عدة .وكان االحتفال في ملتقى مهم نظم بمبادرة من مركز الدراسات
واألبحاث حول السياسات العربية بتونس ،وتداول باحثون
ومختصون في علم التاريخ واألديان وكذلك فالسفة على تقديم قراءات عملية ونقدية لمجمل آثارك التاريخية والفكرية ،والحظنا أنك أعربت عن رغبتك في نشر هذه ّ تعد األبحاث وتمنيت أن يبادر المنظمون إلى نشرها .هل
فكر هشام جعيط بعد المؤلفات العديدة والتحاليل والنقد والحفريات في أعمالك لم يصل بالقدر الكافي إلى الجمهور
في تونس وربما حتى خارج تونس؟
إلى اآلن الفرنسيون كثي ًرا ،وكتب عني باحثون عرب ،وبخاصة
فإنها لم تفهم...
ـــــ
لماذا تص ّر على أنه لم ُيقرأ لك في تونس وأن
التونسيين إن قرؤوا لك فإنهم لم يفهموك ،مع أننا الحظنا في الملتقى التكريمي عد ًدا من الباحثين أظهروا دراية ً وإلماما كبيرين بتجربتك الواسعة؟
في الفترة الثانية بعد الشباب وبعد أن كتبت كتبًا فكرية،
كتبت كتبًا تاريخية علمية كانت تالقي دائمً ا االهتمام في
فرنسا .والحقيقة لم يدرسوا كتبي ولم يحللوا األفكار الواردة بها في فرنسا فحسب ،وإنما لقيت اهتمامً ا في لبنان وفي بلدان الشرق عمومً ا .فهي تترجم دائمً ا للعربية إن كتبت بالفرنسية ،وتترجم للفرنسية إن كتبت بالعربية.
أما فيما يتعلق باالهتمام في تونس بما كتبت فإني أعتقد
أن الصدى الذي حظيت به بعض الكتب إنما هو ناتج عن
التأثير الفرنسي ،وبما أننا بعد االستقالل بقينا مستعمرين ذهنيًّا ،فنحن نهتم بطريقة آلية بما يكتب في فرنسا ،وبما أن كتبي األولى قد القت صدى في فرنسا واهتمت بها الصحافة
الفرنسية ،فإنها لقيت صدى في تونس كذلك .ورأيي أنها لم ُتقرأ ًّ حقا ،ولم يكن لها صدى حقيقيًّا ،بمعنى لم يقع تحليل
هذه األفكار ،ولم تقع االستفادة منها.
وإذ لم يحصل اهتمام في تونس بالكتب الثالثة التي نشرتها
حول السيرة المحمدية ،أو حتى بالنصوص التي نشرتها من قبل ،فألن الذي كان طاغيًا بعد تأسيس الجامعة التونسية
هو المسار الجامعي الوظيفي ،حتى المختصون في التاريخ الروماني ،فإنهم يركزون على ما يقع في حدود إفريقية أي في تونس .وكل الباحثين التونسيين كانوا مهتمين بالدولة الوطنية حديثة النشأة تحت التأثير البورقيبي ،وفي الواقع عندما دخلت الجامعة التي عدت إليها عام 1976م لم يكن يوجد أي مؤرخ أو أي فيلسوف يهتم بالتاريخ اإلسالمي العام أو بالفلسفة اإلسالمية.
وشخصيًّا لم أر مفكرين إال لما انتقلت
إلى المشرق .وحتى في الملتقيات التي
دُعيت إليها وشاركت فيها في بلدان المشرق العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
هشام جعيط :الفكر يلزمه فترات من الدعة
قلما كان هناك من المشاركين مفكرون من بين التونسيين. لكن ال بد من اإلشارة إلى أن هناك مفكرين جيدين تأثرت بهم
من المغرب اإلسالمي ،وأذكر بالخصوص عبدالله العروي
ومحمد أركون..
أما فيما يتعلق بتالميذي فإني أؤكد أني كنت األول الذي
كون تالميذ ،وكتب كتبًا في تاريخ اإلسالم .وطبيعي أن يتكون
جيل جديد في تونس من الباحثين في مادة التاريخ اإلسالمي علي ،وهم اليوم يكتبون ويحللون وينقدون وهذا ممن تتلمذوا ّ جيد جدًّ ا...
ـــــ
عبدالله العروي
محمد أركون
هذا القبيل ،فألفت كتابين في هذا المجال وهما« :الشخصية
َ ًّ مهتما بالفلسفة في البداية ،لكنك اخترت في كنت
العربية اإلسالمية والمصير العربي» و«أوروبا واإلسالم» ثم
فكيف حدثت هذه السيرورة؟ فعلاً كنت ميالاً في شبابي لدراسة الفلسفة .لكن شاءت
رجعت بالطبع إلى التدريس في الجامعة .بطبيعة الحال
النهاية التاريخ .وتخصصت في التاريخ اإلسالمي القديم،
الظروف فيما بعد أن اهتممت كثي ًرا بالعلوم اإلنسانية ،ومن
العلوم اإلنسانية اتجهت إلى التاريخ ،وبعد فترة طويلة من
دراساتي وأبحاثي التاريخية رجع لي اهتمامي بالفلسفة، لكن بصفة خاصة فأنا مغرم بقراءة الكتابات الفلسفية. ّ أتخل عن رغبتي في ورغم تخصصي في علم التاريخ فإنني لم
المطالعة في عدة مجاالت ،فقرأت كثي ًرا عن اإلثنولوجيا وعن
علم التحليل النفسي ،وكانت لي مطالعات أخرى في تاريخ األديان مثلاً ،واستفدت من فترة التدريس بالجامعة الزيتونية في تنمية مطالعاتي بحكم أنه كان لي ما يكفي من الوقت
إلشباع نهمي من المطالعة.
غير أنني أشير إلى أنني وفي أول ما كتبت لم أكتب كتبًا
تاريخية وإنما كتبًا فكرية فيها عنصر فلسفي ،وقبل أن أكتب ُ كتبت في موضوعات أطروحتي التاريخية الدقيقة العلمية،
تهمّ حال العالم العربي واإلسالمي ،وفلسفة الدين ،وأمور من
كثيرا ،وكتب عني كتب عني الفرنسيون ً باحثون عرب ،وبخاصة المغاربة ،وأدين كثيرا في التعريف بجهودي لهم ً البحثية ،لكن في تونس لم تُقرأ كتبي، وإن ُقرئت فإنها لم تفهم اإليمان بالهوية ورسوخها في التاريخ العميق ال يمكن أن يحصل بدون أن ندخل بجدية فيما أسميته بالتحديث والسيرورة العربية نحو المستقبل
هاجرت في فترة معينة إلى فرنسا وعندما رجعت إلى تونس
اختصاصي هو التاريخ ،والتاريخ اإلسالمي بالخصوص ،وألفت
ما ال يقل عن ستة كتب عن التاريخ اإلسالمي األوّلي وهي كتابة ّ المسلمات الدينية، دقيقة وعلمية ،راجعت فيها العديد من ّ وسلطت فيها نظرة نقدية على العديد من المصادر التي اهتمت بتاريخ اإلسالم.
البدايات واألفكار الكبرى
ـــــ
شغلت الدكتور هشام جعيط في البداية األفكار
الكبرى التي كانت منتشرة في فترة التحوالت التي شهدتها المجتمعات العربية واإلسالمية في أواسط القرن الماضي، وشدت القومية العربية اهتمامك قبل أن تحسم في
الموضوع فكيف كان ذلك؟
أردت االهتمام في البداية بفكرة القومية العربية التي
كانت سائدة لدى المثقفين العرب حتى في النظم السياسية،
وخرجت بفكرتين: أولاً أن القومية العربية كانت تبتعد -حتى نشأة الوطنيات وتأسيس األوطان -من وجهة نظر النخبة المثقفة أو السياسية، بقوة عن اإلسالم في حين كنت أعدّ الدين مترسّ ًخا في تلك الفترة لدى الشعوب ،وال يمكن تخيل نجاح مشروع وطني
بدون مساندة الشعب؛ لذلك اعتبرت أن العروبة واإلسالم ً خالفا للفكر الماركسي الذي كان طاغيًا لدى النخبة يندمجان العربية المثقفة ،ولكنني لم أكن ماركسيًّا...
ثانيًا اعتبرت باك ًرا أن اإليمان بالهوية ورسوخها في التاريخ
العميق ال يمكن أن يحصل بدون أن ندخل بجدية فيما أسميته
بالتحديث والسيرورة العربية نحو المستقبل .فأنا أومن بأهمية تحقيق التوازن بين الهوية الجماعية والدخول في التاريخ المعاصر .وقد حاولت أن أجد ًّ خطا فكريًّا في هذا المجال ،ثم تابعت في فرنسا الكتابة ،فأصدرت كتاب «أوروبا واإلسالم»
85
حوار
وقارنت فيه بين الحضارتين في الماضي باألساس ،ومكنني
أعتقد أن المستشرقين في الفترة التي كتبت فيها لم يكونوا
ًّ خاصا بالحضارة اإلسالمية ،وقدمت دراسات فأوليت اهتمامً ا
العربية أو الفارسية ،وليس لهم تكوين تاريخي نقدي حقيقي.
اهتمامي بالتاريخ من مواصلة أطروحتي وتوسيع أفق الكتابة. حول المدينة في اإلسالم ،فاهتممت بالخصوص بمدن الكوفة
وبغداد والبصرة ،مع العلم أن دراستي للمدينة في اإلسالم لم تكن من وجهة نظر ضيقة؛ ألنها تدخل في حضارة كبيرة، ودرستها تمامً ا مثلما يدرس اآلخرون مثلاً تاريخ اليونان ...إلخ.
ـــــ
أعلنت مرارًا أنك تفوقت على المستشرقين ،بل
أعلنت أن عهد االستشراق قد انتهى بعد صدور ثالثيتك
حول السيرة المحمدية؛ كيف ذلك؟
لم يعد هناك مستشرقون من ذوي األهمية في الغرب،
فأغلبهم قد مات ،ولم يأت جيل جديد ،وهؤالء كانوا
أساس الدين اإلسالمي ينزعجون من أن يدرس عربي مسلم َ والحضارة اإلسالمية ،ويهتم بتورخة اإلسالم.
متمكنين من علم التاريخ ،وكان مسارهم يقوم على تعلم كانت كتاباتهم سردية ،وتطغى عليها أحكام مسبقة ،واعتبارات
خارج الحقل العلمي ،وهي مسكونة بفرض تفوق الغرب على
الشرق اإلسالمي .وأنا كمب ّرز في التاريخ كان لي اطالع على
التاريخ ،وعلى المنهجية التاريخية ،وشخصيًّا انتقدت البعض
منهم ،ويمكن القول من خالل ثالثيتي حول السيرة المحمدية: إن االستشراق انتهى على يد أحد الشرقيين المسلمين.
ـــــ
هناك مفارقة عجيبة في عالقة المفكر هشام
جعيط بالساحة الثقافية الفرنسية والتونسية ،فقد وجدت ً واسعا في فرنسا ،ثم في تونس ،لكن كتاباتك األولى صدى ً ً متوقعا فإن ثالثية السيرة المحمدية وعلى خالفا لما كان
الرغم من اتباعك في كتابتها لمنهج عملي دقيق ونقدي،
وإصرارك على أنها من أفضل الكتب التاريخية التي اهتمت بالسيرة النبوية ،فإنها لم تحظ باالهتمام المتوقع في فرنسا بالذات؟
لم تجد الكتب األخيرة التي تخص حياة الرسول صلى
الله عليه وسلم (ثالثة أجزاء) صدى كبي ًرا على الرغم من أن
86
فيها -حسب اعتقادي -تجديدً ا كبي ًرا .فقد اعتمدت على عدد مهم من المصادر إضافة إلى سيرة ابن إسحاق؛ ألنه أول من
كتب في السيرة النبوية ،وقبله كانت األحاديث تنقل شفويًّا، وسلطت على كل المصادر نظرة نقدية ،والغاية من ذلك تقديم دراسة تكون قريبة من الحقيقة التاريخية .وقد اهتم كتاب «حياة محمد» بأجزائه الثالثة بأهم المحطات الحاسمة؛ من بينها الوحي والدعوة والحروب والتحالفات والتنظيم السياسي والحياة االجتماعية في المدينة ...إلخ.
أبي كان «زيتون ًّيا» وعمي أول ُمف ٍ ت للديار التونسية ينحدر الدكتور هشام جعيط من أسرة تونسية عريقة ،فوالده وجده من خريجي جامع الزيتونة ومن علماء الدين
ومن الفقهاء ،فهل ساهمت هذه النشأة األسرية في توسيع دائرة اهتمامه؛ لينشغل بالجو العربي العام ،ولم يقتصر على المسائل الوطنية الصرفة؟ يجيب الدكتور جعيط قائلاً :فعالً كان والدي زيتونيًّا لكن كانت له ثقافة حديثة ،وكان مغرمً ا في شبابه بما يجري في الشرق ،وكانت تصله عدة مجالت من مصر ومن لبنان ومن الشرق عمومً ا ،وكنت أطالعها معه، ونتناقش في العديد من الموضوعات التي تهم الشأن العربي واإلسالمي.
كان جدي كذلك من خريجي جامع الزيتونة وكان أديبًا ،ولكنه دخل في الوظيفة العمومية ،وقد شجعاني على
الدراسة بالمدرسة الصادقية( ،المدرسة التي أحدثت في نطاق اإلصالحات التي أدخلت على التعليم في تونس ،وتتميز المدرسة الصادقية بتقديمها علومً ا عصرية ،وقد تخرّج منها عدد كبير من أدباء البالد ومثقفيها).
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
هشام جعيط :الفكر يلزمه فترات من الدعة
وقد قمت بترجمته إلى اإلنجليزية؛ ألني أردت أن
يتعرف عليه المسلمون المثقفون والعلماء في آسيا والهند
والباكستان ،الذين ال يقرؤون بالفرنسية وال العربية بل يقرؤون باللغة اإلنجليزية .لم تجد هذه الثالثية صدى في
فرنسا؛ ألنني أعتقد أن المستشرقين المهتمين بالتاريخ
اإلسالمي القديم والكالسيكي ماتوا ولم يتجددوا .والمهتمون اليوم بالعالم اإلسالمي في أوربا وحتى في أميركا إنما يهتمون
بما هو معاصر من حركات إسالمية ،ويركزون على اإلسالم السياسي ،وليس على اإلسالم الحضاري والديني.
ـــــ
لكن الكتب التي تهتم بشخصية الرسول الكريم
وبحياته وبالسيرة ما زالت تصدر بكثافة في أوربا ،وبخاصة
ًّ مهما؟ في فرنسا ،وتجد رواجً ا
إنها الكتب الشعبية المكتوبة للقراء الشعبيين ،أما
كتابي فهو مبني على التاريخ الدقيق العلمي والنقدي .من جهة أخرى ال بد من اإلقرار بأن العلوم اإلنسانية في فرنسا مثلاً سقطت اآلن؛ ألن كبار الباحثين االجتماعيين وكبار
المؤرخين وكبار األنثربولوجيين ذهبوا ولم يتجددوا ،وغلبت
على الساحة الثقافية الميديا .ال أنكر دور التلفزيون لكن الحوارات بما فيها التي شاركت فيها مع غيري حول النبي
الكريم والقرآن والمسيح ليست سيئة لكنها تبقى موجهة
لوسط واسع من المثقفين.
العلوم اإلنسانية في فرنسا سقطت؛ ألن كبار الباحثين االجتماعيين وكبار المؤرخين واألنثربولوجيين ذهبوا، وغلبت على الساحة الثقافية الميديا
ـــــ
إن دراسة تاريخ اإلسالم المبكر أو اإلسالم التأسيسي
هي في نظر نقادك إنما هي محاولة لفهم مغلقات الحاضر، وبحث عن حلول للمشاكل اآلنية .هل يمكن فعلاً أن نبحث
عن حلول لمشاكل الحاضر عبر دراسة الماضي؟
المشاكل اآلنية درستها بالخصوص في كتبي الفكرية
األولى أو كتابي األخير ،وكذلك في كتاب «أزمة الثقافة اإلسالمية» .فيما يخص التاريخ الدقيق أردت فيه محاكاة
المستشرقين القدامى وتحسين الرؤية لهذه الحضارة؛ ألني ال أعدهم قاموا بعمل جيد لترويج الصورة القريبة من الحقيقة
التاريخية والبعيدة من التأثيرات السياسية واأليديولوجية إال البعض.
لكن من ناحية ثانية فإن كتاباتي ال تتوقف عند الفكرية
والعلمية من الموضوعات ،ففي حقبة الثمانينيات دخلت
في الجو الثقافي العربي .كنت من التونسيين القلة الذين
يشاركون في الملتقيات التي تنتظم في الشرق أو في العاصمة ً أحيانا ،وهي تنتظم عادة بمبادرة المغربية الرباط وفي تونس من مراكز ووحدات البحث العربية .شاركت في ملتقيات حول
الواقع العربي ،وكنت أشارك مع النخبة العربية ،وكانت لي عالقات وطيدة مع المثقفين العرب الذين يهتمون بالواقع
األيديولوجي الثقافي السياسي .وكنت كثي ًرا ما أكتب في كتب
وفي مجالت عربية وفرنسية ،وحتى في أميركا ،حول هذا الواقع الحديث.
أعتقد أن العالم اإلسالمي كله في مخاض ،وهذا المخاض
في الحقيقة ابتدأ بعد الحرب العالمية الثانية عندما قامت تغييرات متعددة في النظم الحاكمة في الشرق وفي بالد
المغرب ،ونشأت حركات استقاللية ،وطرأت تغييرات، وكثرت التساؤالت حول المستقبل ،ثم وقعت تطورات وجاءت
الحركات العروبيّة ،ثم اإلسالمية ،ثم حصلت حروب متعددة
فت وكانت لي عالقة وطيدة بعدد من مشايخ البالد من آل جعيط على غرار عمي الشيخ عز الدين جعيط (كان أول مُ ٍ
للبالد التونسية بعد االستقالل) الذي تخرج من جامعة الزيتونة ،ودرّس بها سنوات طويلة .لكن آل جعيط فقدوا بعد
االستقالل مكانتهم االجتماعية المرموقة بعد التغييرات االجتماعية والسياسية التي شهدتها تونس.
فمن الناحية السوسيولوجية حدث تغيير كبير في المجتمع التونسي ،وصار كل شيء يدور حول الدولة الجديدة،
وقام الرئيس الحبيب بورقيبة بعد االستقالل بغلق جامعة الزيتونة ،وحصل أن ابتعدت عن العائلة .كان همّ أبي أن أدخل في النظام الجديد ،ولم أكن أوافقه على هذا؛ ألن لي مهجة البحث كما علمتني العائلة ذلك منذ الصغر .وبدا لي عندما
طلبت مني أسرتي ،التي انحدرت اجتماعيًّا ،ولم تعد لها نفس المكانة المرموقة في المجتمع التونسي الجديد ،أن أنصهر
علي .لكني آمنت بالبحث الفكري والعلمي ،وكانت مهجتي -كما في التجربة التونسية وليدة االستقالل وكأنها قد انقلبت ّ قلت -البحث والمعرفة ،واتبعت هذا السبيل طوال حياتي ،ولم أهتم بأمور السياسة .أما بالنسبة لتأثير العائلة فقد تواصل
حتى بلوغي سن الـ ،25ثم سافرت إلى فرنسا ،واتبعت طريقي الخاص.
87
حوار
في الشرق ،من بينها حرب لبنان التي دامت 15سنة ،واندلعت حروب أخرى في أفغانستان مثلاً ،وجاءت الثورة اإلسالمية
اإليرانية ،واهتممت بهذه المشاكل .وأعتقد أننا ال نعيش ً مخاضا فحسب في المنطقة ،وإنما أحدث كل هذا زلزالاً . وكما عرفت أوربا فيما بين عامي 1914و1945م حربين
عالميتين مدمرتين ،انتقل العنف إلى الشرق األوسط وإلى
المغرب ،ولكن الشرق األوسط ليس العربي فقط ،فإيران اإلسالمية تتدخل في الشؤون العربية ،وأفغانستان في حالة اضطراب منذ أكثر من ثالثين عامً ا ،وأتت أمور جديدة لم تكن
في الحسبان على غرار الصراع بين الشيعة والسنة ،وهو صراع دام في كثير من األحيان .سننتظر ماذا سينتج عن هذا الزلزال؛ ٍ
ألنه سيأتي يوم وتتوقف الحروب كما توقفت من قبل في أوربا وغيرها ،وسنرى ما يمكن أن ينتج من كل هذه االضطرابات... حروب المسلمين ضد الغرب
ـــــ
ترفض كل المقوالت التي تعد التنظيمات العنيفة
والمسلحة الناشطة في المنطقة العربية واإلسالمية اليوم،
هي حركات دخيلة وصنيعة فاعلين غرباء على المنطقة؛ ماذا تستند في تأكيدك ذلك؟
88
أعتقد أن الصراع في المنطقة العربية واإلسالمية اليوم
هو صراع سياسي وصراع حضاري يلتحف بغطاء الدين ،وهو
صراع حضاري بمعنى أن العالم اإلسالمي يريد التخلص من
اإلصالحية فيما يخص اإلسالم وموضوع اإلسالم وعالقته
بالحداثة ابتدأت منذ القرن التاسع عشر ،وكانت الحركات ً أحيانا ،مثلما نجد ذلك عند اإلخوان فكرية وسياسية المسلمين ،ولكنها لم تكن حركات عنفيّة ،وإنما حركات
هيمنة الغرب. صحيح أن الحروب هي فيما بين المسلمين ،ولكنها أيضاً
كأن العرب والمسلمين عدوا تأخرهم ال يمكن أن يُحَ ل
في شؤون العرب والمسلمين ،سواء دبلوماسيًّا أو اقتصاديًّا
أخرى ،لكن األمور تطورت أكثر فأكثر ،فلم تعد المسألة
حروب ضد الغرب ،والواقع أن الغرب إلى اآلن تدخل كثي ًرا أو حتى عسكريًّا .وكأن العالم اإلسالمي يريد التخلص من
هذه الهيمنة -وفي بعض األحيان ومثلما يمارسه تنظيم الدولة المعروف بـ«داعش» -بعنف كبير؛ ألن الحركات
أيديولوجية مرتكزة على اإلسالم.
إال من طريق العودة إلى اإلسالم ،وليس من طريق تغييرات أيديولوجية وإنما أصبحت مسألة حربية .دخلت كذلك مشكلة
الديمقراطية على غرار ما حدث في تونس وانتشر بسرعة فائقة في كل العالم العربي تقريبًا ،والتقى بأرضية إسالمية أخرى،
فارتبكت األمور وازدادت تعقيدً ا.
غير أنه ال بد من التسليم بأن العالم أصبح موحدً ا،
وكل ما يجري في نقطة محددة له صدى في العالم أجمع، وهذا ما يسمونه بالعولمة ،وهي ليست فقط عولمة مالية وتكنولوجية ،وإنما عولمة باأليديولوجيات وبسريان األخبار بسرعة فائقة ،ثم إن العالم كله اليوم في تغيّر وفي اضطراب.
ـــــ
أال ترى أن أميركا الالتينية التي عرفت مثلنا
دكتاتوريات وأزاحت هذه الدكتاتوريات هي مضطربة اآلن،
فالبرازيل التي كان يعول عليها في أن تكون قوة صاعدة، هي في حالة اضطراب ،وكأن الديمقراطية التي تأسست في
هذا البلد بعد الدكتاتورية لم تترسخ؟ العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
هشام جعيط :الفكر يلزمه فترات من الدعة
إن أميركا الالتينية تشبه العالم اإلسالمي ،فعندما نرى حالة المكسيك التي دخلت شي ًئا ما في الديمقراطية ،إال أنها اليوم في اضطراب كبير ،وفينزويال كذلك في اضطراب .نزداد اعتقادًا بأن العالم كله يتحرك ،وأن شي ًئا ما بصدد إعادة
أو هي في تفكك .وهناك عدد كبير من الغربيين أنفسهم اتجهوا نحو الجهاد.
أما بالنسبة للشباب المسلم فنجد المشكلة نفسها ،أي
غياب الهدف الروحي مع زيادة أنهم في بلدانهم لديهم مشاكل
ّ المؤشرات على التشكل في المجتمع اإلنساني .ومن بين
اقتصادية ومشاكل تشغيل ،وفي البلدان الغربية حيث يوجد
إمبريالية منذ تغلبهم في الحرب العالمية الثانية وسقوط
صباح مساء وليس لهم موقع في هذا المجتمع ،والغريب أن
هذا الحراك الذي يشهده العالم أن األميركيين الذين ازدادوا االتحاد السوفييتي يواجهون اليوم مجددًا منافسة روسية، ولحسن الحظ اآلن أن روسيا الحالية استرجعت بعض قواها
على النطاق العالمي الجيوسياسي .فقد عاش العالم فترة كانت فيها السيطرة األميركية قوية جدًّ ا ،وكانوا وحدهم
تقريبًا في الساحة العالمية؛ ألن الصين كانت مهتمة بالتنمية االقتصادية ،ولم تظهر اهتمامً ا بالسياسة الخارجية .ولكن أين
نحن إزاء هذا المشهد العالمي الذي يتأكد يوميًّا أن ال دور لنا فيه أمام الالعبين األجانب من روس وأميركان وغيرهما.
ً هدفا في الحياة العالم الحديث ال يعطي الشباب
ـــــ
أال تعتقد أن هذا التدخل األجنبي يزيد في دفع
الشباب العربي والمسلم نحو حلول طوباوية على غرار
االنضمام لتنظيمات عنيفة وإرهابية مثل تنظيم «داعش» مثلاً ؟ لكن الشباب الذي انضم إلى «داعش» ليس فقط
من المسلمين ،وإن كان في أغلبيته يتكون من العرب
والمسلمين ،فهناك أوربيون من أصل أوربي دخلوا في المعمعة مع داعش .هذا يعني أن العالم الحديث ال يعطي ً هدفا في الحياة. الشباب مثالي يبحث هناك فراغ بالنسبة للشباب ،والشباب دائمً ا ّ
عن مَ ثل أعلى ،لكن هذا النمط المجتمعي ال يوفر المُ ثل العليا ،والشباب في البلدان الغربية يعيشون في مجتمعات
استهالكية ليس لديها أي هدف روحي ،وتفككت العائلة هناك
اندفاع الشباب المسلم إلى «داعش» سببه غياب الهدف الروحي ومشاكل البطالة إذا ما أردنا أن ندخل في حراك العالم الحديث ،علينا أن نفهم أن الحداثة مرتكزة على العلوم الطبيعية المرتبطة بدورها بالعلوم التكنولوجية
مسلمون على غرار فرنسا بالخصوص يهان الشباب المسلم نسبة من الشباب المغاربي بالخصوص ما زالوا يتصورون أن
الجنة في أوربا ،ويلقون بأنفسهم في البحر على أمل الوصول إلى الضفة األخرى ولو كلفهم ذلك دفع حياتهم ثم ًنا لهذا الحلم الطوباوي.
من ناحية أخرى يريد الشباب التضحية وهذا منذ القدم،
إنما طريقة «داعش» ليست كغيرها من التنظيمات على غرار القاعدة وجماعة اإلخوان ،فهي عنيفة جدًّ ا ،ورجوعها إلى اإلسالم هو رجوع بدائي ،لعلهم يريدون تحدي القيم الغربية
سواء الديمقراطية أو حقوق اإلنسان ،والرجوع إلى حاالت حتى في اإلسالم القديم لم تكن موجودة بكثرة ،مثل العبودية
للنساء ،وكأنهم يريدون أن يكوّنوا إسالمً ا متشددًا جدًّ ا مثل الخوارج القدامى ،وهذا يستجلب الشباب من دون أن ننسى
تدخل عنصر السياسة وحب التسلط.
ـــــ
89
ً ّ اعترافا حتى من بعض القادة األميركيين ولكن هناك
أنفسهم على غرار وزيرة الخارجية السابقة هيالري كلينتون التي ذكرت في كتابها األخير أن «داعش» ُ صنع أميركي بحت؟ أولاً أنا إنسان ضد أن يتدخل الغربيون في شؤون المسلمين .أما عن سؤال:
من صنع «داعش»؟ فإني
أعتقد أن حرب العراق التي
قام بها الرئيس األميركي
جورج بوش االبن كانت كارثة حقيقية .فبعد سقوط بغداد
جورج بوش االبن
واحتالل العراق ،وضعوا على الحكم الشيعة فقط ،وهمّ شوا
أهل السنة ،وقسموا السكان .وهناك عدد كبير من الضباط من البعثيين القدامى لم يهضموا هذا االحتالل ،وصاروا من
القيادات العسكرية في هذه التنظيمات ،ودخلوا في النطاق اإلسالمي بعد أن كانوا الئكيين ،وانضموا لتنظيمات يعدونها أنجع .فالقومية العربية اليوم سقطت وعوّضها الجهاد
اإلسالمي ،لكن ال بد من اإلشارة إلى أن اإلسالميين ليس كلهم من أهل الجهاد؛ اإلخوان المسلمون في مصر مثلاً لم
حوار
يكونوا من أهل الجهاد بل كانوا متسيّسين أكثر ،واإلسالميون
لن ننخرط في حراك العالم إال بثقافة متميزة ال تكون نتيجة
جاءت هذه الحركات القوية بتسلسل ،فبعد تنظيم القاعدة
والحداثة عندي مرتبطة بالهوية ،والهوية ما زالت تقوم بدورها
في تونس كذلك لم يكونوا جهاديين بل كانوا معتدلين .إنما نشأ تنظيم «داعش» ودخلت السياسة والتنافس والعداء
الكبير بين دول المنطقة ،وتحديدً ا بين السعودية وإيران في
الميزان ،فتكوّن هذا المشهد المتوتر.
العرب والمسلمون ساهما في بناء الحداثة
ـــــ
اإلستراتيجي في مقاومة الهيمنة اإلمبريالية التي أخذت شكل الهيمنة االقتصادية ،وما دعوتي للغرب بالكف عن التدخل في
شؤون العرب والمسلمين إال انطالق من اعتقادي في ضرورة التمسك بخصوصياتنا ،وبالعناصر األساسية التي انبنت عليها هويتنا وحضارتنا .لكن الهوية ال ينبغي أن تبقى دائمً ا ً نبشا في
ً نقدا إلى المفكر هشام يوجه بعض الباحثين
التاريخ وال انغماسً ا في التراث وتمترسً ا وراء الدين واللغة.
لتاريخ الدين اإلسالمي .ونرى في هذا الحديث معك أنك
والمستقبل ،واحتكاك الهويات الفردية ،وانفتاحها على األخالقيات التي تق ّرب بين البشر وتبني القيم ،التي تفتح ً آفاقا
جعيط؛ إليمانه بقيم الحداثة الغربية ،وقراءته النقدية حاسم في توصيفك للغرب ،وتطالبه بالتوقف عن التدخل
في شؤوننا .كيف يمكن إذن أن نستفيد من قيم الحداثة، ً وتحديدا من الحرية والديمقراطية ،من دون أن نخشى االنحرافات عن الذات وعن الهوية وعن األصل؟
إنها ال تقوم كذلك على الذاكرة فحسب ،بل تعني بناء الذات
أمام اإلنسان ،وتعطي لحياته معنى ،وتجعل منها قيمة عالية.
ـــــ
أليست الديمقراطية هي أساس الحداثة ،إذن لماذا
_ إن الحداثة هي ابنة الغرب ،وقد نشأت مع النهضة التي
تعطلت عجلة التقدم في البلدان التي عاشت مؤخرًا ثورات،
وجهود التحديث المتواصل ،ونحن كعرب ومسلمين ساهمنا
الديمقراطية ،وأصبحت معظم بلدان ما يسمى بـ«الربيع
شهدها الغرب ،ولكنها نتيجة تراكمات وتفاعل الحضارات في بناء الحداثة التي أعتقد أنها انطلقت من األندلس مع
90
مبادرات فردية فحسب ،وإنما تتحول إلى ثقافة جمعية.
الثورة العلمية .اليوم نحن في حالة تأخر وتقهقر ما في ذلك
شك ،وسنظل مرتبطين بالغرب ،وسنبقى تبعً ا له ،وسيواصل
التدخل في شؤوننا ما دمنا نكتفي باستهالك الثقافة الغربية ً استهالكا جيدً ا. وفي أحسن الحاالت نستهلكها
العالم كله يتحرك اليوم لكن ما زال هناك تردد في المنطقة
العربية حول تبني قيم المدنية ،وحول أهمية المشروع الثقافي
الذي يقوم على السمو واإلبداع ،وعلى الخلق وعلى التميز...
ونتج منها تغيير في األنظمة الدكتاتورية ،وبناء تجربة في العربي» ساحة حرب ،وكثرت بها بؤر التوتر؟
العالم كله يتحرك اليوم لكن ما زال هناك تردد في المنطقة العربية حول تبني قيم المدنية ،وحول أهمية المشروع الثقافي الذي يقوم على السمو واإلبداع
نحن ضعفاء ولم نفهم أن التكنولوجيا أساس النهوض يشدد المفكر هشام جعيط في كتاباته على أن الحداثة ليست مرتبطة بالمظهر الخارجي كاللباس ...إلخ ،إنما هي
مرتبطة بأسباب أخرى مثل التمكن االقتصادي ،وبما أن العرب بعيدون عن تحقيق هذه األسباب ،إذن كيف يمكن الخروج
من المأزق؟ يرد الدكتور هشام جعيط على هذا السؤال بقوله« :إننا إذا ما أردنا أن ندخل في حراك العالم الحديث من الصين إلى اليابان إلى العالم أجمع ،علينا أن نفهم أن الحداثة مرتكزة على العلوم الطبيعية المرتبطة بدورها بالعلوم
التكنولوجية ،التي هي مبنية على أسس اقتصادية وعلى المؤسسة االقتصادية .كيف هو الوضع عندنا؟ من هذه الناحية نحن ضعفاء ًّ جدا ،ولم نفهم أن التكنولوجيا أساسية في النهوض بمجتمعاتنا ،وهي ال تصلح إال إذا تكونت في إطار نسيج
مؤسساتي تكون فيه الكلمة ألبناء البلد ،لكننا من هذه الناحية كذلك ما زلنا تبعً ا للغرب.
فإسرائيل التي تعد عدونا األول في المنطقة لها صناعات حربية ثقيلة وتصنع الدبابات والمدرعات ،أما في البلدان
العربية فال صناعة وال تكنولوجيا ،وحتى البترول الموجود في األراضي العربية نعول في تحويله على مهندسين وتقنيين
من الخارج .وإذا ما عدنا إلى النموذج التونسي فإننا نطالب منذ سنوات بعودة المستثمرين األجانب لحل المشاكل
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
هشام جعيط :الفكر يلزمه فترات من الدعة
ال بد من اإلقرار بأننا اليوم في تونس أحسن حالاً بكثير مما
المسألة ال تهم الغرب ككل ،فالمجتمع األميركي مجتمع
ليس االنتخابات .األساسات هي القيم التي تستقيم عليها الديمقراطية .والقيم األساسية هي أولاً الحريات إذا أحس ّنا
التي أسقطت دينها القديم وعوّضته بالالئكيّة المتشددة ،لكن
الدين لم يغب في بريطانيا وفي ألمانيا وبولونيا وغيرها.
ما ندخل في نوع من الهمجية في استعمال الحريات ،في حين
ألمانيا وفي بريطانيا وغيرهما خارجة عن الدين لكن ليس
كنا عليه في حكم الرئيس ابن علي ،لكن أساس الديمقراطية
استعمالها ،ونحن بلدان لم تحسن استعمال الحريات ،وعادة أنه ال بد من نوع ما من االنضباط؛ لكسب هذه الحريات .وثانيًا
احترام قيمة الحياة اإلنسانية .ما معنى القتل في نهاية األمر؟
إنه عدم احترام للنفس البشرية ،وهذه هي القيم األساسية، وهذه هي أسس الديمقراطية ،فكل إنسان فرد له حقوقه،
ولكن في الحقيقة هذه األسس موجودة في التراث الديني، ولسنا في حاجة للبحث عنها عند اآلخرين ،فالدين اإلسالمي
يحرم التعذيب والظلم والقتل من دون حق .القتل ممنوع في القرآن ،والشتم كذلك ،والعنف ممنوع ً أيضا في القرآن إال من ُظلم ،والعدوان ممنوع ،ولكن الطبيعة البشرية هي طبيعة حيوانية ً أيضا.
ال جدوى من حركة معادية لألديان
ـــــ
عندما كان الغرب في سيرورته
نحو الحداثة كانت هناك فكرة أساسية
تتمثل في مناهضة الدين أو تحييده عن السياسة واالقتصاد ،ولكن الدين
عاد بقوة في العقود األخيرة ،فهل ّ تعد من راهن على زوال المسألة الدينية وبخاصة في البلدان
الالئكية قد أخطأ التقدير؟
متدين ،وإنما تهمّ عددًا من البلدان األوربية وبخاصة فرنسا
صحيح أن السيرورة االقتصادية والسياسية للدولة في
هناك في هذه البلدان الئكية متشددة ،وهناك قسم كبير من المجتمعات األوربية متدين ،أما فيما يخصنا كعرب ومسلمين ،فإننا قبل أن ندخل في الحداثة (دخلنا في الحداثة
في الخمسينيات من القرن الماضي) كنا مستعمرين ،وكان الدين يسيطر على البلدان اإلسالمية كلها تقريبًا ،وفي جميع أشكال حياتها .ثم ماذا نعني بإلغاء الدين؟ هل هو فصل الدين عن السياسة أم فصله عن االقتصاد؟ واإلجابة على ذلك
أن هذا الفصل هو اليوم أمر واقع تقريبًا حتى في بلداننا.
ومثلما أرى أنه ال داعي لفكرة بعث ميثاق لحقوق اإلنسان المسلم ،وكانت قد بادرت بها بعض
الدول اإلسالمية؛ ألني أعتقد أن ً مختلفا ،وأن المسلم ليس كائ ًنا
مواثيق األمم المتحدة عامة تسري
على الناس جميعهم ،فإني ال أرى
كذلك ضرورة أو أهمية لظهور مثل هذا
التيار الداعي إللغاء عنصر الدين؛ ألن
الدين موجود ومتغلغل داخل غالبية
الفئات االجتماعية ،أما الفصل بين الدين
والسياسة ،وبين الدين واالقتصاد فهو كما
سبق وذكرت قد أصبح أم ًرا واقعً ا.
االقتصادية التي تفاقمت بعد الثورة ،والحال أنه كان من الممكن أن نعول على الحس الوطني للتونسيين الذين لديهم األموال لالستثمار في البالد ،ال أن ننتظر باستمرار إعانة من صندوق النقد الدولي وإنفاقها في صرف الرواتب ...إلخ .هنا
ينبغي للدولة أن تتدخل ،وال أقول العودة إلى االشتراكية ،وإنما ال بد من حضور للدولة التي ينبغي أن تبني المصانع والمعامل حتى باالشتراك مع الخواص؛ لتوفير الشغل وتخفيف حدة التوترات االجتماعية.
وعمومً ا هناك تقصير كبير في فهم األمور ،ولعلني أشير في هذا السياق إلى أنه حينما قامت الثورة في روسيا في
عام 1917م وتم تأسيس االتحاد السوفييتي؛ أول شيء تم التفكير فيه هو تكوين مصانع وصناعة ثقيلة؛ ألنه ليس هناك
استقاللية للبالد من دون استقاللية على المستوى االقتصادي ،وحتى على المستوى الحربي .وإن كانت تونس ً بلدا صغيرًا مثلاً فإن مصر التي قامت بها ثورة بلد كبير .لقد أزاحوا اإلخوان المسلمين ووضعوا نظامً ا قويًّا ولكن ماذا بعد؟ حتما ال بد من اإلسراع في تكوين صناعة ثقيلة في مختلف المجاالت ،بما في ذلك المجال الحربي .واألمر ال ينسحب على مصر أو على تونس وحدهما وإنما على كامل المنطقة العربية واإلسالمية ،إذ ما زلنا ونحن في منطقة تعيش حروبًا وصراعات كبيرة تابعين لآلخر ،أي للغرب في كل شيء.
91
حوار
بقي أن هناك قسمً ا أو فئة من الشباب أو من المثقفين
يريدون وهم يحاولون تطبيق كل العناصر الدينية ،أن يكون
المجموعة .أين نحن من هذه «النبوءة» أو هذه البشرى والعالم العربي يعيش اليوم حرو ًبا دموية ،وتعصف به
لهم نوع من الحرية ،وهذا في اعتقادي يدخل في باب حرية المعتقد فعلاً ،ولكل شعب عاداته وتقاليده المرتبطة بالدين،
الصراعات من كل جانب؟
المسائل تدخل في باب الحرية وترسخها.
والقول بأن هناك مؤشرات توحي بمزيد من التقسيمات داخل
وليس هناك أي ضرورة للقيام بحركة ضد الدين ما دامت هذه وعمومً ا فإن مشكلة الدين ليست مطروحة في تونس
فقط ،وإنما في العالم اإلسالمي ،وفي هذه الفترة الحالية حصل نوع من العودة بقوة إلى الدين ،فالنظام اإليراني مثلاً جاء بأيديولوجيا جديدة تشبه بالضبط ما كان عليه االتحاد السوفييتي زمن ستالين ،فالشيوعية هي دين حديث يربط
المجتمع كله بأيديولوجيا دينية .عمومً ا المسلمون لم يجدوا ً نوعا من األيديولوجيا على غرار الماركسية تربط بين المجتمع
_ ال يمكن الجزم بما سيحدث في المستقبل القريب،
األراضي العربية ،لن يحدث إال في فرضية واحدة ،وهي نجاح تنظيم «داعش» في توحيد سوريا والعراق مع العلم أن
فرضية «غلبة» داعش ليست مستبعدة ،حتى روسيا التي هي في الظاهر تحارب تنظيم «داعش» في سوريا إنما هي تتدخل
أساسً ا لمساندة نظام الرئيس السوري بشار األسد. وفعلاً هناك أزمة كبيرة في المنطقة العربية واإلسالمية،
لكن وراء األزمات عادة يأتي وضع جديد ،بقي أن العنصر
بقوة ،وتبتعد من الئكية الشاه وجماعته ،التي كانت خاضعة
اإليجابي في العملية أنه من قبل ومنذ خمسين سنة تقريبًا كانت العروبة شي ًئا واإلسالم كان شي ًئا آخر ،وداخل العروبة
كتبت في خاتمة كتابك «أزمة الثقافة اإلسالمية»
هناك انقسامات .واليوم هناك رقعة في العالم هي الشرق
تمامً ا للغرب.
ـــــ
ً حتما (صادر عن دار النشر الفرنسية فايار سنة 2004م) أنه سيأتي يوم ويتحقق فيه مطمح المسلمين في نشر ثقافة
92
الشعوب ،واإليمان بقيمة حياة اإلنسان كفرد وداخل
ً طعما للحياة ،وأشرت إلى أن الدولة السمو التي تمنح
ليست سوى محرك للتنمية المادية والمعنوية ،وأن المجتمع المدني سيقوم بدوره المطلوب منه ،وأن التغيير في العالم العربي واإلسالمي يتطلب عدة شروط ،وهي
الديمقراطية والسلم بالداخل والخارج ،والتضامن بين
الحداثة عندي مرتبطة بالهوية، والهوية ما زالت تقوم بدورها اإلستراتيجي في مقاومة الهيمنة اإلمبريالية أوربا في طريقها نحو التفكك؛ فهي لم تبن دولة فيدرالية إنما ًّ هشا اتحادا بنت ً لقد تراجع دور المثقف العربي، واحتلت مكانه أطراف لها قدرة كبيرة على التأثير في الجموع على غرار القيادات السياسية والحزبية ،وحتى وسائل اإلعالم الجماهيرية العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
كانت هناك نظريات الوطنية على غرار نظرية بورقيبة ،وكانت
األوسط وشمال إفريقيا ،وحتى بعض بلدان آسيا الوسطى ً سابقا والعالم اإلسالمي الذي خرج التابعة لالتحاد السوفييتي من االستعمار يريد تأكيد ذاته في مسار التاريخ بالصيغة التي يراها ،وتوجد داخل هذا الصراع وحدة إسالمية ،والعرب لم
يعودوا وحدهم في الصراع ،هناك اليوم أفغانستان وإيران
وإندونيسيا والباكستان ،على حدودها على األقل .ثم ال ننسى أن هذه الرقعة لها تاريخ كبير جدًّ ا ،وهي التي كوّنت الحضارة
وهي مهدها األصلي.
االنحدار األوربي
ـــــ
تصر على أن أوربا في حالة انحدار وفرنسا التي
َ عشت فيها حوالي عشرين سنة ونشرت فيها كتبك،
تراجعت كثيرًا وأصبحت تابعة ألميركا ،والعالم بأكمله مضطرب ،كيف يبدو لك مستقبل العالم ككل؟
_ بالنسبة ألوربا فقد عرفت أوجها في القرن التاسع
عشر وفي النصف األول من القرن العشرين ،لكن في التاريخ
اإلنساني -وقد عشنا التجربة في العالم اإلسالمي في القرون
األربعة األولى بعد التأسيس -يتكون فكر وفن كبيران ،ثم تتوقف الحركة .ومن عالمات هذا االنحدار في أوربا ليس فقط التبعية السياسية والضعف الثقافي الفادح والتراجع ً أيضا سيطرة على مستوى العلوم اإلنسانية ...إلخ ،إنما المشاعر السلبية على المجتمعات ،وبخاصة المجتمع
الفرنسي ،وعلى رأسها مشاعر الكراهية ورفض اآلخر واإلسالموفوبيا التي ما فتئت تزداد حدتها ،ليس فقط بسبب
هشام جعيط :الفكر يلزمه فترات من الدعة
هشام جعيط خالل حفل تكريمه في تونس
العمليات اإلرهابية؛ ألنه إن سقط بضع عشرات من الضحايا
في بناء مستقبل األمة العربية واإلسالمية ،فهل يعني ذلك
ضحية في العراق .لكن مشاعر الكراهية ال تقتصر فقط على
خلدون آخر وابن رشد هذا العصر وغيرهم في المنطقة؟ لقد تراجع فعلاً دور المثقف العربي واحتلت مكانه أطراف
في باريس وبروكسل ،فإنه يسقط يوميًّا ما ال يقل عن 50 المسلمين الذين نقول عنهم عادة إنهم يرفضون االندماج في المجتمعات الغربية ،إنما هناك عنصرية واضحة ضد
اليهود في فرنسا ،والسؤال :أليس اليهود متفرنسين كفاية، فلماذا هذه العنصرية ضدهم إذن؟ وينبغي أن يكون المرء
قد عاش داخل المجتمع الفرنسي سنين طويلة مثلي ،ال أن
يكون مجرد زائر ،حتى يعرف حقيقة هذا المجتمع .وواضح جدًّ ا أن أوربا في طريقها نحو التفكك ،فهي لم تبن دولة فيدرالية وإنما بنت اتحادًا ًّ هشا. وعمومً ا لقد تغيرت األمور كثي ًرا على مستوى العالم ،ولم
تعد فكرة انتقال العلوم والفنون إلى أمكنة أخرى صحيحة؛ ألن العالم الرقمي سيغلب الكتاب ،والصورة ستغلب النص
المكتوب ،والعالم مرتبط بقوة بشبكات اإلنترنت، ً مرتبطا بقوة عن طريق والمجتمع العالمي أصبح شبكات الميديا .ولإلشارة فقط فقد قرأت ضمن
مطالعاتي وفي دراسة علمية جدية أن شركتي «أبل» و«غوغل» ستصيران المسيطرتين على
العالم في المستقبل ،وهذا ممكن جدًّ ا.
ـــــ
ترى أن السؤال حول دور
المثقف اليوم في المجتمع سؤال تقليدي ،ألن دوره تراجع ،لكن
المنطقة العربية شهدت من قبل
ميالد شخصيات مثقفة كان لها تأثيرها
أن علينا أن نقفل باب األمل في ظهور ابن عربي جديد وابن
لها قدرة كبيرة على التأثير في الجموع على غرار القيادات
السياسية والحزبية ،وحتى وسائل اإلعالم الجماهيرية .جاءت من قبل فترة ازدهر فيها العلم والمعرفة ،وظهر مثقفون في
حجم األسماء المذكورة وغيرها ،وحتى الشخصيات الفكرية
واإلصالحية التي برزت في الفترة المعاصرة ،وبخاصة في المغرب اإلسالمي هي من الشخصيات التي تشبعت بالثقافة الغربية ،لكن الثقافة العربية واإلسالمية كانت ً أيضا راسخة لديها ،إال أن الفكر يلزمه فترات من الدعة ،ونحن اليوم في
حالة صراع .ننتظر أن تهدأ األمور ألنه ال بد أن يأتي يوم وتنتهي
فيه هذه الحروب ،فأنا أصر على أنها ليست أبدية.
بقي أني أعتقد أن هناك أشياء
إيجابية تحدث اليوم في الساحة
اإلعالمية العربية ،والذي جلب
اهتمامي أن اللغة العربية الحديثة
تقدمت تقدمً ا باه ًرا ،ويمكن لها
أن تكون قادرة على التعبير عن
كل شيء .وشخصيًّا تابعت مؤخ ًرا
حوارات على قناة البي بي سي عربي
وعلى قناة فرنسا 24تقال بلغة عربية
جيدة جدًّ ا ،واستمعت إلى تحليالت سياسية مهمة ً أيضا بلغة عربية سليمة
جدًّ ا وقيّمة.
93
قضايا
بعد أربعة عقود ونصف...
اتحاد األدباء والكتاب اليمنيين من ربيع الوحدة إلى شتاء االنقسام! انتكاسة المشروع القومي العربي بعد حزيران 1967م خلق متغيرين رئيسيين في اليمن التي ظلت قبل هذا الموعد ،وعلى مدى أعوام
خمسة ،جغرافية ملتهبة لتصفية حسابات مؤجلة ،بين مشروعين متناحرين ،عكسا حالة االستقطاب الحاد في ذروة الحرب الباردة.
محمد عبدالوهاب الشيباني شاعر وكاتب يمني
94
ففي شمال البالد ،وصل التيار المحافظ إلى الحكم ،مطلع نوفمبر
1967م ،عبر انقالب ناعم في ظاهره ،خشن في مآالته ،وفي جنوبها
استطاع تيار اليسار فرض نفسه كسلطة قوية منذ لحظة االستقالل عن بريطانيا في نهاية الشهر ذاته ،وفي طريقه الشاق هذا ،تخلص من
كل منافسيه .تعارُض النظامين السياسيين عكس نفسه على عالقات الشطرين ،التي شهدت توترات مستديمة ،أفضت إلى حربين بينهما
في سنوات السبعينيات (1979 – 1972م).
في وضع مثل هذا ،أراد بعض مثقفي البالد وأدبائها شمالاً وجنو ًبا، التعبير عن رفضهم لهذا االنقسام ،بوجود حكومتين في بالد واحدة، (كما عبرت بياناتهم الباكرة) فشكلوا لجنة تأسيسية في أكتوبر 1970م، من اتجاهات ثقافية وجغرافية وسياسية متعددة ،لإلعداد لتشكيل
كيان نقابي موحد ،يعبر عن مشروعهم الوطني الرافض للتشطير.
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
اتحاد األدباء والكتاب اليمنيين ..من ربيع الوحدة إلى شتاء االنقسام!
عبدالفتاح إسماعيل
أحمد دماج
المولود الحلم
عبدالله البردوني
عمر الجاوي
أن أهم أهداف التأسيس هو «نشر اإلنتاج األدبي والفني ألعضاء
هذه اللجنة تولت االتصال والتواصل بسبعين أديب/ة وكاتب/ة
االتحاد وتشجيعهم بتقديم كافة التسهيالت الممكنة» ،فلم تتع َّد
شرق الجنوب)؛ لتشكيل هذا الكيان الحلم ،الذي أبصر النور (بعد
من مسيرته أصابع اليدين ،حتى وهي تمثل في بعض حاالتها أعمالاً ريادية بمقاييس الحداثة وقتها ،مثل رواية «يموتون
يمني/ة ،من صعدة (في أقصى الشمال) إلى المهرة (في أقصى مخاض عسير) في مدينة عدن ،التي احتضنت مؤتمرهم األول في
فبراير 1974م ،لكن قبلها بأعوام ثالثة وتحديدًا في 15إبريل 1971م،
على سبيل المثال ،إصدارات االتحاد في األعوام العشرة األولى
غرباء» لمحمد عبدالولي ،ومجموعة «غريب على الطريق»
أعادوا إصدار مجلة «الحكمة» باسم االتحاد ،بعد أكثر من ثالثة
للشاعر محمد أنعم غالب ،لكن في المقابل كان يُنظر للصدور المنتظم لمجلة الحكمة ،بوصفه فعلاً ثقافيًّا متكاملاً ،لما كانت
على مدى سنوات السبعينيات ،بين المؤتمر األول والمؤتمر
بما فيها السجاالت والنقاشات الحادة حول موضوع الوحدة ً عنوانا« :الوحدة اليمنية ،التي صدرت هي األخرى في كتاب حمل
أجيالنا المعاصرة» ،الذي ظل صامدًا حتى المؤتمر الخامس
مايو 1971م« ،وحكمة اليوم ستغطي النقص في مجال األدب
عقود ،من إصدارها األول في صنعاء في ديسمبر 1938م .ورأس
تحرير إصدارها الجديد ولقرابة عشرين عامًا ،األديب عمر الجاوي.
الثاني الذي انعقد في صنعاء في نوفمبر 1980م ،تبلور الشعار
الرئيس لالتحاد «تحقيق الوحدة اليمنية في الصدارة من مهام لالتحاد الذي انعقد في عام الوحدة 1990م؛ إذ بدأت التحوالت
العميقة في بنيته وخطابه وحضوره في الحياة العامة .لكن قبل ذلك ال بد من الوقوف على متعينات عديدة ،جعلت من هذه
المؤسسة «أيقونة» للعمل الوحدوي والنضال السياسي السلمي، ينظر إلى تاريخها بتبجيل وتوقير.
العمل الوطني بطابعه السياسي
تمثله من منبر غير مكبل ،استوعب الكثير من نتاجات األدباء،
تأسيسا لما جاء في افتتاحية العدد الثاني في منتصف اليمنية»، ً
والفنون والتاريخ ...ألنها يجب أن تضطلع بهذا الدور» ،وقد مثلت افتتاحيات المجلة على مدى عقدين مادة مهمة لدارسي
تمظهرات خطاب االتحاد ،ومواقفه من القضايا السياسية والوطنية ،شمالاً وجنوبًا. التسعينيات وتبدالت الخطاب والحضور
حين وصل االتحاديون إلى مؤتمرهم الخامس الذي انعقد
طيلة عقدين كاملين ،غلب على نشاط االتحاد ،وحضوره
في عدن عام الوحدة (أكتوبر 1990م) ،كان ال بد أن يصوغوا شعارًا
ً خصوصا فيما يتعلق بأوضاع المعتقلين والمطاردين، وحقوقي،
تزدهر الثقافة» .لكن هل كانوا يدركون أن هذا المؤتمر سيكون
في الحياة العامة ،العمل الوطني بطابعه السياسي بغالف نقابي
من أعضائه وغير أعضائه ،ولم يكن المشروع الثقافي بخصوصيته األدبية والفكرية ،يمثل التحدي الواضح في حضوره آنذاك ،رغم
كان الشاعر والكاتب والمؤرخ والروائي والمنظر السياسي ،الذين ال تجمعهم االنتماءات السياسية الواحدة ،يجمع بينهم االتحاد ومشروعه الوطني
جديدًا يواكب المرحلة ،فاختاروا شعارًا« :بالديموقراطية والوحدة
المدشن الفعلي للتحول في تركيبة االتحاد ،وخطابه وحضوره
في المشهد العاصف الجديد الذي وسم البالد ،والمنطقة والعالم بجملة من التبدالت؛ مثل :سقوط اليقينيات الكبرى ،وتسيد
القطبية الواحدة ،ورواج مقوالت نهاية التاريخ واأليديولوجيا. فأُولى هذه التحوالت كانت إزاحة الرموز التاريخية في االتحاد
من المواقع القيادية ،على نحو إزاحة الجاوي من األمانة العامة
ورئاسة تحرير الحكمة ،وإزاحة أحمد دماج من رئاسة االتحاد. ّ وتولي الشاعر (سلطان الصريمي) موقع األمين العام ،واألديب (محمد الربادي) موقع الرئيس.
95
قضايا
يمض عام واحد ،إال وكانت االنقسامات ولم ِ
مغاير في إطار األحزاب والجمعيات ،قاطعين جذر
العامة استقالتها ،وأعيد تشكيلها مرة أخرى
وحضوره في الشأن العام يبهت ،وعنايته بقضايا
قد بدأت تبرز ،وأفضت إلى تقديم األمانة
المودة به ،لهذا بدأت نبرة خطاب االتحاد تذوي،
من شخصيات الصف الثاني في قيادة االتحاد،
أعضائه تتالشى.
التي بعد عناء أوصلت االتحاد إلى المؤتمر العام
وفي المؤتمر السابع ،الذي انعقد في صنعاء (مارس 1997م)ُ ،كرس الوضع ذاته ببقاء موقع
السادس ،الذي انعقد في صنعاء في نوفمبر
1993م (عشية حرب صيف 1994م).
وبعد أقل من عام على عقد المؤتمر ،الذي
رئاسة االتحاد وأمانته العامة من دون تغيير ،مع
محمد حسين هيثم
انعقد تحت شعار جديد« :حرية اإلبداع تأصيل للديموقراطية
والتحديث» ،وتولى فيه رئاسة االتحاد الشاعر والبرلماني المعروف (يوسف الشحاري) ،وشغل موقع األمين العام الشاعر (إسماعيل
الوريث) ،كان االتحاد قد فقد العديد من مق ّراته في مدينة عدن، بفعل تداعيات الحرب ،وتم ربطه ماليًّا بوزارة الشؤون االجتماعية، مثله مثل مؤسسات الرعاية االجتماعية ،يتحصل منها على فتات
المال ،الذي لم يكن يكفي لنفقات تشغيل واحد من مقراته، وبوضوح ستتجلى معاناة االتحاد الذي صار ال يستطيع إصدار
مجلته ،وال الوفاء بالتزاماته تجاه األعضاء وحقوقهم ،حتى أولئك السياسيون الذين كبروا تحت مظلته ،بدؤوا يبحثون عن حضور
96
عودة بعض رموزه إلى مواقع قيادية فيه ،مثل
عودة رئيسه السابق أحمد دماج إلى موقع نائب األمين العام، وعودة األمين السابق سلطان الصريمي إلى األمانة المالية،
عندما بدأ السياسيون الذين كبروا تحت مظلة االتحاد ،يبحثون عن حضور مغاير في إطار األحزاب والجمعيات قاطعين جذر المودة به ،أخذت نبرة خطاب االتحاد تذوي ،وحضوره في الشأن العام يبهت، وعنايته بقضايا أعضائه تتالشى
تنازعات النقابي والسياسي والثقافي
كراع للعمل تنافسات الحكام في الشطرين لعبت دورًا مسهلاً لوالدة االتحاد؛ للرغبة من كليهما في التعبير عن نفسه ٍ
الثقافي الموحد ،والهروب من وصمة التشطير واالنعزال ،وما ينبغي إضافته إلى ذلك هو الظرف التاريخي ،الذي جاد بعقلية الحاكم المثقف في الحالتين.
رئيسا للجمهورية حينها ،وفي الجنوب وجدت نخبة من ففي الشمال كان الشاعر واألديب القاضي عبدالرحمن اإلرياني ً
المثقفين اليساريين في هرم السلطة ،وعلى رأسهم الشاعر والمثقف (عبدالفتاح إسماعيل) الرجل األقوى والمؤثر في السلطة. ً شرطا حيويًّا مهمًّ ا الستمرار اإلذابة الواضحة للتناقضات المناطقية واأليديولوجية والسياسية لمنتسبي االتحاد خلقت االتحاد قويًّا ومستقلاًّ في قراراته ،وحاضرًا في المعترك الوطني ،الذي عزز ذلك وجود شخصيات من الطراز الرفيع في قيادته،
وعلى رأسهم مبصر اليمن وحكيمها الشاعر (عبدالله البردوني) ،الذي كان أول رئيس لالتحاد ،وإلى جانبه ثلة من المثقفين
السياسيين والكتاب ،الذين سعوا بمواقفهم وكتاباتهم ،إلى بلورة خطاب تنويري ،مهموم بوطن يحاول النهوض من ركام التخلف والعنف ،على أساس المواطنة ،وحرية التنقل والقول في الجغرافية الواحدة.
وفي الوقت الذي كان نظاما الشطرين يزيحان خصومهما باالعتقال والتغييب والمطاردة ،كان يجلس في اجتماعات
االتحاد المثقف (الليبرالي) إلى جوار المثقف (الديني)؛ ليتدارسا أوضاع البالد وأحوال مثقفيها ،ومتابعة قضاياهم وشؤونهم؛
لهذا كان الشاعر والكاتب والمؤرخ والروائي والمنظر السياسي ،الذين ال تجمعهم االنتماءات السياسية الواحدة ،يجمع بينهم االتحاد ومشروعه الوطني. لاً وألن النظامين ،شما وجنوبًا ،كانا يجرمان العمل السياسي كل بطريقته ،األول يحرّمها تحريمً ا بائ ًنا على قاعدة مقولة
«الحزبية تبدأ بالتأثر وتنتهي بالعمالة» ،والثاني بحصره ممارسة العمل في إطار التنظيم السياسي الموحد أو الحزب القائد، فقد كان اتحاد األدباء والكتاب ،أشبه بالمالذ اآلمن للمطاردين والمشردين ،الذين يعانون عسف األجهزة ،التي كانت تراهم
في الشمال معارضين يساريين مدعومين من نظام الجنوب ،في الوقت الذي ترى أجهزة الجنوب في الصوت المرتفع الناقد، ً تشويشا على التجربة االشتراكية الرائدة في المنطقة. الذي يطلقه االتحاد حيال التجاوزات؛
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
اتحاد األدباء والكتاب اليمنيين ..من ربيع الوحدة إلى شتاء االنقسام!
وشهدت هذه الفترة نقل مقر مجلة الحكمة إلى
ً عنوانا تقريبًا ،ووصل إلى ذروته مئة وعشرين
هيثم؛ إذ بدأت بالتعافي ومعاودة الصدور، تزام ًنا مع دورة عجالت اإلصدارات من جديد،
ساعد على ذلك هو االستقرار المالي ،وتعدد
صنعاء؛ ليرأس تحريرها الشاعر محمد حسين
مع عام (صنعاء عاصمة للثقافة 2004م) ،والذي موارد االتحاد ،وقبل هذا وذاك وجود أمين عام
حيث شهدت هذه الفترة صدور قرابة عشرة عناوين ُ لكتاب شبان من الشعراء و ُكتاب القصة.
لكن مع ذلك استمرت متالزمة الغياب لصورة
االتحاد المكرسة في أذهان العامة ،تحفر في كل مدونة باحثة عن دور لالتحاد ،من دون فائدة.
األلفية ومشروع الكتاب وتهافت الساسة
في المؤتمر العام الثامن ،الذي انعقد مرة أخرى في صنعاء في
إبريل 2001م ،صعد إلى قيادته مجموعة من األعضاء الشبان (شعراء وقصاصون) ،وسُ جل فيه حضور الفت للمرأة ألول مرة في القيادة الفوقية لالتحاد بوجود أديبتين في عضوية األمانة العامة ألول مرة
في تاريخ االتحاد ،وتولى األمانة العامة فيه الشاعر (محمد حسين
هيثم) ،وعاد (أحمد قاسم دماج) إلى موقع الرئاسة .في هذا المؤتمر صوّت المؤتمرون على تعديالت على النظام األساسي لالتحاد، باستحداث أمانة جديدة للحقوق والحريات ،واشتراطات العضوية
وعالقة الفروع بالمركز ،وتعيين هيئة مستشارين ،كمحاولة لمواكبة التغيرات التي أحاطت به .في هذا المؤتمر سيسجل أول اختراق
لتقاليد االتحاد العتيقة ،بالمساومة على اقتسام المواقع القيادية بين منتسبي الحزب الحاكم (الشعبي العام) وبقية المحسوبين على
األطراف السياسية والمستقلين ،من دون انتخابات مباشرة فعلية،
وأراد الحاكم من ذلك إتمام تدجين آخر القالع المستعصية ،وهو ما سيتمه بعد أربع سنوات ،في المؤتمر التاسع ،المنعقد في مارس 2005م ،حين استخدم المال السياسي وبشكل فاضح ،لفرض
المحسوبين عليه في قيادة االتحاد ،وإقصاء كل المناوئين من
الشخصيات النقابية ،بطريقة خشنة تمامًا؛ ما جعل عضو المجلس ً الحقا« :االتحاد انهار مشروعه التنفيذي بشرى المقطري تقول
الوطني منذ 2005م ،وصعود قيادات في األمانة ال عالقة لها باألدب،
ولكن بسبب فرض المؤتمر الشعبي ألسماء بعينها.»..
في هذا المؤتمر ،وألول مرة ستصعد سيدة إلى موقع األمين
العام (الشاعرة هدى أبالن) ،وتولى الناقد واألكاديمي (عبدالله البار) رئاسة االتحاد ،وهو ذات األمر الذي سيتكرر في المؤتمر
العاشر ،الذي انعقد في مدينة عدن في مايو 2010م ،وبذات
الطرائق تقريبًا.
مهجوس بمثل هذا الموضوع ،وأعني هنا الراحل
محمد هيثم ،لكن هذا المشروع سيتراجع بعد المؤتمر التاسع بشكل ملحوظ حتى توقف
في عام 2008م ،ليحل محله مشروع الرعاية ً ملحوظا ،في دعم األعضاء في االجتماعية ،الذي شهد تحس ًنا
بشرى المقطري
مجاالت الرعاية الصحية ،ودعم الطباعة واإلعانات ،على حساب الموقف الوطني ،والموقف من الحريات ،التي بدأت تسجل
تراجعات مخيفة على مستوى البالد كلها. شتاء االتحاد وربيع االنقسام
في المؤتمر العام العاشر بدأت تنعكس حالة (الالتوازن)
التي تمر بها البالد على اصطفافات األدباء ،فبرزت وبشكل واضح االنقسامات على أساس مناطقي (شمالي -جنوبي) ،وانعكست
بشكل مباشر على تركيبة المجلس التنفيذي لالتحاد ،وعلى
انتخابات األمانة العامة ,التي تأجل انتخابها لشهرين كاملين ،في سابقة هي األولى في تاريخ االتحاد ،بسبب هذا االنقسام.
وبعد أشهر ستة من المؤتمر ،دخلت البالد في ربيعها الشعبي إلسقاط النظام ،فلم يُسمَع صوت لالتحاد ،وسُ مع ،بدلاً عن ذلك،
صوت انفرادي لبعض أعضائه الذين عرفوا بـ«أدباء مع التغيير»، كساند للثورة الشبابية الشعبية السلمية (ثورة فبراير) ومنذ ذلك الحين واالتحاد يعيش حالة موات حقيقي ،فأنشطته متوقفة،
ومقراته مغلقة ،وموظفوه بال إعاشات ،ولم يستطع عقد مؤتمره االستثنائي لتحديد مستقبله وهويته الكلية ،بعد أن بدأت تبرز إلى
السطح دعوات إلنشاء اتحاد أدباء الجنوب ،واتحاد أدباء وكتاب
حضرموت ،ويعزز من هذا التوجه اآلن ،االنقسام الحاد الذي تشهده البالد ،وحالة الفوضى واالحتراب التي تلفها شب ًرا شب ًرا.
أما السؤال الذي يكبر عند أعضاء االتحاد يقول :بعد كل هذا
التوعك المميت ،بأي صورة يمكن أن يظهر بها اتحادهم ،بعد أن
تضع الحرب أوزارها؟!
استفاد الكاتب في تناوله للموضوع من:
اتحاد األدباء والكتاب اليمنيين عشر سنوات من النضال .ط()1
1981م .افتتاحيات الحكمة /مختارات 1989 – 1971م .إصدارات اتحاد األدباء
والكتاب اليمنيين ط( .1989 .)1الوحدة اليمنية مختارات من كتابات مجلة
وما يمكن قوله عن هذه المرحلة أو ما سنعرفه بـ«سنوات األلفية» بروز مشروع اإلصدار الذي أُطلق في منتصف عام 2002م
إلى الهوية المهنية -محمد عبدالوهاب الشيباني صحيفة الثقافية /
سالسل من اإلصدارات ،استوعبت على مدى عامين ونصف
المقطري -موقع شهارة اإللكتروني .2012/5/9 -
تحت شعار «كتاب في كل أسبوع» ،وغطى هذا المشروع سبع
الحكمة -اتحاد األدباء والكتاب اليمنيين ط(1988 )1م .من الخطاب العام تعز -العدد 2006 / 323م .نكسة اتحاد األدباء والكتاب اليمنيين - ...بشرى
97
قضايا
الكاتبة الخليجية وتحديات الكتابة
أحالم بال حدود تكبحها مواضعات المجتمع هدى الدغفق الرياض
اإلشكاليات االجتماعية التي تواجهها الكاتبة الخليجية ،كثيرًا ما يتردد أنها أكثر وأعقد من
تلك اإلشكاليات التي يواجهها المثقف الخليجي ،إذ إن الفضاء حول هذا المثقف ومن أمامه ّ ً نموذجا حضار ًّيا الفعال ،ما يجعل منه ،في تصور البعض، مفتوح ومهيأ لالندماج والحضور
حاضرًا في التفاعل واإلسهام في التنمية .وعلى الضد منه تواجه المرأة الخليجية ،كاتبة وأديبة
98
ومثقفة وأكاديمية ،كثيرًا من التحديات التي ،بحسب عدد من المهتمين ،تعزلها عن المناخين العام والثقافي بشكل أو بآخر ،األمر الذي يعوق ،في رأيهم ،جهودها وفاعليتها في الفضاء
العام بشكل ملحوظ ليساعد على تكوين وترسيخ دورها الثقافي بوصفها منتجة لفكر حر ،في دفع وتقويم حركة التنمية وتنشيط المعرفة وترسيخ األدب.
هذه التداخالت والتعقيدات هل تعمل على تضييق خطا الكاتبة الخليجية ،وتصيبها ّ يشل حركة األجيال الجديدة المتقدمة من باإلحباطات ،التي قد تذهب في تأثيرها إلى حد
الفتيات الالتي يراهن على خبرات ثقافية متنوعة ،تحفزها فضاءات عائلية منفتحة على األفق؟ ً انفتاحا ال يزال مشدو ًدا إلى أحالم الكاتبة بال حدود ،إال أن الواقع المتوتر حتى في أكثر المدن
مواضعات اجتماعية.
«الفيصل» ناقشت هذه القضية ،قضية
الكاتبة الخليجية والتحديات التي تواجهها ،مع
مبدعات وأكاديميات وأديبات من عدد من دول الخليج.
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
الكاتبة الخليجية وتحديات الكتابة
لطيفة قاري :امرأة مجنونة من ترغب في تكريس حياتها لإلبداع في واقع كهذا؟ ال يمكن الجمع بين الصعوبات التي تواجه المبدعة في
مما يضطرها لتكوين شبكة من العالقات العامة في غياب أي
خاصة ،وعلى الرغم من كل ما يقال عن توجهات الدولة لدعم
كبش الفداء لكل الجهات المؤيدة والمستنكرة من المتأسلمين
السعودية وبقية دول الخليج؛ المبدعة في المملكة حالة
المرأة فإن الموافقة والمباركة والدعم الحقيقي ال يمنح لها إال من جهة ال تملك الدولة أي سلطة عليها ،ولي األمر الحاكم بأمره في
مصيرها ومصير إبداعها.
خامسا -أن تكون مؤسسة ترفع عن كاهل المبدعة هذا الهم. ً
والليبراليين والصحويين ،ومن بنات جنسها اللواتي يقفن مع أو ضد .سادسً ا -كيف تعيش حياة طبيعية ،تتزوج وتنجب وتبدع، ونظرة واحدة ألي مناسبة تجعلك ترى رجالاً بال نسائهم ونساء
قد تنفي حال بعض المثقفات والمبدعات هذه الحقيقة، ولكن الحقيقة أنهن من الفئة المحظوظة التي ّ سخر الله لهن
بال رجالهن إال في القليل النادر ،بل في معظم األحيان يكون ثمن ً شرطا للزواج .أما تمتعها باألمومة التضحية بإبداعها حيث يكون
لتبدع ،منحها اإلذن لترفق اسمه باسمها ،منحها جواز السفر،
كانت في البدء.؟
رجالهن ،سواء أكان أبًا أو ً أخا أو زوجً ا منحها الضوء األخضر منحها حتى فرصة المشاركة في مهرجان أو مؤتمر أو معرض ،لو
قال كلمة الفصل وصرخ بال ،فمن ذا الذي يمنعه ،ال القضاء وال
المحكمة وال حتى ...؛ ألن مصيرها إليه أو إلى دور اإليواء. نتحدث بعدها عن بقية الصعوبات التي تتعلق أيضاً
بالرجل؛ إذ بمجرد أن تخطو خارج عتبة البيت وتحلق ستواجه عالم الرجال في الصحف ،واألندية ،ودور النشر ،وجمعيات الفنون ،وعليها أن تناضل على جميع الجبهات .ثانيًا -لتثبت ألهلها أهليتها بالثقة الممنوحة لهاً . ثالثا -لتثبت للمجتمع أنها مبدعة ًّ حقا .رابعً ا -لتنشر وتطبع وتدير أعمالها وتسوق إنتاجها؛
أولاً ،فكيف تحافظ على وهج إبداعها لتظل متقدة ،لتبقى كما
وأخي ًرا من ترغب في أن تكرس حياتها إلبداعها في واقع هكذا ،هي امرأة مجنونة ًّ حقا. شاعرة سعودية
لطيفة قاري :ال يمكن الجمع بين الصعوبات التي تواجه المبدعة في السعودية وبقية دول الخليج .المبدعة في المملكة حالة خاصة
99
عائشة الدرمكي :مقارنات وتمركز حول الذات تبوأت المرأة المشتغلة في المجال الثقافي في الخليج مكانة مرموقة سواء في منطقة
الخليج العربي أو العالم العربي وغير العربي ،ولهذا فإننا عندما نتحدث عن التحديات التي تواجه هذه المرأة ،فإننا نتحدث عن مدى قدرة المرأة في الخليج على اإلبداع واللحاق بالركب الثقافي،
وعلى الرغم من أنني ال أحبذ التحدث عن المرأة بشكل خاص وفصلها عن نسيج المجتمع العام فإنني هنا أقول :إن أكبر التحديات التي تواجهها المرأة المبدعة في الخليج هي مقارنتها بالرجل
عائشة الدرمكي
المبدع من ناحية ،وبالمرأة في العالم العربي من ناحية أخرى ،وهي مقارنات تخلقها المرأة نفسها أو محيطها بحيث تجعلها في جهة مقابلة ،ولهذا فإن تلك المقارنات قد تؤدي إلى إشكاليات عدة على مستوى النص ،ومستوى الشخصية،
والحافز لالستمرار .إن المرأة المبدعة في المجال الثقافي في الخليج العربي تتميز بمميزات وسمات خاصة مستمدة من محيطها االجتماعي والثقافي والفكري الذي تأسست عليه ،ولهذا فإن المقارنات تشكل من وجهة نظري الخاصة تحديًا
أساسيًّا أمامها ،وهو ٍّ تحد ال تستطيع الفكاك من ربقته إال إذا نظرت إلى ذاتها بوصفها مستقلة فكريًّا ،فهي ال تكتب سوى
نصها ،وال تعبر سوى عن ذاتها ،وعن مجتمعها ،وفكرها الثقافي العام بتداعياته المتعددة.
وعليه فإن التحدي اآلخر الذي تواجهه في هذا الصدد هو التمركز حول ذاتها؛ حيث نجد أنها تنشغل بالكتابة عن
قضاياها الشخصية (وأقصد هنا قضايا المرأة تحديدً ا)؛ ما يجعلها غير مواكبة لقضايا األمة التي ينشغل بها اآلخر (الرجل
المبدع) وهذا فيه الكثير من الظلم للمرأة المبدعة ،فعندما نقول :إنها يجب أن تعبر عن ذاتها فإن هذا ال يعني أنها تكتب عن نفسها ،بل يعني أن تعبر عن رأيها وتصورها للقضايا التي تشغل العالم من حولها بحيث تكون لها رؤية شخصية لتلك القضايا ،سواء أكانت قضايا اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية أو غير ذلك.
ناقدة وأكاديمية عمانية
قضايا
إيمان أسيري :هيمنة ذكورية في واقع المرأة العربية ليست هناك خصوصية بين مجتمع
المجتمعات الخليجية الحديثة
تحمل النظرة ذاتها إلى المرأة ،بحكم العقلية العربية ،التي من
الدونية للمرأة ،على الرغم من
وآخر ،تبقى المرأة هي واقع مشترك في هذه المجتمعات،
خصائصها الهيمنة الذكورية ،التي ال تفسح المجال لضوء آخر
يشاركها ،كما أن هذه المجتمعات المحافظة ،كثيرة الحجر على ما يخدش سكونها ،ويكسر جمودها ،وهو ما يبدو جل ًّيا في السياق التاريخي لهذه المجتمعات .المقدمة تختصر التحدي
األكثر قسوة أمام المرأة وهي السلطة الذكورية المطلقة ،هذه
السلطة المهيمنة على معظم مناحي الحياة في عالمنا العربي، بدءً ا باألسرة ،وانتهاءً بس ّدة الحكم في هذه البلدان .اآلنية
الخزفية تمتص الماء ،إن أغلقت ،بينما األواني الزجاجية يأسن ً عطفا على تشبيه العرب بأن النساء قوارير ،هذه الماء فيها،
القوارير لو ظلت مفتوحة لتجدد الماء فيها ،بحكم المصدر ،في
الطفرة الحداثية التي طالت العمارة
والتجارة بفعل النفط ،فإنها لم تطل العقول ،السطحية الحداثية
إيمان أسيري
أصابت السكن والمالبس والتعليم في أرقى الجامعات للداللة على المقام االجتماعي «برستيج» لكنها لم تهتم بخلخلة المفاهيم القديمة ،أو الوقوف على علاّ ت العقول اآلسنة،
ضي في بناء تنمية بشرية حقيقية لهذه المجتمعات الفتية. للمُ ّ المرأة تابع ال حول له وال قوة في هذه المجتمعات،
وكونها تابعً ا ،حاولت وال تزال تعمل وفق هذه المنهجية
المتاحة لها ،سواءٌ في العمل أو الحياة الخاصة ،إال أن
المبدعة هي التي تشذ في جزئية عن هذه القاعدة ،الجزئية
آسن ،وهو ما يجعل التحدي أصعب حالة المرأة العربية المصدر ِ وأش ّد وطأة مما نظنً . إذا نحن أمام مجتمعات تحكمها مرجعيات
المتعلقة بالمجال اإلبداعي (الفني واألدبي) ،تجد المبدعة
مواصلة النسل واإلمتاع .التحدي األكبر يكمن في تغيير هذه
سيل الروائيات والشاعرات والفنانات دليل غضب أنثوي،
ثقافية اجتماعية ،تع ّد المرأة كائ ًنا ً طارئا في حياة الرجل ،مهمته
100
تعاني ثقل هذا الموروث ،ونظرته
العقلية ،وتوجيهها بشكل منطقي الحترام الكائن اآلخر ،على اختالف نوعه وجنسه ولونه ودينه ،عندما تصل المجتمعات إلى
هذه الدرجة من السمو األخالقي ،عندها بإمكاننا الحديث عن
الخليجية أجرأ من غيرها في التعبير القاسي عما تعيشه، يمهد النفجار قادم في القيم والمفاهيم المتوارثة ،على الرغم
من الحصار الذكوري العفوي كسلوك مكتسب عبر األجيال.
شاعرة بحرينية
تحدّيات مختلفة خاصة باإلبداع والمبدعين.
فوزية البكر :انفصال المرأة عن الرجل أعتقد أن قضية العزل موجودة؛ ألن المرأة منفصلة عن
الرجل ،فهي ليست موجودة في المكان العام وال في الحياة
العامة ،لذلك ال تستطيع أن تنضج ،وال أن تعيش التفاصيل الطبيعية للحياة العامة بالطريقة ذاتها التي يعيشها الرجل،
ولذلك فإن كثي ًرا من التفاصيل اليومية تغيب عنها ،وال تستطيع
ألنها محدودة بالحكم االجتماعي
وتوقعات اآلخرين ووضعها وواقعها
وموقعها كزوجة أو كمطلقة ...إلخ.
وبالتالي فإن عالقاتها كلها
محدودة ،وهذه أمور من شأنها أن
فوزية البكر
الكتابة عنها .ونتيجة لهذا العزل فهي ال تستطيع التفاعل مع
تحرمها كثي ًرا من فرص التدريب والتعلم والمناقشات ومعرفة
ً مطلقا إال أنه لم يزل قائ ًما ،فالرجال يستطيعون الجلوس بعضهم
المناخ والفضاء العام يع ّد أحد أهم وأكثر التحديات التي تواجهها
والتفاعل وعقد الصداقات مع الموجودين في المؤسسات الثقافية
التعلم والمعرفة وتلقي الخبرات .كما أن المرأة محاطة بالشبكة
كاف ،ربما لم يعد ذلك العزل الجهات الثقافية الرسمية بشكل ٍ مع بعض بعد العشاء وليس لديهم قيود في الدخول والخروج
المختلفة ،في حين أن الكاتبة ال تستطيع فعل ذلك بالمطلق؛
ومتابعة آخر اإلصدارات والكتب ،وهي تحاول لكن العزل عن المرأة المثقفة كاتبة أو أكاديمية؛ ألنها تؤثر في كل فرصها في
العائلية واألسرية بمعنى أنها ال بد أن توازن بين احتياجات األسرة واحتياجات األطفال ،ورغبة الزوج وموافقته من عدمها ،وذلك
فوزية البكر :العزل عن الفضاء العام يعد
كله ما يحدد قدرة المرأة على التحرك واالنطالق في الفضاء العام
المرأة المثقفة كاتبة أو أكاديمية
متفرقة تتسبب في إعاقة المرأة ثقافيًّا.
أحد أهم وأكثر التحديات التي تواجهها
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
وسفرها من عدمه ،وكل هذه الموانع التقليدية مجتمعة أو أكاديمية سعودية
الكاتبة الخليجية وتحديات الكتابة
سعاد العنزي: عمدا تعرضت لمحاوالت إسقاط اسمي من الذاكرة ً موضوع المرأة في الثقافة العربية من الموضوعات
وال تحظى بمقابل مادي ،وال
في النص اإلبداعي أو النص الموازي ،ولكن على الرغم من
والمجلة ،ويعد النشر هو أكبر
المطروقة كثي ًرا في اآلونة األخيرة في الكتابة العربية ،سواء ذلك االهتمام فإن المرأة ال تزال تواجه الكثير من العراقيل في شق طريقها في الحياة العملية والعلمية .والمرأة الكاتبة
الخليجية تواجه تحديات مضاعفة تفوق أي امرأة أخرى؛ بسبب قوة االرتباط بالثقافة األبوية التقليدية والقبلية في
الخليج العربي ،واالنفتاح الشكلي على الحضارة الغربية والشرقية األكثر انفتاحً ا ،مع النظر إلى حداثة ممارسة
المرأة في الخليج العربي لحقوقها المكتسبة مؤخ ًرا بعين االعتبار.
من التحديات الثقافية التي تواجهها كما كررت في
أكثر من حوار ،هو التهميش الذي تتعرض له من الصحف والمجالت الثقافية والعلمية ومحرريها ،فال تستطيع أن
تنشر نصوصها بسهولة؛ بسبب عدم قدرتها على التواصل
بشكل مباشر مع المحررين الثقافيين ،وبالمقابل عدم
تعامل المحررين بموضوعية مع المواد ،فالمواد المقدمة
بتقدير من مسؤولي الصحيفة تقدير لها .ليس هذا وحسب ،بل
سعاد العنزي
هناك ٍّ تحد مهم جدًّ ا ال بد من التطرق له ،وهو عدم قدرتها
على تطوير ذاتها معرفيًّا؛ بسبب ثقافة التكرار واالجترار
في الوطن العربي ،فلو التفتنا إلى خطاب المثقف العربي منذ عشرة أعوام ،وخطابه اليوم؛ ما الذي تغير فيه؟ ال ً ملحوظا حقيقة ،ال أدري هنا هل نلوم الكاتبة أرى تقدمً ا
العربية أم نلوم الثقافة العربية التي ال تخجل من أن تعيد
نفسها باستمرار؟! ً وال ننسى أيضا أن المرأة تكتب من أجل المرأة
الخليجية المشغولة جدًّ ا في تسليع ذاتها كثي ًرا لآلخرين، مستفيدة من كل المظاهر االستهالكية المتاحة بوفرة في
المجتمعات المترفة.
إذا افترضنا نجاح الكاتبة الخليجية في تخطي سياج
الثقافة العصية إال على نماذج نادرة ،هل سيسمح المجتمع
من مجموعتهم األدبية والثقافية هي ذات الحظوة الكبرى في النشر .التهميش ً أيضا مرتبط بتهميش بقية المثقفين
عورة ال يسمح لها بالظهور في المجال الثقافي ،سواء في
معالم حضورها بالتشكيك بقدرتها اإلبداعية ،أو حتى
أشياء تحرج أفراد الجماعة التي تنتمي لها ،ويشكل عامل
لها ،وعدم االعتراف بوجودها ،وفي أحيان كثيرة طمس إمكانية استمراريتها.
الذي يرى أن جسد المرأة ووجهها وصوتها وفكرها واسمها
الكتابة أو في البرامج الحوارية ،ففكرها وصوتها وشكلها ضغط كبير عليها .فغالبًا تكون عالقة المرأة الكاتبة مع
ومن خالل التجربة العملية أنا مررت بكثير من
المجتمعات األكثر تعصبًا متوترة وقلقة وغير مستقرة،
عمدً ا ال سهوًا؛ بسبب أمراض الذات اإلبداعية المتضخمة عند بعض المثقفين والمثقفات .وشاهدت ً أيضا البعض
وهو فعل يتطلب حرية اجتماعية على األقل ،بشكل جدي ومستمر وغير متقطع؟!
الكتابة كفعل ثقافي لم تحظ بالتشجيع المادي والمعنوي
مجموعة من المحظورات التي ال تستطيع التطرق لها.
التجارب التي جرت فيها محاولة إسقاط اسمي من الذاكرة
وهو ينكر ويقلل من إبداعية النساء الكاتبات .كما أن المناسبين ،فمن الوارد جدًّ ا أن تكتب كاتبة مدة من الزمن
سعاد العنزي :المرأة الكاتبة في الخليج تكتب وتضع في ذهنها مجموعة من المحظورات التي ال تستطيع التطرق لها
وبالتالي يحق لنا أن نتساءل كيف يتحقق فعل الكتابة،
المرأة الكاتبة في الخليج تكتب وتضع في ذهنها
كما هو معروف ،الثالوث العربي المحرم :الدين والجنس والسياسة ،فإن المرأة تضيف له عددًا من الشخصيات التي تمارس ً عنفا رمزيًّا عليها ،وال تستطيع أن تفكر إال من خالل حضورها .طبعً ا نحن هنا نتحدث عن امرأة منتمية للجماعة وليست ضد الجماعة.
ناقدة وأكاديمية كويتية
101
قضايا
سالمة الموشي :تتقدم في المشهد الفكري على استحياء اإلبداع في شكل ما في الخليج والعالم العربي يمر بالكثير
من التحديات واألزمات ،ويكاد يكون كإبداع متميز فرديًّا في أوقات كثيرة من مراحله ،فكيف يكون األمر حين يتعلق بالمبدعة
الخليجية وهي التي تالزمها وصمة األنوثة أينما مضت ،دائ ًما هناك
خدمة الفكرة والقوة التي يفرضها الحراك الكلي في المجتمع خليج ًّيا كان أو عربيًّا.
هناك ً أيضا التحدي الذي يظهر بوضوح كبير وهو أن المرأة
المبدعة تكاد تكون بشكل ملحوظ مغيبة عن قضيتها الفكرية،
ما يحدث تحت السطح فبينما يكون هناك الكثير من االحتفاء بما ُتحدثه المرأة المبدعة من نتاج أدبي أو فكري ،فإن معاناة ما
وتتقدم في المشهد الفكري على استحياء أو كطرف مشارك وليس
وقبل أن نبحث عن حلول لكل التحديات أو بعضها الذي يواجه ً عميقا في الحراك األدبي الذي المبدعة فإنه ال بد من الغوص
تبعً ا للنوع ،بمعنى أن يكون الرجل أولاً والمرأة ثانيًا ،وهذا
تكتنف حضورها وتحركها ضمن السياق العام في الحياة األدبية.
تتحرك منه وخالله كل مبدعة خليجية.
ما زال هناك ،على سبيل المثال ،الخالف القائم والخلط سائي أو األدب النسوي الكبير بين سياقات ومعاني األدب ال ِّن ّ ً مرادفا ونتاجه بحيث لم يعترف به كأدب فكري حقيقي ،وأصبح
للحقوقية والمساواة ،وهذا األمر أحد أبرز اإلشكاليات ،بينما هو في الحقيقة ليس مجرد صراع ضد ال ّنظام الذكوريّ بقدر ما هو تعبير عن كينونة المرأة من خالل اإلبداع ،وبهذا ُغيب النموذج
102
المتلقي ،والمبدع ،واإلبداع ،بحيث يعمل هذا الثالوث على
كطرف أساسي في الحراك الفكري بشكله العام ،متجاهلة أن األدب هو نتاج إنساني وليس قابلاً للتجنيس أو التراتبية النوعية
غير صحيح واإليمان به كواقع هو مساهمة في إقصاء المثقفة والمبدعة ،وعليها أن تؤمن أولاً بأن األدب والفكر ال يجنسان وال
يقيمان بالنوع بقدر ما يقيمان بالمعنى والمضمون والقدرة على الحضور والفاعلية.
ّاتساع الدائرة التي تتحرك من خاللها المبدعة أو ضيقها ترجع
أسبابه إلى معطيات كثيرة ،أحدها المرأة ذاتها بوجودها في كل مرة في الصف األخير ،أو المقعد الثاني في المشهد الكبير لإلبداع
بينما تشكيل وعي نسوي وقيامه من التعثرات والتحديات التي
النسائي إلى الذي يمكن االقتداء به للخروج من مرحلة األدب ّ المرحلة األكثر نضجً ا فكر ّيًا وهي مرحلة النسوية. لاً أن تخوض المرأة المبدعة التجربة النقدية مث واألدبية،
تنتجه المرأة وتؤمن به ،من خالل اإليمان الكامل بأنها مبدعة
التحديات التي تحدث في عمق السياق الذهني لكافة األطراف:
النزعة الخاصة إلى البعد اإلنساني؛ لتتجاوز تحديات التهميش
هذا يعني أنها ستكون قبالة الكثير من التحديات غير المعلنة،
سالمة الموشي :اتّساع الدائرة التي تتحرك من خاللها المبدعة أو ضيقها ترجع
تطاله لن يكون من الخارج بل من الداخل؛ من داخل الفكر الذي ً إبداعا ،وتعمل على إبداعها بعمق ،والخروج بنصوصها من وتنتج
واإلقصاء أو النوع ،عليها أن تكون امرأة متفردة تخلق المكانة وال
تبحث عنها ،أن تظهر ككيان حر ال أن تتماهى في الصورة المميعة لوجودها ،وأن ترى بوضوح أين يكمن الخلل.
أسبابه إلى معطيات كثيرة
ناقدة وروائية سعودية
سوسن دهنيم :مجرد «حرمة» أعراف وتقاليد وتابوهات ،ال بد أن تصطدم بك حتى حين تديرين لها أنك أمام ٍ أن تكوني كاتبة من الخليج العربي فذلك يعني ِ
ظهرك ما دمت واثقة أنك تسيرين باتجاه النور .المجتمعات تختلف باختالف شخوصها وعاداتها وتقاليدها ،تختلف ثقافاتها ونظرتها
للمرأة وكل ما يتعلق بها وما ينتج منها وعنها ولها ،وما مجتمعنا الخليجي إال واحد من هذه المجتمعات التي ربما تتفق في بعض األمور بالرغم من اتساع مساحتها نسبيًّا وتعدد أسماء دولها ،وهي ً أيضا تختلف في أمور أخرى باختالف المنطقة والبالد .المرأة في
بعض قبائل وعوائل دول الخليج مجرد «حرمة» يجب أال تذهب إلى ما هو أبعد من ذلك ،وهذا انعكاس لرؤية المجتمع لها في تلك الدول ،فبثته في عقول أبنائها وبناتها من خالل التربية العقيمة التي تنتج نساء ضعيفات ورجالاً يحاولون إقصاءها وتهميشها بكل الطرائق ،ونتاج لوسائل اإلعالم التي ما زالت ترى المرأة «ناقصة عقل ودين» ،وتراها «مخلوقة من ضلع أعوج» ال يمكن أن يستقيم
عوجها يومًا ،ونتاج ما يزرعه بعض رجال الدين في عقول مريديهم حين يعتلون المنابر والحلقات الدينية.
الكاتبة أو المبدعة أيًّا كان مجالها الذي اختارته تصطدم في مجتمعنا بكثير من األمور ،من بينها عدم ثقة المجتمع بها وبما تقدمه ،ومحاولة إقصائها وإحباطها ،فضلاً عن نظرة المجتمع الدونية لكل من تعبر عن مشاعرها ،وتحاول التحليق بعيدً ا من
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
الكاتبة الخليجية وتحديات الكتابة
منى حبراس السليمية :الكاتبة والنظرة الكالسيكية يجمل بي أولاً أن أفترض أن النظرة إلى ظروف المرأة
الكاتبة وتحدياتها باتت نظرة كالسيكية ،تقترح على الدوام أن تكون التحديات هي نفسها في كل زمان ومكان ،بيد أني ال أرى
األمر كذلك على اإلطالق ،فمن وجهة نظري على األقل –وفي
عمان تحديدً ا– تتساوى التحديات وتتشابه عند المرأة والرجل
على حد سواء ،فال مجال للحديث عن حرية الكتابة (على سبيل
المثال) لدى الرجل من دون المرأة ،فما من قيد يحول بين المرأة واإلبداع أو يشكل تحديًا ساف ًرا لها بنحو خاص ،وإن كانت
وأداء الواجبات االجتماعية؛ ألن
الكتابة في وطننا العربي لم تبلغ ً بعدُ شأنا مقدَّ رًا يمنح أصحابه ما يعفيهم من كسب قوت الحياة؛ ليتفرغوا لمشروع أبقى وأخلد.
هل من قبيل الصدفة أن
منى حبراس السليمية
أكتب عن تحديات الكاتبة بعد أن عشت ثالث محطات لها صلة
بالموضوع؟ أوالها ندوة «المشهد الروائي في عمان» التي اتفق
ثمة تحديات خاصة ،فبحكم طبيعتها التي تفرض عليها أدوارًا
الحاضرون فيها من روائيين عمانيين ونقاد على أن وقت الكاتب
إلى جانب وظيفتها -إن كانت موظفة -فالمرأة تخوض واجبات
ثم قراءتي لكتاب إليف شافاق «حليب أسود» وهي تسرد تجربتها
ال تفرضها على الرجل بدرجة متساوية ،وهي واجبات األمومة
تف ّرق دمه بين وظيفته ومسؤولياته األسرية وواجباته االجتماعية، مع األمومة ،وانقسامها النفسي بين أمومتها وكتابتها ،وأخي ًرا
ال يخوضها الرجل بالدرجة نفسها ،وعليها أن تحقق توازنها في مهمات عدة يسقط ّ جلها عن الرجل ،ورغم ذلك فهي (الكاتبة)
ُ حصلت على تفرغ مدة عام إلنجاز بحث أكاديمي ،وأعرف كوني
تتنازل عنه بطبيعة الحال. ّ في اعتقادي ما من ٍّ تحد أشق على الكاتب ،أيًّا كان جنسه،
التي كانت تقضيها يوميًّا في الكتابة من دون أن يقطع عليها
أنها أنانية بطبعها ،وال ترضى بفضلة الوقت المتبقي بعد انصراف ّ جله في كسب العيش ،وتلبية المسؤوليات األسرية،
فكذلك األطفال أنانيون بفطرتهم ،وكالهما ال يقبل بك مجزأً، فإما أن تمنحهما ُك َّلك وإال أخفقت إخفاقك الذريع.
ُتطالب بما يطالب به المبدع عمومً ا ،وهو ما تحرص على أال
من عدم قدرته على إيجاد وقته الخاص ،فالكتابة فعل انقطاع وانعزال ،وإن لم يكن انعزالاً بالمعنى الفيزيائي للكلمة ،كما
منى حبراس السليمية :في اعتقادي ما أيا كان جنسه، من تح ٍّد أشق على الكاتبًّ ، من عدم قدرته على إيجاد وقته الخاص، فالكتابة فعل انقطاع وانعزال
ما يعنيه امتالك الوقت لمشروع الكتابة واالنقطاع له .إيزابيل الليندي (مثلاً ) ما كانت لتكون ما هي عليه لوال الساعات الطوال
أحد عزلتها ،وغيرها آخرون وآخرون ،ولكن على المرأة تقع التضحيات ،فهي أُم غالبًا ،ولما كانت الكتابة أنانية بطبعها،
ٍّ تحد بذاتهاٍّ : ولكن تبقى الكتابة فعل ٍّ وتحد تحد للظروف،
ٍّ وتحد للمشكالت ،ومن كانت هذه طبيعته فال بد أن للزمن،
يتحقق واقعً ا .مهما استحكمت الظروف وتناسلت التحديات، فليست الكتابة وحدها شكلاً للصمود ،ولكن اإليمان بها ً أيضا
كذات ليست في الختام إال ذات الكاتب نفسه.
باحثة عمانية
الشرنقات التي تطوقها والجدران التي تأسرها كي ُتسمِ ع صوتها للفضاء المفتوح ُ وتري العالم فنها؛
تصطدم بناقد ال يلتفت لما تكتبه أو تقدمه إال بوصفه صادرًا عن «أنثى» ،وبمجتمع يُح ّرم صوتها ووجهها
وضحكتها ووجودها مع أقرانها في بعض األحيان.
ً مختلفا بعض الشيء ،وأكثر انفتاحً ا واهتمامً ا بالمرأة، ربما يكون المجتمع البحريني الذي أنتمي إليه
ولكنه ال يزال يمارس بعض هذه الممارسات ،بوصفه مجتمعً ا شرقيًّا عربيًّا خليجيًّا ال يمكنه أن يتقبل
كل ما يصدر من المرأة وعنها في بعض المناطق وعند بعض العوائل .على سبيل المثال لم أستطع في
سوسن دهنيم
طفولتي ومراهقتي إخراج ما أكتبه للنور ،وبقي مدة طويلة حبيس أدراجي ودفاتري ،إلى أن استطعت في
ُوجه ذلك برفض أسرتي بحجة المرحلة الثانوية نشر بعض النصوص باسمي الكامل ،ليس تحديًا وإنما فخ ًرا بما أكتب ،وبالطبع و ِ ُ ُ علي أن أعاني كثي ًرا؛ كي أستطيع الذهاب ألسَ ر أن هذه الكتابة تشغلني عن دراستي ،وحين أردت االنخراط في المجتمع الثقافي كان ّ األدباء والكتاب ذات البيئة المختلطة رجالاً ونساء ،من دينيين وليبراليين. شاعرة بحرينية
103
قضايا
السعودية و إيران هل هناك أمل؟ 104
برزت في األشهر األخيرة دعوات أميركية وأوربية للحوار بين السعودية وإيران تحت عنوان :تقاسم
النفوذ ومراعاة المصالح ،ووفق تعبير الرئيس األميركي باراك أوباما فإن هذا الحوار يجب أن يفضي إلى
تعايش أو «سالم بارد» ..والمتأمل في أوضاع المنطقة العربية يجد أن صراعات سياسية مختلفة تمزقها
في الشرق والغرب ،ولم يعد دور إيران خافيًا أو مواربًا في األزمات العربية دعمً ا لميليشيات في لبنان واليمن ،وتدخلاً عسكريًّا مباش ًرا في العراق وسوريا ،وتبرز السعودية في المقابل بوصفها قطبًا عربيًّا صامدً ا أمام محاوالت تمدّ د النفوذ اإليراني الطامع في التوسّ ع..
على ضوء هذه الدعوات والخلفيات تستشرف «الفيصل» مستقبل العالقات السعودية اإليرانية
وتطرح على باحثين مختصين سؤال الحوار وإمكانيته.
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
العالقات السعودية اإليرانية الحاجة إلی حوار واضح وشفاف لوضع آلية إلدارة الخالفات اتسمت العالقة اإليرانية السعودية بحال من التذبذب
منذ قيام الجمهورية اإلسالمية عام 1979م حتى اآلن .وقد مرت هذه العالقة بمراحل متعددة تبعً ا للظروف والتطورات
التي مرت بها المنطقة .وقد ساهمت الجهود الشخصية التي
بذلها القادة في كال البلدين في تحسين مؤقت للعالقات الثنائية في عهد الرئيسين السابقين أكبر هاشمي رفسنجاني
«1997 - 1989م» ومحمد خاتمي « 2005 - 1997م» لكن الخالفات
والمشاكل ظلت مخيمة علی العالقات الثنائية بين البلدين،
محمد صالح صدقيان مدير المركز العربي للدراسات اإليرانية
ولم ينجح البلدان في إيجاد طريقة إلدارة الخالفات علی أقل تقدير ناهيك عن حلها.
وبعيدً ا من التفاصيل والجزئيات التي شابت هذه
بعد انهيار الحرب الباردة ،شعرت األنظمة السياسية في
العالقة ،والتقاطعات التي شهدها البلدان في شكل خاص،
هذه المنطقة بضرورة المشاركة في صياغة النظام األمني
شأن القضايا كافة في المنطقة ،بات واضحً ا وقوف طهران
تطورات األوضاع ومستقبلها.
والمنطقة في شكل عام ،نتيجة السياسات المطروحة في والرياض علی طرفي نقيض في شأن كل قضية رئيسية تقريبًا
في الشرق األوسط.
يصب في مصالحها ونظرتها إلى والسياسي بالشكل الذي ّ
تعاريف خاصة لألمن الوطني
لقد كان النتهاء الحرب الباردة بين القطبين الكبيرين
من الطبيعي جدًّ ا أن تمتلك دول المنطقة تعاريف خاصة
األثر البالغ في أوضاع المنطقة والتطورات التي تشهدها في
صياغة هذه التعاريف استنادًا إلى المرحلة الجديدة والدور
الواليات المتحدة األميركية واالتحاد السوفييتي السابق، المرحلة الراهنة.
ألمنها الوطني واألمن اإلقليمي؛ إذ بدت الحاجة إلی إعادة الذي يمكن أن تلعبه من أجل المشاركة في صياغة األمن
عاشت هذه المنطقة خالل العقود الماضية حتی عام 1990م حالاً من التوازن األمني والسياسي ،فرضتها قوانين
وما تشهده المنطقة حاليًا هو في حقيقة األمر تقاطع هذه
إرهاصات الفراغ األمني مهدا للعديد من النزاعات والتطورات
غياب النظام األمني اإلقليمي ،الذي سقط بسقوط الحرب
الحرب الباردة .لكن انهيار تلك المرحلة ،ودخول المنطقة في كان أولها غزو العراق لدولة الكويت في 2آب (أغسطس) 1990م الذي ساهم في تصدع النظام الرسمي العربي الذي
سقط باحتالل العراق من القوات األميركية عام 2003م ،حيث افتقدت المنطقة -إضافة إلی النظام األمني -نظامً ا سياسيًّا
موحدً ا يحفظ مصالح دول المنطقة.
وفي ظل الفراغ األمني والسياسي الذي عاشته المنطقة
اإلقليمي الذي يستطيع حماية المصالح والنظم السياسية. المصالح والتعاريف الخاصة بنظم األمن اإلقليمي ،في ظل
الباردة مطلع تسعينيات القرن الماضي.
وال نبالغ إذا قلنا :إن منطقة الشرق األوسط حاليًا تشهد
مرحلة تشبه إلی حد بعيد مرحلة بداية القرن الماضي،
وما نتج عنها من اتفاقيات كاتفاقية سايكس بيكو الموقعة عام 1916م .وفي ظل الواقع الحالي فإن المنطقة تشهد
ً صراعا واضحً ا بين المشاريع المطروحة في المنطقة ،وهي:
105
قضايا
المشروع التركي ،والمشروع اإليراني ،والمشروع اإلسرائيلي، إضافة إلی المشروع العربي الذي بدأ بالتبلور بقيادة المملكة
العربية السعودية في عهد الملك سلمان بن عبدالعزيز. وإذا ما اس ُتثني المشروعان التركي واإلسرائيلي ،فإن المشروعين اإليراني والعربي بقيادة المملكة العربية
السعودية يصيران المشروعين اللذين يستطيعان بلورة
صورة المنطقة للمرحلة المقبلة؛ ألن المشروع التركي
يمكن له أن ينسجم مع المشروع الذي تتبناه المملكة العربية السعودية ،على حين أن المشروع اإلسرائيلي هو المشروع الوحيد الذي يريد الهيمنة علی هذه
المنطقة ،ويهمه إثارة النعرات القومية والطائفية؛
ألنها تساهم في نهاية المطاف في تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ.
وال نجافي الحقيقة إذا ما قلنا :إن الجمهورية
اإلسالمية اإليرانية والمملكة العربية السعودية قوتان جيوسياسيتان كبيرتان متنافستان علی السلطة والنفوذ في منطقة الشرق األوسط ،إضافة إلی أنهما تتبنيان أشكالاً مختلفة كليًّا من النظم السياسية واالجتماعية ،وتقدمان
106
رؤيتين متباينتين لنظام شرق أوسطي.
هل من الممكن إعادة ترتيب رقعة الشطرنج الجيوسياسية في المنطقة بما يحقق األهداف اإلستراتيجية لكل دول المنطقة
ونظمها السياسية بما في ذلك السعودية وإيران؟ خياران ال ثالث لهما
وإذا ما صحت مثل هذه القاعدة فنحن أمام اختالفات ً انطالقا من وتباينات واضحة حيال جميع القضايا المطروحة
والجمهورية اإلسالمية اإليرانية والجمهورية التركية خيارين ال
المرجح أن يظل البلدان متنافسين دائمً ا .لكن السؤال هو:
الباب مفتوحً ا أمام جميع االحتماالت في ظل غياب حال إدارة
األمد بالوكالة ،أو ماذا لو كان في وسع الدولتين –علی غرار
والتوصل إلی أنصاف الحلول؛ من أجل صياغة نظم أمنية
يساعد على تهدئة التوترات الطائفية في كل أنحاء المنطقة،
دول المنطقة علی أساس «رابح رابح» وتستفيد منها كل دول
إن أمام دول المنطقة وتحديدً ا المملكة العربية السعودية
التعريف الذي يضعه البلدان ألمنهما القومي والوطني ،ومن
ثالث لهما؛ إما إبقاء المواجهة مفتوحة ،وهذا يعني إبقاء
ماذا لو كان ينبغي أن تتجلی المنافسة بينهما في صراع طويل
المصالح والصراع ،أو التفكير بآلية إليجاد حال من التقارب
فرنسا وألمانيا في أوربا– أن تتفقا علی أسلوب عمل سلمي قد
وسياسية ،تشارك فيها إيران والسعودية وتركيا ومعها جميع
لكنه ال يصل إلی مرحلة الصداقة الحقيقية .وبعبارة أخری:
المنطقة وشعوبها؛ لوضع حد لكل التقاطعات السياسية
واألمنية التي تشهدها المنطقة.
إن الحتمية الجغرافية والتاريخية لهذه المنطقة تضغط
وتحديدا أمام دول المنطقة ً السعودية وإيران وتركيا خياران ال ثالث لهما؛ إما إبقاء المواجهة
علی إيران والسعودية من أجل العيش المشترك .ال تستطيع
إيران أن تزيح السعودية عن خارطة اإلقليم ،كما أن السعودية لن تتمكن من إلغاء إيران من هذه الخارطة .وبالتالي ليس
أمام البلدين إال االعتراف باآلخر ،اآلخر المختلف سياسيًّا
مفتوحة ،وهذا يعني إبقاء الباب
ومذهبيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا من أجل منطقة يسودها األمن
في ظل غياب حال إدارة المصالح
إن البلدين في حاجة إلی حوار واضح وشفاف وإستراتيجي
مفتوحا أمام جميع االحتماالت ً والصراع ،أو التفكير بآلية إليجاد حال من التقارب
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
واالستقرار.
يناقش كل القضايا المختلف عليها؛ من أجل التوصل إلی
آلية تستطيع إدارة الخالفات بينهما إذا لم تنجح في إزالة هذه الخالفات.
مستقبل العالقات السعودية اإليرانية منذ انتصار الثورة اإليرانية وتكوين النظام الثيوقراطي
الذي يتمحور حول والية الفقيه وأيديولوجياته وأدبياته، والعالقات بني إيران والعالم بشكل عام وإيران واململكة العربية
السعودية عىل وجه الخصوص تتأرجح بني شد وجذب،
بني توتر يف العالقات وانفراجات وقتية ما تلبث أن تعود إىل سابق عهدها .مع انتصار الثورة رحبت دول املنطقة وعىل
محمد بن صقر السلمي
رأسها السعودية بالنظام الجديد يف إيران ال سيما أنه يرفع
شعار الوحدة اإلسالمية ،والتعاطي البناء مع دول الجوار،
والتقارب املذهبي ،وتجاوز الخالفات ،إال أن هذه الشعارات الجميلة والرباقة ما لبثت أن تبددت قبل أن تستوعبها العقول
رئيس مركز الخليج العربي للدراسات اإليرانية
دول املنطقة .كذلك ال ينبغي تجاهل أنه خالل حقبة ما يسمى
واألفئدة .ولقد شهدت املنطقة حرب الثماين سنوات بني العراق وإيران ،وقد انعكست هذه الحرب ً أيضا عىل طبيعة العالقات
إسقاط النظامني السياسيني الحاكمني يف أفغانستان والعراق،
من الجانب اإليراين جزءً ا من الخطاب اإلعالمي والسيايس
القانونية بذلك صراحة؛ إذ قال« :لوال إيران ملا سقطت كابول
بني ضفتي الخليج العربي ،وأصبح استدعاء التاريخ وبخاصة واأليديولوجي املتكرر طيلة العقود الثالثة املاضية.
باإلصالحات يف إيران تعاونت طهران مع القوى الغربية؛ عىل وقد اعرتف محمد أبطحي نائب الرئيس اإليراين للشؤون
وبغداد».
جاءت حكومة اإلصالحات بهندسة رفسنجاين وقيادة
ولنتجاوز مرحلة رئاسة محمود أحمدي نجاد بكل ما فيها
لحاجة البالد ملثل هذه الحكومة بعد سنوات من االنكفاء عىل
الرئيس الحايل حسن روحاين .لقد ركز روحاين خالل حملته
خاتمي وإشراف كامل من املرشد األعىل عيل خامنئي وذلك الداخل ،وتوتر العالقات مع دول املنطقة ،ووصول االقتصاد اإليراين إىل مرحلة حرجة ال تتحمل املزيد من العزلة السياسية واالقتصادية .استبشرت املنطقة خريًا بهذا االنفتاح وربما
من توتر يف عالقات إيران مع املنطقة والعالم ،ونصل إىل مرحلة االنتخابية عىل تحسني عالقات إيران مع دول العالم واملنطقة واململكة العربية السعودية تحديدً ا ،وقد كرر ذلك بعد وصوله إىل مقعد الرئاسة إال أن شي ًئا من هذا لم يتحقق؛ ربما ألسباب
تفاءلت بشكل مفرط يف والدة إيران جديدة ،إال أن ذلك التفاؤل لم يستمر طويلاً .لن نسهب كثريًا يف استعراض أبرز مالمح هذه
اآلخر مرتبط بالتطورات السياسية التي تشهدها املنطقة منذ
استغل -وال أقول :استثمر -حسن النوايا لدول املنطقة،
أحمدي نجاد ،بل ازدادت األوضاع سوءً ا ،وارتفعت وترية
املرحلة ولكن من األهمية بمكان االعرتاف بأن النظام اإليراين ورغبتها يف الخروج من الخالفات مع الدول؛ لريوج ملزاعم تغري التوجهات السياسية للنخبة الحاكمة يف طهران ،ورغبتها يف
فتح صفحة جديدة مع دول املنطقة ،وتجاوز خالفات املايض،
والتطلع إىل مستقبل أفضل للمنطقة وللعالقات الثنائية بني إيران ودول الجوار العربي. ً لذا شهدت األعوام (2005 :1999م) تحس ًنا ملحوظا يف
كثرية ،بعضها متعلق بالوضع الداخيل اإليراين ،وبعضها
عام 2011م .إال أن الوضع لم يبق عىل ما هو عليه خالل حقبة
التدخالت اإليرانية يف املنطقة ،كما أن الثالث سنوات املاضية
شهدت تدخالت عسكرية إيرانية مباشرة يف الداخل العربي
عرب إرسال املقاتلني من الحرس الثوري وامليليشيات الشيعية
املستوردة من العراق ولبنان وباكستان وأفغانستان ،والدفع بهم يف الحرب السورية بهدف ترجيح كفة نظام بشار األسد يف
املعركة القائمة ،ومع ذلك كله أخفقت طهران عىل مستويني
العالقات ،وبخاصة بني طهران والعواصم العربية إال أن
رئيسيني :أولهما عسكري وهو مساعدة نظام بشار عىل إحكام
وشراء الوالءات ،وبالتايل كونت لها خاليا نائمة ونشطة يف
ودبلومايس يتمثل يف انكشاف األهداف اإليرانية أمام الحكومات
إيران وظفت هذه السنوات لزرع املراكز الثقافية ،والتجنيد،
قبضته ،وبسط سيطرته ،وإخماد الثورة ،وثانيهما سيايس
107
قضايا
والشعوب العربية؛ األمر الذي قاد إىل عزلة سياسية إيرانية لم تشهد إيران لها مثيلاً يف تاريخها الحديث؛ إذ قام العديد من
الدول العربية واإلسالمية؛ إما بقطع عالقاتها مع طهران ،أو تخفيض التمثيل الدبلومايس معها.
وتتصدى لتلك املشاريع الثالثة ،التي تسعى إىل ابتالع املنطقة
العربية وإن كان بدرجات متفاوتة ومتباينة.
هذا السرد املختصر لطبيعة العالقة بني إيران ودول املنطقة
ويف الحالة اإليرانية تحديدً ا ،تسعى طهران إىل بسط
يف فهم مراحل هذه العالقات ،واألهم من ذلك أنه يساعد
البديلة املرتبطة بها؛ مثل :ميليشيات حزب الله ،والحويث،
ومن بينها السعودية منذ انتصار الثورة عام 1979م يسهم كثريًا
القارئ عىل استشراف مستقبل العالقات بني العرب وبخاصة السعودية وإيران .ال شك أن الخالفات السعودية اإليرانية يف
أوجها حاليًا ،وأن املؤشر ال يزال تصاعديًّا ،فهناك ملفات ثنائية
هيمنتها عىل املنطقة العربية عرب أذرعها ،أو ما يسمى بالقوى
وامليليشيات املنتشرة يف العراق وسوريا ،وجماعات الشغب يف البحرين وشرق السعودية .إن مثل هذه التدخالت الصريحة يف ً نفوذا أو تمثل نموذجً ا مغريًا الشؤون الداخلية للدول ليست
معقدة ،وهناك ملفات إقليمية أكرث تعقيدً ا .لكن ال بد أن
لشعوب تلك الدول ،وبالتايل ال يمكن القول بقبول مثل هذه
وبعيدً ا من أي مفاجآت إيجابية أو سلبية يف طبيعة العالقة
الكربى يف املنطقة .املؤكد أن من يروج لسياسة تقاسم النفوذ يف
ندرك أنه ال مستحيل يف عالم السياسة وخطوات الدبلوماسية.
التدخالت أو أنها تأيت يف إطار التنافس السيايس بني القوى
بني البلدين ،فإن املتابع لتصريحات الطرفني يصل إىل نتيجة ً فقدانا للثقة بني الجانبني ،وأن ذلك يتسع مضمونها أن هناك
التقاسم هو الدول العربية دون غريها ،فماذا عن تقاسم النفوذ
ويف مناسبات كثرية« :نريد من إيران أن تتحول من األقوال إىل
لها؟
يومً ا بعد آخر .لقد كرر املسؤولون السعوديون جملة واحدة
األفعال» .بعبارة أخرى ،تريد الرياض من طهران أن تتصرف كدولة وليس ثورة طائفية يسعى الساسة هناك إىل تصديرها
108
العربية عسكريًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا إىل صياغة مشروع عربي ّ تلتف حوله األمة العربية ملواجهة التحديات الجيوسياسية،
إىل دول املنطقة ،تريد من طهران أن توقف دعمها لإلرهاب يف الداخل الخليجي والعربي ،تريد من طهران أن تتوقف عن التدخل يف الشؤون الداخلية لدول املنطقة ،وتتوقف عن زرع الخاليا التجسسية وتهريب األسلحة والعزف عىل الوتر الطائفي. ً نفوذا أما طهران فما زالت تنكر كل ذلك ،وتزعم أن هناك
وليس تدخلاً إيرانيًّا يف تلك الدول ،وشتان بني هذا وذاك، وهذا يعني أن النخبة الحاكمة يف طهران لم تدرك جدية
املوقف السعودي وال حقيقة حزم الرياض يف املرحلة الحالية. ً أحيانا للعاصفة ،لكنّ تحاول طهران أن تنعّ م لغتها وتنحني
السعوديني أصبحوا يفهمون إيران أكرث من أي وقت مىض ،ومن
هنا عىل طهران املتميزة يف اللعب عىل رقعة الشطرنج أن تعيد حسابات خطواتها وإسرتاتيجية تحريك أحجارها عىل خريطة املنطقة؛ ألن التمادي يف تجاهل الواقع قد يكلف النظام اإليراين
الكثري عىل عدة أصعدة.
شتان بني الهيمنة والنفوذ
املنطقة بني إيران والسعودية يتجاهل حقيقة كون ميدان هذا مع إيران يف دول أخرى ترى طهران أنها بمنزلة الباحة الخلفية إن التنافس السيايس وبسط النفوذ يكونان ناجحني من
خالل النماذج التنموية واالقتصادية والسياسية ،وليس من
خالل العزف عىل النزعات الطائفية واملذهبية ،والعمل عىل زعزعة أمن الدول واستقرارها .ينبغي تذكر أن العالقة بني
إيران والسعودية خالل الحقبة البهلوية كانت تتسم بالتنافس السيايس يف بعض مراحلها ،ولكن ظل ذلك التنافس يف نطاقه
السيايس بعيدً ا من إقحام الدين أو املذهب ،أو ما يسمى ً أيضا باإلسالم السيايس إال أن األمر شهد تحولاً كبريًا بعد ثورة 1979م؛ إذ استخدمت طهران تلك األساليب غري املباشرة يف تنافسها أو صراعها مع دول املنطقة العربية والسعودية تحديدً ا .حاليًا نجد أن طهران تروّج من جانب لتحسني
العالقات مع الرياض ،ومن جانب آخر نجد قيادات عسكرية ورمو ًزا سياسية وحزبية تهاجم اململكة وتشجع بشكل أو بآخر عىل العنف يف الداخل السعودي ،وإذا لم تتحول إيران من
ثورة طائفية إىل دولة طبيعية فإن محاوالت بناء الثقة بينها
ودول الجوار العربي لن تصل إىل نتيجة حقيقية وتوافق مستدام ،وإن شهدت تحس ًنا يف مرحلة تاريخية معينة فإنها لن تصمد كثريًا أمام أول اختبار حقيقي يواجهها .خالصة
يدرك الجميع أن هناك مشاريع إقليمية تحيط باملنطقة
القول :ليس من صالح الرياض أو طهران استمرار حالة التوتر
املشاريع أدوات ووسائل ،بعضها بارز وبعضها أقل وضوحً ا،
وتنام ومنطقة الشرق األوسط تحديدً ا من مهددات أمنية، ٍ للجماعات اإلرهابية الشيعية والسنية عىل حد سواء ،إال ً خطوطا حمراء من الصعوبة بمكان التنازل عنها أو أن هناك
العربية ،كاملشروع الرتيك واإلسرائييل واإليراين ،ولكل من هذه
كما أن هناك تقاطعات ومشرتكات بني بعض هذه املشاريع من ناحية الرؤى واألهداف ،وإن اختلفت الوسائل واألدوات .من
هنا تحتاج منظومة دول الخليج العربي التي تقود حاليًا الدول العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
القائمة حاليًا ،وهذا الصراع السيايس يف ظل ما يشهده العالم
التساهل مع من يحاول تجاوزها.
السعودية وإيران
ال ضوء في آخر النفق تشهد منطقة الشرق األوسط حربًا باردة على صفيح
ساخن منذ ما يزيد على عقد من الزمن ال تختلف كثي ًرا عما شهدته المنطقة في حقبة الخمسينيات والستينيات من
القرن المنصرم .وتعد السعودية ومعها دول الخليج القطب الرئيس في الصراع مع إيران والذي يتباهى بتسمية نفسه: قوى الممانعة.
البعد الطائفي :يخطئ من يظن أن الصراع القائم بين
السعودية وإيران مرده صراع مذهبي أو عقائدي صرف .مع أن
قطبي الصراع يمثالن اإلسالم السني بالنسبة للمملكة العربية
البدر شريف شيخ الشاطري أستاذ السياسة في كلية الدفاع الوطني باإلمارات
السعودية وإيران تحمل راية المذهب الشيعي االثني عشري،
إال أن الصراع في مجمله صراع جيوسياسي يتدثر في كثير من األحيان بلباس طائفي وعقائدي .مع أن الهوية الطائفية اكتسبت دورًا متقدمً ا منذ الغزو األميركي للعراق وسيطرة
التيارات الشيعية السياسية على مقاليد األمور؛ حيث تم إقصاء الطائفة السنية التي كانت تتحكم في البالد منذ أن بزغ
العراق الحديث تحت القيادة الهاشمية في عشرينيات القرن
الماضي.
الصراع الجيوستراتيجي :لعبت المملكة العربية ً موازنا إليران إبان حكم الشاه في صيغة السعودية دورًا
حفظت أمن واستقرار الخليج .ولكن الثورة اإليرانية قلبت ذلك التفاهم السائد .وقد بشر نظام الخميني بتصدير الثورة
إلى خارج إيران .ولعل الحرب اإليرانية العراقية التي استعر أُوارها ثماني سنوات ولفحت تداعياتها بقية دول الخليج، أوقفت النزعة إلى تصدير الثورة ،ومهدت إلى انقسام في
الرؤى اإليرانية بين إيران الثورة وإيران الدولة.
الجمهورية الثانية وصعود التيار البراغماتي واإلصالحي
تزامنت عوامل أدت إلى ما يمكن تسميته بالجمهورية
الثانية ،وتغلب تيار الدولة على الثورة .العامل األول يكمن في قبول إيران وقف إطالق النار مع العراق عام 1988م ،والعامل الثاني تغييب الموت لمؤسس الجمهورية اإلسالمية اإليرانية الخميني عام
1989م ،وأخي ًرا انتخاب الرئيس البراغماتي أكبر
هاشمي رافسنجاني إلى الرئاسة اإليرانية عام 1989م .وكان لهذه العوامل أثر في أن تقنع النخبة اإليرانية والشعب اإليراني بعبثية تصدير الثورة ،وأن إيران بإمكانها تحقيق نظام
إسالمي من خالل اتباعها نهجً ا
براغماتيًّا وتحسين عالقتها بجيرانها
العرب .وقد عزز من هذا التوجه صعود التيار
اإلصالحي بقيادة سيد محمد خاتمي عام 1997م .وقد شهدت
109
قضايا
حقبتا حكم رافسنجاني وخاتمي تحس ًنا وانفراجً ا في العالقات السعودية اإليرانية .وقد قامت الرياض بتنسيق سياستها
النفطية مع طهران لوقف تدهور أسعار النفط في األسواق العالمية؛ ويدلل هذا التعاون على استعداد الطرفين للتعاون إذا ما تطلبت المصالح اإلستراتيجية ذلك .ويدل هذا التعاون
على محدودية العامل الطائفي في تفسير حدة المواجهة بين السعودية وإيران .فقد شهدت التسعينيات وبداية األلفية أحسن حقبات العالقات السعودية اإليرانية منذ سقوط الشاه. تغير السياق الدولي :كان ألحداث سبتمبر 2011م اإلرهابية
أثر كبير في تغير السياسة األميركية في المنطقة .وقد تبنت
إدارة بوش حينها سياسة تغيير األنظمة في المنطقة .وقد
األميركي الذي أزاح عن كاهل طهران نظامين معاديين في كابول المتمثل في طالبان ونظام صدام حسين في بغداد
مع إيران مفتوحة على مصراعيها.
تتنازع السعودية وإيران على عدة قضايا في المنطقة
تشكل لب ديناميكية النظام اإلقليمي .ولعل من أهم هذه القضايا اإلقليمية الصراع في اليمن الذي دخل فيه مجلس
استهلت اإلدارة األميركية سياستها الجديدة بقلب نظام الحكم في أفغانستان أولاً ،والعراق ثانيًا بالتعاون مع إيران.
التعاون الخليجي في مواجهة مع الحوثيين حلفاء إيران.
في فهم اإلشكالية الرئيسة في المنطقة التي تسببت في
في حالة وقوعها في دائرة النفوذ اإليراني .وتحاول دول
وقد ابتعدت واشنطن من الرياض؛ بسبب اختالف الطرفين
تفشي ظاهرة اإلرهاب وبروز تنظيم القاعدة.
وتعد دول الخليج اليمن حديقتها الخلفية ومصدر تهديد المجلس من خالل تدخلها المباشر في اليمن منع تكرار
وقد وجدت إيران ضالتها في االندفاع األميركي الذي أزاح
الحالة اللبنانية من توسع نفوذ ميليشيا مسلحة موالية
ونظام صدام حسين في بغداد .كما أن أنصار إيران من الطائفة
التي أضحت بال شك ميدان صراع إقليمي ودولي .وثالثة
عن كاهل طهران نظامين معاديين هما :طالبان في كابول،
110
وجدت إيران ضالتها في االندفاع
الشيعية تقلدوا مفاصل السلطة في العراق بعد سقوط
النظام البعثي في العراق .وما فتئ هذان المنجزان يمنحان إيران مجالاً واسعً ا في أن تتوسع غربًا عبر تعزيز نفوذها في
إليران على مقدرات البالد .والقضية األخرى تتعلق بسوريا األثافي لبنان حيث تمارس إيران نفوذها فيه من خالل حزب
الله اللبناني .والحال ال يختلف بالنسبة للعراق؛ إذ تتدخل إيران من خالل حلفائها العراقيين ،وتمارس سلطتها على
العراق وعبر شبكة من العالقات مع جماعات تعادي األنظمة
الشأن العراقي .وقد أدى تصاعد المواجهات بين السعودية
الشيعية في البحرين ،وحماس في فلسطين ،إضافة إلى
بعض دول مجلس التعاون السعودية في اتخاذ خطوات
الخليجية أو حلفاءها؛ كحزب الله في لبنان ،والمعارضة التحالف اإلستراتيجي مع سوريا الذي تجاوز أربعة عقود. شتاء الغضب أو ربيع العرب
وإيران إلى القطيعة الدبلوماسية بين البلدين ،وقد ساندت
دبلوماسية مثيلة أو مقتربة من الرياض.
إال أن دول مجلس التعاون تختلف في إدراكها لمخاطر
التدخل اإليراني في الشؤون العربية؛ فاإلمارات والبحرين
أدت هذه التطورات إلى قلق دول الخليج ،وباتت
تساندان بقوة الموقف السعودي تجاه إيران؛ بينما تتخذ ً موقفا مواربًا ،أما عمان فإنها تتمتع بصداقة الكويت وقطر
من الدول العربية التي عرفت بـ«الربيع العربي» من حساسية
تمر العالقات السعودية اإليرانية بأصعب مراحلها نتيجة
تتوجس من التوسع اإليراني إلى قلب العالم العربي .وقد
ً أصقاعا كثيرة زادت االضطرابات التي بدأت في تونس وعمت دول المنطقة األمنية .ويبدو أن إيران أرادت أن تصطاد في
الماء العكر وأطلقت تصريحات بأن الثورات العربية ما هي إال امتداد للثورة اإلسالمية في إيران .بيد أن اقتراب االضطرابات
إلى ضفاف الخليج في البحرين وتدخل إيران في الشأن الداخلي لمملكة البحرين تحت دواعي نصرة المستضعفين
الشيعة أجّ ج الصراع بين الرياض والعواصم الخليجية وطهران .ولم تر السعودية واإلمارات بدًّ ا من التدخل
العسكري إلعادة االستقرار إلى البحرين .وأصبحت المواجهة العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
جيدة مع إيران.
لتغير البيئة الدولية واإلقليمية .وال يبدو أن هناك ضوءً ا في
نفق العالقات الثنائية بين البلدين .وال شك أن هذا الصراع اإلقليمي يلقي بظالله القاتمة على مجمل قضايا المنطقة،
ويعمق الشرخ الطائفي ،ويغذي المواجهات اإلقليمية.
ولكن ليس من المستحيل أن تتالقى مصالح األطراف في
الخليج على المدى المتوسط مرة أخرى كما حصل في حقبة التسعينيات؛ إذ باإلمكان أن يكون الخليج العربي أداة وصل
ال فصل ،كما يقول أحد الدبلوماسيين في اإلمارات.
نصوص
أكنت أنا؟ الرجل الذي سمي باسمني اثنني باملجاز ،لم يكن باستطاعته ً موزعا بني «الهُنا» و«الهُناك» ،وواقع أن يكون أحدهما كاملاً ! فبقي
سوريايل يجري عىل مبعدة خطوات قصرية منه ،يف املدينة التي ّ علمت العالم األبجدية. ينبت له شاربان خفيفان بخطني صغريين ناعمني كزغب
طيور وُلدت للتو ،بلون أشقر أو أصفر يشبه رأس سنبلة قمح شمس آب ..وجهه طوالين ،أنف صغري بفعل أشع ِة متوهجة ِ ِ مدبّب ،بعينني حاملتني ناعستني ترنوان نحو أفق بعيد تطوقه
أسالك حديدية شائكة غليظة ،لن يتمكن حتى الطري يف سمائه
السابعة أو الثامنة ،من التوقف فوقها ذات فجر.
«إلهي :ارفع عني هذه الكأس!» ..سيقول ذات صباح أحمر
نهض فيه متأخرًا عىل غري ما اعتاده يف سابق أيامه ولياليه ،ولم
لحلم عود ٍة انتظار يجد مدينته ..مدينة إقامته هذه املؤقتة ،يف ٍ ِ مباغتة طال سرابها .يتذكر توسل «السيد» ورجاءَه لربه «له املجد
يف عاله» يف وقت يشبه وقته هذا تمامً ا! ينظر إىل املدينة ،صباحها
جميلة عمايرة قاصة أردنية
هذه املرة وتصفعه عىل وجهه صفعات لم يعد يتذكرها لقسوتها، وتعيده ثانية تحت سمائه املقيمة هذه.
سيبيك .سيبيك كثريًا تحت سماء مدينته التي لم يتعرف إىل
ساعات مرت ساعات ال تشبه غريها من مالمحها هذا الصباح ،يف ٍ ٍ لاً عليه ،تحت سمائها املختنقة بـ«طائرات امليغ» محاو أن يحتفظ بسماء املدينة الذي اعتاده ،عاريًا مشلوحً ا متوسلاً لرب السماء «له املجد يف عاله» .يف هروبه أو لجوئه نحو اسمه الثاين ،يحاول التذكر ليكتب عن هول ما جرى منذ عام -أقل أو أكرث قليلاً -لم
يعد يتذكر ،ثمة شقوق يف الذاكرة وفيما يجري اآلن من عام 2012م. سيكتب عن هول ما جرى ،وما يجري .عن مدن يحنّ إىل رؤيتها يف الحب أو الحرب .الحرب التي يحاول تأجيلها عىل طريقته هو« :أيها الجندي تمهل قليلاً ،تمهل كثريًا ،دع املطر يتساقط من سماء
ضاحكة ليبلل روحي ،دع نظرة عي َن ّي تقف عىل بيت صغري يغفو
أسفل بطن الجبل ،وعىل ياسمني لم يتفتح بعد .عندها فقط ربما ُ ُ «ظننت أن «لست بجندي» ،يقول: عليك أن تطلق رصاصتك!». شغفي بالسهول ،وبالياسمني ،والنارنج ويوسف أفندي ،والبحرة
املعتم بسواده.. رفاته املدينةُ عىل مبعدة يرى موقع «املعمداين» الذي ضمت َ بعد أن ّ بشر بـ«سيده» وآمن به ولم يره قط .املدينة نفسها التي
خيالها ذاكرة ال تقيم ،ويف ليلة عاصفة ومعتمة محته «أثرًا بعد
النحيلة سوى رجاء «السيد» لربه وتوسله يف محنته ..املدينة نفسها
يجد غري حبات سوداء صغرية برؤوس فارغة! عندها أصبح قلبي
لم يتعرف إىل وجهها يف هذا الصباح ،فلم يجد ما يسند قامته حدث مباغت وللمرة األوىل منذ خمسني عامً ا أو أكرث أو أقل، ويف ٍ
ستقذفه! يتذكر األمر اآلن يف هذه الساعة بمدينته التي ال تشبه ساعات غريها ..ستقذفه نحو األفق املسيج باألسالك الشائكة، نحو حلمه الذي يرنو إليه القلب قبل العني طويلاً ،ذلك أنه لم ً خطفا سريعً ا ومرغمً ا نحو املدينة نفسها، يتوقع أنه سيعود
كخروجه تمامً ا ..سيعود ،إال أنه يف هذه املرة سيخلف قلبه وراءه. ً ثانية باسمه الذي يحب ،والذي يحاول أن يكونه ستقابله املدينة ً عبثا .ستأخذه من يده ،ستأخذه
عند مدخل بيتنا القديم ،سينقذين مني ومنك» .لكن طواحني هواء
عني» ،فاشتهى الطحان الغايف قمحً ا من غري زؤان لطحنه! لكنه لم برئًا أصابه حجر يف عمقه ،فظن أنه أمل تناثر ماؤه وتوزع ليحضن الياسمني والبيت أسفل الجبل ،أو ذاك البيت الصغري الذي ّ مل انتظاره يف «جادة العائدين» ،بالقرب من ثانوية البنات ،يف املدينة
التي تقتلني وتقتلك ،إال أن الظن خاب واندثر .هي عاطفة لم أتبني آثارها بعد .ذلك أنني ربطت قلبي من وسطه بحجر (يجيبه بأحد اسميه) يك ينىس حنينه أو ال يتذكر .تجاهلت األمر بزراعة
الصبار يف طريق عودة مرتقبة ،إال أنني أضعت طريقي بني أشجار كثيفة ويابسة قرب نبع جف ماؤه فنشف ،ليبقى الحىص يف مكانه
ْ واعرتضت كشاهد فزاعة! منذ ذلك الوقت استوقفتني األحالم
بعيني طريقي يف حقول العودة املليئة باألشباح والعتمة ،ألرى ّ املغمضتني الرجل مي ًتا وسط األعشاب الضارة وقد دخل عامه األلف أو يزيد ،وما يزال يحتفظ بخاتم يّ فض حال لونه ْ واص َفرّ،
ومفتاح قديم أسود .هل كنت أنا؟ أم كان هو؟ أم كنا االثنني معً ا؟ بت ال أعرف شي ًئا وال ّ أم أنا باسمَ ّي االثنني؟ ُّ أتذكر.
111
مقال
اللغة والمنفى: أسماء الشجرة لإلنسان وطن واحد ،وهو المكان الذي نشأ فيه ،غيره ليس سوى
ناف مهما كانت جميلة وخيرة وآمنة ،لإلنسان لغة واحدة وهي لغته مَ ٍ
عبدالعزيز بركة ساكن روائي سوداني يقيم في فيينا
األم غيرها ليس سوى غربة ،مهما أجادها وأحبها وعايشها تظل هشة ومنغلقة ومربكة وال تعطي نفسها .وهذا ال ينفي أن يكتسب اإلنسان
هُ ويّات كثيرة في مسيرة حياته الطويلة الممتدة إلى ما ال نهاية،
تتقاطع وتتوازى وتحترب الهُويّات في ذاته ،مثلما لك أمّ واحدة أنت ً أيضا واحدٌ ،وستظل واحدً ا لألبد في تعدد هُ وياتك وحيرتك ويقينك الممسوخ.
أزمتي األم هي اللغة ،وهي دائمً ا ما تفضحني ،لغة األشياء كلها:
112
الشوارع ،والمعمار ،واألشجار ،واألزقة ،والطيور ،والجعارين، والسحالي ،لغة العمل لغة الفصول والزمن لغة الديانات والمعارف
األكاديمية لغات الروح ولغات اإلنسان ولغات الجسد العصية.
إلي الطريق كعادته ،ولكنني أظل غبيًّا عندما أم ّر بشارع ما ،ويتحدث ّ متبلدً ا ،ال أستطيع أن أفهم لغته ولو أنني أسمع صوته ،وألنني ال
أعرف معادلة بناء لغته وال موسيقا كلماته :متى أنشئ أول مرة هذا الطريق ،من هو أول من مشى به ،وكيف كانت هيئته األولى ،هل كانت هنالك غابة تم بترها ،هل كان يمر على شاطئ ُنهير ما ابتلعته
األمكنة واألزمنة ،شربته نوائب الدهر ،أو لحسته الشمس ،هل كانت
بيت في العراء، المنفى ٌ ومسخ للمكان وقطع للغة، ٌ ٌ وجرح في في الروح، ُ الذاكرة ،المنفى أن ال تكون لك صلة ِبك ،وتظل مثل الثعبان الذي يبتلع نفسه
ترتاده األرانب أم الثعالب أم الضباع ،هل بنت على أرضه الطيور أعشاشها ،وحلقت فوقه النسور ،من الذي أطلق عليه هذا االسم،
إلى أين يقود ،ومتى ينتهي في أي بيت أم نهر أم بحر؟ في مدينتي أعرف كل تلك اإلجابات ،وبالتالي أعرف لغة الطريق ،وسنتبادل الحوارات ،ونختصم ،ونلعب ً أيضا ،وأستطيع أن أختبئ في أحد أزقته إذا داهمني خطر أو مطر أم حنين .أزقته التي سوف يهمس بها
إلي في أذني ،بلغتنا التي نعرفها. ّ
عندما أشاهد معمارًا في هذه المدائن ،قد أعرف أنه غوطي أو
إلي إليزابيثي أو روماني أو ألي عصر ينتمي ،ولكنه عندما يتحدث ّ فإنني ال أستطيع أن أراه؛ ألنه يتالشى في الريح أم ينمسخ في لغاته،
أو يصبح شبحً ا ال مكان له وال لون وال رائحة أو روح له ،شبحً ا عظيمً ا العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
يختفي في عدم األشياء واللغة ،فالعالقة المكانية التي كانت ستشكل مقعدً ا جميلاً للحوار ال توجد بيننا اآلن ،إنه جدار
اللغة :من ومتى وكيف وأين ولم ولماذا وبمَ وفيمَ ؟ المكان الذي ال ينتمي إليك ال تجيد لغته ،وال يمكنك أن تنتمي إليه.
وإال تعبر مثل سائح في يدك خارطة وفي أذنك ترجمان وفي فمك أسئلة عصية صماء .عندما أتحدث مع أحد أصدقائي بلغته ،فإنني ال أتردد في استخدام كلمات كثيرة من لغتي األم ،نعم قد أفعلها بدون وعي ولكنني بالتأكيد في ال وعي
أريد أن أتحدث إليه باللغة التي يمكنه أن يراني بها ،وإال أصبحنا كشبحين ،عندما أريد أن أكون مفهومً ا مثلما هو علي ً أيضا أن أحدثه عن بلدي وأرضي وشعوبي وحيواناتي وثعابيني ،وأن أقول له :ما هي أسماء الشجرة. عبر لغتهّ ، اآلن يبدو واضحً ا جدًّ ا لماذا يحتفظ المنفيون والغرباء في بيوتهم بزيهم القومي ،لماذا يصرون على أكل أطعمتهم
الوطنية وهم في أقاصي األرض ،لماذا يصرون على االحتفاظ بأسمائهم بل أن يطلقوا أسماء ألبنائهم الذين ولدوا في ً ً وإمعانا في القطيعة ،بل هي محاولة للتحاور إغراقا في التغريب المنفى نفس أسماء أمكنتهم األم ،فالمسألة ليست
ً إمعانا في الظهور واالنسجام ،هي محاولة للحب مع المكان واإلنسان الجديدين في بالد المهجر ،هي محاولة أكثر
والمشاركة .إنهم يرغبون في أن يراهم اآلخر أكثر وضوحً ا ،أن يعرف عالماتهم ويقرأهم جيدً ا ،فإنها مسألة لغة ،أي
أشكال ترميز بحت .فالغريب شخص ال يمكن رؤيته إال بفك شفرات لغته.
هذه البالد التي أقيم فيها اآلن ،تلك البالد الجميلة التي يأتي إليها السائحون من كل بقاع األرض ،وهم مصدر
دخلها األساسي ،البالد التي قدمت لي األمن والسالم والظل ،لم تستطع أن تقدم لي مفتاح لغتها ،ولن تستطيع ذلك ،وال أستطيع أن أتحمل أنا ً أيضا ذلك ،فاللغة شاسعة وتحتاج لميالد جديد على األرض مباشرة ،تحتاج لنشأة قد تستمر إلى ما ال نهاية ،فالذين يعرفون اللغة تراوح أعمارهم ما بين اليوم األول لنشأة الكون ،وهذه اللحظة التي نعيشها هنا واآلن ،فاللغة ال ُتعلم وال ُتدرس ،وإذا مضى قطارها فال مُ درك له ،فعندما تنمو الشجرة فإنها تسجل لغتها يومً ا بيوم في طبقات حياتها ،فهي تقرأ ما حولها بعينين مبصرتين وبقلب عارف ،كما ال يستطيع أن يعود النهر إلى مصبه ،ال يمكننا قراءة الشجرة في لحظتنا هذه ،وال يمكن إضافة تاريخنا الحالي إلى اليوم األول في سجلها ،هل
سنكتفي بحوار الطرشان؟
ٌ المنفى ٌ ومسخ للمكان في الروح ،وجُ رح في الذاكرة ،المنفى أن ال تكون لك صلة بيت في العراء ،وقطعٌ للغة،
بِك ،وتظل مثل الثعبان الذي يبتلع نفسه :يبدأ ذلك عادة بالذيل .هل قلت :هذه البالد جميلة؟ ولكنني ال أعرف أنها إلي ،لم تقل لي طيورها ذلك ،لم تهمس لي شجيراتها ونساؤها وأطفالها بسر الكالم .أن تعرف جميلة ،طالما لم تتكلم ّ لغة األشياء يعني ذلك أنك في المكان الصحيح ،وإذا ناديت بصوت حقيقي وجميل فإن أمك ستجيب النداء ،ولو
كانت في قبرها الذي في السماء ،أما إذا كانت في حجرتها أو في بيت صحيباتها ،فإنك تستطيع أن تطعم مما صنعته يدها في ُظهر هذا اليوم .من يقول :إن اإلنسان كائن عالمي ال يعني بالطبع أن تنمو شجرة الطلح في قمة األلب ،وال أن تعيش الحيتان في نهر النيل .إن ذلك يعني ببساطة قيم الخير والجمال والشر ً أيضا ،وهي القاسم المشترك بيننا وبين
اآلخر ،وذلك ما بعد األيديولوجيا والديانات ،قيم الخير والشر التي تخص البقاء ،ما يدركه الحيوان والنبات واإلنسان من أجل أن يبقى :لغة الصمت.
لديّ أصدقاء كثر ،ولديّ مكانٌ محش ٌّو بذاكرتي ،وطفالن وزوجة ،وفيه مطعم تشم منه عبق :الكول والمصران
والويكة وأم تكشو ،به الدوم والصمغ العربي والكركدي والمرس واللوبة البيضاء ،إنني أحاول أن أكون واضحً ا
ومقروءً ا لآلخر ،بمكتبتي :تاريخ السودان الحديث ،وكتب األستاذ محمود محمد طه وشيخي محمد محمود ،وتقريبًا ً حديثا وقديمً ا وليلى البلوشي ،وألف ليلة وليلة باأللمانية والعربية ،وعابد صف كامل من تحقيقات األدب العماني
الجابري ،وإبراهيم إسحاق ،ومنصور الصويم ،ونميري مجاور ،وفي بيتي كتاب الطواسين للحالج ،وجلباب َ وع َّراقِي ومركوب سوداني ،وعلى سطح الكمبيوتر يُوجد الفيسبوكً : إذا في بيتي لغتي .ثالث سنوات مما يعدون في المنفى، ألف عام من الغربة ،وخراب الذاكرة ،وتفسخ اللغة بحساب الروح.
113
شخصيات
عبدالله العثيمين: محددات الشخص ومكونات النص
إبراهيم بن عبدالرحمن التركي كاتب سعودي
114
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
ُ ُ ُ ورحلتها الحياتية المجردة ،أما وبيئتها تكوينها «يعني الكاتب بالشخص ذات المبحوث من حيث ً سلوكا وتفاعلاً ومواقف». النص فهو ناتج هذه الشخصية محددات الشخص :البيئة والتكوين
َ عاش اثنين وثمانين ً يرض عاما مألى بعصامية نادرة نقلته من دائرة مغلقة إلى مدار مفتوح ،فلم َّ ْ ً ُ متحكما في ظاهره؛ فبدت سيرته الممتدة اإلنسان في داخله وظل ينقد إلى اندالق، بانغالق مثلما لم
ً ً ً ً مرتبطة مؤمنة بمبادئه ،وهو ما يجعل قراءة عبدالله العثيمين مستجيبة للتحديات، موصولة بجذوره، ً أسس أسهمت في تخليق معالمها وهي: مستندة إلى ثالثة بمحددات شخصيته البسيطة المركبة ٍ * االنتماء والمبدئية. * التحدي واالستجابة. * التربة والتربية. ً ولعلنا نحاول اإللمام بهذه المحددات التي تكشف جوانب فاصلة في مسيرة األستاذ الدكتور عبدالله الصالح العثيمين (1437 -1355هـ2016 -1936 /م) أولاً -التربة والتربية
ينتمي عبدالله بن صالح بن محمد بن سليمان بن
عبدالرحمن العثيمين إلى فرع الوهبة من بني تميم مجتمعً ا في االنتماء َ القبلي مع الشيخ محمد بن عبدالوهاب ،وهو الشخصية
مواز؛ فعمل في التجارة من جانب ،وضرورة الكدح من جانب ٍ المبتدئة مثلما واصل دراسته برفقة قرناء مقبلين على العلم
ومهتمين بشؤون األدب ومتابعين لألوضاع السياسية المحلية
والعربية والدولية؛ فالتأمت تربة القبيلة واألسرة والمدينة
التاريخية التي اختارها العثيمين لتكون مدار بحثه في الدراسات العليا ،ومجالاً لبعض تآليفه في مرحلة ما بعد الدكتوراه،
العثيمين ومواقفه الوطنية والعروبية واإلسالمية ،وإذا أضفنا
مباشر لهذه الجذور في تكوينه الثقافي ،مثلما تأثير ينفي وجود ٍ ٍ ُّ ينفك عن مجتمع ال يشير إلى بعدٍ مهمٍّ في دائرة َنس ِبه ضمن ٍ
من نابه مثله أن يتقن اللغة العربية ،ويلمّ بالعلوم الشرعية، ً ومتحدثا مفوهً ا منذ ويتخصص في التاريخ ،ويبرز شاع ًرا وكاتبًا
مؤكدًا أنه يفكر خارج الصندوق بما قدمه من أبحاث عنه مما
واألصدقاء في تكوين تربوي متوازن وضح تأثيره في فكر الدكتور
إليها نشأته في مدينة كانت سيمياؤها علمية وثقافية فال غرابة
تعن للدكتور شي ًئا ذا بال بحكم تحرره من توثيقها ،وإن لم ِ مداراتها الضيقة ،وإيمانه بنفسه وأسرته الصغيرة المكونة من
1952م) ،ويترجَ م له في كتاب (شعراء نجد المعاصرون) للشيخ
نفسها ،وانتسابه من جهة والدته (سليمان ،وحمد) زاوال التجارة َ
في بريطانيا منتصف الثمانينيات الهجرية (الستينيات الميالدية).
مكافح زاول التجارة في الرياض وعنيزة ُ وعرف بورعه ،وعمَّين أب ٍ ٍ إلى جده الشيخ عبدالرحمن السليمان الدامغ الذي كان معلمً ا ُ «الخريزة» الذي يعد للقرآن الكريم ،وإمامًا للمصلين في مسجد
من أقدم مساجد مدينته ،ويعود تأسيسه إلى النصف األول من القرن الثالث عشر الهجري (في حدود عام 1230هـ أو قبل هذا التاريخ بقليل) ،وقد خلفه في التدريس واإلمامة ابنه (خال
الدكتور عبدالله) الشيخ سليمان بن عبدالرحمن الدامغ ،كما
كان لتقارب عمره مع أخيه األكبر الشيخ العلم محمد الصالح
العثيمين (1421 -1347هـ2001 -1929 /م) دو ٌر في توجهه العلمي؛ فكان ُ األخ األكبر يصطحب األصغر لحلقات الشيخ عبدالرحمن
السعدي (1376 -1307هـ1956-1889 /م) ،ويكفي أن يعيش الصبي ً محاطا بقيمة العلم هذه األجواءَ العلمية والعملية ليجد نفسه
صغره ،فيشارك في نادي عنيزة الثقافي الذي أسس عام (1372هـ/ عبدالله بن إدريس عام (1380هـ 1960 /م) ،ويبتعث للدراسات العليا
ثانيًا -التحدي واالستجابة َ نسبة نظرية التحدي واالستجابة للمؤرخ البريطاني نعلم
أرنولد توينبي (1975 -1889م) حيث فسر عبرها صعود الحضارات
وسقوطها كما تمثلها في األفراد ذوي السلوك االنبساطي الذين
يستطيعون تجاوز الصعاب باستيعابها وعدم الوقوف عندها أو االستسالم لها بخالف غيرهم من االنطوائيين الذين يأذنون
للظروف القاسية أن تبدل مسيرتهم.
ولعل الدكتور العثيمين أنموذج بارز على الشخصية
االنبساطية التي لم تعش الترف فتحدّت الشظف ،كما تحدى
إبعاده عن التعليم في مرحلتين فاصلتين خالل دراستيه الثانوية
115
شخصيات
والجامعية فلم يستسلم ولم ينكفئ ،مثلما تحدى بواعث الوظيفة الميسرة حين تهيأ له أن يكون معلمً ا في المرحلة
االبتدائية بالمدرسة الفيصلية عام (1378هــ1958 /م)؛ إذ لم يمكث غير أشهر فيها بالرغم من توفيرها دخلاً معقولاً يمكن أن يكفيه
قصيدته الذائعة (عودة الغائب) التي سمّى بها أحد دواوينه
النتائج التي توصل إليها ،وكان يعرف صعوبة إقناع العامة بها،
الشعراء من أبرزهم :عبدالعزيز المسلم ،وإبراهيم الدامغ،
ويفيض ،وحين ابتعث اختار مركبًا عسي ًرا ال في بحثه فقط بل في ونشر الحقائق التي توصل إليها. لاً عاش عبدالله العثيمين التحديات طف وفتى وشابًّا ،وال ينكر دور كثيرين في حياته من خارج أسرته ،وال ينسى في أحاديثه
وكتاباته اإلشارة إلى ما قدمه له الدكتور عبدالعزيز الخويطر -رحمه الله1435 -1344( -هـ2014-1925 /م) من عناية ورعاية حتى قاسمه
مكتبه عندما عمل سكرتي ًرا له ولمجلس الجامعة الوليدة (جامعة الملك سعود) التي ُفصل منها بسبب انتقاده مناهجها التعليمية في اللغة العربية وعودته إليها مغ ّي ًرا تخصصه ومتجهًا نحو دراسة
التأريخ.
ً ثالثا -االنتماء والمبدئية
كان عمر الدكتور العثيمين ثالث عشرة سنة حين اغ ُتصبت
فلسطين عام 1948م ،وفي عمر مقارب بدأت حركات التحرر
116
مهمتين في البحوث والدراسات واإلبداع. ويتجلى انتماؤه متمثلاً في عشق وطنه الكبير وحب مدينته
العربي من االستعمار اإلنجليزي والفرنسي واإليطالي؛ ففي عمر
السابعة استقلت لبنان عام 1943م ،وفي العاشرة سوريا واألردن عام 1946م ،وفي الحادية عشرة شرعت ليبيا في االستقالل عام
1947م ،كما تزامن العدوان الثالثي عام 1956م مع استقالل السودان وتونس والمغرب وعمره لم يتجاوز العشرين؛ فاستيقظت
مشاعره العروبية وأيقظت شاعريته ،وكان للثورة الجزائرية التي توجت باستقاللها عام 1962م دورها في حفز نصوصه وإيقاظ
الصغيرة التي قال فيها أعذب النصوص والمقاالت ،وأشه ُرها
العشرة ولقيت أصداءً واسعة حين نشرها ،وعارضها جمع من
وعبدالله السناني ،وعبدالرحمن السماعيل ،وكانت مناسبتها عودته من المغترب األسكتلندي عام (1392هـ1972 /م) ومطلعها: ُ طربت ماذا على المشتاق إن طربا ٌ لحظات نحوهن صبا ! لما دنت وفيها: ُ مثلي بالفيحا تعلقه مَن كان َ
فال غرابة إن عانى وال عجبا **
وإن تأملت أزياءً تتيه بها َ البرحي والعنبا وجدت من بينها َّ
وتالحظ معارض ُته في هذا النص قصيدة نزار قباني الشهيرة
(من مفكرة عاشق دمشقي) التي كتبها عام 1971م ومطلعها: ُ فرشت فوق ثراك الطاهر الهُدبا ُ فيا دمشق لماذا نبدأ العتبا؟ وفيها:
هذي البساتين كانت بين أمتعتي
ُ ارتحلت عن الفيحاء مغتربا لما **
فال قميص من القمصان ألبسه إال وجدت على خيطانه عنبا
مكامن ذاته المتوهجة بحب األمة والخوف عليها ،ولعله الشاعر ً عناية بقضايا العرب المصيرية المتصلة باالحتالل والكاتب األوفى
فالتشابه جلي في الوزن والقافية والموضوع وبعض
التي بعث بها إلى صحيفة الجزيرة؛ حيث استقرت كتاباته األخيرة
وفيما جمع نزار بين المحورين الوطني والعروبي اقتصر
ً مخلصا للقضية الفلسطينية حتى خاتمة أعماله الصهيوني ،فظل كل يوم اثنين قبل أن يتوقف في عمر الثمانين حين غلبه المرض.
ظل العثيمين ملتزمً ا بمبادئه العروبية وانتمائه اإلسالمي ً ومتحدثا لم يحد عنها ،وقد تخلى األكثرون عن كاتبًا وشاع ًرا
قضية فلسطين خاصة ،وقضايا التحرر من االستعمار الجديد عامة؛ فلم يخن ضميره ولم يبدل هُ ويته ،وال يخفى هذا المحدد في موقفه من اللغة العربية وخوفه عليها وحرصه على التمسك
بها أمام اللغات األجنبية واالحتفاء بالعامية مع أنه شاعر مجيد
بالفصحى والعامية ،وله مواقف مأثورة في رفض الزحف األجنبي ً مضادة والعامي على لغة القرآن الكريم ،وكثي ًرا ما أخذ مواقف ممن يراهم يقدمون اإلنجليزية أو يحتفون باللهجات العامية على حساب الفصحى وإن رآهما (اللغة األجنبية واللهجة العامية) العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
المفردات (الفيحاء – العنب – اللباس واألزياء -االغتراب)، العثيمين على المحور الوطني ،ولعل أحد المختصين يلتفت
ملتزما بمبادئه ظل العثيمين ً كاتبا العروبية وانتمائه اإلسالمي ً وشاعرا ومتحد ًثا لم يحد عنها وقد ً تخلى األكثرون عن قضية فلسطين خاصة ،وقضايا التحرر من االستعمار الجديد عامة؛ فلم يخن ضميره ،ولم هويته يبدل ُ
عبدالله العثيمين :محددات الشخص ومكونات النص
لدراسة النصين الجميلين دراسة مقارنة ،ومن وحي بحرهما
السعودي بأدواره الثالثة ،ومنها كتبه وتحقيقاته وترجماته:
وأسماه( :غيبة العائد): َ َ رحلت ماذا على الموجوع إن عتبا
تاريخ المملكة العربية السعودية – الشيخ محمد بن عبدالوهاب:
وقافيتهما جاء نص صاحبكم الرثائي بعد رحيل العثيمين
تاريخ المملكة العربية السعودية -بحوث وتعليقات في
حياته وفكره -العالقات بين الدولة السعودية األولى والكويت –
تستجب والوع ُد منك كبا ناداك لم ْ
قراءة في كتابات عن تاريخ الوطن -قراءات في دراسات عن إمارة
بعود ٍة هل مضت تلك السنون هَ با أم أصبح العم ُر ً طيفا ال يصاحبُه
– نبذة تاريخية عن نجد – كيف كان ظهور شيخ اإلسالم محمد بن عبدالوهاب -لمع الشهاب في سيرة محمد بن عبدالوهاب -
َ وداع أي قافي ٍة غادرت دون ٍ
بوركهارت عن الخيل واإلبل العربية – مواد لتاريخ الوهابيين،
َ يمض ٌ آذنت مبتهجً ا وقت وقد لم ِ
ُ يعشق الحُ لم إال خاله كذبا من
مكتوب بمن كتبا جفتك ..هل ضاق ٌ ّ كل األماكن تستدعيك سي َدها ُ النخيل التي قد آذنت رطبا حتى ٌ َ ُ عاشقها تشتاق وغزة لم تزل
هناك صارت هنا ..ما أشرف النسبا مجالسهم مجلسنا ..ترنو يرثيك ُ ُ
صالح ..مذ غاب مغتربا إلى أبي ٍ
ادعوا له في رحاب الله طيب جنى وانسوا عثار بياني ؛ ضاق ما رحبا
واإلشارة إلى «غزة» في النص ترمز إلى اهتمامه بقضية
فلسطين وتصادف معها أن كان بيته في حي المحمدية
الغربي بالرياض يقع على شارع غزة. ويتبدى انتماؤه كذلك في إخالصه لتخصصه تأليفاً ً ً وترجمة حيث تجاوزت مؤلفاته ثالثين كتابًا حول التأريخ وبحثا
آل الرشيد – معارك الملك عبدالعزيز المشهورة لتوحيد المملكة
بعثة إلى نجد – توحيد المملكة العربية السعودية – من حديث تأمالت في التاريخ والفكر؛ إضافة إلى ما جمعه من مقاالت
عن الوطن والتصهين والقضية الفلسطينية والهم العربي، ومنها:خواطر حول القضية – كتابات حول التصهين – مقاالت
عن الهم العربي – مقاالت عن قضايا عربية -أنت في مقاالت
117
شخصيات
عن فلسطين والعراق وقضايا مصيرية -عن الوطن وإليه – من
وعبدالعزيز رعاهم الله ،وال ينسى الشاعر الراحل األستاذ صالح
األوطان بالمزاد العلني – أنت يا فيحاء ملهمتي – خواطر حول
األساتذة عبدالرحمن ومحمد ،رحمهما الله ،وعبدالله والدكتور ً محيطا ببعض التفاصيل يوسف ،حفظهما الله ،مما يجعله
وحي رحالت إلى خارج الوطن -عام من الذل واالنخداع -بيع
الوطن والمواطنة ،عدا دواوينه الشعرية العشرة:بوح الشباب –
دمشق وقصائد أخرى – صدى البهجة – عودة الغائب – ال تسلني – عرس الشهباء وقصائد أخرى – في زفاف العروس -ال تلوموه
إذا غضبا – مشاعر في زمن الوهج -نمونة قصيد ،وهو ديوانه
العامي الوحيد.
ً أستاذا في جامعة الملك سعود يشار إلى أن العثيمين عمل
ورأس قسم التاريخ فيها ،وكان عضوًا في بعض مجالسها
ومستشارًا في وزارتي المعارف (التربية والتعليم) والتعليم العالي
(التعليم) وفي مجلس أمناء مؤسسة حمد الجاسر وهيئات تحرير مجلة العرب ومجلة الدارة ورسالة الخليج ،وعضوًا مراسلاً في مجمعي اللغة العربية بدمشق والقاهرة ،وعضوًا في مجلس الشورى السعودي عشرة أعوام ،وأمي ًنا عامًّا لجائزة الملك فيصل
العالمية ثالثة عقود ،كما نال عددًا من الجوائز التقديرية. مكونات النص :مواقف وحكايات
يعرف صاحبكم الدكتور عبدالله العثيمين مثلما يعرف
118
شقيقه األكبر شيخنا الراحل :محمد ،رحمهما الله ،وشقيقه األصغر الشيخ عبدالرحمن وأوالدهم ،رعاهم الله ،مثلما ال ينسى
مالمح والدهم العم صالح -غفر الله له توفي عام (1398هـ1978 /م)
كما تربطه عالقات جيدة بمعظم آل العثيمين ،ومنهم المحقق المعروف الدكتور عبدالرحمن السليمان العثيمين -رحمه الله-
(1436-1365هـ2014 –1946 /م) وأشقاؤه األساتذة محمد وعبدالله
األحمد العثيمين -رحمه الله1433 -1359( -هـ2012 -1940 /م) وإخوته
الصغيرة عن هذه األسرة الكريمة التي أنجبت علماء ومبدعين
يستحقون الذكر والشكر.
إمكانيات لقراءة الشخص تخول المعرفة المباشرة للكاتب ٍ
والنص أكبر مما تتيحه للباحث النائي ،وبخاصة حين ال يطغى
الجانب الذاتي على الموضوع المبحوث ،وهو ما أتاح لقلمه إطالالت متعددة حول الفقيد نشرت في حياته ،كما شارك في ندوة غير مسجلة بنادي الرياض األدبي وكتب مقالاً واحدً ا بعد وفاته التي حدثت وصاحبكم على بعد تسع ساعات طيران فكان
ألمُ الفقد كبي ًرا مثلما عبّر في مقاله الموسوم« :مسافات القلب وغياب القرب»؛ فالعالقة بينهما – خالل األعوام الخمسة عشر األخيرة ال تفهم ضمائر الفصل ،وال الجمل المعترضة ،وال مكان
«يسد مسدَّ» األصل؛ أفيكون قريبًا منه – طيلة فترة فيها لما ُ
الدكتور العثيمين أنموذج بارز على الشخصية االنبساطية التي لم تعش الترف فتحدت الشظف ،كما تحدى إبعاده عن التعليم في مرحلتين فاصلتين خالل دراستيه الثانوية والجامعية فلم يستسلم ولم ينكفئ
ال يتكلف ً لفظا وال يتعمد إغراقً ا ً بساطة العثيمين امتدت إلى لهجته المحكية فكان ال يتكلف ً ً استعراضا ،بالرغم من إغراقا ،وال يحاول لفظا ،وال يتعمد
إتقانه الفصحى وغيرته عليها وحرصه على عدم تجاوز نحوها وصرفها مثلما درَسه في النحو الواضح وشرح ابن عقيل ،بل امتدت دقته إلى كتابة الشعر العامي؛ إذ كان ينعى على من يستبدل الحروف بالحركات ،فيجيء بالواو بدل الضمة ،وبالياء ً عوضا عن الكسرة؛ لمخالفتهم القواعد اإلمالئية ،وخشية تأثر النشء بهم ،ويستدعي حين كان في محاضرة بدار األوبرا ٌ متخصص باللغة العربية يلحن في قراءته فحسبل أبو صالح وحوقل وكاد يغادر اللقاء ،وغضب ً ٌ مرة في وأستاذ المصرية
ندوة مشهودة حين وجد شبابًا ينتدون باللغة اإلنجليزية تحت الفتة عربية معروفة.
وبالرغم من أن تخصصه في تاريخ الجزيرة العربية الحديث ،وإذ يدور الحديث حول أحداثه في المجالس العامة ،فلم
يكن يتصدر الحاضرين حين يحكون فيه ،بل ربما أعرض عمن يحاجُّ ه في تخصصه دون أن يتعالم أو يتعالى ،بل إنه – وهو ًّ ومعتدا بمالحظاتهم ،فجمع الشموخ والتواضع. الشاعر المجلي – ال يتردد في عرض نصوصه على تالميذه طالبًا رأيهم
كتب شعرًا ونثرًا في معظم األغراض إال الرثاء؛ فلم يكتب سوى قصيدة واحدة بعد وفاة الشيخ عبدالرحمن السعدي،
ومقالة عقب وفاة شقيقه الشيخ محمد ،وعرف بوفائه ألصدقائه وحبه للناس حتى في أصعب مراحل مرضه حيث لم ينقطع
عنهم ،فكان يزورهم ويرتاد مناسباتهم ومعه جهاز األكسجين ،وحين اشتد به المرض واصل اإلطالل عليهم مع بقائه في
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
عبدالله العثيمين :محددات الشخص ومكونات النص
مرضه -ثم ينأى عنه ساعة الوداع؟
القرب ال يحقق الحياد كما ال يحققه االبتعاد ،فجاء حزنه ً مكثفا ،ويستعيد موقعه على شرفة غرفة على رحيل الرمز
ما حفزه إلى االقتراب من دائرته؛ فضمت الفقيد وصاحبكم
لقاءات عامة وخاصة أكدت تواضعه وبساطته التي رآها في
عيون الكثيرين المعجبين بهذا الـ«أبي صالح» الذي تحقق له –
«فندق فيرمونت في جاكرتا» والشمس تؤذن بالغياب وهو يصور
كما سبق أن كتب -أن يصعّ ر خده ويختال في مشيته ويضع
أقسى الغياب».
ظاهرة وغترته مرمية بجانبه ،وال ينسى ليلة شتوية مطيرة كان
لقطتها غير العابرة ويكتب على صفحات وسائطه الرقمية« :ما
يذكر لقاءهما األول عام 1972م حين كان أقرب إلى ً ضيفا ،ولم يكن الصبا ووالدُ ه – سلمه الله – يوصيه أن ينتظر
َ َ حديث العودة المنتظر في «أصيل» يوم احتفائي إال أبا صالح ً ً جلية عنه أكثر من أنه كان معتدل صورة من بعثته ،وال يملك
الطول ذا لحية سوداءَ مبتسمً ا ودودًا؛ فتفرغ الفتى لدوره «الخِ دمي» في صب الشاي والقهوة ،وتقديم الماء والفاكهة،
لحديث يحسبه ثر ّيًا ،فلم تستوعب وهو ما حال دون اإلنصات ٍ ذاكرته منه شي ًئا. ال يضيف كثي ًرا إلى ما سبق أن سطره حول العثيمين
حاجبًا وسكرتيرين ،فإذا به متربعٌ فوق كرسيه ونصف ساقه
لصاحبكم فيها لقاء مفتوح بمكتبة الملك عبدالعزيز العامة شرقي الرياض حول تجربته في القراءة ،وفوجئ بمجيء
الدكتور العثيمين من منزله غربي العاصمة ،وال يزال يرى تعليقا طويلاً ً حضوره تاجً ا يعتمره؛ إذ لم يكتف بذلك ،بل علق ً لطيفا ،وما كان التلميذ سيضيف إلى األستاذ لكنه طبعه اإليثاري
ال يتنازل عنه بالرغم من المشقة وعدم الجدوى ،وبالمثل فقد كان يلقي نصوص بعض أصفيائه في المناسبات العامة إذا تعذر
حضورهم ،وهو مسلك ال يقوم به إال الكبار.
فيستعيد بعض ما كتبه عنه ،ويذكر في هذا المقام
أن والده قد حكى له عن ميز ٍة في أبي صالح ،وهي
مهارة اإلصغاء الصامت ،فال يدخل النقاش في أوله
حتى إذا تكلم جاء حديثه مستوعبًا ما قيل ومبر ًزا أجمل ما في الجلسة من آراء ،فبدا حكيمً ا رزي ًنا غير
متعجل في أحكامه ومحاكماته ،وكان الوالد يمتنّ له
حين يجيء ذكره؛ فهو –مع آخرين– ذو الفضل في إقناعه
بترك العمل بجدة وإكمال تعليمه الثانوي والجامعي.
كفلت هذه الصور تجذير صورة جميلة في ذهن الناشئ
تبدّى منها العقل والهدوء والعصامية وحب اآلخرين ،وهو سيارته ،وبعدما أعيته الحركة فتح باب بيته بشكل يومي «بين العشاءين» ،واشتد به المرض فاختصر الجلسة في يومين،
ثم اقتصرت على األدنين منه حيث لم يكن يستطيع الكالم فحملت نظرات عينيه الذابلتين الموحيتين مشاعر الحب واالمتنان. ً زاهدا في الثناء بالرغم من كثرة ما كتب عنه أو أُلف حوله ،وفي مجلسه الكبير ال وجود إال لقطعة من ثوب الكعبة كان كرمه بها الشيخ عبدالمقصود خوجة ودرع تقديرية قدمتها إليه مؤسسة الملك فيصل الخيرية ،وقبل أن يُعييه التواصل حمل إليه صاحبكم الجزء السادس من سلسلة (من أعالم الثقافة السعودية) الذي نشرته «الجزيرة» ضمن إصداراتها
الثقافية ،وفيه فصل عنه يوثق الملف الذي أصدرته مجلة الجزيرة الثقافية تحت عنوان( :عبدالله العثيمين الشاعر – المؤرخ ً مؤلفا ضخمً ا ،فكان محرجً ا؛ إذ لن ينشره بنفسه أو عن طريقه ولن ير َّده – األمين) وسبق أن كتب عنه الدكتور أحمد مطلوب ً متسمة بتواضعه وانعدام إلى كاتبه ،ولو شاء لوجد دور نشر عديدة ستتولى أمره ،كما كانت تعامالت الفقيد مع دور النشر
اشتراطاته المادية ،وال تزال لديه نصوص شعرية ومقاالت وقصائد ورسائل إخوانية ،فلعلها ُتجمع قريبًا ،ويضاف إليها –في
كتاب مستقل– ما قيل عنه قبل وبعد رحيله مما لم ير النور بعد. ً ً ً ّ ً ً وبعد ..سيبقى الدكتور عبدالله العثيمين وسمً ا عروبيًّا ومؤرخا موضوع ًيا ومواطنا صادقا وإنسانا بسيطا سعى لنفسه َ ّ دموع الراثين ودعوات المحبين ،مثلما يستحق قراءة شخصه ونصه وقدم نفيسه ،ورحل مطمئ ًنا إلى أنه بذل ما استحق به
رمز علمي وإبداعي ووطني عاش ثم غاب كما يعيش ويغيب الكبار. بمنهجية تدع أمام األجيال حكاية ٍ السيرة شخص ونص.
119
شخصيات
عبدالله الشبل.. اإلداري واإلنسان
محمد بن عبدالرحمن الرب ِّيع أكاديمي وأديب سعودي
في هذه المقالة القصيرة عن األستاذ الدكتور عبدالله بن يوسف الشبل –رحمه الله– لن أكتب عن الشبل العالم ًّ مهما في حياته ،وهو الجانب اإلداري واإلنساني .وقد عرفت أستاذنا الجليل والمؤرخ لكني سأتناول جانبًا
ً مدرسا في (معهد الرياض الدكتور :عبدالله بن يوسف الشبل -رحمه الله -أول مرة عام (1391هـ) عندما كنت إلي تدريس مادة (التاريخ) مع أن تخصصي في اللغة العربية ،وكان الشبل قد ّ أعد مذكرة العلمي) ،وأسند ّ
120
تحولت بعد ذلك إلى مقرَّر دراسي للتاريخ ،وعند تدريسي إياها للطالب اكتشفت عقلية فذة تنظر إلى أحداث العبر التاريخ بعين الناقد البصير ،فال تكتفي بسرد الحوادث إنما تهتم بتحليل األحداث وتعليلها ،واستنباط ِ
منها ،وربطها بأحداث العصر ،وكانت تلك المذكرة تؤرخ للحروب الصليبية ،وتمتد إلى بدايات العصر الحديث. كانت امتحانات الثانوية للمعاهد العلمية مركزية؛ توضع
لشخصية ما ،ويحاول الرتكيز عىل معرفة لوازمها ،ثم تطبيقاتها
الرياض من جميع املعاهد ،ويتم التصحيح بوساطة لجنة ثالثية،
الزمة تحكم تصرفات اإلنسان ،وتوجه سلوكه ،وتكشف عن
األسئلة بوساطة (إدارة االمتحانات) وتحمل أوراق اإلجابة إىل فكان اللقاء مع الشبل يف لجنة تصحيح مادة التاريخ ،واستغرق
العمل عشرة أيام ،عرفت فيها أستاذنا الشبل فإذا هو املؤرخ
الثبت والعالم الجليل واملربي الفاضل ،يتسم بالهدوء والتواضع
وحسن الحديث ،ودارت بيننا أحاديث يف أمور شتى. نموذج إنساين فريد
لقد كانت تلك األيام العشرة كافية ألتعرف إىل نموذج
العملية عندما تتحول من فكرة وشعار إىل برنامج عمل وسمة منهجه يف الحياة وأسلوبه يف اإلدارة .وال أريد أن أتقمص دور املحلل النفيس والراصد اإلداري ولست قادرًا عىل ذلك ،لكني
أصف عن قرب وأروي عن معرفة وأرصد عن طول مالزمة ملعايل
الدكتور الشبل ،وقد أنجحُ وقد أخفق ،ولكنها يف كل األحوال
محاولة ومقاربة.
من صفاته األناة والروية ،وعدم االستعجال يف الحكم
عىل األشياء أو اتخاذ القرارات املتسرعة .فهو يستمع إىل جميع
إنساين فريد وفاتحة عالقة استمرت أكرث من خمس وأربعني ً أستاذا يف الجامعة، سنة ،ومنذ ذلك التاريخ لم تنقطع عالقتي به
دقة وتفصيل .وهنا ال بد أن نستحضر أنه مؤرخ منصف يحكم يف
منه ،رحمه الله رحمة واسعة .وما سأذكره يف هذه العجالة إنما
تعرض عليه يف الجامعة.
ثم أمي ًنا عامًّا ،فوكيلاً فمدي ًرا للجامعة .تاريخ طويل من العالقة الحميمية .يحكمها نصح وإرشاد وتوجيه بلطف وَأُ ُبوَّة صادقة هو رصد صادق ومحاولة جادة لتع ُّرف مفاتيح شخصية الشبل
وأسلوبه الحكيم يف التعامل مع اإلنسان.
ومفاتيح الشخصية اإلنسانية واألبواب التي يلج منها املحلل
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
اآلراء .ويجيد اإلنصات واالستيعاب .ويدرس أبعاد القضية بكل
قضايا التاريخ بناءً عىل الشواهد واألدلة ،وال شك أنه استفاد من ً تاريخا مفصلاً لكل قضية تخصصه يف التاريخ مما جعله يرصد وبعد هذا الرصد الدقيق ،والتحليل العميق ،واستشارة كل
األطراف دونما احتقار لصغري أو دنو مرتبته أو رتبته ،وال انخداع
بمجامل أو منافق أو مخادع ،وبعد كل ذلك يأيت القرار .فإذا
وفق فيه فذلك فضل الله ،وإن لم يكن كذلك فله أجر االجتهاد واإلخالص والنية الطيبة .ومن صفاته –رحمه الله– الحلم والتواضع والبعد من الغرور والتعايل ،فلم أسمعه يومً ا وقد رفع
صوته عىل موظف أو مراجع .ولم أره وهو يدير املجالس والحوارات قد َ ً متحدثا. تعالمَ أو ادعى االنفراد باملعرفة أو سفه رأيًا ،أو احتقر وهنا أقف عند عالقته –رحمه الله– بجميع منسوبي الجامعة
بعد أن ترجل عن كريس القيادة وتخفف من هموم اإلدارة .هل
انقطعت عالقتهم به؟! هل هي عالقة مصلحة ومنصب؟!
عالقة رئيس ومرؤوس؟! ال –والله– والدليل املشاهد هو
جلسته الشهرية واملناسبات االجتماعية والدينية يف األعياد وغريها .هنا نجد الجميع صغارًا وكبارًا يذهبون إليه بمحبة
واحرتام .فاملنصب عرض زائل .أما املحبة واالحرتام فمستقرة يف القلوب .وإذا أحب الله عبدً ا حبّب خلقه فيه .وتلك من عاجل
بشرى املؤمن.
متعدد املواهب
به ،وتذليل العقبات بسالسة عجيبة ونقاشات وحوارات مهذبة، إيل أمر متابعة امليزانية ،وزودين بنصائح ثمينة وبعد ذلك أوكل ّ
تكتب بماء الذهب استفدت منها وقت عميل معه وبعد أن ترك
وأستاذنا الشبل متعدد املواهب واملعارف لم يحصر نفسه
العمل وجاء أخي معايل الدكتور محمد بن سعد السالم إلدارة
ً تخصصا آخر ربما ال يخطر عىل البال وهو (الهندسة) وسأذكر هنا
ذكر شهادة للتاريخ هي أنه مع االعرتاف بالفضل ملعايل الدكتور
يف التاريــخ لكنه ذو ثقافة شرعية عالية ومعرفة إدارية متميــزة.
فقد أشرف وتابع إنشاء (املدينة الجامعية لجامعة اإلمام) وهي مدينة جامعية عىل أحدث طراز عاملي ،بل هي مفخرة من مفاخر بالدنا الغالية.
وقد أشرف عىل هذا العمل الجبار معايل الدكتور الشبل ً ً تخطيطا تخطيطا أكاديميًّا ،ثم منذ أن كانت املدينة فكرة ،ثم ً تنفيذا ومتابعة .ولقد عملت معه يف (هيئة هندس ًّيا وعمران ًّيا ،ثم
املشروعات) فكان الزمالء املهندسون أعضاء هيئة املشروعات يرجعون إليه يف كل صغرية وكبرية ،فيجدون املعلومة حاضرة يف ذهنه والرأي السديد متكاملاً يف تصوره.
يف أول عام يل يف وكالة الجامعة جاء وقت مناقشة مشروع
ميزانية الجامعة لدى وزارة املالية ،فذهبت معه للمرة األوىل لوزارة املالية ،ووقفت عىل مكانته لدى مسؤويل الوزارة وترحيبهم
أعد مذكرة تحولت بعد ذلك إلى الشبل ّ مقرر دراسي للتاريخ ،وعند تدريسي َّ
إياها للطالب اكتشفت عقلية فذة تنظر إلى أحداث التاريخ بعين الناقد البصير، فال تكتفي بسرد الحوادث إنما تهتم بتحليل األحداث وتعليلها واستنباط العبر منها وربطها بأحداث العصر
الجامعة ،فكنا نسري عىل خطا وتوجيهات الشبل ،وهنا ال بد من عبدالله بن عبداملحسن الرتيك يف تطوير الجامعة ويف إنشاء املدينة الجامعية الرائعة لها؛ إال أن دور الشبل يجب أن يذكر ويشكر
فهو الوسيط دائمً ا مع وزارة املالية ،وهو الذي يمهد لالعتمادات املالية الضخمة لبناء املدينة الجامعية بأسلوبه السلس وعالقاته
ومرونته ومتابعته الدقيقة لكل مراحل التخطيط والتنفيذ.
التسامح وتجاوز الصغائر لاً وقد تعلمت من معاليه –وبخاصة عندما أصبحت وكي له
يف الجامعة ومالزمً ا له يف العمل اليومي– وحاولت االقتداء به
والسري عىل نهجه يف إدارة العمل.
تعلمت منه الحلم واألناة والروية فلم أره يومً ا يظهر غضبه،
وإن كان يغيل من الداخل ،وتلك صفة مدحها الله يف كتابه العزيز{ :و ْ َال َكاظِ مِ نيَ ْال َغي َْظ} (آل عمران.)134 : وتعلمت منه العفو والتسامح وتجاوز صغائر األمور مع من زل أو أخطأ أو تجاوز حدوده متمثلاً قوله تعاىل{ :و ْ ّ َالعَ ا ِفنيَ َعنْ
ً ومطبقا لقاعدة« :إن تخطئ يف العفو اس} (آل عمران)134 : ال َّن ِ خري من أن تخطئ يف العقوبة» .وتعلمت منه الحرص عىل اإلحاطة بكل جوانب املوضوع املطروح للنقاش وكأنه يف كل قضية تناقش تاريخا لها منذ أن بدأت حتى ييسر الله لها اًّ ً حل وفرجً ا. يكتب
وتعلمت منه التواضع الذي يزينه ويزيد من قدره ،ومن تواضع لله رفعه ،ومن تواضع للخلق أحبوه وقدروه ،فكان عظيمً ا يف تواضعه ونبل أخالقه .رحم الله الشبل وأسكنه فسيح جناته.
121
شخصيات
مطاع صفدي قامة فكرية عالمية خسرناها تهاني سنديان كاتبة وأكاديمية لبنانية
122
من بوابة األدب الروائي والقصصي والمسرحيةَ ،د َلف مطاع صفدي إلى مدارات الفكر القومي العربي والفلسفة الوجودية ،واستطرا ًدا خ ّوض في فلسفة النيتشويين الجدد ،الذين ّ غذوا أطروحاتهم الماركسية غير التقليدية ّ متجددة من أسئلة الحداثة ،وما بعد الحداثة ،وعلى رأسهم الفالسفة :ميشيل فوكو ،وجاك دريدا، بأمداء ً ّ كتابي الحقا على حساب ما كان قد انتهجه خيار وغيل دولوز ،وهربرت ماركوز ،فبرع ُمفكرنا فيما انتهجه من ّ ٍ ً سابقا ،وإن كان قد م ّهد للفكر القومي العربي في األساس ،عبر روايته الواقعية« :جيل القدر» عام 1960م ،التي ينتهي فيها البطل المؤمن بالوحدة العربية (ذكر أكثر من مرة أن هذا الشاب قد يكون هو ،أو أي واحد من جيله العروبي بالضرورة) بخيبة األمل بالوحدة المصرية السورية ،التي قامت أركانها عام 1958م ،أي قبل انفراط ّ المحصلة يعد مفكرنا تجربته في حزب البعث عقدها عام 1961م ،ويستمر بالنواح عليها فيما بعد كذلك .وفي السوري أولاً ،ثم في نظيره العراقي ثانيًا ،لم تفشل فقط ،إنما كانت ً درسا له لن يكرره ثانية البتة؛ والسبب كما ّ مستبدين ،من غير المنصف مقارنة ما قاموا به من فظائع يفيد ،هو تعسكر الحزب ،وتح ّول قادته إلى طغاة وأهوال ،مع ما قام به أولئك الذين وصموهم بالرجعية والعمالة لالستعمار. لكن مطاع صفدي (2016 – 1929م) ،ا ّ ملفكر العربي السوري،
حتى وهو مندمج بالسؤال الحدايث الغربي ،وبالبحث عن
آخر يوم من حياته عىل إيمانه املطلق بالفكر القومي العربي، وفلسفة حتمية نهضة األمة العربية من جديد ،حتى لو تم ّزق
مطاع صفدي عن عقله القومي ،وال عن بصريته العروبية ،ولم
الذي رحل عن هذه الفانية يف السادس من يونيو املايض ،أي يف أجواء الذكرى الـ 49لهزيمة الخامس من يونيو 1967مّ ، ظل حتى
جسدها شلوًا شلوًا عىل مذبح املتآمرين عليها من كل حدب وصوب.
الحقيقة ،من خالل تأثره «بمنهج إرادة املعرفة» و«آليات فضاء» ّ يتخل ما بعد الحداثة ،الذي دار فيه ميشيل فوكو طويلاً ،لم
ير يف ذلك أيّ تناقض حسبما أفادين (كان هو أحد موجّ هي رسالتي
األكاديمية لنيل شهادة الدكتوراه يف الفلسفة)« :فأنا أبحث
عن ذايت وهويتي كشعب يريد أن يشارك يف املصري العاملي ،وال ّ تتخطى البعد يمنعني ذلك من الخوض يف أي تجارب فلسفية القومي والهويّايت يف طبيعتها ومآالتها ،بل أشعر أن من واجبي كعربي أن أخوض يف تلك التجارب الفلسفية الفاعلة واملتفاعلة، وأستوعبها ،وأنقدها يف الصميم ،كرمي تصويب معركتي الكيانيّة من أجل
الحرية بإزاء االستبدادين: الداخيل والخارجي».
من هنا رأينا مطاع
صفدي
ينشغل
مع
مثقفني وناشطني عرب آخرين يف مشاريع فكرية
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
وفلسفية جدّية ،صدر حولها كتب وأبحاث ودراسات ومقاالت
الكاسحة عىل فرض «ذوقه الفني» يف مكانه ،ويف أمكنة اآلخرين
«الفكر العربي» أيام كان يُشرف عىل إدارة «معهد اإلنماء العربي»
وميشيل فوكو الذي هو أحد فرسان ما بعد الحداثة الكبار يف فرنسا والعالمّ ،أثر انقالب ًّيا ً أيضا ،حتى يف الجيل الفلسفي
عدة .كما رأيناه يُصدر من قبل مجلة فكرية متميزة للغاية ،هي يف بريوت ،الذي كان يعمل يف عداد طاقمه مفكرون لبنانيون
وعرب مرموقون؛ أمثال :د .وضاح شرارة ،د .أحمد بيضون، د .غسان سالمة ،د .حافظ قبييس ،د .منذر لطفي ،د .محمد
الدبس ،وغريهم.
بعدها ترك مطاع صفدي هذا املعهد ،ليؤسّ س «مركز اإلنماء القومي» يف العاصمة اللبنانية ً أيضا ،ويُصدر مجلة فكرية
عىل السواء.
الشبابي الجديد ،الذي عرفناه مطالع القرن الحايل ،الذي بدأ
يؤسس إلعالنه عن «موت ما بعد الحداثة» ،وقيام تيار «بعد ما بعد الحداثة». ّ من هنا بعد ..وبعد ،س ّر تعلق مطاع صفدي بميشيل فوكو، كفيلسوف اللحظة الراهنة واملستقبلية عىل قاعدة الحفر يف املايض ،واستخالص دروسه العميقة .كما ّ تعلق صفدي بفوكو
ّ ومجلة أخرى طليعية تحت عنوان« :الفكر العربي املعاصر»، ً ّ تأليفا وترجمة ،حملت عنوان« :العرب مختصة بالفكر الغربي،
ألسباب عربية ً ً خصوصا أن الفيلسوف الفرنيس الكبري ،كان أيضا،
املقتدرين ،أغلبهم من دول املغرب العربي.
بوفوار ،وأندريه غلوكسمان وغريهم ،تنديدًا بالجريمة العنصرية
والفكر العاملي» ،شاركه فيها لفيف من الك ّتاب واملرتجمني العرب
قد نزل إىل الشارع عام 1971م ومعه جان بول سارتر ،وسيمون دو
يف هذه املرحلة كان مطاع صفدي قد تش ّرب الفكر الفلسفي ّ ّ وانشق عنه األخص، الغربي الحديث ،بوجهه الفرنيس عىل
التي لحقت بالشاب الجزائري جالل بن عيل .وكان فوكو يف طليعة املتظاهرين الغاضبني ،وقد تولىّ بنفسه إلقاء الخطاب التنديدي
املفهومية» ،املواكبة آلخر انفجارات العقل الغربي يف مفاهيمه ّ وتعقد أسئلته وأزماته؛ وراح خاللها مفكرنا ينقد هذا وإشكالياته
«ال تسمحوا للفاشية الجديدة بتفجري مخزونها األيديولوجي
بكيمياء كتابيّة جديدة ،يمكننا تسميتها بـ«الكتابة العربية
العقل ،بخطاباته املص ّنفة تحت الفتة الحداثة وما بعد الحداثة،
بالجريمة عرب املذياع اليدوي قائلاً أمام املحتشدين يف الشانزيليزيه:
املريض ،واستخدام املواطنني من أصول غري فرنسية ،كفائض
ديموغرايف ال لزوم له ،بل هم الذين ال لزوم لهم يف مجتمعنا ،ويف سائر املجتمعات اإلنسانية الواحدة».
فأنشأ ما سمّاه «مشروع مطاع صفدي لرتجمة أمهات الكتب الغربية» ،وحول ذلك كان أصدر ً أيضا كتبًا مهمة من بينها« :نقد
راهن مطاع صفدي عىل «ثورات الربيع العربي» يف بداياتها،
(جزآن)« ،إسرتاتيجية التسمية يف نظام األنظمة املعرفية» ،ماذا
األرض حتى اآلن .واتهم الغرب األمرييك باختطاف الثورات وحرفها
العقل الغربي :الحداثة ما بعد الحداثة» ،و«نقد الشر املحض»
يعني أن نفكر اليوم؟ وترجمة «الكلمات واألشياء» مليشيل فوكو، حتى صار هو (أي مطاع صفدي) أحد دعاة ما بعد الحداثة عرب ًّيا منخطف بميشيل فوكو الذي خلب لبّه، ومشرقيًّا ،وصار أكرث من ٍ
ووجد فيه الفيلسوف الوحيد املستقل يف العالم خالل السبعني ً خصوصا لجهة استيعابه العميق (فوكو) ملراحل سنة الفائتة،
الفلسفة منذ اإلغريق إىل اليوم ،وبكل أبعادها املثالية واملادية،
وتلك املتناغمة بني االتجاهني أو األكرث منهما.
واالستيعاب لدى صفدي هنا ،يعني النقد الجريء ،واملتجاوز
وال سيما يف بلده سوريا ،لكنه خاب أمله بالنتائج املتوالية عىل
عن مسارها .كما تحدّث عن يشء سمّاه «اقتصاد األسواق الحمر يف مقابل اقتصاد األسواق السود» .وقال لو أتيح مستقبلاً ملراقب ِعلمي أن يتنبّه ألسرار هذه املرحلة الراهنة ،وهي من أتعس ما
عرفه تاريخ النهوض لألمم والحضارات ،فقد يفاجئه بروز نظام
جديد متكامل القتصاد الحروب ،تصحّ تسميته باقتصاد الفنت ا ّ ملنظمة ،وهو آخر ما ابتدعه عصر اإلمرباطورية اآلحادية بديلاً عن
أصناف حروبها التاريخية السابقة جميعها. رحم الله مطاع صفدي؛ هذا ا ّ ملفكر القومي العربي الحضاري، الذي أبى إلاّ أن يستخدم أدوات منهج البحث العلمي املحايد يف كل
امليلء ،وشطب كل أبعاد البالدة والتنميط ،حتى يف صيغة ما يُطلق بـ«الحيوية» ،فثمة «حيوية نمطية ً أيضا ،هي أخطر وأدهى
ما ّ سطره يف كتبه الفكرية والنقدية .وبعدما تشبّع بكربى عناوين
بورديو ،عالم االجتماع الفرنيس الكبري ،من خالل حوار كان أجراه
األرض؛ صار ،وعن جدارة ،يستحق لقب مفكر عاملي كبري .قبل
من أي فكر فلسفي سكوين دال» ،كما ص ّرح بذلك فوكو لبيار معه األخري لصحيفة املوند يف أواخر الستينيات ،قال بورديو« :إنه
يدين مليشيل فوكو يف نقده القاطع لتغايض املاركسية عن العوامل األخرى غري االقتصادية ،والتي ال ّ تقل خطورة يف تأثريها عىل الفرد ّ وتسلط رأسمال ،ومنها ،مثالاً ال حص ًرا، واملجتمع من االقتصاد ً ً فرض املنتج الثقايف للقوي يف املدينة ،وتكريسه ،عرفا ورمزا ،عىل اآلخرين يف الريف ،ال ليشء إلاّ لكون القوي يف املدينة لديه القدرة
ومتون أفكار التيارات الفلسفية واملعرفية بجدليّاتها املتغايرة عىل
رحيله بشهر تقريبًا حادثته بالهاتف ،فأشار إىل أنه سيغادر هذه الدنيا ،ولديه أمنية وحيدة فقط ،وهي ألاّ يفقد شباب األمة
العربية الثقة بديناميات إنسانهم العربي ،وقدراته الهائلة عىل بناء النهضة من جديد وفق ركائز حضارية غري مسبوقة ،ومنطلقة من كل التجارب والجائحات املؤملة الراهنة ...وذلك مهما بدا املشهد العام مقفلاً أو مستحيلاً .
123
نصوص
أرض األحياء في المكان الدلموني ومقابره المائية حسن دعبل كاتب سعودي
في أرض األحياء كما غلغامشّ ، شدتهم الحياة إلى أبدية الخلود، دوما عن خلودهمُ ،م ّ فكانوا الباحثين ً دللين أطفالهم وزوجاتهم ،ملؤوا
كروشهم باألكل ،وشربوا من ماء الحياة ما يكفي لجعل أيامهم راقصة وزاهية .غواصون لم تكن محارتهم غير لؤلؤة مستقرة في أعماق بحارهم القريبة ،ولم تبتعد كتلك العشبة األبدية .غوايتهم لؤلؤة تتراقص
في َسحر الليل ،وأفعاهم أنثى تتلظى في سرير الشتاء ُ المشتعل باحتراقهمُ ،يشعلون الغناء بفوانيسهم ،ويتراقصون حبًّا في نجمة
الصبح الغائبة.
لكنهم في أرض األحياء ،نعم أرض األحياء البعيدة عن غلغامش،
وخلود لم يبحثوا عنه بموت أو طوفان ،وأنكيدو لم يكن ُمسجى بينهم، ً بعيدا عن زوجاتهم. حين باغتهم إعصار ليلي ليرميهم ملاّ حون بشعاع الشمس ُ المشرقة بأعينهم ،حتى كأنهم من يبعث
124
لك ماهر في اصطياد الموج، الشمس من زرقة الماء؛ أورشنابي مالح ُف ٍ أورثهم حِ كمته البحرية الجتياز ّ الصعاب ،ولم يأتمنهم على َمردياته، البحار وألواح ّ المي السبعة؛ وأتونابشتم سيدهم الحكيم وغواص ِ األزلي في أرض األحياء ،أرضهم. ُترى ل َِم اختا َر أسالفي سكنهم في خاصرة البحر؟
مثني ٌّة أرضهم ،كقوس رُمح مشدود في وجه الشمس ،وغصن
سالم ينحني في ضوء القمر. ُ ْ قربهم نامت سالالت وتناسلت ،ومقابر مائية شيّدت فوق مياه
ضحلة ،وأرخبيالت تباعدت في الحروب ،وتدانت في الفرح. إلى أيّ السالالت ينتمون؟
احتاروا في تشييد بيوتهم ،حين اهتدوا إلى بقع ٍة حملت روائحهم،
ولم تكن األختام المدفونة واللقى ،وقطع فخاريات محروقة ومتكسرة غير مفاتيح لكنوز أسالفهم البعيدين في تحوالتهم وأسفارهم بين البحار ،ولم تكن تلك المقبرة المائية ،إلاّ واحدة من المقابر المتناثرة ِ ّ متبدلة. داخل جزيرة تنام في حضن البحر ،وتستفيق على صباحات عابرة بلون وجوه وأناس وبشر
ّ ومشمسون. أحبار ،قديسون ،رهبان ،وراهبات .مطران ،أبرشية،
مهرّبون ،تجار ،غزاة ،وباحثون عن كنوز وأمجاد .هاربون من قسوة
بالدهم ووالتهم وملوكهم وقبائلهم وعشائرهم ،أو ت ّواقون لخلو ٍد أبديّ ّ سطرته ألواح وكتب منزلة ووصايا آلهات. هل ُد ْ فنت تلك المد ّونات واأللواح في القبور المتناثرة؟
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
حمورابي ً أيضا تاق لكنوز أسالفه ،حين فاضت مراكبه
اللهاث ،وهم ّ حد ّ التي ستشيّد متراصة ومتقاربة ّ يغطون في النوم
واألثواب والفخاريات والجرار ،وتتوارى عن األعين .هذا هو س ُّر ْ يعرف س ّر غيابها أو تغي ِّبها عن الناس ،ولو بطرفة المدافن التي لم الحكايات ،وهي تتناقل أو ُتالك على األلسن.
هنا ستكون البقعة التي ستشهد تحوالتهم الجديدة ،حتى
بحموالتها ولم تغرق ،وهي تحمل الموتى والكنوز والحلي
بنصف إغماضة ،حين يفترشون الرمل ويلتحفون السماء.
نسلهم حين يتكاثرون ،تكون الحكايات س ّر أب ّوتهم وهم ّ يرمزونها ألحفادهم بكثرة الغواية في س ّر تناسلهم وغناهم وفقرهمّ ، وتبدل
األسالف وهم يتنقلون في عرض البحر بأشرعتهم ،لم يأبهوا لهذه األسرار التي باتت قرب أنفاسهم ،حتى أرجلهم وهي تطأ ً أرضا
عن النميمة والتشهير ،تلك عادة يتوارثها األحفاد في تنقالتهم
تتمايل بها األجساد ،وأكف وزغاريد بأجساد البنات ،ويعبثون
الخلود األبدي ،أو بأرض المقابر المائية المنسية في المدونات.
حسبوها محروقة بلون رمادها ،أو بيوتات قديمة لمذابح ديانات ً أيضا مرّت قرب بيوتهم وهم يشيّدونها بغناء ومرح ،ورقصات بفخاريات تتناقلها كفوفهم أو في حضن أحفادهم ،يرمونها في
كأسماك على صفحة الماء. عرض البحر سابحة ٍ ُ فلنشيّد منازلنا هنا :صاح كبيرهم! هذه البقعة ،نحن.
لتكن مباركة خطواتك يا
نساءنا ،يا أمهاتنا ويا زوجاتنا. ليجلل الرّب العزيز تعبكم بهذه
الشمس ،وهي تحرق سحنات وجوهكم كي تزداد اسمرارًا.
هذه البقعة ُ المنحنية على
هيئة قوس هي «فنيتنا» ،وهي
مقامنا وطيب إقامتنا ،فل َي ُهم
الجميع إلى ربط سفننا وقواربنا
بازدراءات بعيد ٍة األلقاب واألسماء ،حتى أعدائهم وهم يصفونهم ٍ ورحالتهم أو في تبدل مهنهم وصنعتهم وطرق عيشهم .ذاك ً تيمنا بأرض منعطف آخر يزلزل أرض األحياء التي أسميتها هنا، المكان تكثر به التالل ،متغاوية على مشهد البحر كجذع
ملكة تبرز مفاتنها بخيالء التعفف والشبق المخفي تحت دالل الترف والجوع ،إذ ينهش الجسد بلسعات أطرافه بنسمات الفجر،
وهو يودع صمت السواد بردائه .الحكايات تتناقل أو تنقل لهم عن
مثنيةٌ أرضهم كقوس ُرمح مشدود في ّ وجه الشمس ،وغصن سالم ينحني في ضوء القمر قربهم نامت سالالت وتناسلت ،ومقابر مائية ُ دت فوق مياه ضحلة ،وأرخبيالت ش ّي ْ تباعدت في الحروب ،وتدانت في الفرح
باليابسة ،وإنزال األطفال والنساء واألكل والفرش وما بقي من
أقوام مرّوا أو أقاموا قرب الماء،
شيّدوا المعابد ،وتركوا القبور، تركوا
عاداتهم
وصلواتهم،
فتناسلت بين الناس ،وتغلغلت في قيامهم وقعودهم ،حتى
في طرق أكلهم وشربهم،
وممارسات عباداتهم..
ربما هنا –وهو يشير إلى
القبور أو التالل المحروقة- صاح بهم كبيرهم ،دفنوا موتاهم وكنوزهم ،هم من ُي َسموا
زادنا ومحارنا ولؤلئنا النفيس. ُشيّدت المنازل متالصقة ببعضها .منازل بسيطة ُص ْ نعت من جريد النخيل ،وخيوط ّ الليف المفتولة أسموها «المختوم»،
تتوقون بالذهاب إليه كلما جاد لكم البحر من خيراته ورزقه بعد
بموجه وزرقته ،حيث مبتغاهم األزلي .من بعي ٍد تتراقص النوارس
بهذا الوصف المقتضب كانت فاتحة ليلتهم األولى ،في مكان
سهلة البناء والحمل والتنقل ،جاورتهم سفنهم وجاورهم البحر
وتحط على «دقل» سفنهم .تغسل أشرعتهم بياض الزبد وتل ّونه َ يرسون مراكبهم بأدعي ٍة حفظوها بالوراثة بنيل «بندرهم» ،وهم ْ بعدت بهم المسافات واألزمنة ،وتعددت وتبدلتْ عن آبا ٍء وأجدا ٍد بهم الحكايات وهم يتناقلونها من بحر إلى يابسة ،إلى بنادر
ً لسماوات وبحار نجوما وثريات ودوحات .أشعلوا بها ومرافئ ٍ ٍ َ ْ تسامرت بمواويلهم وحكاياتهم وهم يتوارون في الغبيب. زرقاء، من خلفهم تتراقص غابات من خوص النخيل ،تتمايل بحمام
ّ الدوح وتغريد البالبل.
ُ توهن صوت المياه وهي تتناهى إلى أسماعهم قبل الجسد،
العطش المتربص بملوحة البحر ،وشياطين الجوع وهي تتراقص على شفاه يابسة حد التشقق.
بحركة من أصبعه وهو يشير إلى حدود المنازل والبيوت
بالسومريين أو البابليين ،هذا ما سمعته من أجدادي وأسالفي،
قرب الماء كان يطيب لهم المقام ،هؤالء من أتوا من العراق الذي انتهاء موسم الغوص.
ّ شدوا به أوتار الحبال ،وهم يبرّجون خطوط الطول والعرض ألساسات بيوتاتهم ،وقد صبغوها بدماء ّ الديكة المذبوحة والمتعفرة بدمائها؛ كي ّ يحلوا ً أرضا ويبيحوها ،فتطأ أقدامهم ُمباركة خطوهم.
منذ أن ّ ضل هذا ّ السرد خطوه أو أثر أسالفه ،وأنا أحاول ّ ً جاهدا الصطياد تلك اللحظات الهاربة من ُ المخيّلة البعيدة ،لهذا
الوصف الذي يتعثر بغبش ٍة من أزمانه المنسية .أسميته بأرض األحياء أو األحالم ،وهي تسمية ً أيضا مغبشة لِما تاقت له أرض األحالم أو األحياء أو دلمون الخلود .وأعرف أن أسالفي هم ً أيضا
ّ ممن ورثوا تلك الحكمة البحرية من حكيمهم األول «أتونابشتم»،
أو من ُمنح الخلود بعد الطوفان في أرضهم المباركة .وأعرف
أن مهنة الغوص ،أو تلك المهنة األزلية ،هي مهنتهم ،وهم
125
نصوص
يورثونها ألحفادهم ،وأن عشبة الخلود ليست بتلك العشبة التي تدور حولها الحكاية الخالدة في الملحمة الغلغامشية .إنما هي
«اللؤلؤة» النائمة في محارتها التي تنام في حضن بحرهم الطاهر.
ولوال تلك ُ المخيلة ودورانها في فلك «أورشنابي» المالح الذي ً بعيدا بهداية الكواكب والنجوم ،والمرديات السبعة بقدسية سافر
الماء ،وما صاغته الحكاية والحكمة التي صرخت بها «سيدوري» سيدة الحانة وكاهنتها في وجه «غلغامش» التائه َ قرب حانتها،
وهو يبحث عن هداي ٍة وحير ٍة للوصول إلى أرض أسالفي؛ للبحث
عن خلوده:
إلى أين تمضي يا غلغامش؟
إن الحياة التي تبحث عنها لن تجدها
أرض األحياء ،هي أرض أسالفي وما حملوه من جينات
مكانهم .وما وصفته في كتاب ٍة بأنه المقبرة الدلمونية ،أو ما أسماه
صديقي الكاتب العراقي والقاص «علي السوداني» :بالمقبرة
َ حين وصفت له المكان ُ المتخيّل في الكتابات العراقية المائية. التي تتناول الوصف وتنشد بمخيلة األدباء أو من كتبوا «ملحمة
غلغامش» وهم يتوقون بالسفر إلى أرض األحياء ،أرض أسالفي.
أتعثر كثيرًا في المشي ،أو في الوصف ،أو حتى بالمسك بأول
126
خيط من خيوط الفجر ،وهو يفتح باب األفق من الوعي البكر، ٍ
لتلك المناحات العاشورية في طفولة قماطي ،وأنا أنزعه أو أقطع رباطه الملفوف على جسدي الغرّ؛ ألتذكر الشيخ اآلتي من العراق،
ليحط ّفي بيتنا المتواضع والمبني من سعف النخيل ،ويجلس بين فيّها ونسمات البحر الرطبة .أسمع األناشيد بوجعها ،وأحزانها،
وسواد ليلها الدفين ،وتلك الحسرات المتباعدة ،وجرّات الوجع ً الحقا في قراءاتي األولى من من خيوط نحيبها .هذا ما أدركته روايات «غائب طعمة فرمان» في النخلة والجيران ،وخمسة
سحر الليل، غوايتهم لؤلؤة تتراقص في َ وأفعاهم أنثى تتلظى في سرير الشتاء المشتعل باحتراقهمُ ،يشعلون الغناء ُ بفوانيسهم ،ويتراقصون ح ًّبا في نجمة الصبح الغائبة أصوات .قبل أن أقرأ العراق القديم لجورج دو ،أو حتى القراءات المتأخرة لمحمد خضير وبصرياته ،أو مصاطب اآللهة لمحمود
جنداري .كل ما تشكل للمكان الذي أعيش فيه وبه ،يفتح لي هذه النافذة الشمالية على سعة سماواتها حتى وإن غابت نجومها .كل بعيدا ،وتغرّب بي في قراء ٍة ربما هي ً ً أيضا غائرة هذا األفق سافر بي في األديم .تاقت روحي إلى تتبع «نابونيد» وهو يشيّد معابده
وأسواقه في تيماء ودومة الجندل ويثرب وفدك وخيبر ،ويفتح أبواب التجارة ُمتغر ًبا عن بابل التي ُطرد منها.
لمكان أثر وكتاب ٍة جاورت قصر عشتار ومعبدها ،وتتبعت كل ٍ ٍ وجزير ٍة تتناثر قبورها قرب الماء ،وهم يتغنون بفينيقيتها العابرة،
وكمن يتناسى تلك النسمات العذبة برافدينيتها األولى ،ألبسوها كشراع على صارية ثوب ملوكيتها الفينيقية ،ونشروا عباءة بابليتها ٍ لاّ السفن الفينيقية ببيارق حمراء .أتذكر اإلنشاد بصوت «م يات» المآتم العاشورائية في أرض دلمون ،وأسمع صوت أرجلهم ،وهم
يضربون األرض بصرخات خافتة من صدورهم ،حين اهتديت في
قراءاتي «لألكجيتو» بأيامه العشرة في أعياد النوروز .تلك األعياد فتيات حُ ّدث التي توارت اآلن من «روزنامة» طفولتي ،ورقصات بين ٍ ونساء طافحات بشهوة الرقص والغناء ،وتلصص عين الطفولة بين الصدور ونهرها.
تلك األعياد التي تنشد بها «مالية»
دلمون في األينوما إيليش ،قرب معابد بابل وشوارعها .ذلك اإلنشاد
الدلموني هو من يشد خيط الحزن
الذي لم ينقطع ،وبقي كما عشبة الخلود أو لؤلؤته النائمة في بحر دلمون
الصافي ،أو دفن بين قبوره المتناثرة ومقابره المائية .تلك األسرار التي ّ ّ وخلدت خلدت هذا المكان الطاهر،
كتابتها وألواحها ،وبيوتها التي ُشيّدت بألواح الملح ،وموانئها ،وهي ُتودع سفنها وملاّ حيها ،وهم يحملون الهدايا والبخور والتوابل واألردية الحريرية لبالد
ما بين النهرين ومعابدها. العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
نصوص
الحكاية كانت ُ الحكاية كانت ّ الصمت أظفارها تقل ُم يف هدأ ِة ِ
عبدالوهاب أبو زيد
ّ وتحد ُق يف ليل مرآتها
شاعر سعودي
نحيل تحت ضو ٍء ٍ زيت مشكاتها تس ّرب من ِ ليمد عليها غشا ًء كثيفاً َّ
ْ الذكريات من
ُ ُ تعيد تفاصيلها الحكاية كانت
ُ الحكاية ُتسقى
الحكاية بما ِء ِ َ ّ تصحر حتى تعيد إىل ما
وتيض ُء قناديلها لقلوب ُت ِّ رتل يف السرِّ ٍ أسما َءها والصفاتْ
الجديبة الذكريات تربة من ِ ِ ِ أشجارها
ُ ُ الحكاية وهم الحكاية ِ ً بالبداية ملتبسا النهاية معنى ِ ِ
ُ األرض الحكاية ُتجري عىل ِ َ َ الحكاية!) األرض لوال أتعس (ما ِ
ُ الحكاية ُّ الحكاية ظل ِ ْ ُ البعيد رجع صداها ُ يطرق أبوابنا حني
ُ ُ كالشمس تأفل الحكاية ِ ّ لكن آثا َرها...
األمس وهج ما يتسلل من ِ ِ َ صهوة املفرداتْ ممتطيًا
متعبًا مثقلاً ْ بالربيد حاملاً بني كفيه أخبا َرها ُ الحكاية ُت ُ بعث
ُ تخون الشفا ُه الشفاها حني ُ الحكاية تبقى
ْ ْ العنكبوت نسجت فوقها وإن بيتها ،وتالىش صداها ُ ُ ْ تشيخ ليست الحكاية ْ ْ تموت وليست
أنهارها ُ الحكاية تؤوي الطيو َر التي بعرثتْ ُ الريح أوكا َرها قبضة ِ
تحقيقات
رموزه يلقون الرواج في الخارج ويحوزون الجوائز وتقتنصهم دور النشر
المشهد الثقافي المغربي بائس في المغرب... ومتوهج في المشرق! 128
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
الثقافة هي في األساس تكوين اإلنسان ،ونشر المعرفة البشرية
وبناء الدولة .وبال شك ،فإنها وسيلة خالص الدول التي تطمح إلى التقدم .ولكن من يجب أن يقوم بدور «نقل الثقافة»؟ من
المؤكد أن الدولة هي المسؤولة بسياساتها الثقافية ووسائلها التنفيذية من أجهزة ومؤسسات ،ولكن هل الثقافة ًّ حقا من
الضروريات األساسية للحياة البشرية؟ إن التخلي عن دور الثقافة في بناء المجتمع والطموح إلى فكر مستنير يفتح الباب على
سعيد بوكرامي الدار البيضاء
مصراعيه أمام األفكار الظالمية والعدمية وبالتالي االضمحالل.
وما يمكن مالحظته اليوم في المغرب تهميش المجتمع
المغربي للمثقفين وإنتاجهم الثقافي الحقيقي ،في المقابل ينصرف االهتمام إلى الثقافة الترفيهية والسياحية ،التي تجد عوامل مساعدة من المؤسسات الرسمية والفاعلين في قطاع
اإلنتاج الثقافي الذين ينجحون في تمرير وتكريس مجموعة
من أنواع التصورات الكاذبة واألفكار الخاطئة .ومن هنا كانت هجرة المثقفين المغاربة بكثافة إلى أوربا وتحديدً ا إلى فرنسا وبلجيكا وإسبانيا وهوالندا وإيطاليا ،بل وتوطينهم لثقافتهم
ولغتهم ثقافة ولغة أخرى ساقتهم مباشرة إلى نوع من
التغريب واالغتراب ،لكن لحسن حظهم أن منجزهم األدبي والفكري القى نجاحً ا وإقبالاً وجوائز مهمة بوّأتهم تدريجيًّا
مكانة مرموقة في جغرافية األدب العالمي .ونذكر من الرعيل األول الذي حط الرحال في أوربا خالل السبعينيات من القرن
الماضي :مصطفى النيسابوري ،والطاهر بن جلون ،وإدريس
الشرايبي ،وعبداللطيف اللعبي وغيرهم ،ومن الرعيل الجديد
الذي أصبحت أقالمهم تنطق اللغات جميعها ،نذكر فؤاد العروي ،وعبدالله الطايع ،وفؤاد الساخي ،وليلى العلمي،
وحفيظ بوعزة وغيرهم.
إذا كانت هجرة المثقفين إلى أوربا حديثة وجاءت خالل
االستعمار أو بعده ،فإن رحلة المثقفين إلى بالد المشرق،
متغلغلة في جذور التاريخ ،ونجد صداها في كتابات المغاربة ً وحديثا .هجرة األقالم المغربية إلى المشرق ليست قديمً ا
حديثة العهد ،كما ذكرنا ،لكن حضورها باألمس واليوم
وتوهجها بكثافة عددية ونوعية وحصولها على جوائز مهمة، يطرح أكثر من سؤال عن سبب هذه الهجرة الحديثة .عدد من
الكتاب تناولوا هذه اإلشكالية في تحقيق لـ«الفيصل». أصوات تنتقد
يقول القاص أبو يوسف طه« :من الواضح أن التقاطبات
الحزبية ،واختالف المنظور ،واالسترفاد مما هو سائد في الثقافات الغربية من منازع فكرية ،وأيديولوجياتّ ، وطأ لصراعات حادة في المجال الثقافي الذي ينضفر في جدائل مع المجال السياسي؛ ما أنشأ دوائر مغلقة (نتذكر هنا ثنائيات
الشيخ والمريد ،والفقيه والعامي ،والزعيم والتابع ،ثم الطائفة
أبو يوسف طه: نحن أمام رجة قوية في القيم، وأمام سيادة البراغماتية ،وأمام تداخل وتشابك القضايا والمسارات
والزاوية إلخ .وهذه تستبد بالوعي منتسبي حتى المؤسسات
الحديثة) ،ووضحت اصطفافات المعارضة والمواالة ،وبحكم
التطورات الخارجية ،تباينت المواقف ،وهو ما انعكس سلبًا على تماسك الوضع الثقافي (مع غياب فعال لمبادئ وأسس
الحوار) حيث بتنا نسمع مفردات من مثل اإلقصاء ،والتهميش، ...إلخ».
129
تحقيقات
ويتطرق أبو يوسف طه إلى دور اتحاد كتاب المغرب الذي
لعب ،ضمن هذا الفضاء المتشنج« ،دورًا رياديًّا لبلورة اتجاه
ثقافي إيجابي ،واكبته صحف ومجالت .لم تكن هذه الجوانب
وحدها هي المؤثرة ،فهناك جوانب ذات تأثير نفسي ،تتلخص
في جنوح بعض األفراد إلى تأكيد وضعهم االعتباري بالسير فوق أجساد غيرهم ،ومن باب اإليضاح اإلشارة إلى تباين حوافز
المنتسبين إلى المجال الثقافي بين ذاتية صرف ،وذات طابع رسالي (االشتغال على مشروع) .في يقيني أن األعطاب تنحصر وتتجلى في قاعدة الهرم ووسطه ،وتتسم بالفجاجة واالبتذال. وهنا بؤرة البؤس الثقافي .بينما ال يمكن نكران الصراع بين
التوجهات واألفكار ،ونشدان الهيمنة على الحقل الثقافي وتوجيهه ،وهو واقع يستوعب األفراد ويتخطاهم .وتحضرني
واقعة الولي عبدالعزيز التباع الذي حسم خالفه مع غريمه الولي رحال الكوشي قائلاً « :ال يمكن لثعبانين أن يسكنا في جحر واحد» مما حدا بهذا األخير إلى مغادرة مراكش مُ كرهً ا نحو أحواز السراغنة -زمران ،وإقامة رباطه هناك .وهو األمر
نفسه الجاري بأوجه متعددة اآلن ،وهو ما يحول دون حظو مثقفينا ،في الحقيقة والجوهر ،بما يجب من احتفاء خالص.
وإذا رأينا احتفاء باألموات منهم ،فإنما وفق قاعدة غريبة
130
منافسا). (الميت ال يشكل ً
ويرى طه أن الصورة ليست قاتمة بالمطلق« ،نحن أمام
مراد الخطيبي: المهتم بالشأن الثقافي المغربي تزداد خيبته ويعظم اإلحساس لديه بالدونية والتهميش عندما يتم االهتمام بمجاالت أخرى ال تنتج إال الرداءة ،وال تحقق إال
إفساد الذوق والتفاهة رجة قوية في القيم ،وأمام سيادة البراغماتية ،وأمام تداخل وتشابك القضايا والمسارات ،ومع ذلك ،وباتساع التواصل
بات الفساد واإلفساد يرتد على مقترفيه ،وما حضور اإلنتاج
الثقافي المغربي الوازن في المشرق العربي وبأجناسه المختلفة ،ومن خالل الترجمة ً أيضا ،إال داللة اعتراف بتميزه،
وخصوصيته النوعية؛ ألنه يحمل اجتهادًا ،ونكهة .إن انفتاح منتجي الخيرات الرمزية من المغاربة على اللغات والثقافات
يتبدى فيما ينتجون ،ومع مرور الوقت ،وعودة االتزان إلى
الحياة الثقافية ،ووضوح المرامي الحقيقية للفعل الثقافي،
سعيد يقطين :واقعنا الثقافي تفككت أوصاله
حساسيات تكونت في أوج الصراع األيديولوجي متى يمكن أن تظهر اإلمكانيات والطاقات في بلد ما؟ الجواب بسيط :عندما يكون المناخ الذي تعيش فيه سليمً ا،
ومشجعً ا .ولكن عندما تنتفي هذه البيئة ،فإن من يعمل على البحث عن تلك الطاقات واإلمكانيات سيعثر عليها في المكان
الذي ال يعترف بخصوصيتها .وينطبق هذا بصورة كبيرة على ما يجري في بلدنا ومكوناته اإلعالمية والثقافية .إنهم يبحثون عن الطاقات واإلمكانيات خارج فضائهم الخاص غير ملتفتين إلى ما يتحقق داخل مجالهم .وما يصدق في هذا المضمار على المؤسسات المختلفة ،يسري مع األفراد .وكل ما تسمعه عن «ثقافة االعتراف» و«المصالحة مع الذات» ليس سوى لغو يوظف ألغراض ذاتية ومكاسب خاصة .إن واقعنا الثقافي ال تزال ُتفكك أوصاله ،تقاليد وحساسيات تكونت في أوج الصراع
السياسي واأليديولوجي لحقبة ما بعد االستقالل.
ورغم تغير الظروف والشروط نسبيًّا ال تزال تلك الذهنية التي هي وريث تلك الحساسيات هي السائدة والمتحكمة .لذلك
ال غرو أن نرى تقييم األعمال واألفراد تحكمه العالقات والوالءات واالنتماءات ،وأخيرًا االنتهازية .وكلما كان تقدير العطاءات مؤسسا على مثل هذه األحكام والمواقف ،يكون البحث في الخارج أو من داخل الحلقة ،مع العمل على إقصاء وإلغاء من ً ً ال ينخرط في تلك العالقات أو ال يقيم لها وزنا. بالنسبة إلي ال يغيظني هذا الواقع من وسائل اإلعالم ،وال من المؤسسات الثقافية ،وال من بعض الزمالء .بل إني ال أفكر فيه وال أهتم به .أشتغل وأعمل ،ألني ّ أعد هذا قدري الذي اخترته عن وعي ،وال تهمني ردود األفعال ،وال أبحث عن
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
المشهد الثقافي المغربي بائس في المغرب ...ومتوهج في المشرق!
وتطور الحاضنة الثقافية ،ستبقى النصوص متكلمة على الدوام بصرف النظر عما أحاط بها ،وبأصحابها من تعويق». اإلحساس بالدونية
أما المترجم واألديب مراد الخطيبي فيرى أن المتتبع
والمهتم بالشأن الثقافي المغربي «يستشعر غياب سياسة ثقافية واضحة المعالم من لدن الدولة المغربية .تزداد خيبته
ويعظم اإلحساس لديه بالدونية والتهميش عندما يتم االهتمام بمجاالت أخرى ال تنتج إال الرداءة ،وال تحقق إال إفساد الذوق والتفاهة» .ويقول :إن المثقف أصبح «معزولاً ً ومنبوذا وال
تتحدث عنه الدولة إال عندما يموت أو ينخر المرض جسمه .هذا ناهيك عن أعماله التي يطالها النسيان إال من قراء حقيقيين وباحثين يعيدون النبش في مخطوطاته ويخلقون تواصلاً
متجددًا معها.
جمال الموساوي: المشهد الثقافي أصبح ملي ًئا بالنفاق، وبمظاهر التزلف ،وأحيانًا بنوع من الناس الذين يعتقدون أنهم يمتلكون الحقيقة كاملة ،وأنهم وحدهم الحاملون لمفاتيح المستقبل
«األحزاب ،وهنا أتكلم عن األحزاب الحقيقية مع األسف،
وغالبا ما يتم اختزال الجانب الثقافي من طرف الدولة
تراجع دورها التاريخي ،وأصبح الشأن الثقافي ال يحتل المكانة ً عنوانا عامًّ ا األساسية ضمن برامجها .ويبقى في غالب األحيان
المتعارف عليها .هو فقط شكل من أشكال التزييف وتكريس
لتنفيذه .أكثر من ذلك تحس بأنه برنامج انتخابي تنسخه أغلب
بكل أجهزتها ،وكذا من بعض وسائل اإلعالم في الفن ،وحبذا لو كان ف ًّنا جميلاً ويحمل كل المقومات الفنية والجمالية
ً وفضفاضا ال يحمل رؤية إستراتيجية ،وال يضع آليات علمية
ثقافة الرداءة .وخير توصيف لهذه الحقيقة هو قلة البرامج
األحزاب فقط لتأكيد حضور الشأن الثقافي ضمن برنامجها
التلفازية المخصصة للثقافة الجادة بالمقارنة مع البرامج المكرسة للرداءة» .ويلفت الخطيبي إلى دور األحزاب،
األيديولوجي .مع األسف تنازلت غالبية األحزاب عن دور المثقف الحقيقي المتمثل في الكاتب والشاعر والفيلسوف والفنان التشكيلي والمفكر وغيرهم ،وانزاحت نحو استقطاب أصحاب المال من أجل «انتصار انتخابي» مؤقت ما انعكس
ذلك سلبًا في األخير على المثقف ولكن على الحزب بدرجة أكبر .أمام هذا الوضع أصبح الكاتب مثلاً ً منبوذا ال يحضر
موقع وال كرسي .وحتى
لقاءاته إال القلة ،وأصبح الكتاب قابعً ا في رفوف المكتبات».
في خضم انخراطي في
ويؤكد الخطيبي أن المغرب يزخر بأسماء المعة في
العمل السياسي والثقافي
مجاالت الفكر واألدب والترجمة والفلسفة وغيرها «وال يلتفت
لم تكن وراء ذلك أي رغبة في تحصيل منفعة أو
إليها بل ويطالها نسيان غير مفهوم ،بينما يتم تكريمها في
سعيد يقطين
الحصول على مكاسب ً جديدا ،ال أرغب في تعليق معينة .وعندما أنشر كتابًا ملصق عنه في ردهات الكلية ،وال أخبر به ً أحدا من الناس.
لقد انتهى عملي بإصدار الكتاب ،أو نشر المقال ،وعليه أن يبحث عن موقعه بنفسه .وعندما يلقى ما أكتب الترحيب في كل الوطن العربي ،ومن لدن الصادقين من المغاربة، ً ّ أحيانا، أعد ذلك خير عزاء .ولكن مع ذلك ،يح ّز في نفسي أن أرى زامر الحي المغربي ال يطرب .وأقصد هنا كتابًا
ومفكرين وفنانين آخرين غيري.
ناقد
المشرق ،ويتم التنويه بها وبأعمالها في مختلف المحافل الثقافية والعلمية التي تحضرها .أكثر من ذلك بعض المغاربة
يحصدون جوائز مهمة عن جدارة واستحقاق؛ ألن هذه الدول تؤمن بثقافة االعتراف ،وتولي أهمية خاصة للجانب الثقافي،
وتشجع المجتهد .وفي المغرب ال نتذكر رموزنا الفكرية واألدبية
سعيد يقطين :كل ما تسمعه عن «ثقافة االعتراف» و«المصالحة مع الذات» ليس سوى لغو يوظف ألغراض ذاتية ومكاسب خاصة
131
تحقيقات
إال عندما يواريهم التراب مع األسف».
على حين عدّ الشاعر جمال الموساوي أن البؤس الثقافي
«الذي يرين على واقعنا جزء من البؤس المجتمعي العام .لنقل
البؤس وجه من أوجه المزاج العام لهذا المجتمع الشكاء إن َ البكاء .بهذا نكون إزاء صورة نمطية تلقي بالمسؤولية دائمً ا على
اآلخرين .اآلخرون الذين يفترض أن يشكلوا ذلك «الجمهور» الذي يحلم به المثقف وتسعى الثقافة (في مفهوم ضيق) الستقطابه،
كما تفعل مجاالت أخرى مثل كرة القدم .والحال أن المشتغل بالثقافة إذ يصدر هذا النوع من األحكام ،فهو يتهرب من نصيبه
من المسؤولية فيما آل إليه المشهد من ابتذال .إن االبتذال هنا، ً توصيفا لوضعية المشهد ليس حكمً ا على اإلنتاج الثقافي ،بل الثقافي العام ،الذي من سماته اختفاء السؤال النقدي الذي ً خالقا واالكتفاء بالجاهز .لهذا مثلاً تحصل يتطلب جهدً ا فكريًّا
أغنية رديئة على إقبال «فظيع» ،وتكتفي رواية أو أي كتاب أدبي
أو فكري ببيع بضع عشرات من النسخ». ويقول الموساوي :إن المشهد الثقافي «أصبح مليئاً ً وأحيانا بنوع من الناس الذين بالنفاق ،وبمظاهر التزلف، يعتقدون أنهم يمتلكون الحقيقة كاملة ،وأنهم وحدهم
132
الحاملون لمفاتيح المستقبل ،وهذا ال يختلف عما لدى الكثير من الناس والجماعات السياسية والدينية والعرقية حيث ال
مجال لطرح األسئلة .إنه في هذا األمر ال يكاد يختلف من يأتيه ً انطالقا من اعتراف من المشرق ،أو يحاول أن يكرس نفسه
موقعه هنا .لنتأمل المشهد ونعدد بعض الظواهر التي باتت
لصيقة به ،وتضفي عليه مسحة بئيسة .هناك تقريبًا في كل ً وأحيانا أكثر بين الشعر والقصة والسينما مدينة مهرجان ثقافي
والمسرح والموسيقا وغير ذلك من األنشطة الثقافية ،وهذه الكثرة ليست بالضرورة عالمة صحية .ثم هناك أمر قريب من هذا ،وهو غزارة في اإلنتاج من الكتب والكتابات (دون مقارنة مع
اآلخرين) ،لكن ليس هناك تطور مماثل في حجم القراءة وعدد
شعيب حليفي :ما يقلقني اليوم هو استسالم المثقف المغربي وانعدام حماسه ألحالمه وأحالم الذين يكتب بأصواتهم المشهد الثقافي المغربي بائس في المغرب
بؤسا متعد ًدا شعيب حليفي :نحن نعيش ً مفارقات المشهد الثقافي المغربي هي من مفارقات المجتمع وما يحياه من تقلبات
اجتماعية واقتصادية وسياسية .وأعتقد أن الثقافة المغربية عرفت صدمة قوية ال يزال أثرها جليًّا وسلبيًّا بشكل من األشكال حينما شعر المثقفون بأن بعض أحالمهم بالتغيير،
التي هي أحالم المجتمع ،ستتحقق مع تجربة التناوب في المغرب ،والتي يمكن أن تكون
قد نجحت نسبيًّا على المستوى السياسي ،ولكنها فشلت ثقافيًّا ،وأفرزت بالتزامن مع ثورة معلوماتية وسيادة ثقافة البذخ والواجهة والجوائز ثقافات أخرى ومثقفين آخرين،
شعيب حليفي
كما تحولت الثقافة من فعل نضالي ،بحكم وضعنا وحقيقتنا ،إلى فعل اقتصادي أفرز نخبة من المثقفين «الخبراء» في
مجاالت الخطاب عامة ،والبقية الباقية بقيت في مربعها «الطاهر» وسط أسوار تعلو يومً ا بعد يوم ،وتخفي بصيص تلك األحالم ..فال يجدون للقفز نحو تلك األحالم إال زانة مكسورة تزيد الوضع صعوبة. إننا فعلاً نعيش حاالت من التحول ومن التعايش مع ما استجد وما يستجد لإلفاقة من الصدمة إفاقة صحية.
التاريخي إنْ على المستوى الفعلي في الواقع أو فيما يُكتب من بؤسا متعد ًدا في ابتعاد المثقف من دوره فنحن نعيش ً ّ زخارف تقزم المعرفة والتخييل القادر على محاورتنا وتفكيك َعطبنا .وفي السياق ذاته ،نحن جزء من عالمنا العربي الذي يسبقنا في انتصاراته وانتكاساته .فها نحن أمام تزايد هجرة المثقفين الجامعيين إلى الجامعات العربية واألوربية
أمس الحاجة إليهم لتطوير البحث العملي والبيداغوجي .كما بات مما يُفرغ جامعاتنا ويهددها .والحال أن طلبتنا في ّ
ً متخصصا في اقتناص التأليفات المغربية في شتى األبواب .أتساءل بصيغة أخرى :هل العديد من دور النشر العربية
كل هذا سلبي أم أنه مرحلة سيأتي ما بعدها؟ فما يقلقني اليوم هو استسالم المثقف المغربي وانعدام حماسه ألحالمه وأحالم الذين يكتب بأصواتهم.
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
ناقد وروائي
االشتراك السنوي 150ريالاً سعوديًّا لألفراد 250 ،ريالاً سعوديًّا للمؤسسات ،أو ما يعادلهما بالــدوالر األمـيـركــي خـــارج المملـكــة العربية السعودية.
السعر اإلفرادي السعــوديـــة 10ريـــاالت ،اإلمــــارات
القراء ،فيظل هذا اإلنتاج كاسدً ا ،بمساعدة ظروف محيطة ،منها غياب
إعالم ثقافي حقيقي بالرغم من الجهد الذي يبذله األصدقاء المشرفون
10دراهم ،قطر 10رياالت ،البحرين فلسا ،مصر 4 دينار واحد ،األردن 750 ً جنيهات ،المغرب 10دراهم.
على الصفحات الثقافية في الجرائد اليومية ،ومنها كذلك تراجع دور
بعض المؤسسات كاتحاد الكتاب الذي غرق في أزمة نتيجة تضخم في
بعض «األنوات» وغلبة الطموحات الشخصية على العمل الثقافي لهذه المؤسسة».
ويرى الموساوي أنه لتحقيق هذه اآلمال وإعادة إحياء الثقافة
المغربية داخليًّا «ال بد من النظر إلى الشأن الثقافي نظرة واضحة ،وأن
يتم تقبل الثقافة كجزء ال يتجزأ من حياته ،فهو على المستوى الباطني
(ال يمتلكها وال يستخدمها بحكمة) وعلى المستوى الخارجي ( الثقافة فعلي واضح في حياته اليومية( .في الحالة األخيرة ،فإن ليس لها وجود ّ المواطن المغربي لديه ميل إلعفاء نفسه من تعقيدات األمور ،وأن يصبح
متفرجً ا على محيطه وبيئته المباشرة ،دون السعي إلى تعميق وعيه الثقافي وتوسيع مداركه المعرفية ،وهذا ما دفع مجموعة من المثقفين
المغاربة إلى العزوف عن الحراك الثقافي الداخلي .واالنخراط في الحراك الثقافي الخارجي .أعتقد أن الوقت حان إلعداد ميثاق ثقافي وتأسيس
مجلس أعلى للثقافة يدبر المجال الثقافي ويرسم اإلستراتيجيات، ويضع البرامج ويمهد للتواصل والتفاعل بين المثقفين فيما بينهم داخل ً ً وانكماشا ،وبالمقابل هناك انغالقا المغرب الذي يشهد فيه المثقفون
ً خصوصا مع المشرق؛ إذ نالحظ حضورًا تفاعل مع المثقفين في الخارج ً وتألقا يتوج بجوائز ومكاسب ثقافية مهمة .كما ينبغي حيويًّا وانفتاحً ا تفعيل دور وزارة الثقافة ،التي ال تتحمل مسؤوليتها في خلق دينامية
ثقافية؛ إذ تنحصر أنشطتها في اإلشراف على بعض األنشطة؛ كمعرض الكتاب ،أو رعاية بعض الندوات أو المهرجانات دون السعي إلى إنتاج
ثقافة والبحث عن أسباب إنتاج ثقافي».
الموزعون السعودية ،الشركة الوطنية الموحدة للتوزيع ،هاتف ،)٠١1(٤٨٧١٤١٤ :فاكس: ،)٠١1(٤٨٧١٤٦٠مصر ،مؤسسة توزيع األهرام ،شارع الجالء ،هاتف: ،٣٣٩١٠٩٥فاكس ٣٣٩١٠٩٦ :ـ ،..٢٠٢ قطـر ،دار الشرق للطباعة والنشر والتوزيع ،ص.ب ،٣٤٨٨هاتف: ،٤٦٦١٢٨٢فاكس ٤٦٦١٨٦٥ :ـ ،٠٠٩٧٤ األردن ،شركة وكالة التوزيع األردنية، ص.ب ،٣٧٥هاتف ،٤٦٣٠١٩١ :فاكس: ٤٦٣٥١٥٢ـ ٦ـ ،٠٠٩٦٢البحرين ،مؤسســــة الهالل لتوزيع الصحف ،ص.ب ٢٢٤ هاتف ،٢٩٤٠٠٠ :فاكس ٥٣١٢٨١ :ـ ،٠٠٩٧٣اإلمارات العربية المتحدة، مكتبة دار الحكمة ص.ب ٢٠٠٧هاتف: ،٤٩٣٥٦٦٢فاكس ٢٦٦٩٨٢٧ :ـ ٤ـ ،٠٠٩٧١ المغرب ،الشركة الشريفية لتوزيع الصحف فاكس ٢٢٤٠٤٠٣١/٣٢ :ـ ،٠٠٢١٢ هاتف.٢٢٤٠٠٢٢٣ :
133
ثقافات
تاريخ األدب الكردي.. التيه المفتوح على أفق مجهول يمتلك ُ الكرد في أنحائهم التاريخية األربعة نحو 300ملحمة
اجتماعية وسياسية تتداول شفهيًّا ،بعضها يرددها المغنون ُ الكردية فتعلق بالذاكرة الفطريون الجوالون على القوى المحكية ،غير أن ُكرد المدن أنفسهم ومجاوريهم من العرب واألتراك واإليرانيين لم تصلهم سوى عدة مالحم شهيرة مدونة
ومنتجة باحتراف كواجهة لألدب القومي الذي يعاني االندثار،
134
َ و«م ّم وزين» و« ُدمْ ُدمْ »؛ الرتباطها وأبرزها «كاوة الحداد»
بالمشغول السياسي والمحمول العاطفي والهم القومي ،فيما
تضيع المالحم المتبقية في مغاور الجبال ،رهينة اللهجات تعسر التواصل بين ُ ّ الكرد ذاتهم. العصية على الفهم ،والتي
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
صفاء خلف باحث عراقي
تيه اللغة
يواجه ُ ٍّ تحد لهويتهم الثقافية متمثلاً في الكرد أكبر
«اللغة» التي تكاد تنشطر وتضيق وتنفتح ،وتلملم ذاتها في مصبات لفظية مختلفة ،حتى بات ُ الكرد شعوبًا «لغوية» رغم الدم القومي الذي يشحنهم بالعاطفة واالنتماء األبدي، فاالنقسام اللغوي ّ شكل ديموغرافية ما يُعرف بـ«كردستان
الكبرى»؛ فاستحوذت اللهجات على األرض والعرق ،وباتت
كردستان «كرمانجية شمالية» و«كرمانجية جنوبية ،ويطلق
عليها السورانية» فيما ظلت كردستان العراق حبيسة «السورانية» و«البهدينانية» ،فتغلبت األولى وصارت «اللغة
الرسمية» في دواوين الحكومة والكتابة والنشر وحتى الصحافة .فرئيس إقليم كردستان العراق مسعود بارزاني
الذي ينطق وقبيلته وأنصاره بـ«البهدينانية» وجّ ه باعتماد «السورانية» كلهجة رسمية تفاديًا لالختالفات ،وكخطوة تمهد لمشروع توحيد اللغة العسيرة بـ«لهجة واحدة». وفي األصل فإن اللغة ُ الكردية المتشعبة التي التقطت خالل عمرها المضطرب تبعً ا للتحوالت آالف المفردات العربية والفارسية واإلنجليزية والتركية ،تعدّ لغة «هندوأوربية» وبها
لهجتان أساسيتان هما «الكرمانجية» و«البهلوانية» ،اللتان تنقسمان إلى 18لهجة محلية .وتبعً ا ألمين شحاتة الذي يعد
ً مرموقا لدى ُ كتابه ُ الكرد «الكرد ..معلومات أساسية» مرجعً ا
وجميع المهتمين بقضيتهم ،فإنه يؤكد أن «كرد تركيا وسوريا ً وبعضا منهم في إيران والعراق يتكلمون البهدينانية ،في حين يتكلم معظم كرد العراق وإيران السورانية».
لذا فانقسام اللغة ضيّع فرصة عظيمة لظهور تاريخ محدد لآلداب ُ الكردية ،كما ضيّع فرصة أعظم منها لتدوين
أدب كردي بمالمح أكثر خصوصية .ويعزو المثقفون ُ الكرد مآزق تش ُّتت اللغة وعدم توحيدها إلى االضطهاد السياسي المتعاقب!
تيه التدوين
أعلن الشاعر الراحل شيركو بيكس وآخرون في بيان جماعة «روانگة» رفضهم ألنماط الكتابة السائدة، ومحاوالتهم تحقيق أشكال إبداعية جديدة ،وذلك بعد عام فقط من إصدار البيان الشعري لجماعة شعر 69 العراقية ،الذي أطلقه فاضل العزاوي انتصار الجيش اإلسالمي السلجوقي على الدولة البيزنطية
المسيحية ،في موقعة «مالذ كرد» (مالزكير) ،ويشدد المؤرخ ُ الكردي محمد أوزون (من كرد تركيا) في كتابه «بداية
األدب ُ الكردي» (ت :دالور زنكي) أن «لهذا التاريخ أهمية
بالغة لدى األكراد ،حيث اقتحمت القبائل الطورانية الغازية المدن ،وفتحت بوّابة األناضول ،وتشبثت باألرض ،ورسخت فيها أقدامها ،في هذا التاريخ اندحر سكان األناضول
البيزنطيون ،ولحقت الهزيمة باألكراد في موقعة [مالزكير] لدى مقاومة الغزاة والتصدي لهم ،وغدت هذه االنتكاسة
ومآس لألكراد ال تنتهي». مصدر ويالت ٍ وتعود أُولى رباعيات كردية معروفة مماثلة لرباعيات الخيام الشهيرة إلى الشاعر ُ الكردي بابا طاهر الهمذاني (1010 –935م).
تبعثر ُ الكرد في األرض ،وباتت هويتهم متناثرة ،ومنذ
الدخول األول لهم في اإلسالم حتى اللحظة ،لم تظهر لهم ديانة إبراهيمية سوى «اليهودية» ،فيما المحاوالت الضعيفة والخجولة في تأسيس ديانات كردية محضة خرجت ً أيضا من
يُرجع مؤرخون أكراد بداية األدب القومي إلى القرن
المرجل اإلسالمي كـ«الكاكائية» الشبيهة بـ«الدرزية» ،بينما المسيحية ماتت في نفوس ُ الكرد منذ (مالزكير) لجهة قسوة
غالبًا ما تعود إلى عام 1071م ،مرتبطة بسقطة سياسية، فجّ رت قيامة الكتابة ُ الكردية تدوي ًنا ،فيما ظل هناك تاريخ
الوقائع الكارثية لألمة ُ الكردية خلقت أدبها المدوّن،
السابع (ق.م) ،لكن الدالئل التاريخية تضعف كثي ًرا إزاء تلك العودة المغمورة ،فمحاوالت أرشفة وأرخنة األدب ُ الكردي
أدب محايث يتداول شفهيًّا ،رغم التحوّل الذي طرأ على الهوية ُ الكردية الدينية.
ففي عام 1071م ،ضاعت أحالم ُ الكرد بالحفاظ على
أنفسهم كقومية تمسك باألرض الممهدة لقيام الدولة في يوم ما .خسر ُ الكرد مناطقهم وهويتهم المحضة ،إثر
ألب أرسالن السلجوقي.
وباتت «مم وزين» في القرن السابع عشر الميالدي -أبدع في ترجمتها وتخريجها العلاّ مة الراحل محمد سعيد رمضان البوطي (دمشق ،دار الفكر1982 ،م) -أول تاريخ عابر للشفاهية إلى الكتابة في تاريخ ُ الكرد على يد مؤلفها مال أحمد خاني (1708 – 1650م) التي يورد فيها نتفة عن هزائم ُ الكرد المكررة في تأسيس دولة.
135
ثقافات
األدب ُ الكردي في غالبه شعر؛ فالكتابة تميل إلى
االستقرار ،والشعر يميل إلى اإلنشاد ،وما بين الكتابة واإلنشاد نشأ للكرد أدب ،ابتداءً من الشاعر ُ الكردي (الالأدري) حاج قادر كويي (1892 -1815م نسبة إلى كويسنجق شمال
أربيل) ،الذي حكمت عليه السلطات العثمانية باإلعدام، وأمرت بحرق كتبه وأشعاره .بينما الشاعر «فقي طيران» يعد أول شاعر قصيدة نثر كردية عبر منجزه الملحمي «برسيس»
وتتحدث عن صراع الجان والعمالقة.
سميت بأسماء هؤالء الثالثة أشهر شوارع وساحات وأسواق
السليمانية. مدينة ُّ تيه الحداثة
ومثلما يقول الشاعر الفلسطيني محمود درويش «ليس للكردي سوى الريح» ،فليس لألدب ُ الكردي سوى الشعر، والشعر وحده يُلخص تاريخ ُ الكرد ،رغم المشغوالت
وعلى الرغم من التحديات المرعبة التي يواجهها ُ الكرد
األخرى في الرواية والقصة والمسرحية والنقد ،غير أن
وجمع اآلثار الفنية والغنائية والشعرية لشعب تغ ّرب في الجبال ،وأضاعته الدول والممالك ،فإن منج ًزا مهمًّ ا بات هو البوابة الواسعة لفهم العالم المتشعب ألدب ُ الكرد،
ويفتتح عصر الكتابة الحديثة المُ علم عبدالله گوران (1963-1904م) شاع ًرا تجديديًّا ،مُ ً طلقا انقالبًا على اآلباء
إزاء هويتهم األدبية ،لجهة عدم مأسسة كتابة التاريخ األدبي
أنجزه الكاتب ُ الكردي الدكتور معروف خزندار بموسوعة «تاريخ األدب ُ الكردي» في سبعة مجلدات ( 3815صفحة من
القطع الكبير) صدرت عن (دار آراس) في أربيل (،)2006 - 2001 دوّن فيها تاريخ األدب ُ عام حتى عام 1975م. الكردي عبر ألف ٍ مستكملاً مشروعه بـ«موجز تاريخ األدب ُ الكردي المعاصر» الذي طبع عام 2008بـ 200صفحة من القطع المتوسط عن
136
اتصف شعره باألسى والرثاء لشقاء الحياة في هذا العالم.
«هوشنك كرداغي» بدمشق.
أفرزت البداية ُ الكردية في الكتابة شعراء مؤسسين ،هم
آباء هذه األمة المتورطة في التيه ،كمولوي (1852 -1806م) الذي ابتكر المقاطع الشعرية الملتزمة بالقافية ،و مُ ال خيزر
ميكائيلي (مال خضر) من شهرزور (1855 -1797م) الشهير بـ«نالي» (تعني األنين بالعربية) بعد أن شهد انهيار اإلمارة
السليماني الكبير (1909 -1845م) الذي البابانية ،وسالم الشيخ ُّ
للشعر سطوة.
المؤسسين ،برفقة شيخ نوري شيخ صالح (1959 -1892م) ِّ منظ ًرا لحركة التحديث ُ الكردية ،فكان گوران الذي يعد
وصالح األبوين الروحيين للشعر الحديث ،وصاحبي الموجة األولى المعاصرة أو ما يُعرف بـ«شعراء الحداثة األولى» ،التي
امتدت حتى أوائل السبعينيات من القرن العشرين لتبدأ الموجة الالحقة ،بعد أن ظهرت بواكيرها في الستينيات
ضيع فرصة عظيمة انقسام اللغة ّ لظهور تاريخ محدد لآلداب ال ُكردية، وفرصة أعظم منها لتدوين أدب كردي بمالمح أكثر خصوصية .ويعزو المثقفون ال ُكرد مآزق تشتت اللغة وعدم توحيدها إلى االضطهاد السياسي المتعاقب!
تيه الريادة كانت أول صحيفة كردية هي صحيفة «كردستان» التي أصدرها مدحت بك ،في القاهرة عام 1898م ،واختلف ً أيضا فيها المؤرخون ُ الكرد بتحديد تاريخ صدورها ومؤسسيها ،فيما ظهرت أول مجلة تعنى بالمرأة وهي «ژن ـ »Jinاألسبوعية
«رياتازه -الطريق الجديدة» ،ومجلة عام 1924م ،وفي عام 1929م صدر في يريفان (عاصمة أرمينيا السوفييتية) صحيفة ِ َكالويژ (نجمة سهيل) ببغداد بين عامي (1949 -1939م) ،و(ه ّتاو) في أربيل عام 1954م ،وصحيفة «كردستان» بإيران
(1963 -1959م) ،وفي دمشق أصدر أبناء بدرخان صحيفة «هاوار -الصرخة» في المدة (1935 -1932م) و(1943 -1941م) إذ
صدر 57عد ًدا منها ،وصحيفة «روناهي» (1945 -1942م) بـ 28عد ًدا ،وفي بيروت صدرت صحيفة «روژا نو ـ »rujanuأي
«اليوم الجديد» ،في المدة (1945 -1943م).
ويرجع تاريخ أول قصة كردية إلى عام 1925مً ، وفقا إلى القاص حسين عارف في فهرسته للقصة ُ الكردية ،فيما كانت رواية «الراعي ُ الكردي» لعرب شمّ و ،كأول رواية كردية صدرت في أرمينيا عام 1935م ،وفي النقد ،كتاب «النقد
النثري التأثري» لشيخ نوري شيخ صالح ،المنشور في 25حلقة في جريدة (ژيان ـ الحياة) بين عامي 1926 -1925م.
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
تاريخ األدب ال ُكردي ..التيه المفتوح على أفق مجهول
مهرجان الشعر الكردي العشرين في عامودا
والتي يعتبرها المثقفون ُ الكرد حقبة أدبية مظلمة؛ لخلوها من أي منتج حداثي ،رغم أن العالم كان يشتعل لحظتها
تجديدً ا وحداثة.
كاكه مم بوتاني ،والشاعر جالل ميرزا كريم ،والقاص جمال شاربازيري؛ إذ أعلنت الجماعة بوضوح رفضها ألنماط الكتابة
السائدة ،وبحثها ،أو محاوالتها تحقيق أشكال إبداعية
موجة الحداثة الثانية كما يُثبتها الشاعر والمترجم عبدالله طاهر برزنچي ،في مقدمة أنطولوجيا الشعر ُ الكردي
شعر 69العراقية ،الذي أطلقه فاضل العزاوي.
المسار للترجمة والنشر»؛ إذ يقول :إن «الموجة الجديدة أو الحداثة الثانية ،تأخر ظهورها في الشعر ُ الكردي إلى
عنه في المدة ذاتها ،حتى كشف في عام 1992م في مجلة «بروژة» (المشروع) للشاعرين لطيف ّ هلمت وأنور شاكلي.
الحديث (2007 –1920م) التي صدرت عام 2008م عن «ديوان
السبعينيات؛ ألسباب متعلقة بالشاعر وظروفه الموضوعية واالجتماعية والسياسية ( )...إن الحداثة الثانية أرادت
جديدة ،وبعد عام فقط من إصدار البيان الشعري لجماعة ولحق بيان «روانگة» بيان شعري ظل مخبوءً ا غير معلن
وفي تسعينيات القرن الماضي ،انطلقت الحداثة الثالثة،
والتي لم تخلق مغايرة حقيقية ،بل كانت متأثرة بواقع االنفتاح السياسي ،والتبدالت الطارئة على المصير ُ الكردي
في خطوتها الجادة تجنب الركود» .ويشير إلى أن الشاعر ُ الكردي أنور شاكلي «فرها شاكلي» أعلن االنقالب بمجموعته
الجديد في العراق ،بعد االنفصال الذاتي عن مشيمة بغداد
لكن غاضبة «بكل فخر واعتزاز تتوجه قصائدي نحو الق ّراء
استثمروا المخيلة فـ«كثرت االنزياحات ،وعمت الفوضى ()...
«مشروع انقالب سري» (بغداد 1973م) عبر مقدمة مقتضبة وتاريخ أدبنا ،وتعلن عن نفسها كريادة لمرحلة تتجاوز مرحلة عبدالله گوران ،وتحدد معالم شعر الحاضر
والمرحلة الراهنة في كردستان». ً تاريخا أسبق من بيان انقالب شاكلي الذي لكنّ ثمة
صدر من طرف واحد ،وهو بيان جماعة «روانگة» (المرصد) ّ والقاص الالذع ،من طرف الشاعر الراحل شيركو بيكس،
عام 1991م ،وبحسب برزنچي فإن شعراء هذه «الحداثة»
وكتبت نصوص كونكريتية».
لكني أشير إلى أن هناك موجة حداثية جديدة رابعة في الشعر ُ الكردي المعاصر ،بانت مالمحها البكر بعد ّ عام 2003م ،رغم غياب بيان شعري جامع ،أو مُ نظر يُثبتها كريادة جديدة ،لكنها برزت في ظل ركود مزعج ،مع شعراء
مجددين أبرزهم الشاعر طيب جبار والشاعرة الزو.
137
ثقافات
روالن بارت.. المفكر الذي أخفى حزنه عبدالدائم السالمي ناقد تونسي
في مناسبة االحتفال بمئوية الناقد والمفكر الفرنسي
روالن بارت ،وصدور كتاب جديد عنه بعنوان« :روالن بارت :سيرة ذاتية» للكاتبة المختصة في السيرة الذاتية
138
ْ سام َويُو ،يحاول هذا المقال تسليط الضوء على تيفين
مناطق لم تكشف من قبل في حياة صاحب «لذة النص». َ ْ ص َ أن َ العالم ت روالن بارت (1980-1915م) إلى أشياء ٍّ ً وشعريّ معا؛ أنصت إلى فكري وأحيائه بامتال ٍء ِ
حركة المفردات الحاكمة لمنظومة المعيش الثقافي
ّ كالنص األدبي ،والموضة، واالجتماعي والسياسي؛ واإلشهار ،وألعاب األطفال ،ورياضة الكاتش ،وشميم األمكنة ،والصورة الفوتوغرافية ،والرغبة في العيش
المشترك ،والسيارات واإلذاعة والجريمة واألطعمة،
وغير هذا كثي ٌر ّ مما تكتنزه الحياة اليومية من مفردات، ً ِّ الخاص، باحثا في كل واحد ٍة منها عن سرد ّي ِة خطابِها ّ الداخلي الباني ألسطورتِها اللي إيقاعها وعن ِّ الد ِّ ِ الجديد ِة ،وعن «حقيقة» لها أخرى ُممكنة ال َت ْع َت ِورُها ّ ُ والتسطح واالضطراب وأُحادية المعنى، أحوال التهافت
ٌ ّ العامة، أحوال رأى أنها قد الزمت الحقائق وهي –بكثير من ُ المألوف المعاناة -في خانة وجعلتها تتحرّك ِ ٍ الم َ ً ُ سلفا نتظ ِر الذي يجعل مستقبل الناس ُم َع ًّدا لالستعمال فحسب وليس ُ للمتعة.
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
ّ حقائق الناس اليومي ِة هو ما ولعل افتتانَ روالن بارت بمسرح ِ ّ ُّ ف رغبه في تحليل شروط وجود الواحدة منها ،وحَ ْفزها على التكش ِ
بِ ِب ْك ِر دالالتها .وقد اتكأ في تحقيق ذلك على معرف ِته المائزة بتراث البالغة القديمة ،وتش ُّربِه للنظرية اللسانية ومجلوبات علمي االجتماع والتحليل النفسي سبيلاً ً قويمة إلى نحت رؤي ٍة ِ ٌ ٌ جامحة «مقاومة سيميولوجية للظواهر اإلنسانية ،تحدوه فيها ّ لكل نظام مختزل»َ ، وت ٌ وق إلى بلوغ معقولية لألشياء مُخالفة لِما يبدو منها معقولاً في الواقع ،وكأنه ال يوجد في المعقولية غير
ً كثير من عروش رغبة في هز فكرة المعقولية ذاتها ،وكأن ألفكاره ِ ٍ َ العالم. للسكن في آفاق جديدة َّ النظريات ،وفتح ٍ الغداء األخير
ّ توفي بارت يوم 26مارس 1980م بمشفى «سَ ْل ِب ْتريير» بباريس
بعد شهر من تع ّرضه لحادث مرور يوم 25فبراير من السنة ً بليغة .وكان بارت ينتوي يومَها نفسها؛ سبّب له أضرارًا جسدية
التوجّ ه إلى «الكوليج دي فرانس»؛ لتهيئة التفاصيل التقنية التي ُ محاضرته التي يُزمع الحديث فيها عن كتابات مارسيل تحتاجها
ّ المفكر قد انغمس صباح الحادث في رقن َن ِّ ص محاضر ٍة أنّ هذا كان سيُلقيها بـمدينة «ميالنو» اإليطالية خالل ندوة حول كتابات
وانصب جه ُده فيها على تبيّن مظاهر ستندال (1842 – 1783م)، ّ ً عشق هذا الروائي الفرنسي إليطاليا ،واختار لها عنوانا« :نفشل نحب» ،حيث أشار في الصفحة األولى التي دائمًا في الحديث عمّن ّ
رقنها إلى أنّ سبب تحوّل ستندال من كتابة يومياته عن مدن إيطاليا
إلى كتابة رواية عنها موسومة بـ«دير بارما» (1839م) ،يعود إلى إحساسه بصعوبة نقل مشاعر حبّه إليطاليا في يوميات السفر،
وإمكان فعل ذلك في الرواية ،حيث استطاع ،عبر شخصية بطلها يوص َ «فابريس» ،أن ِّ سنوات الحب الذي قضى من أجله ف ذلك ّ ٍ
ً الع ْش ِق ِّي عديدة مُقيمًا هناك ،وأن يتجاوز الجمو َد العقيم للمتخيَّل ِ َ مغامرته الذي طغى على كتابة الرواية في زمنه ذاك ،وأن يمنحَ ً عاطفية ووطنية وسياسية عامّة. السردية رمزيات
وتشير «تيفين سا ْم َويُو» ،كاتبة سيرة بارت الذاتية ،إلى أن
عدد الذين حضروا ببهو المشفى عند إخراج بارت من المشرحة كان قليلاً ،وقد خلت كوكبتهم من مشاهير المجتمع الفرنسي،
فأغلب هؤالء هم طلبته ،ونفر من زمالئه وأصدقائه؛ أمثال:
َ حفل غداء بروست وعن الفوتوغرافيا ،وذلك بعد حضوره
الدبلوماسي فيليب روبيرول ،وفيليب سولرز ،وإيتالو كالفينو،
إطار حرص هذا األخير على تمكين صديقه االشتراكي «فرانسوا
وج َّدة الذي لحق روالن بارت في الوسط الثقافي على كثرة كتاباته ِ
دعاه إليه «جاك النغ» ،الذي صار فيما بع ُد وزي ًرا للثقافة ،في
ميتران» من مالقاة النخبة الفرنسية من فنانين وسينمائيين وك ّتاب وإعالميين على غرار ٍّ كل من الملحّ ن بيار هنري، والممثلة دانييل ديلورم ،ومدير أوبرا
باريس رولف ليبرمان ،والمؤرخين
جاك بيرك وهيلين بارمالن ،وذلك َ حظوظه في الستمالتهم إليه حتى يُقوّي
الفوز باالنتخابات الرئاسية أمام منافسه
«فاليري جيسكار ديستان». وتذ ُكر «تيفين سا ْم َويُو» ّ َ مؤلفة كتاب
«روالن بارت -سيرة ذاتية» الذي صدر
مؤخ ًرا عن دار «سوي» بباريس في 700صفحة
ضمن فعاليات االحتفال بمئوية روالن بارت
تورط موت بارت يبعث على ّ الشك في ّ أطراف سياسية ولسانية واستخباراتية، السر ماسة إلى مثل هذا هي في حاجة ّ ّ السحري .وللكشف عن الحقيقة؛ اللغوي ّ ّ أمر الرئيس جيسكار ديستان المفتِّش «جاك بايارد» بالبحث في خفايا مقتل بارت
وفوكو ،وغريماس ،وجوليا كريستيفا .وهو أمر يشي بالتهميش أفكاره وتنوّعها.
دائرة األحزان
بموت بارت انغلقت دائرتان كبريان
هيمنتا على مسار حياته :أما الدائرة األولى ُ اجتهاداته البحثية في فتحضر فيها السيميولوجيا والبنيوية ،وما كان لهما من تأثير في قراءاته للنصوص األدبية والظواهر االجتماعية على اعتبار أنّ مثلت شكلاً القراءة بالنسبة إليه قد ّ
من أشكال الوجود السعيد في َ ّ فظلت العالم .وأما الدائرة الثانية
فضاءً تموج فيه سُ حب أحزا ِنه
الشخص ّي ِة حتى بدا الحزنُ كما لو َ ِّ المفك ِر بدءً ا ومنتهًى؛ فقد حياة هذا أنه َق َد ٌر يسربل تي ّتم وعمره لم يتجاوز بع ُد عا َمه األول ،حيث مات والده «لويس
بارت» ضابط البحرية التجارية خالل معركة في بحر الشمال سنة 1916م ،وترك له وشمً ا من الفقد ،واسمً ا ّ ظل محفورًا في ذاته مساحات من الفراغ األبويّ الدائم. ومُحيلاً فيه على ٍ الس ِّل قد أوهنت جسده وصدّت عزيم َته ثمّ إن إصابته بمرض ُّ
عن مواصلة الدراسة ،ومنعته من اجتياز امتحان البكالوريا،
139
ثقافات
حياتي صارم بل وألجأته إلى زيارة المستشفيات والتقيّد بنظام ّ ّ ً ممنوعا من مالقاة اآلخرين الذين يخشون أن تصيبهم ظل فيه َّ منه العدوى .ولم يبرأ من هذا المرض ،وإنْ برئ ُبرْءً ا مؤق ًتا، ً فجأة خالل سنوات من التداوي .وقد ظهر وهنُ رئتيْه إال بعد ٍ
وجوده بمشفى «سَ ْل ِب ْتريير»؛ إذ أ ّكد أطبّاؤه في تقريرهم أنّ سبب َ
موتِه المباشر ليس حادث المرور ،وإنما هو المضاعفات الرئوية ّ التنفسي» ،وهو ما الناجمة عن «حالة الفشل المزمن لجهازه جعل النيابة العامّة بباريس ُتب ّر ُئ سائق الشاحنة التي دهسته. ّ ولعلنا واجدون في تهميش الوسط الثقافي لبارت ،وإلحاح
بعض الك ّتاب على التجريح في أفكاره سببًا خفيًّا من أسباب ّ ّ التأثر وهادئ جعله كثي َر شفيف طبع وبخاصة أنه ذو حزنه، ٍ ٍ ٍ بالموجودات وبمحمول ُلغتها .فقد كان قليل الكالم ،ميّالاً إلى العزلة واالنسحاب من ّ كل فضاء مشحون بالعداوة ،مُحبًّا
140
بارت وكريستيفا
للموسيقا التي قال عنها« :إن الموسيقا تجعلنا تعساء بشكل أفضل» ،هذا إضافة إلى ميله إلى فني الرسم والفوتوغرافيا .كما
كان دائمَ الحديث بنغمة صوتية كئيبة عن تأرجحه الصعب بين
مبال بالحضور التظاهري في مناسبات الناس الحياة والعمل ،غي َر ٍ ُمض على «بيان »121ولم يشارك في ي لم أنه العامّة ،من ذلك ِ مظاهرات مايو 1968م .وال ّ شك في أنّ هذه المالمح الشخصية
االنطوائية إذا اقترنت بمنتجات أدبيّة جديدة الفكرة وجميلة األسلوب -وقد ّ مثلت متضافرة مع غيرها من كتابات زمالئه
ً عرضة للنقد ،بل مدرسة في النقد جديدة -ستجعل من صاحبها وللسخرية.
وإنّ من أكبر معارضي أفكار روالن بارت زميله «ريمون بيكار»
المنتمي إلى مدرسة النقد التقليدي التي ال تنظر إلى النصوص
في ذاتها وإنما تنظر إليها من جهة سيرة كاتبها ،وقد رأى في
عدد الذين حضروا ببهو المشفى ،عند إخراج بارت من المشرحة ،كان قليال ،وقد خلت كوكبتهم من مشاهير المجتمع الفرنسي، فأغلب هؤالء هم طلبته ،ونفر من زمالئه وأصدقائه؛ أمثال :الدبلوماسي فيليب روبيرول ،وفيليب سولرز ،وإيتالو كالفينو، وفوكو ،وغريماس ،وجوليا كريستيفا .وهو أمر يشي بالتهميش الذي لحق روالن بارت في الوسط الثقافي على كثرة كتاباته وتنوعها وج َّدة أفكاره ِ ّ
لست في حداد ،إنني حزين يبقى موت والدته «هنرييت بينجر» سنة 1977م أهمّ عامل من عوامل تنامي أحزانه ،فقد ّ مثلت بالنسبة إليه –منذ الوحيد والم َّتكأَ كلما فترت رغب ُته في الحياةَ ، العاطفي الذي يلوذ به ّ َ ُ انصباب أيامه وث ُقل العائلي وفاة والده– المرجَ ع َّ ّ
عليه .وبموت والدته ،حفلت دروسه الجامعية بمعاني الفقد والوحدة والحزن على غرار درسه المعنون بـ«المحايد»
(كوليج دي فرانس سنة 1978م) وكتابه «الغرفة المضيئة» الذي كتبه سنة 1979م ،وشذراته اليومية التي أطلق عليها
عنوان« :دفتر الحداد» مباشرة بعد موتها وجاء فيها قوله« :لم أكن مثلها؛ ألنني لم أمت معها» ،ثم هو ينزاح بمفهوم الحداد على موت والدته إلى مفهوم الحزن؛ إذ يقول« :لست في حداد ،إنني حزين» ،ويُضيف في شذرة أخرى قوله: كتبت َّ ُ ُ ُ كل ما كتبت إلى كنت قد إلي وإلاَّ لما «تنتابني فكرة مرعبة صورتها شعوري بأن أمي لم تكن كل شيء بالنسبة ّ
ً ً الحظت ً ُ شفيفا ال يكاد يُرى حتى أتمكن أنا من مخلوقا أيضا أن أمي كانت ،قبل مرضها ،تتعمَّ ُد أن تكون اآلن ...وقد الكتابة» .وقد تنبّه «جاك دريدا» إلى انهمار معنى الموت في كتابات بارت وفي أفهوماته على غرار تعريفه للرواية بالقول: «الرواية موت ،إنها تجعل من الحياة قدرًا ،ومن الذكرى فعلاً ً مفيدا ،ومن الديمومة زم ًنا مُ وجّ هً ا ذا داللة» ،وقد كتب «موت روالن بارت المُ ِّ ُ تعد ُد» وذهب فيها إلى تأكيد حقيقة أنّ معنى الموت مبثوث في دريدا مقالة في الغرض بعنوان: ً ّ ً ّ الحد الذي صار فيه «موتا بصيغة الجمع». واحتل من كيانه فضاءَ ات كبيرة إلى أغلب ما كتب بارت
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
روالن بارت ..المفكر الذي أخفى حزنه
كتابة بارت ً نوعا من الدجل األدبي الذي يتغيّا منه صاحبه تحصيل
لمذهب في النقد جديدٍ ،وقد أصدر التأسيس الشهرة عبر زعمه َ ٍ الجامعي سنة 1965م كتابه الموسوم بـ«نقد جديد أم دجل هذا ّ ّ جديد» ،وانتقد فيه بح ّدة كل أفكار روالن بارت ،وهو األمر
الذي دعا هذا األخير إلى الر ّد عليه في كتابه الموسوم بـ«النقد والحقيقة» .غير أنّ مثل هذا االنتقاد لم يمنع ناقدً ا شهي ًرا مثل
«جان رودو» من كتابة مقالة قبل وفاة بارت بأسبوع قال فيها: ً معروفا ،وإنما أن «إنّ ما يعني بارت من الكتابة ،ليس أن يكون يُعترف به» .وإنّ من خلوص نيّة بارت لألدب ما نلفيه في قوله:
ُ أحب األدب ،فالجواب الذي يتبادر ساءلت نفسي اليومَ لماذا «لو ّ ّ عفويًّا إلى ذهني هو :ألنه يُعي ُنني على أن أحيا ،لم أعد أطلب
منه ،كما في ِّ الصبا ،تجنيبي الجراح التي قد ُتصيبني من لقائي بأشخاص حقيقيّين».
شخصية أسطورية حديثة
ويبدو أن تنامي حضور كتابات روالن بارت في منجزات الفكر
العالمي الحديث ،قد جعلت منه «شخصية أسطورية حديثة» بالمفهوم الذي اقترحه هو لألسطورة ،حيث ظهرت عنه كتب
عديدة يتغيّا فيها أصحابها إعادة قراءة أفكاره والتأريخ لحياته على غرار ما فعلت الباحثة «تيفين سا ْم َويُو» ّ مؤلفة كتاب «روالن
بارت -سيرة ذاتية» ،أو اعتماده شخصية رواية كما فعل الفرنسي لوران بينيه الذي أصدر هذه السنة رواية بعنوان« :الوظيفة
السابعة للغة» عن دار غراسيه بباريس في 496صفحة ،وخلق بها جدلاً إعالميًّا كبي ًرا .حيث تنطلق أحداث الرواية من واقعة حقيقية ُ صورتها َتعَ ُّر ُ دهس بسيارة يقودها سائق ض روالن بارت إلى حادث ٍ بلغاري يوم 25فبراير سنة 1980م أمام الكوليج دي فرانس بعد ّ المرشح الرئاسي المنافس لجيسكار غداء مع فرانسوا ميتران ديستان ،وهو ما أدّى إلى وفاته.
بارت ووالدته سنة 1923م
هذا الس ّر اللغويّ السحريّ .وللكشف عن الحقيقة؛ أمر الرئيس جيسكار ديستان المف ِّتش «جاك بايارد» -وهو أمني شارك في حرب الجزائر وال يهتم بالثقافة وأهلها -بالبحث في خفايا مقتل
جامعي شاب اسمه «سيمون هرزوغ» انتخبه بارت بمساعدة ّ لكي ّ يمكنه من فهم المشهد الثقافي السائد في فرنسا بداية ّ ولعل في هذه التقنية السردية ما خوّل للرواية تمرير السبعينات.
وقد ّ مثلت هذه الحادثة قادحً ا سرديًّا ذهب فيه الكاتب إلى ً مخطوطا للباحث «رومان جاكبسون» فيه أن بارت كان يحمل
كثير من المعارف اللسانية والبنيوية التي كانت رائجة آنذاك، ّ المثقفين فيما بينهم وتهافتهم على إضافة إلى كشف عالئق ُ الشهرة حتى صاروا بسببها أشبه بحيوانات ينهش بعضها لحمَ
ّ الست للغة في تصنيف جاكبسون الحادثة .ومعلوم أن الوظائف
من فرنسا إلى إيطاليا ،ومنها إلى بولونيا ،ثم إلى أميركا ،وفي
كشف عن وظيفة لغويّة سابعة ،وقد اختفى هذا المخطوط لحظة
هي :الوظيفة االنفعالية ،والوظيفة الشعرية ،والوظيفة
التأثيرية ،والوظيفة اإلفهامية ،والوظيفة المرجعية ،والوظيفة الوصفية .غير أنّ الوظيفة السابعة التي توجد بالمخطوط ُتراهن
وتخوِّل لمَن ّ على مبدأ «الفعل» ُ يطلع عليها التأثي َر في أيّ شخص إلنجاز أيّ عمل وفي أيّ مكان ،أي ُت ّ مكنه من السلطة المطلقة
بعض .وقد قادت رحلة البحث عن قاتل بارت هذيْن المُف ِّتشيْن خاللها قابال أغلب الرموز الفكرية والسياسية الغربية؛ أمثال: ميشيل فوكو ،وجوليا كريستيفا وزوجها الروائي فيليب سوليرز،
ودريدا ،وغيل دولوز ،وأمبرتو إيكو ،وتودوروف ،وسارتر ،وبرنار خف الرواية هنري ليفي ،ولوران فابيوس ،وميتران وغيرهم .ولم ُت ِ ّ ِّ استلت المفكرين والسياسيّين الذين نق َدها الساخر لهؤالء
على اآلخرين وفق مبدأ «القول هو الفعل» الذي قال به الباحث
أقوالهم من سياقاتها الرسمية ،وأوردتها ضمن سياقات حكائية
سياسية ولسانية واستخباراتية ،هي في حاجة ماسّ ة إلى مثل
الشهرة العالمية أمثال بارت.
جون أوستين.
ّ الشك في تورّط أطراف ومن ثمة فإنّ موت بارت يبعث على
مُتخيَّلة ،جاعلة منهم شخصيات عنيفة وماجنة ودعيّة كما لو ّ أنها تتغيّا محاكمة جيل ّ المفكرين ذوي مفكري السبعينات من
141
كتب
سيرة هشام ناظر وتركي الدخيل ومرآة الغريبة العنوان أعاله أعني به كتاب «هشام ناظر :سيرة لمْ ُت ْر َو» ،وهو
تركي َّ الكتاب الذي وضعه الكاتب َّ عن الوزير هشام حفي الص ّ ّ الدخيل ِ َّ الضرب ِم َن ُ ويتملكني ميل كبير إلى هذا َّ الك ُتب ،وال ناظر ،رحمه الله، ُ َّ ْ كانت ْ عن ذلك الجيل المخضرم الذي أتيحَ له أن يعيش حقبًا سيَّما إذا
مختلفة ِم ْن تاريخ بالدنا ،ور َّبما اختلف ما أريده ِم َن الوقوف على حياة َّ الشخصيَّة المترجَ م لهاْ ، ّ المهتم بتاريخ الوزراء وكبار رجاالت عن عناية
142
َّ سحْ ألقران لهمَ ،د ْع عنك َّ الدولةِ ،م َّم ْن عاشوا حياة عريضة لمْ ُت ْف َ عامة َّ الناس وبسطاءهم. كانت عيني تبحث في الكتاب عن مالمح أولى لتكوين ُّ ْ النخب َّالتي َّ الدولة ،أعني تلك ُّ فت ِم ْنها اإلدارة الحديثة في َّ تأل ْ النخبة
ً ً حديثا تعليما َّالتي نعرف ِم ْنها أسماء نفر ِم َّم ْن أصاب يباين َّ التعليم َّالذي أصابه جمهرة ِم ْن ُر َّواد األدب
َّ والثقافة في البالد ،ودعاني إلى ذلك َّ ُ اعتدت ْ أن أنني ألمح أسماء جماعة ِم َن ُّ الشبَّان ُّ السعود ِّيين َّالذين
ْ َّ السبعين ِم َن القرن صلت أسبابهم في عشر َّات بالصحافة ،أولئك ُّ ِّ الشبَّان َّالذين الهجريّ الماضي، عبدالحي قزاز وقو ًدا لصحيفته رأى فيهم حسن ّ َّ «عرفات» ،وهي َّ الصحيفة التي آذن تأسيسها
ْ ُّ عن هيئتها بتحول صحافتنا عام 1376هـ، ُ أخذت تدخل أشكال ِّ ْ الصحافة القديمة ،حين
الحديثة على صفحاتها ،وكان مجموعة ِم َن ً ُّ حديثا، الشبَّان الجامع ِّيين َّالذين تخرَّجوا،
الصحيفة ،وال ُ عالمة بارزة في تلك َّ زلت أذكر ِم ْنهم أحمد صالح جمجوم ،وأحمد يماني ،وهشام ناظر. زكي ّ ّ
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
حسين محمد بافقيه أديب وناقد سعودي
سيرة هشام ناظر وتركي الدخيل ومرآة الغريبة
ْ وحين وقعت عيني على كتاب «هشام ناظر :سيرة لمْ قلت :عسى أنْ أظفر بشيء ِّ ِّ ُت ْروَ»ُ ، المبكرة يجلي تلك الحقبة من حياة رجل عرفناه ،وزي ًرا ورجل دولة كبي ًرا ،وربَّما كان
في الكتاب إشارة أ ْو إلماحة إلى مشاركته َّ الصحفيَّة تلك، ً عادة يريدون مِ نَ ُ الك ُتب َّالتي يقرؤونها أمورًا فوق طاقة والق َّراء
ِّ المؤلفين! َّ لمْ أظف ْر بغايتي التي رجوتها مِ نَ الكتاب ،ومع ذلك ْ أنصرف عنه ،ولك َّنني ،مع ذلك ،مضيت في قراءته ،وإن لمْ َّ أسفت َّ ُ ْ كانت سببًا في وقوفي ضالتي َّالتي ألنني لمْ أجدْ فيه ُ وأدركت أنَّ الكتاب ،في الجانب األعظم منه ،انصرف عليه، إلى غاية جليلة أخرى ،وهي تحقيق ما لهذا ال َّرجل
السعُ وديَّة ،في زمن مِ نْ سهم في تاريخ الوزارات ُّ طويل ينيف على نصف القرن ،وهي مدَّ ة ال ً عادة ،إال لنفر قليل مِ نَ الوزراء والكبراء. تتاح،
وقلتِّ : ُ لعلي أَ ِجدُ شي ًئا عنْ أنشأت اإلدارة الحديثة في الدَّ ولة، ِ ِّ أنْ عن مبسوط بكالم أفوز وعسى حافة، بالص األولى ِصلته ِ ِّ َّ «الشاعر» المستخفي خلف ثيابه ...ولمَّ ا لمْ يحق ْق لي الكتاب
ً ُ ُ مظنونا فيها أنْ وحزنت على فرصة كان أسفت شي ًئا مِ نْ ذلك َّ «الموظف العامّ » ،وال تجلو لنا «اإلنسان» في هشام ناظر ال «المسؤول» ،وال «الوزير» ،وال «السفير». ألمْ أَ ُق ْل لكمَّ :إنني قارئ «طمَّ اع»!
أدع ما انطوى عليه الكتاب مِ نْ تأريخ هشام ناظر في أعمال الدَّ ولة ،ألهل الحرفة مِ نَ االقتصاديِّين ،وخبراء ال ِّنفط،
والساسة ،وسأصرف همِّ ي إلى تحقيق كل ذلك وال َّتخطيط، َّ لاً في ّ «السيرة» سبي له ،فالكتاب ،مهما نص َّاتخذ ِّ َّ ُضع لها = كتاب مظنون ضرب في غايته التي و ِ األدبي السيرة» ،هذا ال َّنوع فيه َّأنه في «أدب ِّ ّ َّالذي ال يستطاع حصره في بناء واحد ،مهما
َّ ً وتصنيفا تكلف ال ُّن َّقاد والدَّ ارسون له حص ًرا
وأعترف –وال ألزم أحدً ا برأيي– أنَّ هذا الجانب ال يعنيني ،وإنْ كان مهمًّ ا ّ لكل
وتجنيسا ،ولن يهمَّ القارئ ،هنا ،أن يعرف ً ً فرقا ما بين «المذ ِّكرات» ،و«الذكريات»،
ً تأريخا لعمل هشام ناظر في مَ نْ أراد
الدَّ ولة ،أ ْو مَ نْ رغب في الوقوف على مسائل ت َّتصل بالمهامّ الجليلة َّالتي
أن اس ُتوزر ،في مقتبل نيطت به ،منذ كان شابًّا صغي ًرا ،إلى ِ والسفارة ،إلى أنْ َّ توفاه شبابه ،حتى استراح مِ نْ أعمال الدَّ ولة ِّ
الله تبارك وتعالى. َ ً َّ خاصة ،قِطعٌ هي وفي الكتاب ،وفي الفصل األوَّل منه َ السيرة ،حين أماط هشام ناظر ،في حديثه أدنى إلى أدب ِّ
ً حديثا تركي الدَّ خيل ،عنْ أسرته ،ونشأته ،وحين تحدَّث إلى ّ جميلاً عنْ لقب أسرته الكريمة «آل ناظر» ،وعنْ تربيته ،لكن
اإلنساني الحُ ْلو العذب ،سرعان ما يذبل ،فغاية هذا الجانب ّ ُ ِّ الكتاب َّالتي ألف مِ نْ أجلها ،لمْ تكنْ سوى بسط الكالم عنْ
تركي الدخيل
ْ اختلفتَّ ،أنها و«اليوميَّات» ،فمآلها ،مهما «السيرة الموضوعيَّة» ،وإنْ أَ ْف ُرع مِ نْ شجرة ِّ
َ «السيرة الغيريَّة». شئت ِّ
ً تيسر تركي الدَّ خيل ثمانين أنفق ساعة في تسجيل ما َّ ّ
للوزير هشام ناظر أن يتخيَّره وينتقيه مِ نْ حياته ،وكان اآلني ذريعته السترداد تاريخ حياتهُ ،تسعفه ذاكرته «ال َّتذ ُّكر» ّ َ ً ِّ متحدثا ،وتشحّ فيستعين بالوثائق ،وحين استوفى فيندفع
ِّ ويرتب هيئاتها، تركي الدَّ خيل يف ِّرغها، تلك الذكريات أنشأ ّ ويالئم ما بين األشباه وال َّنظائر ،فاستوى له مِ نْ ذلك كتاب ُ أفردت له حديثي هذا. ضخم كبير هو َّالذي تركي أن يقف بكتابه عند هذا القدْ ر؛ ال يزيد ُسع وكان بو ْ ّ على ما قاله هشام ناظر وال ينقص ،غير َّأنه سدَّ بعض فراغات
ُ فطويت الكتاب، عمله في الدَّ ولة ،ذلك َّالذي م َّر بنا مِ نْ قب ُْل، ُ ُ رجوته فيه لمْ أظف ْر وانصرفت عنه ،ال زهدً ا فيه ،ولكنْ ألنَّ ما
الكتاب بأقوال استمدَّ ها مِ نْ رفقاء المترجَ م له ،وزمالء
أردت أنْ أعرف ً ُ طرفا مِ نْ حياة ال َّناس وأنا قارئ «طمَّ اع» ُ ورجوت أنْ أظفر بتكوين ال ُّنخبة َّالتي في جدَّ ة القديمة،
ال َّرجل فوق ما عرف اآلخرون ،فكان الحديث عنه ضربًا مِ نَ َ استوفى أعماله العريضة تلك ،وانقطع أن «الوفاء» ،بعد ِ لحياته وأسرته وأبنائه وحفدته ،وصار ماضيه ّ كل حياته.
به ،وما ُدوِّن فيه ال يعنيني ،وال َّ شك أنه سيعني قراء آخرين، يهمُّ هم ّ كل كلمة سُ ِّط ْ رت في الصفحات الغزيرة.
أظفر بغايتي ا َّلتي رجوتها مِ َن الكتاب، لم ْ ْ أنصرف عنه ،ولكنَّني ،مع لم ْ ومع ذلك ْ
أسفت ألنَّني ذلك ،مضيت في قراءته ،وإن ُ سببا في كانت أجد فيه ضا َّلتي ا َّلتي ْ ً لم ْ ْ وقوفي عليه
سابقين ،وموظفين عملوا على مقربة منه ،وعرفوا مِ نْ ذات
مسوغ الكتابة ً «السيرة الذاتية» عنْ «مسوِّغ» الكتابة، في عادة ما نبحث ِّ
أ ْو «مب ِّررها» ،كما يحلو للكاتبين ،وما بين أيدينا كتاب في
–أو «الغيريَّة»– وعلى ما بينهما مِ نْ ِّ «السيرة الموضوعيَّة» ِ فروق ،فإنَّ بينهما مشتركات كثيرة ،لنْ نخوض فيها ،ألنَّ ال ُّن َّقاد ،وال سيَّما إحسان عباس وجورج ماي ،قد استوفوا
143
كتب
الحديث فيها ح َّتى الغاية ،وكتاب «هشام ناظر ،سيرة لمْ «السيرة الموضوعيَّة»َّ ، ُّ يمت بِ ِصل ٍة فإنه ُت ْروَ» ،وإنْ كان في ِّ ِّ تركي الدَّ خيل ،أنفق ثمانين ـ«السيرة الذاتيَّة» ،فالمؤلف ،وهو ب ِّ ّ
ساعة مِ نَ ال َّتسجيل ،في سنتين اثنتين ،والمترجَ م له وهو تركي ،هناً ، باعثا على ال َّتذ ُّكر هشام ناظر يتذ َّكر ويُمْ لي ،فكان ّ للسرد ،وصحَّ في الكتاب تلك ال َّتسمية العميقة ،حين ومح ِّر ًكا َّ َّ تركي ضربًا جديدً ا مِ نَ «األمالي» ،هذا االسم الذي ما إن جعله ّ
ُ ُ القالي» ،و«أمالي علي قرأته ح َّتى ّ وجدتني أستذكر «أمالي أبي ّ الشجريّ » ،وسواهما مِ نَ ُ ابن َّ الك ُتب العربيَّة َّالتي قام عليها
يختلف األمر ،كثي ًرا، قدْ ر وافر مِ نَ ال َّتدوين العربي ،وربَّما لمْ ِ ّ إلاَّ في الزمان والمكان واألشخاص والغاية :جلس هشام ناظر
َ في مجلسه ،وإنْ شئت في «مَ ْقعده» ،وشرع «يُمْ لِي» وجعل ْ اختلفت آلة ال َّتدوين، وإن األمالي، تلك ِّن و تركي الدَّ خيل يد ّ ِ حين َّاتخذ «المسجِّ ل» –وربَّما األجهزة الذكيَّة– وسيلة له ،كما
أو َّ السعادات هبة الله علي الشريف أبو َّ ّ كان يجلس أبو ّ القاليِ ، ابن َّ الشجريّ ،في القرون الزاهية ،في المسجد وجعال يُمْ ليان على طلاَّ بهما األدب ُّ واللغة وال َّنحو وال َّتاريخ واألخبار ،فاستوى ٍّ لكل منهما كتاب لم ُي ْبلِه مَ ُّر القرون.
144
ُس ِعنا أنْ نعتدَّ هذا َّ السيرة «أمالي» الضرب مِ نَ ِّ إذنْ ،بو ْ ِّ بالقالي اختلفت الوسيلة والغاية ،وألني مشغوف جديدة ،وإن ِ ّ
وابن َّ ُ فكنت أرجو ل ْو كان عنوان الكتاب الذي هو مدار الشجريّ ،
تركي الدَّ خيل»! ربَّما ل ْو كان حديثي «أمالي هشام ناظر على ّ العربي الكتاب كذلك ألقبل عليه ُطلاَّ ب العربيَّة وق َّراء ال ُّتراث ّ
تركي ذلك ،لبيع قدر كبير مِ نْ كتابه ،وربَّما القديم ،ول ْو فعل ّ ناله مِ نْ ْ نقد ال ُّتراثيِّين ،فوق ما يحتمله ،لظ ِّنهم أنَّ تركيًّا لبَّس ً َّس عليهم الكتاب حين َّاتخذ «األمالي» عنوانا له ،ولطالما َلب َ
تركي على ق َّرائه! ّ ُ ُ ْ ُ ُ ِّ نَ السيرة َّالتي قوامها ب ت ك أعني ب، ت الك ف ن الص وهذا مِ ِّ ِّ «المؤلف»َّ ، فالذي اإلمالء وال َّتسجيل وال َّتدوين ،يلتبس فيها «يتحدَّث» هو «المترجَ م له»َّ ، والذي يدوِّن هو الذي ُّات ِفق ِّ «مؤلف» ،وليس هذا أم ًرا جديدً ا ،ولك َّنه قديم عليه َّأنه ِقدَ م المعرفة اإلنسانيَّة َّالتي انبرى فيها الفالسفة وعلماء ُّ ِّ واللغويُّون واإلخباريُّون ومَ نْ إليهم يكتبون الدين وال ُّنحاة
ِّ ِّ ويؤلفون ،وربَّما صحَّ أن يسأل قارئ :مَ نْ مؤلف «محاورَات ِّ المتحدث؟ أم أفالطون الكاتب؟ وما مقدار سقراط» ،أسقراط ما لألصمعي في رسالة «فحولة ُّ الشعراء» ،تلك ال ِّرسالة َّالتي
ِّ المتكلم في «رحلة ابن جستاني؟ ومَ ِن الس نقلها إلينا تلميذه ِّ ّ بطوطة»؟ آبن ُّ ُّ الكلبي بطوطة «المُ مْ لي» ،أمْ محمَّ د بن جَ زيّ ّ
تركي ال َّدخيل أن يطوي تلك كان بإمكان ّ
العبارة «الفلتة» ،فال يذكرها ،فيقرأ النَّاس يتدسسوا إلى َم َضايقه، الكتاب ،دون أن َّ تركي أن يفعل تدس ْس ُت! كان بإمكان كما َّ ّ ولكن للكتاب «فلتاته» ذلك، َّ
أمضى هشام ناظر حياته ّ الدولة ،وحين اس ُتوزرَ ،كان وزيرًا لل َّتخطيط ،ثمَّ وزيرًا للبترول َّ كلها في أعمال َّ والثروة المعدنيَّة، ْ ْ َّ الخاصة حين أقاله مَ نْ بيده األمر ،ولمْ وكانت سفارته على يمكث ،إلاَّ حي ًنا ،فعُ يِّنَ سفيرًا لبالده في مصر، وأخلد بعدها لشؤونه َّ َّ َّ ضفاف ِّ ْ كانت استراحة «رومنطيقيَّة» حالمة ،لرجُ ل عاش حياته كلها وسط معمعة األرقام والقضايا الكبرى التي وكأنما النيل،
َ بالعالم ِمنْ حوله ،وهل ِمنْ حياة أجمل ِمنْ أن يُمضيها إلى جانب ِّ النيل ،غير بعيد ِمنَ األهرام ،وفي بلد عظيم هو مصر؟! تعصف َّ ّ ّ ً ً ُ ً كان كل شيء ِمنْ حوله يسير سيرًا هنيئا ساكنا وادعا ،وكان كل ما حواليه ي َِشي بأنَّ ذلك الوزير الذي كان ،ال يزال في عنفوان ُّ َّ وتقلبات ِّ وكأنما كان هشام ناظر يستدعي شاعرًا ْ النفط ،لكنَّ الزمان َّالذي ما قد غار في َن ْفسه ،ل ْو لمْ تكبته أعباء الوزارة مجده، ُ ُضحِ ُكنا أ ْن ًسا ُ العربي» بأمجاد كثيرة ،وقو َ زال ي ْ قد عاد ُيبْكينا ،كما يقول ابن زيدون! فه ْ بقرْبهُمُ ْ ، َّض ْت «مراكز» َوت ثورات «الرَّبيع ّ َ َ ِّ ما َظنَّ أصحابها أنْ س ُتقوَّض ،ولمَّ ا استحكم األمر في مصر ،إذا بالنيل ما عاد ،كما يقول شوقي في قصيدة ِّ عاميَّة له« :أسمر بلغت ّ وحليوة» ،ولكنَّ ِّ أصبحت الكلمات َّالتي تقال فال يسمع لها أحدْ ، ْ كل أذن، وقد النيل انتفض وعصف وزمجر وثار ،وحين ثار ِ االجتماعي» ،وربَّما لم ي ُْد ْ ْ ودارت دورتها في «مواقع ال َّت ُ رك هشامٌ أنَّ كلمته تلك َّالتي قالها في وجه مواطنة واصل وتناقل ْتها األلسن، ّ ْ فأذكرت ال َّناس عبارة قريبة منها ،وإنْ لم تشبهها ،وال أظ ُّنه، استثارت ال َّتاريخ، عندك حُ ُلول»! عليك سعوديَّة «يا سالم كانت قدِ ِ ِ ِ ِ لاً ُ ْ اس ْ رحمه الله ،كان ْ وقد ولدتهُمْ قد عناها ،ولكنْ ،مه ،فنحن في زمن «الرَّبيع العربي» ،زمن «الجماهير»« :متى استعبدتم ال َّن َ ّ
أمَّ هاتهم أحرارًا»! السفير أُ تركي َّ ْ وأنَّ أنَّ أنْ فالمهمّ الدخيل ،حين َهيَّأَ الكتاب تلك، «الفلتة» بعبارته فاه بعد ي ف ع ًا، ر كثي الحديث في لنْ أمضي َّ ّ ِ َ ً كانت َّ ِّ لل َّن ْشر ،سرعان ما استذكرها! ْ ْ ساعة الثمانون المذكرات ،وهل كانت تلك العبارة «الفلتة» ،هي الباعث على تقييد تلك فهل ِ َ َّ ُ َ ْ عندك حُ لول» ،التي أ ْعف ْت عليك اس في بالدي أنَّ المترجَ م له ،صاحب عبارة «يا سالم َّالتي كانت في سباق مع الزمنِ ،ل ُتذك َر ال َّن َ ِ ِ
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
سيرة هشام ناظر وتركي الدخيل ومرآة الغريبة
«المُ مْ َلى عليه»؟ وعلى ٍّ كل فإنَّ هذه ُ الك ُتب يختلط فيها فهي» بـ«المكتوب»؛ لتعاوُرهما بين هذين َّ َّ الشكلين مِ ِن «الش ّ
انتقال المعرفة. ِّ ً تركي الدَّ خيل «مؤلفا» فما مقدار وعليه ،فإذا عددْنا ّ تص ُّرفه في مادَّة الكتابة ،وما المدى َّالذي أُتيح له كي يتص َّرف ً ً ً ونقضا؟ وإذا عددْناه وإضافة ،وتحري ًرا ،ونقدً ا، حذفا، فيه، «ناقلاً » ،ليس له إلاَّ أن يراقب َش َف َت ِي «المُ مْ لِي» ،يتابعه إذا تحدَّث ،ويقف إذا وقف ،وتقتضيه األمانة ،ألاّ يتزيَّد ،وال
من اندفع سيرته الذاتيَّة ،وللك َّتاب ذرائعهم للكتابة؛ فمنهم ِ ً اعترافا ،ومنهم مَ ن يكتبها تحدُّ ًثا بنعمة يكتب سيرة حياته الله ،وآخرون كتبوها لكي «ي َ ُص ُّفوا حسابهم مع ال َّتاريخ» –
ً دفاعا عنْ أنفسهم كما فعل طه كما فعل سالمة موسى– أ ْو السيَر وال َّتراجم َّ الشخصيَّة. حسين وغيره مِ نْ ُك َّتاب ِّ «الذاتية» و«الموضوعية»
ويظهر لي أنَّ كتاب «هشام ناظر ،سيرة لمْ ُت ْروَ» ،ي َّتخذ
يتقوَّل على صاحبه ،فشروط ال َّنقل وآدابه مرعيَّة ،وأدوات َّ الضبط وال َّتح ِّري مشروطة. ِّ ً َّ تركي الدَّ خيل «مؤلفا» ،فال يعني أن غير أننا إذا عددْنا ّ
لهشام ناظر سطوته وسلطانه على الكتاب ،فهو صاحب األمر
ِّ المحقق، أو «ال َّناقد» ،أو «المؤرِّخ» أن يتوسَّ ل بقلم «المؤوِّل»ِ ، فيوسع المادَّة َّالتي أُ ً ً ً ْ وتفتيشا ومراجعة ونقدً ا تيحت له بحثا
إلى القارئ ،وأن َت ْثبُت هذه «ال ِّرسالة» في ال َّتاريخ ،حين تخرج
والد ْقة في َّ يضرب بشروط ال َّنقل وال َّتح ِّري ِّ الضبْط ُع ْرض الحائط. ِّ «مؤل ًفا» يصبح َ أدنى إلى ال ..ال نقول بذلك ،ولك َّنه حين يكون
و«السيرة «السيرة الذاتيَّة»، موقعه في «منطقة» وسطى بين ِّ ِّ وسمَ ات ،وال يزال الموضوعيَّة» ،وفيه مِ نْ كليهما مالمح ِ
تركي الدَّ خيل ما دام هو الممسك بمراحل «اإلمالء» ،وكان ّ كـ«الوسيط» ال َّناقلْ ، بل هو ،ال َّ شك« ،وسيط» ناقل ،مهمَّ ته َّالتي أرادها هو ،أ ْو أرادها المترجَ م له ،أن ينقل «رسالة» ما
ونقضا ،وال يستسلم ْ ً لمكر «اإلمالء» ،وحِ يَل «ال َّتذ ُّكر» ،أمَّ ا إذا َ اكتفى بموقع «المُ مْ َلى عليه» ،فلن يَعْ دو عمله دور «المح ِّرر»
هذه «األمالي» في «كتاب» ،وأحسب أنَّ أحوال المترجَ م له، ْ أو «المذ ِّكرات»، والسياق َّالذي ِّ خرجت فيه هذه «األمالي»ِ ،
عمل ليس بالهيِّن اليسير ،إذا أراد «المح ِّرر» أن «يح ِّرر» كتابًا في السبيل إلى ذلك اإلمالء وال َّن ْقل. ِّ «السيرة» ،ول ْو كان َّ ُ قلتَّ :إنها سأعود ،اآلن ،إلى دواعي الكتابة ،تلك َّالتي
أراد أن ينقل َّ قصة حياته ،حين بلغ الهزيع األخير مِ نْ عمره، َّ َّ ْ نيطت به على مدار أن استراح مِ نَ التبعات الجسام التي بعد ِ نصف قرنُّ ، ض ٍن ،فال َّ شاق مُ ْ ٌّ أقل مِ ن أن يترك كلها عمل
َّالذي ينقل الكالم مِنْ طور «المشافهة» إلى طور «الكتابة» ،وهو
ً «السيرة وعادة ما نبحث في ُتدْ َعى «المسوِّغ» أو «المب ِّرر»، ِّ ً الذاتيَّة» عنْ سبب ظاهر أ ْو كامن ،حمل إنسانا ما على تدوين ٍ ْ كانت العربي» هل سفيرًا ،انتصارًا لمواطنة في زمن «الرَّبيع ّ ترجو أنْ ِّ السفير، تذكر ال َّناس في بالدي بتاريخ عريض أمضاه َّ
َّ «موظ ًفا كبيرًا» ،ثمَّ «وزيرًا» لوزارتين منذ كان في شبابه لاَّ ٌ دفاع عنْ تاريخ، خطيرتين ،وأنَّ هذه «األمالي» إنْ هي إ َّ َّ خِ يف عليه ِمنْ أثر تك العبارة «الفلتة» ،التي نسي الناس في
«السفير» َّالذي كانِ ،منْ ُ قبل« ،وزيرًا»، بالديِ ،منْ أجلها، َّ ُ ْ تركي َّ أو ان ُت َ دِب ،لكي َيجْ لو «المرآة»، فان َتدب ّ الدخيل َنفسهِ ، َّ األعرابي ذو ال ُّرمَّ ة ،مثل «مرآة كي تصبح ،كما قال الشاعر ّ ناصعة مَ جْ ُلو ًَّة زاهية!ً ً الغريبة»، تركي َّ الدخيل أن يطوي تلك العبارة كان بإمكان ّ «الفلتة» ،فال يذكرها ،فيقرأ ال َّناس الكتاب ،دون أن يتدسَّ سوا
تركي أن يفعل ذلك، إلى مَ َضايقه ،كما تدسَّ ْس ُت! كان بإمكان ّ ولكنَّ للكتاب «فلتاته» ،كما للكالم «فلتاته» تلك َّالتي كان
ْ َّ فرويد ْ وعرفنا فتهديْنا إلى باطن ال ُّن ُفوس، قد كشف مخبَّآتها، ِمنْ تلك «الفلتات» ما لمْ يكنْ ل ُتتاح لنا معرفته! ْ تركي في مهمَّ ته؟! فهل أفلحَ ّ
يحملنا على ال َّتفكير في دواعي الكتابة ومسوِّغاتها ،فالرَّجُ ل
ّ يدل عليه ،ويحيا بين ال َّناس ،بعد أن لل َّتاريخ «أث ًرا» منه ّ كاف لكي يكتب يستوفي حياته ،ولكل أجل كتاب ،وهذا وحده ٍ اإلنسان سيرة حياته أو يُمْ ليها.
لكنَّ قارئ كتاب «هشام ناظرِ ،سيرة لمْ ُت ْروَ» لن يُعييه َّ السيرة؛ َّ ألنه سرعان ما سيظفر به، الظفر بمسو ٍِّغ إلنشاء هذه ِّ منذ يقرأ َّ يذكر «المُ مْ لِي»، الصفحات األولى للكتاب! نعم ،لمْ ِ َ وال «المُ مْ َلى عليه» –وإنْ شئت «المح ِّرر»– أنَّ ذلك «مسوِّغ» ُّ السيرة ،لك َّنه لن يُعييه ذلك متى ما قرأ الشروع في إنشاء هذه ِّ ُّ ِّ تستحقه مِ نْ تأمُّ ل وتدبُّر. المقدمة بما عبارات
لمْ يمهلنا الكتاب لل َّتكهُّن وال البحث وال ال َّتفتيش ،وساق َّ نتكلف ذلك ،وكأنَّ تلك السيرة ،دون أن إلينا «مسوِّغ» هذه ِّ ْ كانت كالهمِّ الجاثم على العبارة َّالتي سأسوقها ،بعد قليل،
ت عنهُ ،ول ْ الصدر ،وحين ُد ِفعَ ْ وكانت َّ َّ الصوت السيرة، ِدَت هذه ِّ ِ َّ َّ وكأنه َّالذي بقي مِ نْ هشام ناظر بعد أن توفاه الله بزمن يسير، كان لزامً ا على هذا الكتاب أن يظهر ،في عجلة مِ نَ الزمن، بُعَ يْد الوفاة ،ما لم ُي َتحْ له أن يظهر في حياة المترجَ م له. عندك حُ ُلول»! سببًا عليك ربَّما كانت عبارة «يا سالم ِ ِ
لوالدة هذه المذ ِّكرات ،ولنا أنْ نحسبها «فلتة» مِ نْ «فلتات ً ساعة في الخطاب» ،لوالها ما أنفق هشام ناظر ثمانين عامين ،ليُمْ ل َِي فيها َّ تركي الدَّ خيل! قصة حياته على ّ
145
إصدارات
تاريخ الكذب المؤلف :جاك دريدا ترجمة :رشيد بازي الناشر :المركز الثقافي العربي
كرس جاك دريدا في هذه الدراسة المختلفة في موضوعها كل جهده؛ لفهم الكذب
بطريقة ثقافية وليست أخالقية؛ إذ يلقي الضوء على ضرورة التمييز بين تاريخ الكذب
كمفهوم وتاريخه في حدّ ذاته ،الذي يحيل إلى عوامل تاريخية وثقافية ،تساهم في بلورة
الممارسات واألساليب والدوافع التي تتعلق بالكذب ،وتختلف من حضارة إلى أخرى ،بل داخل الحضارة الواحدة نفسها.
الطريق إلى سايكس -بيكو المؤلف :مجموعة باحثين عرب الناشر :مركز الجزيرة للدراسات
بينما كان البريطانيون يفاوضون الشريف حسين ،باشروا س ًّرا مفاوضات موازية مع
فرنسا وروسيا القيصرية؛ لتقسيم تركة الدولة العثمانية ،وتحديدً ا الواليات العربية... ً الحقا بالشرق األوسط بعد وأسفرت المفاوضات عن االتفاق على تقسيم ما أصبح يعرف
تجزئته إلى خمس مناطق .عن الطريق إلى سايكس -بيكو ،وكواليس انهيار اإلمبراطورية العثمانية ،والتحوالت السياسية لمرحلة ما بعد الحرب العالمية األولى ونتائجها؛ يكتب
ثمانية باحثين عرب.
146 المسلمون في مهب اإلرهاب
المؤلف :عبدالعزيز المطوع
الناشر :المؤسسة العربية للدراسات والنشر
ُّ للتخلص من الثقوب الثقافية والفكرية واألخالقية الكثيرة هذا الكتاب مشروع استثارةٍ؛
التي تستنزف طاقات المجتمعات والجماهير اإلسالمية ،وتشتت رؤيتها المستقبلية،
وتعطل حركتها باتجاه تقمُّ ص روح التحرر والتغيير والتجديد واألصالة والنهوض ،التي
تحول بينها وبين كل محاوالتها الجادة إلثبات الذات من خالل استرداد الهوية والثقافة والجذور اإلسالمية ،مثلما نجحت هذه األمة من قبل في التفوق على مشكالتها وأزماتها،
وفي ابتكار وجوهها وتجاربها الحضارية المتميزة على امتداد التاريخ.
أعالم تجديد الفكر الديني المؤلف :مجموعة من الباحثين إشراف :بسام الجمل الناشر :مؤمنون بال حدود
في هذا الكتاب عدد من مفكري اإلسالم الذين ساهموا بدرجات متفاوتة في تجديد
الفكر الديني عامة ،والفكر اإلسالمي خاصة ،وكانوا من أولئك الذين سعوا إلى تقديم
قراءة جديدة من داخل التراث الديني اإلسالمي ،ودعوا إلى مراجعته ،ومساءلته بروح
نقدية من دون مواقف سابقة منه ،مهما كان مضمونها ،ومبرراتها ...يوفر هذا الكتاب للباحثين الشباب ،وللطلبة المهتمين بالفكر الديني ،ولعموم أهل الفكر والثقافة، مرجعً ا علميًّا يعرفهم بأبرز أعالم تجديد الفكر الديني ،وأهم مفكري اإلسالم الجدد.
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
إنسان اليوم إلى أين؟
المؤلف :جورج رشيد
الناشر :دار الفارابي
يتطرق هذا الكتاب إلى الجانب األخالقي البشري ،مستعينا بفرعين من فروع العلوم
اإلنسانية ،وهما :علم االجتماع وعلم النفس؛ بهدف الخروج بنتائج وتأمالت فكرية، تحاول اإلجابة على هذا التساؤل المزعج من حيث الوجهة التي تسلكها البشرية اآلن؟ وهل هي كما يقول أحد المفكرين تقود نفسها إلى جحيمها المخيف؟
مذكرات پيشمرگة سابق بالقوات الكوردية المؤلف :هشام النورسي الناشر :مؤسسة شمس للنشر واإلعالم
رواية واقعية ألحداث حقيقية حدثت فصولها في كل من :بغداد؛ مناطق كوردستان
العراق ،وأقفاص األسرى العراقيين في طهران ،ومدن إيرانية أخرى في عامي - 1982 1983م ،يرويها هشام النورسي الذي عاش وعايش أحداث تلك المرحلة من تاريخ كوردستان
كوطن قومي ،والعراق كوطن جامع لكل القوميات ،من خالل التحاقه بالفصائل الكوردية المسلحة ،ثم بعد مرور أكثر من ثالثين عامً ا يشرع في توثيق ونشر وقائع تلك الحقبة؛ من أجل أن تكون رسالة مفتوحة لمن يرغب في االطالع واالستفادة من تلك التجربة.
147 ما ال يدرك
المؤلف :لويس غروس
ترجمة :زينب بنياية الناشر :مشروع كلمة للترجمة
ينطلق المؤلف في هذا الكتاب من فكرة أساسية هي أن أشهر أدباء القرن العشرين
هم :فرانز كافكا ،فرناندو بيسوا ،وسيزار بافيسي؛ لم يكونوا يكرهون النساء بوصفهم قد أخفقوا في عالقاتهم العاطفية ،إنما في تصورهم النساء أنهن يمثلن ثقبًا في العالم اليوتيوبي الذي يحلمون به ،متوصلاً إلى هذه النتيجة من خالل دراسة مضامين الرسائل العاطفية التي كتبوها؛ إذ لم يتمكن أحد منهم أن يعقد شي ًئا وجدانيًّا يتصف بالمتانة
واالستقرار مع اآلخرين ،وبخاصة مع النساء.
حال األمة العربية :العرب وعام جديد من المخاطر المؤلف :مجموعة من المفكرين الناشر :مركز دراسات الوحدة العربية
ّ يقدم هذا الكتاب توضيحً ا لحال األمة العربية وتحديدً ا أكثر في العامين 2016 – 2015م،
بناء على المخاوف التي تحيط باألمة العربية بمختلف تواجدها الجغرافي .يتناول المحور األول تطورات النظام الدولي وتأثيرها في الوطن العربي ،وسياسات الدول الكبرى تجاه
هذا الوطن ،ويبحث في تطور أدوار دول الجوار اإلقليمي وتداخلها عربيًّا .وتتناول دراسات
المحور الثاني التطورات السياسية واالجتماعية واالقتصادية واألمنية في البلدان العربية. أما المحور الثالث فيتناول بؤر المواجهة على الساحة العربية ،وبخاصة في فلسطين
المحتلة ،أو في العراق وسوريا وليبيا واليمن ،التي اتخذ الصراع أو المواجهات فيها ً عنيفا ومدم ًرا اقتلع الناس من أرضهم. منحى
كتب
النموذج الصيني... زلزال الدولة المتحضرة القاهرة
ذهب المفكر الصيني «تشانغ وي وي» إلى أن النهضة الكبرى التي قامت بها الصين منذ منتصف السبعينيات حتى اآلن تعد زلزالاً
مما أدى إلى تفكك االتحاد الروسي.
على مستوى الناتج القومي أو إنجاز طفرات واضحة في الصناعات
الصيني في التنمية ،هذا النموذج القائم على إتاحة رأسمالية السوق
بكل المقاييس ،وال ترجع أهمية هذا الزلزال إلى ما تحقق من تقدم العمالقة ،إنما ألن التقدم السريع والمتالحق تم في دولة حضارية
بكل هذا االتساع الجغرافي والعمق التاريخي والتنوع الثقافي والثروة البشرية .جاء ذلك في كتابه «الزلزال الصيني :نهضة دولة متحضرة»
الصادر مؤخ ًرا بالقاهرة عن المجموعة
السير في ركاب كل ما ينصح به الغرب ،كما فعل «غورباتشوف»؛ ويذهب «وي وي» إلى أن الصين حققت اآلن ما يعرف بالنموذج
إلى جانب رأسمالية الدولة ،ووضع خطط تنموية تستهدف بؤرًا ً ومدنا متقدمة بدرجة تتفوق على النموذج الغربي ،مع السعي
لتحديث وتمدين الواليات الفقيرة في الصين عبر تدوير رأسمالي من الواليات األغنى إلى الواليات األفقر.
الدولية للنشر والتوزيع «سما» (ترجمه
148
وشن «وي وي» هجومًا على الغرب،
ً رافضا المقاييس الغربية للبلدان المتقدمة؛
عن اإلنجليزية كل من محمود مكاوي
وماجد شبانة ،وراجعه على النسخة
إذ إن بعضها تم احتسابه على أساس الدخل
«وي وي» يؤكد في هذا الكتاب أن
يتوافر هذا المبلغ لدى المواطن الصيني ،لكن
الياباني عام 2010م في سباق الناتج القومي
المواطن األوربي صاحب الـ 20دوالرًا ،فهو يمتلك منزلاً أو قطعة أرض ،مشي ًرا إلى أن هذا
الصينية أحمد سعيد).
الفردي الذي يزيد على 20دوالرًا يوميًّا ،وقد ال
الصين استطاعت أن تتخطى العمالق
هذا المواطن ،كما يقول ،يمتلك ما ال يمتلكه
المحلي ،وأن نصيب الناتج المحلي األميركي
المقياس ال تعرفه األمم المتحدة ،فضلاً عن أن
من الناتج المحلي اإلجمالي العالمي سوف
يبلغ بحلول أغسطس 2016م نحو ،%18.3
فارق الغالء المعيشي يكون في الغرب أعلى.
بينما سيبلغ نصيب الصين من الناتج المحلي
وقال المؤلف :إن تطور الغرب جاء بعد
العالمي نحو ،%16.9وأنه حسبما قدر الرئيس التنفيذي
احتالله إفريقيا ،ونهب ثروات بلدانها ،كما أن
للمنتدى االقتصادي العالمي «كالوس شوب» سوف يتجاوز النصيب
نهضة اليابان لم تحدث إال بعد احتاللها الصين،
وتحدث البروفيسور «تشانغ» بحماس عن النهضة االقتصادية
الصين مرتين من أجل الحفاظ على تجارة األفيون؛ مما عطل
األميركي بحلول عام 2018م ،ليصبح أكبر اقتصاد في العالم.
الصينية ،موضحً ا أنها نهضة دولة متحضرة ،وأن الدولة الحضارية
ونهب الذهب الصيني .كما شن هجومه على بريطانيا التي اجتاحت
هي بمثابة مئات الدول التي اندمج بعضها مع بعض على مدار
لسنوات مسيرة الصين للدخول في منظومة الدول الحضارية. ً أستاذا في جامعة شنغهاي ويذهب «وي وي» ،الذي يعمل
أقدم دولة حضارية مستمرة منذ القرن الثاني قبل الميالد حتى اآلن،
األساسية التي قامت عليها النهضة الصينية هي الممارسة كمنهج
التاريخ ،معتب ًرا الصين نموذجً ا فريدًا في هذا الشأن؛ ألنها تاريخيًّا
وأنها على المستوى الجغرافي أكبر من عشرين دولة أوربية ،بينما على المستوى السكاني فإنها تشتمل على ُخمس سكان العالم ،ومن
ثم فكل هذا الثقل يجعل من الصعوبة المغامرة بتطورات سريعة، وألنه ال بد من اتخاذ خطوات تدريجية بسيطة ومحسوبة ،فال يمكن العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
فضلاً عن تأسيسه مركز دراسات النموذج الصيني ،إلى أن األعمدة
فكري ،وإعطاء األولوية لالستقرار ،واالهتمام بمستوى المعيشة،
واإلصالح التدريجي ،والتمييز الصحيح لألولويات ،واعتماد االقتصاد
المختلط ،واالنفتاح على العالم الخارجي ،وصياغة معايير صينية لكل األمور.
نصوص
جواب يفتش عن سؤال سعود بن سليمان اليوسف شاعر سعودي
ب ـ ـ ـ ــذاك ـ ـ ـ ــر ٍة م ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــألى ف ـ ـ ـ ـ ـ ً ـراغـا وم ـ ـ ـ ـ ـ ـه ـ ـم ـلـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ْـه
ّ تمط ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــيت ..وج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــه الدرب غابات أسئله
تض ـ ـ ـ ـ ـ ـ َ ٌ درب َيضـ ـ ـ ـ ـي ـ ـ ــع بنفسه ـاح َك ل ـ ـ ـ ـ ـ ــي
ـاح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َ تض ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ ـك فلاّ ٍح ملي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــالد سنبل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــه
وف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي الروح أضداد الشعور تواشجت
عروس والتي ـ ـ ـ ـ ــاعـ ـ ـ ـ ُ ـات أرمل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــه أغان ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي ٍ
ّ يكحل عين ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــه ول ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي أم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــل األعمى..
ويرس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــم مس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــراه ويحم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــل مشعله
ُي ّ الدربُ - ُ أرج َله ُّ السرى ـمن ـ ـ ـ ـ ــي -وض ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاع
ُ الدرب ض ّي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــع أرج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــله! وحي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــن تراءى
ول ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي خيبة الفالح ..أغ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرى الجراد أن
َ جدوله يطي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــر ..وأغ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوى بالسن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــابل
يم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاطله فص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــل الربي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــع ين ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاعه
َ في ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ّ منجل ْه ـرتد مكس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــو ًرا يم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاط ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــل
ٌ موحش ول ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي ُح ُل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ٌـم ف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ّـظ املالم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــح
ت ِّ استيقظت لمُ ُ ُ مؤو َله؟! فم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا ل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي إذا
ب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َـد ْ ت ف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي تضاريس الحقيقة صوريت
رك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َ ـام َمج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــازات وأم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َ أخي َل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــه ـواج ِ
ُخلق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ُ ـؤال مه َّي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ًـئا ـت ج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوا ًب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا للس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ِ
َ أبلد الغي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َر الس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ َ فم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا َ وأكسله! ـؤال
تعج ُ ّ لت ف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي أميس اقتطاف رؤى غدي
َّ مؤجله وم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا زال عن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــدي ذكري ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات
َ روحها إذا البيد ألقت ف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي الحدائ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــق
فق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد تظم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــأ األشج ـ ـ ـ ـ ــار وه ـ ـ ـ ـ ــي َّ مبلله
السخي مشـ ــر ًدا وم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا أتعس الص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــوت ّ
ُّ تسو َله! يمـ ـ ـ ـ ــارس -واألص ـ ـ ـ ــداء شت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـّى-
ُ وأوجع خيب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــات الرحيل إذا انته ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــى
غنم سوى ّ حظ ُب َ ب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــك الدرب لم َت ْ وصله
149
بورتريه
نور الدين فارح: قائد الحركة النسوية في الصومال متعب القرني مترجم وأكاديمي سعودي
150
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
«صالت»« ،عقد»« ،خرائط»« ،أسرار»« ،عظام»« ،هدايا»« ،أراضي» عناوين روايات من
حالة من الجمع تعكس مأساة روائي يعيش كلفظة مفردة في أرض المهجر ،ال كلمات يتيمة في ٍ
تملك إال أن تطالب بعالمة التعددية ( ،)pluralismتعددية االتجاهات والثقافات واألديان في
بلده الصومال الذي انهار في حروب أهلية طاحنة ،تركته ضعيف المقاومة لالستعمار ،مشتت ً عاجزا عن النهضة واالرتقاء. الهوية واالنتماء،
َ نور الدين فارح ( )-1945روائي صومالي ّ نور وفرح ،وكسر الشروط حول برواياته الظالمية إلى ٍ
الشفوية لألدب الصومالي ،وأخرجه إلى حالة حية من الكتابة الحرّة المتجاوزة لإللزامات الثقافية .نشأ يرضع الصناعة األدبية من أمه الشاعرة التي كانت تنظم األرجوزات لمجتمعه
في األعراس والوالدات والمرثيات والغنائيات ،ليخرج من قشرة القارة اإلفريقية كأهم الرموز ّ العاقة. العالمية التي حررت األدب والمجتمع اإلفريقي على السواء من السلطة الذكورية انعتاق ثم انطالق ً بدأ نور الدين فارح مشروعه األدبي تاركا الحموالت الثقافية التي ورثها عن أجداده ،حاملاً معاناة المرأة الصومالية ،بعد أن
تكشف حيرة رجل يدعى كوستن ،ومحاوالته إلقناع المجتمع
قرارات من القهر والالمساواة .هاجر الحقوق والخيارات تحت ٍ
خطط الستقبالها في الصومال وتهيئة المجتمع واألسرة لقبول
عايش كرجل مرارة التشييء الجنسي لدورها في الحياة ،وسلبها إلى الهند في أولى تناقالته ،ليتزوج امرأة هندية توحي إليه ليقود الحركة النسوية في الصومال ،ليكتب روايته األولى «من ضلع
أعوج» عام (1970م) في أربعة أسابيع .تسرد الرواية قصة إبال ،فتاة صومالية يتيمة في الثامنة عشرة من عمرها ،ف ّرت من جدها
بعد ترتيب زيجة لها من كبير في السن ،لتستجير بقريبها في بلدة مجاورة ،فيصارحها هو اآلخر بترتيب زواجها
من تاجر ،لتف ّر أخي ًرا لمقديشو ،فتتزوج باختيارها
من رجل ثري يذرها لعشيقة إيطالية ،فتتزوج هي بقرارها س ًّرا بدعم من صديقاتها من زوج آخر،
فتصطدم بحقيقة زواجه من غيرها ،لتعيش عبر سلسلة من التجارب والخيانات الزوجية ،وهي
القضية الكبرى التي تستحوذ على اهتمام نور الدين في رواياته على األغلب .في هذه
الرواية ،يؤكد نور الدين على أن بلوغ الحرية
التي تنشدها البطلة إبال ال يمكن أن تتم إال عبر تفاعالت ولقاءات تجريها مع الشخصيات النسوية األخرى ،الالئي يدعمن جرأتها لتتخذ قرارات خاصة بها ،معطيًا بهذا
درسً ا وافيًا عن أهمية «الجدل التواصلي» في إجراء التغيير ،وهو شرط سبق إلى وضعه والدعوة إليه الفيلسوف األلماني يورغن هابرماس (.)-1929
بعد سرد الظلم المرير الواقع على المرأة
بلسان إبال ،يدخل نور الدين في مرحلة روائية
جديدة يسرد من خاللها أزمات الحركة النسوية ،ولكن هذه المرة
بلسان رجل في روايته «إبرة عارية» عام (1976م) .هذه الرواية الصومالي بتقبل عشيقته نانسي ،امرأة مسيحية بيضاء، االختالفات العرقية والدينية معها .شيد نور الدين من خالل هذه الرواية إطارًا فلسفيًّا مبنيًّا على الم ََثل الصومالي« :اإلبرة العارية
تكسو الناس وال تجد ما يكسوها» ،فيحكي معاناة كوستن مداراة
المجتمع الطارد لالختالف ،فيكون البطل بمثابة اإلبرة العارية التي تكسو وال ُتكسى ،وإن ُكسيت تكون قد فقدت وظيفتها المرجوة
منها .وفي مقاربة بين العصبيات
الدينية والعرقية ،يؤكد نور الدين على
علو كعب ال ِّدين على العرق في الصومال
فيقول« :صدّقيني وثقي بي ،نانسي ،إن
دينك يستفز قومي أكثر من لونك». دماء في الشمس
بعد هاتين الروايتين ،يُزيح
نور الدين الهمّ النسوي االجتماعي
جانبًا؛ ليكثف سردياته في الهم ً مسلطا الضوء السياسي، الوطني ّ
على ثيمة «الهوية الضائعة في زمن
الحرب» ،في ثالثيته األولى« :دماء في
الشمس» (1998 -1986م) التي يطرح فيها
أثر الحرب في تحديد الهوية والوالء،
وضياع البالد تحت هيمنة االستعمار،
151
بورتريه
وأسرار أصول الدم في األسرة والقبيلة .وعلى الرغم من طغيان الهم السياسي في هذه الثالثية ،فإن الهم النسوي ال يزال يسكنه ويطارده كلمحات
وإشارات عبر شخصياته الروائية بصرف النظر
عن الثيمة الطاغية على نصوصه.
تستند رواية «خرائط» عام (1986م) على
خلفية النزاع الدائر بين إثيوبيا والصومال على إقليم أوغادين ،وأثر الحرب في
تمزيق الشعوب ،وحاالت التشريد والتهجير
والعنف واالغتصاب؛ ليسطع من هذه النكبة اليائسة بريق أمل متمثلاً في «ميسرا» ،خادمة
إثيوبية تجد طفلاً وليدً ا صوماليًّا يصرخ بالقرب
من أمه التي ماتت بعد والدته بساعات ،فتتبناه
وترعاه وتربيه متجاوزة بهذا الحب أقاليم الحرب ً تعلقا بـ«عسكر» بين الدولتين .تزداد «ميسرا»
بعد يُتمه ،وسماع خبر موت أبيه في السجن على
خلفية اشتراكه في منطقة الصراع .عاش االبن
بالسعي الحثيث والسرد الكثيف عن واقع الصومال المنهار يمكن القول بأن نور الدين ُيبرز نفسه كأحد أهم روائيي إفريقيا المرشحين لجائزة نوبل لآلداب
الصومالي اليتيم «عسكر» في كنف أمه اإلثيوبية
في مجمع «العم أوراكس» الذي يلحظ فيه «عسكر»
نهمه الجنسي وزيجاته وطالقاته المتكررة وتحرشاته الدائمة بأمه «ميسرا» بذريعة تستره على هويتها ،ليأخذ نور الدين القارئ مجددًا لقضية استغالل «المرأة» جنس ًّيا تحت ذرائع وطنية .تضجّ
الرواية بأسئلة الهوية والوالءات العرقية في الحروب والنكبات،
العودة إلى الصومال 152
بعد االنتهاء من ثالثية الهم السياسي ،يكون الرهان األكبر لنور الدين تعزيز ثيمة جديدة بعنوان« :العودة إلى
الصومال» (2011 -2003م) يرفع عبرها نبرة اللوعة والحنين ،ويصور فيها شقاء االغتراب الروحي والجسدي الذي يعانيه
في أرض المهجر .ترتكز الثالثية على ثيمة «الهجرة والمنفى» وما يصحبها من ويالت وشتات ،وهي الفكرة التي أشار لها بروفيسور األدب األميركي بجامعة هارفارد هومي بابا (1949م) حين أورد في كتابه «العالم والمنزل» (1997م) أن «الهجرة
وترحالت المهاجرين والنزوح المخيف ستكون من لبنات األدب العالمي في مجتمعات ما بعد االستعمار» .يمتاح نور الدين من تجربته الخاصة التي دفعته للهجرة 22سنة ،أسس القصة التي سيبنيها ،فينطلق من خاللها برواية «صالت» عام (2003م) التي تسرد قصة جبيال الذي عاش بكندا 20سنة ،ثم يقرر فجأة العودة لمقديشو حاجًّ ا لضريح أمه؛ حني ًنا
لوطن حائر تناهشته األيدي الظالمة من قبائل لها ال لوطنه الذي تركه بعد أن ُسجن فيه في زنزانة مظلمة .يعود جبيال ٍ
متحاربة إلى عصابات خاطفة ،فيبدأ رحلة البحث عن ابنة صديقه المختطفة الذي شاركه السجن في الطفولة ،مُ فجرًا وطن تتجدد تعقيداته أكثر مما كان يتأمّ ل. بها سؤال العدالة الذي دوّى في صفحات الرواية شارحً ا أزمات ٍ
بلساني أنثى وذكر ،يستأنف نور الدين الثالثية برواية على عادته في تناول القضية النسوية في بداية حياته بسردها ْ
ُ «عقد» عام (2007م) ليسرد العودة إلى الصومال بلسان امرأة هذه المرة ،كامبرا صومالية تعود من شمال أميركا بعد 20سنة لمقديشو بنية استرداد بيتها المسلوب في أثناء الحرب ،لتجد الفروقات الحادة في حياة المرأة بين األوطان
في مراحل ما قبل وفي أثناء وما بعد المنفى ،والثبات المهيمن للظلم واالضطهاد في الصومال .هنا يعود نور الدين ً عارضا صالبة دور ليكثف السرد عن معاناة المرأة في محور بطولي بعد أن ودعها في رواية «إبرة عارية» عام (1976م)،
المرأة أكثر من الرجل ،بعد أن أظهَ ر كامبرا بطلة رواية «عقد» أقوى وأقدر على المقاومة والمناضلة ومواجهة االضطهاد
واالستبداد من جبيال بطل رواية «صالت» الذي حار في التعامل مع هذه التغيرات .في روايته الثالثة «عظام» عام (2011م) يعود جبيال لمقديشو بنية زيارة أصدقائه القدامى ،مُ را ِف ًقا صهره «مالك» الذي يعمل مراسلاً ليغطي االضطرابات في
ً باحثا عن ابنه الذي اختفى المنطقة ،وأخا «مالك» الذي يرجع هو اآلخر لبنتالند المنطقة المعروفة بقاعدة القراصنة، من مينيابلس بعد أن غرّر به إمام مسجد كان يحالف المليشيات الدينية في الصومال .تحكي هذه الرواية الحالة التي
تعيش فيها القراصنة ،وتشتبك فيها عناصر السلطة والحزبية والمليشيات والطائفية الدينية والقبلية والطبقية التي يعيشها السكان في بلدٍ بات يفتقد ألدنى درجات األمان.
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
نور الدين فارح :قائد الحركة النسوية في الصومال
وتفجر الصراع األهلي والتخوينات التي تعدى أثرها في نفس «عسكر» حتى تطال أمه اإلثيوبية «ميسرا» بعد أن ّ شكك الجنود بوالئها في الحرب ،ليقع «عسكر» أسي ًرا لهذه النوبات النفسية حائ ًرا معها بين خيار «الوطن األم» وخيار «األم الوطن».
يستكمل نور الدين ثالثيته بـ«هدايا» عام (1990م) ليسرد
بقصته معاناة المرأة تحت وطأة الفقر والمجاعة والخوف، حكاية دنيا ،ممرضة صومالية تقع في حب رجل ثريّ متعلم،
فتستذكر حين كانت هدية أعطيت لرجل أعمى في سن أبيها،
ليتركها أرملة شابة بتوءمين ثم لتتزوج مرة أخرى بصحافي يشرب الخمر ،ليطلقها ويأخذ ابنتها التي أنجبتها .تحكي القصة فلسفة الهدية ،وكيف أن كل هدية لها حكاية وغاية ،وأن «من يأخذ يجب أن يعطي» .تمتد الرواية لتناقش القبضة االستعمارية
التي خنقت عنق الصومال من بين األوطان ،بهداياها ومساعداتها
المالية التي أعاقت الوطن عن اإلفاقة ،وخ ّدرته عن طرح تساؤالت االستقالل تجاه دول االستعمار.
حول نور الدين فارح روائي صومالي ّ برواياته الظالميةَ إلى نورٍ وفرح ،وكسر الشروط الشفوية لألدب الصومالي، الحرة وأخرجه إلى حالة حية من الكتابة ّ
في ختام هذه الثالثية «أسرار» عام (1998م) ،يناقش نور
الرواية اتساع أفق روائي يستملي األحداث ،ويستنطق الظواهر
في الحروب األهلية عام 1991م .تحكي أسرار قصة «كاالمان» من
األمم المتحدة التي دفعت عجلة روايته في المشهد األول ،كما
الدين الهوس بأصول األسرة والدم والقبيلة إلى االنهيار التامّ
مقديشو ،شاب في الثالثينيات ،عاش تحت كنف جده بالقرب
من حبيبته في الصغر التي تحمل شخصية بهيمية لرضاعتها من ذئبة في الطفولة ،لتعود إليه من أميركا ،فيرفض الزواج منها
ليأخذ نور الدين القارئ في دهاليز األسرار واألساطير الغامضة التي تلفها خيوط الدجل والشعوذة والسحر والجنس مهيم ًنا
بها على المسرح العام للرواية .في مسيرته ،يكثف «كاالمان» البحث عن هويته وجذوره وحقيقة اسمه ليكتشف أنه جاء نتيجة
اغتصاب جماعي لوالدته ،فيدخل في تساؤالت الهوية واألصول وطن متآكل ،يقضم بعضه ً بعضا .في هذه الفترة ،بزغ نجم في ٍ
نور الدين عالم ًّيا ليحصد جائزة نيوستاد األدبية عن مجمل أعماله عام 1998م ،وهي جائزة ُتمنح كل سنتين ُ وتعد ثاني أهم جائزة أدبية في العالم بعد جائزة نوبل لآلداب. االختباء في العراء
في روايته األخيرة «االختباء في العراء» عام (2014م)
يستلهم نور الدين التجربة قبل التعلم ،والواقع قبل الخيال، فيسرد للقارئ قصة رجل في أحياء مقديشو المعقدة ُقتل في هجوم إرهابي في مكتب األمم المتحدة ،وخلف بعده
أبناءه في حضانة أخته من أمه التي عادت من إيطاليا لتتولى رعايتهم .هنا يُعلن نور الدين فلسفته الخاصة عن الموت بسلطة اإلرهاب فيقول« :الموت ال
يعلن قدومه ،إنه ضيف متعجرف يزور بأي وقت يقي ًنا بأنه سيلقى احتفالاً حارًّا» .يظهر في هذه
الصامتة ،فيستذكر بروايته األحداث الواقعية النفجار مكتب يستوحي المستقبل قبل أوانه؛ إذ لم يُنه المسودة األولى من روايته للنشر حتى ُنبئ بمقتل أخته في كابل في عمل إرهابي مشابه.
نور الدين روائي يكتب بهمٍّ َ ونهَم ،ويعطي رواياته الوقت
الكافي لإلنجاز ،وقد حجز موقعه العالمي بسبب كتابته باإلنجليزية ،وهي لغته الرابعة ،رغم أن النقاد يرون أن أسلوبه ً ً َ فني وضياعا ،ويضعها في رتابة نصوصه اإلنجليزي يكسو إهاب ٍّ ٍ
متواضع ،وهي سمات خاصة به يرى فيها نقا ٌد آخرون تعبي ًرا عن ال ِّتيه والضياع الذي يمر به بلده الصومال .بهذا السعي
الحثيث والسرد الكثيف عن واقع الصومال المنهار في 11رواية وتناول قضايا جوهرية كالنسوية واإلرهاب ،يمكن القول بأن نور الدين يُبرز نفسه بهذه األعمال الروائية كأحد أهم روائيي إفريقيا
المرشحين لجائزة نوبل لآلداب.
153
مقال
«موت المؤلف» أم «تقويض الكوجيتو»؟ ما ينيف عىل العقد والنصف من الزمن ،قبل أن يعلن كل من روالن بارت (1968م) وميشيل فوكو (1969م) «موت املؤلف»،
كان موريس بالنشو قد تحدث عن «غيابه» .إذا كان ما ح ّرك «بارت» و«فوكو» إلعالن ذلك «املوت» هو محاولة القيام ضد مفهوم ً وتأريخا ،فيبدو أن ما دفع «بالنشو» إىل إعالن «الغياب» فيما قبل ،ربما معينّ عن األدب كان مهيم ًنا عىل الدراسات األدبية نقدً ا
كان أبعد من ذلك بكثري.
قبل أن نقف عند «الثورة الفكرية» التي بلورها بالنشو يف كتابيه املؤسِّ سني :الفضاء األدبي (1955م) ،وكتاب املستقبل (1959م)، ً وتأريخا: ال بأس أن نقف عند الدعائم األساسية التي كانت تقوم عليها الدراسات األدبية خالل النصف األول من القرن املايض نقدً ا
ً وتدريسا هو ذلك الذي أرىس دعائمه غوستاف النسون عند نهاية كتابة معروف أن الشكل الرسمي الذي اتخذه «تأريخ األدب» ً
القرن التاسع عشر ،والذي ظل يهيمن عىل الجامعة الفرنسية خالل عقود ،مكرّسً ا تفسريًا لألعمال األدبية بوصفها تعبريًا عن
مؤلفيها؛ لذا كان يكفي الوقوف عند مقاصد املؤلفني ،ومعرفة ما يجول بخواطرهم ،وما يدور بخلدهم؛ يك تتضح معاين تلك األعمال .بلوغ مقصد املؤلف وإدراك نواياه كفيل بأن يجعلنا نقف عىل معنى العمل .ولن يكون النقد األدبي حينئذ إال دراسة
لـ«الرجل وأعماله».
154
لم يكن هدف بالنشو ليقتصر عىل إعادة النظر يف هذه الكيفية التي يتم وفقها النقد ويُؤرخ بها لألدب ،وإنما كان يرمي إىل
الكشف عن الفلسفة الثاوية خلف الكتابة األدبية بهدف إعادة النظر يف األسس األنطلوجية التي تقوم عليها نظرية الكتابة .وقد أدى به ذلك إىل خلخلة النظرة السائدة عن العمل األدبي ،تلك النظرة التي كانت ُتعيل من «ذاتية» املؤلف ،وتؤكد سلطته عىل النص ،مع ما يصاحب ذلك من إلحاح عىل الطابع التعبريي للكتابة .صحيح أن هناك من كان قد مهد الطريق لهذا النوع من إعادة النظر ،فقام ضد املفهوم السيكولوجي الذي يرجع العمل األدبي إىل األحوال النفسية لصاحبه ،ويكفي أن نذ ّكر هنا بما سبق
لـ«ت.س .إليوت» أن أشار إليه عندما كتب أن «األدب ليس تعبريًا عن الشخص ،بل هو هروب وانفالت» ،إال أن بالنشو ال يكتفي ّ محل املؤلف ،كمبدأ بالتأكيد عىل هذا الطابع الالشخيص للكتابة ،وإضفاء طابع «الحياد» عليها ،وإنما يذهب أبعد من ذلك ليضع َ اللغة بما تتسم به من طابع ال شخيص ،مل ّبيًا دعوة ماالرميه إىل «انسحاب صوت الشاعر ،إلفساح إبداع العمل األدبي وتفسريه،
املجال للكلمات».
بالنشو وحصة النار ال داعي ً إذا ألن يويل النقد األدبي عنايته ملا يدور بخلد املؤلف ،ما دام العمل سينحل إىل لغة ،أي إىل منظومات من العالمات
ال تكرتث بالذات املتكلمة .كتب بالنشو يف حصة النار« :نستخلص من املالحظات السابقة حول اللغة ً نقطا أساسية لعل أهمها هي الخاصية الالشخصية للغة ،ووجودها املستقل املطلق الذي تحدّث عنه ماالرميه .فهذه اللغة ،ال تفرتض أي شخص يتكلمها ،وال أيّ شخص يسمعها :إنها ّ نفسها .وذلك هو شرط سيادتها .والكتاب هو رمز هذا الوجود املستقل .إنه يتجاوزنا وال تكلم ذاتها وتكتب َ حول لنا وال قوة أمامه .وإذا كانت اللغة تنعزل عن اإلنسان وتعزله عن األشياء ،إذا لم تعد فعل شخص يتكلم تجاه من يسمعه،
فهمنا ملاذا غدت ،بالنسبة ملن يتمثلها عىل هذا النحو ،قوة سحرية .إنها نوع من الوعي من غري ذات ،انفصل عن الكائن ،وغدا هو ِ ً وقدرة ال متناهية عىل خلق الفراغ». نفسه انفصالاً ونفيًا
ّ ستمكنه من أن يكون تمهيدً ا لن ندرك قيمة هذا الكالم وأهميته التاريخية إال إذا وقفنا عىل ميزة السبق التي يتمتع بها والتي
لكل املواقف البنيوية .وبالفعل ،لن يعمل شيوخ البنيوية الفرنسية فيما بعد إال عىل تأكيد هذا املوقف من اللغة .وهكذا فنحن ً محرفا عبارة باسكال «للقلب من الحجج واألسباب ما ال يملكه العقل»« :إن اللغة عقل نقرأ عىل سبيل املثال عند ليفي سرتوس، إنساين له حججه وقواعده التي ال يعرفها اإلنسان».
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
يقوم هذا املوقف البنيوي من اللغة عىل دعائم ثالث: أولاً -اللغة منظومة من االختالفات ،بدون حدود مطلقة .واملسافة
بني الوحدات الصوتية هي واقع اللسان الذي يغدو بفعل ذلك من غري
مادة جوهرية ،ال طبيعية وال ذهنية.
ثانيًا -ال تتوقف الشفرة املتحكمة يف املنظومات عىل الذات املتكلمة،
وإنما هي باألحرى الالشعور املقويل الذي يسمح بممارسة الكالم من طرف أولئك الذين يستعملون اللسان.
ً ثالثا -الدال نفسه يتكون من اختالفات ،وال يستدعي الدال أي
عالقة خارجية.
لذا فإن اللغة ،والحالة هذه ،منظومة بال «حدود» وال «ذات» وال «أشياء» .والذات مفعول للغة ،وليست فاعلاً متحكمً ا فيها. ستغدو الكتابة ،كما سيقول بارت فيما بعد «هي ذلك املحايد،
وتلك الالمباشرة التي تنفلت عربها ذاتيتنا .إنها البياض والسواد اللذان
تضيع فيهما هوياتنا ،ابتداء من هوية الجسد الذي يكتب» .سيخيل املؤلف ً َ ّ املجال للناسخ الذي لن و«النص» ،وسيرتك إذا املكان للكتابة تتعدى «ذاتيته» «الفاعل» باملعنى النحوي واللغوي للكلمة ،وليس ً مطلقا باملعنى األنطلوجي من حيث هو الحامل املؤسس .بل إن هناك من
عبدالسالم بن عبدالعالي كاتب مغربي
ً مطلقا سيقول فيما بعد :إن املؤلف ليس إال كائ ًنا من ورق ،وهو ليس
ذلك الشخص الذي يتحكم يف لعبة الكتابة؛ يهيمن عىل معانيها،
155
ويتحكم يف دالالتها.
وهكذا سيتضح إىل أيّ مدى قد شكل الوقوف عند «تراجم األدباء» ً تنكب تلك الدراسات عائقا معرفيًّا يف الدراسات األدبية؛ لذا فبدلاً من أن ّ عىل األدباء والشعراء وما يقصدون إليه ،سيتحول االهتمام إىل دراسة
الشعر واألدب ،أو األدبية عىل األصح.
عىل هذا النحو سينتقل النقد من املرمى التفسريي الذي يسعى إىل
بلوغ مقاصد املؤلف ونواياه إىل املرمى التأوييل الذي يروم قراءة النص
لتقيص معانيه .نقرأ يف كتاب الفضاء األدبي« :كل قراءة هي نوع من الخصام الذي يقيض عىل املؤلف؛ يك يضع العمل األدبي أمام حضوره
النكرة ،أمام ما هو عليه من إثبات للذات عنيف وال شخيص» .ولن تتوخى القراءة بلوغ املقاصد والنوايا ،وإنما ستنغمس بني ثنايا النص ً بحثا عن القوى املطموسة يف غياهب النسيان ،وسعيًا وراء تلك اللغة التي تسبق الذات وتفعل خارج كل رقابة شعورية .وهكذا سيغدو
«غياب املؤلف» مجرد شكل من األشكال التي يتخذها تقويض الكوجيتو يف الفكر املعاصر. ً لم يكتف م .بالنشو إذا بإعادة النظر يف مفهوم الكتابة ،وإنما أسهم
من زاوية األدب يف إقامة أسس «كوجيتو معاصر» يطرح عىل الفكر، وليس عىل نظرية األدب وحدها ،أسئلة من نوع جديد .ولعل أهمها
تلك التي صاغها م .فوكو يف عبارة مركزة عندما كتب« :ماذا يتعني عيل أنا الذي أفكر وأشكل تفكريي ،ليك أكون ذلك الذي ال أفكر فيه ،وليك
يكون تفكريي غري ما أنا عليه».
لم يكتف م .بالنشو إ ًذا بإعادة النظر في مفهوم الكتابة ،وإنما أسهم من زاوية األدب في إقامة أسس «كوجيتو معاصر» يطرح على الفكر ،وليس على نظرية األدب وحدها، أسئلة من نوع جديد
إعالم
الحملة اإلعالمية الغربية على السعودية..
دوافعها واتجاهاتها تحتم المهنية اإلعالمية على الحمالت اإلعالمية ،أن تصمم وفق
معايير وضوابط معينة ،مثل أن تتوافر فيها العناصر الرئيسة األربعة
التي نادى بها األكاديميان « إيفيرت روجرز» و«دوغالس ستوري»، كاف للحملة ،وأن توجّ ه إلى جمهور كبير ،ويكون وهي :وجود سبب ٍ
ناصر البراق رئيس قسم الصحافة والنشر اإللكتروني في كلية اإلعالم بجامعة اإلمام
156
لها وقت محدد ،وتشمل مجموعة نشاطات إعالمية منظمة. وفي التطبيق الغربي ،نجد أن الحمالت ،أ ًّيا تكن أهدافها ،تمضي
في تقاطع الفت ،عبر منظومة من األنشطة واللقاءات والتصريحات واألدوات ،التي ربما اختلفت مضامينها ،إال أنها في نهاية المطاف
وبأكثر من أسلوب ال بد أن تلتقي عند هدفها «األوحد».
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
لكن الالفت أكثر هو طول النفس ،في الجانب المتصل
بتعبئة الرأي العام الغربي ضد بعض التقاليد العربية، ّ بالمسلمات لكثرة طرقها والقيم اإلسالمية ،حتى غدت أشبه لدى شرائح من المسلمين ،ناهيك عن الجمهور الغربي
المستهدف ،فتارة يربطون اإلرهاب بغياب الديمقراطية، ِّ ً وأحيانا بلبس النقاب ،حتى إن باللحية، وتارة يربطونه شخصية رصينة ،مثل الوزير السعودي الراحل غازي
القصيبي ،أشار ذات مرة إلى أنه «ال يمكن لصحفية غربية أن تغير رأيها في الحجاب ،ولو أقسمت أمامها ألف امرأة ً طوعا واختيارًا». مسلمة أنها تحجبت
وبينما أتقن عدد كبير من المحللين أدوارهم في
الحمالت المنظمة ،أو المنقوشة في «عقل الالوعي»،
نحو العرب؛ تظهر فئة تدفعها الحماسة ،إلى االنكشاف
الموضوعي ،واالنحياز لألهواء ،ضدّ األخالقيات المهنية التي وضعها صانعو السياسات اإلعالمية.
هب اإلعالم فبُعيد أحداث الحادي عشر من سبتمبرّ ،
الغربي وشنّ حملته الدعائية على المملكة العربية السعودية واإلسالم متمثلاً مقولة صانع الدعاية األول غوبلز« :اكذب اكذب ،حتى يصدقك العالم» ،فركز على
ربط الدين باإلرهاب ،واختار المجتمع المسلم وغذى عقول
شبابه باألفكار التي تربط الدين باإلرهاب والعنف والتخلف
االجتماعي ،وتتفق هذه الحمالت الغربية على مهاجمة السعودية لمكانتها الدينية بين المسلمين؛ إذ فيها المدينتان
المقدستان (مكة والمدينة).
غازي القصيبي
انتقائية وعنف
تنبه بعض الغربيين إلى هذا التجني ،فذكر الحائز
على جائزة نوبل البديلة في مجال أبحاث السالم إليوهان
كالتونغ أن اإلعالم الغربي يركز على تغطية األحداث واألخبار القادمة من الشرق األوسط بشكل انتقائي ،وغير
عادل ،وأن األخبار التي نشرتها وسائل اإلعالم عن المملكة
العربية السعودية تندرج في معظمها تحت أخبار العنف، وقد فعل الغرب ذلك إلضعاف موقف السعودية من االتفاق النووي اإليراني.
ولترسيخ فكرة إسالمية اإلرهاب ،وأن من اإلسالم
العنف ،وقتل الناس ،واضطهاد المرأة ،وقمع حرية
التعبير ،وعدم تكافؤ الفرص ،وغياب العدالة والمساواة. يتهم اإلعالم الغربي المناهج السعودية ،وينتقد غياب
الديمقراطية ،وإن تهاوت أسعار النفط فإن الملوم بين كل الدول المنتجة للنفط هو السعودية ،ومن هذه المساعي،
اختالق أحداث وهمية أوحت أن هناك مشاكل سياسية
في البيت السعودي وأن هذه المشاكل ستلقي بظاللها على مستقبل الوطن؛ ادعاءات طالما أثبتت المواقف عدم
صدقيتها وعدم موضوعيتها.
وفي اإلطار نفسه يصور اإلعالم األميركي الشخصية
السعودية بأنها شخصية متطرفة وإرهابية ،ويضرب المثل
157
إعالم
بل إشارة إلى أن أسامة بن الدن رجل سعودي ،ذكر هذه
الحقيقة مروان بشارة في كتابه العربي الخفي صفحة ،155قائلاً « :إن شعوب المنطقة خيرت بين واشنطن وبين من تنتقيه هي لدور الشرير كل عشر سنوات تقريبًا .في
ستينيات القرن الماضي كان عبدالناصر المصري ،وفي أوائل السبعينيات كان عرفات الفلسطيني ،وفي أوائل الثمانينيات كان آية الله اإليراني ،وفي التسعينيات تاله صدام حسين،
ثم زعيم القاعدة ابن الدن في 2001م».
ونقدً ا لهذا النهج ،يشير القصيبي مرة أخرى في كتابه
«حملة إعالمية» إلى مقال في صحيفة وول ستريت جورنال بتاريخ 10أكتوبر 2001م ،يتحدث عن الوهابية ،ويصفها يكتف الغرب بإطالق بالتطرف ،وإباحة العنف والقتل .ولم ِ
الالفت أكثر هو طول النفس في الجانب عادل الجبير
للجمهور الغربي بشخصية أسامة بن الدن بعد أحداث
158
ً وترسيخا لهذه الحملة الحادي عشر من سبتمبر 2001م،
اإلعالمية والمؤطرة بالدعاية المغرضة فقد ظلت اإلدارة
األميركية تالحق ابن الدن إعالميًّا ال حربًا على اإلرهاب،
المتصل بتعبئة الرأي العام الغربي ضد بعض التقاليد العربية ،والقيم اإلسالمية ،حتى غدت أشبه بالمسلّمات لكثرة طرقها لدى شرائح من المسلمين، ناهيك عن الجمهور الغربي المستهدف
إعالم سعودي دون المستوى غير أن الذي يالحظه ويناقشه اإلعالميون واألكاديميون السعوديون في المجالس الخاصة هو أن التعاطي ً أحيانا إلى األمة والعالم ،ال اإلعالمي السعودي مع هذه األزمات ،وقضايا إستراتيجية على مستوى يتجاوز اإلقليم
ً خصوصا من الجانب اإلستراتيجي ،وعمق التداول ،وإشباع األفكار الجوهرية ،بالنقاش يزال دون مستوى الحدث،
الجاذب لألطراف المهتمة ،سواء عبر النقد أو التحليل ،أو بالسجال وصناعة مواقف إيجابية ال تتوقف عند رد الفعل، بل اآلخرون من يردد صداها.
وبين النماذج المشرقة على هذا الصعيد ،تفاعل السفير السعودي في العراق ثامر السبهان ،مع الشأن العراقي، ً ومشاركا في كل القضايا ،التي كانت من قبل محتكرة من جهات أجنبية ،حتى فبات منفتح األفق ،مساجلاً وموضحً ا،
انتزع ما يشبه اإلقرار بأن الشأن العراقي هو في المقام األول عربي ،يعنى به العرب قبل غيرهم. ً متوقفا على صحف ومجالت بعينها ،وقنوات لكن من حسن حظ السعوديين أن اإلعالم لم يعد رسم ًّيا فقط ،أو
مهما تعددت ،تظل محدودة ،بل توسع ليشمل كل صاحب رأي أو كلمة ،مهما كانت صفته ،بواسطة منصات «اإلعالم ً مشاركا في مسؤولية التفاعل مع قضايا الوطن ،وبوسع الكل اإلسهام فيها ،بما يصنع الجديد» .وهذا يجعل الجميع
ً موقفا ،يوضع في الحسبان .إال أن المسؤولية الكبرى تظل على عاتق المثقفين وصناع الرأي المؤثرين ،في رأيًا أو ً تأطير تلك الوسائل ،ودفعها نحو قنوات التأثير ،والقضايا الكبرى ،عوضا عن الهويات الصغرى ،وتفاصيل التفاصيل الموغلة في الذاتية.
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
الحملة اإلعالمية الغربية على السعودية ..دوافعها واتجاهاتها
المعلمي
تهمة التطرف على (الوهابية) ،بل إنه نسب منشأها إلى
السعودية ،وهو ال يعني بذلك غير اإلسالم. حملة أكثر عدوانية
الجعفري
عليه في وقت سابق ،ففي األزمات األخيرة التي صاحبها
تصعيد إعالمي خطر ،كان صانع القرار السعودي ناجعً ا في إيصال رسائل كافية إليضاح الجانب المظلم في زاوية
الخصم.
وفي الجانب اإلستراتيجي ،تأخذ الحمالت ضد
وبين األمثلة على ذلك ،هو األداء السياسي ،والسجال
الحزم ،ومقاومتها المد الفارسي على البلدان العربية في
وزير الخارجية السعودي عادل الجبير ،في مثل نفيه مزاعم
السعودية جانبًا أكثر عدوانية ،في مثل إطالقها لعاصفة
الدبلوماسي الذي أثار إعجاب السعوديين والعرب ،من طرف
أن لإلسالم عالقة بـ«داعش» ،عبر جمل قصيرة مفحمة،
سوريا واليمن والعراق ،وفي تناول تفاصيل ذلك ،دائمً ا ما ً ً خصوصا منذ إعالن مكشوفا، يبدو االنحياز ضد السعودية
تداول السعوديون والعرب عبر «تويتر» مقطعها القصير،
حتى إن محللين اتجهوا إلى موضوعات ،تثير االهتمام
بالمهارة الدبلوماسية» .وفي ذلك الجواب لفت إلى أن كثي ًرا
السعودية التي تستند إلى قرارات دولية وإقليمية ،وإنما
إليهم من مفكرين ومترجمين وعلماء مسلمين سابقين،
الغرب انخراطه في االتفاق النووي مع طهران.
الغربي أكثر ،فشككوا ليس في مصداقية المواقف تحاول التشكيك في قدرتها على إحراز تقدم ،أو أنها ستواجه
مخاطر نتيجة تلك المواقف ،مثل زعم صحيفة التايمز أن
السعودية في خطر بسبب تدني أسعار البترول نتيجة اإلنفاق الزائد ،مما يهدد مشاريع اإلسكان واالستقرار االجتماعي.
والذي وصفه بعض المحللين بـ«الجواب الفكري المغلف من العلوم التي يستند إليها األروبيون في أبحاثهم إنما نقلت فشخصية فلسفية عريقة مثل أرسطو ،أكثر من ع ّرف الغرب به ،ونقل معارفه فالسفة مسلمون .وهكذا.
ومثل ذلك فعل المندوب السعودي لدى األمم المتحدة
عبدالله بن يحيى المعلمي ،في سجاالته الشهيرة مع
ومثله ما نقلته صحيفة «ليزيكو» ،Les écoمتى «ستفلس
بشار الجعفري ،الذي أخذ أبعادًا ثقافية ومناكفات أدبية،
ستنفد االحتياطيات المالية للمملكة العربية السعودية؛
وأوزانه ،ما لفت أنظار المتابعين ،إلى نهج أعمق في تحدي
المملكة العربية السعودية» تزعم فيه أنه بحلول عام 2020م بسبب انخفاض أسعار النفط وكثرة اإلنفاق العسكري.
تجاوزت السياسية وأرقام ضحايا النظام السوري إلى الشعر
الصعاب من هذا القبيل.
إن الحمالت المناوئة للسعودية أو اإلسالم ،أيًّا كانت
ً أيضا ،صنع ولي ولي العهد السعودي بعد وهكذا
إستراتيجية مختلفة المراحل للتعاطي معها ،فليس كل
بمقابلة تلفزيونية مع قناة العربية ،يوم وافق مجلس الوزراء
وجهتها تتطلب من المجتمع العربي وعلى رأسه السعودية، حدث يجدي معه الشجب واالستنكار ،أو هجاء مصدر الهجوم في الوسائل المحلية ،التي يتردد صداها في الداخل
أكثر من الخارج.
ويالحظ الباحثون في هذا المجال أن التعاطي السعودي
مع هذه التقارير والحمالت ،تحسن إلى حد بعيد عما كان
مقابالته الشهيرة مع بلومبيرغ ،والتي توّجها من بعد
على رؤية «السعودية 2030م» التي كان مهندسها ،فجاءت إجاباته كافية البتالع كثير من ألسنة التقارير المشككة في
قدرة البالد على الصمود أمام تهاوي أسعار النفط ،ليقول
باألرقام والمنطق :إن النفط سلعة مهمة ،لكن الدولة ليست أسيرة لتقلباته.
159
إعالم
الحملة اإلعالمية على السعودية في الصحافة الغربية؛ هل هي ممنهجة؟
فضيلة الجفال كاتبة سعودية
160
حين نتحدث عن الهجوم الغربي ضد المملكة ،بصفته حملة ممنهجة أو غير ممنهجة ،يجب أن نتأكد من كونها «حملة» فعليًّا .الهجوم ال يمكن تعريفه فحسب كهجوم غربي إعالمي عام. هناك اإلعالم األميركي والبريطاني والفرنسي وبقية اإلعالم األوربي ،اتفقت أم اختلفت األسباب وراء ذلك .فإذا شئنا تقسيم الهجوم عامة ،فالمسألة قديمة وربما غير ممنهجة كما يمكن أن نراها اليوم .وهو يحدث بشكل روتيني مع كل زيارات الرؤساء الغرب الرسمية للمملكة، األميركيين واألوربيين والبريطانيين ،ومن تلك الزيارات زيارة األمير تشارلز األخيرة للمملكة، وزيارات أوباما ،أو حتى أوالند .والقضايا هي نفسها متكررة ومعروفة؛ مثل :قضايا الحقوقيين المثارة ،وقضايا معتقلين في أمور تتصل بالرأي والدين والحريات ،وبالطبع ملف حقوق المرأة وغير ذلك ،حتى إنه حين ظهرت سيدة سعودية تتحدث في مجلس األمن حول إسرائيل ،انبرى بعض الغرب ومن بينهم إسرائيليون ،في السخرية بإظهار صور إسرائيليات يقدن مقاتالت F16 والتعليق أسفل الصور« :تقود اإلسرائيليات F16أكثر مما تقود السعوديات سيارة».
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
عىل سبيل املثال ،كانت ردة فعل الصحافة الغربية وبخاصة الربيطانية تجاه قضية الربيطاين املُسنّ يف جدة
منها ،كما أن لها بطبيعة الحال أبعادًا سياسية .ووسائل
من أن القضية «قانونية» مثل أي قانون يف بريطانيا يجب
األسباب املتكررة مع تحديث أسباب جديدة ،منها حرب
الذي حُ كم عليه بـ 350جلدة محل اهتمام .وعىل الرغم احرتامه من الجميع ،فإن املسألة كانت متداخلة مع حكم
الجلد نفسه لتطبيقه يف حق رجل مسن ،إذن املسألة هي أن بعض األحكام املبنية عىل الشريعة اإلسالمية توصف –من وجهة نظر بعض الغربيني -بأنها أحكام قمعية وقروسطية
تهدر حقوق اإلنسان ،وبخاصة مع تواتر األخبار والتغطيات حول قصصنا املحلية التي لطاملا كانت مادة خصبة للصحافة
العاملية طوال العام ،وغالبًا ما يكون سببها شخصيات متشددة من الداخل تحارب أي نزعة انفتاح أو حقوق للمرأة
يف اململكة .هناك صورة نمطية حول اململكة؛ بسبب ملفات بسيطة يمكن وصفها بالتافهة؛ ألنها تستهلك من سمعة
املتهكم واملمنهج يصنع صورة عامة من الصعوبة التخلص اإلعالم تتبنى الهجوم الخاص عىل اململكة مؤخ ًرا لنفس اليمن ،دون أدىن اعتبار لألهمية الجيوسياسية للمملكة،
وباقي ملفات الشرق األوسط الساخنة ،وبالطبع موضوع
النفط الشائك ،والعالقات األمريكية ،وصفقات األسلحة،
وليس موضوع ربط السعودية بإرهاب 11سبتمرب من خالل قضية الـ 28ورقة من التقرير ،سوى مناورة سياسية إعالمية ً أيضا .وبالتايل فهذا النوع من الهجوم يأيت إما من صحافة
مدفوعة ومأجورة من قبل سياسات لها أهداف وتمارس ً ضغطا معي ًنا ألسباب ما ،أو دول لها مصالح يف استمرار
الهجوم عىل اململكة كإيران ،أو ألسباب حقوقية من قبل
املنظمات الدولية كمنظمة العفو الدولية وجماعات حقوق
اململكة الكثري بال طائل. ّ يف العامني األخريين ،غطت الصحافة الربيطانية قضايانا
باإلمكان تحديد الصحف األكرث هجومً ا عىل اململكة من
بحدث؛ إذ لم توفر الصحافة الربيطانية مقاطع فيديو أشبه بالتعليمية ،وبعناوين تلقت تفاعلاً جماهري ّيًا مثل :لقد عرفنا
مثال عىل ذلك حينما ألغت بريطانيا عقدً ا لتدريب موظفي
وويل أمرها ...إلخ .بطبيعة الحال ال يمكن أن نختلف يف أن
منظمً ا .كذلك وكجزء من هجوم الصحافة الربيطانية ،نشرت
املثرية باهتمام شديد ،املسألة ليست األخبار والتقارير املتعلقة
خمسة أشياء عن السعودية هذا األسبوع :املرأة السعودية،
اإلنسان ...إلخ.
خالل متابعة التغطيات الخربية وغري الخربية .والالفت ليس الهجوم اإلعالمي فحسب ،بل تأثريه ً أيضا يف السياسات، مصلحة السجون السعودية بعد هجوم إعالمي ،ربما كان
دول الغرب متقدمة من حيث الحريات وحقوق اإلنسان. والصحافة منابر حرة مشاكسة وينبغي يف عامة األحوال ألاّ
السعودية بعد ّو حقيقي للغرب ،وبأن سياسة العداء مع
وتداعياتها بطبيعة الحال مختلفة جدًّ ا.
يف بيع األسلحة للسعودية .وذلك عىل الرغم من وجود بعض
نتابع ذلك بحساسية مفرطة ،لكن األوضاع السياسية الراهنة
شفافية تصل إىل حد الفضائح
اإلندبندنت والغارديان مقاالت هجومية مختلفة واصفة إيران ال تخدم املجتمع الدويل ،منتقدة سياسة إدارة كامريون
املقاالت القليلة الداعمة للعالقات مع اململكة ،كمقال نشر يف دييل تليغراف ذات التوجه السيايس املحافظ عىل سبيل املثال.
وعادة ما تتناول الصحف قضايا الدول عامة بشفافية
والهجوم الواسع الذي يشنه أغلب اإلعالم األمرييك ً أحيانا إىل التساؤل عما إذا كان ضد اململكة مؤخ ًرا ،يدفع
بنما وغريها ،فالصحافة الغربية حرة ،لكن ذلك ال يؤثر سلبيًّا
مقربة من البيت األبيض .مثال عىل ذلك نيويورك تايمز،
تصل إىل حد الفضائح وكشف األوراق ،مثل عنصرية يف
أمريكا ،وفضائح سياسية يف بريطانيا وويكيليكس ووثائق يف صورة أمريكا أو بريطانيا كدولتني عظميني .لكن التناول
البيت األبيض يقف خلف ذلك ،ال سيما من جهات إعالمية التي تمارس هجومها بشكل مستمر وواضح ،فقد دبجت
افتتاحية متبوعة بسلسلة مقاالت لكتاب من بينهم إيرانيون
إبان إعدام نمر النمر .لذا فالهجوم املنظم واملخصص يف
وسائل اإلعالم الغربية تتبنى الهجوم
تغطيات عىل CNNاألمريكية و BBCالربيطانية و RTالروسية ً اعرتاضا يف موضوع إعدام نمر النمر من بني اإلرهابيني ليس
نفسها ،مع تحديث أسباب جديدة ،منها
القضية سياسيًّا ،وذلك يف تجاهل متعمّ د لثبوت تورط إيران
الجيوسياسية للمملكة
صحيفة واشنطن بوست ،ومن بني ذلك ما كتبه نائب رئيس
على المملكة لألسباب المتكررة حرب اليمن ،دون أدنى اعتبار لألهمية
عىل مسألة حقوقية وإنسانية كما يُزعم ،إنما هو استثمار يف
يف دعم مجموعة من التنظيمات اإلرهابية .وكذلك األمر يف التحرير نفسه.
161
إعالم
الجدير بالذكر أن التنسيق بني فريق إدارة أوباما واللوبي
بني كم من املقاالت التي تلمع إيران عىل حساب السعودية،
الكونغرس عىل القبول باالتفاقية النووية مع إيران ،لدرجة
الجبري يف نفس الصحيفة ردًّا عىل الهجوم .وليست املقاالت
اإليراين ومناهيض الحرب عىل العراق حشد اإلعالم لحث استعراض صارخ لتحسني صورة إيران من قبل اإلعالم األمرييك قبل توقيع االتفاقية وإبانها .وقد يكون هذا الهجوم
جزءً ا من ثمن االتفاق النووي مع إيران .وهذا يشري إىل حجم
هجوم مؤسسات العالقات العامة املتعاونة مع الصحف وكتابها ضد السعودية ،والذي بدا واضحً ا بالتزامن مع هجوم اإليرانيني عىل سفارة السعودية وقنصليتها يف إيران. ولم يكن نشر صحيفة نيويورك تايمز مقالاً لوزير الخارجية
اإليراين محمد جواد ظريف يهاجم فيه اململكة سوى جزء من
فحسب ،فبمتابعة بسيطة نرى حجم التعليقات التفاعلية أسفل املقاالت والتي تمتئل بشكل الفت بردود ضد اململكة،
وتبقى يف الصدارة بني الردود بفلرتة عىل موقع الصحيفة كآراء مرشحة .وبعد أحداث باريس اإلرهابية نشرت صحيفة لوموند مقالاً يدعو الغرب لقطع عالقاته مع السعودية، بوصفها «أهم أسباب انتشار التطرف اإلسالمي» .وال يعمل اإلعالم بطبيعة الحال بمعزل عن مراكز األبحاث ،يتصدرهم يف ذلك ويل نصر وتريتا باريس وباربرا سالفني ولورا روزن وغريهم .وقد نشرت فايننشال تايمز مقالاً للكاتب اليهودي
لم يكن نشر صحيفة نيويورك تايمز
جدعون راشمان ،وهو املعلق يف الشؤون الخارجية ،اعرتف
مقا لوزير الخارجية اإليراني محمد لاً جواد ظريف يهاجم فيه المملكة سوى
ضد اململكة .يف املقابل هناك أصوات مؤيدة ملواقف الرياض
جزء من بين كم من المقاالت التي تلمع إيران على حساب السعودية
162
وقد حدث ونشر عىل إثرها وزير الخارجية السعودي عادل
فيه صراحة بتصاعد الهجوم اإلعالمي والسيايس الغربي ً خصوصا من اليمني األمرييك املعارض ألوباما، تجاه إيران وقد كتبوا يف وسائل عدة مثل :يل سميث يف ويكيل ستاندرد
وفيليب سميث يف فورين بولييس.
أميركا وسياسة المملكة النفطية أمام كل السياسات الخارجية والداخلية املذكورة ،ال ننىس عاملاً مهمًّ ا وحيويًّا يف الهجوم ،وهو سياسة السعودية
االقتصادية يف النفط ،وتأثري ذلك سلبيًّا يف استثمار النفط الصخري األمرييك ونفط القطران الكندي .كما أن تأثر اقتصاد اململكة يؤثر بطبيعة الحال يف حجم استثماراتها يف أمريكا؛ األمر الذي أخرج كثريًا من التقارير التي تروّج انهيار السعودية واقتصادها، وقد سخر الربيطاين أليسرت سلون يف مقال عىل موقع ميدل إيست مونيتور من خرب يف برنامج News Nightعىل ،BBCحذر
فيه محرر الربنامج للشؤون الدبلوماسية والدفاع مارك أوربان من أن اقتصاد السعودية بات عىل وشك االنهيار قبل نهاية العام؛ إذ أشار يف إحدى شرائح العرض التي قدمها إىل أن احتياطي السعودية النقدي قد تراجع إىل 650مليار دوالر أمرييك؛
«أتعرفون كم هو احتياطي اململكة املتحدة؟ إنه عشر ذلك املبلغ ،وما هي نسبة االقرتاض إىل الناتج املحيل اإلجمايل؟ إنها .%90أما
بالنسبة للسعودية ،فذلك الرقم يحوم حول نسبة ،%2وهي أقل نسبة اقرتاض بالنظر إىل الناتج املحيل اإلجمايل يف العالم ..آل ً دفاعا وال كذبًا». سعود أكرث شعبية بكثري مما يصوره اإلعالم الغربي ،وهذا ليس
يف املحصلة ،إنها دعوة إىل مراجعة جادة إلسرتاتيجيتنا اإلعالمية ،والعمل عىل خلق توازن لدى الرأي العام الغربي،
بوساطة «صقور» لها كاريزما وثقة وقدرة عىل االتصال .قائمة االتهامات يف هذا الهجوم ليست قصرية ،وهي يف املحصلة تنميط للسياسة السعودية واألسرة الحاكمة والشعب؛ من اتهام بنشر التطرف وتمويله ونشر الطائفية .ويمكن لكائن من كان أن
يهاجم السعودية من دون سؤال عن موقف الكاتب السيايس ،بل األمر أشبه بصناعة كراهية ممنهجة عمياء .الجبهة اإلعالمية ال تقل أهمية عن الجبهة العسكرية .ويبقى جانب من املسألة يتجاوز توضيح وجهات نظرنا للغرب إىل تغيري بعض الجوانب التي
تختص بالسياسات الداخلية؛ كاالنفتاح ،وملف حقوق املرأة عىل سبيل املثال ،وذلك قبل جهود العالقات العامة ،فالعالقات
العامة تقابلها سياسات وحمالت عالقات عامة شديدة الهجوم .ونعوّل كثريًا عىل الرؤية الحكيمة التي تسري يف سبيل إحداث التغيري املأمول ،وتعمل عىل خلق صورة عاملية أفضل؛ وهي إجمالاً مهمة أشبه بمن يميش يف حقل ألغام.
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
نصوص
كي يبدو مثلنا عارف حمزة شاعر سوري يقيم في ألمانيا
ُ تنزف ما زالت قدمي اليمنى ً ّ كأنني ما ُ عالقا بين األسالك الشائكة وحقل األلغام زلت ّ ّ والقن ُ يتسلى وال يقتلني التركي اص ّ ّ كأنني لم أغادر بلدي منذ سنوات
أعط ظهري ألحد! ولم ِ ●●●
الشرفة أنا النبتة في أصيص ِ ُ كنت تسقينها النبتة التي ِ
ْ كبرت واصف ّرت دون ّ تذمر النبتة التي مضت ّ كل هذه السنوات دون أن تعرفي. ●●● ّ َ كنت ُ ُ المرتجف بشال صغير ألغطي البحر أريد أن أذهب
بكنزة صوف أكب َر من مقاسه كي يبدو مثلنا. ●●●
عندما ّ ضمتنا نفسا عميقاً ُ األسالك الشائكة ً أخذت ِ ْ ودخلت تحت جلدنا نف َرت منها الدموع ونفرت ّ ْ منا.
صار لنا أخي ًرا ٌ أسالف رقيقون
من المعادن. ●●● في آخر النفق وجدنا ضو ًءا بالفعل. ً بصيصا من الضوء كما قال الكثيرون ّ يسمونه سرا ًبا. وكانوا
●●● ٌ نظيف هنا أكثر من هواء بلدي الهوا ُء
نظيف بشكل خانق. ●●●
على الحواجز كانوا يعثرون علينا بسهولة في بطاقاتنا
الشخصيّة ّ وكانوا ُي ّ ً قلبونها كثيرا كي يتخثر دمنا.
ُ الجندي ً على الحواجز ُ ّ أيضا أبحث في كنت ُ كنت أبحث عن أنثى في عينيه
عن زرقة على رقبته بسبب الحب
عن كدمة على قزحيّته بسبب الهجران ولكن ال شيء فيه ،ال شيء
مثل هذا الثلج المتسخ في الطرقات ُ وكنت ّ أتأل ُم ألجله. ●●● َ ُ العيش في مدينة بحريّة اخترت كي أدير ظهري للبحر. ●●● أفعل ً ُ شيئا ال
ال أخرج من البيت
عندي فكرة راسخة،
أسقيها مثل نبتة ضعيفة، ّ بأنهم استعملوا كثي ًرا الحياة التي في الخارج ْ عادت وما ّ تخصني في شيء!
163
مقال
موت زاحف إلى لبنان أن تعيش في بلد ال يشهد حربًا مباشرة ،لكن ً موتا يشبه الحرب ،بل يفوقها قسوة ،يزحف إليه من كل جهة ،فهذه تجربة مختلفة ،وأثقل مما تحمله الحرب من أعباء .ذاك أنك أيها الرجل ُتعاين الموت البطيء
ً وطارئا ومؤق ًتا ،أما الموت بأم عينك ،فيما الموت في الحروب سريع ،وما يُخلفه من صدمة يجعل منه غريبًا
في بلد يحتضر من دون حرب مباشرة ،فيمكن معاينته ورصده وهو يقترب منك ،وهو بهذا المعنى موت غير
صادم؛ ألنه جزء من طبيعة األشياء.
في لبنان يقترب الموت منا منذ أكثر من عشر سنوات .نعاين في كل يوم اقترابه خطوة منا ،ونشعر بأنه
صار أقرب إلينا من أنفسنا .لبنان المحاصر بالحروب األهلية والملتبس والمعقد ما عاد يفصله عن الحرب األهلية سوى مسافة واهية ،هي نفسها ما يجعل اللبنانيين يعتقدون أنهم ما زالوا خارجها .ال بل إن عدم سقوطه في هذه الحرب هو جزء من عجز البلد عن اإلتيان بأي شيء .حتى الحرب يبدو أن لبنان عاجز عن
خوضها على نفسه ،وهو عاجز ليس ألنه محصن منها إنما ألنه فاقد القدرة على المبادرة.
بيروت تفقد كل يوم وظيفة من وظائفها .يصح ذلك على وظائفها المباشرة بصفتها مدينة أهلها ،وعلى معانيها ً أيضا .فعندما انقض حزب الله على المدينة في 7مايو 2008م كفت بيروت عن كونها ملجأ ألهلها،
164
وعندما أعلن الحزب انخراطه في القتال في سوريا أنهى بهذا اإلعالن قيمة الحدود وفتح لبنان على احتماالت الحرب اإلقليمية ،واليوم بعد أن ُفجر بنك لبنان والمهجر في أعقاب التزامه ببرنامج العقاب األميركي للحزب،
أخضع الحزب القطاع المصرفي لمنظومته األمنية ،ومن المتوقع أن يستجيب القطاع لضغوط حزب الله، ويصبح لبنان خارج المنظومة المالية الدولية. مدن البؤس التوتاليتاري
تجر هذه الوقائع منفصلة عن حال من الموت ،ومن مشابهة مُ دن البؤس التوتاليتاري التي تقبض عليها لم ِ
أنظمة شمولية .فالوسط التجاري للمدينة راح بالتزامن مع انقضاض حزب الله التدريجي على المدينة وعلى
أهلها ينطفئ يومًا بعد يوم .في كل يوم يشهد هذا الوسط إقفال متجر أو شركة أو مقهى؛ حتى صار اليوم ً مخلفا طبقات من الغبار. مدينة خالية يزحف الفراغ على مبانيها منطقة الحمرا التي حاولت االستثمار بموت الوسط التجاري فراحت تزدهر وتتوسع ابتليت بشيء اسمه
«الحزب السوري القومي االجتماعي» وهو حزب يقاتل إلى جانب حزب الله في سوريا ،ويسيطر على شارع
بصلة .وكما فرض الحزب نموذجه وذوقه على الحمرا ،ومعممً ا فيه شعارات ال تمت إلى الحياة وإلى هذا الزمن ِ الشارع فرض ً أيضا الفتات ُكتبت عليها عبارات ُتشعر العابر بأنها كتبت للنيل من ذكائه ومن كرامته .وبموازاة
ذلك تحول الحزب السوري القومي «االجتماعي» إلى سلطة تفرض «خوّات» ،وتنتشر على زوايا الشوارع معلنة
عن نفسها على نحو فظ. لاً والموت المحدق بلبنان جعل من أي رغبة في مقاومته أم ًرا مستحي .ثمة انقسام يمنع أي طموح للوقوف في وجه هذا الموت .فقد قررت بيروت مثلاً في االنتخابات البلدية األخيرة أن ُتعلن تذمرها وعصيانها على تيار
المستقبل ،وهو السلطة البلدية فيها ،فجاءت نتائج االنتخابات كاشفة عن المزاج البيروتي المتذمر من أداء
المستقبل ،لكن النتيجة لم تسمح بالتغيير؛ ألن الئحة المستقبل فازت بفارق ضئيل ،يتيح هذا االستنتاج، لكنه ال يتيح التغيير.
ال يريد اللبنانيون معظمهم دورًا في القتال في سوريا ،لكن حزب الله أقوى منهم ،وبإمكانه توظيف
رئيسا للجمهورية ،لكنّ أحدً ا ال يستطيع انتخاب رئيس ما دام الحزب انقساماتهم في معركته هناك ،ويريدون ً العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
رئيسا .رائحة النفايات صارت جزءً ا من وعي اللبنانيين ال يريد ً
ألنفسهم؛ لشدة عجزهم عن محاسبة الحكومة المسؤولة عن تراكم هذه النفايات .وهم ،أي :اللبنانيون ،صاروا على قناعة باستحالة
التغيير ،ال بل شرعوا يكيفون وقائع عيشهم مع حقيقة أن النفايات هي جزء من طبيعة األشياء ومن جريانها اليومي. جبال النفايات
ال شيء يُمكن تغييره .هذه قناعة مستقرة في منطقة راسخة
من وعي أي لبناني ،وهذا األخير ستراه منقا ًدا إلى انتخاب من تسبب
له بهذا اليأس وهذا الموت .ال شيء أوضح من أزمة النفايات تعبي ًرا
عن هذه المعادلة .المسؤول عن جبال النفايات المنتشرة في كل
حازم األمين كاتب لبناني
مكان هو حكومة ووزراء ومسؤولون سيعيد اللبنانيون انتخابهم في أقرب موعد لالقتراع .فالتظاهرات التي شهدتها العاصمة بيروت
احتجاجً ا على غرق العاصمة بالنفايات بدت أصغر من أي تظاهرة
165
يمكن أن يدعو إليها زعيم أي طائفة مهما كان حجمها .في وقت
طرحت التظاهرة ضد النفايات على نفسها مهمة مواجهة زعماء
الطوائف مجتمعين. ً ال يمكن ألحد أن يُغير شيئا .تفجير فردان األخير كان أوضح مثال
على العجز .الوضوح وانكشاف المهمة والوظيفة أشارا إلى أن الجهة المُ فجرة ال تشعر أن ثمة ما يمنعها من أن ُتعلن عن نفسها ،وأن
ال رأي عام يعنيه هذا الوضوح .فالتفجير هو جزء من اللغة العادية
التي يقبلها الجميع ،وهو على استعداد للتعامل مع نتائجها،
وقبول الرسالة ،والعمل بموجب ما يطلبه المفجرون .ففي أعقاب التفجير ُعقد اجتماع لجمعية المصارف ،وأُعلن في أعقابه تفهم
الجمعية مخاوف حزب الله من قبول المصارف بالشروط األميركية. ولبنان هذا هو على نحو ما هو عليه ،أي أنه على شفير االنهيار
من دون أن يبلغه تمامً ا ،فقط ألن وظيفتين ما زال لبنان يؤمنهما
للمجتمع الدولي ،وإال كانت الحرب وكان دبيبها؛ المهمة األولى استقبال الالجئين السوريين ،وهي ما يحسبه العالم له .والمهمة
الثانية المحافظة على ما تبقى من وجود مسيحي ،وهي أقل أهمية للعالم من المهمة األولى ،لكنها ُتخاطب بعض القيم الدولية .لكن البلد لن يصمد كثي ًرا ،والمهمتان ال تكفيان وال تحصنان ،واإلرادة الدولية ليست عاملاً وحيدً ا يعيق االنهيار ،فنحن أمام بلد بال
حدود ،وبال أمن ،وبال اقتصاد .أمام بلد يضم حزبًا أكثر قدرة من كل جماعاته ،وأكثر قدرة منه هو نفسه.
التظاهرات التي شهدتها العاصمة احتجاجا على غرق بيروت ً العاصمة بالنفايات بدت أصغر من أي تظاهرة يمكن أن يدعو إليها زعيم أي طائفة مهما كان حجمها .في وقت طرحت التظاهرة ضد النفايات على نفسها مهمة مواجهة زعماء الطوائف مجتمعين
زمان الفيصل
166
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
167
مخطوطات
168
مخطوط ( األدوار في علم الموسيقا واألوتار ) من مقتنيات مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالميةّ . ألفه :عبدالمؤمن بن يوسف بن فاخر األموي ،تاريخ وفاة المؤلف693 :هـ 1294 -م.
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
169
يحتوي المخطوط على مختصر في معرفة النغم ونسب أبعاده وأدواره وأدوار اإليقاع وأنواعه .. ورتب على خمسة عشر فصلاً ،وكتب بخط النسخ.
فنون
متحف إسطنبول للفن الحديث
على إيقاع البوسفور
170
علي مرزوق أكاديمي سعودي -إسطنبول
خالل زيارتك إلى مدينة إسطنبول ال بد أن تحرص على زيارة متحفها للفن الحديث
الذي تأسس في عام 2004م على مساحة ثمانية دونمات (ثمانية آالف متر مربع) ،وإذا كنت برفقة العائلة فاحرص على اصطحاب عائلتك وأطفالك إلى المتحف؛ ألنهم سوف
يستمتعون باالنخراط في أنشطة متنوعة تستهدف الصغار والكبار على حد سواء ،كما يستضيف المتحف أعمالاً ومعارض دائمة وأخرى مؤقتة ،وهناك متجر خاص القتناء الهدايا التذكارية ،ومكتبة عامة تضم مجموعة واسعة من المراجع العلمية لتاريخ
الفن العالمي والتركي ،ومساحات أخرى مخصصة للبرامج التعليمية واالجتماعية
والتثقيفية ،وصالة للسينما ،ومطعم لتناول وجبة الغداء على ضفاف البوسفور.
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
171
ً مستودعا للجمارك قرب ميناء السفن المتحف كان
من األعمال التي تصدم المتلقي وتصيبه بالدهشة والحيرة
على مساحة 8000متر مربع ،ويعرض أهم أعمال الفن المعاصر
ريتشارد وينت وورث الذي أنتجه في عام 2005م ،ويعرض
السياحية ،ويقع في منطقة بي أوغلو على ضفاف نهر البوسفور للفنانين األتراك منذ ستينيات القرن العشرين حتى وقتنا الحاضر ،كما يضم بين جنباته أعمالاً لنخبة من أشهر فناني العالم الذين تنال أعمالهم تقدير محبي الفن والسياح ممن يفدون لزيارة المتحف من جميع أنحاء العالم جامعً ا أعمالاً أدائية ،ومسندية ،ونحتية ،ومفاهيمية ،إضافة إلى أعمال
الفيديو آرت ،غير أن ما يثير حفيظة الكثير من السياح العرب وغيرهم من الجنسيات األخرى الحاجة إلى التعريف باللغة
العربية ،والتوسع في الترجمة باللغة اإلنجليزية؛ ألهمية ذلك بالنسبة للسائح العربي وغير العربي.
معً ا ذلك العمل المفاهيمي المسمى «سقف معلق» للفنان مجموعة من الكتب المعلقة في سقف المدخل بواسطة
أسالك معدنية في مستوى واحد؛ لتجبر المتلقي على النظر
إلى األعلى بعد أن يمر أسفل منها .بهذا العمل المميز يستقبل المتحف زواره ليجدوا أنفسهم أمام أعمال تستحق التوقف
أمامها كثيرًا ،ومنها العمل المسمى «قدم نفسك لي» للفنانة التركية هاندان التي عرضت فيه عملاً مفاهيميًّا أنتجته في عام 2009م يحتوي على مجموعة من الحقائب ،ملحق بها عدسات
مقربة ،تمثل بطاقة دعوة للمتذوقين إلى القرب من هذه الحقائب ،بل والنظر من خالل هذه العدسات المقربة إلى
فنون
أدق تفاصيلها ،وهي بهذا العمل تدعو المتذوقين إلى تتبع أثر
السفر على هذه الحقائب.
بينما تتوسط الكرة الزجاجية للفنان الدانماركي أوالفور
إيلسون التي أنتجها في عام 2010م بقطر ( 110سم) غرفة صغيرة
تنتشر فيها أشعة الضوء الملونة المنبعثة من الكرة الزجاجية
لتترك انطباعاتها على مُ حيّا المتذوقين .أما عمل «بلدي الجحيم» للفنانة التركية فخر النساء زياد فيمثل عملاً مسنديًّا
172
يمتد على مساحة كبيرة ( 228×205سم) ،استخدمت في تنفيذه ألوان الزيت على القماش «الكانفاس» ،ويمثل منمنمات تجمع
بين األلوان( :الحمراء ،والبيضاء ،والسوداء ،والصفراء). ومن األعمال المميزة ً أيضا ذلك العمل التجريدي المسمى «سمك القرش الفظيع» للفنان مارك برد فورد ،بمساحة واسعة تساوي ( 366×260سم) ،واستخدم في تنفيذه بقايا
وسائل إعالمية متنوعة على كانفاس .ومجسم «األحمر
الخامس» للنحات سيهون توبوز الذي استخدم فيه خامة (الفايبر غالس) المطلي باللون األحمر بمقاسات (115×185×137 سم)ً ، تاركا األضواء والظالل تتبادل فيما بينها على مساحاته.
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
متحف إسطنبول للفن الحديث
173
فنون
المخرج السعودي قال إنه يعي حجم التحديات ومؤمن بخلق سينما وطنية
محمود صباغ:
«بركة يقابل بركة» عن تحقيق الذات والتحرر من األوهام
جدة
174
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
على الرغم من أن فلم المخرج السينمائي السعودي محمود صباغ «بركة يقابل بركة» لم يعرض بعد في السعودية؛ لظروف هذا الفن في المملكة ،إال أن الفلم حصد شهرة كبيرة ،وحظي باهتمام ومتابعة في الداخل
ربما فاقا معظم األفالم التي تحققت للسينما في السعودية .ويمكن أن نعزو هذا االهتمام بالفلم ليس إلى فوزه بجائزة في مهرجان برلين السينمائي في دورته األخيرة ،إنما ً أيضا بسبب التوقعات من مخرج مثل صباغ،
ً ً خصوصا واع بقضايا المجتمع وإشكالياته، دارس للسينما ومدرك متطلباتها وقريب من جمالياتها ،وأيضا ٍ ً ذائعا ،مع أنه الفلم الروائي الطويل األول له« .الفيصل» جيل الشباب الذي يتحدث عنه فلمه الذي أصبح
التقت محمود صباغ على هامش االحتفاء الكبير بفلمه ،وحاورته حول السينما في السعودية ،وتجربته ورأيه في مهرجان أفالم السعودية بالدمام ،ومهرجان الفلم السعودي بجدة ،إضافة إلى قضايا أخرى. على الرغم من أن فلم «بركة يقابل بركة» أول فلم
روائي لك ،إال أنه قوبل بصدى جيد ،ولقي رواجً ا على األقل في مواقع التواصل وفي الصحافة؛ ماذا يعني لك هذا االهتمام؟
هذا انتصار؛ انتصار لقيم العمل الجاد والمتقن ،ولإلبداعالحر المستقل .طريقنا في الفن كان عصام ًّيا .لم نعرف أحدً ا في دوائر مؤسسات السينما والمهرجانات بالخارج قبل صناعة فلم
«بركة يقابل بركة» .لكن الفلم تم قبوله بنزاهة بمهرجان برلين
من دون أي مؤثرات خارجية ،ثم شق طريقه.
تؤكد في أحاديثك الصحافية أن الفلم يحكي قصة
جيل الشباب ،هذا الجيل الحالم ال أقول بمستقبل إنما بحاضر يرى فيه جميع متطلباته ميسرة ،جيل يعاني التعبير
عما يخالجه من مشاكل وعواطف في غياب اآلخر ،هذا
الجيل الذي تترصد تحركاته العيون ،وتحيط به مواضعات ً المجتمع ،هل تعتقد أن ً كاف للتعبير عن هموم فلما واحدا ٍ
ً خصوصا أن ممثليك الرئيسيين ،وأنت هذا الجيل وأحالمه،
ً أيضا ،ينتمون ،في شكل أو آخر ،إلى هذا الجيل؟
- «بركة يقابل بركة» هو فلم يحكي قصة جيل الشباب،
أو جيل األلفية؛ أي من هم أقل من ٣٥سنة ،وهم أغلبية ديموغرافية ،لكنها تنال تمثيلاً أقل اجتماعيًّا ،وسياسيًّا ،وعلى
مستوى الفرص االقتصادية .ليس نشرة تبجيلية للجيل ،فالسينما ال تخلع أحكامً ا قيمية جاهزة ،ال تن ّزه ،وال تدين ،لكنها تنقل الواقع كما هو ،ربما فقط من الزاوية التي اختارها صانع الفلم.
ً ضاغطا ،مالمحه العجز وكما أن هناك شعورًا عامًّ ا ً إيمانا بحلو الحياة واإلحباط عند هذا الجيل ،إال أن هناك
واالنطالق ،وتحطيم القيود المفروضة.
فلم «بركة يقابل بركة» عن تحقيق الذات والتحرر من
األوهام ،وهو تجربتي السينمائية الطويلة األولى التي حتمً ا
ستعقبها تجارب أخرى.
أنت كاتب ومنتج ومخرج الفلم؛ هل لذلك عالقة
بطبيعة صناعة السينما في السعودية ،وظروف تكونها ،أم
(الحوش بروديكشون)
175
فنون
أنك تميل أصلاً إلى سينما المؤلف التي عادة ما تتميز بأفالم نواح جمالية ،كما ال تتطلب روائية في غاية األهمية من ٍ ً ً ضخما؟ أحيانا إنتاجً ا -نعم في الحالتين؛ في فضاء ما قبل الصناعة عليك أن
تصنع فرصتك ،وتبني قواعد العمل اإلنتاجي واإلبداعي كاملة،
وأن تكون مخرج العمل ،ومنتجه وكاتبه ،ومموله ،ومسوّقه، وحارس طريقه.
راض عن التجربة ،وسوف أعيدها ،نعم أتمنى األولويات .أنا ٍ تحسين شروط صناعة الفلم؛ لحفز األعمال ،ورفع حق اإلنتاج السنوي ،لكن في كل األحوال نحن مستمرون.
بساطة التناول في سينما السعوديين ،تجعلها قريبة
ً نجوما كبارًا في اإلخراج؛ من السينما اإليرانية التي عرفت
لكنني ً أيضا على مستوى اإلبداع أنتمي إلى مدارس «سينما
مثل :عباس كيارستامي ،وجعفر بناهي ،ومجيد مجيدي،
الجديد» ،ليس فقط للحريات اإلبداعية والتعبيرية التي تمنحني إياها ،بل ً أيضا ،ألنها هي ما يناسب منطقتنا وطبيعة
األضواء في مهرجانات عالمية .ترى كم يحتاج السعوديون ليصير لديهم سينما حقيقية؟ وليس مجرد تجارب سينمائية
اإلنتاج الضخم ،أو إنتاج األستوديوهات ،يقومان على
-نحن بعيدون جدًّا عن السينما اإليرانية .السينما اإليرانية
المؤلف» ،أو امتداداتها المعاصرة مثل« :سينما اإلخراج
السوق الناشئة التي ننتمي إليها.
ومحسن مخملباف وابنته سميرة ،هؤالء هم الذين سرقوا
بإمكانيات بسيطة؟
تفوقت؛ ألنها مزجت بين البساطة والتعقيد ،النهايات
أساس وجود صناعة وسوق ،وهو ما نفتقر إليه .وأي اقتباس لها في بيئتنا سوف يصدر متهاف ًتا ومُ قلدً ا وبال روح.
غير المتوقعة وغير «الهوليوودية» ،الحس الشاعري في
ترى ما أبرز ٍّ تحد واجهته خالل إنجاز الفلم؟
ً خصوصا األطفال وكبار اإلنسانية ،ومسألة المشاعر البشرية،
-ربما صناعة الفلم في السعودية هو المرادف الحقيقي
176
لكننا في أعماق قلوبنا ،كنا نضع مسألة األرباح المالية في آخر
ٍّ تحد .هناك تحدي غياب الصناعة والبيئة الحاضنة؛ ال لكلمة
معاهد سينما ،ال أنظمة أو نقابات تحمي العاملين ،ال صناديق
تمويل ،ال صاالت عرض أو نموذج لتسييل االستثمار .ناهيك عن ً وأحيانا استحالتها. صعوبة استخراج التصاريح،
لكن دعني أقل لك شي ًئا ،أنا ال أشكو ،لقد كنا على علم
بحجم التحديات ،وخضناها بحس المغامرة واإليمان بخلق
سينما وطنية جيدة ،وبروحيات عالية وغير متذمرة.
أعطينا أنفسنا سنة كاملة ،ونجحنا في التحدي قبل
انقضاء الوقت .ربما الحديث عن النجاح المالي أمر باكر،
مواقع التصوير وفي الرؤية السينمائية ،التركيز على القضايا السن ،وأهل القرى والنواحي النائية.
في فضاء ما قبل الصناعة ،عليك أن تصنع فرصتك ،وتبني قواعد العمل اإلنتاجي واإلبداعي كاملة ،وأن تكون مخرج العمل ،ومنتجه ،وكاتبه، ومسوقه ،وحارس طريقه ومموله، ّ
(الحوش بروديكشون) العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
المخرج السعودي قال إنه يعي حجم التحديات ومؤمن بخلق سينما وطنية
ناهيك عن التراكم الموجود للسينما اإليرانية من قبل
-ولو معنوي -لتجارب مؤسساتية رائدة في الخليج مثل :الرابطة
مؤسسي مباشر .هناك مؤسسة فجر ،وهناك مؤسسة
أما جدة فيبدو أنها ارتضت لنفسها أن تكون مق ًّرا
الثورة .لكن علينا أن نتذكر أن السينما اإليرانية تحظى بدعم الفارابي .وهناك نظام أو (سيستم) كامل لصناعة الفلم من
مرحلة التأليف إلى التسويق والتوزيع الداخلي والدولي .علينا أن نتواضع كثي ًرا ،ونتعلم من السينما اإليرانية ،ال يعيبنا هذا،
فالسينما اإليرانية بدأت أساسً ا من تقليدها للسينما المصرية.
هناك خشية عبّر عنها كثير من المتابعين لسينما
السعوديين ،أال يشبه االهتمام بالسينما واإلقبال عليها من شريحة واسعة من الشباب ،ما حدث للرواية؛ إذ أقبل على كتابتها
كثيرون؛ األمر الذي جعل هذه الروايات تفتقد إلى الجماليات،
وتركز فقط على المكبوت ،وكسر التابوهات؛ ما تعليقك؟
_ «فتمتع بالصبح ما دمت فيه /ال تخف أن يزول حتى يزوال» كما يقول إيليا أبو ماضي .يا أخي هات السينما أولاً ،
واإلنتاج الهائل ،ثم يمكن أن نتحدث عن تصنيف ونقد وخشية. عمومً ا ال خوف على السينما من األدعياء. المعايير العالمية الرصينة سوف تص ّنف الجاد والمجتهد
التي تجمعه باألب الروحي لسينما الخليج :مسعود أمر الله.
لسينما االستهالك واالستعراض ،فالله يخارجنا من مقاولي المهرجانات الذين يبدو أنهم بجلبتهم اإلعالمية سوف يطبعون
شكل التظاهرات السينمائية القادمة بجدة بطابعهم التسويقي الفج.
لم أشترك في مهرجان الدمام؛ ألن أول عرض عالمي لفلم
«بركة يقابل بركة» كان في فبراير بمهرجان برلين ،أما مهرجان الدمام فيقام في يناير ،بالتالي فأول فرصة لنا لدخول مهرجان
الدمام هي الدورة القادمة ،حتمً ا سوف نقدم عليها. ما مشاريعك المقبلة؟
-أكتب فلمي الروائي الثاني ،ومن ثم سوف أبدأ كفاح
تنفيذه ،وهناك مسلسل تلفزيوني كتبته ،وأنوي إخراجه ،لكنه
في ذمة شبكات التلفزة وقرارها.
من المدّ عي واالستعراضي.
ما رأيك في مهرجان أفالم السعودية الذي تنظمه
جمعية الثقافة والفنون بالدمام ،ومهرجان الفلم السعودي في جدة ،ولماذا لم تشترك فيهما؟
-مهرجان األفالم السعودية في الدمام ،والجهد الذي يقدمه أحمد المال عمل رائد ونوعي ،وأراه يذهب بعيدً ا؛ أولاً ألنه يركز على الفلم السعودي ،وال يتشعب فيما ليس هو قدير
عليه .ثانيًا ألنه يتكئ على دعم مالي ولوجستي ومعنوي واضح من مؤسسة وطنية كبرى هي أرامكوً . ثالثا ألنه يعبر عن امتداد
أنتمي إلى مدارس «سينما المؤلف» ،أو امتداداتها المعاصرة مثل« :سينما اإلخراج الجديد» ،ليس فقط للحريات اإلبداعية أيضا، والتعبيرية التي تمنحني إياها ،بل ً ألنها هي ما يناسب منطقتنا وطبيعة السوق الناشئة التي ننتمي إليها
177
فنون
أفالم مارك فورستر:
دع رؤيتك ترشدك وليس غرورك إعداد وترجمة :أمين صالح روائي ومترجم بحريني
خالل عقدين من المسيرة الفنية الخصبة والثريةّ ، قدم المخرج مارك فورستر السويسري المولد
والنشأة ،بدءًا من عام 1995م عشرة أفالم ناجحة ،متعددة النوعيات ،مختلفة األساليب ،تنتمي إلى ً متعاونا مع األنواع الدرامية النفسية ،والسياسية ،والكوميدية ،واإلثارة البوليسية أو الجاسوسية.. ً وكاشفا من خاللها عن موهبة جديرة بالمتابعة واالهتمام ،رغم أنه – كبار نجوم السينما األميركية،
178
حسب عدد من النقاد– يفتقر إلى الرؤية الفنية والفكرية التي من خاللها يشيّد عالمه الخاص والمميز. ّ التنقل عن هذا االنتقال من نوعية إلى أخرى ،دون االستقرار عند نوعية محددة ،وما إذا كان هذا مقصو ًدا؛ أجاب مارك فورستر« :نعم ،هو مقصود .مخرجون مثل بيلي وايلدر وهوارد هوكس كانا
مصدر إلهام لي ،في هذا الشأن .كالهما عمل في العديد من األفالم التي تنتمي إلى نوعيات مختلفة .ال أستطيع أن أكون مثل جون فورد وأحقق أفالم الغرب األميركي فقط، أو مثل هيتشكوك الذي ّ ركز على أفالم التشويق .لديّ
اهتمام بالعديد من القصص .أميل إلى القصص الفكاهية والدرامية واألكشن».
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
منذ مرحلة صباه شعر برغبة جارفة في
ثم توالت أفالمه الناجحة فن ًّيا
مشاهدته فلم كوبوال «القيامة اآلن» ..يقول:
(2004م) مع جوني ديب الذي يؤدي
ً خصوصا بعد أن يصبح مخرجً ا سينمائيًّا،
وجماهيريًّاFinding Neverland :
دور الكاتب المسرحي األسكتلندي
«كنت في الخامسة عشرة عندما أخذني
جيمس باري ،مبتكر شخصية بيتر
والداي إلى السينما لمشاهدة «القيامة اآلن».
بان ،الصبي الذي ال يكبر أبدً ا .الفلم
جلست أشاهد الفلم وأنا مصعوق وفي حالة
يركز على عالقته الحميمة والودودة
ذهول .ولما خرجنا من الصالة ،قلت لهما:
بأرملة (كيت وينسليت) وأبنائها
سوف أصبح مخرجً ا سينمائيًّا .اعتقدا أنها
األربعة الصغار الذين معهم يحب أن
مجرد نزوة وسوف تزول بعد فترة .غير أنني ّ أتخل عن طموحي .عندما أنهيت المرحلة لم
يلهو ،ويشحذ مخيلتهم بشخصيات ً خالقا وحكايات ومغامرات ال تنتهي،
ً شخصا أبدى استعداده ألن الثانوية ،التقيت
يتحمل رسوم السنة األولى لي في معهد
السينما ،وأنه سوف يواصل دفع رسوم السنوات التالية إذا ّ تيقن
من امتالكي الموهبة».
حقق نجاحً ا فنيًّا منذ فلمه األول Everything Put
1995( Togetherم) ،ذي الطابع التجريبي ،الذي بلغت تكلفة
البهجة والمعنى.
لهم عوالم مدهشة ،ومانحً ا حياتهم
عن السبب الذي جعله يحقق هذا الفلم ،يقول فورستر:
«قرأت السيناريو الذي ح ّرك مشاعري إلى حد البكاء .لقد ذ ّكرتني القصة بطفولتي في سويسرا .كنت أمارس تلك
األلعاب الصغيرة في الغابات ،وكنت أرتدي أزياء الهنود
إنتاجه عشرة آالف دوالر ،عندما فاز بجائزة الجمهور في مهرجان ساندانس .يقول« :كنت مشار ًكا بفلمي األول في مهرجان
الحمر ورعاة البقر .لم يكن لدي الكثير من األصدقاء ،لذلك
Ballلكن لم يتمكنوا من تنفيذه مدة سنتين .بعد أن شاهدوا
السعادة والمتعة .قرأت النص وصممت على تنفيذه».
ً أشخاصا كتبوا سيناريو Monster's ساندانس عندما التقيت
فلمي قالوا لي :ها هو نصنا .كم تحتاج في اعتقادك؛ إلنجاز
هذا العمل؟ ..قلت :ربما ثالثة ماليين .ثم جاءت شركة اإلنتاج، وأجازت لي صنع الفلم بشرط أال تتجاوز ميزانية العمل المبلغ الذي حدّ دته».
استطاع فورستر أن يحقق Monster's Ballويلفت األنظار
ً خصوصا بعد أن حازت هالي بيري إليه كطاقة إخراجية جيدة،
على أوسكار أفضل ممثلة عن دورها في الفلم.
كانت المخيلة وسيلتي للهروب من الواقع ..هي التي منحتني مع نعومي واتس ،وإيوان ماكغريغور ،وريان غوسلينغ؛
حقق فورستر فلم 2005( Stayم) الذي يصور العالم الواقعي
بين النوم واليقظة ،الحلم والواقع ،الحياة والموت .حادث سيارة مريع يتع ّرض له شاب مريض نفس ًّيا يتحوّل هذا الحادث
إلى مفجّ ر لسلسلة من التداعيات وحاالت الهذيان ،وتشابك
الهوايات ،والتداخالت المعقدة التي ال يحكمها منطق أو خط عقالني ،ضمن أجواء سُ ريالية.
ثم قدّم Stranger Than Fiction
(2006م) مع ويل فيريل ،داستين هوفمان..
في دراما فانتازية عن عالقة الشخصية بمؤلفها ،أو اإلنسان بخالقه ،بحيث يصعب التمييز بين الواقع والرواية ،أو
الحقيقة والخيال .يومً ا ما يستمع ويل
فيريل إلى صوت امرأة (كاتبة معروفة) وهي تسرد تفاصيل من حياته ،األمر الذي
يذهله ويثير حيرته وفضوله ،فيبدأ في طرح األسئلة التي تتصل بوجوده.
ومن الوضع األفغاني انطلق إلى
عوالم
جيمس
بوند
الجاسوسية،
المليئة باإلثارة والمطاردات ،في فلم
Quantum of Solaceعن هذه التجربة
179
فنون
يقول« :عملت هنا مع أفضل وأروع المنتجين .شعرت بأنني
أن أحقق نوعية مختلفة من أفالم الزومبي ،ال تشبه هذه
ً ناقصا ،ولم يكتمل بعد لحظة مباشرتنا التصوير .كان لدينا كان
بي .أردت أن أشدّ أعصاب الجمهور من البداية إلى النهاية. أردت أن أخلق مجا ًزا يعكس حالة العالم في اللحظة الراهنة.
بين أيدٍ أمينة .كل شيء كان متواف ًرا باستثناء السيناريو الذي نصف السيناريو فقط .قالوا لي :لديك أشهر لتنهي هذا الفلم .من المفترض هنا أن أرفض لكنني اعتقدت أن السيناريو سوف يجهز
قريبًا فيما أصور المشاهد المتوافرة لدي .غير أن ذلك لم يحدث
ُ وصلت إلى مرحلة فكرت فيها باالنسحاب ،لكنني لم أفعل. أبدً ا. ّ ً بل أنجزت الفلم بدعم من المنتجين .وقد أسعدتني النتيجة حقا. عمل إثاري مليء بالحركة ،وبإيقاع سريع جدًّا».
أما آخر أفالمه فهو World War Zمع براد بيت ،وهو
الموجة السائدة من األفالم .أردت أن أخلق الزومبي الخاص
نحن نكون أشبه بالزومبي عندما ال نعي ما يدور من حولنا .إننا نعيش في زمن ّ هش جدًّ ا فيما يتصل باالقتصاد والبيئة .نبدو كما لو كنا معلقين بخيط رفيع.
من النوع الكوارثي الذي يتعرض إلى احتمال فناء العالم.
يقول مارك فورستر« :أحببت الرواية ،رغم أنها تحتوي على 54قصة منفصلة عن بعضها .الفلم هو أكثر من مجرد قطعة
مصاحبة للرواية .لقد حققت الفلم كما كنت أريد بالضبط؛
لذلك أسعدتني النتيجة .قبل كل شيء ،أعتقد أن الزومبي ً إفراطا (الموتى األحياء) مجاز سينمائي عظيم .أشعر أن هناك في إنتاج أفالم عن الزومبي ،والجمهور يتلقى المزيد من هذه
القصص ،سواء من خالل السينما أو التلفزيون .لذلك أردت
180
شخصيًّا أنا مفعم باألمل دائمًا ،وأومن باإلنسانية ،لكن
يتعيّن علينا أن ندرك أن النظم التي وضعناها في الموضع المالئم
من المهم للسينمائيين أن يبتكروا قصصا تثير النقاش وتحث على الجدال. ً نغير شي ًئا لكننا ربما ال نستطيع أن ّ نستطيع أن نجعل الناس يتحدثون عن القضايا التي نطرحها
عداء الطيارة والوضع األفغاني القمعي ّ 2007( The Kite Runnerم) عن رواية الكاتب األفغاني
خالد حسيني ،التي تتناول الوضع األفغاني القمعي تحت
سيطرة قوات طالبان ،مما دفع اآلالف للهجرة والعيش في غربة صعبة .عن هذا الفلم ،الذي ّ شكل تحديًا له ،يقول: «قرأت الرواية ..في الواقع ،قرأت المخطوطة قبل أن ُتطبع في كتاب .قلت للمنتجين :أحببت الرواية ،ينبغي أن نصورها
بلغتها األصلية وبال نجوم ..وافق المنتجون ،لكننا لم نحصل على التمويل إال بعد أن تصدرت الرواية قائمة أعلى
المبيعات.
ً تعقيدا وصعوبة يمكنني القول :إنه من أكثر أفالمي
من ناحية التصوير .لقد صورنا الفلم في غربي الصين ،في منطقة تسكنها جماعات متنازعة ،بينها الكثير من التوتر
والتضارب الذي يصل إلى حد النزاع المسلح .المنطقة مرتفعة عن سطح األرض ،ويبلغ ارتفاعها 15ألف قدم تقريبًا. مثل هذا االرتفاع أدى إلى مرض عدد من العاملين معنا .كنا نعمل في ظروف صعبة ًّ جدا ،وننام في خيام جلدية، ّ ً تتعطل الشاحنات فال يصل الطعام إلينا .ذات مرة تعطل كابح السيارة التي تقل وأحيانا ومحرومين من االستحمام،
بعض الممثلين ،وكادت تسقط من قمة منحدر .والفندق الذي أقمنا فيه كان ماخورًا .في الواقع لم يكن هناك أي
فنادق حقيقية في تلك المنطقة .والجرذان كانت في كل مكان.
ذات مرة أردنا أن نصور في إستاد رياضي مشهد الرجم ،غير أن القوات الصينية خشيت من حدوث شغب مع
وجود أكثر من ألف عنصر من المجاميع في مكان واحد .وقبل التصوير ،في السادسة صباحً ا ،أحاطت المدرعات بنا،
وهددونا باالعتقال إذا باشرنا التصوير ..هكذا كنا نواجه المصاعب والمشاكل يوميًّا».
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
أفالم مارك فورستر
لم تعد صالحة .علينا أن نعيد التفكير في أمور كثيرة ،وأن نكف
طاقتك على خلق رؤية أصيلة وحقيقية .جوهريًّا ،رواية القصة هي
طريقة للعمل معً ا .أظن أن من المهم للسينمائيين أن يبتكروا
رابعً ا -انظر إلى عيني الممثل الذي تعمل معه ،وتأمل إن كانت عيناه تذ ّكرك بأشياء كنت قد نسيتها .استمع إلى كل
عن االعتقاد بأن الرأسمالية هي الحل لكل شيء .ينبغي أن نجد
ً قصصا تثير النقاش وتحث على الجدال .ربما ال نستطيع أن نغيّر
تحديدً ا محاولة أن تجد حقيقتك ،وصدقك ،وأصالتك.
شي ًئا لكننا نستطيع أن نجعل الناس يتحدثون عن القضايا التي
شخص ،وفي الوقت نفسه ،ال تستمع إلى أحد ..ربما يعرفون ً ومرنا لتتلقى بينما ال تزال تدع شي ًئا أنت ال تعرفه .كن منفتحً ا
يكشف قوانينه الذهبية في صنع األفالم ،وجّ ه النصائح اآلتية،
خامسا -كل م ّرة أحقق فيها فلمً ا ،يكون ذلك أشبه بالقفز ً
نطرحها».
عندما طلبت مجلة Movie Makerمن مارك فورستر أن
المنشورة في عدد سبتمبر 2013م: أولاً -عندما نتحدث عن الحياة ،فإننا نتحدث عن التدفق
السلس الرشيق ..كذلك هي عملية سرد القصة .عندما نتحدث
عن صنع األفالم ،فإننا نتحدث عن االكتشاف ضمن الكلمة المكتوبة ،التي ال يمكن إيجادها عندما تكون ملفوظة .البؤرة الرئيسية ينبغي أن تكون دومً ا مر ّكزة على مواصلة البحث عما هو غير مرئي ،واالستمرار في النضال من أجل خلق صورة تتخطى
الكلمات.
رؤيتك ترشدك ،وليس غرورك.
للمرة األولى .حاول أن تصبح قصتك ،وارقص معها .تم ّتع
بالرحلة .إنها رحلة ثريّة. لاً سادسً ا -دائمًا ثمة أوقات أشعر خاللها بأني أشبه رج أعمى يحاول أن ّ يتعلم السير عبْر حيّزه الخاص من دون أن يرتطم باألثاث
في بحثه عن مقبض الباب .إن من المستحيل التدرّب لهذه اللحظة. على نحو محتوم ،شرعت في تحسس طريقي حتى النهاية ،وفي
إيجاد الوئام ضمن الوضع الذي أكون فيه ،وفهم الفرص التي تسنح
لي في كل ظرف.
ثانيًا -كمخرج سينمائي أنا دائمً ا في حالة بحث عن السحر،
سابعً ا -حاول دائمً ا أن تتذ ّكر أن رواية القصص هي الشكل
أحاول أن أكون في حالة كينونة وإدراك تام ،والذي قد يأخذني
تعد هناك قصص أصلية أو جديدة .إن ما سوف يبقى دائمً ا هو ّ تتخلق في عملية رواية القصص .وكلما كانت تلك الطاقة التي
لكن يتعيّن على المرء قبول فكرة أن على السحر أن يحدث عضو ّيًا .كل ما عليك فعله هو أن تضع األساس .في حالتي، فوق حقل األفكار واألحاسيس والكلمات ..كل هذه األشياء التي
آمل أن تأسرها العدسات. ً ثالثا -السرد مرشد ودليل .لكن ال تدع السرد يصبح عينيك،
ففي هذه الحالة يصبح كابوسً ا ال تستطيع الفرار منه .سوف يعمي
األكثر قِدمً ا من أشكال االتصال .لقد تم سرد كل القصص ،لم
ً ً وصدقا؛ أضحت ملهمة أكثر لآلخرين. موثوقية هذه العملية أكثر ثام ًنا -الناس يميلون إلى نسيان مدى أهمية المصوّر
السينمائي .نحن نعمل في وسط بصري ،ومن ثم أنت لن تحصل على فلم من غير أن تتوافر لديك الصور.
181
مقال
إيران والالدولة العربية
ماجد الحجيالن رئيس التحرير
182
إذا غاب الجيش وازدهرت الميليشيا وزعاماتها وساد الهوس الديني والشعاراتي؛ جاءت الالدولة العربية اإليرانية بمقترحات الحوار وحكومات الشراكة والوحدة الوطنية التي ليس لها من اسم الوحدة والوطن نصيب
هذا الزمن العربي الذي وصلنا إليه رغم كل مآسيه وإحباطاته يتميز ّ والتجلي ،فخالل السنوات الخمس األخيرة سقطت مع األنظمة بالوضوح ً شعاراتها ،ومع النخب ريادتها ،وصار المشهد الذي أمامنا أكثر انكشافا؛ ذلك ألننا نرقبه اليوم صافيًا من دون رتوش ..ما عاد يشوّش المشهد شعار للبعث والقومية ،وال شعار للمقاومة ،وال شعار لألحزاب السياسية اإلسالمية ،وال شعار لمكافحة اإلرهاب ،وال شعار لحقوق اإلنسان. مشهد واحد مهم ومعبر ،نلناه عربًا باستحقاق ضمن هذه االمتيازات المؤلمة التي حصلنا عليها؛ هو أننا صرنا نعرف ما الدولة العربية المناسبة ،بل المثالية لجارتنا إيران ،لقد ظلت الجارة غير الودودة تعمل في دولنا منذ ثورتها عام 1979م ،وتفرغت لنا منذ توقفت حربها مع العراق عام 1988م ،وكنا وقت عملها نكتفي بنداءات حسن الجوار واألمنيات الدبلوماسية الطيبة؛ حتى ّ تكشف لنا المشهد اليوم عن «الالدولة العربية» المرغوبة إيرانيًّا. أولى مواصفات الالدولة العربية اإليرانية هي أن تكون بال جيش وطني .فالعدو األول لهذه الالدولة هو الجيش الوطني الموحد؛ لذا فالالدولة تستعيض عنه بميليشيات طائفية ،يديرها «مستشارون» من الحرس الثوري اإليراني .لبنان تحول جيشه إلى متفرج على ميليشيات طائفية تحتل بيروت عام 2008وهو يراقبها اآلن تعبر الحدود في مهام ال نهائية؛ من أرياف دمشق إلى سواحل المندب .الجيش العراقي الذي ّ حله بريمر وأعاد تركيبه المالكي بصفقات مليارية؛ صار أضعف من الميليشيات التي ال تحصى أسماؤها، ّ وهو ً وتصفي .الجيش أيضا يفسح لها الطريق؛ لتحقق مع األهالي وتعتقل ّ اليمني ّ محله «لجان ثورية» تقيم نقاط التفتيش ،وتشرف على توزيع حلت صفائح البنزين .أما في سوريا فما تبقى من الجيش النظامي ،ورغم كل ما أثبته ضباطه من والء للنظام؛ جرى تعويضه «بالمتطوعين» من أصقاع األرض «لحماية المراقد» ،ومحاربة «التكفيريين» ،فالجيش العربي مهما ً حليفا؛ فسيظل خط ًرا على الالدولة العربية اإليرانية ،فقد ينبت له رأي كان لاً مستقل ،وقد يطرح على نفسه سؤا . وثانية مواصفات الالدولة العربية اإليرانية هي زعامة محلية موالية ،تأخذ شكلاً دين ًّيا وسياس ًّيا معً ا ..وفي الطريق إلى صناعة هذه الزعامة يجري طحن كل مرجعية عربية مستقلة؛ حسن نصرالله هو المثال األبرز لها في لبنان ،وجرى استنساخه بشكل متواضع في اليمن ..أما في العراق ،وألنه هدف إيران األول ،فالزعامات الدينية والسياسية ال يجري ترشيدها في شخص واحد ،بل توزع المهام؛ فبدلاً من الميليشيا الواحدة هناك مئة ،وبدلاً من الزعيم هناك عشرات يتقاسمون األدوار بما يبقي البالد محتاجة أبدً ا لرأفة المرشد األعلى. ثالثة مواصفات الالدولة العربية اإليرانية إيجاد شعار تعمل تحته هذه الميليشيات ،ويبتز به الخصوم ،على أال يكون مذهبيًّا ضي ًّقا،
العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م
بل ً الئقا بثقافة البلد ،فقد جرى حلب ضرع المقاومة والصهيونية ّ جف تمامً ا ،وفي اليمن نزلت المدفعية من جبال في لبنان حتى صعدة؛ لتحارب الفساد وتسقط «الجرعة» إلى أن وصلت القصر الرئاسي في صنعاء ،فظهر شيء يسمى «الدواعش» الذين هم أعداء اليمن ،واندرج تحت هذا التدعيش يساريون وليبراليون وناصريون، أما في العراق فكان اجتثاث البعث حتى صار نصف أبناء وبنات األنبار مهجرين ومسجونين ومالحقين ..ثم جاءت داعش فابتلعت حربها كل شعار آخر. رابعة هذه المواصفات لالدولة العربية اإليرانية تتمثل في عقد الصفقات الداخلية والخارجية إلبقاء الالدولة الدولة؛ ففي لبنان كانت الصفقة مع التيار الوطني الحر ممثلاً في ميشيل عون؛ أحالم الزعامة مقابل صوتك وصمتك ،وفي اليمن صفقة مع علي عبدالله صالح؛ الرئاسة مقابل البالد ،وفي العراق مع زعامات قبلية ومدنية مقابل مواقع برلمانية وبلدية ،أما الصفقات الكبرى فهي مع الدول الغربية؛ محاربة القاعدة في اليمن ،وحماية السفارات والدبلوماسيين في لبنان من التفجيرات الغامضة ،ثم االمتناع عن مهاجمة الجنود األميركيين في العراق.. والواقع أن الصفقة في العراق بين إيران والواليات المتحدة يجب أن تدوّن ،وألاّ ينساها التاريخ .لن يغيب عن الذاكرة أبدً ا كيف أسكتت اإلدارة األميركية الجنرال بترايوس بعد أن اتهم السفير اإليراني السابق في العراق حسن كاظمي قمي بالتخريب وتمويل الميليشيات وتسليحها ،وكيف صمتت الواليات المتحدة وتف ّرجت على إبادة الالجئين اإليرانيين في معسكر أشرف في ديالى حتى أغلقته الميليشيات تحت سمع وبصر األمم المتحدة؛ كل هذا تم ألجل أن تغادر اإلدارة األميركية تركة بوش الثقيلة. إذا غاب الجيش وازدهرت الميليشيا وزعاماتها وساد الهوس الديني والشعاراتي؛ جاءت الالدولة العربية اإليرانية بمقترحات الحوار وحكومات الشراكة والوحدة الوطنية التي ليس لها من اسم الوحدة والوطن نصيب؛ حكومة تعمل طبقتها السياسية تحت تهديد باالغتيال ،أو ترغيب بالمناصب واألموال. هذا مشهد مختصر لالدولة التي يمكن أن تقبل بها إيران، جارتنا التي يدعونا الرئيس األميركي بارك أوباما في حواره مع مجلة (أتالنتك) للتعايش معها ،وبناء «سالم بارد» في المنطقة ،والواقع الم ّر اليوم يؤكد أن التعايش المطلوب يشبه تعايش المريض مع ورمه السرطاني ،وأن السالم البارد بالمواصفات اإليرانية هو سالم الخرائب والمقابر.
www.alfaisalmag.com مدير التحرير
أحمد زين
اإلخراج
ينال إسحق التنفيذ
رياض دفدوف مبارك علي الموقع اإللكتروني
معتز عبدالماجد
المراجعة اللغوية
محمد نصير سيد مراسالت التحرير واإلدارة
ص.ب ( )3الرياض 11411 المملكةالعربيةالسعودية هاتف المجلة )+966( 11٤٦٥3027 : )+966( 11٤٦٥٢٢٥٥ فاكس)+966( 11٤٦٤٧٨٥١ : contact@alfaisalmag.com
اإلعالنات هاتف .11٤٦٥٢٢٥٥ :ـ فاكس.11٤٦٤٧٨٥١ : advertising@alfaisalmag.com االشتراكات والتوزيع
.11٤٦٥٢٢٥٥تحويلة6640 : subscriptions@alfaisalmag.com
مقال
تقنية كنوز المعرفة
184
أرسل لي صديق رابط «موقع أرشيف المجالت األدبية والثقافية العربية» يضم الدوريات ،وبعضها مما ساد ثم باد ،منذ أوائل القرن الماضي (الفيصل لم تكن من بينها)؛ إنه كنز للباحثين والطلبة. جمال خاشقجي بعد شكر من أسس الموقع ،وبذل الجهد في تجميع صفحاته التي كاتب وإعالمي سعودي زادت على مليون وخمسمئة ألف صفحة ،وتزويده بباحث في عناوين 238 مدير قناة العرب اإلخبارية ألف مقالة ،يساعد على الوصول إلى أعمال عتيقة لنحو 15ألف كاتب ،فإنه ال يزال أمامنا كعرب كثير مما يجب فعله لتحويل هذه الكنوز المترامية في األسوأ في قائمة مواقع عدة ،إلى ثورة معرفية. اإلنترنت يعج بمئات اآلالف من الكتب العربية ،والمجالت ،واألبحاث، التقصير هو عدم وجود وشتى أشكال اإلنتاج الثقافي والمعرفي العربي ،لكن في فوضى ،ال رابط «آلة بحث عربية» تمكن تنظيمي بينها ،وال برتوكول تقني يجمعها ،مع مخالفات صريحة لحقوق من الغوص بين ماليين النشر والملكية الفكرية ،رغم أن مؤسسات رسمية عربية عدة نشطت في هذا المجال ،إضافة إلى الهواة والمتطوعين الذين ال يجوز إنكار فضلهم الصفحات المتناثرة ومساهمتهم ،فهؤالء جمعوا حتى الطريف الغريب من اإلنتاج الثقافي العربي ،الذي له باحث يبحث عنه. لكن األسوأ في قائمة التقصير ،ما يستدعي تحر ًكا جادًّا من جهة قادرة ،هو عدم وجود «آلة بحث عربية» تمكن من الغوص في ماليين الصفحات المتناثرة ،وجل اعتمادنا على غوغل الذي يبدو أن عليه الرجاء واألمل في أن يلتفت لتطوير البحث باللغة العربية، لكنه بالطبع مشغول أولاً بأهله وقومه األقربين ،أي العالم الغربي ومعه اليابان وكوريا وغيرهما من الديمقراطيات؛ حيث انتظمت صناعة النشر واستقرت حقوق الملكية الفكرية ،واألهم «األدوات المالية» التي يمكن أن تترجم جهده إلى كسب من خالل اإلعالن أو البيع. فالموقع المستهل به المقال يبحث فقط في عناوين المقاالت وأسماء كتابها ،لكنه عاجز عن البحث في نص المقاالت الذي بلغ تعداد صفحاته في ذلك الموقع وحده أكثر من مليون وخمسمئة ألف صفحة ،لكن جميعها صور بنسخة بي دي إف ،وفي ذلك قصور يحتاج إلى مبادرة من جهة مقتدرة لعالجه. دعوة إلى عقد مؤتمر لقد حان الوقت للدعوة إلى مؤتمر جامع للبحث في هذه المسألة من جهة قادرة؛ كجامعة أو مكتبة عامة ،بل أدعو ناشر هذه المجلة الراقية؛ مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية ،إلى القيام بهذه المهمة ،فيدعو المهتمين بتجميع اإلنتاج الثقافي العربي أيًّا كانوا مؤسسات أو أفرادًا وأيًّا كانت اهتماماتهم ، ،ليكن لقاء أوليًّا تعارفيًّا ،فهؤالء منتشرون بانتشار اللغة العربية ،فلعل من بينهم من هو منخرط في تطوير آلة بحث عربية تفي بالغرض ،لكن ينقصه دعم وتمويل ،ولعل آخر لديه حل تقني لتحويل نصوص المجالت والكتب التراثية المصورة إلى نصوص يمكن التعامل معها والبحث فيها. فكلفة تحويل األعداد السابقة من مجلة الفيصل مثلاً إلى نصوص إلكترونية باهظة ،وبحل هذه المعضلة سينهمر سيل من النتاج المعرفي يحيي أرض الثقافة والمعرفة العربية ويثري اللغة. كما يمكن خالل اللقاء إثارة ومعرفة مواطن الضعف ومسائل الخالف ،واختالف وجهات النظر ،كما يتع ّرف الحضور تجارب كل منهم ،فثمة تنوع في هذا الحقل الجديد؛ ما بين فقيه يعيش بأصول البحث العلمي المتوارثة عبر قرون ،وشاب طوّع التقنية وأدوات بحثها لتقليب الحقائق وحصر المعلومات التي يحتاجها. من بعد هذا اللقاء ،قد يتطور اتحاد أو هيئة ما تنهض بتقنية الناتج المعرفي العربي ،وتسهم في حالة التحول التي يعيشها العرب ،فمن مزايا هذه التقنية أنها «ديمقراطية شعبية» تنساب إذا ما نظمت لكل المجتمعات ،وتتجاوز الحدود من دون رسوم أو اتفاقيات ،سيكون تأثيرها أبلغ من ذات اليوم الذي أُسست فيه جامعة الملك فؤاد بالقاهرة أو جامعة الملك سعود بالرياض. إنها أعظم تأثي ًرا من مجالت الرسالة والعربي والفيصل ،من دون أن نغفل فضل هذه المجالت وغيرها على المعرفة العربية ،لكننا نتحدث عن ساحة كبيرة في االتصال ،وكذلك في اإلنتاج؛ لذلك فإن مؤتم ًرا مثل هذا ضروري. العددان 478 - 477شوال -ذو القعدة 1437هـ /يوليو -أغسطس 2016م