issuu480:479 مجلة الفيصل

Page 1

‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪ -‬محرم ‪1437‬هـ سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬

‫موسع عن مآالت الشعر العربي‪:‬‬ ‫ملف‬ ‫ّ‬

‫متردم؟‬ ‫هل غادر الشعراء من‬ ‫ّ‬

‫العالقة بين المشرق والمغرب‪:‬‬ ‫مركز وهامش أم تنافس خالق؟‬ ‫علي حرب ‪ :‬تفكيك المشرق‬ ‫العربي مشروع إيراني‬

‫النخب في‬ ‫الخليج العربي‬ ‫‪www.alfaisalmag.com‬‬

‫كياروستامي‪ :‬السينما‬ ‫التي ال تشبه إال نفسها‬


alfaisalmag

@alfaisalmag

(+966 11) 4647851 ¢ùcÉa (+966 11) 4653027/ 4652255 ∞JÉg - ájOƒ©°ùdG á«Hô©dG áµ∏ªŸG 11411 ¢VÉjôdG (3) Ü.¢U www.alfaisalmag.com :ÊhεdE’G ™bƒŸG editorial@alfaisalmag.com :ÊhεdE’G ójÈdG



‫أسسها عام ‪1397‬هـ‪1977/‬م‬

‫األمير خالد الفيصل‬ ‫يصدرها‬

‫رئيس مجلس اإلدارة‬

‫األمير تركي الفيصل‬ ‫العددان‬

‫الناشر‬

‫الثقافية‬

‫دار‬

‫‪2‬‬

‫في هذا العدد‬

‫رئيس التحرير‬

‫ماجد الحجيالن‬ ‫‪editorinchief@alfaisalmag.com‬‬ ‫تعبر عن وجهة نظر‬ ‫ اآلراء المنشورة ّ‬‫كتَّابها‪ ،‬وال تم ِّثل رأي مجلة الفيصل‪.‬‬ ‫ تكفل المجلة حرية التعليق على‬‫موضوعاتها المنشورة شريطة االلتزام‬

‫العالقة بين المشرق والمغرب‬

‫‪116‬‬

‫صناعة الكتاب العربي في أزمة‬

‫‪128‬‬

‫شخصيات ‪ ..‬سليمان السليم‬

‫‪138‬‬

‫مناظرة ‪ ..‬ليبوفيتسكي و يوسا‬

‫‪140‬‬

‫جمالية البسيـط في تجربة أيف بونفوا‬

‫‪156‬‬

‫في مواجهة التضليل اإلعالمي‬ ‫الربيعية‪ ..‬بلدة الشعراء وميدان معركة الصريف‬

‫‪170‬‬

‫محمد خان‪..‬المثقف الذي تعاطف مع الفاشلين‬

‫‪174‬‬

‫االستخدام العشوائي للتقنية دمر الموسيقا‬

‫‪179‬‬

‫اإللكتروني‪:‬‬ ‫‪ -‬لالطالع على سياسة النشر يرجى زيارة‬

‫حوار‪ ..‬علي حرب‬

‫‪106‬‬

‫‪164‬‬

‫‪ -‬ترسل المواد إلى بريد المجلة‬

‫‪editorial@alfaisalmag.com‬‬

‫الصراع العربي اإلسرائيلي‬

‫‪96‬‬

‫مقدمة في لغة النقوش اللحيان َّية وتاريخها‬

‫بالموضوعية‪.‬‬

‫ورقيا الحصول على‬ ‫إلكترونيا أو‬ ‫مادة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫موافقة المجلة مع اإلشارة إلى المصدر‪.‬‬

‫معيارا للحقيقة‬ ‫ليس العبقري‬ ‫ً‬

‫‪82‬‬

‫‪160‬‬

‫ تحتفظ المجلة بحقوق ملكيتها للمواد‬‫المنشورة فيها‪ ،‬ويتطلب إعادة نشر أي‬

‫‪480 - 479‬‬

‫السنة الحادية واألربعون‬

‫مقاالت‬

‫الموقع اإللكتروني‬

‫‪www.alfaisalmag.com‬‬ ‫ردمد‬ ‫‪٨٥٢٠ - ٠٤١١‬‬ ‫رقم اإليداع‬ ‫مكتبة الملك فهد الوطنية ‪41/2450‬‬ ‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬

‫عبدالله المدني‬

‫‪80‬‬

‫ربيعة جلطي‬

‫‪134‬‬

‫عبدالرحمن الحبيب‬

‫‪148‬‬

‫دالل البزري‬

‫‪168‬‬


‫شخصيات‬

‫تقارير‬

‫‪76‬‬

‫معهد العالم العربي‬ ‫في باريس‪..‬‬

‫يعد حسن بن مشاري‬ ‫من أبرز العاملين‬ ‫في اإلصالح اإلداري‬ ‫في المملكة العربية‬ ‫السعودية‪ ،‬من خالل‬ ‫عمله وكيال لوزارة‬ ‫المالية‪ ،‬وعضويته في‬ ‫لجنة اإلصالح اإلداري‬

‫‪136‬‬

‫حسن المشاري ‪ ..‬من رجاالت اإلصالح اإلداري‬

‫خيبات وآمال تتجدد‬

‫دراسات‬

‫سينما‬

‫‪90‬‬

‫‪176‬‬

‫نصوص‬

‫على دروب التنوير والحداثة‪..‬‬

‫عباس كياروستامي‪..‬‬

‫حمزة شحاتة وعبدالله عبدالجبار‬

‫السينما التي ال تشبه إال ذاتها‬

‫جان لوي بالن‬

‫‪104‬‬

‫عصام رجب‬

‫‪105‬‬

‫بالل قايد عمر‬

‫‪133‬‬

‫إبراهيم غرايبة‬

‫‪151‬‬

‫ملف العدد‬

‫هل غادر الشعراء؟‬ ‫شارك في ملف هذا العدد‪:‬‬ ‫ سعدي يوسف‬‫ عبد القادر الجنابي‬‫ أحمد عبدالمعطي حجازي‬‫ محمد علي شمس الدين‬‫‪ -‬منصف الوهايبي‬

‫‪14‬‬

‫‪ -‬رشيد يحياوي‬

‫‪ -‬جعفر العقيلي‬

‫‪ -‬فوزية أبو خالد‬

‫‪ -‬جعفر حسن‬

‫‪ -‬سماء عيسى‬

‫‪ -‬محمد جميل أحمد‬

‫‪ -‬سامر إسماعيل‬

‫‪ -‬رنا نجار‬

‫‪ -‬صبحي موسى‬

‫‪ -‬هدى الدغفق‬

‫‪ -‬حسن جوان‬

‫‪ -‬الشيخ ولد سيدي عبدالله‬

‫‪ -‬فتحي أبو النصر‬

‫‪ -‬عباس بيضون‬

‫‪3‬‬


‫المركز‬

‫تتويج الفائزين في مسابقة «الفيصل بأعيننا»‬

‫‪4‬‬

‫ّ‬ ‫توجت أمانة العاصمة المقدسة الفائزين في مسابقة الفن‬ ‫ّ‬ ‫التشكيلي «الفيصل بأعيننا» التي أطلقتها األمانة‪ ،‬ممثلة في‬

‫وشهد الحفل الختامي للمعرض يوم الخميس ‪ 18‬رمضان‬

‫للبحوث والدراسات اإلسالمية في نادي األمانة بحي الخالدية‬

‫بحضور األمير فيصل بن سعود بن عبدالمحسن مدير الشؤون‬ ‫الثقافية والعالقات العامة بالمركز‪ ،‬الذي أ ّكد أن المسابقة كانت‬

‫اإلدارة العامة للعالقات العامة واإلعالم‪ ،‬ضمن فعاليات معرض‬ ‫«الفيصل‪ ..‬شاهد وشهيد»‪ ،‬الذي ّ‬ ‫نظمه مركز الملك فيصل‬ ‫خالل شهر رمضان الماضي‪ ،‬وافتتحه األمير خالد الفيصل‬ ‫مستشار خادم الحرمين الشريفين أمير منطقة مكة المكرمة‪،‬‬

‫بحضور األمير تركي الفيصل رئيس مجلس إدارة المركز ولفيف‬ ‫من المسؤولين‪ .‬وكانت جائزة أفضل ثالثة أعمال مختارة من‬ ‫نصيب‪ :‬دانة الربيعة‪ ،‬ومها العسكر‪ ،‬ووداد األحمدي‪ .‬كما شهدت‬

‫المسابقة لفتة طيبة‪ ،‬وهي تقديم اللجنة التنظيمية جائزة تقديرية‬

‫لمتسابقين من ذوي االحتياجات الخاصة‪ ،‬هما‪ :‬عمر السحيباني‬ ‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬

‫(عن لوحته المرسومة بلغة برايل)‪ ،‬وهالة فقيها «رسم بالقهوة»‪.‬‬ ‫الماضي (‪ 23‬يونيو ‪2016‬م) تسليم الفائزين بالمسابقة جوائزهم‬

‫تهدف إلى تقديم تطبيق عملي يواكب معرض «الفيصل‪ ..‬شاهد‬

‫وشهيد» في جولته الحالية بمكة المكرمة؛ حتى تعرف األجيال‬ ‫الجديدة ما قدّمه الراحل الملك فيصل من خدمات جليلة لوطنه‬ ‫وأمتيه العربية واإلسالمية‪ .‬وأثنى األمير فيصل بن سعود بن‬ ‫عبدالمحسن على مستوى المشاركين في المسابقة‪ ،‬الذين تجاوز‬

‫تعدادهم ‪ 100‬مشارك‪ ،‬أبدعوا في رسم صورة الملك فيصل بأدوات‬ ‫الفن التشكيلي المختلفة‪.‬‬


‫وفد من المركز يزور اليابان لتعميق أواصر البحث العلمي‬

‫زار وفد من مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات‬ ‫اإلسالمية مؤخ ًرا دولة اليابان في مهمة رسمية شملت وزارة‬ ‫الخارجية وبعض الجامعات والمؤسسات والمراكز البحثية‬ ‫اليابانية؛ لهدف تعميق أواصر البحث العلمي بين المركز‬ ‫وهذه الجهات‪ .‬ورأس الوفد الدكتور سعود السرحان مدير‬ ‫إدارة البحوث‪ ،‬فيما ضمّ الوفد‪ :‬األميرة نورة بنت تركي بن‬ ‫عبدالله آل سعود مديرة إدارة البحوث المساعد رئيس‬ ‫وحدة دراسات الطاقة‪ ،‬والباحث فيصل أبو الحسن رئيس‬ ‫وحدة الفكر السياسي المعاصر‪.‬‬ ‫والتقى الوفد في جولته السفير تسوكاسا أويمورا‬ ‫المدير العام لمكتب شؤون الشرق األوسط وإفريقيا في‬

‫وزارة الخارجية اليابانية‪ ،‬والسيد توموفومي نيشيناغا مدير‬ ‫شعبة الشرق األوسط الثانية التابعة لمكتب شؤون الشرق‬ ‫األوسط وإفريقيا في الوزارة‪ ...‬وشارك الوفد في حلقة نقاش‬ ‫مشتركة مع المعهد الياباني للشؤون الدولية؛ للتعريف‬ ‫بأنشطة مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية‪،‬‬ ‫والسياسة اليابانية‪ ،‬واألوضاع الحالية في شرق آسيا‪ .‬كما‬ ‫شارك الوفد في محاضرة بمعهد اقتصاديات الطاقة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫عرضا وافيًا عن تنوّع مصادر الطاقة في المملكة‬ ‫قدّ م فيها‬ ‫العربية السعودية‪ ،‬وأسواق النفط‪ ،‬وما ي ّتصل بها من‬ ‫معلومات‪ ،‬كما تحدّث الوفد عن برنامج التحوّل الوطني‪،‬‬ ‫والرؤية السعودية ‪2030‬م‪.‬‬

‫ترميم قطعة من كسوة الكعبة صنعت في عهد الفيصل‬ ‫في إطار التعاون بين المركز والرئاسة العامة‬

‫لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي‪ ،‬يقوم مصنع‬ ‫كسوة الكعبة المشرفة بمكة المكرمة بترميم قطعة‬ ‫من كسوة الكعبة المشرفة مصنوعة في عهد الراحل‬

‫الملك فيصل‪ ،‬مكتوب عليها‪ُ :‬‬ ‫«صنعت هذه الستارة‬ ‫في مكة المكرمة وأهداها إلى الكعبة المشرفة خادم‬

‫الحرمين الشريفين فيصل بن عبدالعزيز آل سعود‬ ‫تقبّل الله منه»‪ ،‬وهي قطعة من ستارة باب الكعبة‬

‫المشرفة تحتفظ بها قاعة الملك فيصل التذكارية‪.‬‬

‫‪5‬‬


‫المركز‬

‫«الحج‪ ..‬وابن رشد‪ ..‬والحضارة» إصدارات حديثة‬ ‫أصدر المركز مؤخ ًرا ثالثة كتب في موضوعات علمية‬

‫مختلفة‪ ،‬األول في أدب الرحالت‪ ،‬وحمل عنوان «بيان مراحل‬ ‫الحج من ت ُِلو»‪ ،‬وهو من تحقيق الدكتور يحيى محمود بن جنيد‪،‬‬

‫ويتضمّن الرحلة التي قام بها مصطفى فقير الله العباسي من قرية‬

‫تلو في جنوب تركيا إلى بالد الحرمين الشريفين‪ ،‬التي بدأت يوم‬ ‫السبت ‪ 22‬شعبان سنة ‪1177‬هـ‪ ،‬ثم عودته إلى بلده مرة أخرى في‬

‫‪ 20‬ربيع األول سنة ‪1178‬هـ‪ ،‬ووصف فيها المناطق الجغرافية التي م ّر‬

‫بها‪ ،‬واألوضاع االجتماعية واالقتصادية والدينية في القرن الثاني‬

‫عشر الهجري‪.‬‬

‫وضمن أدب السيرة الذاتية‪ ،‬يتناول الدكتور أمين سيدو في‬

‫الكتاب الثاني «أبو الوليد ابن رشد‪ ..‬رائد الفكر وفيلسوف العقل» حياة هذا الفقيه والفيلسوف‬ ‫الذي عاش في قرطبة باألندلس في القرن السادس الهجري ـ الثاني عشر الميالدي‪ ،‬وكان‬

‫ينتمي إلى أسرة عريقة معروفة بالعلم والفقه والقضاء‪ ،‬وقدّم المؤلف شرحً ا وافيًا لحياته‪،‬‬ ‫وآثاره‪ ،‬ومصادر دراسته‪.‬‬

‫‪6‬‬

‫وقدّم الدكتور عبدالله العويسي في الكتاب الثالث دراسة نقدية لـ«مشكلة الحضارة»‪،‬‬ ‫محاولاً فيها طرح بعض اإلشكاليات التي يثيرها العصر الحاضر بما يشهده من تقدّم تقني‬

‫عن الحضارة؛ مثل‪ :‬ما الحضارة؟ وعلى أيّ أساس تقوم؟ وما األهداف التي تسعى لتحقيقها؟‬ ‫وهل هي ضرورية لإلنسان أم ظاهرة كمالية؟ وهل هناك منهج محدّد يمكنه أن ينتج حضارة‬ ‫ّ‬ ‫وتنحل؟ وهل يمكن بعثها مرة أخرى؟‬ ‫نموذجية؟ وهل تستمر الحضارة أم تزول‬

‫«دراسات»‪ :‬داعش واإلرهاب العابر للحدود‬ ‫واصل المركز إصدار دورياته المختلفة‪ ،‬فأصدر مؤخ ًرا عدد دراسات رقم (‪ )11‬بعنوان‪« :‬داعش واإلرهاب العابر‬

‫ّ‬ ‫المتخصص في شؤون الجماعات المتط ّرفة حسن سالم بن سالم‪ ،‬ويرصد فيها مدى‬ ‫للحدود»‪ ،‬للباحث السعودي‬

‫اعتماد تنظيم داعش منذ ظهوره على إستراتيجية رئيسة تقوم باستهداف العدو القريب وفق جهاد التمكين والسيطرة‬ ‫المكانية‪ ،‬وحصر ساحات المواجهة في الدول القريبة‪ ،‬وهي إستراتيجية ّ‬ ‫تمثل أحد أبرز الفوارق بينه وبين تنظيم‬ ‫القاعدة‪ ،‬الذي كان ير ّكز نشاطه في استهداف «العدو البعيد» من خالل الجهاد والهجمات النكائية‪ .‬ويؤكد الكاتب أن‬

‫تنظيم داعش دعا‪ ،‬في أعقاب تشكيل التحالف الدولي لمحاربته بقيادة الواليات المتحدة‬ ‫األميركية في سبتمبر عام ‪2014‬م‪ ،‬إلى تنفيذ هجمات ضد المصالح الغربية في أنحاء العالم‬ ‫ً‬ ‫كافة عبر تحريضه «الذئاب المنفردة» على تنفيذ عمليات فردية وشبه عشوائية ضد تلك‬

‫المصالح‪ ،‬مشي ًرا إلى أن إعالن التنظيم تب ّنيه المسؤولية عن تنفيذ الهجمات اإلرهابية التي‬

‫عصفت بالعاصمة الفرنسية باريس في نوفمبر عام ‪2015‬م يشير إلى نقطة تحوّل جوهرية‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫جديدة‬ ‫مرحلة‬ ‫في إستراتيجيته ونهجه التقليدي‪ ،‬وبدئه بقرار مركزي من قيادة التنظيم‬ ‫ً‬ ‫هدفا له‬ ‫من استهداف عواصم الدول الغربية وكبريات مدنها‪ ،‬وأن «العدو البعيد» أصبح‬

‫األولوية عند قيادة التنظيم‪.‬‬

‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬


‫‪7‬‬

‫كاريكاتير‬


‫فعاليات‬

‫تحدث عن فعاليات مركز الملك عبدالعزيز‬ ‫الثقافي العالمي وما يتيحه للشباب‬

‫خالد اليحيا‪« :‬المملكة الموازية»‬ ‫مبادرة تتوسل الفن في تحقيق هدفها‬ ‫فواز السيحاني‬

‫‪8‬‬

‫ً‬ ‫واحدا من أضخم مبادرات التنمية االجتماعية‬ ‫يعد مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي‬ ‫التي أطلقتها أرامكو السعودية‪ ،‬و ُب ِدئ في تشييد المركز في شهر مايو من عام ‪2008‬م‪ ،‬عندما‬ ‫وضع الراحل خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز حجر األساس‪ .‬ويهدف‬ ‫ً‬ ‫مركزا بشكل خاص على‬ ‫المركز إلى دعم جهود المملكة في التنمية االجتماعية والثقافية‪،‬‬ ‫الصفة اإلبداعية في المجاالت المعرفية‪ .‬يقع المركز في منطقة الظهران‪ ،‬على ُبعد خطوات‬ ‫من «بئر الخير» حيث ُ‬ ‫اكتشف النفط في المملكة للمرة األولى‪ .‬ولهذا الموقع داللته الرمزية؛‬ ‫اَّ‬ ‫الخلقة الكامنة في المجتمع‬ ‫إذ يسعى المركز إلى تطوير مصدر أكبر للثروة يتمثل في الطاقات‬ ‫واألجيال الصاعدة والمقبلة‪ .‬بدأ المركز بإطالق فعالياته الثقافية والفنية والفكرية الموجهة‬ ‫للشباب‪ ،‬وستستمر هذه األنشطة إلى حين االفتتاح الفعلي للمركز‪.‬‬ ‫بدأت أوىل مبادرات املركز يف أمريكا وتحديدً ا يف والية‬

‫تكساس أكرب الواليات األمريكية من ناحية املساحة؛ فهناك‬

‫تجول األمريكيون يف متحف ستيشن‪ ،‬إذ أقيمت يف يونيو املايض‬ ‫فعاليات معرض اململكة املوازية‪ ،‬بالتعاون مع أستديو غارم‪.‬‬

‫وقال الدكتور خالد سليمان اليحيا الذي يرأس الربامج التعليمية‬

‫يف مركز امللك عبدالعزيز املسؤول عن فعاليات اململكة املوازنة‪ :‬إن‬ ‫رؤية املعرض الرئيسة هي بناء جسور التواصل بني املجتمعات؛‬

‫«فالشباب السعودي قد يساء فهمه؛ ألنه لم تتح له الفرصة‬ ‫لعرض امللكات اإلبداعية التي يمتلكها‪ ،‬فنحن نرى أنفسنا نافذة‬

‫لهؤالء الشباب‪ ،‬وهذه املبادرة اختارت العمل اإلبداعي تحديدً ا‬

‫لتعريف العالم عىل السعودية والشباب السعودي؛ فالفن‬ ‫واإلبداع يصل إىل العموم وليس إىل النخبة‪ ،‬ويخاطب الجمهور‬ ‫العريض‪ .‬واملبادرة تحتمل القراءة وليس الحتمية التي كرست‬

‫مفاهيم خاطئة عنا‪ ،‬إذ إنها قابلة للنقد والحوار‪ ،‬وإعادة اكتشاف‬

‫ذواتنا من خالل القراءات املتعددة»‪.‬‬

‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬

‫غارم وقصب السبق‬

‫وفيما يتعلق باختيار أستوديو غارم للفنان عبدالناصر‬

‫غارم تحديدً ا يف االنطالقة األوىل لهذه املبادرة؛ أوضح اليحيا‬

‫أن املسألة متعلقة بالجاهزية فقط؛ «إذ حقق غارم قصب‬ ‫السبق يف العمل الفني‪ ،‬وله أعمال اقتنتها كبار املتاحف‬

‫العاملية‪ ،‬كما هو معروف يف مدينة لوس أنجلس وغريها من‬ ‫الواليات األمريكية‪ ،‬إضافة إىل أنه غالبًا ما يلجأ يف أعماله إىل‬

‫أنماط هندسية معقدة يستقيها من الثقافة العربية‪ ،‬ويمزجها‬ ‫برسائل غامضة تدور حول الطريقة التي يجري من خاللها‬

‫استغالل الدين والسلطة يف التأثري يف الناس‪ .‬وهو يعمل عىل‬ ‫تقديم الفكرة بطريقة تجعلها تبدو جميلة‪ ،‬حتى إن كانت‬

‫الرسالة التي يوصلها صعبة ً‬ ‫نوعا ما»‪.‬‬ ‫اليحيا أكد ً‬ ‫أيضا أن مركز امللك عبدالعزيز الثقايف العاملي‬

‫أتاح من خالل املعرض للشباب أن يتواصلوا مع العالم‪ ،‬بعرض‬

‫لوحاتهم الفنية التي تناقش قضايا تتصل بالتحديات التي تواجه‬


‫‪9‬‬

‫العالم املعاصر ومكوناته البشرية‪ ،‬مهما كان العرق أو الجنس‬

‫واحدًا من أفضل خمسة معارض يف الشهر السادس من هذا‬

‫املوازية»‪ ،‬مشريًا إىل انتقال املعرض إىل سان فرانسيسكو‪ ،‬تحت‬

‫ويضيف أن السبب يف هذا النجاح أن املبادرات األخرى «ربما‬

‫أو الديانة التي ينتمي إليها‪ ،‬كما هي الحال يف معرض «اململكة‬

‫العام»‪.‬‬

‫عنوان (جيل‪ ،)generation .‬ملجموعة من الفنانني والفنانات‬

‫أسايس‪ ،‬لكن ليس‬ ‫كان لديها هاجس قوي يف التعريف بنا بشكل‬ ‫ّ‬

‫سيكون أكرب حجمًا‪ ،‬وسيحتوي بمساحته الشاسعة عىل لوحات‬

‫وفق القانون الفني الذي ينص دائمً ا عىل أن الفن هو القيمة‬

‫السعوديات‪ ،‬ويبلغ عددهم تقريبًا أحد عشر‪« ،‬علمً ا بأنه‬ ‫فنية متعددة التأويالت واملدارس الفنية‪ ،‬إضافة إىل منحوتات‬

‫ومجسمات «كابيتال دوم» بـارتفاع اثني عشر مرتًا‪ ،‬التي تمتلك‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫خالصا‬ ‫سقفا للكونغرس‪ ،‬ومن الداخل تحمل طابعً ا‬ ‫قبة تبدو‬

‫للبناء اإلسالمي ذي الهوية الخالبة جدًّا»‪.‬‬ ‫عالمة فارقة‬

‫يف تقديم فنوننا‪ ،‬وترك الجميع يف أن يفهمها بالطريقة التي يود‪،‬‬ ‫األسمى بني كل القيم األخرى!»‪.‬‬

‫وعن الحرص عىل تقديم هذه الفعاليات يف أمريكا من دون‬

‫غريها‪ ،‬أشار اليحيا إىل أن الفعاليات «ليست موجهة تحديدً ا إىل‬

‫أمريكا من دون غريها من الدول والثقافات‪ ،‬إنما هي موجهة إىل‬ ‫العالم أجمع‪ .‬ففي املستقبل ستكون هناك زيارات عدة لدول‬

‫أوربية»‪.‬‬

‫وعن التأثري أو االنطباع الذي تركه املعرض يف الزوار وعكسته‬

‫وأكد الدكتور خالد سليمان اليحيا أن الطموحات لن تقف‬

‫بمنزلة العالمة الفارقة والنوعية‪ ،‬مقارنة باملبادرات الثقافية التي‬

‫يف الشهور القريبة عىل إقامة معرض آخر يف سان فرانسيسكو‬

‫الصحافة األجنبية‪ ،‬قال الدكتور خالد اليحيا‪ :‬إن املعرض كان‬

‫قامت بها املؤسسات السعودية األخرى؛ «فالصحف يف مدينة‬ ‫هيوسنت قد غطت الخرب يف شكل موسع‪ ،‬وصنفه الك ّتاب هناك‬

‫عند هذا الحد‪« ،‬بل هناك فعاليات أخرى متنوعة‪ ،‬بجانب االعتزام‬ ‫ونيويورك‪ ،‬إضافة إىل سلسلة من عشرة معارض ستقام ً‬ ‫تباعا يف‬ ‫أمريكا بوالياتها املتعددة‪ ،‬خالل األشهر التسعة املقبلة»‪.‬‬


‫فعاليات‬

‫وسط حضور أكثر من ‪ 300‬ألف زائر ألول مرة‬ ‫واستضافة ‪ 340‬مثقفً ا‬

‫«سوق عكاظ» ‪ ..‬يستعيد مجده‬ ‫ويفتح نافذة على المستقبل‬ ‫الطائف‬ ‫تصوير‪ :‬محمد الهذلي‬

‫‪10‬‬

‫لم يدر َ‬ ‫بخ َلد الملك الراحل فيصل بن عبدالعزيز وأعضاء اللجنة التي شكلها برئاسة المؤرخ‬ ‫محمد بن بليهد لتحديد موقع سوق عكاظ التاريخي قبل نحو ‪ً 82‬‬ ‫عاما؛ أن تكون جهودهم‬ ‫في ذلك الوقت بذرة يصنع منها ملحمة سوق عكاظ الحديث‪ ،‬وتساعد على إحياء إرث عربي‬ ‫تاريخي يعود تاريخه إلى أكثر من ‪ 1500‬عام؛ ليتجاوز المحيطات‪ ،‬ويصل إلى العالمية‪ ،‬ويصبح‬ ‫مركز إشعاع حضاري‪ ،‬ومنتدى إثرائيًّا معرفيًّا‪ ،‬وملتقى للحياة‪.‬‬ ‫«لم َي ُه ْن على الملك فيصل ‪-‬يرحمه الله‪ -‬ضي ُ‬ ‫سيانه‪ ،‬فبحث عنه حتى وجده‬ ‫ـاع ُعكاظ ونِ ْ‬ ‫ّ‬ ‫وحدد مكانه‪ ،‬ثم أَ ْ‬ ‫تاريخي‬ ‫ملكي‬ ‫استدعاء‬ ‫صدر الملك عبدالله بن عبدالعزيز ‪-‬يرحمه الله‪ -‬أمر ْ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫استثنائي فحضر ُعكاظ»‪ّ ،‬‬ ‫تذكر هذه الكلمات‪ ،‬التي ألقاها األمير خالد الفيصل مستشار خادم‬ ‫الحرمين الشريفين أمير منطقة مكة المكرمة رئيس اللجنة اإلشرافية العليا لسوق عكاظ في‬ ‫حفل افتتاح الدورة العاشرة لسوق عكاظ يوم الثالثاء ‪1437/11/6‬هـ‪ ،‬بأهل الفضل في إعادة‬ ‫إحياء أهم وأشهر أسواق العرب التاريخية‪.‬‬

‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬


‫‪11‬‬ ‫انطلقت فعاليات الدورة العاشرة لسوق عكاظ التي استمرت‬ ‫من ‪ 16-6‬ذي القعدة ‪1437‬هـ(‪ 19_9‬أغسطس ‪2016‬م) بحفل افتتاح‬ ‫شارك فيه فنان العرب محمد عبده؛ اشتمل عىل تكريم الفائزين‬ ‫بجوائز سوق عكاظ البالغة قيمتها مليون و‪ 800‬ألف ريال؛ إذ فاز‬ ‫الشاعر األردين محمد العزام بشاعر عكاظ وبُردته‪ ،‬والشاعر‬ ‫السعودي خليف الشمري بلقب شاعر شباب عكاظ وبُردته‪،‬‬ ‫فيما نال جائزة الرواية التي اس ُتحدثت يف الدورة الحالية الروايئ‬ ‫السعودي مقبول موىس العلوي‪ ،‬وفاز بجائزة لوحة وقصيدة‬ ‫عبدالرحمن خضر الغامدي «املركز األول»‪ ،‬ومحمد عيل الشهري‬ ‫«املركز الثاين»‪ ،‬وسعيد الهالل الزهراين «املركز الثالث»‪ ،‬وتسلم‬ ‫جائزة املركز األول يف جائزة الخط العربي عبدالباقي أبو بكر من‬ ‫ماليزيا‪ ،‬وجاء محفوظ ذنون يوسف عراقي الجنسية يف املركز‬ ‫الثاين‪ ،‬ويحيى محمد فالته من نيجرييا يف املركز الثالث‪ ،‬ونال‬ ‫جائزة التصوير الضويئ عبدالرحمن إبراهيم املاجد من البحرين‪،‬‬ ‫وظافر مشبب الشهري من السعودية‪ ،‬وقاسم محمد الفاريس‬ ‫سعودي الجنسية‪ .‬كما حصل عىل جائزة رائد أعمال عكاظ‬ ‫املستحدثة ألول مرة يف الدورة العاشرة لؤي محمد نسيب من‬ ‫السعودية‪ ،‬وحصد جائزة مبتكر عكاظ محمد بإسالمة‪.‬‬ ‫وشهدت الدورة العاشرة إطالق برامج ومشاريع نوعية تخدم‬ ‫الثقافة العربية‪ ،‬تمثلت يف توقيع اتفاقية إنشاء واحة للتقنية‬ ‫بالقرب من موقع سوق عكاظ التاريخي‪ ،‬ووضع حجر األساس‬

‫لجادة عكاظ املستقبل‪ ،‬وتدشني أكاديمية الشعر العربي الفصيح‬ ‫التي ُتعَ ّد أول مشروع عربي من نوعه‪ ،‬وجرى تدشني باكورة‬ ‫أعمال األكاديمية بطباعة وتوزيع أربعة دواوين شعرية لشعراء‬ ‫فائزين يف الدورات السابقة بجوائز عكاظ الشعرية‪.‬‬ ‫وتضمنت الدورة التي حضرها وزراء ومثقفون وأدباء وشعراء‬ ‫من داخل اململكة وخارجها؛ إثراءً معرفيًّا يف شتى املجاالت‪ .‬بدأت‬ ‫الفعاليات بملتقى الريادة املعرفية الذي حظي بحضور وتفاعل‬ ‫كبريين‪ ،‬تحدث فيه عرب ثالث جلسات وزير الحج والعمرة ورئيس‬ ‫مدينة امللك عبدالعزيز للعلوم والتقنية ومدير جامعة الطائف‬ ‫يف ورقة قدمها نيابة عن وزير التعليم‪ ،‬ومسؤولون يف صندوق‬ ‫التنمية الصناعية وهيئة املنشآت الصغرية واملتوسطة وعدد من‬ ‫رياديي األعمال‪ .‬وأوىص امللتقى بضرورة وجود القيمة املضافة‬ ‫يف األعمال الريادية املعرفية باململكة‪ ،‬كما استعرض أبرز خطط‬ ‫تحقيق رؤية اململكة (‪.)2030‬‬ ‫حوار الشباب‬ ‫وخاطب األمري خالد الفيصل شباب سوق عكاظ يف لقاء‬ ‫حواري مفتوح شارك فيه وزير الثقافة واإلعالم الدكتور عادل‬ ‫الطريفي أقيم بجامعة الطائف ضمن فعاليات الدورة العاشرة‪،‬‬ ‫وأكد يف كلمته أن تمسك اململكة العربية السعودية وشعبها‬ ‫بالكتاب والسنة منذ تأسيسها هو السبب وراء الحملة الشرسة‬


‫فعاليات‬

‫‪12‬‬

‫التي تواجه اإلنسان السعودي‪ ،‬وقال‪« :‬اليوم يتحقق حلم‬ ‫اآلباء واألجداد ذلك الحلم العميق جدًّ ا أن يكون اإلنسان‬ ‫السعودي قدوة للعالم بأسره‪ ..‬فماذا أنتم فاعلون؟ أنا أجيب‬ ‫عىل ذلك‪ :‬ارفع رأسك أنت سعودي»‪ .‬كما شهد اللقاء إعالن‬ ‫وزير الثقافة واإلعالم عن تأسيس صندوقني للدعم‪ :‬األول لدعم‬ ‫ً‬ ‫كاشفا‬ ‫الفن والفنانني‪ ،‬والثاين خاص بمدينة إنتاج إعالمية‪،‬‬ ‫عن صدور موافقة خادم الحرمني الشريفني امللك سلمان بن‬ ‫عبدالعزيز عىل إنشاء املجمع املليك للفنون الذي يتضمن مسرحً ا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ومتحفا إسالميًّا‪.‬‬ ‫ومعرضا فنيًّا‬ ‫وطنيًّا‬ ‫ً‬ ‫وشارك ‪ 72‬مفك ًرا ومثقفا وشاع ًرا من مختلف الدول العربية‬ ‫يف إثراء الربنامج الثقايف للدورة العاشرة بأوراق عمل وبحوث‬ ‫أدبية وعلمية يف ‪ 7‬ندوات ثقافية و‪ 3‬أمسيات شعرية‪ .‬وتضمنت‬ ‫ً‬ ‫استعراضا لدراسات نقدية للشاعر الجاهيل‬ ‫موضوعات الندوات‬ ‫عروة بن الورد‪ ،‬وعن األديب السعودي عبدالله بن خميس‪،‬‬ ‫كما بُحثت جهود الرتجمة يف فرنسا‪ ،‬واملخطوطات املهاجرة‪،‬‬ ‫مع تناول عدد من التجارب الكتابية والفنية‪ ،‬بجانب البحث عن‬ ‫موضع الهوية الثقافية يف العالم الرقمي‪ ،‬وحماية الخصوصية‬ ‫يف وسائل التواصل االجتماعي‪.‬‬ ‫وألن استدعاء سوق عكاظ من املايض ليس استظهارًا له‬ ‫فحسب‪ ،‬بل جاء ليبني ما ينفع الحاضر ويفيد املستقبل‪ ،‬كما‬ ‫أكد ذلك األمري خالد الفيصل؛ فقد أقيم معرض عكاظ املستقبل‬ ‫الذي شارك فيه أكرث من ‪ 50‬جهة حكومية وخاصة ُتعنى بمجاالت‬ ‫االبتكار وريادة األعمال‪ ،‬والذي يعد أضخم معرض من نوعه‬ ‫يف اململكة‪ ،‬حيث يُعَ دّ أول منصة وطنية تعنى باالبتكار وريادة‬ ‫األعمال املعرفية‪ .‬وضم املعرض ‪ 5‬منصات إبداعية تقدم مفاهيم‬ ‫عصرية حديثة‪ .‬حيث فتح مجال النقاش بني الزوار والشباب‬ ‫وصناع القرار حول تقنيات املستقبل عرب منصة االستقبال‪ ،‬فيما‬ ‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬

‫أعطى فرصة للجامعات واملراكز واملؤسسات املهتمة باالبتكار‬ ‫وريادة األعمال‪ ،‬وكذلك املبتكرين واملبدعني لعرض ابتكاراتهم‬ ‫ومنتجاتهم املعرفية‪ ،‬والنقاش البناء بني املهتمني واملختصني‬ ‫واملستثمرين يف مجال االبتكار والريادة من خالل منصة الحاضر‪.‬‬ ‫أما منصة االنطالق التي هدفت إىل وضع الشباب عىل‬ ‫الطريق الصحيح لبدء مشاريعهم الريادية؛ واشتملت عىل ‪3‬‬ ‫ورش عمل تدريبية‪ ،‬وهي‪ :‬فعالية (ستارت أب ويكيند) التي‬ ‫قدمها برنامج بادر لحاضنات األعمال بمدينة امللك عبدالعزيز‬ ‫للعلوم والتقنية‪ .‬وبرامج تدريبية‪ ،‬وورش عمل متخصصة يف‬ ‫ريادة األعمال قدمها مركز امللك سلمان للشباب‪ .‬وورشة عمل‬ ‫تدريبية قدمها مركز تسامي لريادة األعمال االجتماعية‪.‬‬ ‫وأتاحت املعارض فرصة لزوار سوق عكاظ للتربع بالخاليا‬ ‫الجذعية وأخذ عينات مبدئية للمتربعني‪ ،‬واملشاركة يف ورش‬ ‫عمل ودورات تدريبية لتعلم الخط العربي‪ ،‬واالطالع عىل‬ ‫مقتنيات أثرية نادرة‪ ،‬واالطالع عىل ابتكارات وبراءات االخرتاع‬ ‫ملبدعي الوطن‪ ،‬إضافة إىل جناح لكتب األطفال ومرسم لهم‪.‬‬ ‫ومع كل هذه الفعاليات الثقافية واإلبداعية املتنوعة‪ ،‬كان‬ ‫لجادة سوق عكاظ النصيب األكرب من اهتمام ومتابعة زوار‬ ‫السوق الذين سجلوا أرقامً ا قياسية ألول مرة منذ إحياء السوق‬ ‫قبل عشر سنوات متجاوزين ‪ 300‬ألف زائر‪ ،‬بعد أن كانوا ‪60‬‬ ‫ً‬ ‫ألفا فقط يف الدورة األوىل‪ .‬واشتملت فعاليات الجادة‪ :‬أجنحة‬

‫للحرفيني وللحرفيات الذين تنافسوا للفوز بجوائز األعمال‬ ‫الحرفية البالغة قيمتها ‪ 500‬ألف ريال‪ ،‬و‪ 4‬عروض مسرحية‬ ‫بعنوان «عبس وذبيان‪ ..‬حكايات الشعر والحرب» تبدأ من‬ ‫الساعة الرابعة عص ًرا إىل بعد صالة العشاء يوميًّا‪ ،‬إضافة إىل‬ ‫عروض الخيل والجمال ومسريات القوافل التي تحايك مايض‬ ‫السوق‪.‬‬


13


‫ملف العدد‬ ‫موسع عن مآالت الشعر العربي‪:‬‬ ‫ملف‬ ‫ّ‬

‫متردم؟‬ ‫هل غادر الشعراء من‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫قرونا طويلة بمنزلة العماد الرئيس للثقافة العربية‪ ،‬وصار عالمة الرقي حين‬ ‫ظل الشعر‬

‫اهتم الخلفاء والملوك واألمراء برعاية الشعراء في رحاب بالطهم‪ ،‬وظل يمارس تأثيره وفاعليته‬ ‫في مستوى النخب‪ ،‬وفي مستوى العامة‪ ،‬ولم يتوقع أحد يومً ا أن يتوارى فن العربية األول‬

‫على مدار كل هذه القرون لصالح فن وافد من الغرب؛ كالرواية أو المسرح أو السينما أو‬

‫الدراما التليفزيونية‪ ،‬فهل عجز ديوان العرب عن المنافسة على وظيفته ودوره وتأثيره لصالح‬ ‫ٍّ‬ ‫معني باللغة وجمالياتها وبالغتها ال يتفق مع آليات الذيوع واالنتشار‬ ‫كفن‬ ‫هذه الفنون؟ أم أنه‬ ‫ّ‬ ‫الجديدة؟ أم أن العرب أنفسهم أصبحوا خارج إطار المنظومة الحضارية في العالم‪ ،‬ومن َثمّ‬

‫‪14‬‬

‫فال حاجة للعالم بفنهم األول‪ ،‬كثير من األسئلة التي يثيرها تواري الشعر عن دوره لصالح فنون‬ ‫أخرى‪ ،‬فما الذي حدث؟‬

‫لقد كان الشاعر العربي رائد أهله‪ ،‬يكثف في قصائده األحالم العربية الكبرى‪ ،‬ويعالج‬

‫الهزائم‪ ،‬ويفرح بالبهجات‪ ،‬واليوم يمر الشعر العربي بمرحلة صعبة لعلها األسوأ منذ تدوينه‬ ‫ً‬ ‫بعيدا منه‪ ،‬أو ربما مستغنيًا عنه‪ُ .‬دور النشر العربية صارت تحجم‬ ‫األول؛ إذ صار القارئ العربي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫توزيعا‪ ،‬ما ُعدنا ننتظر قصيدة أو أمسية أو ديوانا‪ ،‬وكنا‬ ‫عن طباعة الدواوين الشعرية ألنها األقل‬ ‫لعقود ننتظر جديد نزار قباني‪ ،‬ومحمود درويش‪ ،‬والجواهري‪ ،‬وأجيال من الشعراء حتى هذا‬

‫العقد األخير‪ .‬فمن يتخيل أنه ال توجد قصيدة شعرية واحدة يرددها العرب اليوم بعد كل ما‬ ‫مروا به من ثورات؟ إلى أين وصل الشعر اليوم؟ ما الذي غيّبه؟ ندرة المواهب الجديدة؟ رحيل‬

‫الشعراء الكبار؟ توافر أجناس أدبية بديلة؟ سيطرة الشعر المكتوب باللهجات؟ وجود وسائل‬ ‫تعبير إلكترونية فورية؟ هل ُه ِزمت الصورة الشعرية أمام الصورة الفيزيقية بكاميرا الجوال؟‬ ‫هل هو العالم المتسارع حولنا شديد المادية؟ أم نقول ما قاله عنترة‪« :‬هل غادر الشعراء من‬

‫متردم؟» وإن كل ما يمكن قوله في الشعر قد قيل وانتهى؟‬

‫تفتح مجلة الفيصل هذا الملف وتثير األسئلة حول الشعر والشعراء؛ سعيًا إلى إجابات أو‬

‫ما يشبهها‪ ..‬ملف يشارك فيه بعض أهم الشعراء والنقاد في الوطن العربي‪.‬‬

‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬


15


‫شقائق نثرية‬ ‫في مسائل شعرية‬

‫عبد القادر الجنابي‬ ‫شاعر وناقد عراقي يقيم في باريس‬

‫كان‬

‫الشاعر الفرنيس بيري ريفريدي يأمل أن يكتب «أجمل‬

‫قصيدة يف العالم»‪ .‬لم يدر أنه كتبها‪ ،‬ولم يدر أنه من املستحيل‬ ‫ٌ‬ ‫نظر ق ّرائه‪ ،‬أصدقائه‪ ،‬الشعراءِ‪،‬‬ ‫كتابتها!‬ ‫نظره‪ِ ،‬‬ ‫نظر مَنْ ؟ ِ‬ ‫جميلة يف ِ‬

‫ّ‬ ‫النقادِ‪..‬؟ إذا كان هذا هو األمر‪ ،‬فإن أجمل قصيدة يف العالم قد ُك ِتبَت‬

‫‪16‬‬

‫آالف امل ّرات!‬

‫***‬ ‫ٌّ‬ ‫نبدأ دومًا من صفر ثابت؛ من تجربة أوىل‪ .‬كل حسب اإليقاع‬

‫املوروث مداره‪ .‬هذا ينظم‪ ،‬ذاك ينرث‪ ،‬وهناك من يصل‪ ،‬بموئل‬ ‫ّ‬ ‫الضف َة الثالثة من‬ ‫رغبة املراهقة يف التمرد عىل قوانني مرسومة‪،‬‬

‫نهر الكتابة؛ فيكتب وفق إيقاعه الخاص شع ًرا غري موزون عىل‬ ‫البحور املألوفة‪.‬‬

‫***‬

‫بجمهور أكرب‪ ،‬يج ّر ّ‬ ‫كل ما‬ ‫آه! كم كاتب لدينا ال يزال‪ ،‬مهووسً ا‬ ‫ٍ‬ ‫يولد مبتورًا‪ ،‬بشتى أدوات الربط‪ ،‬ليك يحيا (أي أن يموت حتمًا) يف ٍّ‬ ‫كل‬

‫مفتعَ ٍل؛ ُممَن َتج‪ ،‬مشدودًا بما سبقه وما يليه‪ .‬بينما القطيعة أقصر‬ ‫طريق لالرتباط!‬

‫***‬

‫أيها الراقدون يف الكتاب‬ ‫ً‬ ‫دعوا أشعارَكم تكون صديقة لذاكرة القارئ‪.‬‬ ‫النافذة عني الشاعر‪.‬‬

‫***‬ ‫***‬

‫ثمة شاعر ينام يف قصيدته فيغفو معه القراء‪.‬‬

‫ليايل بيضاء‪.‬‬ ‫ثمة قصيدة تعيش ألف عام‪ ،‬بال نوم‪ ،‬يقيض فيها القراء َ‬ ‫***‬

‫آت من تلقاء نفسه‪ ،‬يبدأ دومًا‪ ..‬من أي مكان؛ من‬ ‫الشعر‪ٍ ،‬‬ ‫َ‬ ‫الالمكان‪ .‬وبصفته شهقة اإلنسان املرصودة‪ ،‬فهو ال يلبث إال يف قواه‬ ‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬

‫وليس يف الدليل»‪ ،‬محاكاة لرينيه شار‪.‬‬ ‫األولية‪ :‬الكلمات‪« ..‬يف األثر‬ ‫َ‬

‫غبي إنما هو إشراقة تندلع‬ ‫لكن احذروا‪ ،‬الشعر ليس تجربة إلهام ّ‬ ‫وفق طبيعة ومكان الشاعر الذي ُتنار فيه‪.‬‬ ‫***‬ ‫ُ‬ ‫هناك شعراء‪ ،‬الشع ُر لهم وسيلة تعبري ال غري‪ .‬وبما أن املوضوع‬ ‫ً‬ ‫وسيلة للتعبري عنه سيئ‪ ،‬فإن أيَّ قصيد ٍة‬ ‫الذي يستخدمون الشع َر‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫عاجزة‬ ‫سيئة‬ ‫مهما كانت براع ُتها الوزنية‪ ،‬اللفظية واإليقاعية‪ ،‬تبقى‬

‫عن الذهاب أبع َد من مضمونها الذي جاءت لخدمته‪ .‬وهكذا تعود‬

‫القصيدة‪ ،‬يف أزمنة املعنى الخوايل‪ ،‬مج ّرد رمز لبَطالة الكلمات‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫فالقصيدة هذه يأسرها الذوق العام‪ ،‬إكراه الحقبة التي ترتعد من‬

‫كل شعر ترى فيه نهايتها املحتومة‪ .‬ذلك أن اللغة العربية‪ ،‬شع ًرا‪،‬‬ ‫ميدان لهذا الشعر املُخت َزل وسيلة تعبري ال غري‪ ،‬حيث مقدا ُر ضيق أفق‬

‫مقدار ما يف القراء‪ ،‬الذين يتغ ّنى بهم‪ ،‬من آفاق‬ ‫شاعر ما‪ ،‬يكون عىل‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ضيّقة‪ .‬بعض هذا الشعر‪ ،‬ربما‪ ،‬ناريٌّ ‪ ،‬لكنه ال يضرم نار الرؤية‪ ،‬إنما‬

‫يحرتق فيه الشاعر نهائيًّا‪ .‬فما هو ٌ‬ ‫إيقاع يُحييه‪ .‬آه‪ ،‬كم‬ ‫ميت‪ ،‬ما من‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫أحيانا‪ ،‬لحظة كتابة قصيدة‪ ،‬بأننا منفيّون داخل لغتنا قبل أن‬ ‫نشعر‬

‫نكون منفيني يف هذا العالم‪ .‬ومع هذا‪ ،‬يمت ّد الشعر بنا خارج اإلسار‪.‬‬ ‫لقد تغيرّ ت سحنة العربية وطبيعة تركيبة جُ مَلها‪ ،‬ونحن اليوم يف‬ ‫سياق لغة مفتوحة لكل الرتاكيب التي كانت تبدو غريبة يف نظر فقهاء‬

‫اللغة السابقني‪ ..‬وهذا الفضل يعود إىل هؤالء الذين لم يتوقفوا عن‬

‫ممارسة الشعر وفق وزن طبيعتهم‪.‬‬

‫***‬

‫الشاعر يهتمّ ‪ ،‬عىل نحو ما‪ ،‬بكل األلسنة وبكل أشعار األرض إن‬

‫كانت غربية‪ ،‬صينية‪ ،‬عربية‪ ،‬أمازيغية‪ ،‬عربية‪ ،‬إفريقية‪ .‬إنها ثقافة‬ ‫الشعر التحتيّة‪ .‬ففي نظره‪ ،‬إذا افتقد الشعر جانبه اإلثني‪ ،‬أي لم‬ ‫يعد يتع ّرف ّ‬ ‫تجلياته داخل لغات اآلخر املطمور يف اللغات املسجّ لة‪،‬‬

‫ً‬ ‫ميتة‪ ،‬فإن هذا الشعر يصبح جزئيًّا وغري قابل‬ ‫يف وفيات األلسنية‪،‬‬


‫للنمو‪ ،‬ومن ثم غلطة ال يشفع لها أحد‪ ،‬باألخص‪ ،‬يف حقبة كحقبتنا‬

‫الشباب‪ ،‬باألخص الشاعرات الشابات‪ .‬فهؤالء ال يدركون أنهم عندما‬

‫وتعاريفها – تناقضاتها‪ ،‬ويف نهاية األمر إشكالياتها‪ .‬ناهيك من أن‬

‫شك قواعدي‪ ،‬فإنهم‪ ،‬شاؤوا أم أبوا‪ ،‬يكتبون ضد اإلدراك الرتايث‬

‫هذه التي ال يمكن أن تحمي نفسها إال عرب مواجهة هُ ويّاتها املتعدّدة‬ ‫الشعر الحديث‪ ،‬حتى يف تم ّرداته املتط ّرفة‪ ،‬لم يتوانَ عن التزوّد‬ ‫من الثقافات املسمّاة بدائية‪ ،‬مثلما كان شعراء النهضة يبحثون عن‬

‫اإللهام يف الثقافة اليونانية‪.‬‬

‫***‬ ‫ُ‬ ‫يف ّ‬ ‫حيلة شاعرها اللغوية التي يُس ِّرب من‬ ‫كل قصيدة تكمن‬ ‫خاللها عواطفه املُبعدة من واجهة الكلمات‪.‬‬ ‫***‬

‫يكتبون أشعارًا ال تخضع ألبسط قواعد الشعر املرسومة؛ وفيها ألف‬ ‫ملفهوم الكتابة الرتايث‪ ،‬ومن ثم يوارون‪ ،‬تلقائيًّا‪ ،‬الرتكيبة العربية‬

‫للجملة يف تراب التاريخ‪ .‬إن وعي هذا «الدفن» يحوّل الرتاب إىل‬ ‫أسفلت؛ القبَيل إىل فرد؛ اإلنشاء إىل كتابة!‬ ‫***‬

‫مشكلة الثقافة العربية السائدة تكمن يف هذا الفارق الكبري بني‬

‫تراث سلفي له تاريخ طويل استطاع أن يرسّ خ مراجعَ صلدة لها نسق‬

‫فكري منتظم‪ ،‬وبني محاوالت نهضوية‪ ،‬ليربالية‪ ،‬حداثوية‪ ..‬دامت‬

‫القصيدة تكمن يف األبيات األوىل التي حذفناها‪.‬‬

‫أكرث من قرن‪ ،‬من دون أن تستطيع ترسيخ أي مبدأ من مبادئها؛‬

‫أن تكتب قصيدة هو أن تقتل املرسوم؛ األنموذج!‬

‫الذهنية العربية‪.‬‬

‫***‬ ‫***‬

‫ما مِن قصيدة فاشلة‪ .‬فكل قصيدة مصريها الفشل إذا لم تجد‬ ‫قارئها الحقيقي الذي يجعلها ّ‬ ‫تخلف شاع ًرا جديدًا!‬ ‫***‬

‫ص ْر أنت‪ّ ..‬‬ ‫تنفس كلماتك؛ اعج ْنها حسب إيقاعك‪ ..‬وال تأبه‬

‫للذين يريدونك أن تكون نسخة أخرى بني آالف النسخ املكررة التي‬ ‫ال َ‬ ‫س لها‪.‬‬ ‫نف َ‬ ‫***‬

‫من خالل الصراع بني تدفق آيل لكلمات مطموسة يف الوعي‪،‬‬

‫وبني أخذ ورد‪ ،‬محو وتشديد‪ ،‬وبني وعي يريد أن يُحدد مسا َر يشء‬

‫كإسوار يرنّ يف العتمة!‬ ‫بشكل مفهوم إىل حد ما‪ ،‬تولد القصيدة‪..‬‬ ‫ٍ‬

‫وكأن ثمة إلهامًا كان يعمل!‬

‫***‬

‫يف الحمّى املتصاعدة صوب القصيدة‪ ،‬عىل الشاعر أن يعرف كيف‬

‫يدخل التاريخ؛ كيف يخرج منه‪.‬‬

‫***‬

‫هناك شعراء موجودون يف كل مكان‪ :‬يكتبون كما يأكلون‪،‬‬

‫يشربون كما يتغوطون‪ ،‬ال مهمة عصيّة تنتظرهم‪ ..‬يموتون وهم‬

‫نائمون‪ ..‬الفرق الوحيد بيني وبينهم‪ :‬أنهم يف أمان وأنا يف معمعان!‬ ‫***‬

‫هناك دخالء يظنون أنفسهم شعراء‪ ،‬لكنهم يف حياتهم اليومية‬

‫هم وشاة حد أنهم يكتبون أشعارًا باهتة ال تبوح بأي يشء‪ .‬ناهيك عن‬

‫أن الشعر شاهد وليس َبوْحً ا‪.‬‬

‫***‬ ‫أحيانا‪ ،‬إليك ِّ‬ ‫ً‬ ‫بكل ما ثمّ عليك أنْ تعرف‪.‬‬ ‫تفصيالت عابرة‪ُ ،‬تفيش‪،‬‬ ‫***‬

‫هناك أسلوب علماين يفصل بني مؤسسة اللغة الدينية وبني‬

‫مدنية الكالم املعيش‪ ،‬يمارسه‪ ،‬من دون وعي‪ ،‬معظم الشعراء‬

‫ألنها اجتهادات انتقائية ال نظام لها قادر عىل أن يحفرها يف تربة‬ ‫***‬

‫لم ّ‬ ‫تولد العربية خالقني‪ ،‬وإنما خ ّناقني!‬ ‫***‬

‫الخوف الوحيد الذي ينتاب الشاعر هو الخوف من الشعور‬

‫بالعقم؛ الشعور بعدم مواجهة املجتمع؛ بعدم املشاركة يف بناء يشء‬ ‫إيجابي‪ ..‬باختصار الخوف من الشعور بحيا ٍة قد ال تبدأ بعد املوت‪.‬‬

‫‪17‬‬

‫***‬

‫لكل شيطانه؛ دمارُه الداخيل!‬

‫***‬

‫اليوم‪ :‬حرب شبكية مع عدو بال وجه‪ :‬آالف الضحايا يتكدسون‬ ‫ّ‬ ‫التطلعية‬ ‫مشهدًا غرضه إفراغ األعني من قدرة النظر االستشفافية‪،‬‬

‫نحو مسافات حلمية أبعد‪ ،‬إنها حرب املستقبل الباردة حيث املكتوب‬

‫ينتظم وفق قوانني اإلنرتنت‪ ،‬والعيش تحت بُؤر ُمسيرّ ي العالم نحو‬

‫الهالك‪ .‬ومع هذا فإن الشعر ال يزال هو‪ ،‬أي ذلك املجهول البالحدود؛‬ ‫الفالت من كل رقابة ساك ًنا مخيلة البشر‪ ،‬وكأن شي ًئا لم يحصل‪.‬‬ ‫لكن‪ ،‬يف الواقع‪ ،‬يشء قد حصل‪ ،‬لقد ّ‬ ‫تعلم الشعر‪ ،‬بفضل كل‬ ‫التجارب الطليعية التي اجتازها‪ ،‬كيف يؤسس نفسه كموضوع بذاته؛‬ ‫أن «يعبرّ عما ال تستطيع اللغة التعبري عنه؛ أن ّ‬ ‫يكف عن التعبري عن‬ ‫حاالت»‪ .‬هذا االنتقال التاريخي يف تاريخ القصيدة الحديثة لم يحدث‪،‬‬

‫لألسف‪ ،‬يف وقائع الشعر العربي الحديث‪.‬‬

‫***‬ ‫وقت للبكاء‪ ..‬لقد ذهب الشعراء إىل أرض الكلمات‪ .‬القصيدةُ‬ ‫ال َ‬ ‫اليوم ٌ‬ ‫لغة ال التزام‬ ‫***‬

‫تعرف العزلة يف غرفة معتمة‪ ،‬لم ْ‬ ‫تنزل جحيمَ نفسك‪،‬‬ ‫كيف؟ لمْ‬ ‫ِ‬ ‫لم يساورْك ٌّ‬ ‫شك‪ ..‬وتري ُد أنْ تكتب!‬ ‫الجُ ملة حياة!‬

‫***‬

‫ملف العدد‬


‫الشعر ضرورة!‬ ‫أحمد عبدالمعطي حجازي‬ ‫شاعر مصري‬

‫قبل بضع سنوات وأنا مقرر لجنة الشعر في المجلس األعلى للثقافة في مصر‪ ،‬جلست مع‬ ‫زمالئي أعضاء اللجنة‪ ،‬نضع برنامج العمل في الدورة الثانية لملتقى الشعر العربي الذي‬

‫ينظمه المجلس كل عامين بالتناوب مع ملتقى الرواية‪ ،‬فاقترحت تخصيص ندوة من ندوات‬ ‫الملتقى للحديث عن الشعر كحاجة من حاجات اإلنسان الضرورية‪ .‬وفي هذه األيام األخيرة‬

‫اجتمعت لجنة الشعر التي أصبح الناقد المصري المعروف محمد عبدالمطلب مقررًا لها؛‬

‫‪18‬‬

‫لتضع برنامج الدورة القادمة للملتقى‪ ،‬فرأت أن يكون موضوعه الرئيس هو ضرورة الشعر‬ ‫اآلن‪ .‬وقد أحسنت اللجنة بهذا االختيار الذي ّ‬ ‫يدل على إدراك عميق لرسالة الشعر ولحاجتنا‬

‫إليه‪ ،‬وللظروف الصعبة التي تقف حائلاً بين الشعر وجمهوره في هذه األيام‪.‬‬ ‫والحقيقة أين لست أول من قال‪ :‬إن الشعر ضرورة‪ ،‬إنما‬

‫أحص عددهم‪ ،‬لكني أتوقع أن‬ ‫سبقني إىل هذا شعراء ونقاد لم‬ ‫ِ‬ ‫يكونوا كثريين؛ ألن ضرورة الشعر تبدو يل مسألة بديهية‪ ،‬نصل إليها‬ ‫بأنفسنا دون أن نحتاج ملن يدلنا أو يقنعنا‪ ،‬وهذا ما ج ّربته بنفيس‪،‬‬ ‫فأنا حني قلت‪ :‬إن الشعر ضرورة‪ ،‬لم أقلها نقلاً عن أحد‪ ،‬إنما كنت‬

‫أعبرِّ عن حاجتي للشعر التي أعتقد أنها ليست حاجة خاصة أو‬

‫منه كما فعل دوالمانت‪ ،‬وهو شاعر فرنيس يف قصيدة يقول فيها‪:‬‬

‫ً‬ ‫قافية! أيتها القيود الغريبة الظاملة‪ .‬أتكون أفكاري دائمًا عبيدًا‬ ‫يا‬

‫لك؟ حتام تتحكمني فيها مغتصبة حقوق العقل؟ فور ما تأمرين‬

‫بالتزام العدد والوزن يجب التضحية بالصحة والدقة والوضوح‪.‬‬ ‫مطلب أبدي‬

‫فردية‪ ،‬إنما هي حاجة إنسانية عامة‪ .‬والدليل عىل هذا ما قاله كثريون‬

‫لكن بول هازار يع ّد هذا املوقف من الشعر تعبريًا عن األزمة التي‬

‫بول هازار املفكر الفرنيس وعضو األكاديمية الفرنسية يتحدث يف‬

‫أبدي كما يقول يف الصفحات التي خصصها له يف كتابه وسماها «زمن‬ ‫بال شعر»‪ .‬وهو عنوان يحمل معنى املفارقة؛ ألن الزمن ال يكون زم ًنا‬

‫القرن الثامن عشر‪ ،‬وهي املرحلة االنتقالية الفاصلة بني عصر النهضة‬

‫‪-‬التاسع عشر والعشرين‪ -‬واستعاد مكانته‪ ،‬وتعددت مدارسه‬

‫عن ضرورة الشعر للحياة‪.‬‬

‫كتابه «أزمة الضمري األوربي» عن الحرب التي أعلنت عىل الشعر وعىل‬

‫كل ما له صلة بالعاطفة والخيال بني أواخر القرن السابع عشر وأوائل‬ ‫الذي أحيا الرتاث اليوناين الالتيني وعصر االستنارة الذي انحاز للعقل‪،‬‬ ‫وع ّد الشعر صورة من صور الكذب والتعمية والتضليل‪ ،‬تصرف‬ ‫اإلنسان عن طلب الحقيقة‪ ،‬وتخدعه بتهاويل الخيال‪ .‬وقد انساق‬

‫األوربيون يف تلك املرحلة؛ لتبني هذا املوقف من الشعر‪ ،‬بل لقد انساق‬ ‫إليه الشعراء أنفسهم فنظموا قصائد يهجون فيها ف َّنهم ويتربّؤون‬ ‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬

‫م ّر بها الضمري األوربي يف تلك املرحلة وتجاوزها؛ ألن الشعر مطلب‬

‫إنسانيًّا بغري شعر‪ .‬وقد رأينا كيف ازدهر الشعر يف القرنني الالحقني‬

‫واتجاهاته‪ ،‬وأصبح املوضوع املفضل للنقاد والباحثني‪ ،‬يتحدثون عن‬ ‫أشكاله ومضامينه‪ ،‬وعن ماضيه وحاضره‪ ،‬وعما يؤدّيه يف الحياة‬

‫ويعبرّ عنه‪.‬‬

‫الشاعر الفرنيس جان كوكتو يعرب عن حريته بني شعوره العميق‬

‫وإيمانه الكامل بأن الشعر ضرورة‪ ،‬وما يراه يف هذه املدينة الحديثة‬


‫من جفاف ووحشة وانصراف عن الشعر وعن الفن بشكل عام‪ .‬يقول‬ ‫«الشعر ضرورة‪ .‬وآه لو أعرف ملاذا؟»‬ ‫ً‬ ‫وسوف أحاول اإلجابة عن سؤال كوكتو مبتدئا من الشطر األول‬

‫يف عبارته‪ :‬الشعر ضرورة‪ .‬والدليل عىل ذلك وجوده واستمراره يف كل‬

‫اللغات وكل الحضارات وكل العصور‪ .‬بل الشعر هو األصل‪ .‬هو أصل‬ ‫اللغة‪ ،‬ومن َثمَّ أصل الحضارة؛ ألن اللغة حني بدأت لم تكن نحوًا‬ ‫ً‬ ‫وصرفا‪ ،‬ولم تكن ً‬ ‫فنونا وعلومًا مختلفة تتميز فيها لغة التعبري من‬

‫لغة االتصال‪ ،‬ولغة العلم من لغة األدب‪ ،‬إنما كانت لغة واحدة تعرب‬ ‫يحسه اإلنسان ويشعر به ويخطر له يف اليقظة والحلم ويف‬ ‫عن كل ما ّ‬

‫الواقع والخيال‪ .‬وهذا هو الشعر الذي نستطيع أن نسميه لغة كلية؛‬

‫ألنه تعبري عن وعي كيل‪.‬‬

‫ويف هذا يقول الفيلسوف األملاين مارتن هيدغر‪« :‬فالشعر ال يتلقى‬ ‫اللغة قط كأنها معطاة له من ُ‬ ‫قبل‪ ،‬بل الشعر هو الذي يبدأ بجعل‬

‫جان كوكتو‬

‫هل نسلم بأن الشعر مات؟‬

‫وألن الشعر للتيارات املعادية له مجرد انفعال وتخييل‪ ،‬فهو‬

‫اللغة ممكنة‪ .‬الشعر هو اللغة البدائية األوىل للشعوب واألقوام‪.‬‬ ‫ً‬ ‫خالفا ملا قد يتوهم أن نفهم ماهية اللغة من خالل ماهية‬ ‫إذن يجب‬

‫صور وإيحاءات تثري االنفعال من دون أن تفصح عن معنى محدد‪.‬‬

‫واالجتماع ومن التفكري والتعبري‪ .‬وربما كانت الحضارة العربية خري‬

‫كل يشء موضو ًعا للبحث واملناقشة واملنطق‪ ،‬ونحن نرى أن الشعر لم‬ ‫قبل‪ .‬فهل ِّ‬ ‫يحتل يف هذه األيام املكان الذي كان يحتله من ُ‬ ‫ّ‬ ‫نسلم‬ ‫يعُ ْد‬

‫الشعر»‪ .‬فإذا كان الشعر هو أصل اللغة كما رأينا فهو أصل الحضارة؛‬ ‫ألن الحضارة بدأت من اللغة التي ّ‬ ‫مكنت الناس من التواصل‬ ‫شاهد عىل الدور الذي أدَّته اللغة وأدَّاه الشعر يف قيامها‪.‬‬

‫فالشعر هو ديوان العرب‪ .‬والديوان هنا هو الثقافة والرتاث‬

‫والتاريخ‪ .‬وبنا ًء عىل إدراكنا لهذه الحقائق نعرف أن الشعر ضرورة‪،‬‬

‫ونفهم حاجتنا له؛ ألنه وسيلتنا ألن نعرف أنفسنا ونمثل حاجاتنا‬

‫ونعبرّ عنها باالسم والصورة والصوت والحركة‪ .‬فالشعر وعي كيل‬ ‫ِّ‬ ‫ويمثلها ويغ ِّنيها‪ .‬ومن هنا نستطيع أن‬ ‫يسمِّي األشياء ويصوِّرها‬

‫ولهذا لم يعُ ْد له مكان يف هذا العصر الذي ازدهر فيه العلم‪ ،‬وأصبح‬

‫بأن الشعر مات‪ ،‬وبأنه لم يعد ضرورة‪ ،‬ولم يعد م َْطلبًا؟ أم أن تراجع‬

‫الشعر له أسباب ليس من بينها استغناء الناس عنه‪ ،‬وأنه ال يزال‬ ‫حيًّا قادرًا عىل مواصلة حياته‪ ،‬وال يزال ضرورة وم َْطلبًا‪ ،‬وأن علينا أن‬

‫نبحث عن العقبات التي تمنعه من الوصول للناس‪ ،‬وأن ِّ‬ ‫نذلل هذه‬

‫العقبات؛ ليزدهر الشعر من جديد يف الحاضر كما ازدهر يف املايض؟‬

‫وأنا أرى من خالل اتصايل بالحركة الشعرية املصرية‪ ،‬ومتابعتي‬

‫للنشاط الشعري يف عدد من البالد أن الشعر لم يفقد خصوبته‬

‫نتصدى لتلك التيارات التي تظهر بني حني وحني؛ لتعلن الحرب عىل‬ ‫ً‬ ‫نقيضا للعقل وخصمًا له‪ .‬ملاذا؟ ألن هذه التيارات تجعل‬ ‫الشعر وتع ّده‬

‫وقدرته عىل إنجاب أجيال جديدة من الشعراء املوهوبني‪ .‬والعقبة‬

‫واالستنتاج‪ .‬وكذلك تفعل مع الشعر فتجعله مجرد تخييل وتهويم‬

‫االتصال املنتظم بالجمهور‪ ،‬وتحرمها من هذا الحوار الخصب‪ ،‬وهذا‬

‫العقل مجرد آلة حاسبة‪ ،‬وتحصر نشاطه يف اإلحصاء والتحليل‬ ‫وانفعال‪ .‬وهذا تضييق وتعسف ال يتفق مع ما نحسه ونعيشه ونعرفه‬

‫من تواصل الحواس والطاقات‪ ،‬وتداعي األفكار واالنفعاالت والخواطر‬ ‫والذكريات‪.‬‬

‫نحن ننفعل بعقولنا؛ ألننا نكتشف بها املجهول ونتخيله ونتوقعه‬

‫ونحلم به‪ .‬ونحن يف املقابل نفكر بأفئدتنا‪ ،‬ونحس بها‪ ،‬ونزن األشياء‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مرادفا للعقل‪ .‬وباستطاعتنا أن‬ ‫ونمتحنها‪ .‬ولهذا رأينا القلب يف تراثنا‬

‫نفهم من هذا أن العقل ليس واحدًا يف كل الثقافات‪ ،‬وأن وظيفته‬ ‫تختلف قليلاً أو كثريًا من ثقافة ألخرى‪ .‬ولهذا يتحدث الباحثون عن‬

‫التي تواجهها هذه األجيال تتمثل يف انعدام الوسائل التي تمكنها من‬

‫التجاوب الذي ال بد أن يتحقق بني الشاعر والجمهور؛ يك يستعيد‬ ‫الشعر طاقته ويمأل مكانه‪.‬‬

‫ونحن حني نتحدث عن انعدام الوسائل نشري بالطبع إىل ما ترتب‬ ‫عىل هذه الثورة اإللكرتونية التي خلقت أجهزة ّ‬ ‫ّ‬ ‫محل الكتاب‪،‬‬ ‫حلت‬

‫وكان لها أثر سلبي عىل الكتابة والقراءة‪ ،‬وعىل اللغة التي خسرت‬ ‫كثريًا بموت الكتاب‪ ،‬ولم تعد لها تلك السلطة املعنوية التي كانت‬

‫لها من قبل‪ .‬ونحن نرى أن النقاد الجدد يتحدثون عن موت األدب‬ ‫وموت املؤلف!‬

‫العقل الشرقي والعقل الغربي من دون أن ينكروا بالطبع ما هو‬

‫كيف نواجه هذه التطورات التي تعطل حركة الشعر‪ ،‬وتحول‬

‫واحدًا يف كل اللغات‪ ،‬وليس واحدًا حتى يف اللغة الواحدة‪ ،‬فالشعر‬

‫الشعر نفسه هو الذي سيجيب عن هذا السؤال؛ ألن الشعر‬

‫مشرتك بينهما‪ .‬ونحن ال نعرف من ناحية أخرى أن الشعر ليس‬

‫الغنايئ يشء‪ ،‬والشعر امللحمي أو املسرحي يشء آخر‪ .‬والرومانتييك‬

‫غري الكالسييك‪ ،‬والجديد غري القديم‪.‬‬

‫‪19‬‬

‫بينه وبني الناس؟‬

‫ضرورة‪ ،‬وألنه كما قال بول هازار‪ :‬مطلب أبدي‪ ،‬وألنه بعد كل أزمة‬ ‫يتعرض لها يعود حيًّا من جديد‪.‬‬

‫ملف العدد‬


‫انحالل الهويات‬ ‫الشعرية‬ ‫محمد علي شمس الدين‬ ‫شاعر وناقد لبناني‬

‫البحث في الشعر العربي اليوم‪ ،‬كالشعر نفسه إشكالية مفتوحة على مصراعيها‪،‬‬

‫‪20‬‬

‫ً‬ ‫جميعا؛ ألنها التعبير الراهن‪ ،‬باللغة الشعرية‪ ،‬عن تأجّ ج‬ ‫بل هي إشكالية اإلشكاليات‬ ‫الصراع على الهوية‪ .‬في عالم وحلي مفترس‪ ،‬وفي رياح التوجس والتوحش‪ ..‬إن الحرية‬

‫والذات والموت والمقاومة‪ ،‬شأنها شأن الخبز والنفط والماء والتراب‪ ...‬شأنها شأن‬ ‫الحب والخديعة والخوف والضجر‪ ...‬هي مسائل ال تستطيع القصيدة العربية الراهنة‪،‬‬

‫مهما كانت خاصة وخفية‪ ،‬هامشية أو هاربة‪ ...‬ال تستطيع اإلفالت من شباكها‪ .‬فأنى‬

‫لذبابة الشعر الذهبية الطائرة هذه أن تفلت من عنكبوت الحصار؟‬

‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬


‫املشهد الشعري الراهن‬

‫يصح عن الشعر صحته عىل العلم‪« :‬إن الكون ينتج عن حالة عدم‬

‫من العصر الجاهيل كانت جماعات العرب ترى القصيدة جرحً ا‬

‫استقرار خالق يمكن له أن يتكرر إىل ما ال نهاية‪ .‬وهنا نرى األبدية»‪.‬‬ ‫ً‬ ‫تفوقا وخصبًا‪.‬‬ ‫مع التطور تغدو عالقة القصيدة باللغة أكرث‬

‫وشهدت نهوض العواصم وسقوطها‪ ،‬ثم جلست عىل عتبات‬

‫اإلشارة والبارقة والرقم وما إىل ذلك‪ ،‬ما يجعل الشعر من أكرث‬ ‫الفنون ً‬ ‫قلقا‪ .‬وما نشهده اليوم هو التحول يف مفهوم اللغة وانتقالها‬

‫من جروحها يف الغيب الصحراوي الطويل‪ ،‬وسابقت القصائد بعد‬

‫ذلك الجيوش الغازية يف الفتوح‪ ،‬واختلطت بالشعوب‪ ،‬وتغربت‬ ‫العصور لتنوح مناحات الشعراء الطويلة‪ .‬فمن خصائص العرب‪،‬‬ ‫عىل ما رأى ابن خلدون‪ ،‬تحطيم الهدايا وتخريب العمار‪ ،‬هكذا‬

‫تنفتح الستارة عىل املشهد العربي الراهن‪ .‬والراهن يمتد لسنوات‬ ‫طويلة تعد بالعشرات‪ .‬فالشعر الذي كان صدح يف حناجر متعددة‬

‫يف أواسط القرن السابق‪ ،‬عىل عادته التاريخية‪ ،‬ما لبث أن تمزق‬

‫وتشرد يف بالد كثرية وبعيدة‪ ،‬واندس يف لغات أخرى‪ .‬يلوح يل‬ ‫ً‬ ‫أحيانا مشهد الشعراء العرب املتسكعني عىل أرصفة عواصمهم أو‬

‫هذا التطور الذي يصل اليوم إىل اللحظة العنكبوتية للعالم؛‬

‫من البالغة الكالسيكية إىل برق اإلشارة‪ ،‬ومن مفهوم الوزن إىل‬

‫متاهة اإليقاع؛ إذ يختلط النسق بالفوىض‪ ،‬والشعر بالنرث‪ ،‬والشاعر‬ ‫ً‬ ‫باحثا هو الدكتور نبيل عيل اقرتح تغيري اسم‬ ‫باملتلقي‪ .‬حتى إن‬ ‫املتلقي الحديث إىل «املتليك»‪ ،‬ونشأت مع التطور اإللكرتوين قصائد‬

‫الفيسبوك‪ ،‬والقصائد الفورية‪ ،‬ونص املوبايل‪ ،‬والنص الجماعي‪،‬‬ ‫والنص الرقمي التفاعيل أو الهايرب تكست‪ ...‬هي تجارب كثرية عىل‬

‫عواصم العالم‪ ،‬أشبه ما يكون بأحصنة تموت عىل أرصفة بعيدة‪.‬‬

‫كل حال‪ .‬تحاول اليوم أن تغري من مفهوم ارتباط القصيدة باللغة‬

‫نفسها بأنها شاعرة فرنسية من أصل سوري‪ .‬ويعرف سعدي‬

‫وتسعى العتبار الشعر هباء اإلشارة اإللكرتونية‪ .‬إنها تحاول‪...‬‬

‫تعرف مرام مصري (شاعرة سورية من الالذقية تقيم اآلن يف فرنسا)‬

‫يوسف نفسه بأنه شاعر بريطاين من أصل عراقي‪ .‬وشاعر فلسطيني‬ ‫بأنه شاعر هولندي من أصل فلسطيني‪ ..‬وهلم ج ًّرا‪ .‬حس ًنا‪ ،‬املسألة‬

‫والوزن واإليقاع وهو ارتباط تاريخي وثني أو ديني إىل حدود كبرية‪.‬‬

‫من خمسينيات القرن الفائت إىل اليوم‬

‫يف خمسينيات القرن الفائت‪ ،‬وعىل وجه التحديد يف عام ‪1949‬م‪،‬‬

‫ليست أخالقية عىل ما يظن‪ .‬هي أشد وأصعب من ذلك‪ .‬إن من‬ ‫ً‬ ‫أحيانا إعالن اليأس حتى من الشعر نفسه‪ ،‬ذلك الذي‬ ‫الشعرية‬

‫قالت نازك املالئكة يف مقدمة ديوانها «شظايا ورماد» الصادر بطبعته‬

‫املشهد الدموي عىل بوابة لبنان‪ .‬لكن االنحالل التام لهوية الشاعر‬

‫والقوايف واألساليب واملذاهب ستتزعزع قواعدها جميعً ا»‪ .‬وكأن هذا‬

‫سماه املاغوط «الجيفة الخالدة» وأعلن كرهه له يف لحظة احتدام‬

‫مسألة فيها نظر‪.‬‬

‫األوىل عام ‪1945‬م‪« :‬لن يبقى من األوزان القديمة يشء؛ فاألوزان‬ ‫الحصان الجامح للشعر العربي الذي أطلقته نازك املالئكة‪ ،‬كان أكرث‬

‫شراسة ومغامرة ممن أطلقه‪ ،‬فما لبثت أن ترجلت عنه لينطلق هو‬

‫بعض الهويات العربية اآلن تقتل أصحابها لتنجب من جثثهم‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وأحيانا مشوهة‬ ‫أشخاصا آخرين ذوي مالمح خالسية أو مختلطة‪،‬‬

‫بأكرث مما تنبأت له صاحبته األوىل‪ ...‬وليصل يف جموحه إىل اللحظة‬

‫هنا ليست أخالقية وال سياسية‪ ،‬إنها أخطر من ذلك‪ .‬إنها مسؤولية‬

‫وتحلل أعضائها‪ ،‬لحظة التفتيت الهائلة‪.‬‬

‫وعجائبية‪ ،‬ومع ذلك فالشعر مسؤول عن كل يشء‪ ،‬واملسؤولية‬

‫وجودية؛ ألنه يف الشعر واحتداماته تتجىل عالمات الصراع عىل‬

‫‪21‬‬

‫الشعرية العربية الراهنة‪ .‬لحظة التبدد الخطري وانفالج دم القصيدة‬

‫الوجود‪ .‬فالشاعر ليس حارسً ا عىل باب األخالق لكنه بالتأكيد‬ ‫حارس عىل باب الهوية‪ .‬ومن ألف عام خلت قال األصمعي‪:‬‬

‫«الشعر نكد بابه الشر‪ ،‬فإن دخل يف الخري ضعف»؛ يقصد الصراع‪.‬‬ ‫اللحظة الراهنة‬

‫اإلمساك باللحظة الشعرية الراهنة عمل متقص وصعب‪،‬‬

‫يقتيض إرهاف الحواس جميعً ا إليقاع الحياة الدائرة فينا وحولنا‬

‫من خالل اللغة واالستعارة الشعرية؛ من النملة الدابة عىل الرتاب‬

‫إىل املحراب‪ ...‬ومن انتظام الشوارع واملدن إىل الخراب‪ ...‬فلكل‬ ‫يشء لغة‪ ،‬واللغة هنا تتجاوز مفهوم التقليد والقاموس لتندرج‬

‫يف سيميولوجيا اإلشارة العالمة (‪ )signe‬وبمقدار ما هي اللحظة‬ ‫الشعرية لحظة إشارية برقية وحسية‪ ..‬إال أنها ً‬ ‫أيضا إشارة يف‬ ‫الروح‪ ،‬بارقة ميتافيزيقية‪ ،‬وما يقوله بريغوجني «نال جائزة نوبل‬

‫يف الكيمياء عام ‪1977‬م) املتوفى ‪2003‬م يف كتابه «بني الزمن واألبدية»‬ ‫نازك المالئكة‬

‫ملف العدد‬


‫تحركت القصيدة الحرة العربية بعد نازك والسياب والبيايت‬

‫القتل (املعنوي)‪ .‬ولم ال؟ كل تجديد خروج عىل النسق ‪ORDRE‬‬

‫أساليبها ولغاتها عىل أرض واسعة مفتوحة كثرية الفسوخ‬

‫الخلل أو الفوىض يف النظام‪ .‬والعبارة علمية أكرث مما هي أدبية أشار‬

‫والحيدري مع جماعة مجلة شعر وشعراء مجلة اآلداب بكل‬

‫واملطبات‪ .‬وقد ظهر الصراع األسلوبي يف القصيدة العربية الحرة‬ ‫والحديثة قريبًا مما قاله عبدالقاهر الجرجاين حول «الجمع بني‬

‫من خالل الالنسق ‪ .DESORDRE‬يسمونه بالفرنسية الكاوس أي‬ ‫إليها عالم الكيمياء بريغوجني‪.‬‬

‫اهتم جان جينيه يف الغرب باملرىض واملهمشني والشواذ‪.‬‬

‫رقاب املتنافرات» القصيدة تحاور ذاتها وتحاور سواها عىل امتداد‬

‫وهو ما تحاول علوم ما بعد الحداثة يف الطب والفلك والفيزياء‬

‫تطور الحياة غريزة التجاوز أو التغيري بسبب امللل‪ .‬إن الضجر من‬

‫عىل األصول قديم‪ .‬وجد الباحثون يف الشعر القديم ‪ًّ 13‬‬ ‫نصا‬

‫الرقعة والزمن‪ .‬إن من أسباب انفجار البنية اإليقاعية‪ ،‬إضافة إىل‬ ‫اإليقاعات القديمة أدى إىل والدة القصيدة الحديثة ولم ال؟ دعك‬ ‫من تسمية التجديد باملروق واللعنة والفضيحة‪ ...‬إىل غري ذلك‪،‬‬

‫والرياضيات االنتباه إليه اليوم‪ ،‬ونحن نرى يف العربية أن الخروج‬

‫خارجً ا عن أوزان الخليل بن أحمد الفراهيدي؛ من بينها قصائد‬ ‫لشعراء فحول كما ورد يف المية المرئ القيس‪ ،‬ويف بائية مشهورة‬

‫لعبيد بن األبرص مطلعها‪« :‬أقفر من أهله ملحوب فالقطبيات‬

‫إنه بكل بساطة الجديد‪ .‬وهو صراع عىل سلطة اللغة التي هي‬ ‫سلطة الحياة نفسها‪ .‬لم تشأ مثلاً‬

‫فالذنوب» رأى ابن رشيق أن القصيدة غري موزونة‪ .‬كذلك ميمية‬

‫أن تتسلم السلطة الشعرية‬

‫أبي الصلت‪ ،‬كلها صنف يف باب الشاذ واملختل واملضطرب‪ ،‬وهي‬

‫جماعة مجلة شعر اللبنانية‬

‫الجديدة بسالسة؛ بل سلكت‬ ‫أساليب عرفها الغرب فيها‬

‫التشويش والتخريب حتى‬

‫للمرقش األكرب‪ ،‬والمية لعدي بن زيد العبادي‪ ،‬وأبيات ألمية بن‬

‫لشعراء فحول‪ .‬حتى إن شاع ًرا متواضعً ا كأبي العتاهية كان يقول‪:‬‬ ‫«أنا أكرب من العروض» ويعلل ذلك بمحاكاة شعره ألصوات‬

‫يسمعها «يراجع كتاب اإلبداع العربي للدكتور عبداملجيد زراقط‪،‬‬ ‫وكتاب االختالالت العروضية يف السكون املتحرك للدكتور علوي‬ ‫الهاشمي‪ ،‬اتحاد الكتاب يف اإلمارات‪1992 ،‬م»‪.‬‬

‫فإذا كان الشعر العربي الحديث بأساليبه وأشكاله‬ ‫ولغاته يرتكب من أنظمة إيقاعية متاّلفة أو متنافرة‪...‬‬

‫‪22‬‬

‫وفيه كثري من الخروج عن القاعدة‪ ،‬فلم ال؟‬

‫القصيدة الجديدة‪ .‬أجيال وتجارب جديدة‬

‫«وقال يا بني ال تدخلوا من باب‬

‫واحد وادخلوا من أبواب متفرقة»‬

‫محمود درويش‬

‫القصيدة ميتة والشعراء متسكعون‬ ‫ً‬ ‫وأحيانا بشذرات الفيسبوك‪ .‬غالبًا ما يرتفع السؤال‪ :‬إنه زمن غري‬ ‫يف بعض قصائد النرث تختلط القصيدة بالقصة القصرية‬

‫شعري‪ .‬القصيدة ميتة والشعراء متسكعون عىل هوامش املدن واملنايف والجئون إىل الشبكة العنكبوتية‪ .‬نعم‪ ،‬هذا صحيح‪ .‬لم تعد‬ ‫الكتابة مهنة مشتهاة‪ ،‬وغاب ذلك االفتتان السابق بفكرة النخبة‪ .‬لم يعد العمل التشكييل مثلاً ‪ ،‬صاحب سطوة‪ .‬ال تجد اآلن الشاعر‬ ‫النجم‪ .‬وربما انكفأت الفنون الجميلة من شعر ورسم ومسرح ورقص تجاه النفايات‪ ...‬لم تعد لوحة كلوحة رامربانت أو غويا أو‬

‫فالسكيز أو بيكاسو أو دايل تفعل فعلها‪ .‬صارت تقنيات السعر والغالرييهات تتحكم باللوحة‪ .‬وغدت الفنون هوايات خاصة «ال‬

‫ضرر فيها»‪ ،‬أما أن تجمع الجميل واملفيد معً ا أو الجميل والجليل عىل غرار ما كان يحصل يف املايض فأمر من الصعوبة بمكان‪ .‬فال‬ ‫بد من االختيار‪ ،‬فإما الجميل الصعب الخاص واملعزول‪ ،‬وإما السريع املفلوش عىل الشاشات والعابر كفقاعة ماء‪.‬‬

‫من املهم اإلشارة كما يقول الشاعر والناقد األمرييك «ويسنت أودن» يف كتابه «محنة الشاعر يف زمن املدن» (ترجمة سهيلة‬

‫أسعد نيازي) إىل أن التطورات التقنية االستهالكية واالتصاالت كونت مساحة بشرية جديدة ال تنطوي تحت خانة املساحات البشرية‬ ‫السابقة‪ .‬لقد ولد ما سماه الفيلسوف الدانمريك كريكغارد (‪ )public‬وهم غري محددين بمكان وزمان؛ بل ينتمون إىل وسائل‬

‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬


‫«سورة يوسف‪ ،‬اآلية ‪ .»67‬التجربة الشعرية العربية الحديثة‬

‫واملعاصرة حقل خصب ومتنوع يف اإليقاع واألسلوب‪ .‬لكنه يكاد‬ ‫يكون حقلاً مهجورًا‪ ،‬وهو حقل متطور ً‬ ‫أيضا من حيث املعاين‪ .‬من‬ ‫وجهة النظر املوازية الفكرية والنقدية‪ .‬لن تعرث سوى عىل اسم واحد‬

‫ابتكر مفردة هي مفتاح قصائد بدر شاكر السياب الخائفة الرحمية‬ ‫امللتجئة للموت أو الكهف‪ ،‬كمخرج من ظلمات الحياة ومن خراب‬

‫الجسد املريض‪ ،‬هو إحسان عباس‪ .‬قال باختصار‪« :‬قصائد السياب‬

‫قصائد كهفية»‪ .‬لكننا لو نظرنا إىل تجارب شعرية ضخمة كتجارب‬

‫أدونيس والبيايت والحيدري وعبدالصبور وأنيس الحاج واملاغوط‬ ‫وخليل حاوي مثلاً ‪ ،‬وهم من الرياديني األوائل‪ ،‬فأي عمارة نقدية‬

‫أو عمائر نقدية نشأت يف مقابلهم؟ أقصد هنا مقارنة افرتاضية‬ ‫تتناول سطور الحداثة الشعرية الغربية وما رافقها من تطور فكري‬

‫فلسفي يف العمارة النقدية‪ ،‬فاملستقبلية والدادائية والسريالية‬ ‫مثلاً ‪ ،‬كما الوجودية‪ ،‬تساوي تناظ ًرا مزدوجً ا يف وقت واحد‪ :‬اإلبداع‬

‫فاضل العزاوي‬

‫عىل حني أن طائر اإلبداع العربي يكاد يحلق بجناح واحد‪،‬‬

‫الفني املتنوع من شعر ورسم ومسرح وسينما وغري ذلك‪ .‬واإلبداع‬

‫جاء أمل دنقل بني شاعرين معدودين يف مصر؛ صالح عبد الصبور‬

‫يف وقت واحد‪ .‬ويف مقابل بروتون وإليوت وإيلوار ورينيه شار‬

‫وهو شاعر جنائزي عمل عىل ذلك «اإلملاح البودلريي‬

‫النظري املرافق يف الفكر والفلسفة‪ .‬سارتر روايئ وفيلسوف وجودي‬ ‫وأراغون‪ ،‬سنجد روالن بارت وجوليا كريستينا وتودوروف‪...‬‬

‫البحث في الشعر العربي اليوم‪،‬‬ ‫كالشعر نفسه إشكالية مفتوحة على‬ ‫مصراعيها‪ ،‬بل هي إشكالية اإلشكاليات‬ ‫جميعا؛ ألنها التعبير الراهن‪ ،‬باللغة‬ ‫ً‬ ‫الشعرية‪ ،‬عن تأجج الصراع على الهوية‬

‫وأحمد عبد املعطي حجازي‪ ،‬جاء بشعر حاد وكابويس وغرائبي‪.‬‬

‫الذي يصل ما بني الغناء والرغبة» «ع‪ .‬بيضون السفري عدد ‪30‬‬ ‫مايو ‪2003‬م»‪ ،‬وينطوي عىل شطح سريايل وصورية سينمائية‬ ‫تعبريية وحشية توازن بني االنتهاك واملخيلة السوداء‪ .‬نلحظ يف‬

‫شعر أمل دنقل قسوة هائلة كفأس قاطعة‪ .‬وشعره كضريح‬

‫‪23‬‬

‫من بلور وعظام مسننة‪ .‬فيه مزاج السم (كداء ودواء) كما‬

‫وصفه األبنودي‪ .‬ولد عام ‪1940‬م‪ ،‬ومات بالسرطان يف جسد‬

‫الهزيمة العربية‪ .‬يف أشعاره شحنة نقدية يتفجر العذاب‬ ‫والنواح يف خاليا النص‪ .‬يقف عاريًا ويعري البالد املهزومة‪،‬‬

‫وبدأ يضرب ضرباته القوية منذ قصيدة «البكاء بني يدي زرقاء‬

‫االتصال‪ ،‬ال هم مجتمع وال جماعة وال أفراد متميزون‪ .‬إنهم «عمالق تجريدي موجود وعقيم‪ ،‬بمعنى أنه كل يشء وال يشء يف آن»‪.‬‬ ‫وهم يختلفون عن مفهوم الجماعة‪ ،‬وعن مفهوم الرعاع‪ ،‬وعن مفهوم العامة‪ .‬هم تجمعات افرتاضية تتوجه إليهم إشارات‬

‫االتصاالت‪ ،‬وعليهم يعول يف حركات جماهريية كثرية‪ ،‬ويف اتصاالت واسعة‪ ،‬أداتها السرعة والاليك‪ ،‬والخفة واإلشارة‪ .‬وقد تجد‬ ‫اآلن من يمارس كتابة النرث اليوم من خالل التغريدات املتبادلة؛حيث يدخل الشعر يف لحظة الشواذ هذه‪ ...‬حيث كل واحد هو‬

‫شاعر للحظة‪ ،‬وبطل للحظة‪ ،‬ومشهور للحظة‪ ،‬ومهم للحظة‪ ...‬والخالصة‪ ،‬هل ثمة من خالصة؟‬

‫يفر الشعر اليوم من اللغة املتعالية األيديولوجيا وادعاءات املايض يف البطولة والخلود إىل املقهى واإلنرتنت واملرتو‪ .‬إنه يتذرر‬ ‫ً‬ ‫أحيانا أن يرتك عناوينه بال تنسيب‪ .‬فينسرح يف شكل نرثي‬ ‫ويتصعلك ويطرق أبوابًا كثرية ليفك عن نفسه عزلته الصعبة‪ .‬ولعله يؤثر‬

‫يصلح لقصة أو مقالة أو تعليق‪ ،‬ولعل الشعر غدا قليلاً ‪ ،‬فقد انحل يف فنون أخرى كثرية‪ ،‬وتوسع شأن اللغة يف الحرف واإلشارة‪.‬‬ ‫وحني كان هم النرث أن يكون مبذولاً للجميع بحيث إنه موجود ليك يحيك «من كليلة ودمنة إىل ألف ليلة وليلة إىل ثرثرات الباعة وربات‬

‫املنزل والخدم‪ ...‬إىل سرد الروايات والقصص» صار هم بعض الشعراء اليوم أن يكون هكذا‪ ..‬أن يلتحم بالنرث يف سيوالته وسردياته التي‬

‫ال تحد‪ ،‬لكن يف الجانب اآلخر من افرتاس النرث للشعر «واالفرتاس املبني هو افرتاس الرواية له» ما زال ثمة من يتخاطبون فيما بينهم‬ ‫بربق الشعر وانخطاف اللغة‪ ،‬ويتداولون فيما بينهم شمس املجاز العظيم «كما يقول نريود» شمس القصيدة‪.‬‬

‫ملف العدد‬


‫اليمامة» يف ‪ 13‬يونيو ‪1967‬م؛ حيث أدخل التاريخ يف قصيدته‬ ‫ال كورود حجرية بل كألغام قابلة للتفجري‪ ،‬نقل أمل دنقل‬

‫تجربة التأمل امليتافيزيقي لعبدالصبور من الغيب إىل الرتاب‪،‬‬

‫إىل صعيد مصر والشوارع واملقاهي والناس‪ .‬وشعره وإن كان‬ ‫ً‬ ‫هادئا يف شكله وتركيبه ولغته‪ ،‬إال أنه يف العمق صاخب وقادر‬

‫عىل لغم الصورة بكلمات قليلة «الزهور تحمل أسماء قاتليها‬ ‫يف بطاقة» واستعمل األقنعة التاريخية؛ ليقدم قصيدة عربية‬ ‫حديثة مشحونة ونقدية‪.‬‬

‫يشيد محمود درويش بالتجربة اللغوية يف دواوينه األخرية‬

‫«ملاذا تركت الحصان وحيدً ا» و«كزهر اللوز أو أبعد» و«جدارية»‬

‫إىل مناطق جديدة من خالل التدوير اإليقاعي والقوايف يف‬ ‫القوايف‪ ،‬ويكتب القصيدة كلعبة لغوية بارعة؛ حتى يتحول‬ ‫شعره إىل نقر إيقاعي يف اللغة‪ .‬يقول يف الجدارية‪« :‬واسمي إذا‬

‫أخطأت لفظ اسمي بخمسة أحرف أفقية التكوين يل‪/‬ميم املتيم‬

‫وامليتم واملتمم ما مىض حاء الحديقة والحبيبة حريتان وحسرتان‪/‬‬ ‫ميم املغامر واملعد املستعد ملوته املوعود منفيًّا مريض املشتهى‪/‬‬

‫واو الوداع‪ ،‬الوردة الوسطى‪ /‬والء للوالدة أينما وجُ دت‪ ،‬ووعد‬

‫‪24‬‬

‫إياد الحكمي‬

‫الخصب والتوليد‪.‬‬

‫يف الجهة الثانية من التجارب الشعرية الجديدة‪ ،‬وبفسحة‬

‫واسعة من حرية التجريب‪ ،‬بسبب التحلل من الوزن والقافية‪،‬‬ ‫نعرث عىل حساسيات شعرية كثرية مفارقة كليًّا أو جزئيًّا‬

‫لحساسيات آباء قصيدة النرث العربية‪ .‬مخففة مهمشة طريفة‬

‫ْ‬ ‫درست‪ ،‬ودوري‬ ‫الوالدين‪ /‬دال الدليل‪ ،‬الدرب‪ ،‬دمعة‪ /‬دار ٍة‬ ‫يدللني ويُدْ ميني وهذا االسم يل‪ /‬أما أنا وقد امتألت‪ /‬بكل أسباب‬

‫أو ساخرة يومية ومن دون ادعاءات بنيوية‪ ،‬بشرية وأكرث يومية‪.‬‬

‫يف التجربة الشعرية العربية املؤسسة عىل اإليقاع الوزين‬

‫ذهنية نرثية‪ ،‬إخبارية أكرث مما هي غنائية أو بالغية؛ وأكرث مما‬

‫الحصني وهو يف مجموعته «كأين أرى» «من منشورات‬

‫عليوان نعرث عىل بصمات اإلنرتنت وظالل األرقام واإلشارات ويف‬

‫الرحيل‪ /‬فلست يل‪ /‬أنا لست يل‪ /‬أنا لست يل»‪.‬‬

‫من بعد الرواد‪ ،‬نذكر تجربة الشاعر السوري عبدالقادر‬ ‫اتحاد الكتاب العرب ‪2006‬م» يضرب عىل وتر عميق وصاف‬ ‫كعيون املاء يف الجبال «دعاين إىل نفسه بالذي يستطيع من‬ ‫النخل والورد‪ /‬أهرق جرة خمر بروحي‪ /‬وسرح غزالنه يف‬ ‫سفوحي‪ /‬ونادى عيل بأوصافه يف املرايا‪ /‬فكان‬ ‫كأن سواه ينادي سوايا‪ /‬وقال أقل وأكرث‪/‬‬ ‫ولكنني لم أكن أتذكر‪ /‬نصف الحقيقة أين‬ ‫رأيت‪ /‬ونصف الحقيقة أين نسيت» «من‬

‫قصيدة ماء كوثر»‪ .‬هذه النماذج املتنوعة‬

‫التي إذا شددناها آلخرها عىل صعيد عربي‬

‫«وأستثني التجربة اللبنانية وهي خصبة»‬

‫تصل آنيًّا إىل الشاعر الشاب الفلسطيني املقيم‬

‫يف اإلمارات عبدالله أبو بكر‪ ،‬والسعودي‬ ‫املقيم يف الواليات املتحدة األمريكية‬ ‫إياد الحكمي تبني أن البنية‬ ‫اإليقاعية للشعر العربي يف‬ ‫لحظته الراهنة املؤسسة عىل‬ ‫الوزن‬

‫سركون بولص‬

‫والتفعيلة‬

‫هي‬

‫بنية متطورة بخاصية‬

‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬

‫قصائد منازل ومقهى وشارع ومكتب ويدوية أكرث مما هي‬ ‫هي أخالقية وتبشريية‪ .‬ويف بعض األصوات األخرية مثل سوزان‬

‫نصوص الشاعر املصري الشاب عماد أبو صالح نعرث عىل روح‬ ‫متصعلكة مشردة ومتمردة ً‬ ‫أيضا «خراف راقدة تلمس ضوء‬ ‫القمر املخنوق‪ /‬نسوة جالسات عىل العتبات‪ /‬ينظرن بفرح‪/‬‬

‫للجالليب املشنوقة عىل املسامري‪ /‬ويتخيلن األزواج داخلها» من‬ ‫قصيدة ليلة الدلتا من مجموعة «كلب ينبح ليقتل الوقت» طبعة‬

‫خاصة ومحدودة القاهرة ‪1996‬م‪ .‬وقصائد هذا الشاعر تفيض بألم‬

‫كاسر عبثي وفائض عن االحتمال‪ .‬إصداراته عىل العموم خاصة‬ ‫ومحدودة وهي‪ :‬عجوز تؤمله الضحكات‪ /‬جمال كافر‪ /‬مهندس‬ ‫العالم‪ /‬قبور واسعة‪/‬أنا خائف‪ /‬كلب ينبح ليقتل الوقت»‪.‬‬

‫يف العراق انفرطت البالد‪ .‬وشكلت تجربة فاضل العزاوي‬

‫كثيرون يطبعون دواوينهم على‬ ‫حسابهم بنسخ محدودة‪ ،‬يوزعونها‬ ‫باليد على أصدقائهم أو ينشرون‬ ‫قصائدهم من خالل مواقع اإلنترنت‬ ‫يقدمون حساسيات شعرية مؤلمة‬ ‫ونفاذة وخاصة‬


‫غال ًبا ما يرتفع السؤال‪ :‬إنه زمن غير‬ ‫شعري‪ .‬القصيدة ميتة والشعراء‬ ‫متسكعون على هوامش المدن‬ ‫والمنافي والجئون إلى الشبكة‬ ‫العنكبوتية‬

‫يف أملانيا‪ ،‬وتجربة سركون بولص يف نيويورك ما يمكن أن‬ ‫نسميه التشظي الشعري ودمار األصل‪ ،‬فاضل العزاوي‬

‫يفرع القصيدة ويكرها كشريط تسجييل من صور وإيقاعات‪...‬‬ ‫ً‬ ‫تمزيقا يشبه تمزق‬ ‫وسركون بولص يمزق الجملة الشعرية‬

‫الجسد العراقي املتناثر يف الديار البعيدة‪ ...‬وتتحول اللغة يف‬ ‫شعره إىل قشعريرة‪ .‬وقد استخدم الرسوم واألرقام والدوائر‬ ‫وقطع الكلمات تقطيعً ا يف الجملة من أجل العبور إىل الجهة‬ ‫الثانية من الكالم «بقول جالل الدين الرومي» إنه يكتب‬

‫الكتابة املضطربة للمعنى‪ ..‬املعنى العابر الذي كما يقول «دائمً ا‬ ‫يدخن منتظ ًرا»‪ .‬ويف قصيدة «حانة الكلب» بصمات من آلية‬ ‫أمريكية تظهر يف التقطيع والرصد العددي واستعمال األرقام‬

‫والصورة الهندسية البصرية‪ ..‬يكتب «قصيدة اللكمة» حيث‬ ‫ال جفن عاطفيًّا للشعر‪ .‬ويف قصائده ما نسميه سرد السرد‪،‬‬

‫والشعر ضد الشعر‪ ،‬وبرمجة كتابية للنص‪،‬وهو ضغط من‬ ‫ً‬ ‫أحيانا يفلت من خالل استخدام‬ ‫اآللية األمريكية عىل أصابعه‪.‬‬

‫عبدالله أبو بكر‬

‫الرواد وبعدهم حتى اآلن‪ .‬إن يل فيها ً‬ ‫بحثا منفصلاً عىل حدة‪ .‬كذلك‬

‫التجربة السعودية عرب أجيالها‪ ،‬وتدخل يف هاتني التجربتني إىل‬ ‫جانب الفصحى العامية والزجل يف لبنان والشعر النبطي يف اململكة‪.‬‬ ‫يسعى السوري بندر عبدالحميد السرتجاع ابن املوسيقا‬

‫املجنون «العصفور» يف شعره ويف الطرف املقابل يقف الشاعر‬ ‫السوري نوري الجراح شاع ًرا دراميًّا بالحس واملعنى‪ .‬قصائده‬

‫كاللهاث‪ .‬يقول‪« :‬ألنني مجوف وسهل االصطياد‪ /‬لم يبق‬ ‫من السلم عىل السلم غري زلة القدم» «من قصيدة السم‬ ‫يف املطر»‪ ،‬ويرى أن الشاعر «يولد انتحاريًّا ويولد منتح ًرا»‬ ‫«موقع جهة الشعر عىل اإلنرتنت»‪ .‬ثمة ورثة يظهرون يف زمن‬ ‫غري شعري‪ .‬يكتب الفلسطيني زكريا محمد‪« :‬عبأنا مصايرنا‬

‫امليثولوجيا أو الثيولوجيا «لو كنت يف مركب نوح»‪ ،‬ويلجأ إىل‬

‫يف أكياس ورميناها يف الشاحنات»‪ .‬ويقول يف ضربة شمس‬

‫«بني القصبات املحطمة طائر أحمر يجري أو يحلق نحو نقطة‬

‫دواوينهم عىل حسابهم بنسخ محدودة‪ ،‬يوزعونها باليد عىل‬

‫إشارات شبيهة برقم أور وإيماءات من مشرق سعدي الشريازي‬ ‫مجهولة»‪« ...‬قصيدة مشهد باتجاه واحد»‪ ..‬لكن كل ذلك هو‬

‫شكل من التذكر يف النسيان‪.‬‬

‫عم ًدا ال أخوض يف التجربة الشعرية اللبنانية وهي خصبة قبل‬

‫‪25‬‬

‫«املؤسسة العربية ‪2002‬م»‪« :‬بكاؤنا يخصنا»‪ .‬كثريون يطبعون‬ ‫أصدقائهم أو ينشرون قصائدهم من خالل مواقع اإلنرتنت‪،‬‬

‫يقدمون حساسيات شعرية مؤملة ونفاذة وخاصة‪ .‬يقول مازن‬ ‫معروف يف ديوان له بعنوان «الكامريا ال تلتقط العصافري» دار‬ ‫أيضا تتغوط‪ /‬واملطر ً‬ ‫األنوار ‪2004‬م‪« :‬والعصافري ً‬ ‫أيضا يتسبب‬

‫بفيضانات الصرف الصحي‪ /‬وأنا وأنت عكروتان تحت شجرة‬ ‫مليئة بالغبار والحشرات‪( .‬من قصيدة غرنكا) إنها كتابة أولية‬ ‫وخاصة‪ .‬يقول‪« :‬أمتطي رأيس كمن يمتطي بغال» وهي نصوص‬

‫قصرية مكتوبة بتقنية الصنارة يف متابعة السمكة واصطيادها‪.‬‬

‫وهي تصلح قصيدة نرث وقصة قصرية مثل قصيدة الرصاصة‪:‬‬ ‫«رصاصة طائشة بعد أن عربت غرفة الجلوس‪ /‬فاملكتبة فممر‬

‫البيت‪ /‬فالصورة التي تجمعنا يف رحلة نهر الكلب‪ /‬فالغسالة‬ ‫األوتوماتيكية وأمي املرهقة‪/‬الرصاصة أحنت قليلاً مسارها‪/‬‬ ‫بفعل الجاذبية‪ /‬واستقرت بأسفل رأيس يف الخلف»‪.‬‬

‫مازن معروف‬

‫ملف العدد‬


‫ســؤال الـشـعــر‬ ‫منصف الوهايبي‬ ‫شاعر وأكاديمي عضو المجمع التونسي‬ ‫للعلوم واآلداب والفنون «بيت الحكمة»‬

‫كثي ٌر ممّ ا نقوله عن الشعر شعراء وقرّاء ّ‬ ‫ونقا ًدا في هذا البلد العربي أو ذاك‪ ،‬يحتاج إلى قدر‬ ‫غير يسير من التوقف والتثبت وحسن التناول‪ ،‬وإلى شواهد وأسانيد من األدب والفنّ الحديث‬ ‫تنهض له وتعضده‪ .‬لكن ال يذهبنّ في الظن أنّ سؤال الشعر من المتعاود الثقافي‪ ،‬أو هو‬

‫من المسائل المحسومة‪ .‬وإذا كان أهل الغرب‪ ،‬وقد صارت آدابهم وفنونهم بمنزلة «معجز»‬

‫‪26‬‬

‫ّ‬ ‫يتحدانا مهما حاولنا أن ندانيه أو نجاذبه مكانته‪ ،‬يعيدون طرح سؤال الشعر وأزمته أو يعودون‬

‫له وعليه‪ ،‬بعد أن استأثر بهم‪ ،‬موضوع «ما بعد الحداثة»؛ فما أحوجنا نحن إلى تأصيل السؤال‬ ‫في سياقه التاريخي والحضاري‪ ،‬بعد أن آلت «الحداثة الشعريّة» لدينا إلى ما آلت إليه في‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يتسلق غافلاً عن أنّ‬ ‫تخطى الس ّتين‪ ،‬وصار يتسلق على جذوعه من‬ ‫«شعرنا الحديث» الذي‬

‫نعمة الشعر‪ ،‬هي في إيقاعه ومنه؛ هذا اإليقاع الذي هو انتصار اإلنسان على الزمن‪ ،‬أو سبيله‬ ‫إلى جعل الزمن يرقص على نغم إنساني‪ ،‬وليكن!‬

‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬


‫فربّما كان حالنا أشبه‪ ،‬كما يقول بعضهم؛ بحال‬

‫يف ّ‬ ‫ظل تقاليد نوعيّة مخصوصة‪ ،‬أو يف ضوئها‪ ،‬لكنّ عمله‬ ‫ال يُقاس بها فحسب‪ّ ،‬إنما ً‬ ‫أيضا بما يجرتح من احتماالت‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫وخيطا‬ ‫خيطا من هنا‬ ‫كيف بدأ الفلم‪ .‬ثمّ يتماسك‪ ،‬ويلتقط‬ ‫من هناك؛ وشي ًئا فشي ًئا يلمّ باألحداث أو يمسك بخيطها‪،‬‬

‫قد يكون موطن أزمة الشعر يف هذا الزواج العريف بني‬

‫شخص يدخل إحدى دور السينما‪ ،‬بعد بداية العرض؛ فيأخذ‬ ‫ّ‬ ‫بالتلفت حوله‪ ،‬ويهمس للجالس بجواره سائلاً عمّ ا حدث أو‬

‫ويتع ّرف إىل الشخصيّات‪ .‬وهكذا يبدأ بمتابعة الفلم‪ ،‬من‬

‫دون كبري عناء‪ ،‬أو هكذا يتهيّأ له‪ ،‬ويتجاوز موقف «الذي‬ ‫ّ‬ ‫متأخ ًرا»‪ .‬ويف هذه الصورة كثري أو قليل من حسن الظنّ‬ ‫وصل‬ ‫ّ‬ ‫متلق ً‬ ‫باملتلقي‪ ،‬وربّما باملنئش ً‬ ‫ٍّ‬ ‫أيضا‪.‬‬ ‫أيضا؛ وهو‬

‫والنص ‪-‬أيّ ّ‬ ‫ّ‬ ‫نص‪ -‬ينشأ «قِرا ِئيًّا»‪ ،‬وهو يقرأ خاماته وما‬ ‫ّ‬ ‫يتحدّ ر إليه من نصوص وأجناس أخرى‪ .‬إنما يعنينا من هذه‬ ‫الصورة ّأنها تصلح مثلاً لكثري من الشعراء والك ّتاب الذين‬

‫انخرطوا يف مشهد األدب الحديث‪ ،‬وقد قامت معامله‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وتوطأت سبله‪ ،‬أو هكذا تهيّأ لهم؛ فإذا هم ال يكادون‬

‫وإمكانات فيها‪.‬‬

‫ثقافتنا وثقافتهم‪ ،‬منذ اللحظة الفارقة التي سمّ يناها «صدمة‬ ‫الحداثة»‪ ،‬وليس يف هذا أيّة غضاضة‪ ،‬فالحداثة فيما يق ّرره‬

‫شمويل‪ ،‬ونزوع إىل القانون الذي ما‬ ‫مؤرّخوها‪ :‬فعل كوين‬ ‫ّ‬

‫بعده قانون‪ .‬هي ليست معيارية تنهض عىل قواعد تستتبع‬ ‫الحكم بالصواب أو الخطأ‪ ،‬إنما عىل قوانني وأحكام عامة‪.‬‬

‫للكيل والجزيئ معً ا‪ ،‬فإذا‬ ‫والقانون رهْ ن بمدى استيعابه‬ ‫ّ‬

‫ما تدافعا يف موضوع مادّته األدب أو الفنّ ؛ وهما كثريًا ما‬ ‫يتدافعان‪ ،‬استدعى األمر إعادة نظر يف كفاية القانون‪.‬‬

‫وللحداثة األدبيّة يف الغرب قوانني غري تلك التي تجري‬ ‫عليها الحداثة األدبيّة يف ثقافتنا‪ ،‬فاألوىل ّإنما نشأت يف املدينة‬

‫يالمسون أرضه‪ ،‬أو يمسكون بخيط منه‪ .‬وإذا هم يعيشون‬

‫ّ‬ ‫وتجلياتها‪ ،‬حيث يغدو أي كالم عليها‪،‬‬ ‫أو هي من مفرداتها‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫فضفاضا‪ ،‬إن هو لم يُباشرها يف فضاء املدن الغربيّة‬ ‫متعذرًا أو‬

‫ويلوي بعضها عىل بعض‪ .‬وهل تشفع ثقافة محدودة لشاعر‬

‫أو تحوّله إىل مج ّرد أداة من أدواتها ورقم من أرقامها‪ .‬عىل‬

‫يف هذا املشهد أكرث ممّ ا يعيشونه‪ ،‬وإذا هم ال يربحون موقف‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تلتف‪،‬‬ ‫متأخ ًرا»؛ وقد أخذت أحداث املشهد‬ ‫«الذي وصل‬ ‫أو كاتب أن يشارك يف مشهد هو أشبه بأيقونة لفظيّة مغلقة‪،‬‬ ‫تمازجها عناصر وأمشاج من حداثة غربيّة تهجم عىل األدب‬

‫العربي منذ بدايات القرن املايض مثل وحيد القرن؟‬

‫هدم املواضعات‬ ‫ُ‬ ‫أحب لهذه الصورة أن تحمل عىل وجه ال‬ ‫غري ّأنني ال‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يتنقص شعرنا العربي الحديث‪،‬‬ ‫أرتضيه‪ .‬فلست بالذي‬ ‫ويتحيّفه‪ .‬فاملدوّنة الشعريّة شأنها شأن قرينتها الروائيّة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وطلقت االتجاه‬ ‫تحفل بأعمال استوعبت منجزات العصر‪،‬‬ ‫التعبريي القائم عىل التصريح باملعنى‪ ،‬يف شكله املحدّ د‪،‬‬ ‫وح ّررت العبارة من عالئق املجاورة املتعاودة والتجانس املألوف‬

‫بني الصفة واملوصوف‪ ،‬وهدمت املواضعات اللغويّة القديمة‬ ‫املتواترة حيث الصورة ّ‬ ‫ظل اللغة وهي تتو ّكأ عىل متخيّل‬ ‫ّ‬ ‫التدفق الوجداين؛ وليست اللغة‬ ‫داثر‪ ،‬وتسرتسل إىل نوع من‬ ‫‪ -‬الشعر التي ال نقيض لها؛ أعني تلك التي تقدح املضمر‬

‫واملمكن‪ ،‬وال تتأبّد يف مكرور الصور والرتاكيب؛ حتى ال تنلحق‬ ‫بأشباه لها ونظائر‪ .‬وبعض أدبنا الحديث يشحذ عن دراية‬

‫«نشوة الكالم يف الالمعنى»‪ ،‬تلك التي نستشعرها يف الفنّ‬

‫الحديث املأخوذ بالتجريب وهو ينقلنا من كتابة املغامرة إىل‬

‫مغامرة الكتابة حيث املبادرة للغة‪.‬‬

‫وربّما نحن نكتب لنسرت ونخفي‪ ،‬ال لنفصح ونعرب‪ .‬وال‬

‫نوعي مثلها مثل‬ ‫نظنّ أنّ هناك من يماري يف أنّ الكتابة عمل‬ ‫ّ‬ ‫القراءة املحكومة هي ً‬ ‫نوعي‪ .‬والكاتب ّإنما ينئش‬ ‫أيضا بسياق‬ ‫ّ‬

‫الضخمة بمؤسّ ساتها ومشاريعها الكربى التي تستلب الفرد‬ ‫حني أنّ الحداثة األدبيّة يف ثقافتنا‪ ،‬حالة جزئيّة أو هي‪ ،‬يف‬ ‫ٍّ‬ ‫تجل يف جانب كبري منها‪ ،‬لحداثة اآلخر ذات الطابع‬ ‫تقديرنا‪،‬‬ ‫الكليّ الشمويل‪ .‬هي «حداثة» تتناسل من حداثة‪ ،‬وليس من‬

‫‪27‬‬

‫املدينة أو من املعيش باملعنى الحصري الدقيق للكلمة‪.‬‬

‫وإضافة إىل ما تقدّ م فإنّ الحداثة األدبيّة عندنا مرتبكة‬

‫كأشدّ ما يكون االرتباك‪ .‬فقد انخرطت يف بداياتها‪ ،‬وربّما‬

‫إىل حدود السبعينيات‪ ،‬أو بعدها بقليل‪ ،‬يف مسار املشاريع‬ ‫الوحدانيّة الكربى (املشروع القومي مثلاً )‪ ،‬وقد باء بالفشل؛‬

‫قبل أن تنكفئ إىل ضروب من السريالية أو الدادائية أو‬ ‫العدميّة « النهلستية» والالمعقول‪ ...‬وهي مذاهب ّ‬ ‫تولدت‬

‫من االنطباعيّة التي يعدّ ها بعض املتخصصني جوهر النظرية‬

‫الحديثة يف األدب ويعزوها إىل موقف ابن املدينة من املدينة‬

‫وليس موقف ابن الريف منها‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ولعل القارئ أن يشاطرين الرأي يف أنّ لهذه املذاهب يف‬ ‫الحداثة الغربيّة مالبسات غري تلك التي ّ‬ ‫حفت بها يف ثقافتنا‪.‬‬ ‫وقد أشار غري واحد‪ ،‬إىل أنّ الحداثة الغربيّة صداميّة عدوانيّة‬ ‫أو هي خرق يف الزمن والتاريخ وخروج إىل الذات‪ .‬وقد أدرك‬

‫الغربي الذي رأى نفسه يسيطر عىل كون صنعته الفيزياء‬ ‫والكيمياء أنّ الفلسفة العلميّة املتغطرسة باتت اآلن بالية‪،‬‬

‫و«اكتشف» أنّ اإلنسان ليس سوى جزء من أنظمة ضخمة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الكل‪.‬‬ ‫وليس بميسور هذا الجزء السيطرة عىل‬

‫ّ‬ ‫إنّ‬ ‫أدبي أو ف ّني مالمحه املتميّزة بحيث يلوح‬ ‫لكل عصر‬ ‫ّ‬ ‫بناءً قائمً ا بنفسه؛ منطلقه عنصر ما مركزيّ فاعل‪ ،‬أو جملة‬

‫ملف العدد‬


‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تتعلق بـ«استجابة القارئ» وما استق ّر يف مشاعره‬ ‫تأثرات‬ ‫ّ‬ ‫التلقي» عامّ ة‪ .‬ولكنّ األعمال الفرديّة‬ ‫ووعيه‪ ،‬أو بـ«جماليّة‬ ‫ّ‬ ‫يظل لها شأن‪ ،‬وبعضها يمكن أن نعده نواة العصر أو‬

‫الرغم ممّ ا يثريه إلحاقها بالشعر؛ أعني مشكل األجناس‬

‫يسم‬ ‫فيها هذه الفرديّة أو تلك‪ .‬وهذا العنصر ال يمكن أن ِ‬ ‫عص ًرا من العصور إلاّ داخل نظام ما أو بنية ما‪ ،‬فالرومانسيّة‬

‫أدبيّة األجناس‪ ،‬كما تبينّ الدراسات الحديثة‪.‬‬ ‫إنّ نصوص محمد املاغوط مثلاً شع ٌر؛ وإن لم ينتظمه‬

‫مح ّركه‪ .‬والفارق بني عصر وآخر يكمن يف الدرجة التي تظهر‬

‫ّ‬ ‫تتمثل يف جماع سماتها‪ّ ،‬إنما‬ ‫مثلاً أو الرمزيّة أو التصويريّة ال‬

‫يف طبيعة العالقة بني تلك السمات‪ .‬وقد تقوى سمة ويكون‬ ‫لها أثر بنيويّ يف مجمل السمات األخرى‪.‬‬

‫ولنئ كان من الصعب يف حيّز كهذا أن نتميّز السمات‬

‫الدقيقة أو الظالل الخفيّة بني أطوار الشعر العربي منذ‬

‫ّ‬ ‫خاصة‪ ،‬بسبب من تداخل بعضها يف بعض‪،‬‬ ‫الخمسينيات‬ ‫ً‬ ‫نمطا من «الشعر» ينتشر يف سائر البالد‬ ‫فإنّ هناك اليوم‬ ‫العربيّة؛ ال يشدّ ه نسق أيديولوجي مخصوص‪ ،‬وأكرثه‬ ‫ّ‬ ‫ويتمثل‬ ‫يزاوج بني الصور املجازيّة القريبة والجمل اإلشارية؛‬ ‫هواجس الذات وحاالتها الوجدانيّة وإحساسها بالعجز‬

‫والصدع والخواء‪ ،‬يف غنائيّة تحتفي باألشياء والتفاصيل‬

‫الصغرية‪ .‬وربّما راهن بعضه عىل األشكال الحديثة‪ .‬لكن من‬

‫دون أن يستوعب مكوّناتها وتحوّالتها؛ أو يقف عىل منحاها‬

‫‪28‬‬

‫االنقالبي والنقلة النوعيّة التي يحدثها يف بنية الخطاب‬

‫الشعري‪.‬‬

‫غري أن الظاهرة التي تستوقف الباحث يف الشعر العربي‬ ‫الحديث عامّ ة هي ظاهرة هذه النصوص التي ُتص ّنف عىل‬

‫ّأنها «قصيدة نرث» أو «شعر ح ّر»؛ وقد ذاع أمرها‪ ،‬عىل نحو‬

‫يستدعي الفحص واملدارسة‪ ،‬ومراجعة مشروعيّة بعضها‬ ‫ّ‬ ‫بالتسلق عىل جذوعه؛‬ ‫الذي ينتشر باسم الشعر‪ ،‬ويغري‬ ‫وهي التي تعوزها أبسط أدوات الشعر‪ :‬الكلمة واإليقاع‪.‬‬ ‫عىل ّأنه من الضرورة‪ ،‬قبل فحص هذه الظاهرة‪ ،‬أن نشري‬

‫إىل ذلك التمييز الدقيق الذي تنبّهت إليه الدراسات الحديثة‪،‬‬

‫بني الشعر من حيث هو نمط للكتابة‪ ،‬والشعر من حيث هو‬ ‫صفة للكالم ْ‬ ‫ورشح عنه‪ ،‬أو بني الشعر والشعريّة‪ ،‬أو بني ما‬ ‫يمكن أن نسمّ يه اصطالح الشعر‪ ،‬ومطلق الشعر‪ .‬كان ال بد‬

‫ربما راهن بعض الشعر الذي ينتشر‬ ‫في سائر البلدان العربية على األشكال‬ ‫الحديثة‪ ،‬لكن من دون أن يستوعب‬ ‫وتحوالتها؛ أو يقف على‬ ‫مكوناتها‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫النوعية التي‬ ‫منحاها االنقالبي والنقلة‬ ‫ّ‬ ‫يحدثها في بنية الخطاب الشعري‬

‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬

‫ّ‬ ‫تتوضح مناقشتنا لهذه الظاهرة‪ ،‬فليس‬ ‫من هذه اإلشارة حتى‬ ‫املقصود ّ‬ ‫كل هذه النصوص الخارجة عىل األوزان املوروثة‪ .‬عىل‬ ‫األدبيّة‪ ،‬وإن كان هذا املشكل قد يصبح ثانويًّا أمام مشكل‬

‫وزن أو قافية‪ .‬فهي تتوفر عىل ضرب من اإليقاع‪ .‬هو ليس‬

‫«نقلة عىل النغم يف أزمنة محدودة املقادير والنسب» كما‬ ‫هو الشأن يف القصيد «الخلييل» أو «قصيدة البيت»‪ّ ،‬‬ ‫وإنما‬ ‫هو تناسق بني عناصر الجملة‪ ،‬وتناسب بني أجزاء الصورة‪.‬‬ ‫أمّ ا الظاهرة موضوع حديثنا‪ .‬فال ندري كيف نص ّنفها‪ :‬أهي‬

‫نرث مرسل أم هي «شع ٌر محلول» إذا استعرنا لها عبارة ابن‬ ‫طباطبا يف حديثه عن الرسائل‪ .‬هي نصوص تهجس اللحن‬ ‫ّ‬ ‫يحل بعضها السجع محل‬ ‫من دون أن تقبض عليه‪ ،‬وقد‬

‫القافية‪ ،‬وقد يقع يف الظنّ ّأنها اعتاضت بذلك عن الوزن‪،‬‬ ‫أو أضفت من دون وجه ّ‬ ‫ً‬ ‫إيقاعا أو‬ ‫حق‪ ،‬عىل الكالم املرجرج‬ ‫موسيقا‪ .‬ومن عجب أنّ بعضهم ال يميّز السجع من القافية‪.‬‬

‫والسجع‪ ،‬يف كالم العرب‪ ،‬موطنه النرث أساسً ا‪ ،‬وإن كان‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫أحيانا‪ .‬كما هو الشأن يف بعض قصائد أبي تمام‬ ‫يتخلل الشعر‬ ‫واملتنبي‪ ،‬فيع ّزز اإليقاع الشعري من حيث هو تفاعل بني الكمّ‬

‫والنرب‪ ،‬ويوحّ د بني النرب الشعري والنرب اللغوي يف مستوى‬

‫الوحدة اإليقاعيّة‪ .‬واللغة العربيّة شاعرة من نفسها‪ ،‬بحكم‬ ‫ّأنها نشأت ودرجت يف بيئة شعريّة‪ :‬الجزيرة العربيّة‪ .‬وقد‬ ‫ال تكون القافية ضروريّة يف قصيدة التفعيلة مثلاً ‪ ،‬عىل‬ ‫قلق هذه التسمية‪ .‬والتفعيلة مصطلح ال أثر له يف املدوّنة‬

‫العروضيّة املأثورة‪.‬‬ ‫عىل أنّ اإليقاع من حيث هو تركيبة صوتية – دالليّة‪ ،‬يظلّ‬

‫العنصر األهمّ الغائب يف كثري من هذه النصوص «املنثورة» أو‬ ‫املسجّ عة التي يلحقها بعضهم‪ ،‬عن جهل‪ ،‬بقصيدة النرث‪،‬‬

‫عىل حني هي ليست يف أفضل األحوال سوى شعر مرتجم‬

‫إىل النرث‪ .‬وترجمة القصيدة إىل النرث‪ ،‬ال تحتفظ بأيّ قدر من‬ ‫الشعر؛ فللمعنى الشعري بنيته املتميّزة التي تتغري‪ ،‬وتفقد‬

‫شكلها‪ ،‬عندما تنتقل من صيغتها الشعرية إىل صيغة نرثيّة‪.‬‬ ‫وما نخال االحتيال لهذه الصيغة النرثيّة بالسجع أو بالتالعب‬ ‫اللفظي والصورة املغربة والطرافة املستجلبة باسم عدول ال‬ ‫تنتظمه قواعد تكوينيّة وتنظيميّة‪ .‬من شأنه أن يزحزح بنيتها‬ ‫أو يضفي عليها سمات‪.‬‬

‫إنّ التجربة الشعريّة ال تنفصل عن تجربة الحياة‪ ،‬وما‬ ‫نعدّ ه شع ًرا‪ّ ،‬إنما هو تحويل شكل لغويّ إىل شكل من أشكال‬

‫الحياة‪ ،‬وتحويل شكل من أشكال الحياة إىل شكل لغوي‪.‬‬ ‫والنصوص السرديّة أو «الرواية» التي ينزع إليها الشعراء‬


‫حدسً ا أو ظ ًّنا عىل تجربة عند أيّ م ّنا هي تجربة‬ ‫«التقبّل ّ‬ ‫الذايت» أو إدراك الذات وتع ّرفها‪.‬‬ ‫إنّ «أنا» أشبه باسم لغري علم‪ ،‬يعقد صلة‬ ‫ّ‬ ‫املتكلم‬ ‫حميمة أشبه بوشيجة القربى‪ ،‬بني‬ ‫وكالمه‪ .‬وهذا الضمري عىل ذيـوعه وشيوعه‬

‫«شديد الغرابة» وليس بامليسور محاصرته؛‬ ‫ّ‬ ‫لتعقده وعدم ثباته‪ .‬ومن نافل القول أن نذ ّكر بأنّ‬ ‫الك ّتاب أنفسهم يص ّرون عىل التمييز بني الكاتب‬ ‫من حيث هو «أنا اجتماعيّة» والكاتب من حيث‬

‫هو «أنا إبداعيّة»‪.‬‬

‫ّ‬ ‫محصلة أنا أخرى غري التي‬ ‫بل إنّ الكِتابة‬

‫نظهرها يف عاداتنا‪ ،‬أو يف املجتمع‪ .‬وإذا ما سعينا‬ ‫إىل فهم تلك األنا ّ‬ ‫فإنما يف أعماقنا وحدها نستطيع‬ ‫أن ننفذ إليها؛ ونحن نحاول أن نبتعثها فينا وأنا‬

‫عىل رأي بعضهم؛ ففي حيايت قطيعة كبرية بيني‬ ‫أنا والرجل الذي يؤلف كتبًا‪ .‬وأنا يف حيايت‪ ،‬أعرف‬ ‫تقريبًا ما أفعله‪ ،‬لك ّني إذ أكتب‪ ،‬أكاد أهيم تمامً ا‪.‬‬

‫أحب الجلوس يف‬ ‫وكنت حتى عام ‪2005‬م‬ ‫ّ‬

‫مقهى قريب من بيتي‪ ،‬أتخيرّ ركنا‪ ،‬صار يعرف‬

‫بي؛ ألقرأ وأكتب من السابعة إىل ما بعد منتصف‬ ‫النهار‪ .‬أمّ ا يف السنوات األخرية‪ ،‬فقد غيرّ ت ما‬

‫رسم ألبي العالء المعري‬

‫الشعرية ال تنفصل عن تجربة‬ ‫إن التجربة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫شعرا‪ ،‬إ ّنما هو تحويل‬ ‫نعده‬ ‫الحياة‪ ،‬وما‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫لغوي إلى شكل من أشكال‬ ‫شكل‬ ‫ّ‬ ‫الحياة‪ ،‬وتحويل شكل من أشكال الحياة‬ ‫إلى شكل لغوي‬

‫بي‪ ،‬وبدأت أستخدم الكمبيوتر أكرث فأكرث؛‬

‫وقد أنجزت محاولة روائيّة فايسبوكيّة «عشيقة آدم» فازت‬ ‫ّ‬ ‫أتوقعها «الكومار الذهبي» وهي أشهر جائزة‬ ‫بجائزة لم أكن‬

‫ُتمنح للرواية يف تونس‪ .‬وأظنّ أنّ مؤسّ س موقع التواصل‬ ‫َ‬ ‫خلق عاملًا جديدً ا‬ ‫االجتماعي «فيسبوك» مارك زوكربريغ‪،‬‬

‫وواقعي‪.‬‬ ‫حقيقي‬ ‫افرتايض لك ّنه‬ ‫لتبادل املعلومات‪ .‬هو عالم‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ولقد غيرّ حياتنا ّ‬ ‫كلها‪ ،‬فنحن كائنات فايسبوكيّة‪ ...‬اإلنرتنت‪...‬‬ ‫واليوتيوب والهاتف الجوّال‪ ...‬ويف سياق كهذا يمكن أن‬

‫اآلن‪ ،‬وأنا أحدهم فقد نشرت ثالث محاوالت روائيّة‪ ،‬وشرعت‬

‫ىّ‬ ‫نتقص خصائص الكتابة األدبيّة املتنوّعة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وال ّنص‪ّ ،‬إنما يُنظر فيه من جهة بنائه أو تركيبه اللغويّ ‪،‬‬

‫وشوارد‪ ،‬قد ال ي ّتسع لها الشعر‪ .‬ومن ثمّ ة يلجأ بعضنا إىل‬

‫نأخذ به ونأنس إليه يف أيّة قراءة؛ الحتفائه بمظاهر القول‬ ‫أو «ال ّت ّ‬ ‫ّ‬ ‫النص العربي‬ ‫لفظ» من جهة‪ ،‬وألنه يتيح لنا أن نباشر‬

‫يف الرابعة؛ تحمل الشعر يف مطاويها‪ .‬وال أقصد لغة الشعر‪،‬‬ ‫ّإنما ما يفيض عن الشعر‪ .‬وهناك موضوعات وتفاصيل‬ ‫ّ‬ ‫القصة‪.‬‬ ‫الرواية أو‬

‫الواقع أي ما هو خارج الكتابة؛ «بنية جوفاء»‪ .‬أمّ ا وأنا‬ ‫أكتب هذا النص الشعري أو الروايئ‪ ،‬فيتهيّأ يل أنيّ شخص‬

‫آخر مختلف‪ .‬كيف نحدّ العالقات ونرسم الحدود بني‬

‫«الداخل» يف العالم مكتوبًا و«الخارج»؟‬ ‫ّ‬ ‫املتكلم يف نظام النص‪ ،‬سواء أدرناه‬ ‫وحضور ضمري‬ ‫بصيغة «أنا» أو عىل مقتىض أسلوب «االلتفات» يمكن أن ّ‬ ‫يدل‬

‫‪29‬‬

‫ومن جهة شروط إنتاجه أو صناعته‪ .‬وهذا مفهوم يُفرتض أن‬

‫الحديث شع ًرا كان أو رواية؛ من حيث هو خطاب «قلق»‬

‫يف ذاته ويف مراتب تقبّله‪ ،‬من جهة أخرى‪ .‬وما نقوله وصف‬ ‫محايد وليس حكم قيمة‪ .‬فاآلداب العربيّة الحديثة‪ ،‬لم‬ ‫تستق ّر بعد‪ ،‬وال تزال «ثقافتنا» ثقافة مرتبكة؛ بل هي تكاد‬ ‫تكون «سايكس بيكو اآلداب العربيّة» منذ أن نشأ هذا «األدب‬ ‫العربي الحديث» يف مركزيه األوّلني‪ :‬بالد الشام ومصر‪ .‬وهي‬

‫تثري من األسئلة‪ ،‬أكرث ممّ ا تجرتح من األجوبة‪.‬‬

‫ملف العدد‬


‫أسئلة القصيدة‬ ‫المغربية‬ ‫رشيد يحياوي‬ ‫ناقد مغربي‬

‫ال ينفصل راهن الشعر عن راهن الكتابة في المغرب كما في أقطار عربية أخرى‪ .‬فلم يعد‬

‫‪30‬‬

‫األنواعي ومجاالت‬ ‫الشعر معزوال عن أسئلة الكتابة من حيث جدواها وانفتاحها عبر‬ ‫ّ‬ ‫تداولها‪ .‬وهنا تطرح أسئلة كثيرة حول هجرة الشعر نحو القصة والرواية‪ ،‬وانفتاح القصيدة‬ ‫على ممكنات تعبيرية ذات هيمنة أقوى في األنواع النثرية كالسرد‪ ،‬أو آتية من فنون‬

‫بصرية كالتشكيل والبناء المشهدي للكتابة السينمائية‪ ،‬مما أصبح الفتا في قصيدة الراهن‬

‫الشعري بالمغرب‪.‬‬

‫وإذا كانت الكتابة تنبني عىل مبدأ تراكم التجارب‪ ،‬فإننا نالحظ‬

‫يتحاور فيها الهايكو باألقصوصة القصرية ج ًّدا بالشذرات السريية‬

‫فراهن الشعر املغربي بشكل عام‪ ،‬أشبه بمصب ألنهار منحدرة‬

‫كالعامية واألمازيغية والحسانية لهجة أهل الصحراء‪.‬‬ ‫ً‬ ‫تعايشا لتجارب الشعر يف حد‬ ‫هذا التعايش الشعري ليس‬

‫ذات األمر يف التجارب الشعرية املغربية‪ ،‬فهي تتجاوب وتتصادى‪.‬‬ ‫من عقود خلت‪ .‬إنه راهن بفعل شعراء من عقدي الستينيات‬ ‫والسبعينيات ومما أعقبهما من عقود‪ .‬هؤالء الشعراء تأسس‬

‫فعلهم اللغوي الجمايل عىل وعي براهنية القول الشعري يف عقود‬

‫مؤزمة للفعل الكتابي بسبب تحوالت القيم الثقافية والنظم الفكرية‬ ‫واملستجدات الحضارية وشيوع وسائط جديدة للتواصل تميل‬

‫لالستهالك اللحظي السريع‪.‬‬

‫تعايش الحساسيات الشعرية‬

‫الفايسبوكية‪ ،‬وكل ذلك إىل جانب تعبريات شعرية بلغات محلية‬

‫ذاته‪ ،‬بل إنه تعايش يف ذات الوقت ألجيال شعرية واصل بعض‬

‫شعرائها مسارهم واستطاعوا «التأقلم» مع أسئلة القصيدة املغربية‬ ‫يف راهنها املمتد من زمن التأسيس الستيني إىل األلفية الجديدة‪ ،‬بل‬ ‫كانوا فاعلني يف ذلك‪.‬‬

‫وتلك األسئلة ال يمكن أن ننسبها لجيل دون آخر‪ ،‬بقدر ما‬

‫ننسبها لوعي اللحظة التاريخية بانكتابها شعريًّا‪ .‬وكل الشعراء‬

‫الذين كان لهم مثل هذا الوعي‪ ،‬أسهموا يف تلك األسئلة ويف تمثلها‬

‫وما يميز التجربة الشعرية املغربية يف راهنها هو انفتاحها عىل‬

‫شعريًّا بصياغتها ضمن رؤى جمالية قائمة عىل التعدد ال عىل‬

‫لكل الحساسيات الشعرية بالتعايش؛ من القصيدة العمودية‬ ‫إىل قصيدة النرث وصولاً إىل صيغ شعرية عصية عىل التصنيف‬

‫ومع أن الجوائز األدبية ال تمثل معيارًا حاسمًا يف الحكم‬

‫مختلف التجارب الشعرية التي قد تصل حد التباين؛ إذ تسمح‬

‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬

‫التوحد‪ ،‬وعىل االختالف ال عىل التماثل‪.‬‬

‫عىل ظاهرة من الظواهر‪ ،‬لكن يمكن االستئناس بها الستكشاف‬


‫ميول الذائقة القرائية الشعرية يف بعض اللحظات‪ .‬ومن باب‬ ‫ذلك أن جوائز املغرب الكربى يف الشعر التي تمنح من طرف لجان‬

‫متخصصة‪ ،‬قد حازها يف السنة الجارية الشاعر عبدالكريم الطبال‬ ‫وهو شاعر من جيل التأسيس الستيني‪ ،‬فيما كان قد فاز بها يف‬ ‫سنوات سابقة شعراء لقصيدة النرث‪.‬‬

‫ضمن هذا األفق‪ ،‬ال يكاد يكون بني الشعراء املغاربة اختالف‬

‫حول الحضور الفاعل لشعراء من الستينيات يف راهن الشعر‬ ‫املغربي‪ ،‬مثل محمد السرغيني وعبدالكريم الطبال‪ ،‬وال حول شعراء‬

‫من السبعينيات كان لهم بدورهم أثر يف مسار القصيدة املغربية يف‬ ‫راهنها مثل محمد بنطلحة ورشيد املومني‪ .‬ومن الجيل أن عددًا‬ ‫كبريًا من شعراء العقدين الستيني والسبعيني افتقدتهم القصيدة‬ ‫املغربية بسبب رحيلهم إىل دار البقاء‪ ،‬أو بسبب انقطاعهم‪ ،‬أو‬

‫لكونهم عجزوا عن تجاوز تجاربهم القديمة‪.‬‬

‫ويعد عقد الثمانينيات عق ًدا مفصليًّا يف مسار الشعرية املغربية‬

‫عبدالكريم الطبال‬

‫التزامه بذاته وفردانيته؟ وسار الشعراء منذ ذلك العقد يف طريق‬

‫حساسيات جديدة رأوا أنها تقتيض لغة شعرية جديدة ليست‬

‫الراهنة‪ .‬ففيه ُعرض كثري من املفاهيم للمراجعة بطرائق أكرث وضوحً ا‬ ‫وح ّدة‪ .‬فلم ُتراجع املفاهيم الفنية واألدبية فحسب‪ ،‬بل روجع ً‬ ‫أيضا‬

‫أن تكون بدورها موضو ًعا للشعر يشتغل عليه‪ .‬ولم تعد القضايا‬

‫وأىت ذلك يف سياق كوين راجت فيه أفكار مرتبطة بالعوملة وسقوط‬

‫شعريًّا‪ ،‬وبما تراه عيناه عن قرب‪ ،‬وأن األشياء الصغرى التي طاملا‬

‫ما كان ثاب ًتا ومسلمًا به يف الفكر السيايس واالقتصادي واالجتماعي‪،‬‬

‫املعسكر الشرقي‪ ،‬بحيث وجد األفراد أنفسهم أمام اختبار صعب‬ ‫ألفكارهم الشمولية‪.‬‬

‫هوية عىل املحك‬ ‫أصبحت هوية الشعر عىل املحك‪ ،‬ومن بني ما كان داخلاً‬ ‫يف هويته السبعينية مثلاً ‪ ،‬مبدأ االلتزام‪ .‬والسؤال الذي طرح هو‬

‫بماذا يلتزم الشاعر؟ وهل من الضروري أن يكون ملتزما؟ وماذا عن‬

‫ما يميز التجربة الشعرية المغربية‬ ‫في راهنها هو انفتاحها على مختلف‬ ‫التجارب الشعرية التي قد تصل حد‬ ‫التباين؛ إذ تسمح لكل الحساسيات‬ ‫الشعرية بالتعايش‪ ،‬من القصيدة‬ ‫العمودية إلى قصيدة النثر وصوال إلى‬ ‫صيغ شعرية عصية على التصنيف يتحاور‬ ‫فيها الهايكو باألقصوصة القصيرة ج ًّدا‬ ‫بالشذرات السيرية الفايسبوكية‪ ،‬وكل‬ ‫ذلك إلى جانب تعبيرات شعرية بلغات‬ ‫محلية كالعامية واألمازيغية والحسانية‬

‫أحادية الوظيفة‪ ،‬وأن لغة الشعر وإن انفتحت وظيفيًّا فإنها تحتاج‬

‫الكربى تستأثر بمخيال الشاعر‪ ،‬فقد وجد أنه يحس بذاته وبجسده‬ ‫جرى تهميشها ال تخلو من قيم دالة‪.‬‬

‫أدرك الشاعر أنه مجرد فرد ضمن منظومة كبرية من‬

‫الفاعلني‪ ،‬وأن له ضمن ذلك دورًا محدودًا إذا قيس بالفاعلية‬

‫‪31‬‬

‫املباشرة يف املجتمع‪ ،‬وأن تعلقه باألحالم الكربى لن يصيبه سوى‬

‫باملزيد من الخيبات‪ .‬إنه ذات ضمن ذوات كثرية تصطدم أحالمها مع‬

‫إمكانياتها‪ ،‬وتتكسر طموحاتها عىل صخرة واقع مادي نابذ وظالم‪.‬‬ ‫فلم يعد أمام الشاعر من حل ملجابهة ذلك الواقع سوى بتحرير‬ ‫طاقاته الداخلية وإنطاق املسكوت عنه يف اللغة‪.‬‬

‫وكل ما نقرؤه يف قصائد الشعر املغربي الراهن‪ ،‬إنما يعرب عن‬

‫انكسارات الذوات وخيبات أحالمها ورصد لعزلتها‪ ،‬كما يعرب عن‬ ‫تربمها مما يحيط بها‪ ،‬وعن تغييبها مقابل بروز سطوة األماكن‪.‬‬

‫وقد تعرب القصائد يف إطار ذلك عن هشاشة الكائنات والذوات داخل‬ ‫الفراغ الذي يحس به الكائن الشعري حوله أو داخله‪ .‬هذه الخطوط‬

‫وغريها تفصح عن انتباه الشعراء للصور التي توجد بها ذواتهم يف‬ ‫العالم يف ظل املتغريات التي طرأت عىل القيم املادية والقيم الرمزية‬ ‫يف املجتمع املغربي‪.‬‬

‫وهذا ما يفسر دعوات التجديد والتجريب املتواصلة يف القصيدة‬

‫املغربية التي تكاد تنفرد عن راهن الشعر مغاربيًّا بهيمنة قصيدة النرث‬

‫عىل تجارب الشعراء يف املغرب‪ ،‬دون إلغاء لقصيدة التفعيلة بعد‬

‫تطويعها وتحريرها من لغة الشعر الحر التأسييس‪ .‬فالفارق ليس‬ ‫هو الحد الوزين إنما بناء القصيدة يف مخيالها وبالغتها وعالقاتها‬

‫اللغوية الداخلية إضافة إىل الصورة التي تخلقها عن العالم‪ ،‬صغريًا‬

‫كان أم كبريًا‪.‬‬

‫ملف العدد‬


‫اكتواء يدي‬ ‫بشعلة قصيدة النثر‬

‫فوزية أبو خالد‬ ‫شاعرة وكاتبة سعودية‬

‫‪32‬‬

‫سؤال الشعر وأحواله‪ ،‬يستحق التأمل وإعادة التفكير في منتج اإلبداع الشعري على مر العصور‪،‬‬ ‫وفي مختلف البيئات االجتماعية والسياسية والعمرانية‪ ،‬بما فيها اللحظة التاريخية الراهنة المدججة‬ ‫ً‬ ‫بالتراجع السياسي والفكري في عموم الوطن العربي‪ .‬فبقدر ما ّ‬ ‫مطلقا من ثوابت‬ ‫يعد الشعر ثاب ًتا‬ ‫الحياة اإلنسانية ومن عمران الضمير البشري‪ ،‬بقدر ما تكون أشكاله ومضامينه في حال دائمة من‬ ‫التحوالت المستمرة التي ما إن ترسي على حال يثري وجدان البشر إال وتتحول بالتماس مع مشاعر‬ ‫الناس وتفاعالتها المتقلبة إلى حال جديدة‪ .‬فعلى سبيل المثال في الحال العربية التي جعلت من‬ ‫الشعر ديوان العرب‪ ،‬ظل الشعر في تقدمه على الحقب المتعاقبة من التاريخ االجتماعي والسياسي‬ ‫العربي قادرًا على إعطاء صورة متموجة عن أحوال مختلف المراحل التاريخية‪.‬‬ ‫فكما كانت املعلقات رم ًزا لعزة العرب السياسية يف تعالقها‬

‫إىل قصيدة النرث املتحررة من كل قوالب موسيقا الشعر املتعارف‬

‫والضراوة الصحراوية‪ ،‬فقد كان الشعر يف كل عصور االنكسار‬

‫املضمون‪ .‬وباملجاوزة بينهما أي (بني التمردين) يف قصيدة الومضة‬

‫مع املقدس الديني‪ ،‬ومع الجاه التجاري‪ ،‬ومع العنفوان البدوي‬

‫إكسريًا لالستنهاض‪ .‬وكان هذا ال يجري عرب القوالب الشعرية‬

‫ومحتوياتها السابقة‪ ،‬بل عرب تجاوزها عروضيًّا ومعنى‪ .‬حدث هذا‬

‫يف مراحل مفصلية عدة من تاريخ الحضارة العربية اإلسالمية إبان‬

‫دول الخالفة األموية والعباسية وعىل إثرهما وسواهما من دول‬ ‫الخالفة ببالد الشام والعراق ومصر واألندلس وإسطنبول‪.‬‬

‫وقد اجرتح الشعر العربي من منتصف القرن العشرين إىل‬

‫مطلع القرن الحادي والعشرين واحدة من أهم التحوالت املفصلية‬ ‫يف بنية القصيدة العربية شكلاً‬ ‫ً‬ ‫ومضمونا‪ ،‬بالخروج عن املستتب‬

‫عليها قبلها يف الشكل‪ ،‬وباالنحياز إىل شاعرية اليومي والعادي يف‬

‫الشعرية إن صح التعبري‪.‬‬

‫قصيدة النرث ال تعرف شيمة الوفاء‬

‫أما ما ينقض السؤال ويتماس معه يف الوقت نفسه بما يشبه‬

‫تالقي األضداد‪ ،‬فهو أن هذا النوع من الشعر أي شعر قصيدة النرث‬ ‫هو نوع شعري‪ ،‬رغم منجزه اإلبداعي الشاهق لعدد من األصوات‬

‫املعتقة والشابة يف الوطن العربي‪ ،‬ال يزال ً‬ ‫نوعا عصيًّا عىل أن‬

‫يصل مرحلة نستطيع أن نقول معها إنه بلغ مرحلة االستقرار كما‬

‫العرويض الفراهيدي والغريض أو الغايئ من الرثاء إىل الغزل وما‬

‫يطرح السؤال‪ .‬ويرجع ذلك يف رأيي إىل أن قصيدة النرث هي نوع‬

‫اليوم فقد بلغ الشعر العربي ذروة ذلك التمرد باالنفالت من الوزن‬

‫لحفر واستكشاف منابع ومصاب جديدة لشكل ومضمون القصيدة‬

‫بينهما من مديح وهجاء‪ .‬أما من الربع األخري للقرن الفارط إىل‬

‫العمودي والتفعييل معً ا عىل مستوى الشكل‪ ،‬واالنسالخ عن‬

‫املضامني الشمولية للشعر العربي عىل مستوى املحتوى‪ ،‬بالتحول‬ ‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬

‫من الشعر التجريبي بطبيعته بحيث ال يكف عن البحث وال يتعب‬

‫وللدهشة الشعرية‪ .‬ولهذه الطبيعة املخالفة التي بقدر ما تنعم فيها‬ ‫قصيدة النرث برعب القلق ونشوة االنقضاض التجريبي عىل نفسها‬


‫بقدر ما تعيش لذة وعذابات ذنب عدم التزامها بشيمة الوفاء ملا‬

‫املوات أن الحس النقدي هو شرط الزب من شروط الحرية واإلبداع‬

‫هذا النوع من الشعر مرحلة االستقرار‪ .‬ومن اكتواء يدي اليومي‬

‫للمسألة أوجه أخرى قد ال تكون بالضرورة تعبريًا عن نوع من‬

‫سبقها من منجز شعري لها ولسواها‪ ،‬يصعب الحديث عن بلوغ‬ ‫بشعلة الشعر لقصيدة النرث أزعم أنها قصيدة ال تستطيع أن تعيش‬

‫خارج ماء اسمه التجريب‪ ،‬موجة تمحو موجة وتؤلف بحورًا من‬ ‫األمواج املتجددة‪.‬‬

‫واملقاومة‪ .‬فأي أزمة حقيقية يكشفها هذا العزوف النقدي وإن كان‬ ‫حال استسالم عام‪ .‬ومن ذلك أن النقد األدبي عندنا ارتبط باإلطار‬

‫األكاديمي بما يف ذلك اإلطار من تضييق عىل الحريات‪.‬‬

‫كما أن النحسار املطالت الورقية حيث لعبة املالحق األدبية‪،‬‬

‫وهذا ما يجعل ‪،‬يف رأيي الشخيص عىل األقل‪ ،‬قصيدة النرث نبعً ا‬

‫وبخاصة يف التجربة السعودية‪ ،‬دورًا يف التواصل بني ثاليث األديب‬

‫تتورع عن منازلة الظالم املطبق الذي يكاد يخيم عىل املنطقة العربية‬

‫الجدل النقدي الفوار الذي شهدته الساحة املحلية يف مراحل‬ ‫ً‬ ‫وأيضا قد يكون لجدة األوعية اإللكرتونية واتساع‬ ‫تاريخية سابقة‪.‬‬

‫من ينابيع الضوء التي عىل تضوعها الشفيف وسهولة انكسارها ال‬

‫تقديسا للقصيدة من عوادم السياسة‬ ‫عن بكرة أبيها‪ .‬هذا ليس‬ ‫ً‬

‫وعدمية الحروب‪ ،‬لكنها شعلة الشعر التي ليس لنا أن نكف عن‬ ‫سرقتها‪ ،‬وليس لألكف أن تكف عن تخاطف قبسها‪ ،‬ليس لرتميم‬

‫الخراب لكن للخروج عليه‪ ،‬بما فيه الخروج عىل غربة الشعر اليوم‪،‬‬ ‫وعىل ذلك النوع من الشعر الرديء الذي هو وجه آخر للخراب الذي‬

‫ال يمكن مقاومته إال بإبداع شعري جديد‪ .‬ال أظن أن الشعر اليوم‪،‬‬

‫مع هذه الثورة العارمة يف أوعية الثقافة‪ ،‬وأدوات اإلنتاج مقابل‬ ‫هذا التداعي السيايس عربيًّا ودوليًّا‪ ،‬إال تح ٍّد لخلق حال جديدة من‬

‫التحوالت الشعرية التي لم تعهدها الحواس من قبل‪.‬‬ ‫موت الحس النقدي‬

‫ال أحفل كثريًا بموضوع الجوائز يف الشعر وال قليلاً ‪ ،‬ال‬

‫والناقد والقراء قد يكون من أسباب فراغ هذه األوعية من ذلك‬

‫نطاقاتها دور يف تشتت املنافذ النقدية وخلق حال من االرتباك لدى‬ ‫أجسادنا ولدى العقل النقدي املعتاد الذي لم يجرب هذه السقوف‬

‫العالية من حرية النقد من قبل‪ .‬ولهذا فما زلت أعتقد‪ ،‬كما سبق‬

‫وكتبت يف مواقع أخرى‪ ،‬أن تحدينا اليوم أن املدى املفتوح أمامنا‬ ‫أوسع من مدّات األجنحة يف دربتها وخرباتها السابقة‪ ،‬وعلينا عمل‬ ‫شاق وطويل الكتساب خربات ودربة الحرية التي تتيحها ثورة‬ ‫الفضاء واالتصاالت‪ .‬فمن املخجل أن نبقى يف مدى ال حدود له‬

‫بتلك األيدي القصرية واألجنحة القليلة نفسها‪ .‬ولربما كما أن كرثة‬ ‫الطريان تقوي األجنحة‪ ،‬فاتساع‬ ‫فضاء التعبري يعلمنا الحرية‪.‬‬

‫‪33‬‬

‫بمعناها العيني‪ ،‬وال الرمزي؛ لذلك ال أستطيع اإلجابة عن‬

‫السؤال عن أثر غياب الجوائز‪ .‬أما عزوف النقد عن‬ ‫تناول اإلصدارات الشعرية الجديدة‪ ،‬فهذا ًّ‬ ‫حقا‬

‫سؤال مقلق‪ ،‬لكن ليس شعريًّا بقدر ما هو‬ ‫مقلق يف تعبريه عن تماوت أو موت الحس‬

‫النقدي‪ .‬والخطري يف مثل هذا‬

‫ملف العدد‬


‫العماني‬ ‫الشعر ُ‬ ‫المعاصر‬ ‫سماء عيسى‬ ‫شاعر عماني‬

‫كان على الشاعر ُ‬ ‫العماني المعاصر أولاً أنْ يلتفت إلى موروثه الشعري الخصب‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مودعا أرض‬ ‫عميقا في التاريخ‪ ،‬منذ أنْ كتب مالك بن فهم األزدي مراثيه األولى‪،‬‬ ‫الضارب‬

‫السراة إلى ُعمان‪ ،‬والثانية راثيًا نفسه بعد أنْ اخترق سهم سليمة أحب أبنائه إليه قائلاً ‪:‬‬

‫‪34‬‬

‫جزاه الله من ولد جزاءً‬

‫سليمة إنه سامً ا جزاني‬

‫أعـلمه الرماية كل يوم‬

‫فلما اشتد ساعده رماني‬

‫أال شلت يمينك حين ترمي‬

‫وطارت منك حاملة البنان‬

‫فأهوى سهمه كالبرق حتى‬

‫أصاب به الفؤاد وما عداني‬

‫كان عليه االلتفات إىل التجربة الروحية التي حظيت بمعظم‬

‫ً‬ ‫محافظا عىل خصوصيات ومالمح التجربة الدينية‪،‬‬ ‫الشعر هنا‬

‫للذاكرة الدينية‪ ،‬ومن كتب الشعر العُ ماين معظمهم من الفقهاء‬

‫التي أضحت مؤسسة ثقافية اجتماعية سياسية يف آن واحد‪،‬‬

‫املوروث الشعري العُ ماين؛ فالشعر يف ُعمان أساسً ا ابن روحي‬ ‫ورجال الدين‪ ،‬الذين تشربوا بالغة اللغة العربية منذ نعومة‬ ‫أظفارهم؛ لذلك حظيت ثيمات الزهد والسلوك والندم واملدائح‬

‫والتي انبثقت نتاجً ا ملؤسسة الفلج االقتصادية‪ ،‬املؤسسة الدينية‬

‫هيمنت هذه املؤسسة عىل املخيال اإلبداعي‪ ،‬تقل لدى املجتمعني‬

‫البحري والصحراوي‪ ،‬إىل درجة خلق أساطري عن خلق العالم‬

‫النبوية والحب اإللهي‪ ،‬بمعظم نتاجهم اإلبداعي؛ بل ذهب‬ ‫الفقهاء ً‬ ‫أيضا إىل صوغ دروسهم يف الفقه نظمً ا‪ ،‬أخذ من الشعر‬

‫لدى البطاحرة‪ ،‬وهي قبيلة بحرية تعيش يف جنوب ُعمان‪« :‬هنا يف‬

‫الشعر العربي الجمال الذي أسبغه عىل تدفق معانيه وسالستها‪.‬‬

‫رجل وامرأة‪ ،‬واتفقا فيما بعد بينهما عىل الزواج‪ ،‬لم يكن بينهما‬

‫قوانني تدفقه املعروفة يف العروض والقافية‪ ،‬بل أخذ من بالغة‬ ‫الشاعر هنا ابن لخصوبة التنوع الجغرايف الذي وهبه الله‬

‫لعمان‪ ،‬هذا التنوع الذي تشكلت عليه خصوصيات ثقافة تختلف‬ ‫يف عطائها عن املجاورة األخرى‪ ،‬وإن كانت تقف عىل أرض روحية‬

‫واحدة‪ .‬أعطت تجربة تأسيس املجتمع الزراعي العماين أساطريها‬

‫الخاصة املعتمدة عىل تأسيس مؤسسة اقتصادية عرفت بمؤسسة‬ ‫الفلج التي هي شكل من أشكال االقتصاد اآلسيوي املختلف يف‬

‫تطوره وتكوينه عن أشكال التطور االقتصادي األوروبي‪ .‬لذلك جاء‬ ‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬

‫مختلفة كليًّا عما هو يف القرآن الكريم‪ ،‬كما هو يف هذه األسطورة‬

‫البداية لم يخلق البطاحريون‪ ،‬ولم يوجد أحد منهم‪ ،‬جرى خلق‬ ‫ملبس‪ ،‬اللهم سوى شعر البحر الذي ينجرف إىل الشاطئ‪ ،‬ثم‬ ‫َّ‬ ‫لفاه حولهما‪ ،‬ولم يكن لديهما ما يأكالنه سوى املحار‪ ،‬ثم تناسل‬

‫البطاحريون وتكاثروا وزاد عددهم‪ ،‬ولم يكن هناك غريهم يف‬

‫البالد‪ ،‬لقد وجدوا يف الصحراء ويف الرباري وعىل طول الساحل‪..‬‬ ‫ولم يكن غريهم منْ يعيش معهم‪ ..‬لم يكن هناك سواهم»‪.‬‬ ‫الشاعر العُ ماين املعاصر ابنٌ لرتاثه الوطني‪َّ ،‬‬ ‫ظل وال يزال وثيق‬

‫الصلة بالحركات الوطنية التي عصفت وال تزال برتابه‪ ،‬يصل به‬


‫ً‬ ‫ً‬ ‫ناطقا باسمها‪ ،‬كما هو يف حال‬ ‫صوتا سياسيًّا‬ ‫ذلك إىل أن يكون‬ ‫عدد من كبار شعرائنا‪ ،‬مثل الشيخ سعيد بن خلفان الخلييل‪،‬‬

‫الذي ال تكتمل دراسة ثورة اإلمام عزان بن قيس البوسعيدي إال‬ ‫بدراسة شعره‪ ،‬والشاعر سالم بن ناصر ابن عديم الرواحي‪ ،‬الذي‬

‫كان الصوت الشعري األكرب لثورة اإلمام سالم بن راشد الخرويص‪.‬‬ ‫كذلك الحال مع من جاء بعدهم‪ ،‬منذ خمسينيات القرن‬

‫املايض؛ إذ حفلت التجربة الشعرية العمانية بأصوات شعرية‬ ‫متعددة‪ ،‬عملت عىل تجديد الشعر العماين؛ إذ تخلصت املفردة‬

‫من ثقلها الكالسييك البالغي كما هو لدى عبدالله الطايئ‪ ،‬وذهب‬ ‫الشاعر الكبري عبدالله الخلييل إىل كتابة املسرح الشعري‪ ،‬وقدم‬ ‫سليمان بن سعيد الكندي أول محاولة الستخدام بحور شعرية‬

‫مختلفة يف القصيدة الواحدة‪ ،‬وحفلت موضوعات شعرهم‬ ‫‪-‬وألول مرة‪ -‬بالتفاعل مع ثورات التحرر العربي يف الجزائر ومصر‬

‫وفلسطني‪...‬‬

‫العطاء التاريخي لألسالف‬

‫الجديدة يف توجهاتهم املختلفة‪ ،‬نحو البحث عن سر الخلق‬

‫والكون ومجراته املختلفة‪.‬‬

‫املنفى الداخيل للشاعر‬

‫روح االغرتاب هذه تطال الواقع االجتماعي والسيايس ً‬ ‫أيضا‪،‬‬

‫فشعراء التجربة الجديدة كثريًا ما يلجؤون إىل طفولتهم‪ ،‬وإىل‬ ‫ذكريات قراهم البعيدة الريفية الهادئة‪ ،‬قبل أن تصل إليها‬

‫جرارات األسمنت‪ ،‬وتحول عالقتها االجتماعية الربيئة إىل عالقات‬

‫تعتمد عىل املصالح الشخصية املتبادلة‪ ،‬وينتشر بها الوالء املزيف‬ ‫للسلطات االجتماعية والدينية والسياسية املختلفة‪.‬‬

‫خلقت هذه التحوالت االجتماعية ظاهرة يمكن تسميتها‬

‫باملنفى الداخيل للشاعر‪ ،‬الذي وجد نفسه منفيًّا يف وطنه‪ .‬إال‬

‫أنَّ ذلك لم يحل دون التزام عدد منهم بروح النضال السيايس‪،‬‬

‫ونظري مواقفهم السياسية دخل عدد منهم السجون مثل الشاعر‬ ‫محمود حمد‪ ،‬واحتجز عدد آخر يف أروقة أجهزة األمن مددًا‬ ‫مختلفة‪ ،‬مثل الشعراء‪ :‬صالح العامري‪ ،‬وعبدالله حبيب‪،‬‬

‫ً‬ ‫انطالقا من منجزها التاريخي‪،‬‬ ‫نقرأ التجربة الشعرية الراهنة‪،‬‬

‫وإبراهيم سعيد‪ ،‬وناصر البدري‪ ،‬وخميس قلم‪ ،‬وحمد الخرويص‬

‫الحداثة الشعرية العربية يف عقودها األخرية‪ ،‬إال أنه من جهة‬

‫احتفاء الشاعر العُ ماين بالحياة ذهب به إىل االحتفاء بما‬

‫قراءة نقدية جادة له‪ ،‬عليها االلتفات إىل املنجز التاريخي حتى‬

‫تفصيالتها الدقيقة‪ ،‬ساردًا ذكرياته معها يف ألفة‪ ،‬ندر التطرق‬

‫والصوت الشعري العماين الراهن‪ ،‬وإن كان أكرث اقرتابًا من منجز‬

‫موضوعات شعره‪ ،‬يتميز بتدفق عطاء أسالفه التاريخي‪ ،‬وأي‬ ‫يتبني لها خصوصية وخصوبة الصوت الرثايئ والصويف‪ ،‬واتساع‬

‫مساحة ثيمات املوت والرحيل والفراق والهجر يف تجارب شعرائها‪.‬‬ ‫تتسع أرضية الشعر لتشمل تجارب شعرية شابة‪ ،‬تكتب‬

‫بأشكال شعرية مختلفة‪ :‬الشعر العمودي‪ ،‬وشعر التفعيلة‪،‬‬

‫وقصيدة النرث‪ .‬هذا التنوع شكل مصدر خصوبة‪ ،‬تعدد األشكال‬ ‫الشعرية يضفي عىل التجربة ثراءً‪ ،‬تسبب يف تعايشها وعدم‬

‫إلغاء بعضها اآلخر؛ بل تحول بعضها من شكل آلخر‪ ،‬وبخاصة‬ ‫يف توجه عدد من شعراء التفعيلة إىل قصيدة النرث‪ ،‬التي تشهد‬

‫اليومَ انتشارًا واسعً ا استقطب معظم املواهب الشعرية الجديدة‪...‬‬

‫رحمه الله‪.‬‬

‫هو محيط حوله‪ ،‬والنظر إىل األشياء بحميمية بالغة‪ ،‬ذاهبًا إىل‬

‫‪35‬‬

‫إليها من قبل‪ ،‬كالحجارة واألشجار واألفالج واألطالل‪ ،‬وكل ما‬

‫ترسب يف ذاكرة الشاعر منذ طفولته‪ ،‬معتمدًا يف ذلك عىل القبض‬ ‫عىل املحسوس وتجريده‪ ،‬وصولاً به إىل عالم خفي غري مريئ هو‬

‫عالم الشعر‪ ،‬الذي يدرك الشعراء العمانيون صعوبة الوصول‬

‫إليه‪ ،‬مع صعوبة التخيل عن محاولة بلوغ ذراه البعيدة‪ .‬لذلك‬ ‫فإن الشعر ألبناء التجربة الشعرية الجديدة يف عمان‪ ،‬طريق‬

‫نضال صعب وشاق‪ ،‬واإلنجاز يكمن يف عدم التخيل عن مواصلة‬ ‫محبته وعشق كتابته‪.‬‬

‫أدى تحرر شعراء األجيال الجديدة‪ ،‬واكتسابهم ثقافات‬

‫فكرية وسياسية متنوعة إىل انطالق الكتابة لديهم بوعي مختلف‬

‫عن أسالفهم؛ إذ نقرأ لديهم روح الضياع والتمرد والتمزق‬ ‫ً‬ ‫متواصلة حول معنى الوجود‬ ‫الوجودي‪ ،‬وتطرح تجاربهم أسئلة‬ ‫ومصري اإلنسان به‪ ،‬حس االغرتاب هذا وإن كان متجذرًا فيما‬ ‫ً‬ ‫سقفا‬ ‫مىض‪ ،‬إال أنه كان يجدُ مالذه يف الشعور الديني الذي وضع‬

‫ملعاناة االغرتاب وأسئلة الوجود الكربى لدى الشعراء العمانيني‬ ‫فيما مىض‪ ،‬تجد اآلن انطالقتها الكربى لدى شعراء التجربة‬

‫ملف العدد‬


‫الشعر السوري بين داخل وخارج‪:‬‬ ‫قصيدة واحدة مكتوبة بقلم الحرب‬ ‫سامر إسماعيل‬ ‫دمشق‬

‫بتداعيات كثيرة على مستوى الكتابة الجديدة في سوريا‪ ،‬فمن‬ ‫ال تزال الحرب ُتنبئ‬ ‫ٍ‬

‫«هجمة الستينيات» التسمية التي أطلقها الشاعر شوقي بغدادي على جيله في تصديره‬ ‫ألنطولوجيا الشعر السوري المعاصر‪ ،‬مرورًا بـ«منعطف السبعينيات» أكثر المراحل تمر ًدا‬

‫‪36‬‬

‫على القوالب الشعرية الجاهزة كما أطلق عليها الشاعر منذر مصري‪ ،‬الذي أصدر في‬ ‫الحرب كتابه الالفت «لمن العالم» (دار نينوى‪2016 -‬م)‪ ،‬وصولاً إلى شعراء الحرب في عامها‬ ‫السادس‪ ،‬واالنقسام الذي أصاب النخب األدبية بين داخل وخارج‪ ،‬نلحظ ثيمات جديدة‬

‫لنصوص مفخخة حملت لعنة االقتتال الدائر‪ ،‬مثلما حملت وزر أحالمها المنكوبة‪.‬‬

‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬


‫فالشعر السوري املعاصر وجد انحسارًا يف السنوات‬

‫األخرية‪ ،‬يف رأي الناقد جمال شحيّد الذي يقول‪ :‬إن «الرواية‬ ‫أخذت حي ًزا كبريًا ومهمًّ ا يف الثقافة العربية؛ إذ إن االنحسار‬

‫الذي تم للشعر عوضت عنه الرواية ولو كان جزئيًّا؛ لكن موت‬

‫الشعر يف بعض البلدان األوربية واملجتمع االستهاليك ال يعني‬ ‫موته يف بلداننا‪ ،‬فالشعر يف سوريا ما زال إىل حد ما بخري رغم‬ ‫النكسة التي حصلت لهذا الفن األدبي العظيم‪ ،‬علمً ا بأن‬

‫شعوب العالم الثالث بشكل عام تهتم بالشعر‪ ،‬فكل شاب‬ ‫يف مرحلة حياته وبخاصة مرحلة املراهقة يكتب شع ًرا كون‬

‫القصيدة يف النهاية هي تعبري عن الحياة واإلنسان‪ ،‬وبحاجة‬

‫ألن يعبرّ عن مشاعره وأحاسيسه فيبدأ بالشعر ويرتكه عندما‬

‫ينضج إذا أراد»‪ .‬ويضيف الناقد شحيّد أنه شخصيًّا بات متأكدً ا‬ ‫من أن الحرب التي تمر بها سوريا أنتجت شع ًرا جميلاً ‪،‬‬ ‫ً‬ ‫نشيطا يف األزمات»‪.‬‬ ‫«فالشعر يصبح‬

‫لم ينج الشعر السوري بطبيعة الحال مما ألمّ بالوطن‬

‫برمته من كوارث‪ .‬وكما انقسم الوطن إىل شظايا انقسم الشعر‬

‫وشعراؤه إىل شظايا‪ ،‬يقول الشاعر تمام تالوي املقيم حاليًّا‬ ‫يف السعودية ويضيف‪« :‬ثمة شعراء وقفوا إىل جانب النظام‪،‬‬ ‫وآخرون وقفوا إىل جانب الحراك‪ ،‬وآخرون اختاروا الحياد‪،‬‬

‫وثمة من آثر الصمت‪ .‬وتبعً ا لهذه املواقف جاءت أشعارهم‪ ،‬عىل‬ ‫أن هنالك من صمت عن قول الشعر ليس ألنه ال موقف له مما‬ ‫يحدث‪ ،‬وإنما ألن الكارثة ألجمت لسانه‪ .‬وال مالم عليه‪ ،‬فمن‬ ‫يستطيع النطق أمام كارثة كهذه‪ ،‬سوى أشخاص لديهم قدرات‬

‫استثنائية عىل الكالم‪ ،‬فكلما اتسعت الكارثة ضاقت العبارة»‪.‬‬

‫تمام تالوي‪ :‬الشعر السوري حال ًّيا‬ ‫يشبه مصاير بعض الشعراء‪ ،‬فهو إما‬ ‫مهجر أو هارب‬ ‫شاعر مقتول أو أسير أو‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬

‫جمال شحيد‪ :‬الحرب التي تمر بها‬ ‫شعرا جميال‪ ،‬فالشعر‬ ‫سوريا أنتجت‬ ‫ً‬ ‫نشيطا في األزمات‬ ‫يصبح‬ ‫ً‬ ‫إننا نحتاج زم ًنا حتى نستوعب هول الصدمة‪ ،‬نحتاج زم ًنا‬

‫حتى نستطيع أن ننظر بعني شاعرية إىل هذا الخراب العميم‬ ‫وهذا املوت املجاين وهذا التشرد املليوين عرب الحدود والبحار‪-‬‬

‫يستطرد الشاعر تالوي الحائز عىل جائزة الشعراء الشباب يف‬ ‫دمشق عاصمة للثقافة العربية ‪2008‬م‪« :‬عىل املستوى الشخيص‬ ‫ً‬ ‫والحقا‬ ‫كان موقفي واضحً ا منذ البداية مع التغيري السلمي‬

‫‪37‬‬

‫ضد السالح وضد األسلمة؛ ألنني أعتقد أن املوقف األخالقي‬ ‫والثقايف والوطني يجب أال يكون منحا ًزا إال ملا يخدم مصلحة‬ ‫الوطن والتغيري نحو األفضل بالوسائل الوطنية والسلمية التي‬ ‫ُ‬ ‫فكتبت قصائد عدة‬ ‫ال تؤدي إىل مزيد من القتل والخراب‪،‬‬

‫تتناول يف األساس البعد اإلنساين ملا آلت إليه حال اإلنسان‬ ‫ُ‬ ‫كتبت عن املوت وعن الهدم وعن‬ ‫السوري منذ آذار ‪2011‬م‪ ،‬كما‬ ‫التشرد وعن الشرخ اإلنساين الذي جاء نتيجة للشرخ عىل‬

‫املستوى الوطني»‪.‬‬

‫ملف العدد‬


‫ثمة شعراء كرث تهجّ روا يف املنايف‪ ،‬وكانوا يف معظمهم‬

‫مؤيدين للحراك‪ ،‬وكتبوا له وغنوا لشهدائه‪ .‬ومنهم من التحق‬

‫بالعمل اإلعالمي أو امليداين‪ ،‬وهم شعراء مبدعون ومعروفون‬

‫عىل نطاق واسع‪ ،‬بينما ظل معظم الشعراء املحايدين أو‬

‫جسمك‬ ‫املؤيدين داخل سوريا‪ -‬يضيف صاحب ديوان «تفسري‬ ‫ِ‬ ‫يف املعاجم»‪ :‬ثمة شعراء استشهدوا بالقصف كالشاعر محمد‬ ‫وليد املصري‪ ،‬أو استشهدوا بسكني داعش كالشاعر بشري‬

‫العاين‪ ،‬وشعراء آخرون اعتقلوا كالشاعر وائل سعد الدين‬ ‫الذي أفرج عنه النظام مؤخ ًرا‪ ،‬وثمة شعراء تهجّ روا من بيوتهم‬ ‫ومدنهم أو هربوا‪ ،‬وهؤالء أسماؤهم ال حصر لها‪ .‬الشعر‬ ‫السوري يف رأيي الشخيص حاليًّا يشبه مصاير هؤالء الشعراء‪،‬‬

‫فهو إما شاع ٌر مقتول أو أسري أو مهجّ ر أو هارب»‪.‬‬

‫أمام انعطافة كبرية عىل صعيد النص الشعري‪ ،‬سوف تتبلور‬ ‫ً‬ ‫الحقا لكن متى؟ ال أحد يعرف بالضبط! هذا األمر تؤكده كثري‬

‫من النصوص املكتوبة من أجيال شعرية مختلفة‪ ،‬فاملسألة ال‬

‫ِّ‬ ‫الشعر يقود املرحلة‬

‫تتعلق بالشعراء الشباب كما يتخيل البعض‪ .‬هذه االنعطافة‬

‫الشاعر زيد قطريب الذي أدار وأشرف يف سنوات الحرب‬

‫ال يُقصد بها حضور ألفاظ الحرب وأسماء السالح ومفردات‬

‫أنطولوجيا بعنوان «شعراء تحت القصف» باللغتني العربية‬

‫طبيعي‪ ،‬وال يمكن أن يعد انعطافة أو تجديدً ا‪ .‬إنما هناك‬

‫عىل ملتقى «ثالثاء شعر» يف العاصمة السورية منتجً ا عنها‬ ‫واألملانية له رأي أقل تشاؤمً ا يف هذا السياق؛ إذ يقول‪« :‬نحن‬

‫‪38‬‬

‫زياد قطريب‬

‫االنفجارات وأصوات الرصاص؛ ألن حضور هذا املعجم أمر‬ ‫انعطافة كبرية عىل صعيد املعنى والشكل يف آن واحد‪،‬‬

‫شوقي بغدادي‪:‬‬ ‫شعراء يتشابهون كأنهم يحبون امرأة واحدة‬ ‫الشاعر شوقي بغدادي له رأي مختلف يف شعراء اليوم؛ إذ يقول‪« :‬الشاعر الحقيقي هو الذي يموت إن لم يكتب‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫فالشعر نابع أولاً وآخرًا من املعاناة الشخصية للكاتب‪ ،‬وهذا ما ال أراه عمومً ا عند شعراء اليوم الذين يتشابهون يف كتاباتهم‬

‫وكأنهم يحبون امرأة واحدة أو كأنهم يكتبون من دون أن يعيشوا ويعايشوا ما يؤلفونه من قصائد»‪.‬‬

‫الشعر العربي قديمً ا كان له مكان الصدارة لكنه اليوم لألسف يجلس يف الصفوف الخلفية من املشهد الثقايف السوري‬ ‫يضيف بغدادي‪ -‬فكون الشعر نابعً ا من إصغاء الشاعر لصوته الداخيل هذا ال يعني أن‬‫تخلص قصيدة اليوم إىل نوع من الهوامات‪ ،‬بل يجب تكوين املناخ النفيس والعاطفي‬ ‫عىل أساس الصدق يف القول الشعري‪ ،‬ال من باب التزيني واالحتفاء باألفكار‬ ‫الكبرية؛ بل بالتعويل عىل أهمية الشكل الفني وضرورته يف إبداع النص الشعري‬ ‫املتوازن واملؤسس إلشراقات جديدة يف القصيدة العربية املعاصرة»‪ .‬الشعر ً‬ ‫إذا‬

‫ً‬ ‫واعظا أو‬ ‫هو لغة الروح ال لغة العقل‪ ،‬فليس مطلوبًا من الشاعر أن يكون‬ ‫ً‬ ‫صادقا وجري ًئا يف طرح الشكل الفني‬ ‫داعيًا أو خطابيًّا‪ ،‬بل املطلوب منه أن يكون‬

‫وترسيخه يف نصوصه‪ ،‬وهذا ال يعني كما يرى بغدادي أن «الشعر الحر هو الصيغة‬ ‫َ‬ ‫أيقونة ِّ‬ ‫الشعر العربي‪،‬‬ ‫الوحيدة للتعبري؛ إنما هناك الشعر العمودي الذي يعد‬ ‫لكن من يستطيع الكتابة اليوم كبدويّ الجبل أو سليمان العيىس‪ ،‬فهؤالء‬ ‫قالئل ًّ‬ ‫جدا‪ ،‬وال يتقنون التعبري بأدوات قصيدة العمود التي لم تندثر‬ ‫لكن شعراءها يعدون عىل أصابع اليد الواحدة»‪.‬‬

‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬


‫فهذه الحرب كانت مناسبة الستيقاظ كل األسئلة الفكرية‬

‫ابن حذام وبالتمعّ ن أكرث‪ ،‬يكتشف كيف تشتغل اآللة الثقافية‬

‫استيقاظ أسئلة الشكل املتعلقة بأسلوب الكتابة الشعرية‪،‬‬

‫سوق العرض لالستهالك التطهريي وفق رؤية أرسطو»!؟‬

‫والفلسفية املؤجلة منذ أمد بعيد‪ ،‬وهو ما أدى عمليًّا إىل‬

‫ولنقل‪ :‬إن هناك عالقة جدلية بني الطرفني؛ بحيث ال خالف‬

‫عىل أسبقية املضمون عىل الشكل أو بالعكس‪ ،‬فكل واحد‬ ‫منهما يتسبب يف إيقاظ اآلخر ‪ .‬قريبًا‪ ،‬ستودّع كثري من الكتابات‬

‫السياسية يف تعويم األسماء وتوجيه الخطاب الشعري نحو‬ ‫ليس ما سبق هو التقليل من املنجز الشعري السوري يف‬

‫ً‬ ‫دفاعا عن الجمال وإنقاذ ما يمكن إنقاذه‬ ‫سنوات املوت‪ ،‬بل‬

‫من التلوث الذي أصاب جوانب الحياة السورية كافة‪ -‬يعقب‬ ‫ً‬ ‫مضيفا‪« :‬إن كان من ثورة نقدية مضادة‬ ‫الشاعر باسم سليمان‬

‫الشعرية معجمها املعروف واملستخدم حاليًّا وأقصد به اللغة‬ ‫ّ‬ ‫تشكل معجم جديد‬ ‫العربية بشكلها الحايل‪ ،‬يف إشارة إىل‬

‫تعيد الشعر السوري إىل ريادته ال بد لها من أن تعرتف بأن‬

‫والنص السيايس االستبدادي‪ ،‬وكل ذلك بفضل الحرب التي‬

‫اإليجابيات أو السلبيات‪ -‬كررت إنتاج ذات املناحي السيئة‬

‫اليوم كما يخربنا الشاعر قطريب‪« :‬سيتوىل ِّ‬ ‫الشعر قيادة‬

‫الجهويات السياسية؛ يك ينتصر لقيم الحق والجمال والخري‪،‬‬

‫ُّ‬ ‫يفك عقد التحالف الذي نشأ تاريخيًّا بني النص الغيبي الديني‬

‫أعادت أسئلة االنتماء والهوية والثقافة والذائقة الجمالية إىل‬ ‫الواجهة»‪.‬‬

‫املرحلة الجمالية والثقافية القادمة ليعيد صياغة الذهنية‬ ‫واملخيلة السورية التي رزحت طويلاً تحت االحتالل العربي‪،‬‬ ‫واآلن نحن أمام حركة تحرر كبرية يقودها النص الشعري‪،‬‬

‫وهي تأيت تتمة ملا فعله شعراء سوريون عظماء يف التاريخ‬ ‫بدءً ا من املتنبي واملعري وصولاً إىل السيّاب واملالئكة‬

‫واملاغوط وأدونيس»!‬

‫جزيرة تنمو وسط املحيط‬

‫ويقول الشاعر باسم سليمان الذي‬

‫أصدر خالل الحرب أكرث من كتاب‬

‫الشعرية السورية قبل الحرب وخاللها‪ ،‬سواء من ناحية‬

‫والرتويج لها عىل أنها الخري الوفري يف الشعر السوري اآلن‪،‬‬ ‫فالقطيعة التي أُمل منها أن تح ِّرر الشعر من تجاذبات‬

‫أكملت بنفس النسق الذي ثارت عليه»‪.‬‬ ‫أين الشعر؟ تتساءل الشاعرة السورية سوزان عيل مردفة‪ً:‬‬ ‫«عناوين كثرية ُط ِبعت وتطبع منذ بداية املأساة السورية يف‬ ‫الداخل والخارج‪ ،‬ومع إيماين العميق بأن الحرب بفوضاها‬ ‫وموتاها تجعلنا ال نرى‪ ،‬فإن النتاجات الشعرية‬ ‫فاقت أي إنتاج أدبي آخر‪ ،‬مع كل الغرق‪ ،‬مع كل‬ ‫الضبابية التي تحيط باملشهد‪ ،‬هذا بال شك ما‬ ‫تدل عليه أغلب النصوص الشعرية التي خلصت‬

‫إليها السنوات الست األخرية يف سوريا»‪.‬‬

‫وتضيف سوزان عيل‪« :‬للحظة تشعر فيها‬

‫شعري وروايئ كان أهمها «تمامً ا‬

‫أن الشاعر يرقب ما يجري يف الشارع‪،‬‬

‫قبلة»‪« :‬الشعر ليس الهدف منه‬

‫ثم يبدأ بتدوين أحداثه داخل ورقة‬

‫فنيًّا البتة بل سياسيًّا‪ ،‬فالربيع‬

‫يف جيبه‪ .‬تأخذ رحى الحرب مفردات‬

‫العربي الذي أراد القطع مع الخطاب‬

‫الثقايف السائد واملتماهي مع السلطة‬ ‫املثار عليها‪ ،‬ذهب مغرتبًا يف وصف‬

‫الجيل الشعري الذي نضج وأثمر خالل سنوات الصراع‬ ‫املستمرة‪ ،‬فوصفه بأنه جزيرة تنمو يف وسط املحيط لها جملها‬

‫واستعاراتها ومجازاتها الخاصة‪ ،‬وكأن اللغة ولدت اآلن لكن‬

‫املدقق واملتابع بشكل فني من دون التأثر بتجاذبات الجهويات‬ ‫السياسية املتبناة؛ يستطيع أن يرى التأثري الواضح لألسماء‬

‫الكبرية يف الشعر السوري عىل هذا الجيل واستنساخ تجربته‬ ‫وتطويرها‪ ،‬وهذا ليس عيبًا فأمري الشعراء وقف وبىك كما فعل‬

‫سوزان علي‪ :‬النتاجات الشعرية فاقت‬ ‫أي إنتاج أدبي آخر‪ ،‬مع كل الغرق‪ ،‬مع‬ ‫كل الضبابية التي تحيط بالمشهد‬

‫‪39‬‬

‫باسم سليمان‬

‫الشعر وتطحنها‪ ،‬لتج ّردها من كل‬ ‫ما ألفناه من ِّ‬ ‫الشعر السوري»‪.‬‬ ‫الكارثة حدثت لنا يف املوت‪ ،‬ولم‬

‫يكن هناك من عمل يوازي هذا القتل‪ -‬تشرح عيل وتضيف‪:‬‬

‫«ألننا يف إثر ِه نميش‪ ،‬نحن لم ننشف بعد‪ ،‬وإن نظرنا خلفنا‬ ‫لن نرى سوى ظالل تتكسر‪ ،‬وكما نضع ًّ‬ ‫كفا فوق جبهتنا أثناء‬ ‫ظهرية حادة لرنى بصعوبة‪ ،‬الشعر اليوم يكاد ال يُرى؛ باملقابل‬

‫هناك عناوين تمسك خيط األلم من بدايته قبل حتى أن تفتح‬ ‫الكتاب لتقرأ»‪.‬‬

‫كال إن الشعر ال يلفظ أنفاسه األخرية‪ ،‬تقول سوزان عيل‬ ‫وتضيف‪« :‬إنه يعطي االنطباع بأنه متعب ًّ‬ ‫حقا كما ّ‬ ‫وصف‬

‫الشاعر املكسييك (أوكتافيو باث) يومً ا حال الشعر‪ ،‬فالبالد‬ ‫أيضا‪ ،‬حيث القبور مفتوحة ً‬ ‫متعبة ً‬ ‫سلفا‪ ،‬والغبار غدً ا سيكون‬

‫ً‬ ‫سميكا فوق الكتب‪ ،‬الوقت يرتنح يف ِّ‬ ‫ً‬ ‫ِّ‬ ‫طارقا‬ ‫والشعر ينتظر‬ ‫ظله‪،‬‬

‫جديدً ا يقوده إىل العماء األول‪ ،‬صافيًا عذبًا كما كان»‪.‬‬

‫ملف العدد‬


‫أسباب انحسار الشعر‬ ‫في مصر‬ ‫صبحي موسى‬ ‫القاهرة‬

‫حين تدعى إلى أمسية شعرية في القاهرة فإنك تتخيل أن كل الذين يجاهرون بحبهم للشعر‬

‫سيكونون في انتظارك‪ ،‬لكنك حين تذهب ال تجد جمهورًا غير المشاركين في األمسية‪ ،‬وبعض‬ ‫هؤالء يفضل أن يدخن سجائره خارج المكان إلى أن يأتي دوره‪ .‬من ناحية أخرى‪ ،‬حين تكتمل لديك‬

‫قصائد ديوان فإنك تبحث عن ناشر يقبل نشره‪ ،‬وإن قبله فالبد أن تتحمل كلفة الطباعة‪ ،‬وحين‬ ‫يطبعه تبدأ مهمتك في الترويج له وتوزيعه على األصدقاء‪ ،‬وتصبح حفالت توقيع الشعر إن وجدت‬

‫ً‬ ‫نوعا من تبادل المجامالت‪.‬‬

‫‪40‬‬

‫هكذا أصبح واقع الشعر‪ ،‬فال جمهور وال جوائز وال اهتمام إعالمي‪ ،‬وال شيء سوى صراعات‬

‫الشعراء بعضهم مع بعض على أيهم األشعر‪ ،‬أو أي األنواع الشعرية أكثر حياة من غيرها‪.‬‬ ‫فالتقليديون ال يؤمنون بقصيدة النثر‪ ،‬ويكفرون من يكتبها فنيًّا‪ ،‬والنثريون يؤمنون بالشعر العمودي‬

‫وقصيدة التفعيلة لكنهم يرون أن الريادة اآلن للنثر‪ ،‬ومن يكتب سواه فقد أصابته الردة‪ ،‬هكذا‬ ‫يتصارع الشعراء في حارة ال يكاد يراها أحد‪ ،‬واألضواء مسلطة على الرواية والسينما وربما المسرح‪..‬‬ ‫فما الذي حدث لديوان العرب وفنهم األول؟‬

‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬


‫يقول أستاذ األدب العربي‬

‫ذلك قديم قدم الشعر ذاته‪ ،‬فلطرفة‬

‫يف جامعة عني شمس الدكتور‬

‫بن العبد بيت يقول فيه‪:‬‬ ‫«رأيت القوايف َّ‬ ‫يتلجن موالجً ا‬

‫محمد عبداملطلب‪ :‬إن الشعر اآلن‬

‫يضيق عنها أن تولجها اإلبر»‪.‬‬

‫أصبح له منافسون لم يشهدهم‬ ‫طوال تاريخه‪ ،‬وإن هؤالء املنافسني‬

‫ويذهب عبداملطلب إىل أن املشكلة‬

‫أنتجتهم الحضارة الحديثة من خالل‬

‫املسلسالت‬

‫والربامج‬

‫الحقيقية تكمن يف أن الشعر هو فن‬

‫التليفزيونية‬

‫اللغة العربية األول‪ ،‬وال يمكن تذوق‬

‫والعروض السينمائية‪« ،‬منافسني‬

‫إبداعاته وجمالياته من دون اإلملام‬

‫استحوذوا عىل بعض من تقنيات‬

‫باللغة العربية‪« ،‬نحن يف زمن تضيع‬ ‫ً‬ ‫ضياعا شبه كامل يف مختلف‬ ‫فيه اللغة‬

‫الشعر الروحية والجمالية؛ لذا فقد‬

‫انحسر الواقع العام عن تلقي الشعر‪،‬‬ ‫لكن ذلك لم يحدث يف الواقع األدبي‪،‬‬ ‫يدلنا عىل ذلك أن الشعراء يتزايدون‪،‬‬

‫ولو قمنا بإحصاء عدد شعراء الحداثة‬ ‫يف زمن السبعينيات وشعراء الحداثة‬

‫اآلن لوجدنا العدد أكرب بكثري»‪.‬‬

‫مستويات التعليم‪ ،‬وهذا سبب‬

‫محمد عبدالمطلب‪ :‬المشكلة‬ ‫الحقيقية تكمن في أن الشعر هو‬ ‫فن اللغة العربية األول‪ ،‬في حين‬ ‫ضياعا شبه كامل‬ ‫نرى أن اللغة تضيع‬ ‫ً‬

‫وأوضح عبداملطلب أن املشكلة يف الفهم الخاطئ عن أن‬

‫الشعر فن شعبي‪« ،‬وهذا غري صحيح؛ فالشعر منذ ظهر وهو‬ ‫فن الخاصة‪ ،‬وللرسول‪ -‬صىل الله عليه وسلم ‪ -‬حديث يقول‬

‫فيه‪« :‬إنما الشعر كالم من كالم العرب جزل‪ ،‬تتكلم به يف‬ ‫بواديها‪ُ ،‬‬ ‫وت َس ّل به الضغائن من بينها»‪ ،‬أي أن الشعر جنس‬

‫خاص من الكالم وليس كل كالم شعر‪ ،‬واألمر الثاين أنه ليس‬ ‫ف ًّنا شعبيًّا عامًّا‪ ،‬واألمر الثالث أن له جمالياته الخاصة وله‬ ‫وظائفه االجتماعية‪ ،‬كما أنه ليس فناً شعبياً كما يتصور الكثريون‬ ‫حني يقولون بانحسار دور الشعر‪ ،‬وربما كان يف مراحل معينة‬

‫من مراحله أقرب إىل الفن الشعبي؛ من بينها مرحلة جرير‬

‫والفرزدق‪ ،‬ومرحلة شوقي وناجي‪،‬‬

‫الكتاب كمصدر وحيد للمعرفة‪ ،‬وبدأ عصر الشاشة»‪ ،‬وهو ما‬ ‫ً‬ ‫وإنعاشا لفنون‪ ،‬أخرى كالرواية التي‬ ‫يعني إزاحة لبعض الفنون‪،‬‬

‫يمكنها أن تتحول إىل فلم سينمايئ»‪ .‬ويشري إىل أن السينما هي التي‬ ‫أدخلت نجيب محفوظ إىل النجوع‬ ‫والقرى‪ ،‬وأن كبار الكتاب يف العالم‬

‫العربي راجت أعمالهم؛ بسبب األفالم‬

‫والشاشة البيضاء‪« ،‬ويمكن القول‪ :‬إن‬ ‫التصوير وأدوات امليديا الجديدة أفادت‬ ‫ً‬ ‫فنونا كاملسرح وغريه‪ ،‬لكن الشعر‬

‫من ذلك يظل هو الفن األكرث قدرة عىل‬

‫لم يستفد من هذا العصر؛ ألنه من‬

‫اخرتاق جوهر اإلنسان»‪ .‬ويلفت إىل‬

‫الصعب تحويل قصيدة إىل عمل فني‬

‫جالل األحمدي‬

‫وتفصيالت الوقائع‪« ،‬لكن حني يخرتق‬

‫إدريس‪ ،‬وكل كتاب السرد‪ ،‬ويبدو أن‬

‫‪41‬‬

‫حمل عنوان «السينما املستقبلية» وجاء يف صدارته‪« :‬انتهى عصر‬

‫التاريخية‪ ،‬فن خاص‪ ،‬لكنه عىل الرغم‬

‫ذلك عند نجيب محفوظ‪ ،‬ويوسف‬

‫نحن مقبلون عىل مرحلة ينفصل فيها‬

‫«وعلينا أن نتذكر بيان الحركة املستقبلية الصادر عام ‪1916‬م‪ ،‬الذي‬

‫ما هو عليه طوال مساره ومراحله‬

‫الداخلية يتحول إىل شاعر‪ ،‬نجد‬

‫تذوق الشعر أو معرفة جمالياته‪،‬‬

‫عصر الشاشة‬

‫كل مراحله فن خاص‪ ،‬وهو اآلن عىل‬

‫الكاتب جوهر الشخصية ومكنوناتها‬

‫األجنبية‪ ،‬فكيف ستخرج طالبًا يمكنهم‬

‫ويرى الشاعر محمد سليمان أننا نعيش يف عصر الشاشة‪،‬‬

‫قباين‪ ،‬لكن فيما عدا ذلك فالشعر يف‬

‫الحياة‪ ،‬ونجد صراعات الشخوص‪،‬‬

‫وجامعات اآلن لغتها األوىل هي اللغات‬

‫املواطن عن لغته‪ ،‬وهو ما يعني انفصاله عن ثقافته ودينه ووطنه‬ ‫ً‬ ‫أيضا؛ فاللغة هي املواطنة»‪.‬‬

‫وربما آخر هذه املراحل هي مرحلة نزار‬

‫أنه يف الرواية يمكننا أن نجد تقابالت‬

‫عدم رواج الشعر‪ ،‬فهناك مدارس‬

‫يعرض عىل املسرح»‪.‬‬

‫ويؤكد سليمان أن الجوائز ليست‬

‫العامل الحاسم يف انحسار األضواء عن‬

‫محمد سليمان‪ :‬الميديا وآلياتها‬ ‫سحبت السجادة من أسفل أقدام‬ ‫الشعر‬

‫الشعر والشعراء‪« ،‬لكن امليديا وآلياتها‬ ‫هي التي سحبت السجادة من أسفل‬ ‫أقدام الشعر الذي ظل مهيم ًنا طوال‬

‫النصف األول من القرن العشرين»‪.‬‬

‫ملف العدد‬


‫من جانب آخر يذهب أستاذ األدب‬

‫كثريًا حني نقول‪ :‬إن الشعر يمر يف‬

‫سامي سليمان إىل أنه من الصعوبة‬

‫أسبابها معً ا للوقوف يف طريق الشعر‬

‫اللحظة الراهنة بأزمة كبرية تتشابك‬

‫العربي يف جامعة القاهرة الدكتور‬

‫وعرقلة مسريته‪ ،‬ويتفق بعض‬

‫الحديث عن الشعر عىل إطالقه يف‬

‫الشعراء مع كثري من النقاد‪ ،‬مع‬

‫دوائر التلقي العربية‪ .‬ويقول‪ :‬إنه‬

‫عدد من أصحاب دور النشر‪ ،‬يف هدم‬ ‫آخر َل ِبنات جدار الشعر‪ .‬ويوضح‬

‫يمكن التمييز بني ثالثة أنماط رئيسة‬ ‫وعامة‪ ،‬وهي‪ :‬الشعر الحر وقصيدة‬

‫أن الشعراء باتجاههم إىل نوع من‬ ‫الكتابات التي غالبًا ما ُتنفر املتلقي من‬

‫النرث والشعر التقليدي املتطور كالشعر‬

‫الكالسييك والشعر الرومانيس‪ ،‬ثم‬ ‫شعر العامية‪ .‬ويضيف قائلاً ‪« :‬يف‬ ‫شكل عام نحن نحيا يف العقود التالية‬ ‫ملرحلة الحرب العاملية الثانية يف عصر‬

‫السرد وعصر الصورة‪ ،‬وكال التعبريين‬

‫دال عىل مرحلة حضارية تتقدم فيها‬ ‫أنواع أدبية وفنية كالسينما واملسلسل‬

‫سامي سليمان‪ :‬إنه يمكن التمييز‬ ‫بين ثالثة أنماط رئيسة وعامة‪،‬‬ ‫وهي‪ :‬الشعر الحر وقصيدة النثر‬ ‫والشعر التقليدي المتطور كالشعر‬ ‫الكالسيكي والشعر الرومانسي‬

‫وأصحاب دور النشر بمساندتهم‬ ‫ُ‬ ‫اب النرث وتحمسهم للرواية‬ ‫لك َّت ِ‬ ‫ورفضهم –إال نادرًا– طباعة دواوين‬

‫الشعر ألنها –من وجهة نظرهم– ال‬

‫التليفزيوين والرواية والقصة القصرية عىل حساب الشعر‪ .‬ونلحظ‬

‫تباع‪ ،‬كل ذلك يُفاقم من أزمة الشعر‪.‬‬

‫ً‬ ‫اتساعا‪،‬‬ ‫نمط الشعر التقليدي املتطور فيتحرك يف دوائر تلقي أكرث‬

‫ملقولة‪ :‬إن الرواية هي ديوان العرب‪ ،‬وبعد أن تنافست دور النشر‬

‫أن نمط الشعر الحر وقصيدة النرث يتلقيان يف دوائر محدودة‪ .‬أما‬

‫‪42‬‬

‫الشعر‪ ،‬والنقاد بتلميعهم للنماذج‬ ‫ً‬ ‫أحيانا‪،‬‬ ‫الشعرية املتواضعة والرديئة‬

‫ويرى أن تأثري الشعر تناقص «بعد أن ظهر من يروجون‬

‫يف نشر السرد‪ ،‬وظهرت جوائز جرى تخصيصها للرواية والقصة‬

‫وهي دوائر تسودها أنواع من الجماليات ذات الصلة باملوروث من‬ ‫مسرية الشعر العربي‪ .‬ويبقى النمط األخري ممثلاً يف شعر العامية‬

‫القصرية‪ .‬لقد شارك الجميع يف الهجوم عىل الشعر‪ :‬شعراء‪،‬‬

‫العام‪ ،‬عىل الرغم من أن الحركة النقدية املعاصرة له لم تمنحه ما‬

‫عىل الشعر‪ ،‬وجعل الجماهري تبتعد منه وال تتفاعل معه‪ .‬اآلن يمر‬

‫الذي اكتسب ‪-‬يف العقود األخرية‪ -‬مساحات كبرية من دوائر التلقي‬ ‫يستحق من اهتمام»‪.‬‬

‫ويوضح أن هذه الوضعية هي التي تفسر عالقة وسائل‬

‫اإلعالم بأنماط الشعر العربي؛ «فرغم محدودية املساحات‬ ‫املخصصة للشعر يف تلك الوسائل فإن شعر العامية والشعر‬

‫التقليدي املتطور لهما حضور أقوى يف‬

‫ونقاد‪ ،‬وقراء‪ ،‬وناشرون‪ ،‬ومخصصو جوائز‪ ،‬وهذا ضيق الخناق‬ ‫الشعر بأزمة حقيقية‪ ،‬غري أن بعض الشعراء ال يزالون يكابرون‬

‫وهم جالسون يف أبراجهم العاجية التي لن يعود للشعر دوره‬

‫وتأثريه إال بعد أن يغادروها‪ ،‬ويمتزجوا بجماهري القراء‪ ،‬معبرّ ين‬ ‫عن أحاسيسهم ومشكالتهم وقضاياهم»‪.‬‬

‫ال أحد يرحب بشاعر ينتصر للعدالة‬

‫مساراتهما من الشعر الحر وقصيدة‬

‫النرث‪ .‬ولكن يف العقد األخري أخذت تتاح‬

‫ويذهب مدرس األدب العربي‬

‫للشعر إمكانيات جديدة للتلقي عرب‬

‫بجامعة أسيوط الدكتور أحمد‬

‫وسائل التواصل االجتماعي املختلفة‪.‬‬ ‫وليس ممك ًنا التنبؤ بإمكانيات تغري‬

‫الصغري إىل أن القصيدة بدأت يف‬

‫الرتاجع مع التقدم املعريف‪ ،‬ألسباب‬ ‫متعددة‪ ،‬منها‪ ،‬أولاً ‪ :‬تهميش دور‬

‫هذه الوضعية يف املستقبل القريب؛‬ ‫ألن أشكال التطور يف وسائل االتصال‬

‫الشعر‪ ،‬فلم تعد املؤسسات السياسية‬

‫تؤدي دائمً ا إىل تقليص املساحات‬

‫واإلعالمية ترحب بوجود الشعر؛‬

‫املتاحة للكلمة التي أخذت الصورة‬

‫جالل األحمدي‬

‫تحل محلها وتتحول إىل بديل عنها»‪.‬‬

‫أزمة كبرية تعرقل مسرية الشعر‬

‫من جانب آخر يقول الشاعر‬

‫واملرتجم عاطف عبداملجيد‪ :‬ال نختلف‬

‫ألن الشعر ينتصر للعدالة والحقيقة‬

‫واملساواة‪ ،‬رغبة من الشعر يف وجود‬

‫عاطف عبدالمجيد‪ :‬شعراء‪ ،‬ونقاد‪،‬‬ ‫وقراء‪ ،‬وناشرون‪ ،‬ومخصصو جوائز‪،‬‬ ‫ضيقوا الخناق على الشعر‬

‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬

‫حياة إنسانية مناسبة يجد اإلنسان‬

‫فيها روحه املعذبة‪ .‬ثانيًا‪ :‬تشجيع‬

‫الفنون األخرى عىل حساب الشعر‬ ‫مثل فن (الرواية والقصة واملسرح)‪،‬‬


‫وإن كانت الرواية هي التي سحبت‬

‫ما زال يلملم جراحاته يف وجدانات‬

‫الشعر كالفارس الوحيد الذي يقف يف‬ ‫ميدان املعارك معزولاً‬ ‫ً‬ ‫ومهمشا‪ ،‬حزي ًنا‬ ‫عىل نفسه ملا ألم به من غياب‪ً .‬‬ ‫ثالثا‪:‬‬

‫من حني إىل آخر»‪.‬‬

‫للشعر قائمة‪« ،‬إال إذا تبنت الدولة‬

‫تفرد مساحات واسعة للرواية والقصة‬

‫الرتبية والتعليم يف تجديد مناهجها‬

‫البساط من تحت أقدام الشعر ليصبح‬

‫اإلنسانية من خالل روحه التي تيضء‬ ‫وقال الصغري‪ :‬إنه لن تقوم‬

‫سياسة الجوائز العربية التي أصبحت‬

‫املصرية أفكار الشعراء‪ ،‬وبدأت وزارة‬

‫عىل حساب الشعر‪ ،‬فتحول كثري من‬

‫العقيمة التي تقف عند أحمد شوقي‬ ‫ً‬ ‫نصوصا جديدة للشاعر‬ ‫فقط‪ ،‬لتطرح‬

‫الشعراء إىل روائيني أو كتاب سيناريو‪،‬‬ ‫رغبة يف تحقيق مكاسب مادية سريعة‬

‫الحي الذي يعيش بيننا اآلن‪ ،‬وأن‬

‫أو شهرة واسعة‪ .‬رابعً ا‪ :‬لم يعد اإلعالم‬

‫يحتفي بدور الشعر املجدد‪ ،‬بل يرتكن‬ ‫إىل استدعاء الشعراء التقليديني الذين‬

‫ينفذون املطلوب منهم‪ .‬فجاءت صورة‬

‫الشاعر يف السينما مشوهة ورديئة‪ .‬ويف‬

‫النهاية رغم تراجع الشعر املدوي فإنه‬

‫يفرد األساتذة يف الجامعة مساحات‬

‫أحمد الصغير‪ :‬لن تقوم للشعر قائمة‪،‬‬ ‫إال إذا تبنت الدولة أفكار الشعراء‪،‬‬ ‫وبدأت وزارة التربية والتعليم في‬ ‫تجديد مناهجها العقيمة‬

‫لتدريس الشعر الجديد أو شعر‬

‫الحداثة العربية‪ ،‬واستضافة الشعراء‬

‫األحياء؛ ألنهم هم وحدهم األكرث‬ ‫قدرة عىل إحياء الشعر وممارسة‬

‫دوره الحقيقي»‪.‬‬

‫ً‬ ‫ضيقا على التعبير والتواصل‬ ‫الشعر أضحى‬ ‫يرى الشاعر عالء خالد (مؤسس مجلة أمكنة) أن تحول الشعراء إىل الرواية‬ ‫ً‬ ‫ضيقا عىل التعبري والتواصل مع الناس؛‬ ‫«يعود إىل أن مجال الشعر أصبح‬

‫‪43‬‬

‫ً‬ ‫مقطوعا‪ ،‬ومن ثم توصيل املعنى‬ ‫فاملجال الرمزي بني الشعراء والناس أصبح‬ ‫َ‬ ‫ال يتم‪ .‬والرواية لها مجال رمزي واسع ومشرتك مع الناس‪ ،‬لذا ي ُنتقل إليها‬ ‫كوسيط له تقاليده‪ ،‬وسهولته فى التواصل والتوصيل»‪.‬‬ ‫ويضيف قائلاً ‪ :‬يف لحظات األزمة فى التوصيل كما نعيشها اآلن داخل‬ ‫الشعر‪ ،‬وعدم وجود مشرتك عام‪ ،‬يجب أن يتحرك طرفا األزمة‪ ،‬الشاعر‬ ‫والناس‪ ،‬لشق طريق جديد داخل هذا النوع األدبي وطريقة القراءة‪ .‬أقصد املهم‬

‫فى هذه اللحظات أال ينصرف الشعراء عن الشعر‪ ،‬بل يحاولون أن يطوروه‬ ‫ويكسبوه رمزية أوسع‪ ،‬وهو ما حدث بالفعل يف تغري شكل القصيدة واتجاهها‬ ‫نحو القص والسرد والسيناريو‪ .‬ولكن عىل الرغم من هذا التحول يحدث االنتقال‬

‫إىل الرواية؛ ألنه انتقال وتطوير شكيل للقصيدة‪ ،‬وربما كذلك أفقد الشعر‬ ‫شعريته‪ .‬انتقال مشوه وشكيل‪ ،‬أو بمعنى ما انفتاح شكيل عىل األنواع األخرى‪ .‬يف الوقت نفسه أصبحت الرواية مخزناً‬ ‫ً‬ ‫نشطا داخل الرواية وليس داخل الشعر»‪.‬‬ ‫للحس الشعري‪ ،‬الذي امتصته من الشعر‪ ،‬ولهذا أصبح املجال الشعري‬ ‫وأضاف خالد أن الجمهور العريق اختفى منذ نزار قباين ومحمود درويش‪ ،‬الذين كانوا يمثلون «لحظة جماعية عىل‬

‫كل املستويات‪ ،‬أو كانوا الضوء األخري من لحظة جماعية سياسية‪ ،‬كانت لها رموزها املشرتكة‪ ،‬وكان الشعر يمثل الحياة‬ ‫ً‬ ‫مبالغا فيه‪ ،‬مثل أشعار نزار قباين مثلاً ‪ .‬اآلن لحظة «الحقيقة» وكسر نموذجها اإليهامي‪ ،‬الذي‬ ‫فيها حتى لو كان كاذبًا أو‬

‫له أسباب كثرية‪ ،‬إذ لم ينتج بعد شعره أو أبطاله القوميني‪ ،‬أو جمهوره‪ ،‬بل أنتج جماعات صغرية من الجمهور‪ .‬مصطلح‬ ‫الجمهور تفتت من تلقاء نفسه مع تفتت النمودج اإليهامي»‪.‬‬

‫وخلص إىل أن الجوائز «فكرة سياسية تريد أن تصل ملن له تمثيل اجتماعي واسع‪ ،‬وإىل من يحقق لها االستمرار‬

‫واالنتشار؛ لذا فإنها تتجنب الشعر الذي يدور يف مساحات ضيقة من املجتمع»‪.‬‬

‫ملف العدد‬


‫الشعر العراقي بين راهنية‬ ‫المشهد وارتهان الحضور‬ ‫حسن جوان‬ ‫بغداد‬

‫ّ‬ ‫التلقي وطبيعة التداول الثقافي‬ ‫شهد العقدان األخيران تحوّالت كبيرة في مزاج‬ ‫لألجناس األدبية‪ ،‬وربما كانت اله ّزات السياسية واالجتماعية والثورة التكنولوجية التي‬ ‫تهيمن على المشهد العام‪ ،‬قد أسقطت الحدود الوهمية ما بين هذا الجنس األدبي والف ّني‬

‫‪44‬‬

‫أو ذاك‪ ،‬وأسهمت في تبادل أدوار كثيرة ما بين األجناس النثرية عمومً ا؛ إذ لم يكن الشعر‬ ‫العربي الذي دخل األلفية الثالثة محمّ لاً بأزمات ومخاضات سابقة‪ ،‬ببعيد من احتمال‬ ‫ّ‬ ‫نصيبه من هذه التحوّالت‪ ،‬واالنحسار لصالح أنواع صاعدة أكثر فتوّة وأوسع ّ‬ ‫تمثلاً في‬ ‫ّ‬ ‫التلقي‪.‬‬ ‫بسط مهيمناتها الجمالية والواقعية في مساحة‬

‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬


‫وإذا كان انحسار املطبوع الشعري قد أصبح حقيقة واقعة‬ ‫يعرفها الناشر ويق ّر بها الشاعر نفسه‪ ،‬فإن تفشيّ ظواهر موازية‬ ‫لتداول الشعر يف مواقع التواصل االجتماعي‪ ،‬قد تكون ّ‬ ‫وفرت‬

‫بهذا املعنى‪ ،‬فإنَّ األسئلة‬

‫تفاعيل أو يومي‪ .‬وعىل الرغم من أن مثل هذه الفضاءات املفرتضة‬

‫لجوهر واحد»‪.‬‬ ‫وم ـخـتـلـفــة‬ ‫ٍ‬

‫رافعات مبتكرة وغري مشروطة لكل من يكتب الشعر بشكل‬ ‫ال يمكن االحتكام إليها يف تقويم وحضور أي منجز ثقايف أو أدبي‬

‫يف نهاية املطاف‪ ،‬فاملراهنة هنا عىل االحتكاك املباشر بني األنواع‬ ‫األدبية األخرى التي أصبحت تتشابك يف حقول ش ّتى من التجربة‬

‫الوجودية الداخلية ال تتغيرّ ‪ ،‬ما‬ ‫يتغيرّ هو املعطيات الخارجية‪.‬‬

‫تأخذ صـي ــاغـ ــات مـت ـع ـدّدة‬

‫وبهذا املعنى نفسه‪،‬‬

‫يضيف مظلوم‪« ،‬أعدت توجيه‬

‫السؤال وأحلته [إىل] الشاعر‬

‫اإلنسانية‪ ،‬بني ما هو حاضر ومعبرّ عن اللحظة‪ ،‬وبني ما هو‬ ‫ً‬ ‫مالذا دائمً ا‪ .‬ومع‬ ‫تأمّيل ي ّتخذ من العزلة والتعقيب ال املشاركة‬

‫أننا يجب أن نبحث عن الشجرة‪،‬‬

‫املوروث‪ ،‬وال ضري من بروز أزمة وجود هنا أو إشكالية رؤيوية‬

‫والثمر؛ إذ يبدو يل الشاعر‬

‫ذلك‪ ،‬بقي الشاعر العربي يؤمن بأنه ال يزال يمسك بصولجانه‬ ‫وتقنية هناك‪ ،‬باملقارنة بني راهنية واقعه وما يواكبه من تجارب‬

‫عاملية يف مكان آخر‪.‬‬

‫نفسه‪ ،‬وليس [عن] الشعر؛ ذلك‬ ‫قبل أن نسأل عن غياب الظالل‬

‫اآلن مثل الكائنات املهدّدة‬

‫محمد مظلوم‬

‫باالنقراض‪ ،‬وثمّة ِمنَ األشجار‬ ‫ْ‬ ‫ما انق َر َض ْ‬ ‫قاس بال ثمر أو ظالل‪،‬‬ ‫ُسخت إىل‬ ‫ت فعلاً ‪ ،‬أو م‬ ‫حجر ٍ‬ ‫ٍ‬

‫حول هذه الراهنية يف الشعر العراقي والعربي عمومً ا‪ ،‬وعن‬ ‫جملة األسئلة وال ّتحديات التي يواجهها الشعر اآلن‪ ،‬وعن الشاعر‬

‫وهذا الحشد غري القابل لإلحصاء ممّن يكتبون الشعر حولنا‬

‫انحسر فيها ق ّراء الشعر وغابت الجوائز املرموقة عنه‪ ،‬لتحضر‬

‫وشيوع اإلسفاف والرداءة؛ لذلك فاملحنة هنا ذاتية مزدوجة قبل‬

‫نفسه الذي يوصف بأنه كان يتيمً ا فأصبح أكرث يتمً ا يف لحظة‬ ‫الرواية ومواقع التواصل االجتماعي بقوّة‪ ...‬حول هذه األسئلة‬ ‫واملحاور نستعرض آراء أربعة شعراء عراقيني من أجيال مختلفة‬

‫وأساليب كتابية ع ّدة‪.‬‬ ‫تحديات أزلية‬

‫يرى الشاعر والباحث العراقي محمد مظلوم أن األسئلة‬ ‫والتحدّيات التي يواجهها الشاعر تكاد تكون واحدة يف ّ‬ ‫كل‬ ‫«أقرب إىل األزل َّي ِة منها إىل اآلنيَّة‪ ،‬فاألسئلة‬ ‫العصور‪ ،‬وأنها‬ ‫ُ‬

‫اآلن أبطال وشهود عىل مأزق الشعر‪ :‬انحسار نموذجه العايل‪،‬‬ ‫كل يشء‪ ،‬طرفها األول أشرت إليه بتلك اللوثة األزلية وغموض‬

‫األسئلة لدى الشاعر نفسه‪ ،‬وطرفها الثاين النماذج السائدة‬ ‫التي توحي بالقحط بل ُتفصح عنه؛ حيث التضحية بالفضاء‬

‫‪45‬‬

‫اإلنساين‪ ،‬والكوين‪ ،‬والركون إىل التعبري عن أوهام هويات ضيِّقة‪،‬‬

‫والنزوع إىل مطامح رثة»‪.‬‬

‫وعن تعبري االنقطاع و«اليتم» اللذين انطوت عليهما محاور‬

‫الظاهرة الشعرية الراهنة‪ ،‬يعرتض الشاعر محمد مظلوم عىل‬

‫تقارب‬ ‫التي كابدها هومريوس اإلغريقي‪ ،‬أو فريجل الروماين‪،‬‬ ‫ُ‬

‫املطامح الغامضة المرئ القيس أو املتنبي العربيّني‪ ،‬وهي ذاتها‬ ‫حقيقي يف ِّ‬ ‫كل عصر‬ ‫شاعر‬ ‫التي قد يصطدم بها أيُّ‬ ‫ٍّ‬ ‫ٍ‬ ‫ومكان‪ .‬ما يختلف هو الشرط التاريخي‪،‬‬ ‫وخصائص املرحلة‪ .‬األسئلة‬

‫ملف العدد‬


‫جانب الشفقة الذي توحي به املفردة‪ ،‬فالشاعر بحسب قوله‪:‬‬ ‫«ليس مسكي ًنا إىل هذا الح ّد من التوصيف! فهو من جعل من‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫جمالية؛ غربة املعري‬ ‫هوية‬ ‫هذا املصري ‪-‬وإن بمازوخية مريبةٍ‪-‬‬

‫األمومي! أو‬ ‫الباطنية‪ ،‬أو منفى أوفيد‪ ،‬مرض السياب ال يُتمُه‬ ‫ُّ‬ ‫متاهة رامبو‪ ،‬كانت صورًا تقريبية‪ ،‬مجازية ربما‪ ،‬ملا تسميه اليتم‪،‬‬ ‫وأدعوه‪ :‬لعنة االنشقاق وهاجس البحث الغامض‪ .‬أما الشعر فهو‬

‫العربي بال مواربة‪ ،‬فعمر الرواية العربية وأصول نشأتها‪ ،‬ال‬ ‫املج ُد‬ ‫ُّ‬

‫لكن ما يحيط به من هذه الظواهر أسهم يف خلق «لحظة اليتم‬ ‫املفرتض»‪ .‬أما «الجوائز» وعىل الرغم من أنها أقرب إىل طقوس‬ ‫اجتماعية وتقاليد صالونات‪ ،‬فهي بدل أن تحتفي بالشعر‬

‫الحقيقي‪ ،‬ك َّر ْ‬ ‫ست ُعزلته»‪.‬‬

‫الراهن الشعري وحكايا املندثر‬ ‫ً‬ ‫وعطفا عىل محاور املوضوع بإشكالياته املطروحة نحو رؤى‬ ‫ّ‬ ‫تشكلت تجاربها يف العقد األخري‪ ،‬يطرح يف أولها الشاعر‬ ‫شابّة‬

‫تنطبق عليهما صفة املجد‪ ،‬بينما نحن نتحدَّث عن شعر مكتمل‬ ‫رث من خمسة عشر ً‬ ‫قرنا»‪.‬‬ ‫ُعمره أك ُ‬

‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫أحيانا‬ ‫خاصا يلتقي فيه مع اآلخرين أو يتف ّرد‬ ‫ميثم الحربي فهمً ا‬

‫الشعر عىل قدر غري مسبوق من اإلسفاف‪« ،‬ال يف مستواه‬

‫الشعري) يرتبط بالحياة الثقافية‪ ،‬والسياسية‪ ،‬وأطوارها‬

‫ويرى مظلوم أن مواقع التواصل االجتماعي جعلت من‬

‫فحسب‪ ،‬إنما يف طريقة عرضه‪ .‬فنحن إزاء ما يشبه «سوق الهرج»‬

‫يف طريقة قراءته‪ .‬يقول ميثم‪« :‬طاملا فهمنا أن مفهوم (الراهن‬

‫َّس البضائعُ ويُطرح الشع ُر إىل جانب‬ ‫تتداخل فيه األصوات‪ ،‬وتتكد ُ‬ ‫ِّ‬ ‫كل يشء‪ ،‬وأيِّ يشء! هكذا يتحوَّل «التواصل» املفرتض إىل انقطاع‬

‫وغيبوبة حقيقيني عن ذلك السحر القديم للشعر‪ ،‬لصالح انبهار‬ ‫عابر هو سمة العصر‪ .‬صحيح أن الشعر كان محاص ًرا يف ّ‬ ‫كل‬ ‫عصوره‪ ،‬إلاّ أن هذا االنحسار الخطري الذي نراه يف حياتنا املعاصرة‬

‫هو نتيجة طبيعية لنكوص شامل يف القيم الروحية والجمالية‬

‫‪46‬‬

‫والثقافية»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ويلفت إىل أن القراءة‪ ،‬والنقد‪ ،‬وطريقة التلقي‪ ،‬تراجعت‬ ‫معني بهذه التغيرُّ ات الطارئة‪،‬‬ ‫ري‬ ‫كذلك‪« ،‬وربما كان الشاع ُر غ َ‬ ‫ٍّ‬

‫محمد مظلوم‪ :‬الحشد غير القابل‬ ‫ممن يكتبون الشعر حولنا اآلن‬ ‫لإلحصاء ّ‬

‫أبطال وشهود على مأزق الشعر‬

‫ميثم الحربي‬

‫الزمن العربي شعري بامتياز‬ ‫من ناحية أخرى‪ ،‬ال يبدو الشاعر هاشم شفيق مرتاحً ا لوصف الشعر بالرتاجع واالنحسار إزاء أجناس أدبية أخرى صاعدة عىل‬ ‫مستويي الحضور والتداول‪ .‬فهو يعبرّ عن وجهة نظره بطريقة ناقدة؛ إذ يقول‪« :‬دائمًا يُثار حول ِّ‬ ‫الشعر لغط ما؛ مثل أزمة الشعر‬

‫العربي‪ ،‬ويف حقبة الستينيات برزت مشكلة قصيدة النرث وأثرها يف األصالة والرتاث والقدامة يف الشعر العربي‪ ،‬لنشهد بعد كل‬ ‫تلك اإلرهاصات‪ ،‬ومنذ أكرث من عقد ظاهرة الرواية التي نادى بها بعض ّ‬ ‫النقاد الذين لم يستطيعوا مجاراة فن النقد وتتبّع األساليب‬ ‫الشعرية املتطوّرة يف سياق الحداثة الشعرية‪ ،‬حتى انربوا يردّدون أنه زمن الرواية التي أصبحت ديوان العرب‪ .‬إنها تسمية خاطئة‪ ،‬يف‬ ‫الزمان الخطأ‪ ،‬واملكان الخطأ؛ الزمن العربي هو شعري بامتياز‪ ،‬واملكان كذلك‪ ،‬نحن أمّة شعرية‪ ،‬ومجبولون عىل الشعر وعىل قول‬ ‫جهد ساعيًا إىل تغطية‬ ‫الشعر حتى يف جلساتنا وقعداتنا‪ ،‬ويف مشوارنا الطويل مع الحياة‪ .‬أما الناقد الذي ّاتكأ عىل هذا التعبري‪ ،‬فهو ِ‬

‫ً‬ ‫ْ‬ ‫شوطا كبريًا‪ ،‬من التحوّالت الفنية واألسلوبية‬ ‫قطعت‬ ‫قصوره يف فهم النصوص الحديثة‪ ،‬واألج ّد يف كتابة القصيدة املعاصرة التي‬

‫واإلستاتيكية يف كتابة نسق جديد ومستحدث للقصيدة»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ويميض هاشم شفيق قائلاً ‪« :‬لو رجعنا قليلاً إىل الوراء ورأينا حال الشعر وقارناه باليوم؛ لوجدنا الشعر يف هذه األزمنة أكرث انتشارًا‬

‫من السابق‪ .‬الشعر اليوم بدأ يصعد معراجً ا جديدًا مع التقنيات الحديثة والوسائط الجديدة للمجتمع الحديث‪ ،‬فالفيسبوك ساعد‬

‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬


‫املتح ّركة كما تختزن مفردة الراهن شحنة الزمن‪ ،‬وتبذر لنا يف‬ ‫ّ‬ ‫املحك‪ ،‬ومرحلة الصعب‪ ،‬وحضور الصراع‪.‬‬ ‫كل م ّرة مرحلة‬ ‫ّ‬ ‫وعىل هذا األساس يتغذى راهن الشع َريْن العراقي والعربي من‬ ‫بنياته االجتماعية الحافلة بحكايا املندثر والجديد‪ ،‬واملغايرة‪،‬‬

‫واملشاكسة‪ ،‬واالتهام‪ ،‬ومواجهة سدنة الثوابت‪ .‬ونكاد نجزم أنّ‬ ‫هواجس التحديث وقيمها نابعة من هذا املأزق أو املآزق املر ّكبة‪.‬‬ ‫لقد هبّت رياح كثرية وملوّنة عىل الفنون ومنها فن الشعر‪ ،‬وكانت‬

‫اإلفادة من ذلك تتمحور حول فكرة التخصيب بني الحاجات‬ ‫ّ‬ ‫املحلية ملجتمعاتنا وبني الرّجّ ات املَوْجيّة للتثاقف عرب الرتجمات من‬ ‫اللغات املختلفة فيما يتعلق بالتأويل الجمايل للعالم»‪.‬‬

‫ويرى بخصوص ثنائية الشعر والق ّراء عدم وجود إشكالية‬

‫ّ‬ ‫املختص‪« ،‬غالبًا ما يُغطي فهمنا لعوامل انحسار‬ ‫تجاه القارئ‬

‫القراءة كتلة الجمهور العام‪ .‬وهذا يمكن أن ّ‬ ‫يحل عرب إنشاء برامج‬

‫فعّ الة للرتويج‪ .‬لكننا نصطدم هنا بعقبة دور النشر التي تضع‬ ‫األرباح يف املق ّدمة وتتح ّرك وفق هذه املعادلة‪ .‬وبال شك هناك تأثري‬

‫واضح لعوالم التواصل االجتماعي‪ ،‬فالتثاقف عرب «السوشيال‬ ‫ميديا» أبرز ّ‬ ‫غثه وسمينه عىل السطح‪ ،‬لكن تبقى التجارب األصيلة‬ ‫مُفحمة لكل جدال»‪.‬‬

‫أزمة الشاعر والقارئ ً‬ ‫معا‬

‫وتختم الشاعرة الشابة رشا القاسم بجملة تشخيصات‬

‫تعرض لها ببساطة حول رؤيتها لطابع اإلشكال الشعري من‬

‫رشا القاسم‬

‫جنسه ولونه‪ ،‬بينما التفت املجتمع إىل أجناس أدبية أخرى ذات‬ ‫لغة وأسلوب سهلني ومفهومني‪ .‬ما يحدث اليوم هو أن الشاعر‬

‫الحقيقي يواجه أزمة ق ّراء‪ ،‬والقارئ املثقف يواجه أزمة يف الشعر»‪.‬‬

‫تضيف القاسم «نعم‪ ،‬أصبح الشعر أكرث يُتمً ا‪ ،‬ليس ألن‬ ‫الرواية تحايك بشكل ّ‬ ‫أدق معاناة الواقع العراقي أو العربي‬

‫ً‬ ‫سابقا اختلفت عن شروط‬ ‫فحسب‪ ،‬بل إن شروط كتابة الرواية‬ ‫كتابتها اليوم بدءً ا من األسلوب وصولاً إىل عدد الصفحات‪.‬‬ ‫أصبحت كتابة الرواية اليوم أكرث سهولة‪ ،‬وذات عوالم متح ّركة؛‬

‫من أحداث وأزمان وأماكن تفصيلية‪ ،‬تنقل الحياة «أي حياة»‬

‫خالل عوامله الداخلية‪ ،‬أو باملقارنة بالرواية وتسيّد األخرية‬ ‫املستم ّر عىل مساحات كانت ُتحتسب للشعر فيما مىض‪ .‬تصف‬

‫عىل الورق‪ .‬كما أنها ال تتداول الرموز التي يتناولها الشعراء يف‬

‫عن لغة الشاعر‪ ،‬فصار جمهور الشعراء هم الشعراء من ذات‬

‫هو يف الرواية»‪.‬‬

‫رشا «ما حدث» بأن أحد أسبابه هو «أن لغة املجتمع تغيرّ ت‬

‫‪47‬‬

‫نصوصهم‪ ،‬وقد يتوافر ذلك يف بعض النصوص‪ ،‬لكن ليس كما‬

‫عىل انتشاره رغم تسميته بفن ّ‬ ‫القلة‪ ،‬كما جاء عىل لسان الشاعر اإلسباين الكبري رامون‬ ‫خمينيث‪ُ ،‬‬ ‫وول من بعده‪ ،‬ووسّ ع من مدلوله الشاعر املكسييك أكتافيو باث‪ .‬الشعر‬ ‫وت ُد ِ‬ ‫حساده الذين توقفوا عند عتبة أسلوبية وتعبريية وجمالية‬ ‫لن يموت كما يشيع بعض ّ‬

‫معيّنة‪ ،‬هو مثل أيِّ فنٍّ آخر‪ ،‬أصابه تطوّر جمايل ملحوظ‪ ،‬وأفاد هذا التطوّر من بقية‬ ‫الفنون الصديقة واملجاورة له‪ ،‬كاملوسيقا والرسم والسرود عالية الفن واملُكنة‪ .‬لقد تطوّر‬ ‫الشعر وشهد ثورات كثرية‪ ،‬استهدفت الشكل واملحتوى وطرائق التعبري‪ ،‬وجاءت عىل‬ ‫كل تاريخه لتق ّدمه بحُ ّلة مختلفة»‪.‬‬ ‫ويق ّر شفيق بتحول الشعر إىل بضاعة كاسدة‪« ،‬هذا صحيح؛ ألنه ال يباع مثل‬ ‫الكتب اإليروتيكية التي ينشرونها‪ ،‬أو مثل كتب املذ ّكرات‪ ،‬أستثني طبعً ا الناشر املثقف‬

‫هاشم شفيق‬

‫واالستثنايئ‪ ،‬ناهيك عن املستوى الدرايس والتعليمي للشعوب العربية التي ىَّ‬ ‫تدن‬ ‫ّ‬ ‫مستواها العلمي واألكاديمي ألسباب ال تحىص؛ أبرزها الحروب املجانية التي حصلت يف املنطقة‪ ،‬وهد ْ‬ ‫َّدت أمنها وع ّرضتها للتخلف‬

‫والرتاجع لحقب طويلة‪ .‬كل ذلك يف اعتقادي أدّى إىل تراجع بيع الكتاب عىل نحو عام‪ ،‬وجاء هذا األمر عىل حساب التعليم ونهوضه‪،‬‬ ‫ونشر الفكر التنويري‪ ،‬ذلك الطامح إىل إلغاء الغايات واملطامح الضيقة ّ‬ ‫ً‬ ‫عوضا من إنبات النور وانتشاره»‪.‬‬ ‫كلها‪ ،‬التي تحاول زرع العتمة‬

‫ملف العدد‬


‫شعراء يمنيون بين‬ ‫تغريبة الحرب وأهوالها‬ ‫فتحي أبو النصر‬ ‫صنعاء‬

‫ماذا بوسع القصيدة أن تفعل وهي تواجه تفاصيل الحرب المتالحقة؛ من تشرد‬

‫وفقدان وخراب وهلع ورجاء ويأس؟! ثم ما الذي يتبقى من الوطن‪ ،‬حين يتحول نصفه‬

‫إلى قتلى؛ ونصفه اآلخر إلى قتلة؟! لقد أثخنت الحرب يوميات الشعراء في اليمن‪ ،‬كباقي‬

‫الفئات المجتمعية؛ وهي الحرب الدؤوبة التي فاقت المخيلة‪ ،‬كما تنطوي على واقعية‬

‫‪48‬‬

‫سريالية ذات مفارقات صادمة وعجيبة‪ ،‬لم يتحملها العقل‪ ،‬بقدر ما أثخنت العاطفة‪.‬‬

‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬


‫وعىل سبيل املثال‪ ،‬أعرف شاع ًرا تشرد كالجئ يف أربع‬

‫محافظات هو وعائلته‪ ..‬وآخر طالته ثالث رصاصات آثمة وسط‬ ‫العاصمة من بالطجة‪ ،‬واألرجح بسبب آرائه‪ ،‬فيما أجرى ثالث‬

‫عمليات يف ثالث دول‪ ..‬وآخر قطعت امليليشيات راتبه ومصدر‬ ‫دخله الوحيد‪ ،‬فقرر ترك املدينة والعودة إىل قريته ّ‬ ‫عله ينجو‪..‬‬ ‫وآخر وقعت قذيفة عشوائية عىل منزله وما زال يسكن فيه‬

‫متصالحً ا مع كل هذا العبث‪ ..‬وآخر غادر اليمن ملدة وجيزة كما‬

‫قال‪ ،‬ولم يستطع العودة منذ عام ونصف؛ ألن الحرب دمرت‬ ‫منزله وتشردت عائلته وهو بعيد ال يملك قيمة تذكرة العودة‪..‬‬ ‫وآخر ُقتل شقيقه يف انفجار انتحاري؛ ألنه كان موجودًا يف مكان‬

‫الحادث بالصدفة‪ ،‬وحتى اللحظة ال يزال ممسوسً ا لشدة وقع‬

‫الحادث عىل ذهنه‪ ..‬وآخر زادت حالته النفسية سوءً ا؛ ألنه‬

‫يخضع لعالج عصبي ال يتاح بسهولة من جراء الحرب‪ ..‬وآخر‬ ‫انضم للمقاومة‪ ..‬وآخر انضم للحوثيني‪ ..‬وآخر فقد مصدر رزقه؛‬

‫ألنه يعمل يف صحيفة قرر االنقالبيون إغالقها‪ ..‬وآخر صار يبيع‬

‫منتجات غذائية مه ّربة عىل أحد األرصفة ليس ّد رمقه‪.‬‬

‫وهكذا‪ ..‬عىل نحو فجايئ وصلت اليمن إىل مصاف اللحظتني‬

‫العراقية والسورية األكرث مرارة عربيًّا‪ ،‬فيما تملشن وتعسكر كل‬

‫يشء حول اليمنيني عىل نحو طائفي ومناطقي بغيض‪.‬‬

‫ثم ها نحن يف خضم اللحظة املارقة التي صارت مملوءة‬

‫بالحقد والهوس والخيبات والالتسامح والالعقالنية‪ .‬والحال أن‬

‫معظم الخطابات يف ظل التجاذبات السياسية والعنفية الحادة‪ ،‬ال‬ ‫تهمها فكرة الوطن واملواطنة لألسف‪ ،‬ما بالكم باإلبداع والتجريب‪.‬‬

‫كما أن اللغة من الطبيعي أن تأيت هشة وخاوية إال ما ندر‪.‬‬ ‫السخط هوية للشاعر‬

‫فحيث تدور املعارك منذ نحو عامني يف كل الجهات؛ صارت‬ ‫ً‬ ‫أحيانا ‪-‬وغالبًا السخط‪ -‬هوية الشاعر اليمني الحديث‪،‬‬ ‫العزلة‬

‫إضافة إىل املثقف الذي يحرتم ذاته واألكرث حساسية‪ ،‬كأقل‬ ‫احتجاج ضد ما يجري‪.‬‬

‫ووسط هذه التغريبة وأهوالها املزدوجة‪ ،‬يعيش الشاعر‬

‫اليمني خاصة واملثقف عامة‪ ..‬يف خضم الصراعات املعقدة القائمة‬ ‫اليوم‪ ،‬يحاول املثقف املوضوعي جاهدً ا االنحياز إىل ما يمثل جامعً ا‬

‫وطنيًّا‪ ،‬والتموضع داخل حلم املدنية والعدالة والقانون‪.‬‬ ‫الحاصل أنها الهزة األشد ً‬ ‫عنفا يف املجتمع اليمني التائق‬

‫للتغيري‪ .‬كما طالت اللغة ومحموالتها‪ .‬لذلك فإن التفاؤل‬ ‫تقابله امتيازات التشاؤم بما تحمله هذه االمتيازات من إدانة‬

‫مثىل للواقع‪ .‬لكن هل ستكون النهاية كما تخيلها الشاعر أحمد‬ ‫العرامي مثلاً ‪:‬‬

‫أحمد العرامي‬

‫جالل األحمدي‬

‫«آخر رصاص ٍة يف حوز ِة الحرب‬ ‫ً‬ ‫حائرة بني قاتلني‪،‬‬ ‫ستقف‬

‫هكذا يمكن للكالب املشردة‬

‫شنق حزن األمهات يف الهواء»!‬ ‫أما ونحن يف صميم الحرب‪ ،‬فيمكننا أن نجد خالصة الاليشء‬

‫ً‬ ‫أيضا بمحاذاة كل األشياء‪ ،‬تمامًا كما يف قصيدة «هدنة» لجالل‬ ‫األحمدي‪:‬‬

‫«هذه الليلة‬

‫يمكن للدموع‬

‫أن تصطاد فرائسها بسالم‬

‫‪49‬‬

‫يمكن ألغنية معطوبة‬

‫أن تدور وحدها بالشوارع‬ ‫دون أن يعتقلها حاجز‬ ‫أو أن تالحقها الكالب‬

‫والعتمة عىل غري العادة‬ ‫ً‬ ‫حصانا للنسيان‬ ‫تفتح‬ ‫وآخر للقبلة‬

‫كل األشياء تبدو بليدة‬ ‫وغامضة‬

‫ال منتصر‬

‫وال مهزوم‬

‫حتى إن البنادق مع قتالها‬ ‫تنام‬

‫جنبًا إىل جنب‬

‫بعد أن توقفت‬ ‫عن السعال»‬

‫ملف العدد‬


‫أوراس األرياني‬

‫فارس العليي‬

‫غري أن األحمدي يبدو مكللاً أكرث بالتهكم واللوعة معً ا‪ ،‬كما‬

‫يف نص آخر‪:‬‬ ‫«تم ّن ُ‬ ‫لك عن الحرب‬ ‫يت لو أكتب ِ‬

‫الشعراء بتكريسها يف النصوص بصورة تعقيدية تنال مما تبقى من‬ ‫هوامش باإلمكان اإلمساك عندها برأي يأخذ مكانه يف العالم»‪.‬‬

‫لكنه يستدرك‪« :‬لست ضد هذا إنما أشعر باالمتعاض من‬

‫لكن كيف أكتب صوت الرصاصة!‬ ‫ً‬ ‫حشرت لك ً‬ ‫ُ‬ ‫كثرية‬ ‫جثثا‬

‫التأويل واألسلوبية وإصرار التفكيكية عىل تشتت الوجود‪ ،‬والتلقي‬ ‫املقرفص ونحن هناك يف السريالية غائطني حي ًنا وجافني دون‬

‫تريدين أن تعريف كيف تبدو رائحة الجنود‬

‫التصور واالحتمال»‪.‬‬

‫إنها تشبه ال ّتعب والذكريات الجريحة»‪.‬‬

‫تحول أصدقائها إىل أطراف وخصوم‪« ،‬لكن األكرث إيالمً ا أن يكون‬

‫عىل حني أن الشاعر أوراس اإلرياين ما زال يصرخ ببوهيميته‬

‫سوى من يباعد بيني وبني وطني‪ ...‬وطني يتسع لهم جميعً ا‪،‬‬

‫لك ّن ِك ال تقرئني!‬ ‫حقائبك‬ ‫افتحي‬ ‫ِ‬

‫‪50‬‬

‫نبيلة الزبير‬

‫محمد اللوزي‬

‫الحنونة وصرامته الساخرة‪:‬‬

‫«بينما كنت أجهز قلبي للحب أضعت رأيس‪.‬‬

‫بعد كل قصيدة كتبتها إليك أعد أصابعي‪.‬‬ ‫عندما وضعت أذين يف قلب املطر‬

‫قطرة واقعية لتبليل ريق فجائعنا من تخوم ال معقولة وتفوق‬ ‫ومن ناحيتها تتأسف الشاعرة والروائية نبيلة الزبري‪ ،‬عىل‬

‫يف أصدقائك من هم أطراف وخصوم باملؤازرة‪ ...‬أنا ال خصم يل‬ ‫ووطنهم يضيق بي!»‪ .‬وتضيف‪« :‬لكرثة أعداد القتىل واملوىت التي‬ ‫تشهدها أيامنا هذه تعذر عيل القيام بواجب العزاء أولاً بأول‪.‬‬

‫فليعذرين املحزونون وليتقبلوا حزين‪ .‬كذلك؛ لكرثة جرائم الحرب‬ ‫وسرعة تواليها بات يتعذر إدانتها أولاً بأول»‪.‬‬

‫سمعته يتحدث عن الحرية وينئّ »‪.‬‬

‫أما الشاعر محمد اللوزي فهو يؤكد لفوىض ذاته الرائعة‪:‬‬

‫يبقى «الشهداء أقل ضحايانا‪ ،‬نحن الضحية ﻻ الراحلون»‬

‫بقدر ما كنت أعمى‬

‫كما يقول الشاعر فارس العليي‪ ،‬ويضيف ‪«:‬ربما ذهبت القصائد‬ ‫ً‬ ‫أحيانا ألداء لعبة الغموض عندما تنحذف من شعرية اإلحساس‬ ‫الدائم بأنك شاعر ومكون ملوقف ينحاز دائمً ا للخفة‪ ،‬ﻻ أدري كيف‬

‫أشعر اآلن عىل نحو مخاتل يحفز إيقاع سلوك عامل بلدية أو فالح‬ ‫مهمل لألرض ويشعر بال جدوى االستمرار يف االعتناء بها»‪.‬‬ ‫شعور بال جدوى الشعر‬

‫ويتابع العليي‪« :‬إنه شعور يلخص اعتقاد إمكانية أي شعرية‬

‫داخلية‪ ،‬شعور عابث مغمور بالضياع وشعور بالقلق والالجدوى‬ ‫من الشعر وأن ﻻ وظيفة يمكن أن يرتبها يف الوجود اإلنساين‪ ،‬سوى‬

‫املواقف غري املكتملة لجمل وعبارات تتنافر يف الجمال بما ال يفيض‬ ‫بداللة تقول عىل وجه التحديد شيئية‪ ،‬وطاملا تستمد الحداثة‬

‫الشعرية بصورتها الحالية هذه الفوىض والعشوائية والتسارع‬

‫املحموم للنقائض حد تاليش اإلشارات وتوهجاتها الفجايئ‪ ،‬فإن‬ ‫الصورة املنعكسة من االضطرابات العملية لتقدم العالم نقوم نحن‬ ‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬

‫«لم تكن شاع ًرا‬

‫تتحسس ما تراه من كرنفاالت‬ ‫بيدين معزولة عن العالم‬ ‫وال تفقه مما ملسته شي ًئا‪.‬‬ ‫بالغت فيما ترى‬

‫حتى إنك رأيت اليشء قبل أوانه‬

‫ورأيت فيه ضده‬

‫تفحصته بيديك وهلة أخرى‬ ‫ورميت يف البرئ أصابعك‪.‬‬ ‫لم تكن غرابًا‬

‫أو زئريًا يطارد غزالة‬ ‫وكنت بمعزل عنك‬

‫ناهيك عن أنك تحسب الجميع أعداء‬ ‫بما فيهم لثغة الراء حني تنطقك»‪.‬‬


‫‪51‬‬

‫ملف العدد‬


‫الشعر في األردن‪:‬‬ ‫مسارات ورؤى ومشارب‬ ‫جعفر العقيلي‬ ‫عمان‬

‫ّ‬ ‫ً‬ ‫واقعه‪ ،‬وفي التحديات‬ ‫واحدا في‬ ‫المتأمل في المشهد الشعري العربي في شكل يجده‬ ‫ِ‬

‫التي يواجهها‪ ،‬وفي األسئلة األكثر إلحاحً ا المطروحة على الشاعر‪ ،‬وكذلك في المأزق الكبير‬

‫الذي يعيشه الشعر العربي اليوم‪ .‬لكن األمر ال يخلو من فروقات وتباينات في التفصيالت‬

‫بلد وآخر‪ً ،‬‬ ‫تبعا لطبيعة التجربة في كل بلد‪ ،‬وامتداداتها‬ ‫بين ٍ‬

‫التاريخية والمعاصرة‪ ،‬والسياق العام الذي يتحرك‬

‫‪52‬‬

‫الشعراء –وبقية المبدعين‪ -‬في إطاره‪ ،‬وبخاصة في‬

‫ظل التحوالت الكبرى التي شهدتها السنوات‬

‫األخيرة‪ ،‬على الصعد كافة‪.‬‬

‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬


‫وأقصاه‪« ،‬فكانت هذه الجمرة املتقدة‬

‫وفيما يتعلق بخصوصية التجربة‬

‫التي قبض عليها الشاعر األردين‪ ،‬وبخاصة‬

‫األردنية‪ ،‬شهد العقد األوّل من األلفية‬ ‫ً‬ ‫فورة شعرية نوعية يف األردن بربوز‬ ‫الثالثة‬

‫بعد هزيمة ‪1967‬م‪ ،‬فعاش الهمّ القومي‬

‫أكرثهم من طلبة الجامعات‪ ،‬غري أن‬

‫الوحدة والتحرر والتحرير‪ ،‬وعذابات األخ‬

‫ّ‬ ‫ثل ٍة من الشعراء الشباب من الجنسني‬

‫واإلقليمي والوطني مشبعً ا بمضامني‬ ‫الشقيق‪ ،‬حتى وصل اليوم إىل مآيس‬

‫تلك الفورة أخذت تخفت بحسب الشاعر‬

‫اإلخوة األشقاء»‪ .‬والخطيب تر ّد عدم‬

‫والناقد واألكاديمي خالد الجرب‪ ،‬يف ظل‬

‫«التغيرّ ات الهائلة يف الحياة االجتماعية‪،‬‬

‫وتراجع‬

‫االهتمام‬

‫بقطاع‬

‫اهتمام الناس بالشعر يف زمننا إىل عاملني‪:‬‬ ‫«أولوية املعيشة‪ ،‬والبحث عن مستوى‬

‫الشباب‪،‬‬

‫املجتمعي بالشعر‬ ‫وانحسار االهتمام‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫نتيجة لرتكيز ّ‬ ‫النقاد واملؤسّ سات الثقافية‬

‫خالد الجبر‬

‫الجمعي حيال القضايا الكربى»‪.‬‬ ‫عىل ال ّرواية‪ ،‬وذبول الوجدان‬ ‫ّ‬ ‫ومع ذلك‪ ،‬فإنّ عددًا من ك ّتاب الشعر ّ‬ ‫تمكن من تحقيق‬

‫العربي؛ ومنهم بحسب الجرب‪:‬‬ ‫منزل ٍة واضح ٍة يف العالم‬ ‫ّ‬ ‫نبيلة الخطيب‪ ،‬ومها العتوم‪ ،‬وراشد عيىس‪ ،‬وناصر شبانة‪،‬‬

‫وسعيد يعقوب‪ ،‬وعماد ّ‬ ‫نصار‪ ،‬ومحمد مقدادي‪ .‬ويرى الجرب‬ ‫أن شعراء القصيدة الكالسيكية وشعراء التفعيلة ّ‬ ‫تمكنوا من‬ ‫الثقايف املنحاز‬ ‫تجاوز العقبات التي فرضتها «مصادرات الوسط‬ ‫ّ‬

‫إىل قصيدة النرث منذ أواخر ثمانينيات القرن العشرين‪ ،‬ممتدّ ين‬ ‫بالقصيدة تشكيلاً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫آفاق ْ‬ ‫حني يف‬ ‫وصورة‬ ‫وبنية‬ ‫ولغة إىل ٍ‬ ‫بدت ذات ٍ‬ ‫العيص البعيد‪ .‬وهو ما يجعله يؤكد أن بإمكاننا النظر اليوم إىل‬ ‫ّ‬ ‫األردنّ‬ ‫بكثري من التفاؤل‪،‬‬ ‫يف‬ ‫الشعرية‬ ‫الحالة‬ ‫يف‬ ‫البادي‬ ‫التنوّع‬ ‫ٍ‬ ‫مطمئ ّنني إىل استعادة الشعر مكانته الالئقة يف الحياة األدبية‬ ‫عىل مستوى األمّ ة»‪.‬‬

‫أما الشاعرة نبيلة الخطيب‪ ،‬فتقول‪ :‬إن «حديث الواقع‬

‫يختلف عن حديث التاريخ‪ ،‬وإن كانت العالقة بينهما جذرًا‬ ‫وساقا‪ ،‬أو ً‬ ‫ً‬ ‫وفرعا‪ ،‬أو ً‬ ‫ً‬ ‫فرعا وثم ًرا»‪ .‬وتضيف أن هذا ْ‬ ‫يصدُ ُق‬ ‫ساقا‬ ‫عىل األردن؛ «ذلك أن هذا البلد م ّر ّ‬ ‫بخط ال عوج فيه‪ ،‬وال مفارقات‬ ‫كبرية‪ ،‬بحكم «دكتاتورية» موقعه الجغرايف الذي فرض عليه‬ ‫ً‬ ‫نمطا متشابهًا من األحداث واملواقف‪ ،‬فإذا‬ ‫نظرنا إىل مصطفى وهبي التل (عرار)‬ ‫نراه امتدادًا لشعراء النهضة يف ديار‬ ‫الشام يف وجه االستعمار‪ ،‬حتى ّ‬ ‫شكل‬ ‫ِّ‬ ‫مؤثرة يف الواقع‬ ‫مدرسة ما زالت‬

‫الحديث‪ ،‬وإن دخل عىل الشعر بعض‬ ‫االستحداث الفني»‪.‬‬

‫وألن الــشع ــر األردنـ ــي هو ابنُ‬

‫واقعه بالضرورة‪ ،‬كما تؤكد‬ ‫الخطيب‪ ،‬فإنه ال يستطيع‬ ‫أن‬

‫نبيلة الخطيب‬

‫ينسلخ‬

‫من‬

‫لحم‬

‫عروبته وفلسطينه وقدسه‬

‫من الكرامة مفقود‪ ،‬وعدم وصول الشاعر‬ ‫إىل مستوى تطلعات وحاجيات الفرد‬

‫العادي وال حتى املثقف‪ ،‬فكانت املسافة بني الشاعر والناس‬ ‫بائنة‪ ،‬بل هي تزداد بينونة! هذا هو املأزق الحقيقي الذي يواجه‬

‫الشعر ويجعله ينحسر حتى يكاد يغلق عىل نفسه األبواب‪،‬‬

‫رغبًا ورهبًا؛ إذ ال ينفصل واقع الشعر العربي اليوم عن الواقع‬ ‫املتشظي»‪.‬‬

‫مئات الشعراء وآالف األدعياء‬

‫أما الشاعر والناقد واألكاديمي ناصر شبانة فال يرتدّد‬

‫ُّ‬ ‫«تغص اآلن بعشرات‬ ‫يف القول‪ :‬إن الساحة األدبية يف األردن‬

‫الشعراء ومئات األدعياء‪ ،‬الذين يطلق عليهم «شعراء الفجأة»‬

‫‪53‬‬

‫ُ‬ ‫تمتئل الساحة‬ ‫ويظهرون كالفطر عىل املواقع اإللكرتونية‪ ،‬كما‬

‫باملجاميع الشعرية‪ ،‬وتشهد إقامة األمسيات والفعاليات‬ ‫ِ‬ ‫غائب عن الساحة‪ ،‬فـبات‬ ‫سنويًّا‪ ،‬لكن النقد يبدو غائبًا أو شبه‬ ‫ٍ‬ ‫والصفحات اإللكرتونيةِ ‪ ،‬يتسيّدون‬ ‫العالقات العامّ ة‬ ‫أبطال‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬

‫بمشاريعهم‬ ‫املشهد‪ ،‬وانزوى الشعراءُ الحقيقيون املنشغلون‬ ‫ِ‬ ‫الظل ُّ‬ ‫ِّ‬ ‫ً‬ ‫ترفعً ا‬ ‫الشعريةِ الحقيقية إىل‬ ‫ونشدانا للسالم‪ ،‬يف حالةٍ‬ ‫ُ‬ ‫نعرف كيف وال متى ستنتهي»‪.‬‬ ‫غرائبية ال‬

‫ويعود شبانة إىل الوراء ليبني أن عنوان املرحلة هو «عقود‬

‫متتالية من الشعر والهزائم»‪ ،‬فلو عدنا بذاكرتنا خمسني عامً ا‬

‫إىل الوراء‪ ،‬وتأملنا املشهد الشعري يف األردن‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫أطالل‬ ‫يقف عىل‬ ‫لوجدناه بكائيًّا بامتياز‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫اللحظة الراهنة‪،‬‬ ‫يتأمل‬ ‫األمجا ِد الغابرة‪،‬‬ ‫يعقدُ مقارناتِه املكرورة‪ ،‬ويـ ـعـ ـي ــدُ تقي ــيمَ‬

‫ـوب‬ ‫رهـ ــان ِت ــه الخاسرة‪ ،‬كلما ارتفعَ مـ ـن ـسـ ـ ُ‬ ‫حاصرتـ ــه الخي ـبـ ُـة مــع كــلِّ‬ ‫ْ‬ ‫األمل ل ــديـ ــه‬ ‫ِ‬ ‫هزيم ٍة جديدة»‪ .‬ويستنتج شبانة من ذلك‬

‫الشعر يف األردن «أنْ‬ ‫أن قد َر‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫يظل سياسيًّا بامتياز‪ ،‬وأنْ‬ ‫َّ‬ ‫غرب‬ ‫يظل يرنو بعيو ِنه إىل ِ‬ ‫النهر‪ ،‬حيث البوصلة؛‬

‫ناصر شبانة‬

‫ملف العدد‬


‫وكثري من األلم»‪ .‬ويربط‬ ‫بقليل من اليقني‪،‬‬ ‫ليعيدَ إنتاجَ الواقع‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫سقوط ما ّ‬ ‫عصابات‬ ‫تبقى من فلسطنيَ يف أيدي‬ ‫شبانة بني‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬

‫العرب –ومنهم‬ ‫الجوالن وسيناء‪ ،‬وبني عجز‬ ‫وسقوط‬ ‫اليهود‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫األردنيون‪ -‬عن التح ُّرر سوى عىل مستوى القصيد ِة والشعر‪،‬‬ ‫َ‬ ‫شكلها‪،‬‬ ‫جنبات القصيدة‪ ،‬ويغيرِّ ون‬ ‫«فراح الشعراءُ يوسِّ عون‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫غري‬ ‫ويتخلصون من قوافيها‪ ،‬وأنظم ِتها القديمة‪ ،‬يف رد ِة‬ ‫فعل ِ‬ ‫ٍ‬ ‫هزائم السياسيني والعسكريني عىل السواء»‪ .‬ويلفت‬ ‫واعي ٍة عىل‬ ‫ِ‬

‫أفخاخ الثنائيات‬ ‫ً‬ ‫إمنيعم‪ ،‬فإنّ‬ ‫ووفقا ملا يراه الشاعر واألكاديمي خلدون‬ ‫ِ‬

‫ثمة مسارات ورؤى ومشارب متنوعة تحكم ذهنية منتج‬

‫النص الشعري‪ ،‬لم تنجُ من «أفخاخ الثنائيات» التي حكمت‬

‫الشعر العربي الحديث‪ ،‬بني مسرب التقليد واالتباع مثلما‬

‫الشاعر الذاتية والجمعية‪،‬‬ ‫انكسارات‬ ‫األردين صوّر‬ ‫إىل أن الشعر‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬

‫هو يف نصوص زهري أبو شايب ومحمد سمحان وحيدر‬

‫بقادر عىل تزييف وعيه‪ ،‬أو الخروج من عباءة الواقع‪،‬‬ ‫كان‬ ‫ٍ‬ ‫ْ‬ ‫حتى غدا تيسري سبول بوضع ٍّ‬ ‫الرفض‬ ‫حد لحياتِه نموذجً ا لحال ِة‬ ‫ِ‬

‫واإلبداع مثلما هو يف نصوص زياد العناين ومحمد العامري‬

‫العربي عىل الخيبة واالنكسار والهزيمة‪ ،‬وما‬ ‫فقد «نشأ الشاع ُر‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫يعيشها الشاعر»‪.‬‬ ‫والهزيم ِة التي‬

‫الحقب الشعرية يف األردن؛‬ ‫الثمانينيات أغنى‬ ‫وتمثل حقبة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫ف من جهة‪ ،‬وبات‬ ‫متعلم‬ ‫والدة‬ ‫شهدت‬ ‫ألنها‬ ‫جيل شعريٍّ‬ ‫ومثق ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫سيايس وحصانة ضدّ أنواع الوهم التي سقط فيها‬ ‫لديه وعي‬ ‫ٌّ‬ ‫ُ‬ ‫باألمل الكاذب‪ ،‬وبات‬ ‫الشعراء السابقون‪ ،‬فلم يعد ينخدع‬ ‫ِ‬ ‫الواقع عىل سوداويَّته وكآبته‪ ،‬ومن هؤالء مثلاً ‪:‬‬ ‫أقرب إىل فهم‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫زهري أبو شايب‪ ،‬وعبدالله رضوان‪ ،‬وطاهر رياض‪ ،‬ويوسف‬ ‫عبدالعزيز‪ ،‬وحبيب الزيودي‪ ،‬وعمر شبانة‪ ،‬وجريس سماوي‪،‬‬

‫‪54‬‬

‫والعبثية واللو ِذ باملرأة‪ ،‬والشكوى والتذمر‪.‬‬

‫وراشد عيىس‪ ،‬وأحمد الخطيب‪ ،‬وعمر أبو الهيجاء‪ ،‬ومحمد‬

‫سالم جميعان‪.‬‬

‫الشباب‬ ‫ويف التسعينيات بزغ نجمُ‬ ‫جيل جديدٍ من الشعراءِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫جماعات‬ ‫تشكيل‬ ‫أُطلق عليهم «شعراء التسعينيات» مالوا إىل‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫تحمل طابعً ا شلليًّا؛ كجماعة النوارس‪ ،‬وجماعة «سني»‬ ‫أدبية‬

‫الفت إىل «الصعلكة‬ ‫طابع‬ ‫األدبية وغريهما‪ ،‬كما جنحوا يف‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ُّ‬ ‫شعرهم الذي مال إىل الحزن‬ ‫والتسكع»‪ ،‬فكان لهذا أث ٌر يف‬ ‫ِ‬

‫محمود ‪ -‬مع اختالف الرؤى‪ -‬وغريهم من جهة‪ ،‬والتجريب‬ ‫وراشد عيىس من جهة أخرى‪ .‬غري أن ما رسخه منتج النص‬

‫الشعري يف األردن دار يف «فلك االتباعية»‪ ،‬فنأى الشع ُر كما‬ ‫إمنيعم‪ ،‬عن كونه ًّ‬ ‫نصا إبداعيًّا تجاوزيًّا يف الرؤى‪« ،‬وإن‬ ‫يقول‬ ‫ِ‬

‫كانت مشاربه متنوعة بني التقاليد املوروثة وفق معجميات‬ ‫األمكنة واألزمنة للنص املن َتج عىل مقاس السلطة األدبية‬ ‫ّ‬ ‫واملثقفة لتطور‬ ‫والنقدية‪ ،‬وتوجيه الذائقة القرائية امللهمة‬ ‫إمنيعم عند تجارب‬ ‫تقاليد القصيدة الغربية»‪ .‬ويتوقف‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫«مخضعة‬ ‫انماز أصحابُها يف تقديم مشاريع متفردة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫املوروث لسلطة التساؤل والتجاوز واملغايرة»؛ لتكون بعض‬

‫املجموعات الشعرية مشاريع رؤيوية ألصحابها‪ ،‬من مثل‬

‫«شمس قليلة» لزياد العناين‪ ،‬و«ممحاة العطر» ملحمد‬ ‫العامري‪ ،‬و«ما أقل حبيبتي» لراشد عيىس‪.‬‬

‫وهو يرى أن الشعر يف األردن استطاع أن يحظى بمكانة‬ ‫الئقة ‪-‬عىل ّ‬ ‫قلة جمهوره‪ -‬ذلك أن الرواية تحديدً ا «تحتل‬

‫املساحة األوفر حضورًا ومقروئية»‪ ،‬إضافة إىل دور الحراك‬ ‫ً‬ ‫خالفا ملا كان عليه‬ ‫املسرحي يف تراجع حالة التلقي الشعري‪،‬‬ ‫األمر يف عقود سابقة‪ ،‬غري أن الشعر‬

‫ما زال يشكل مرجعية الذائقة‬

‫موسى حوامدة‪ :‬تتكاتف الظروف‬ ‫والسياسات؛ لـقتل الشعر أو وأده‬ ‫ووضعه في مخزن الالمباالة‬

‫األدبية‪ ،‬وثمة جمهور للشعر‬ ‫«قادر عىل تمييز ما يُطرح‬

‫بعيدً ا من شكالنية التواصل‬ ‫وأدواته»‪.‬‬

‫وبشأن األسئلة والتساؤالت‬

‫ال ـجـ ــذري ــة الـمـلـق ــاة عـلـ ــى عـ ــات ــق‬

‫ناصر شبانة‪ :‬المشهد األردني‬ ‫يغص اآلن بعشرات الشعراء ومئات‬ ‫ُّ‬ ‫األدعياء‪ ،‬الذين يطلق عليهم‬ ‫«شعراء الفجأة» ويظهرون‬ ‫كالفطر على المواقع اإللكترونية‬

‫الشــاعر‪ ،‬التي يَجْ هَد ويُجْ هَد يف‬

‫ّ‬ ‫تقصيها‬

‫بحـ ـس ـ ــب‬

‫إمنيعم‪،‬‬ ‫ِ‬

‫الثقايف‬ ‫يتعلـ ــق بالراهن‬ ‫ّ‬ ‫العربي‬ ‫والشعريّ‬ ‫ّ‬

‫مـا‬

‫ومآالته‪ ،‬وانعكاسات‬ ‫«الربيع‬

‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬

‫وتتبّعها‪،‬‬

‫فمن‬

‫أبرزها‬

‫العــرب ــي»‬

‫خلدون إمنيعم‬


‫الدم ــوي عـل ــى اإلنســان واألرض من جهــة‪ ،‬وأسئلة الحرية‬

‫وتحديات صعبة‪ ،‬فعىل الرغم من بروز كثري من الشعراء‬

‫واملواطنة‪ ،‬ومحاوالت تأسيس جذر ديمقراطي ناهض يطمح‬

‫اللغة وجمالية املعنى‪ ،‬فإن هناك كثريًا من التحديات التي‬ ‫ً‬ ‫عائقا يف طريقهم‪ ،‬وأهمها غياب الفعاليات الثقافية‪،‬‬ ‫تقف‬

‫والهوية والذات والكينونة من جه ــة أخرى‪ ،‬غي ــر أن أكرث هذه‬ ‫األسئلة إلح ــاحً ــا ‪-‬م ـ ــا يــشكــل حالـ ـ ًـة تع ــالقية‪ -‬سؤال املدنية‬ ‫إىل النجوز من خالل حوارات فكرية رصينة مع املوروث العربي‬

‫وراهنه من تحديات معاصرة من دون إغفال حالة االشتباك‬

‫الشباب الذين يمتازون بروحهم الثقافية العالية‪ ،‬وسالسة‬

‫وعدم تشجيعهم أو االهتمام بهم؛ بسبب قلة املوارد املالية‬ ‫املخصصة لدعم الساحة الثقافية»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وتلخص أبو خالد األسئلة التي تواجه الشاعر األردين‬

‫إمنيعم أن تبوّؤ الشعر يف األردن‬ ‫مع الثقافات الوافدة‪ .‬ويؤكد‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫مكانة الئقة ال ينفي كونه عالقا يف مآزق تتعلق ببنية النص‬

‫بقولها‪ :‬إنها «تنبع من منطلقات قصائده‪ ،‬وأهم‬

‫الشعرية لدى األجيال الشعرية املتأخرة‪ ،‬إضافة إىل افتقار‬ ‫ً‬ ‫حديثا للمحموالت‬ ‫كثري من املجموعات الشعرية الصادرة‬

‫بهم»‪ .‬وتق ّر أن غياب االهتمام قاد بعض‬

‫ّ‬ ‫وتشكله؛ لهيمنة التقليد وافتقاد الخربة‬ ‫وآليات تشكيله‬

‫الثقافية والفكرية والفلسفية؛ إذ «يتوهم كثريون أن النص‬

‫الشعري رهن املفردة والصورة املبتورتني عن سياقاتهما‪ ،‬لتقرأ‬ ‫ًّ‬ ‫نصا يفتقد ألدىن مقومات شعريته»‪.‬‬ ‫وتقول الشاعرة الشابة رنا أبو خالد‪ :‬إن األردن خ ّرج جيلاً‬

‫من الشعراء املميزين‪« ،‬ما زلنا نذكرهم حتى يومنا هذا‪،‬‬ ‫وتربّينا عىل قصائدهم ودرسناها يف املناهج؛ أمثال الشاعر‬

‫مصطفى وهبي التل (عرار)‪ .‬أما اآلن‪ ،‬فيعيش الشعر واقعً ا‬

‫املحاور التي تتحدث عنها‪ ،‬وطبيعة ونوعية‬ ‫ّ‬ ‫يفضلها‪ ،‬والشعراء الذين يتأثر‬ ‫الكتب التي‬ ‫الشعراء إىل اتباع طرق «تحقق لهم انتشارًا‬ ‫ّ‬ ‫وتمكنهم من إيصال كتاباتهم بطرق‬ ‫أوسع‬

‫حديثة؛ إذ أصبحت مواقع التواصل‬ ‫ً‬ ‫مالذا لهم‪ ،‬لتفيض أقالمهم‬ ‫االجتماعي‬ ‫بمواهب مدفونة نتعرف عليها من‬

‫خالل شاشة صغرية»‪.‬‬

‫رنا أبو خالد‬

‫‪55‬‬

‫إصرار على تبخيس الشعر وتحطيمه‬ ‫أوضح الشاع ُر موىس حوامدة أن الشعر يف األردن «ال يمكن عزله عن محيطه‬

‫العربي»‪ ،‬وأن حاله يف األردن كحاله يف بقية أقطار الوطن العربي‪ ،‬فـ«ما زالت‬

‫الثقافة العربية رغم محاوالت التفتيت والتقسيم والتجزئة متماسكة ًّ‬ ‫جدا‪ ،‬وما‬ ‫زالت كذلك تعاين األمراض واملشاكل نفسها»‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ويضيف حوامدة أن هناك تجارب متعددة وأصواتا متفاوتة‪« ،‬سواء يف‬

‫قصيدة النرث أو التفعيلة أو العمودي‪ ،‬وحتى يف الشعر النبطي‪ ،‬وبالرغم من ذلك‬ ‫تتكاتف الظروف والسياسات؛ لـقتل الشعر أو وأده ووضعه يف مخزن الالمباالة‪،‬‬

‫حتى إن النقاد ال يتورعون عن تكرار مقولة جابر عصفور‪« :‬هذا زمن الرواية»‪،‬‬ ‫محاص ً‬ ‫رة القصيدة‬ ‫فتشعر كأن هناك «سياسة عربية» ملسح الشعر من االهتمام‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫لتحويلها إىل نرث وسرد‪ ،‬والتخليّ حتى عن ضرورة الشعر وأهميته وقيمته التي‬ ‫ال ترتقي لها بقية الفنون»‪.‬‬

‫موسى حوامدة‬

‫ونتيجة لذلك‪ ،‬بحسب حوامدة‪ ،‬بدأ عدد كبري من الشعراء «يستجيبون للضغوط‪ ،‬فيكتبون السرد‪ ،‬وصار‬

‫عدد من النقاد يتنصلون من مهام النقد‪ ،‬ويقولون‪ :‬إنهم «نقاد رواية فقط»‪ ،‬وباتت دور النشر ال تطبع الشعر‪،‬‬

‫حتى القراء صاروا يعزفون عنه لذرائع مختلفة‪ ،‬فصار الشاعر أشبه بـ«اليتيم عىل موائد اللئام»‪ ،‬ومَ ن يكتب‬ ‫الشعر اليوم كمن يحب بال أمل»! ويعتقد حوامدة أن هناك إصرارًا عىل «تبخيس الشعر وتحطيمه‪ ،‬وإقامة‬ ‫مسابقات تافهة تجعل الشاعر يلهث خلف جوائز وبرامج تهني الشعر أكرث مما تخدمه‪ .‬وعىل الرغم من ذلك ما‬

‫زلنا نكتب كأننا غرقى‪ ،‬نتشبث بالحياة وال نريد موت القصيدة»‪.‬‬

‫ملف العدد‬


‫ِ‬ ‫راهن الشعر‬ ‫في الخليج العربي‬

‫جعفر حسن‬ ‫ناقد بحريني‬

‫قبل أن ندخل في النظر إلى راهن الشعر العربي في الخليج‪ُ ،‬ترى هل لنا أن نعرج‬

‫على تساؤل يعبر عن ظاهرة ربما تشمل المشهديات األدبية في دول الخليج من دون‬

‫‪56‬‬

‫استثناء‪ ،‬وذلك من خالل ما نشهده من تحول بعض الشعراء إلى كتابة نصوص سردية‬

‫من القصة القصيرة إلى الرواية‪ ،‬ولعل بعض المتابعين يمكن له أن يشاركنا التوجس‬ ‫من تضاؤل دور الشاعر واختزاله في الشاعر النجم‪ ،‬الذي يهيمن حضوره على معظم‬

‫االحتفاليات داخل وخارج هذه الدول‪ ،‬ومن ثم بقاء الشعراء في الهامش المتاح‪.‬‬ ‫ولعل من الصعوبات التي تواجه الشاعر يف الصحافة‬ ‫الثقافية مثلاً ‪ ،‬عدم تخصيص نقاد للنظر إىل النصوص‪،‬‬

‫واالكتفاء بنشر نقد انطباعي‪ ،‬إضافة إىل تلك املشكالت التي‬ ‫تطرأ من ناحية صعوبة طباعة دواوين الشعر؛ فالناشرون‬ ‫عادة ما يفضلون الرواية؛ ذلك ألن لها قابلية للتسلع‪ ،‬فعىل‬ ‫الرغم من كل الضغوط التي تمارس عىل الشعر فإنه يظل‬

‫يأبى التحول إىل سلعة‪ ،‬عرب انتشار ما بات يعرف بظاهرة‬

‫الشعرية الطارئة يف الدعاية واإلعالم‪ .‬فهل نحن أمام ظاهرة‬ ‫يمكن ان تهمش الشعر والشعراء؟‬ ‫الشعرية العربية يف الخليج‬

‫إن أكرث املقاربات للشعر يف الخليج يف شكل عام تتعلق‬

‫باللغة من جهة‪ ،‬وتلك األشكال التي تظهر فيها الشعرية‬

‫العربية يف الخليج من جهة أخرى‪ .‬فمن حيث اللغة نجد‬ ‫الشعرية تعاين االنقسام نفسه بني العامية والفصحى‪،‬‬ ‫ولعل كثريًا من النقاد يبعدون العامية من النقد األدبي‪،‬‬

‫ويمكن تلمس أهميتها يف ظهورها من خالل األشكال الفنية‬ ‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬


‫املتعددة‪ ،‬ومنها الشعر ً‬ ‫تراثا ومعاصرة‪ ،‬فمعظم أغانينا تكتب‬

‫بالعاميات السائدة‪ ،‬ولعل التعدد الكامن يف اللهجات العامية‬

‫ميزة خاصة كانت قديمً ا مقصورة عىل القبائل العربية‪...‬‬

‫ويتمظهر الشعر الفصيح يف ثالثة أشكال‪ ،‬وتخضع إىل ذلك‬ ‫َ‬ ‫التمايز بني الشكل واملضمون‪ ،‬فيغلب املضمونُ‬ ‫الشكل يف‬ ‫معظم قصائد العمود سوى حاالت يمكن ملسها؛ ألن فيها ما‬

‫قصيدة التفعيلة وتحدها‪ .‬ولعل كثريًا ممن كتب التفعيلة‬

‫كان بشكل ما يكتب العمود ولو بشكل تجريبي‪ .‬وقد خلط‬

‫الشعراء يف الخليج بني الشكلني يف إنتاجهم للدواوين‬ ‫(العمودي والتفعيلة) حتى إنهم أدخلوا العامية يف إنتاج‬

‫قصيدة التفعيلة‪ .‬وليس عودة بعض املساهمني يف كتابة‬

‫قصيدة التفعيلة إىل العمود كما فعلت (نازك) وغريها من‬

‫النماذج عندنا يف الخليج إال دليل كما يرى بعض النقاد عىل‬

‫يل الكلمات؛ لتناسب بنيته‪ ،‬وهو ما ورثته‬ ‫يفرضه اإليقاع عىل ّ‬ ‫الشعرية العربية من األصول الغابرة للشعر العربي‪ ،‬وبذلك‬ ‫ً‬ ‫مربوطا بخيط األغراض الشعرية‪.‬‬ ‫يظل العمود يف معظمه‬

‫العامّ «القافية»‪ ،‬التي ظلت تشتغل داخل قصيدة التفعيلة؛‬

‫ناحية بناء الجملة الشعرية والصور والتشبيهات‪ ،‬والخروج‬

‫القانون عىل القصيدة‪.‬‬

‫وأقل القليل منه ما حاول اإلفالت من محاكاة القديم من‬

‫إىل تقنيات جديدة‪.‬‬

‫جيل يف اندفاعة‬ ‫وتظهر لنا قصيدة التفعيلة بشكل‬ ‫ّ‬ ‫الشعر العربي نحو تفجري بنية العمود‪ ،‬وتلقف مكوناته التي‬ ‫اس ُتخدم بعضها بطريقة تكرار تفعيلة واحدة وعدم االلتزام‬ ‫بالتشطري العمودي‪ ،‬ثم اندفع شعراء التفعيلة إىل تلك‬

‫الحال التي قامت باستخدام التفاعيل ضمن قوانني االنتقال‬ ‫من تفعيلة إىل أخرى‪.‬‬

‫تلك الدائرية الحاكمة للشعرية العربية كما تظهر يف قانونها‬ ‫لتحيلها إىل العمود من دون تفطن بعض كتابها لخطورة ذلك‬

‫يف اتساع األفق‬

‫كثريًا ما يعتقد بعض املتابعني أن التفعيلة كانت هي‬

‫الناتج الوحيد من تفتت عمود الشعر‪ ،‬ولعله يغفل قصيدة‬ ‫ً‬ ‫محايثا يف‬ ‫النرث التي نشأت إىل جوارها بشكل يكاد يكون‬ ‫الخليج كنماذج مبكرة‪ ،‬ولعلنا نجد تيارًا من الشعراء يتبنى‬

‫قصيدة النرث ويكتب فيها‪ ،‬بينما جرب بعض كبار الشعراء‬

‫ويبدو أن شعر التفعيلة لقي مقاومة يف كل البالد‬

‫يف الخليج كتابتها‪ .‬وقد خص بعض األدباء قصيدة النرث‬

‫الجديدة التي كانت بداياتها مع نهاية الستينيات يف الخليج‬

‫التفعيلة من صراعات عندنا‪ ،‬وقد وُجِّ ه لها كثري من النقد‪،‬‬

‫العربية‪ ،‬وقاومه املؤيدون لعمود الشعر يف وجه الهبة‬ ‫العربي‪ ،‬وهي لحظة الحقة بانبثاق قصيدة التفعيلة يف الدول‬ ‫العربية‪ ،‬وقد ال يعتدّ كثريًا باآلباء املؤسسني لها؛ مثل‪:‬‬

‫(السياب ونازك‪ ...‬وغريهما) عىل الرغم من تقديمهم للنماذج‬ ‫األوىل التي صارت تحتذى‪ ،‬وكثريًا ما اتهمت قصيدة التفعيلة‬

‫يف الخليج كما يف الوطن العربي عامة بالغموض‪ ،‬وقد دارت‬ ‫معارك واسعة يف هذا الجانب‪ ،‬وأُهدر فيه حرب كثري‪ .‬ولعل‬ ‫ً‬ ‫بعضا اعتقد بنوع من الرابطة املقدسة بني قداسة لغة القرآن‬

‫(العربية) وبني قصيدة العمود‪ ،‬وكما يبدو للجميع فبعض‬ ‫قصائد العمود كانت غري مقدسة‪ ،‬بل بعضها كان يعرب عن‬

‫نزق أرعن يف وقته‪ ،‬وقد اتهم شعراء قصيدة التفعيلة بالعجز‬ ‫عن كتابة قصيدة العمود وهو ما لم يكن يف أغلبه صحيحً ا‬

‫حتى لدينا يف الخليج‪.‬‬

‫بديوان بأكمله‪ .‬وواجهت قصيدة النرث ما واجهته قصيدة‬ ‫وعاب بعض املتخصصني قصيدة النرث ألنها بال نموذج ترجع‬

‫إليه‪ ،‬وتبدو مسألة النموذج ما زالت تحت البحث والتقليب‪،‬‬ ‫فيقول أنصار قصيدة النرث بأنهم يكتبون نماذجهم التي‬ ‫تفرضها عليهم حساسيتهم‪ ،‬كما أنهم يقفون ً‬ ‫أيضا ضد‬

‫النموذج املعمم‪.‬‬ ‫لاً‬ ‫وتبدو قصيدة النرث أنها أخذت مجا ال بأس به من‬

‫خطوط اإلنتاج يف الخليج العربي‪ ،‬وإن لم ترث مسألة األسبقية‬ ‫فيها بعد ً‬ ‫ً‬ ‫وتمحيصا‪ ،‬وهي نزعة فكرية عندنا يف البحث‬ ‫بحثا‬ ‫عن أصول للنصوص الجديدة وكأنها محاولة لتأصيلها‪ .‬ويبدو‬ ‫ما هو متأصل يف الثقافة اليوم سيغدو بحكم الزمن جزءً ا‬ ‫أصيلاً منها‪ .‬ووجدنا بعض الشعراء يكتبون قصيدة النرث منذ‬

‫بداياتهم التي كانت متساوقة مع انبثاق قصيدة التفعيلة‪،‬‬

‫وقصيدة التفعيلة عندنا ما زالت تسمى يف بعض املناهج‬

‫ومن املهم اإلشارة إىل أن كل تلك األشكال التي انبثقت يف‬

‫يف بعض الكتابات النقدية‪ .‬ويمكن بيشء من التفطن إدراك‬ ‫ً‬ ‫مكونا جوهريًّا من‬ ‫أن قصيدة التفعيلة قد ورثت عن العمود‬

‫الخليج العربي؛ ما يجعلنا دائمً ا ننتظر الجديد‪ .‬ونعتقد بأن‬

‫عىل إقفال قصيدة التفعيلة وعودة بعض منتجها للعمود‬

‫كنه التغيري الحاصل‪ ،‬ومن ثم سيص ّر عىل استخدام مقايسته‬

‫بالقصيدة الحديثة‪ ،‬وهي تسمية خاطئة ما زلنا نقع عليها‬

‫مكوناته هو القافية‪ ،‬وقد وجد بعض النقاد لدينا أنها تعمل‬

‫بحكم تلك القافية التي تقفل الصورة التي تنمو داخل‬

‫‪57‬‬

‫فن الشعر قد أظهرت نقادها يف العربية بشكل سريع‪ .‬من‬ ‫ناحية‪ ،‬يبدو يل أن هناك ميلاً دائمً ا للتجديد عند شعرائنا يف‬ ‫من ال يرى الجديد وهو ينبثق يف لحظته الراهنة سيفوته إدراك‬

‫القديمة التي ستحيله إىل الفشل‪.‬‬

‫ملف العدد‬


‫زمن مختلف للشعر‬ ‫السوداني‬ ‫محمد جميل أحمد‬ ‫ناقد وشاعر سوداني‬

‫ال يعكس الحديث عن مأزق الشعر وندرته‪ ،‬أو أزمته‪ ،‬إال تصورًا جزئيًّا مستقرًّا على‬

‫منعكسا من تمثالت خاصة هي أقرب إلى التأويل الثقافي منها‬ ‫هوية مفترضة‪ ،‬أو‬ ‫ً‬

‫‪58‬‬

‫إلى حقيقة الشعر كإبداع متصل بالحياة‪ .‬والحال أن تلك األزمة ربما تتعين‪ ،‬فقط‪،‬‬ ‫إذا ما نظرنا إلى الشعر كتعبير متعارف عليه من خالل نظم إدراك نخبوية! أما‬

‫الشعر في الحياة‪ ،‬كحاجة‪ ،‬فهو موجود أكثر منه‪ ،‬بكثير‪ ،‬من كونه حيازة متوهمة‬ ‫لنخبة ما‪ ،‬تحدد هويته بمقاييسها‪.‬‬

‫الشعر متصل بالحياة‪ .‬وتجلياته املتلبسة بالفنون األخرى‬

‫كالغناء والتشكيل والسرد هي ما يكاد يخرجه من دائرة‬

‫األزمة التي يتصورها بعض املهتمني عن مطلق معناه‪.‬‬

‫الشعر ذاتها‪ .‬إن حالة االعتالل اللغوي العامة‪ ،‬عربيًا‪( ،‬ليس‬ ‫بالنسبة لقراء الشعر فحسب‪ ،‬بل للشعراء كذلك) هي التي‬

‫تساهم بقوة يف تلك اإلزاحة املستمرة للشعر إىل الهامش‪.‬‬

‫اتصال الشعر بحاجة البشر‪ ،‬أكرب من الظن بقبول‬

‫ثمة اغرتاب يف اللغة ينزاح عىل الكتابة الشعرية العربية‬

‫يغيب تفصيل من الشعر يراه بعض املتابعني مقياسً ا للشعر‬

‫اغرتاب ال يغيّب الشعر‪ .‬فالشعر‪ ،‬بوصفه حاجة وصريورة‪،‬‬

‫فكرة أفوله أو انسحابه من زحمة الحياة املعاصرة‪ .‬ربما‬ ‫وهويته‪ ،‬فيزعم وهم االختفاء واألفول‪.‬‬

‫غياب الشعر عربيًّا‪ ،‬كمدونة ثقافية مشغولة‪ ،‬وانكفائها‬

‫عن تسييل حالة عامة للشعر تناظر حيويته كأحد خطوط‬

‫اإلبداع األساسية (كما هي الحال يف اللغات العاملية الحية)‬ ‫إنما هو يف الحقيقة انعكاس لغياب سوية ثقافية‪ ،‬أكرث‬ ‫منها إبداعية‪ .‬فاإلبداع الشعري جزء من الحياة ذاتها‪ ،‬لكن‬

‫الحاالت الحيوية للشعر تستدعي بالضرورة عالقة للشعر‬ ‫باللغة ترتبط به وجودًا وعدمً ا‪ .‬فالشعر إذ يظل كام ًنا بني‬

‫الكلمات (وليس يف الكلمات) يظل يف حاجة إىل تسوية‬ ‫ً‬ ‫امتالكا ملادة‬ ‫لغوية؛ إىل عالقة ما تجعل من امتالك اللغة‬ ‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬

‫املعاصرة‪ ،‬فيغيبها عن املشهد الثقايف العام‪ ،‬لكنه بكل تأكيد‬ ‫يتشكل باستمرار يف خامات متنوعة؛ من الغناء إىل السرد إىل‬ ‫األناشيد حتى عبارات الدعاية واإلعالن‪ ،‬ففي كل ذلك ثمة وجود‬

‫قوي للشعر‪ .‬وفيما يعزو بعض املهتمني انسحاب الشعر من‬ ‫ً‬ ‫اتساقا مع رعويات الحياة اإلنسانية‬ ‫الحياة الحديثة؛ ألنه األكرث‬

‫األوىل وبراءتها ـ احتجاجً ا عىل صخب الحداثة املعاصرة وتذررها‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مسوغا يف ذاته؛ فإن‬ ‫مسوغا بذلك ما ليس‬ ‫وقسوتها املادية ـ‬

‫قوة الشعر تكمن أساسً ا يف قدرته كطاقة رخوة ـ لكنها األكرث‬ ‫شراسة يف مواجهة قسوة الحياة ـ إن قوة الشعر هنا هي قوة‬

‫املجاز ذاته الذي يفجر اللغة ويعيد إليها الشعر يف كل منعطف‬ ‫من منعطفات الدهشة‪ ،‬والبداهة املتجددة مع الحياة‪.‬‬


‫مأمون التلب‬

‫أنس مصطفى‬

‫تجربة الحركة الشعرية‬ ‫ً‬ ‫يف الخرطوم‪ ،‬أحدث شعراء شباب حراكا جماهرييًّا‬ ‫مذهلاً للشعر‪ ،‬اقرتبوا به كثريًا من حياة الناس‪ ،‬وجالوا‬ ‫عىل الساحات‪ ،‬واألسواق‪ ،‬والشوارع‪ ،‬وامليادين‪ ،‬عرب تجربة‬

‫ملهمة‪ ،‬خلصت الشعر من العزلة واالنكفاء اللذين فرضتهما‬ ‫سياسات عزل طاردة أكرث من ربع قرن تقريبًا‪ .‬يقول الشاعر‬

‫الشاب مأمون التلب صاحب فكرة الحركة الشعرية‪« :‬يوم‬ ‫ٌ‬ ‫حدث عظيم‪ ،‬بالنسبة يل عىل‬ ‫الثالثاء ‪ 28‬يوليو ‪2015‬م‪ ،‬حَ دَ ث‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫حركة‬ ‫رأيت‬ ‫وتتلخص العظمة يف انعدام التخطيط‪:‬‬ ‫األقل‪.‬‬

‫ِّ‬ ‫أخطط لها‪ ،‬كما تفعل األحزاب السياسيّة الفاشلة ذلك‪:‬‬ ‫لم‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫تخطط وتخطط وتنىس‪ ،‬تمامً ا‪ ،‬أن العالم ليس خطة! لقد‬

‫نجالء التوم‬

‫حاتم الكناني‬

‫وبصراحة لقد سئمنا من هذه الصورة الفاترة‪ ،‬فبتلك الصورة‬ ‫يخدم الشاعر حركة أخرى ّ‬ ‫مكارة‪ ،‬سلبته قيمته واعتداده‬ ‫ً‬ ‫مساحة للتعبري عن الحريّة‬ ‫بخياله‪ .‬إننا ال نريد أن نخلق‬ ‫ً‬ ‫مساحة لحريّة التأمّ ل يف الحياة‬ ‫السياسيّة‪ ،‬نريد أن نصنع‬ ‫والكون»‪ .‬ويعلق عىل الرواج الذي لقيه النشاط الشعري‬

‫املكثف يف تلك الساحة بفعل جهود الحركة الشعرية‪« :‬لقد‬ ‫أصبحت «أتنيه» ساحة مشهورة عامليًّا‪ ،‬باملناسبة‪ ،‬ومحليًّا‬ ‫كذلك‪ .‬بمج ّرد أن تقول‪ :‬أتنيه‪ ،‬فإن الناس يفهمون عما‬ ‫تتحدّ ث‪ .‬لذلك فإن كل مبادرة وفعاليّة تقام يف تلك الساحة‬ ‫مكتوب لها النجاح‪ ،‬وذلك ّ‬ ‫يمثل جزءً ا أصيلاً لنجاح فعاليّة‬ ‫ٌ‬ ‫تدشني الحركة الشعريّة»‪.‬‬

‫َن َشأت هذه الحركة اليوم وحدها‪ ،‬نبتت عىل األرض كما‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫خططا وال تنظيمً ا‬ ‫كنت أص ُّر عىل أنني لن أضع‬ ‫تنبت الغابة‪.‬‬

‫لـ«الدياسبورا» السودانية‪ ،‬وشكلت تلك الحالة السودانية‬

‫الشعريّة‪ ،‬وقد كانت النتيجة مذهلة‪ :‬لقد تكوّنت الفعاليّة‬

‫خارج السودان) ما يمكن أن يعكس هوية جديدة للشعر‬

‫ُ‬ ‫داع للقاءـ مع انطالقة الحركة‬ ‫لفعالية اليوم ـ وما‬ ‫كنت سوى ٍ‬

‫من تلقاء نفسها‪ ،‬تمامً ا كما يحدث للنبات منذ قرون‪ .‬لقد‬ ‫بادر الناس بالقراءة حتى ُذهلت!» لقد لقي الحراك الشعري‬ ‫الذي دشنه الشعراء الشباب من أمثال‪( :‬مأمون التلب‪،‬‬

‫خارجيًّا‪ ،‬اغرتب الشعر السوداين عىل جغرافيا واسعة‬

‫الخاصة واالستثنائية لشعراء سودانيني معاصرين (جلهم‬ ‫السوداين؛ هوية غنية بالتجارب التي يمكنها أن تؤشر عىل‬

‫زمن مختلف للشعر السوداين يف الخارج‪.‬‬

‫بني زمنني‪ ،‬ال تتساوى القوة بالفعل حيال جدلية‬

‫الخفاء والتجيل التي طبعت الشعر كمدونة تعبريية يف‬

‫وأنس مصطفى‪ ،‬ونجالء التوم‪ ،‬وحاتم الكناين) يف ساحة‬ ‫مشهورة بالخرطوم تدعى «أتنيه» تفاعلاً كبريًا بلغ املئات من‬

‫أجناس اإلبداع‪ ،‬عربيًّا‪ ،‬فغياب الفعل الشعري ال يعني‬

‫الشعر للناس‪.‬‬

‫تعبريات أخرى‪.‬‬

‫املتابعني‪ ،‬وبدا واضحً ا‪ ،‬من خالل التفاعل الكبري مدى أهمية‬

‫لقد كانت تجربة الحركة الشعرية بعفويتها؛ لحظة‬

‫إدراك مباشر ألثر الشعر عىل الناس‪ ،‬أدرك بها الشاعر مأمون‬

‫التلب س ّر الشعر وطاقته الخفية عىل البشر حني قارن تجربة‬

‫عام ‪2014‬م التي لم يتفاعل معها الناس كثريًا‪ ،‬مع تجربة عام‬ ‫‪2015‬م التي وجدت صدى وتفاعلاً كبريين بفضل قوة الشعر‬ ‫وتعبريه عن اإلنسان وتأمالته يف الكون والحياة‪.‬‬

‫يقول مأمون‪« :‬يف الفعاليّة املاضية‪ ،‬كانت النصوص‬

‫املستثرية للتأمل قليلة‪ ،‬بينما النصوص املستثرية للعاطفة‬

‫واالنفعال والشعور بفداحة واقع اليوم وبؤسه كثرية‪،‬‬ ‫النصوص ذات الطابع السيايس تستثري الناس بكل تأكيد‪...‬‬

‫‪59‬‬

‫غياب القوة الكامنة للشعر واملوازية ملمكنات وجوده يف‬

‫في الخرطوم‪ ،‬أحدث شعراء شباب حرا ًكا‬ ‫كثيرا‬ ‫جماهيريا مذه للشعر‪ ،‬اقتربوا به‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬ ‫لاً‬ ‫من حياة الناس‪ ،‬وجالوا على الساحات‪،‬‬ ‫واألسواق‪ ،‬والشوارع‪ ،‬والميادين‪ ،‬عبر‬ ‫تجربة ملهمة‪ ،‬خلصت الشعر من العزلة‬ ‫واالنكفاء اللذين فرضتهما سياسات‬ ‫تقريبا‬ ‫عزل طاردة أكثر من ربع قرن‬ ‫ً‬ ‫ملف العدد‬


‫سقطت سلطات الشاعر ولم‬ ‫يبق للشعر سوى نفسه‬ ‫رنا نجار‬ ‫بيروت‬

‫ّ‬ ‫تتبدل أحوال‬ ‫كثر الحديث عن تحوّالت تطال فنّ العرب األول وهو الشعر‪ ،‬في وقت‬ ‫ّ‬ ‫يفضل‬ ‫العرب وأهواؤهم السياسية واالجتماعية‪ .‬حُ كي عن أزمة لغة وتغريب من جيل‬

‫التعبير بلغة شكسبير‪ ،‬ويهجر لغة ابن الرومي‪ ،‬والمتنبي‪ ،‬وعمر بن أبي ربيعة‪ ،‬ونزار قباني‪،‬‬ ‫ومحمود درويش‪ ،‬وسميح القاسم‪ .‬هل الشعر الحديث اليوم في أزمة أم هي أزمة مجتمع‬

‫وحريات تنعكس على ثقافتنا وسلوكياتنا بصفة عامة‪ ،‬كما يحلل الشاعر والكاتب والمخرج‬ ‫المسرحي يحيى جابر؟ في عصر الصورة والسينما ومواقع التواصل االجتماعي والصحافي‬

‫‪60‬‬

‫المواطن‪ ،‬ماذا يعني هروب الشعراء إلى الرواية‪ ،‬وانحسار القراء وعدم االهتمام بدواوين‬

‫مهمة يصدرها شعراء كبار وآخرون موهوبون؟ أم أننا نبالغ في وصفنا ما يعيشه الشعر‬

‫اليوم باألزمة‪ ،‬وهي سيمفونية يجب أن تتوقف‪ ،‬كما يقول الشاعر والكاتب فيديل سبيتي‪،‬‬ ‫على اعتبار أن «الجماهيرية لم تكن يومً ا معيارًا للشعر وال للنقد‪ ،‬وأن الشعر اليوم هو المكان‬ ‫بد للشعر الذي ّ‬ ‫التعبيري األكثر جدوى من أي وقت مضى؟» لكن ال ّ‬ ‫يمثل اإليجابية والحياة‬ ‫والتحريض عليها أن يبقى‪ .‬فهو حاجة الناس إلى التعبير والكالم‪ ،‬وحاجتنا إلى الفرح والغناء‬

‫والمدح والذم والرفض والتعبير عن الواقع‪ .‬الشعر سافر منذ سنوات في رحلة بعيدة ويم ّر‬ ‫بسحابة سوداء‪ ،‬ال ّ‬ ‫بد أن يتخطاها ويخترع رسامين ألمنياتنا وأحالمنا وأوهامنا وحبنا للحياة‪.‬‬ ‫هنا شهادات لمجموعة من الشعراء اللبنانيين حول الشعر؛ راهنه وأحواله‪.‬‬

‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬


‫يوسف بزي‪ :‬شعراء بال مكافأة وال نجومية وال جمهور‬ ‫حتى وقت قريب‪ ،‬كان الشعر يتبوأ مشهد الثقافة‬

‫العربية‪ .‬كان هو «وجدان» هذه الثقافة ولسانها‪ .‬هو الناطق‬ ‫بها‪ ،‬هو لغتها وذاكرتها ومادتها‪ .‬كان الشعر برئ الثقافة‬ ‫ً‬ ‫الحقا‪ ،‬هو التحوالت العميقة‬ ‫العربية وموردها‪ .‬ما حدث‬

‫يف ثقافة الفرد العربي‪ ،‬ويف مصادر هذه الثقافة‪ .‬تحوالت‬ ‫يف القيم والذائقة كما يف وسائط نشر املعرفة‪ ،‬ووسائل‬

‫التبادل والتواصل‪ .‬حدثت تبدالت جذرية يف معنى «القراءة»‬ ‫وأدواتها‪ .‬باختصار‪ ،‬تالقى نزوع القصيدة «الحديثة» نحو‬

‫النرث‪ ،‬مع حاجة مجتمعاتنا املضطربة إىل السرد‪ .‬جاءت‬ ‫الرواية جوابًا موضوع ًّيا‪ ،‬تلبية تلقائية للتغري الذي أصاب‬

‫الكتابة العربية‪ .‬ال نتحدث عن «قيمة» الشعر‪ ،‬بل عن قابلية‬ ‫القراءة‪ ،‬وعن القارئ الذي بات يف مكان آخر‪.‬‬

‫أما فيما يتعلق بالشعراء الشباب اللبنانيني‪ ،‬فهم يف‬

‫معظمهم شعراء الحرية‪ .‬يحاولون الفكاك من إرث السابقني‪.‬‬ ‫يصارعون ذاكرة شعرية مهيبة‪ ،‬من ناحية‪ ،‬وزم ًنا تأبى‬

‫يوسف بزي‪ :‬الشعراء اللبنانيون‬ ‫الشباب في معظمهم شعراء الحيرة‬ ‫هذه الوسائط ذاتها تذهب شي ًئا فشي ًئا نحو املايض واالنصرام‪.‬‬

‫فوضاه أن تنتظم يف قصيدة‪ ،‬من ناحية ثانية‪ .‬واألصعب‪،‬‬ ‫أنهم أتوا يف وقت ال يأبه بالشعر أصلاً ؛ لذا هم شعراء بال‬

‫لتحوالت عميقة‪ .‬يمكن القول بأن ثمة «سلطة» سقطت‪،‬‬

‫التداول والسجال والنقد‪ .‬وحول القضايا املطروحة اليوم يف‬

‫املنابر السياسية‪ ،‬سلطة الشاعر نفسها‪ ،‬سلطة النقد ذاتها‪...‬‬

‫مكافأة وال نجومية وال جمهور‪ ،‬محرومون من حيوية‬ ‫الشعر اللبناين‪ ،‬لست أدري ما املقصود هنا بكلمة «قضايا»‪،‬‬

‫فالكتابة الشعرية مفتوحة عىل كل ما يتصل بالوضع‬ ‫اإلنساين ومأسوية الوجود‪ .‬لكن يف البحث عن خاصية ما يف‬ ‫كتابات الجيل الجديد‪ ،‬قد نلحظ هذا النزوع املتجدد نحو األنا‬

‫املعزولة‪ ،‬التي تخاصم وقائع العالم وسريورته‪.‬‬

‫لكن الشعر اليوم أصبح أكرث يتمً ا‪ ،‬فال جوائز مرموقة‬

‫تحفز الشعراء‪ ،‬وال مطبوعة مهمة تهتم به‪ ،‬وال نقاد‬ ‫مهمومني بنقد الشعر؟ الزم «ازدهار» الشعر العربي‬

‫الحديث‪ ،‬انتشار الصحافة الورقية وتقنية الطبع والنشر‬

‫(الجرائد‪ ،‬واملجالت‪ ،‬والكتب‪ ،)...‬كما الزمه املنرب املسرحي‬ ‫واملهرجاين (األمسيات‪ ،‬والندوات‪ ،‬واالحتفاالت الجماهريية)‪.‬‬

‫معنى القراءة وأدواتها‪ ،‬ومعنى النشر والتداول‪ ،‬تعرضا‬

‫سلطة الصحيفة الثقافية‪ ،‬سلطة املجلة النخبوية‪ ،‬سلطة‬

‫‪61‬‬

‫كلها سلطات فقدت صالحيتها‪ .‬يف رأيي‪ ،‬كل هذا يمنح‬

‫الشعر عزلة إضافية‪ ،‬نقاء أكرث‪ ،‬غربة أشد‪ ،‬حرية أكرب‪،‬‬ ‫ونرثية أرحب‪ .‬لم يبق للشعر سوى نفسه‪ .‬وهذا قد يكون‬ ‫مكسبًا عظيمً ا‪.‬‬

‫يحيى جابر‪ :‬أزمة حريات‬

‫إنه مأزق عاملي عمومً ا‪ .‬فالشعر موجود أكرث اليوم يف‬

‫ً‬ ‫وخصوصا يف الصورة والحوار الذيك‬ ‫السينما ويف الرواية‪،‬‬ ‫واللقطة الذكية‪ .‬الشعر تغيرّ مع التحوالت السوسيولوجية‬

‫والسياسية والثقافية‪ ،‬فالشاعر لم يعد وزي ًرا لإلعالم‬ ‫كما كان يف السابق‪ ،‬وال مح ّر ً‬ ‫ضا وال رسولاً ‪ .‬فدور الشاعر‬ ‫وأنواع الشعر‪ ،‬هي مسائل وهمية وخرافات‪ .‬فتلك الصفات‬ ‫واملواصفات واألسماء الضخمة مثل شاعر الثورة‪ ،‬أو شاعر‬

‫ملف العدد‬


‫الفلسفة‪ ،‬أو شاعر البياض‪ ،‬أو الشاعر الوجودي‪ ،‬كلها‬ ‫انتهت مع الثورة التقنية الرقمية‪ .‬وأصبح هناك فيسبوك‬

‫وتويرت وفنون مفاهيمية وموسيقا الراب وغريها‪ ،‬وكلها يكمن‬ ‫فيها الشعر بشكل أو بآخر‪.‬‬ ‫الطموح إىل السلطة‬

‫كان الشاعر يعيش من بيع الدواوين واملهرجانات‬

‫واألمسيات التي يحييها ويلقي فيها قصائده‪ .‬كان بمنزلة‬

‫رسول‪ ،‬منجّ م‪ ،‬متحدث باسم األمة‪ ،‬أو املتحدث باسم الفرد‬

‫واألنا املتضخمة‪ ...‬وهؤالء كلهم مثالهم األعىل املتنبي‪ ،‬أي‬ ‫يحلمون بالسلطة والسلطة فقط بما يتضمنها املال‪ .‬وهذه‬

‫السلطة إما أن تكون ثقافية وأقىص حدّ فيها أن ُيعينّ الشاعر‬ ‫مسؤولاً لقسم ثقايف يف صحيفة أو وزارة‪ ،‬وإما أن تكون‬ ‫سلطة أيديولوجية؛ إذ يعينّ‬

‫ً‬ ‫متحدثا باسم‬ ‫الشاعر نفسه‬

‫الفقراء وعذاباتهم‪ ،‬وإما أن تكون سلطة سياسية؛ أي يطمح‬ ‫الشاعر الذي يكون ً‬ ‫لبقا بهندسة الكالم برتؤس حزب‪ ،‬أو‬ ‫متحدث باسم هذا الحزب‪ ،‬أو متحدث باسم زعيم ما‪ .‬وأكرب‬

‫‪62‬‬

‫مثال عىل ذلك الشاعر السوري أدونيس؛ ألنه يعدّ نفسه‬ ‫ّ‬ ‫منظ ًرا سياسيًّا فوق إرادة الشعوب‬ ‫املتنبي‪ ،‬ويعينّ نفسه‬ ‫واألفراد‪ .‬وحالة الشعراء هذه كوميدية بامتياز‪.‬‬

‫يحيى جابر‪ :‬أزمة الشعر العربي‬ ‫تعكس أزمة مجتمعنا من النظام‬ ‫إلى السلوك اليومي‬ ‫أما القصيدة الشعرية فيمكننا القول‪ :‬إنها بُرتت أو‬ ‫جُ رحت أو ُ‬ ‫ضربت يف السنوات األربعني األخرية‪ ،‬وزاد‬

‫انكسارها مع ظهور وسائل تعبريية حديثة آخرها السوشيال‬

‫ميديا ومواقع التواصل االجتماعي التي كانت بمنزلة الضربة‬ ‫القاضية‪ .‬وهنا يبقى فقط ‪ 5‬أسماء المعة من أربعني سنة‬

‫فيديل سبيتي‪ :‬المحل التعبيري األكثر جدوى‬ ‫الشعر العربي ليس يف مأزق كما لم يكن يف أي وقت‪ ،‬فهو وسيلة العرب‬

‫الوحيدة للتعبري عن مآزقهم وآرائهم فيها‪ ،‬وتفنيدها‪ ،‬ودفعها‪ ،‬ورفعها‪ ،‬والسري‬

‫بها‪ ،‬أو مدحها‪ ،‬أو ذمها‪ .‬فكيف الحال يف هذه اآلونة من مآزق العرب الكثرية‬ ‫ّ‬ ‫ومغلب مشاعره عىل واقعه باملعنى‬ ‫واملتشعبة التي لن يفهمها إال شاعر‪ ،‬أي متأمل‬ ‫التقليدي لتعريف الشعراء‪ .‬بالتأكيد فإن الشعر العربي هو املحل التعبريي األكرث‬ ‫جدوى لقول ما ال يمكن قوله يف أي نوع من أنواع الفنون األخرى‪ ،‬إال إذا كان‬

‫السؤال يتضمن جوابه؛ أي القصد بأن الشعر بال جمهور‪.‬‬

‫هنا أقول بأن السيمفونية الدارجة التي تقول بموت الشعر أو بانفضاض‬

‫الجمهور عنه يجب أن تتوقف إىل غري رجعة‪ .‬فالشعر الحديث أو قصيدة النرث‪ ،‬لم‬ ‫تكن منذ بداياتها جماهريية‪ ،‬بل كانت محارَبة من مُ حبّي اإليقاع والقافية وبحور‬

‫فيديل سبيتي‬

‫الشعر والرتاث اآلفل‪ .‬وقصيدة النرث أو الشعر الحديث لم تتوجه يومً ا إىل الجمهور إال إذا استثنينا بعض الشعراء الذين‬ ‫يكتبون أصلاً لجمهور متخيل حني يخطون قصيدتهم؛ كمحمود درويش‪ ،‬ونزار قباين‪ ،‬وبدر شاكر السياب‪ ،‬ومظفر‬

‫النواب‪ ،‬وغريهم قالئل‪ .‬فالشعر الحديث نخبوي بطبعه وهو ال يطلب الشعبوية أو الجمهور أو التصفيق أو البيع؛ ألنه‬ ‫شعر رفض الجماعة‪ ،‬وعاداتها‪ ،‬وتقاليدها‪ ،‬واملرسّ خ من كل ذلك‪ ،‬إنه شعر قلب العالم إىل عالم آخر ال يحبذه الجمهور‬

‫وال يستسيغه‪ ،‬بل يتهمه بالهرطقة‪.‬‬

‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬


‫حتى اآلن‪ ،‬بعد كل هذه الضربات املوجعة‪ .‬فاملجالت واملالحق‬ ‫الثقافية العربية أنتجت مئات الشعراء‪ ،‬لكنها لم ُتنتج حالة‬

‫وسلوكيات أسالفهم من الشعراء‪ ،‬يف لباسهم ونمط عيشهم‬

‫عىل رغم ما أتت به مجالت الشعر املتخصصة التي ُعدّ ت‬

‫وهؤالء يكتبون عن الشعر‪ ،‬ولكنهم يعجزون عن كتابة‬

‫شعرية مهمة باستثناء ما حصل يف بريوت ومصر‪ .‬ويف لبنان‬ ‫بمنزلة ثورة يف القرن املايض‪ ،‬إال أن الشاعر يف لبنان كان‬

‫دائمً ا تابعً ا بشكل عام للسلطة بغض النظر عن نوع السلطة‬

‫(وصاية سورية‪ ،‬ثورة‪ ،‬يمني‪ ،‬حركة وطنية)‪ .‬وأرى أن هذه‬

‫األزمة مسؤول عنها الشعراء أنفسهم واأليديولوجيات التي‬ ‫ّ‬ ‫تحكمت بهم وأنتجت دور نشرها ومؤسساتها الثقافية‪ .‬وهنا‬

‫نقصد الحركات اليسارية والشيوعية والقومية والوطنية‬

‫حتى اإلسالمية‪.‬‬

‫لذا نحن اليوم نرى أن الشعراء الشباب يمارسون عادات‬

‫واملقاهي التي يرتادونها‪ ،‬أما القصيدة فهي غري موجودة‪.‬‬ ‫قصائدهم‪.‬‬

‫باختصار أزمة الشعر العربي تعكس أزمة مجتمعنا من‬

‫النظام إىل السلوك اليومي‪ .‬مجتمع ال يعرف أن يعبرّ ‪ ،‬وال‬ ‫كيف يهاجم سلطة‪ ،‬وال كيف يثور وينجح يف ثورته‪ ،‬وال كيف‬

‫يبني نظامً ا سياسيًّا‪ .‬إنها أزمة حريات وشجاعة‪ ،‬فالشاعر ابن‬

‫الرفض‪ ،‬ولكن الـ «ال» لها ثمن وتحتاج إىل شجاعة‪ ،‬ولكن‬ ‫الشجاعة مفقودة‪.‬‬

‫لوركا سبيتي‪ :‬غياب النقد‬ ‫أول لو أردنا الحديث عن موضوعات الشعر‪ ،‬أو ما قضايا الشعراء الشباب‬

‫اليوم‪ ،‬سنتحدث عن كل األفكار التي قد تخطر‪ ،‬وكل االنفعاالت التي قد تتجسد‪،‬‬

‫وكل الهموم اإلنسانية التي يستوي عندها جميع البشر عامة والشعراء خاصة؛‬ ‫إذ ال يشء معني يتناوله الشعراء الشباب اليوم‪ ،‬هي موضوعات أزلية أبدية تخص‬

‫الحياة واملوت وما بينهما‪ ،‬لكل منهم طريقة يف التكلم عنها وتجسيدها بما يهوى‪،‬‬

‫‪63‬‬

‫بأسلوب يميزه من الكتاب اآلخرين‪ .‬ولكن‪ ،‬ال بد من اإلشارة إىل أن املالحظ أكرث ما‬

‫يكتب‪ ،‬وليس جميعه‪ ،‬له رائحة الواقع‪ .‬ينقله بحقيقته من دون مواربة‪ .‬ولنتخيل‬ ‫ما قد يكتبه هؤالء الذين يعيشون يف عالم دموي إن لم يكن قاتلاً فهو مقتول‪...‬‬ ‫منذ الجاهلية وصولاً إىل عصرنا هذا ال تزال املوضوعات ذاتها‪ ...‬الحب‪ ...‬العصبيات‬ ‫املتجسدة بمدح الفرد إىل مدح العشرية إىل مدح الوطن والزعيم‪. ...‬‬

‫لوركا سبيتي‬

‫عىل مستوى األفكار لم يرافق تطور الوعي والغايات تطور الوسائل‪ ،‬فتغري شكل القصيدة من دون أن يتغيرّ‬

‫مضمونها‪ ،‬وال يزال الشاعر يتغزل بمحبوبته بحسب لون شفتيها وشكل عينيها‪ ،‬مسرتجعً ا صورة هارون الرشيد يف‬ ‫خياله وجواريه‪ ،‬من دون أن ينفتح عىل بعد إنساين أبعد وأعمق‪ .‬أما إن كان الشعر العربي بمأزق؟ فالشعر ليس بكيان‬

‫مجرد يك يقع يف أزمة خاصة‪ ،‬هو نتاج الشعراء‪ .‬وإن ابتعد الق ّراء عن الشعر فهذا مرده إىل عدم قدرة الشعراء عىل‬

‫مالمسة عصب الجمهور ودغدغة أحالمه عرب معانقة واقعه‪ .‬وهذا ما ال تسمح به الرواية‪ ،‬فطبيعة الرواية تفرض عىل‬ ‫الراوي االنطالق من الواقع ورسمه وتلوينه‪ ،‬ما يجعلها جذابة لخيال القارئ الذي يبحث عن نفسه وموضوعاته وهمومه‬ ‫يف النص بعد أن ّ‬ ‫مل من «أنا» الشعراء التي يف األغلب ما تدور حوله القصائد بشكل مباشر أو غري مباشر‪ ،‬يف هذا الزمن‬ ‫الذي انسحق فيه «أنا» الفرد يف الواقع وأصبح يبحث عن «أناه» عرب الخيال آملاً يف اسرتجاع بعض إنسانيته‪ ،‬وهذا ما‬

‫تسمح به الرواية عرب فضائها األرحب واألوسع واملتحرر من «أنا» الكاتب‪.‬‬ ‫ثم إنني أرى يف هذه األيام أن األغنية ّ‬ ‫حلت محل قصيدة العصر القديم يف وجدان الناس‪ ،‬بلحنها وأدائها وكلماتها‪،‬‬

‫حفظها الناس أكرث من القصائد بذاتها‪ .‬واملشكلة الحقيقية للشعر يف وطننا‪ ،‬هو غياب النقد الحقيقي؛ بسبب غياب‬ ‫املتخصصني يف النقد الشعري‪ ،‬إذ إن أغلبية النقاد هم شعراء أو ك ّتاب أو مسؤولو صفحات ثقافية يف الصحف‪ ،‬وهؤالء‬

‫يف األغلب يفتقدون الخلفية العلمية الخاصة بالنقد‪ ،‬ليحل مكانها أهواؤهم‪ ،‬ومصالحهم الشخصية‪ ،‬ونظرتهم إىل‬

‫جودة الشعر‪ ،‬وتقييمهم له‪.‬‬

‫ملف العدد‬


‫الشعر في السعودية‪:‬‬ ‫أسباب تدفع الشاعر إلى العزلة‬ ‫هدى الدغفق‬ ‫الرياض‬

‫ً‬ ‫خصوصا‬ ‫حين نتأمل المشهد الشعري في السعودية‪ ،‬فإن أكثر من سبب يدفع الشعراء‪،‬‬

‫الجدد‪ ،‬إلى اإلحباط ومن ثم االنكفاء على أنفسهم‪ ،‬وإذا حدث لهم أن كسروا قشرة العزلة‪،‬‬

‫فإنهم سيكتفون بالتواصل مع دائرة ضيقة ًّ‬ ‫جدا من األصدقاء‪ .‬لعل أول األسباب طغيان الرواية‬ ‫التي سرقت االهتمام تقريبًا من الجميع‪ ،‬وانصراف عدد ال بأس به من غير كتاب السرد إلى كتابة‬

‫الرواية؛ مما أدى إلى هجرة نقاد الشعر إلى حقل الرواية‪ ،‬طلبًا لألضواء ومزيد من االهتمام الذي‬

‫انحسر عنهم بانحسارها عن الشعراء‪ .‬ومن األسباب أنه إذا حدث وجرى االهتمام بالشعر‪ ،‬فإن‬

‫‪64‬‬

‫النوع الشعري محط االهتمام لن يكون سوى العمودي وفي أفضل األحوال شعر التفعيلة‪ ،‬أما‬

‫قصيدة النثر فال أحد يفكر فيها‪ .‬على أن الالمباالة وعدم االهتمام تطال الشعر بأنواعه‪.‬‬

‫ومن هنا انشغال بعض التجارب الشعرية الجديدة بالذهاب إلى مناطق معينة‪ ،‬تصور فيها‬

‫عزلة الشاعر وممارسته العيش في أماكن مغلقة‪ .‬سبب آخر يحبط الشعراء‪ ،‬هو المستوى‬ ‫الثقافي المحدود لمن يدير دفة الثقافة ومؤسساتها؛ مما جعل ثقافة المجامالت والتحشيد‬

‫تتفشى‪ ،‬من دون اعتبار ألي أي شيء آخر‪.‬‬

‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬


‫غياب الشاعر الرمز‬

‫بسرعة‪ ..‬كما قال الشاعر الفرنيس بول فالريي عن‬

‫يعتقد الشاعر جاسم الصحيح أن راهن‬

‫عبقرية الشاعر رامبو‪ .‬الجماليات الشعرية ال يمكن‬

‫العربي؛ إذ يستحيل يف رأيه‪ ،‬الفصل بني‬

‫والفوران والهذيان‪ .‬الشعر هو عملية استكشاف‬

‫الشعر يف السعودية مرتبط براهن الشعر‬

‫أن تستقر عىل حال؛ ألن الشعر هو حال من القلق‬

‫ً‬ ‫«خصوصا يف ظل انبثاق وسائل التواصل‬ ‫املشهدين‬

‫مستمرة لجغرافيا الروح‪ ،‬وكلما جاء جيل جديد‬

‫االجتماعي‪ ،‬وثورة االتصاالت‪ ،‬والتنسيق العام‬ ‫ملعارض الكتب يف العالم العربي‪ ،‬فالتجارب‬

‫الشعرية والثقافية عمومًا مفتوحة بعضها عىل‬ ‫بعض بكل يسر وسهولة»‪.‬‬

‫ويالحظ الصحيح أن أجيالاً جديدة من الشعراء صعدت‬

‫إىل مسرح الشعرية العربية يف معظم البلدان‪« ،‬وقد يكون‬

‫املشهد الشعري السعودي الجديد من أجمل املشاهد وإن خال‬

‫من فكرة الشاعر الرمز؛ ألن رمزية الشهرة لم تعد حاضرة يف‬ ‫عصر ما بعد الحداثة عرب كل املجاالت وليس‬ ‫الشعر فقط»‪ .‬ويتطرق الصحيح إىل «مختارات‬

‫من الشعر السعودي الجديد» التي صدرت يف‬

‫«كتاب الفيصل» يف مارس املايض‪ ،‬وكانت فكرة‬

‫اقرتحتها «الفيصل» عىل الشاعر زيك الصدير‬ ‫فقام بتنفيذها‪ ،‬حول هذه املختارات يقول‪ :‬يف‬

‫هذه املختارات اكتشفت عبقرية الشعراء الشباب‪،‬‬ ‫لكنني أرجو ألاّ تكون عبقرية عجولة‪ ..‬أي ال تنطفئ‬

‫بمراكبه ومناظريه‪ ،‬وأرىس عىل شواطئ الروح وحدَّق‬ ‫جاسم الصحيح‬

‫يف التضاريس البعيدة داخل أعماقه؛ استطاع أن‬ ‫يواصل االستكشافات التي بدأها أسالفه‪ .‬هذا العمل‬

‫اإلبداعي يمثل مسؤولية كل موجة جديدة من الشعراء‪ ،‬للخروج‬

‫من لحظتها الراهنة إىل املستقبل عرب مغامرة جامحة تضيف من‬ ‫خاللها مساحة جديدة من الكشف واالبتكار»‪.‬‬ ‫الشعر عابر للعصور‬

‫ويرى الشاعر محمد عابس أن الشعر فن عابر‬

‫للعصور «وإن خفت ضوء االهتمام به بني فرتة‬ ‫وأخرى ألسباب متعددة منها‪ :‬منافسة فنون أخرى‪،‬‬

‫واهتمام الناس بأشياء أخرى‪ ،‬وانفتاح العالم‬ ‫عىل الفضائيات ووسائل التقنية ووسائل التواصل‬

‫االجتماعي‪ ،‬وتطور أدوات الرتفيه‪ ،‬ومن ناحية أخرى‬

‫سوء مناهج تعليم اللغة العربية وضعف النماذج‬

‫محمد عابس املختارة يف مواد األدب»‪.‬‬

‫‪65‬‬

‫مقولة غياب النقد تدحضها الدراسات األكاديمية‬ ‫جنس أدبي عىل‬ ‫ال يثق الشاعر أحمد التيهاين كثريًا يف األقوال املعمّ مة التي تميل إىل تفضيل‬ ‫ٍ‬

‫جنس‏آخر‪ ،‬ويرى ذلك «كالمً ا» إعالميًّا استهالكيًّا؛ «ذلك أنه –يف األغلب– يصدر عن املبدعني‬ ‫حساب‬ ‫ٍ‬ ‫لاً‬ ‫‏أنفسهم انتصارًا لألجناس األدبية التي يكتبونها»‪ .‬وينتقد التيهاين املبدعني قائ ‪« :‬يُفرتض لعقل املبدع‬ ‫أن يكون تفكريه‏متجهًا نحو النص بوصفه ًّ‬ ‫جنسا أدبيًّا‪ ،‬وهي نظرة متقدمة‬ ‫نصا‪ ،‬ال نحو النص بوصفه‬ ‫ً‬

‫‏بمراحل عىل رجعية «التجنيس» التي تعيدنا إىل التصنيف اليوناين السابق ملا آل إليه اإلبداع‏اللغوي‬ ‫يف اللغات ّ‬ ‫كلها»‪.‬‏‬

‫ويؤكد التيهاين عىل املكانة التي يحتلها الشعر قائلاً ‪« :‬سيبقى الشعر املختلف واملميز بذاته‪ ،‬ال‬

‫‏بالقواعد التي يضعها النقاد؛ لذلك يندر أن يتداخل الشعر مع غريه من األجناس األدبية‪ ،‬فيما‏نجد‬ ‫ٌ‬ ‫«قول عاطفي يُقصد به التهوين ال غري؛‬ ‫األجناس األخرى تتداخل رغم صرامة القواعد»‪ ،‬مشريًا إىل أن القول بانحسار الشعر‪،‬‬

‫أحمد التيهاني‬

‫حجج بينة‪ ،‬إضافة إىل أن يُبنى عىل إحصاءات‏دقيقة؛ ألن القول بذلك‬ ‫ذلك أنه ال‏يستند عىل معطيات واضحة‪ ،‬وال يقوم عىل‬ ‫ٍ‬ ‫يناقض مسألة إشباع شكل من أشكال الجوع الجمايل الذي ال‏يسده إال الشعر»‪.‬‏ ويلمح التيهاين إىل أن كل ما يقال عن انحسار‬ ‫الشعر‪ ،‬وتمدد أجناس أخرى‪ ،‬سيذوب حتمً ا‪« ،‬فالشعر ‏يبقى حاض ًرا‪ ،‬ويستمر متجددًا‪ ،‬وليس ّ‬ ‫أدل عىل ذلك ممّ ا آلت إليه‬ ‫الشعرية العربية الحديثة‪،‬‏يف القصيدتني‪ :‬اإليقاعية‪ ،‬والنرثية‪ ،‬عىل السواء‪ ،‬من تطور سريع جدًّ ا‪ ،‬مداه الزمني ال يتجاوز‏نصف‬

‫قرن»‏‪ .‬ويف تصور التيهاين أنه‪« :‬ربما كانت عوامل التحول من شفاهية القصيدة‪ ،‬إىل كتابيتها‪ ،‬سببًا يف خلق وهم‏انحسار الشعر»‪.‬‏‬

‫ويلفت إىل أن القول بغياب العمل النقدي املتعلق بالشعر‪ ،‬تدحضه الدراسات‏األكاديمية الغزيرة التي تشتغل بالشعر‪« ،‬ولو أننا‬ ‫أجرينا عملاً إحصائيًّا عن األجناس األدبية التي‏اهتمت بها هذه الدراسات‪ ،‬لوجدنا الغلبة للدراسات املتعلقة بالشعر»‪.‬‬

‫ملف العدد‬


‫ومن ناحية أخرى‪ ،‬يذكر عابس أن توجه‬

‫السياسية وانعكاساتها عىل مشاعر وروح‬

‫لها بالقضايا الكربى للمجتمعات لقيام وسائل‬

‫االجتماعي التي ساهمت ‪-‬يف شكل مؤثر وقوي‪ -‬يف‬

‫الشعراء‪ .‬ويعزو الجلواح ذلك إىل وسائل التواصل‬

‫الشعر إىل موضوعات ليست جماهريية وال عالقة‬

‫صرف الشاعر والقارئ معً ا عن القراءة العميقة‪.‬‬

‫أخرى بذلك الدور‪ ،‬دفع الشعر إىل االتجاه إىل‬

‫‏ ويعزو الجلواح هروب الشعراء إىل الرواية‪ ،‬إىل‬

‫«قضايا ومفردات اإلنسان وهمومه البسيطة‪ ،‬وإىل‬ ‫مفردات الهامش واملهمل والبسيط‪.»...‬‬

‫ويلقي عابس باللوم عىل املؤسسات الثقافية‬

‫يف الرتاجع الذي يعيشه الشعر‪« :‬لم يعد هناك‬

‫اهتمام بالشعر والشعراء عىل مستوى الدول واملؤسسات إال عىل‬

‫استحياء أو بشكل محدود‪ ،‬جوائز الشعر محدودة ومهمشة‬ ‫وغري مجزية وال يمكن تجاوز االهتمام األكرب بالعاميات (الزجل)‬

‫يف مختلف الدول عىل حساب الشعر الفصيح‪ ،‬ولست ضد‬ ‫االهتمام بالعامّي ولكن بشكل ال يلغي الفصيح»‪ ،‬مشريًا إىل أن‬

‫محمد الجلواح‬

‫الكتابة النرثية‪ .‬كما أن انتشار الرواية ال يدل عىل‬ ‫وجود عافية فيها‪ ،‬فقد ‏أصبح الجميع يكتب‬

‫ً‬ ‫مضيفا سببًا آخر لعدم وجود حراك شعري يف اململكة‪،‬‬ ‫رواية»‪،‬‬ ‫وهو‪«:‬أننا ال نقبل النقد‪ ،‬وال نرىض ‏بالدراسات واملالحظات التي‬ ‫ُت َ‬ ‫السبق وقـ َ​َصبُه يف‬ ‫نشر يف الصحف‪ ،‬وتأيت من آخرين لهم ‏قـَدَ م ّ‬

‫الشعر‪ ،‬بل نطري فرحً ا باملجامالت حتى لو كانت عىل ‏حساب‬ ‫الجودة‪ ،‬فينجم جراء ذلك الرتاجع من جهتني‪ :‬جهة ‏الشاعر‬

‫معظم النقد «توجه إىل البعد الثقايف العام وإىل الرواية‪ ،‬وكثري‬

‫الذي ال يريد أحدً ا أن ينتقده‪ .‬ومن جهة أخرى فإن املتلقي الناقد‬

‫قراءته بشكل سليم‪ ،‬ومن ثم تصدر عشرات الدواوين املميزة وال‬ ‫أحد يعلم شي ًئا عنها!!»‪.‬‬

‫والغضب واإلحباط‏‪ ،‬وهو ‪-‬يف الوقت نفسه‪ -‬يخىش أن يفقد‬

‫من النقاد ال يجيدون التعامل مع الشعر وبعضهم ال يستطيع‬

‫‪66‬‬

‫تراجع الشعر عند هؤالء «إضافة إىل استسهال‬

‫عدم تقبل النقد‬

‫أما الشاعر محمد الجلواح فيتوقف عند الحال النفسية‬

‫واملزاجية للمواطن العربي بشكل عام‪ ،‬وكذلك اإلفرازات‬

‫الذي ‏ال يجد من يأخذ برأيه ونقده ودراسته‪ ،‬يشعر بالحزن‬

‫بذلك صداقته وعالقاته بالشعراء»‪.‬‏‬

‫‏ وضع الشعر سيستمر هكذا حتى تحين‬ ‫التفاتة من مؤسسات الثقافة‪ ،‬تُعلي‬ ‫شأنه وترفع أركانه‬

‫رؤية حول المشهد الشعري السعودي الحديث‬ ‫يوضح الشاعر زيك الصدير أنه يف ظل اكتساح الرواية للمشهد الثقايف بعموميته‪ ،‬وقدرتها‬

‫عىل تحويل نفسها للدراما التلفزيونية‪ ،‬أو لفلم سينمايئ‪« ،‬لم يعد الشاعر قادرًا بأدواته اللغوية‬

‫املحضة الوصول إىل القارئ غري النخبوي‪ .‬األمر الذي يجعله قابعً ا يف إطار ال يستطيع من خالله‬ ‫ّ‬ ‫االتساع ومعانقة القارئ البسيط‪ .‬ويعود ذلك لتعاظم انكفاء معظم الشعراء عىل ذواتهم‪ ،‬ولعدم‬ ‫قدرتهم عىل تجاوز السؤال الفلسفي للسؤال الحيايت اليومي‪ .‬ومن بني هذه التجارب خرجت‬

‫تجارب سعودية‪ ،‬هنا وهناك‪ ،‬استطاعت أن تستوعب بعمق ما يدور حولها فأنتجت اشتغاالت‬ ‫شعرية مهمة‪ ،‬لكنها قليلة‪ ،‬وال يمكن اعتبارها ظاهرة من املمكن القياس عليها»‪.‬‬

‫ويقول‪« :‬إذا ما كنا نتحدث عن مشهد جغرايف متسع مثل السعودية‪ ،‬فإنه من الصعب‬

‫زكي الصدير‬

‫الحديث عن هوية الشعر أو مالمحه بشكل دقيق‪ ،‬حيث لكل منطقة من مناطقها املرتامية األطراف أسئلة شعرائها وقلقهم‬ ‫ورؤاهم الكونية الخاصة‪ ،‬والتي تنعكس عىل واقع ما يشتغلون عليه شعريًّا‪ .‬هذا ّ‬ ‫االتساع الجغرايف يجعلنا أمام مشهديات‬ ‫شعرية مختلفة ذات هويات مشتتة‪ ،‬يجمعها االسم‪ ،‬ويفرقها االشتغال‪ .‬والحديث هنا بالطبع يشمل مضمون الشعر وليس‬

‫هندسته املعمارية فحسب»‪ .‬ويلفت إىل أن الجغرافيا املكانية جعلت من التجارب الشعرية السعودية القريبة من الخليج‬ ‫«تمتلك سمات عىل مستوى اللغة والهوية تختلف عن تلك الحجازية أو الجنوبية أو التي تتوالد بندرة يف الشمال والوسط‪.‬‬

‫نجد شعراء الشرقية ‪-‬عىل سبيل املثال‪ -‬متماهني إىل حد كبري يف نصوصهم مع التجارب الشعرية املنجزة يف العراق ودول‬ ‫الخليج‪ ،‬عىل حني يغيب أو يخفت هذا التأثر عن التجارب الشعرية يف بقية املناطق‪ ،‬األمر نفسه بالنسبة لتجارب شعراء‬

‫الجنوب‪ ،‬حيث تحضر التجارب اليمنية بقوة‪ ،‬وتخفت يف بقية املناطق»‪.‬‬

‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬


‫الشعر السعودي بال تجارب عميقة‬

‫ويقول‬

‫الشاعر‬

‫عن الشعر‬ ‫في اللحظة الراهنة‬

‫مسفر‬

‫العدواين‪ :‬إن الشعر السعودي‬ ‫«لم ينتج تجارب نتئك عليها‬

‫يف حال النقد باستثناء تجربة‬ ‫الثبيتي‪ ،‬وما زلنا ً‬ ‫أيضا يف صراع‬

‫إذا استعرنا لغة الحروب‬

‫التي نعيش عىل وقعها اآلن‪،‬‬

‫كبري بني رفض وقبول قصيدة‬

‫فإنه يمكننا القول‪ :‬إن الشعر‬

‫أمس‬ ‫النرث لدينا ونحن يف‬ ‫ّ‬

‫الحاجة لتجارب شعرية نواجه‬

‫مسفر العدواني‬

‫بها من يعتقد أن الشعر السعودي ما زال خجولاً ‪ ،‬ولن يصل إىل‬

‫منصات العالم»‪ .‬ويرى العدواين أنّ األصوات الشعرية املعاصرة‬

‫«عندما ال تندمج مع الحاضر بكل معطياته فلن تتقدم‪ ،‬وإذا‬ ‫توقف خيال الشاعر عند حد معني ً‬ ‫خوفا من املستقبل فلن نخلق‬ ‫موجات جديدة ومع ذلك نحن جزء من العالم‪ ،‬وال شك أن‬ ‫ما يحدث فيه يؤثر فينا‪ .‬أما من ناحية الجوائز الشعرية فليست‬

‫مقياسً ا لعمل تجربة شعرية؛ لكونها تخدم املؤسسة التابعة‬

‫لها‪ ،‬وال تخدم الشاعر‪ ،‬ويف زمن التقنية الحديثة يلزم الشاعر‬ ‫التفاعل معها بنصوص قصرية مكثفة تسهل عىل القارئ‪،‬‬ ‫وتناسب الواقع‪ ،‬وتظهر الشاعرية‪ .‬فالزمن اآلن زمن التواصل‬

‫االجتماعي وقراءة الكتب الورقية أصبح من النادر جدًّا»‪.‬‬ ‫أدب بال أدب‬

‫تضخم كثريًا‪ ،‬وبشكل مبالغ‬ ‫فيه‪ ،‬يف عقد الثمانينيات من‬

‫القرن املنصرم‪ ...‬إنه تحول‬ ‫إىل قنبلة انفجرت لتنتشر‬ ‫شظاياها يف كل مكان‪ .‬نحن‬

‫مسفر الغامدي *‬

‫يف هذه اللحظة نعيش يف زمن الشظايا‪ .‬لم يعد للشعر‬ ‫رموزه وتكتالته ومالحقه ونقاده‪ ،‬بل أصبح متناثرًا يف كل‬

‫مكان‪ .‬شعراء ال يحصون‪ ،‬ودواوين ال تعد‪ ،‬وسيل جارف من‬ ‫الحروف التي ال ّ‬ ‫تكف عن التناسل من بعضها البعض‪ ،‬ثم ال‬ ‫أثر مهم يذكر بعد ذلك‪ ،‬حتى مع تعدد املهرجانات الشعرية‪،‬‬

‫أو تكاثر الجوائز وتنوعها‪ .‬مع كل ذلك هناك ورود حقيقية‬

‫ومدهشة‪ ،‬تنبت يف كثري من الزوايا القصية‪ ،‬لكن األغصان‬ ‫الكثيفة للغابة تحجبها‪ .‬هناك أسماء تستحق القراءة‬ ‫واالحتفاء‪ ،‬ولكن ليس هناك بستاين ماهر‪ ،‬يحول الغابة إىل‬

‫وتنتقد الشاعرة هند املطريي شعر اليوم وأدبه بشكل‬

‫حديقة‪ .‬هذه مهمة نقدية بامتياز‪ ،‬لكن النقد تعوّد يف العقود‬

‫بال أدب‪ .‬صرنا نسمع أسماء كثري من الشعراء لكننا ال نسمع‬

‫وسعه‪ ،‬حتى اآلن عىل األقل‪ ،‬أن يتعامل مع النتف املتناثرة‬

‫عام قائلة‪« :‬يصدر عدد هائل من األعمال األدبية سنويًّا‪ ،‬لكن‬

‫شع ًرا؛ من أجل ذلك كله‪ ،‬كان من الطبيعي جدًّا أن تذبل جنان‬ ‫الشعر التي كانت قد أبدعها الرواد يف عصرنا والعصور السابقة»‪.‬‬

‫وال ترى املطريي أن طغيان الرواية تسبب يف تراجع الشعر؛ «ألن‬

‫ازدهار الرواية الجيدة قد يدفع الشعر الجيد إىل املنافسة‪ ،‬لكن‬ ‫املسألة تتعلق بالوعي الجمايل الجمعي‪ .‬الشعر يهب نفسه لألمة‬

‫التي تقدره وتحفظ قيمته‪ ،‬فإذا تخلت عنه تخىل عنها تمامًا»‪.‬‬

‫وتقول املطريي‪« :‬يف العصور القديمة كانت العرب تقدس‬

‫الشعر لدرجة دفعتهم للمقارنة بينه وبني القرآن (كالم الرب‬ ‫ّ‬ ‫جل وعال)؛ لذلك حفظ الشعر لهم أقدارهم وأخبارهم وأيامهم‬

‫السابقة عىل التعامل مع الكتل الصلبة (الجاهزة)‪ ،‬وليس يف‬

‫هنا وهناك‪...‬‬

‫قد نعزو السبب لالنفجار املعلومايت‪ ،‬للطبيعة السائلة‬

‫لألفكار وللعالم‪ ،‬لعزلة الفرد‪ ،‬ملوت األيديولوجيات الكربى‪،‬‬ ‫لوسائل التواصل االجتماعي‪ ،‬للحظات الرتقب والخوف التي‬

‫نعيشها‪ ،‬لعجز الخيال عن مجاراة الواقع‪ ،‬لتسرب الشعر من‬ ‫ً‬ ‫إقناعا‪ ...‬لكل ذلك‬ ‫قبضة اللغة وهروبه إىل فنون بصرية أكرث‬

‫وألكرث من ذلك‪ .‬يف كل األحوال وبالعودة إىل لغة الحروب‪:‬‬ ‫أصبح الشعر ملجأ أكرث منه سالحً ا‪ .‬الشعراء الذين ما زالوا‬

‫يظنونه سالحً ا يبدون هزليني ومضحكني بشكل كبري‪ .‬لم‬

‫التي لم يكن التاريخ ليتحملها من دونه‪ .‬أما اليوم وقد انصرفوا‬

‫يعد الشعر وسيلة نقل مناسبة لألفكار والعنرتيات البالية‪،‬‬

‫األقل لن يبقى كثري منه‪ .‬لم نفتقد الدواوين فهي كثرية‪ ،‬وتصدر‬

‫كمامً ا واقيًا ليك ال نلتقط املزيد من الجراثيم واألوبئة اللغوية‬

‫إىل صفصفة الكالم فال أظن الشعر يبقى يانعً ا مزده ًرا‪ ،‬أو عىل‬ ‫عشرات منها كل عام‪ ،‬لكننا نفتقد الشعر»‪ .‬ويف ظن املطريي أن‬

‫وضع الشعر سيستمر هكذا «حتى تحني التفاتة من مؤسسات‬ ‫الثقافة‪ُ ،‬تعيل شأنه وترفع أركانه‪ .‬حني ذاك يعود‪ ،‬ويزدهر‪،‬‬ ‫ويطرح ثماره اليانعة»‪.‬‬

‫‪67‬‬

‫ً‬ ‫درعا واقيًا التقاء التلوث يف أحسن األحوال‪...‬‬ ‫بل أصبح‬

‫والحياتية الضارة‪.‬‬

‫حارسا ولم يعد محاربًا‪.‬‬ ‫الشاعر هنا أصبح‬ ‫ً‬

‫( * ) شاعر سعودي‬

‫ملف العدد‬


‫راهن الشعر‬ ‫الموريتاني‬ ‫الحديث‬

‫الشيخ ولد سيدي عبدالله‬ ‫أكاديمي موريتاني‬

‫‪68‬‬

‫يواجه أي باحث في الشعر الموريتاني الحديث مشكلة في تصنيف هذا الشعر وتقسيمه إلى‬

‫مدارس واتجاهات على غرار ما يحدث مع الشعريات العربية المماثلة‪ .‬فقد مارست القصيدة‬ ‫الكالسيكية التقليدية سلطتها على التلقي واإلبداع في موريتانيا ردحً ا طويلاً من الزمن‪ ،‬فغطت‬

‫بذلك غابة اإلبداع الشعري‪ ،‬بحيث لم تترك أي مجال لألجناس األدبية األخرى‪ ،‬وكذا األشكال‬ ‫ً‬ ‫مستحوذا على الذائقة األدبية الموريتانية‪،‬‬ ‫الشعرية الالحقة للظهور‪ ،‬فقد ظل الشعر العمودي‬

‫وربما ال يزال حاضرًا بمستوى ال يستهان به من القوة والتأثير‪.‬‬

‫ويعود السبب في ذلك إلى البنية التكوينية للثقافة الموريتانية‪ ،‬التي ظلت إلى وقت قريب‪،‬‬

‫ثقافة شفهية‪ ،‬في بعض مناحيها‪« ،‬محظرية» في مناحي أخرى‪ ،‬وقد اهتمت في تأسيسها على‬

‫الثقافة التراثية‪ ،‬سواء منها الدينية أو األدبية‪ ،‬فكانت «المحظرة» بشكلها المحافظ أكبر فاعل في‬ ‫تحديد العالقة بين المبدع والمتلقي‪ ،‬وهذا ما نلحظه في قراءة سريعة لحياة الشعراء الموريتانيين‬

‫الكبار ومشاربهم الثقافية‪ ،‬ومعاصريهم من متلقي الشعر ومتذوقيه‪.‬‬

‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬


‫حني أنشئت جامعة نواكشوط يف ثمانينيات القرن العشرين‪،‬‬

‫العرب‪ ،‬وتعرف املبتعثني من الطالب املوريتانيني إىل الجامعات‬

‫مشرقية ومغربية وأوربية‪ ،‬بدأ التفكري النقدي يتبلور حول كثري‬

‫إماطة اللثام عن الشعر الجديد‪ ،‬ودفعه إىل املزاحمة العلنية للشعر‬

‫وعاد أبناء البلد من رحلتهم العلمية التي قادتهم إىل جامعات‬

‫من القضايا الشعرية‪ ،‬ويف مقدمتها قضية األصالة واملعاصرة‪.‬‬

‫ويف مقابل هذه املواقف‪ ،‬قامت معركة الشعر الجديد بمحاولة‬ ‫خلق ذائقة غري تقليدية‪ ،‬قادرة عىل فهم حركة الزمن واإلبداع‪،‬‬

‫متدثرة بثقافة جديدة‪ ،‬تمكنها من التعامل مع الرموز الشعرية‬

‫وما تحيل إليه من دالالت‪ .‬وهي محاولة جسورة يف ميدان يسيطر‬ ‫عليه املحافظون بشعرهم وبخلفيتهم الرتاثية‪ ،‬التي سيجت اإلبداع‬

‫بمتاريس من التقديس‪ ،‬تجعل تجاوزه مسألة يف غاية الصعوبة‪.‬‬ ‫والحقيقة أن اعتماد وسيط أو رقيب تقليدي بني الشاعر واملتلقي‪،‬‬

‫هو السبب يف إحداث الهوة بني الواقع واإلبداع؛ ذلك أن الرقيب‬

‫العربية عىل النظريات النقدية الجديدة‪ ،‬وعىل الشعر الجديد‪ ،‬من‬

‫التقليدي وح ّراسه‪.‬‬

‫لقد صاحب هذه الثورة‪ ،‬فهم جديد لكثري من القضايا‬

‫الشعرية‪ ،‬التي أصبحت هي األخرى بحاجة إىل نوع من التغيري‬

‫واإلدراك‪ ،‬حتى تؤسس الدعامة الكربى الستمرار اإلبداع الشعري‬

‫الجديد‪ ،‬ولهذا جاء فهم األصالة واملعاصرة من طرف جيل الحداثة‪،‬‬ ‫فهمًا مغاي ًرا للجيل املحافظ؛ بل إن وعيًا ثوريًّا بالحداثة بدأ يكشف‬

‫عن نفسه‪ ،‬يف التعامل مع الشعر ومع الثابت واملقدس يف الثقافة‬

‫الوطنية‪ .‬يقول الدكتور سيد األمني ولد سيد أحمد بناصر‪« :‬يشهد‬

‫الشعر املوريتاين قطيعة حاسمة وجذرية بني تيارين شعريني؛ األول‬ ‫تيار التقليد‪ ،‬وينحو منحى كالسيكيًّا تقريريًّا‪ ،‬بشكل يجعله معزولاً‬

‫التقليدي املحافظ يسعى إىل فرض قوالب نصية‪ ،‬ومعجم لغوي‬ ‫ً‬ ‫وعقوقا ظاه ًرا‪ ,‬وهذه‬ ‫خاص‪ ،‬بحيث يرى أي خروج عليه كف ًرا إبداعيًّا‬

‫تمامًا عن اإلبداع العاملي والعربي‪ ،‬وأما التيار الثاين فهو تيار الحداثة‬

‫الذين عرفوا بالوالء للقالب التقليدي نفسه‪ .‬فهؤالء الشعراء ال‬

‫التقليدي إىل آلياتها املعاصرة (‪ )...‬وأظنني من الجيل الذي يحاول‬

‫الوصاية هي السبب يف انفجار الثورة‪ ،‬من طرف بعض الشعراء‬

‫يرون املشكلة بني دعاة التجديد واملحافظني مشكلة شكلية‪ ،‬إنما‬ ‫هي لغوية‪ ،‬تعبريية‪.‬‬

‫يقول الشاعر فاضل أمني‪« :‬إن سجن األديب وراء جدار سميك‬

‫من اللغة حكاية قديمة مجها األدب املعاصر؛ ذلك أن الناس هم‬ ‫الذين يملكون حق إعدام الكلمة أو خلقها‪ ،‬والشاعر ليس بوابًا يف‬ ‫ً‬ ‫موظفا عند الخليل واألصمعي‪ ،‬إنه هو الذي‬ ‫املجمع اللغوي‪ ،‬وليس‬

‫الذي ما فتئ يبحث عن متنفس للقصيدة‪ ،‬ينقلها من واقعها‬ ‫فك العزلة وغلق باب التجمد‪ ،‬هذا التيار يف نظري هو القادر عىل‬

‫مسايرة ركب الحداثة العربية‪ ،‬وعىل عاتقه تلقى مهمة النهوض‬

‫بالشعر يف هذه البالد» ‪.‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫‪69‬‬

‫يخلق لغته‪ ،‬وعليه أن يرتصد لغة الجمهور الذي يكتب له»(‪ .)1‬وهذا‬ ‫ما عربت عنه النقاشات التي فجرتها قصيدة «السفني» للشاعر‬ ‫أحمدو ولد عبدالقادر عام ‪1984‬م‪ ،‬التي كانت «مؤطرة بالبحث‬

‫عن الشعر الجديد‪ ،‬وما يطرحه من قضايا‪ ،‬وكانت االختالفات بني‬

‫املتخالفني أو املتكاتبني‪ ،‬اختالفات يف التصور النقدي‪ ،‬الذي ينطلق‬ ‫منه كل فريق‪ ،‬والخلفية الفكرية التي تحكم هذا التصور»(‪.)2‬‬

‫ويرى الدكتور محمد األمني ولد موالي إبراهيم أن أهم نقاش‬

‫عرفته قضية «الشعر الجديد» يف موريتانيا هو ذلك الذي حدث عام‬ ‫‪1986‬م والذي لم يكن «وليد نص إبداعي‪ ،‬كما هو الشأن بالنسبة‬

‫لحوار ‪1984‬م‪ ،‬إنما وليد طرح نقدي‪ ،‬يصطدم مع طرح آخر مخالف‬ ‫له يف التصور‪ ،‬ومعزز بخرق جمهور لم يتعود بعد عىل أساليب‬ ‫الشعر الحديث‪ ،‬وجماليات تقبله»(‪.)3‬‬ ‫الوعي بالحداثة‬

‫والحق أنه عىل رغم سيطرة الذائقة التقليدية عىل العملية‬

‫اإلبداعية املوريتانية‪ ،‬وعىل رغم سلطتها القاسية التي تفرضها عىل‬ ‫ً‬ ‫اتساعا صام ًتا لدائرة الشعر الحديث واملهتمني به‪ ،‬كان‬ ‫الشاعر‪ ،‬فإن‬

‫يحدث من دون علم املحافظني‪ .‬فقد مكنت املناهج األدبية الحديثة‬ ‫يف الجامعة‪ ،‬وانفتاح جيل الشعراء الشباب عىل نتاج نظرائهم‬

‫ملف العدد‬


‫إن آراء املؤيدين للحداثة من هذا الجيل‪ ،‬تنبثق أساسً ا من‬

‫الفهم الفني للنص الشعري الحديث‪ ،‬يف مسايرة للظرف الزمني‬ ‫لإلنسان املوريتاين وعالقته باآلخر‪ ،‬شكلاً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫إبداعا وتنظريًا‪،‬‬ ‫ومضمونا‪،‬‬

‫يجعل القصيدة تتحرك بحرية‪ ،‬بدل أن تظل محصورة يف أغراض‬ ‫محدودة‪ ،‬وهو ما نتج عنه تطور كبري يف معجم هذا الشعر‪. » ..‬‬ ‫(‪)6‬‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫مطلقا من الرتاث‪ ،‬إنما هي محاولة‬ ‫انبتاتا‬ ‫لهذا فليست الحداثة لهم‬

‫والحداثة من هذا املنظور مرحلة تطورية للشعر التقليدي‪،‬‬

‫ليكون هناك تكامل بني األصالة واملعاصرة‪ ،‬وهذا ما جعل بعض‬

‫(محاورة)‪ ،‬فهي تنطلق من القديم‪ ،‬لتتجاوزه‪ ،‬مع بقاء صالتها‬

‫لفتح حصون ذلك الرتاث‪ ،‬وفك متاريسه املنغلقة أمام الحداثة؛‬

‫الحداثيني املوريتانيني يستخدم الشكل التقليدي للقصيدة؛ ليبدع‬ ‫من خالله ًّ‬ ‫نصا حداثيًّا‪ ،‬موغلاً يف التكثيف والتفجري الداليل‪.‬‬

‫من حيث اإليقاع واللغة‪ ،‬وعالقتها بشعر التقليد هي عالقة‬ ‫به وثيقة‪ .‬وغري بعيد من هذا الرأي يتبنى الشاعر الدكتور إدي‬

‫ولد آدب مقولة للشاعر اإلنجليزي إليوت؛ إذ يقول‪« :‬إن‬

‫أما الشاعر ببهاء ولد بديوه فريفض الرأي القائل بأن الحداثة‬

‫الجديد كل الجدة رديء كل الرداءة» وهو بذلك يريد أن يقول‪:‬‬ ‫ً‬ ‫انقطاعا وال انفصالاً عن الجذور‪،‬‬ ‫إن الحداثة ال يمكن أن تكون‬

‫هذا هو مفهوم الحداثة فليس ثمة من شعر حدايث‪ ،‬ال يف الشعر‬

‫القيم‪ ،‬التي بها ننظر إىل ما نبدعه من قيم جديدة‪ ،‬فهل يمكن‬

‫نبذ للتقاليد‪ ،‬وأنها ثورة شاملة عىل الرتاث‪ ،‬وينطلق من أسس‬

‫فنية تربط الشعر الحدايث بالشعر التقليدي؛ إذ يقول‪« :‬إذا كان‬ ‫املوريتاين‪ ،‬وال يف الكثري مما يسمى شع ًرا عربيًّا حداثيًّا؛ إذ إن هذا‬ ‫الشعر سواء كان يف موريتانيا أو غريها من البلدان العربية‪ ،‬ال‬

‫يخرج عن تقليد أخذ يتأسس ابتداء من الخمسينيات‪ ،‬وله جذوره‬

‫املمتدة‪ ،‬مثل شعر «البند» الذي عرف انتشارًا واسعً ا يف العراق منذ‬ ‫القرن العاشر الهجري‪ ،‬ومن ثم فإن هذا الشعر الحدايث‪ ،‬لم ينبذ‬

‫تقاليد الشعر العربي القديم‪ ،‬وإنما حاول تكييفها لتتالءم مع‬

‫التحوالت الجذرية‪ ،‬التي يعرفها العالم»(‪.)5‬‬

‫‪70‬‬

‫وحدة إيقاعية من بدايتها حتى نهايتها‪ ،‬كما حاول هذا الشعر أن‬

‫ونتيجة لهذا تأكد ارتباط النص الحدايث بأصله القديم‪،‬‬ ‫ً‬ ‫عائقا يف سبيل تغيري بعض األشكال‬ ‫ولكن هذا االرتباط لم يكن‬

‫واملفاهيم التي تحققت عىل يد شعراء الحداثة‪ ،‬وهي تغيريات‬ ‫ال يستبعد أن تكون لها جذور يف الرتاث‪ ،‬يقول ببهاء‪« :‬الحداثة‬ ‫العربية الشعرية‪ ،‬ثورة يف الشكل واملضمون‪ ،‬لها امتدادها املرتسخ‬

‫الجذور يف الرتاث‪ ،‬وخاصة يف جوانبه الثورية‪ ،‬فمن ناحية اإليقاع‬ ‫فإن هذا الشعر بدأ يؤسس منذ السياب تشكيلاً إيقاعيًّا‪ ،‬يحاول‬ ‫التحرر من البيت باتجاه الدائرة؛ فالقصائد األوىل التي ظهرت من‬ ‫هذا الشعر غري ملتزمة بعدد من األجزاء (املفاعيل)‪ ،‬وال بقافية‬

‫موحدة أو غري موحدة‪ ،‬ولكن مرور الزمن أظهر أن هناك تطورًا‬

‫مستم ًّرا يف اإليقاع‪ ،‬حيث صار لبعض القصائد التي هي أكرث جدة‪،‬‬

‫بدهي ج ًّدا أن النص الحداثي الموريتاني‬ ‫انفتاحا‬ ‫تطور بعد ذلك‪ ،‬وأضحى أكثر‬ ‫ً‬ ‫وارتباطا بصنوه العربي‪ ،‬ولكنه على‬ ‫ً‬ ‫عاجزا عن الوصول‬ ‫رغم ذلك كله ما زال‬ ‫ً‬ ‫لمكانة النص العمودي التقليدي لدى‬ ‫المتلقي‪ .‬وتلك مسألة تبدو أنها ذات‬ ‫صلة ببنية الثقافة الموريتانية‪ ،‬وليست‬ ‫مجرد موقف من الوافد الجديد‬

‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬

‫وذلك ألن االنقطاع عن التقاليد األدبية‪ ،‬ال ينتج عنه إال غياب‬

‫لغياب القيم أن يكون قيمة يف حد ذاته؟»(‪ .)7‬ويرى أن دعاة‬

‫االنقطاع عن الجذور مصابون «بنوع من التطرف الحدايث»‬

‫سواء يف ذلك الشعراء والنقاد‪.‬‬ ‫التطرف الحدايث‬

‫أما الشاعر الدكتور بدي ولد ابنو فكأنه يف رأيه حول الفهم‬ ‫الخاطئ للحداثة‪ ،‬يرد عىل رأي إسلم ولد بيه املذكور ً‬ ‫آنفا‪ ،‬وذلك‬

‫يف معرض حديثه عن العالقة بني الشكل التقليدي والشكل‬ ‫الحدايث للنص الشعري املعاصر‪ .‬يقول الدكتور بدي‪ :‬الحداثة‬ ‫نظر إليها طويلاً يف املشرق عىل أنها طريقة جديدة يف إعادة توزيع‬ ‫ً‬ ‫أحيانا يصل إىل درجة بالغة‬ ‫الكلمات هندسيًّا عىل الورقة‪ ،‬واألمر‬ ‫السطحية‪ ،‬يكفي عند البعض أن يحذف من القصيدة رويها‪،‬‬ ‫وأن يعاد توزيعها لتصبح قصيدة حديثة؛ فعند نقاد معاصرين‬

‫يعني مصطلح «القصيدة الحديثة» كل قصيدة ال عمودية‪ ،‬حتى‬ ‫لو كانت عمودية فعلاً ‪ ،‬ولكن توزيعها عىل األسطر ال يوحي بذلك‬ ‫ألول نظرة‪ ،‬وبهذا املعنى ال يصبح اإلبداع إال لعبة شد وتمطيط» ‪.‬‬ ‫(‪)8‬‬

‫ويتفق الشاعر بدي مع الشاعر سيد األمني حول الحداثة‬

‫الشكلية؛ فالقالب ليس معيارًا للجدة أو التقليد‪ .‬يقول‪« :‬ما يهمني‬ ‫هو الشعر»‪ .‬الشعر أولاً ‪ .‬للقصيدة أن تكون عمودية أو شعر تفعيلة‬

‫ً‬ ‫«إبداعا»‪ ،‬ثمة قصائد‬ ‫أو خارج اإلطارين‪ ،‬ولكن أن تكون قصيدة‬ ‫تفعيلة وقصائد تسمي نفسها (نرثية) بالغة التقليدية‪ ،‬وثمة قصائد‬

‫عمودية بالغة الحداثة‪ ،‬القصيدة كل متكامل والحكم عليها ال‬ ‫يمكن أن يكون جزئيًّا‪ ،‬تكون القصيدة يف نظري حديثة حني تكون‬

‫ً‬ ‫إبداعا‪ ،‬وأول ما يجعلها كذلك أن ال تفرض عليها أفكار خارجة‬ ‫قبلية‪ ،‬ملجرد أن الرأي السائد يفضل إطارًا معي ًنا(‪ .)9‬ويرفض أن ينتمي‬

‫لتيار الحداثة‪ ،‬الذي سيطر عليه كثري من األدعياء‪ ،‬فاستولوا عىل‬ ‫اللفظ «حداثة» ال عىل املعنى؛ لذلك فهو ينتمي إىل ما سماه الحداثة‬

‫األخرى‪« :‬أنتمي إىل ما بعد الحداثة‪ ،‬أنتمي إليها زمنيًّا؛ ألن ما بعد‬

‫الحداثة راجت يف سنوات الثمانينيات التي بدأت أنشر فيها»‪.‬‬


‫ويف محاولة منه للتنظري ملفهوم «الحداثة األخرى» يقول‪:‬‬

‫والرباغمايت أمكننا أن نخرج ببعض التصورات» ويرى املحاضر أن‬

‫خنقها منذ ما يسمى بعصر النهضة‪ ،‬ولذلك أعتقد أن حداثة‬

‫موريتانيا‪ ،‬ولكنها قد تكون مستوعبة عىل األقل لجزء غري يسري‬

‫الحداثة الشعرية العربية‪ ،‬أي تجيل اإلبداع الشعري زمنيًّا‪ ،‬تم‬ ‫ستبدأ اليوم نسميها الحداثة األخرى»(‪ .)10‬أما الشاعر أحمدو ولد‬ ‫عبدالقادر‪ ،‬فها هو بعد مرور سبعة عشر عامً ا عىل كتابته قصيدة‬ ‫«السفني» والنقاش الذي أثارته‪ ،‬يرى أن فهم الحداثة الشعرية‬

‫رهني بشموليتها لكل مناحي الحياة‪ ،‬وهو رأي يف نظرية التلقي؛‬ ‫ذلك أن «الحداثة عندنا تكاد تكون قاصرة عىل اإلنتاج الشعري‪،‬‬

‫هذه التصورات ال يمكن تعميمها عىل املشهد الشعري الحدايث يف‬ ‫منه‪ .‬ومالك القول أن الخطاب الشعري الحدايث يف موريتانيا‪ ،‬عىل‬ ‫رغم محاولة إنتاج نص معرب عن عصره وعن العقلية الجديدة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مرتبطا بخيط رفيع مع الرتاث واألصالة‪ .‬بيد أن ميزته‬ ‫فإنه ما زال‬

‫املهمة هي أن أغلبية رواده واملدافعني عنه‪ ،‬مارسوا إىل جانب‬

‫الكتابة الشعرية‪ ،‬عملية تنظري وتحليل ومسايرة للتطورات‬

‫مما جعل الشعر يف وا ٍد والحياة يف واد‪ ،‬وليك يكون الشعر‬ ‫الحدايث مفهومً ا‪ ،‬متقبلاً ‪ ،‬ال بد أن تكون الحداثة شاملة لجميع‬

‫ويمكننا أن نتفهم ذلك البعد النقدي عند شعرائنا‪ ،‬فهم‬

‫الحدايث‪ ،‬حتى يكون لهذه الحداثة إطارها وسياقها الذي ال يمكن‬

‫السنني‪ ،‬ثم عليهم بعد ذلك أن يقنعوا املتلقي بتلك التفسريات‪،‬‬

‫مجاالت الحياة‪ ،‬وأن تكون الفنون مواكبة للشعر يف اتجاهه‬

‫أن يكون لها إال به»(‪.)11‬‬

‫ويف محاضرته عن «الخطاب الشعري الحدايث يف موريتانيا»‬

‫(‪)12‬‬

‫التي ألقاها يف «بيت الشعر»(‪ )13‬يوم الثالثاء ‪ 8‬إبريل ‪2001‬م يدرس‬

‫الدكتور املختار ولد الجيالين‪ ،‬التحول اإلبداعي للشعر املوريتاين‪،‬‬

‫من خالل سبعة دواوين شعرية لخمسة شعراء من جيل‬ ‫الشباب‪ ،‬وهي يف نظرنا أهم دراسة أكاديمية(‪ )14‬آنذاك‪ ،‬تجاسرت‬

‫عىل تحليل الجماليات النصية للقصيدة الحداثية يف موريتانيا‪،‬‬ ‫وهذا سر تركيزنا عليها‪ .‬ففيها يمايز مفهوم الخطاب «الذي يتالءم‬ ‫أكرث مع الشعر الحدايث‪ ،‬حيث يتخلق النص الشعري مجراه كما‬

‫النهر‪ ،‬دون أن يكون للتقاليد الشعرية السابقة أثر يف توجيه هذا‬ ‫املجرى‪ ،‬من مفهوم القصيدة «الذي يتالءم مع النص الشعري‬

‫التقليدي الشتقاقه من القصد»‪ .‬ومن هذا التحديد يحاول إبراز‬ ‫مدى مطابقة هذه املفاهيم ‪-‬ولو جزئيًّا‪ -‬مع الشعر الحديث يف‬ ‫ً‬ ‫انطالقا من خمسة نصوص وردت يف الدواوين السبعة‬ ‫موريتانيا‬ ‫املذكورة ً‬ ‫آنفا وهي‪:‬‬

‫دموع غيالن لسيد األمني بن سيد أحمد بناصر‬

‫(‪)15‬‬

‫رحيل ملباركة بنت الرباء‬

‫(‪)16‬‬

‫الكشف لبدي ولد ابنو‬

‫(‪)17‬‬

‫الشريد لببهاء ولد بديوه‬

‫(‪)18‬‬

‫رسائل سرية إىل شخصيات سرية ملحمد ولد عبدي‬

‫(‪)19‬‬

‫وبعد «أن تناولت الدراسة هذه النصوص من حيث سبكها‬

‫املوسيقي واملعجمي والنحوي‪ ،‬ومن حيث حبكها الداليل‬

‫يواجه أي باحث في الشعر الموريتاني‬ ‫الحديث مشكلة في تصنيف هذا الشعر‬ ‫وتقسيمه إلى مدارس واتجاهات على‬ ‫غرار ما يحدث مع الشعريات العربية‬ ‫المماثلة‪.‬‬

‫الحاصلة يف حقول اإلبداع اإلنساين‪.‬‬

‫مطالبون بتفسري الثورة عىل قوالب وأشكال فنية عمرها مئات‬ ‫ولنا أن نتصور صعوبة املهمة يف مجتمع كاملجتمع املوريتاين‪ ،‬الذي‬

‫يمتح جهاز قراءته من منهاج (املحظرة) حيث يرتبع الشعر العربي‬

‫القديم عىل قمة الدرس األدبي‪ ،‬وحيث منتهى الفتوة يكمن يف‬ ‫تقمص الصورة اإلبداعية للشاعر العربي القديم‪.‬‬ ‫هوامش‪:‬‬

‫‪ - 1‬فاضل أمين – على باب المناجزة األدبية – جريدة الشعب – بتاريخ ‪ 14‬سبتمبر‬ ‫‪1976‬م‪.‬‬ ‫‪ - 2‬د‪ .‬محمد األمين ولد موالي إبراهيم – ظهور الرواية الموريتانية‪ - ،‬مصدر‬ ‫سابق‪.‬‬ ‫‪ - 3‬نفسه‪.‬‬ ‫‪ - 4‬نسخة جريدة الشعب من (كتاب في جريدة) الخاص بالشاعر السياب‪ -‬وما‬ ‫بين ص‪ 31-30‬مقابلة مع الشاعر سيد األمين ولد سيد أحمد بن ناصر‪.‬‬ ‫‪( - 5‬بيت الشعر يواصل نشاطاته) جريدة الشعب ‪ -‬العدد ‪ 7153‬بتاريخ ‪26 – 24‬‬ ‫مايو ‪2001‬م‪.‬‬ ‫‪ - 6‬نفسه‪.‬‬ ‫‪ - 7‬نفسه‪.‬‬ ‫‪ - 8‬بدي ولد ابنو ‪ -‬صلوات المنفى الباريسي – ط‪ – 1‬باريس ‪1998‬م ‪ -‬ص‪.179 :‬‬ ‫‪ - 9‬نفسه ص‪. 186-185:‬‬ ‫‪ - 10‬نفسه – ص ‪.190‬‬ ‫‪ - 11‬الشعب‪ ،‬العدد ‪( 7153‬بيت الشعر يواصل نشاطاته) – مصدر سابق‪.‬‬ ‫‪ - 12‬منشورة في جريدة الشعب‪ ،‬المصدر أعاله‪.‬‬ ‫‪ - 13‬هو منتدى أقامه بعض الشعراء والنقاد من بينهم د‪ .‬محمد ولد بوعليبة‬ ‫والشعراء ببهاء ولد بديوه و إدي ولد آدب وغيرهم وقد بدأ نشاطه عام ‪2000‬م‪.‬‬ ‫‪ - 14‬هي عرض لرسالة الباحث لنيل شهادة الماجستير من معهد البحوث‬ ‫والدراسات العربية بالقاهرة عام ‪2000‬م‪ ،‬وقد صدرت في كتاب يحمل العنوان‬ ‫نفسه عن دار يوسف بن تاشفين واإلمام مالك عام ‪2006‬م‪.‬‬ ‫‪ - 15‬من ديوانه تيه المراكب ‪ -‬ص‪.5 :‬‬ ‫‪ - 16‬انظر الوسيط في األدب الموريتاني الحديث (مجموعة باحثين) – ط ‪– 1‬‬ ‫نواكشوط ‪1997‬م ‪ -‬ص‪.61:‬‬ ‫‪ - 17‬من ديوانه مدائن اإلشراقات الكبرى ‪ ،‬ط‪ ،1‬دار القلم‪ ،‬باريس‪1996‬م‪ ،‬ص‪.17:‬‬ ‫‪ - 18‬من ديوانه أنشودة الدم والسنا – ط‪ – 1‬مكتبة اآلداب – القاهرة ‪1995‬م ‪-‬‬ ‫ص‪.36:‬‬ ‫‪ - 19‬من ديوانه األرض السائبة – ط‪ – 1‬أبو ظبي ‪1995‬م ‪ -‬ص‪.49:‬‬

‫‪71‬‬

‫ملف العدد‬


‫الشعر في حال انحسار وضيق‬

‫عباس بيضون‬ ‫شاعر وصحافي لبناني‬

‫كلمة مأزق ليست الكلمة المُ ثلى واألصحّ في توصيف حالة الشعر العربي الحديث‬

‫اليوم‪ ،‬أظن أن الكلمة األصح هي االنحسار‪ ،‬أو الضيق‪ ،‬أو التراجع‪ .‬فالشعر عالميًّا‬ ‫هو في هذا الوضع المناسب‪ ،‬وأظنّ أن الشعر العربي يلحق بهذا الوضع الذي بدأ في‬ ‫الغرب‪ ،‬وهو يكمل مسيرته هكذا‪ .‬بدأ الشعر يتراجع ويفقد قرّاءه من سبعينيات القرن‬

‫‪72‬‬

‫العشرين‪ ،‬هذا بالقياس إلى الرواية التي ال تزال تجد قرّاءً ‪ .‬وال ننسى أن التطورات‬ ‫التقنية (اإلنترنت وسواه) لم ُتفقد الرواية حضورها وقراءها‪ ،‬على رغم أننا ال نعرف‬ ‫اآلن ماذا سيكون تأثير التقنية الحديثة في الرواية على المدى البعيد‪.‬‬

‫أظنّ أن مشكلة الشعر ليست فقط مشكلة عامة تلحق‬

‫بكل األنواع األدبية‪ ،‬إنها مشكلة خاصة؛ إذ إن الشعر بدأ‬ ‫مُ غ ّنيًا للعالم ومادحً ا للحياة ومُ ح ّر ً‬ ‫ضا عليها‪ ،‬أي أنه بدأ‬

‫اإليجابية أي اإلنسانوية هي أقل الروايات انتشارا‪ .‬والسلبية هنا‬

‫نقدية وفيها تشاؤم‪.‬‬

‫حدث أن الشعر بإيجابيته وغنائه لم يعد مناسبًا لوقته‪.‬‬

‫إيجابيًّا‪ .‬وحني نقرأ الشعر القديم نجد أنه يف الدرجة األوىل‬

‫بدأ ينحدر إىل ما وصلت إليه الرواية‪ .‬بدأ يصبح هو اآلخر سلبيًّا‬

‫الحديثة؛ إذ إن األدب والفن عامة استحاال سلبيّني بالتدريج‪.‬‬

‫فنّ شبه صامت‪ ،‬فن مضمر‪ ،‬ال يظهر منه سوى رأسه‪ ،‬ويبقى‬ ‫ّ‬ ‫جله مكتومً ا‪ .‬يحتاج الشعر من صانعه وقارئه إىل معاناة فعلية‪،‬‬

‫لنجد أن الرواية فنّ‬ ‫سلبي‪ ،‬إنها رواية التهافت االجتماعي‬ ‫ّ‬

‫قدرة كبرية عىل التأويل ال يتم ّتع بها كثري من الق ّراء‪ .‬العالمة‬

‫محرض عىل الحياة‪ ،‬ومادح للحب والجمال وللحياة عامة‪ .‬أي‬ ‫أن الشعر بدأ إيجاب ًّيا‪ ،‬وهذه اإليجابية لم َ‬ ‫تبق للشعر يف األزمنة‬

‫ويكفي أن ننظر إىل الرواية الحديثة منذ بلزاك إىل كونديرا‬ ‫والوجودي‪ .‬ال نجد الرواية إيجابية إال يف القليل‪ ،‬والروايات‬

‫مناسبا‬ ‫الشعر بإيجابيته وغنائه لم يعد‬ ‫ً‬ ‫لوقته‪ .‬بدأ ينحدر إلى ما وصلت إليه‬ ‫سلبيّا‬ ‫الرواية‪ .‬بدأ يصبح هو اآلخر‬ ‫ً‬ ‫وعدميّا؛ أي أنه فقد وظيفته األولى‪.‬‬ ‫ً‬ ‫فن شبه‬ ‫فن مكبوت‪ّ ،‬‬ ‫ثم إن الشعر ّ‬

‫صامت‪ ،‬فن مضمر‪ ،‬ال يظهر منه سوى‬ ‫مكتوما‬ ‫رأسه‪ ،‬ويبقى جلّه‬ ‫ً‬ ‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬

‫وعدميًّا‪ ،‬أي أنه فقد وظيفته األوىل‪ .‬ثم إن الشعر فنّ مكبوت‪،‬‬

‫إىل تركيز شديد يصل إىل حدّ االختناق‪ .‬كما يحتاج الشعر إىل‬

‫بني الشعر وقارئه عالمة صراع وال بدّ أن يكون يف القارئ شاع ٌر‬

‫أو شبه شاعر؛ ليستطيع أن يتكيّف مع النص؛ ألن بني القارئ‬ ‫ً‬ ‫تواطؤا وشبه تعاقد عىل الطريقة والشكل‪ ،‬حيث إن‬ ‫والشاعر‬

‫هذا التعاقد إذا لم يوجد ال يمكن للقارئ أن يقبل الشعر‪.‬‬

‫الشعر اآلن هو فنّ بني أشباه شعراء‪ ،‬وهذا ال يمنع أن‬ ‫الشعراء يتكاثرون؛ ألن الشعر يبقى حاجة‪ .‬يكفي أن ّ‬ ‫نفكر‬ ‫بالغناء مثلاً لنفهم أن الشعر حاجة‪ .‬دائمً ا كان هناك شعراء‬ ‫قلة أو ّ‬ ‫ّ‬ ‫قلة من الشعراء القادرين عىل أن يجرتحوا اللغة‪.‬‬

‫ويف الكتابة ال يزال الوضع هكذا‪ .‬ال أفقد األمل يف أن األجيال‬ ‫الحالية والقادمة ستأيت بشعراء جيّدين‪.‬‬


‫‪73‬‬

‫ملف العدد‬


‫مخطوطات‬

‫‪74‬‬

‫مخطوط ( ديوان ابن هانئ )‬ ‫من مقتنيات مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية‪.‬‬

‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬


‫‪75‬‬

‫ّ‬ ‫ألفه‪ :‬الشاعر أبو القاسم محمد بن هانئ بن محمد األندلسي (ت‪362 .‬هـ)‬ ‫وهذه نسخة كتبها محمد بهادة الشافعي األشعري سنة ‪ 1272‬هـ ‪.‬‬


‫تقارير‬

‫معهد العالم العربي‬ ‫في باريس‪..‬‬ ‫خيبات وآمال تتجدد‬ ‫أوراس زيباوي‬ ‫باريس‬

‫‪76‬‬

‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬


‫أثار «معهد العالم العربي» منذ تأسيسه سجالاً‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫وتطلعاته‪ ،‬وإذا‬ ‫واسعا حول دوره وتمويله‬ ‫تباينت اآلراء حول هذه المسائل فثمة إجماع حول خصوصيّة المعهد الذي ّ‬ ‫يمثل الصرح‬ ‫الثقافي الوحيد من نوعه في أوربا‪ ،‬بل في العالم أجمع‪ ،‬هذا المعهد الذي تزداد الحاجة‬ ‫إليه اليوم‪ ،‬في هذه اللحظة التاريخية الدقيقة‪ ،‬يعيش مرحلة تحوّل إيجابي مع رئيسه‬

‫ً‬ ‫جديدا بدءً ا من سبتمبر الجاري هو الناقد واألكاديمي‬ ‫الجديد جاك النغ‪ ،‬ويستقبل مديرًا‬

‫السعودي معجب الزهراني الذي يخلف السعودية منى خزندار‪.‬‬ ‫وإذا كان الزهراني يعطي مصداقية لهذا الموقع وثقلاً عربيًّا داخل المعهد بفضل مساره‬

‫الثقافي‪ ،‬وتجربته وانفتاحه على الثقافات المختلفة‪ ،‬ال سيما الثقافة الفرنسية التي يعرفها‬

‫عن قرب‪ ،‬فإنّ التساؤالت تبقى قائمة حول الفرص التي ستتاح أمامه‪ ،‬وحول التحديات‬

‫التي ستواجهه‪ .‬وهو يعي الصعوبات التي تنتظره‪ ..‬لكن المعهد‪ ،‬وكما عبّر الزهراني في‬

‫تصريحات صحافية‪ ،‬هو فرصة «لنصنع أثرًا جماليًّا عربيًّا»‪ .‬هذا يعني أنه يفد إلى باريس‬ ‫بكثير من األمل‪ ،‬ويؤمن بقدرة الثقافة والفن على تغيير الصورة النمطيّة السائدة‪..‬‬

‫جسر بني أوربا والعالم العربي‬

‫تأسس معهد العالم العربي يف باريس‬

‫‪77‬‬

‫عام ‪1980‬م بعدما اتفقت فرنسا مع عدد‬

‫من الدول العربية األعضاء يف الجامعة‬ ‫العربية عىل تأسيس مؤسسة للتعريف‬

‫بالثقافة والحضارة العربيتني يف فرنسا‪،‬‬ ‫وجعلها جس ًرا بني فرنسا وأوربا من جهة‪،‬‬ ‫والعالم العربي من جهة ثانية‪ .‬وقد أرادت‬ ‫فرنسا ً‬ ‫أيضا‪ ،‬من خالل هذا املعهد الخاضع‬ ‫للقانون الفرنيس واملسجل كمؤسسة ذات‬ ‫نفع عام‪ ،‬أن تدعم عالقاتها السياسية‬

‫معجب الزهراني‬

‫منى خزندار‬

‫والدبلوماسية‪ ‬واالقتصادية يف العالم العربي‪ ،‬وهي عالقات‬

‫املعهد عام ‪1987‬م يف عهد الرئيس الراحل فرنسوا ميرتان‬

‫يقع املعهد يف الدائرة الخامسة يف قلب العاصمة الفرنسية‬

‫أصبحت اليوم من معالم باريس األساسية‪ ،‬ومنها «مكتبة‬

‫تاريخية قديمة ترجع إىل أزمنة بعيدة‪.‬‬

‫بالقرب من عدد من الصروح واملعالم التاريخية العريقة‪،‬‬

‫كجامعة جوسيو‪ ،‬وجامع باريس الكبري‪ ،‬وثانوية هرني الرابع‪،‬‬ ‫وقد أشرف عىل بنائه مجموعة من املعماريني‪ ،‬ومنهم جان‬

‫نوفيل الذي يتمتع اليوم بشهرة عاملية بالتعاون مع مكتب‬ ‫«أرشيتكتور أستوديو» للهندسة‪.‬‬

‫يتميز املبنى بطابعه الحديث الذي يستوحي بعض عناصر‬

‫العمارة العربية اإلسالمية‪ ،‬كما يف واجهته الجنوبية حيث‬ ‫تطالعنا عناصر معمارية مستقاة من املشربيات املؤلفة من‬ ‫نوافذ صغرية تنغلق وتنفتح مع تبدل حركة الضوء‪ .‬افتتح‬

‫املعروف برعايته لعدد مهم من املشاريع الثقافية الكربى التي‬ ‫فرنسا الوطنية»‪ ،‬و«متحف اللوفر الكبري»‪ ،‬وهرمه الزجاجي‪،‬‬

‫وقوس النصر الكبري‪ ،‬وأوبرا الباستيل‪...‬‬

‫منذ افتتاحه حتى اليوم‪ ،‬أقيمت يف املعهد مئات األنشطة‬

‫الثقافية يف مختلف املجاالت‪ ،‬ومنها الفنون‪ ،‬والسينما‪،‬‬

‫واإلصدارات الجديدة‪ ،‬والندوات الفكرية التي تستضيف‬ ‫الشخصيات العربية والفرنسية‪ .‬كما أن املعهد يضم مكتبة كبرية‬ ‫ً‬ ‫متحفا جميلاً أعيد افتتاحه عام‬ ‫تحتوي عىل آالف الكتب‪ ،‬وتضمّ‬

‫‪2012‬م‪ ،‬وهو يع ّرف بحضارة العالم العربي‪ ،‬مر ّك ًزا عىل تنوعه‬

‫الديني واإلثني واللغوي منذ مرحلة ما قبل اإلسالم‪.‬‬


‫تقارير‬

‫يف موازاة النشاطات األسبوعية‪،‬‬

‫«معهد العالم العربي» مؤسسة‬

‫التي تستقطب آالف الزوار‪ ،‬ومنها‬

‫الفرنيس‪ .‬منذ تأسيسه يرأسه رئيس فرنيس‬

‫تخضع‪ ،‬كما سبق أن أشرنا‪ ،‬للقانون‬

‫تقام يف املعهد املعارض املوسمية الكربى‬

‫يرشحه رئيس الجمهورية الفرنيس‪ ،‬أما‬

‫املعرض الذي يتواصل حتى نهاية الشهر‬

‫مديره العام فهو عربي ويختاره مجلس‬

‫الجاري تحت عنوان «حدائق الشرق»‪،‬‬

‫سفراء الدول العربية املؤلف من ‪ 22‬دولة‪.‬‬

‫ويروي مسرية الحدائق يف العاملني العربي‬ ‫واإلسالمي‪ ،‬مب ّي ًنا استنادها إىل أسس‬

‫الرئيس الحايل للمعهد‪ ،‬ومنذ مطلع عام‬

‫من املوروث الثقايف العربي اإلسالمي‬

‫والوزير السابق جاك النغ الذي خلف‬

‫‪2013‬م‪ ،‬هو السيايس والقانوين الفرنيس‬

‫جمالية وهندسية وروحية مستمدة‬

‫عرب العصور‪ .‬وبهذه املناسبة‪ ،‬أنشئت يف‬ ‫تجسد هذا الطراز من‬ ‫باحة املعهد حديقة‬ ‫ّ‬

‫منصب وزير الثقافة‪ ،‬ومرة واحدة منصب‬

‫الحدائق وتستمر طوال مدة إقامة املعرض‪ .‬إنها حديقة عابرة‬

‫وزير الرتبية والتعليم‪ ،‬وكان له أثر مهم يف الحياة الثقافية يف‬

‫التاريخي ملدينة باريس‪.‬‬

‫واملسرح والفنون البصرية واملتاحف‪.‬‬

‫ومؤقتة يتفاجأ بها الزائرون والعابرون من هناك حيث القلب‬

‫إذا كان معجب الزهراني يعطي‬ ‫مصداقية لهذا الموقع وثقال عرب ًّيا‬

‫‪78‬‬

‫جاك النغ‬

‫رونو موسولييه‪ ،‬وتقلد يف السابق مرتني‬

‫فإن التساؤالت تبقى‬ ‫داخل المعهد‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫قائمة حول الفرص التي ستتاح أمامه‪،‬‬ ‫وحول التحديات التي ستواجهه‬

‫فرنسا‪ ،‬وقد تجىل هذا األثر يف مجاالت كثرية تشمل املوسيقا‬ ‫عندما تسلم النغ رئاسة املعهد كان هذا الصرح الثقايف‬

‫يعاين مشكالت مالية وإدارية كثرية‪ ،‬كما كان يعاين انخفاض‬ ‫يف عدد زواره‪ .‬ويرجع السبب يف العجز املايل إىل إحجام الدول‬

‫العربية‪ ،‬ومنذ أكرث من خمس عشرة سنة‪ ،‬عن املساهمة يف‬ ‫امليزانية السنوية للمعهد‪ .‬وكان االتفاق بني الدول العربية‬

‫وفرنسا ينص عىل الصعيد املايل أن يساهم الجانب الفرنيس‬

‫بنسبة ستني باملئة من امليزانية العامة‪ ،‬ويساهم الجانب العربي‬ ‫بأربعني باملئة‪ .‬غري أن الجانب العربي تراجع شي ًئا فشي ًئا عن‬

‫صالح ستيتية‪:‬‬ ‫أنتظر مواقف تتالءم مع آفاق‬ ‫الثقافة العربية في حوارها‬ ‫مع الثقافة الغربية‬ ‫«معهد العالم العربي» الكائن يف باريس عىل أرض حضارة قديمة كأرض‬ ‫فرنسا‪ ،‬هو رمز لحضارة أخرى‪ ،‬قديمة هي ً‬ ‫أيضا ومتعددة‪ ،‬كالحضارة‬ ‫العربية اإلسالمية؛ لذلك يجب أن تكون التحديات عىل مستوى اآلمال‬ ‫ّ‬ ‫املعلقة عىل هذا املعهد يف جميع ميادين اإلبداع‪ .‬وعىل املستوى الشخيص‪،‬‬

‫أنتظر من الرئاسة الفرنسية الحالية للمعهد‪ ،‬ومن املدير العربي الجديد مواقف تتالءم مع آفاق الثقافة العربية يف حوارها‬

‫مع الثقافة الغربية يف هذه األيام الصعبة‪ ،‬حيث يعمل بعض املجرمني عىل تحويل الحوار الثقايف إىل حرب عنصرية قذرة‪.‬‬ ‫تمنحني معرفتي الشخصية القديمة بجاك النغ‪ ،‬وما سمعته عن اإلمكانيات الثقافية التي يتم ّتع بها معجب الزهراين‪،‬‬

‫كثريًا من األمل يف ما يمكن أن يقدمه معهدنا العزيز يف تطلعاته وإنجازاته‪.‬‬

‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬

‫شاعر وباحث لبناين يقيم يف باريس‬


‫معهد العالم العربي في باريس‪ ..‬خيبات وآمال تتجدد‬

‫مساهمته منذ بداية التسعينيات‪ ،‬وصارت‬

‫ّ‬ ‫يتمكن من االستمرار يف عمله‬ ‫‪2009‬م‪ ،‬يك‬

‫وتساهم يف امليزانية‪ ،‬وهذا أدى إىل إلغاء‬

‫رئيسان‪ :‬األول هو رئيس املجلس األعىل‪،‬‬

‫فرنسا وحدها هي التي تتوىل األمور املالية‪،‬‬

‫رئيسا‪ .‬كذلك صار للمعهد يف عهده‬ ‫ً‬

‫كثري من النشاطات والربامج الثقافية‪،‬‬

‫والثاين هو رئيس مجلس اإلدارة‪.‬‬

‫وإىل تدهور مهم يف الشراكة العربية‬

‫إعادة هيكلة املعهد أدت إىل تقليص‬

‫الفرنسية‪.‬‬

‫صالحيات املدير العربي‪ ،‬ومنح الرئاسة‬

‫بعد أن توىل جاك النغ الرئاسة‪،‬‬

‫الفرنسية صالحيات إضافية‪ .‬ويف زمن‬

‫مع الدول العربية‪ ،‬وتشجيعها عىل‬

‫األعىل‪ ،‬وبرونو لوفلوا رئيس مجلس‬

‫قام بخطوات عدة الستعادة العالقات‬ ‫املساهمة يف تمويل املشاريع الثقافية‪،‬‬ ‫فأصبح‬

‫بعض‬

‫هذه‬

‫الدول‬

‫يقوم‬

‫دومينيك بوديس كان هو رئيس املجلس‬

‫دومينيك بوديس‬

‫اإلدارة‪ .‬وعندما توىل جاك النغ رئاسة‬

‫املعهد أصبح يتمتع بمنصبني‪ :‬رئيس‬

‫بمساعدات محددة تطال هذا املشروع أو ذاك‪ ،‬ومن هذه‬

‫املجلس األعىل ورئيس مجلس اإلدارة‪ .‬وقد بقي منصب املدير‬ ‫ً‬ ‫فارغا بعد رحيل منى خزندار التي تبوأت هذا املنصب‬ ‫العربي‬

‫«الحج» الذي أقيم عام ‪2014‬م‪ ،‬ومساهمة املغرب يف تمويل‬ ‫املعرض املخصص إلبداعات املغرب املعاصر عام ‪2014‬م ً‬ ‫أيضا‪.‬‬

‫إنّ تعيني معجب الزهراين اليوم مدي ًرا للمعهد من شأنه‬ ‫أن يع ّزز الحضور العربي فيه‪ ،‬ويفتح هذا الصرح الثقايف‬

‫املشاريع والنشاطات‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬مساهمة مكتبة‬

‫«امللك عبدالعزيز العامة» يف الرياض يف تمويل معرض‬

‫وهكذا أمست كل املشاريع التي تحققت‪ ،‬والتي ستتحقق يف‬

‫املستقبل‪ ،‬مرتبطة بتمويلها الخاص‪.‬‬ ‫تحوالت هيكلية‬

‫عام ‪2011‬م ملدة ثالثة أعوام‪.‬‬

‫النادر‪ ،‬الجاثم عىل ضفة نهر السني‪ ،‬عىل مبادرات جديدة‬

‫يحتاج إليها املعهد يف الظروف الراهنة التي تجتازها فرنسا‪،‬‬ ‫وأمام التحديات التي تواجه الجاليات العربية واإلسالمية بعد‬ ‫العمليات اإلرهابية التي من أهدافها ّ‬ ‫شق الصفوف‪ ،‬وإحداث‬

‫لقد شهد «معهد العالم العربي» يف عهد رئيسه الراحل‬

‫هوّة بني مكوّنات املجتمع الفرنيس‪ .‬يبقى السؤال حول‬

‫القانون الذي يمنع الرئيس الفرنيس تويل منصبني‪ .‬وقد جاء‬

‫نفسه فيها‪ ،‬هو الذي يعرف معنى الدور املنوط بالثقافة بشكل‬

‫دومينيك بوديس تحوالت يف هيكلته‪ ،‬ومنها قيامه بتعديل‬

‫هذا التعديل بعد انتخاب بوديس نائبًا يف الربملان األوربي عام‬

‫اإلمكانيات املتاحة أمام الزهراين‪ ،‬وحدود التح ّرك الذي سيجد‬

‫ّ‬ ‫خاص‪.‬‬ ‫عامّ ‪ ،‬ويف أزمنة امل ِحَ ن بشكل‬

‫أسعد عرابي‪:‬‬ ‫ال يمكننا نفي خيبة األمل المزمنة‬ ‫«كثريًا ما نطرح عىل أنفسنا السؤال نفسه حول هذا الصرح الكبري‬

‫يف عمارته ونفقاته وطموح مشروعه منذ األساس‪ ،‬وحتى حول موقعه‬

‫اإلسرتاتيجي يف قلب العاصمة الفرنسية بجانب نهر السني‪ .‬ال يمكننا أن‬ ‫ننفي خيبة األمل املزمنة يف ّ‬ ‫كل مرة نطرح مثل هذا السؤال أمام تواضع‬ ‫ما أنجزه املعهد‪ .‬مع ذلك‪ ،‬نحن من الذين يأملون دائمً ا يف تحسني ظروف‬ ‫املعهد والتأكيد عىل إيجابياته‪ .‬فهناك مثلاً أسماء مرّت عىل املعهد‪ ،‬بحجم‬

‫األمل الذي كنا نملكه يف البداية‪ ،‬مثل الناشر والباحث السوري فاروق مردم‬

‫بك‪ ،‬لكن الشروط التي عاقته عن العمل دفعته إىل أن يستقيل‪ .‬وهذا مثل واحد من أمثلة كثرية‪ ،‬يعني أنّ املعهد ال يزال‬ ‫ُّ‬ ‫ً‬ ‫التحقق وال نزال بانتظار ما هو أفضل‪.‬‬ ‫مشروعا قيد‬

‫فنان تشكييل وناقد سوري‬

‫‪79‬‬


‫مقال‬

‫النخب في الخليج العربي‬ ‫كأي مجتمع من المجتمعات اآلهلة بالسكان والحركة والنشاط كانت مجتمعات الخليج والجزيرة العربية ‪-‬وال تزال‪ -‬زاخرة‬ ‫بالنخب واألعالم والرواد‪ ،‬رجالاً ونساء‪ ،‬في مختلف مجاالت ومناحي الحياة من دون استثناء‪ .‬فمنهم التكنوقراط الذين تسلقوا‬

‫ساللم العلم والتخصصات األكاديمية العليا قبل أن ينتظموا في سلك العمل الحكومي‪ ،‬ويعملوا على رفعة شأن أوطانهم وبناء‬ ‫الدولة المدنية الحديثة‪ .‬ومنهم الساسة الذين انخرطوا في الحراك السياسي والمجتمعي من أجل استقالل وسيادة بلدانهم‪.‬‬ ‫ً‬ ‫مرموقا في عوالم المال واألعمال‪ ،‬يرفد بثروته جهود‬ ‫ومنهم من مارس التجارة واألنشطة االقتصادية المتنوعة فغدا اسمً ا‬

‫ومشاريع بالده التنموية‪ ،‬ويساهم بما حباه الله من نعمه في ضروب البر والخير واإلحسان‪ .‬ومنهم من استثمر علمه وجهده‬ ‫في الميدان الثقافي فأضحى فارسً ا من فرسان الكلمة ورقمً ا بار ًزا في مجال التنوير واإلبداعين األدبي واإلعالمي‪ .‬ومنهم من ّ‬ ‫سخر‬

‫مواهبه في االرتقاء بالذائقة الفنية لمواطنيه من خالل المسرح والسينما والتلفزيون والموسيقا‪ .‬ومنهم من قادته خطاه إلى أرقى‬ ‫الجامعات األجنبية للتخصص في الميادين العلمية الدقيقة الكفيلة بحل مشكالت ومعضالت البشرية‪.‬‬

‫ولعل ما ميـّز النخب في الخليج العربي قديمً ا شيئان؛ أولهما هو انفتاحها على اآلخر واستعدادها للتماهي مع كل جديد‬ ‫ً‬ ‫خالفا لما أورده بعض المستشرقين األجانب في كتاباتهم حول وجود صدود وحذر من هذه النخب لجهة‬ ‫وعصري‪ ،‬وذلك‬

‫استقبالها وتعاطيها مع الظواهر العصرية‪ ،‬أو لجهة تماهيها مع المجتمعات الجديدة التي انتقلت إليها من أجل الرزق أو العلم‬ ‫أو كليهما‪ .‬وثانيهما سعيها الدؤوب وحرصها الشديد على فهم األشياء ومعرفة كنهها بأسرع وقت‪.‬‬

‫‪80‬‬

‫هجرات واندماج‬

‫فلو تتبعنا هجرات النخب الخليجية األولى التي انطلقت في القرنين الثامن والتاسع عشر الميالديين من بطون نجد باتجاه‬ ‫الزبير والكويت والبحرين‪ ،‬وصولاً إلى العراق ومصر وبالد الشام‪ ،‬هربًا من القحط وقسوة الحياة‪ ،‬نجد أنها تمكنت بسرعة من‬

‫االندماج في تلك المجتمعات المغايرة كليًّا لمجتمعاتها‪ ،‬بل برزت فيها كتجار وأصحاب نفوذ وعالقات واحترام ومكانة اجتماعية‪.‬‬ ‫َ‬ ‫الهجرة إلى الهند‪ ،‬سواء أولئك‬ ‫ويصدق الشيء ذاته على النخب الخليجية التي فرض عليها امتهانها الغوص الستخراج اللؤلؤ‬

‫الذين قصدوا بومباي لتصريف محاصيلهم من اللؤلؤ الطبيعي في سوق «موتي بازار» الكبير للؤلؤ‪ ،‬أو أولئك الذين قصدوا بومباي‬

‫وغيرها من مدن الهند الفيكتورية؛ مثل‪ :‬كلكتا‪ ،‬وحيدر آباد‪ ،‬ومليبار‪ ،‬بدافع تأسيس قواعد وعالقات تجارية دائمة لهم مع‬ ‫نظرائهم الهنود؛ كي يستثمروها في تصدير ما تحتاجه مجتمعاتهم من مواد غذائية وتوابل وأقمشة وعطور وأخشاب وكماليات‬

‫عصرية‪ ،‬أو أولئك الذين أبحروا إلى هناك من أجل اكتساب المعارف الحديثة‪ ،‬وال سيما اللغة اإلنجليزية ومسك الدفاتر‪.‬‬

‫فعلى هامش هذه الظاهرة التي شهد القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين أوضح تجلياتها‪ ،‬برزت بومباي كواحدة‬

‫من أكبر تجمعات النخب الخليجية؛ إذ سكنتها وعملت وتعلمت بها نخب من الخليجيين ممن تركوا فيها مآثر وذكرى عطرة‪ ،‬ال‬

‫يزال عبقها يفوح من جنبات شارعي «محمد علي رود» و«إبراهيم رحمة الله رود» ومنطقة «كوالبا»؛ من هؤالء‪ :‬آل البسام‪ ،‬وآل‬ ‫القاضي‪ ،‬وآل القصيبي‪ ،‬وآل الفوزان‪ ،‬وآل الفضل من نجد‪ ،‬وآل زينل‪ ،‬وآل عبدالجواد‪ ،‬وآل الصبان‪ ،‬وآل باناجة من الحجاز‪،‬‬ ‫وآل عبدالرزاق‪ ،‬وآل صانع‪ ،‬وآل إبراهيم‪ ،‬وآل مشاري‪ ،‬وآل الشايع‪ ،‬وآل الخالد‪ ،‬وآل الغانم‪ ،‬وآل المرزوق‪ ،‬وآل الفليج‪ ،‬وآل‬ ‫الحميضي‪ ،‬وآل الصقر‪ ،‬وآل غربللي‪ ،‬وآل الخرافي‪ ،‬وآل الهارون‪ ،‬وآل الجسار‪ ،‬وآل الرومي من الكويت‪ ،‬وآل الزياني‪ ،‬وآل‬

‫فخرو‪ ،‬وآل مطر‪ ،‬وآل مصطفى عبداللطيف بستكي‪ ،‬وآل كانو من البحرين‪ ،‬وآل المدفع من الشارقة‪ ،‬وآل الصايغ‪ ،‬وآل بدور‪،‬‬

‫وآل لوتاه‪ ،‬وآل النومان‪ ،‬وآل نابودة من دبي‪ ،‬إضافة إلى الشيخ قاسم بن محمد آل ثاني المؤسس الحقيقي إلمارة قطر‪.‬‬ ‫وإذا ما أردنا دليلاً آخر على قدرة اإلنسان الخليجي‪ ،‬في عصر ما بعد اكتشاف النفط‪ ،‬على االرتقاء بنفسه إلى مصاف النخب‬

‫فهو سرعة اندماجه وتماهيه مع النقلة الحضارية التي أحدثها قدوم شركات البترول األجنبية إلى المنطقة‪ ،‬وتأسيس األخيرة‬ ‫لما يمكن تسميته بمدن النفط الحديثة بمظاهرها ومنشآتها العصرية‪ ،‬وثقافتها الغربية‪ ،‬وأنماط معيشتها المتمدنة‪ ،‬وفرصها‬

‫التجارية المربحة‪ .‬وسرعة االندماج هي التي أهّ لت كثيرين من أبناء المنطقة للصعود إلى رأس الهرم االقتصادي‪ ،‬أو للذهاب إلى‬

‫أوربا والواليات المتحدة لاللتحاق بأرقى الجامعات هناك‪ ،‬والعودة منها بأعلى الدرجات الجامعية‪.‬‬ ‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬


‫ويستوي هذا مع ما حدث في دول الخليج ‪-‬عدا المملكة العربية‬

‫السعودية‪ -‬من سرعة قبول وانتظام وعمل مواطنيها في دوائر الدولة‬

‫الحديثة من تلك التي أسستها السلطات البريطانية الكولونيالية‪ ،‬وبخاصة‬ ‫في البحرين‪ .‬ومن المفيد هنا اإلشارة إلى أن شي ًئا من هذا الجانب حدث‬ ‫ً‬ ‫أيضا يوم أنْ جاءت اإلرساليات األجنبية إلى البحرين والكويت لتأسيس‬ ‫أوائل المدارس والعيادات الطبية في مطلع القرن التاسع عشر‪.‬‬ ‫الخليج ليس ً‬ ‫نفطا‬

‫إن دراسة سير النخب في الخليج العربي وتسليط الضوء المكثف‬

‫على مسيرتها العلمية والمهنية وأنشطتها االجتماعية والثقافية‪ ،‬وما‬ ‫واجهتها من صعاب ومعوقات في طريقها نحو االرتقاء بنفسها‪ ،‬وتنمية‬

‫مجتمعاتها‪ ،‬وتنوير مواطينها‪ ،‬وتوطيد دعائم دولها؛ أمر في غاية‬ ‫األهمية‪ ،‬ويستوجب عملاً دؤوبًا وممنهجً ا‪ ،‬وجهدً ا مستم ًّرا ال ينقطع‪،‬‬ ‫ليس ألن في سرد مثل هذه السير عب ًرا وعظات فحسب‪ ،‬إنما ألنها ‪-‬وهذا‬

‫هو األهم‪ِّ -‬‬ ‫تقدم لألجيال الشابة الصاعدة‪ ،‬التي أخذها الترف بعيدً ا من‬

‫عبدالله المدني‬ ‫كاتب وأكاديمي بحريني‬

‫المعلومة والقراءة الجادة‪ -‬لوحات بانورامية لما كانت عليه أحوال‬ ‫آبائهم وأجدادهم‪ ،‬وما كابدوه من شظف العيش‪ ،‬وقسوة الحياة‪،‬‬

‫وقلة الحيلة‪ ،‬وكيف أنهم بالرغم من كل هذا شقوا طريقهم‪ ،‬وحفروا‬ ‫أسماءهم في الصخر‪ .‬ومما ال جدال فيه أن المتلقي سوف يقرأ من‬

‫‪81‬‬

‫خالل التدوين والتوثيق لسير هذه النخب كثي ًرا عن عملية االنتقال من‬ ‫المجتمع التقليدي إلى المجتمع الحديث بكل ما فيها من رصد لصور‬

‫العمل والصبر والكفاح واالجتهاد واالبتكار‪ .‬كما سيقرأ صفحات من‬

‫التاريخ الديناميكي الناصع للخليج‪ .‬فهذا الخليج‪ ،‬بعد كل شيء‪ ،‬ليس‬ ‫ً‬ ‫نفطا كما قال الصديق الدكتور محمد غانم الرميحي أستاذ علم االجتماع‬

‫السياسي بجامعة الكويت في كتابه «الخليج ليس ً‬ ‫نفطا» الذي صدرت‬ ‫طبعته األولى عام ‪1986‬م‪.‬‬ ‫ً‬ ‫نعم‪ ،‬في الخليج نفط لكن فيه أيضا حضارة وقيم وإباء وشيم‬

‫وعادات أصيلة‪ ،‬ورجال بنوا أوطانهم من الصفر‪ ،‬ودافعوا عن حياضها‪.‬‬ ‫وفيه مجتمعات عـُرفت منذ القدم بحركة األفراد والجماعات وتبدل‬

‫األماكن واألزمنة وتغير أنماط الحياة من حال إلى حال وتطور المدن‬

‫والحواضر‪ ،‬وتشكل التنظيمات االجتماعية المحلية؛ كالنخب الحاكمة‪،‬‬ ‫والقبيلة‪ ،‬واألسرة والقرية والمدينة واألسواق والموانئ‪.‬‬ ‫لقد ظلت المكتبة الخليجية تفتقر طويلاً إلى مؤلفات توثق‬ ‫لحركة مجتمعاتها وتحوالتها المدهشة‪ ،‬وتسرد سير نخبها وأعالمها‬

‫وروادها‪ ،‬بطريقة علمية رصينة‪ ،‬وعانى المهتمون بالتأريخ االجتماعي‬ ‫األنثروبولوجي من كثير من المثبطات التي أعاقت نشاطهم في هذا‬ ‫ً‬ ‫وفقا لألديب اإلماراتي والرئيس السابق للمجلس‬‫المجال‪ .‬والسبب‬

‫الوطني االتحادي األستاذ محمد أحمد المر‪ -‬هو غياب الدعم المؤسساتي‬ ‫والمادي‪ ،‬وضعف محتويات مراكز األرشيف والمعلومات الوطنية‪،‬‬ ‫إضافة إلى قلة اهتمام دور النشر بهذا النوع من اإلنتاج الفكري‪.‬‬

‫دراسة سير النخب في‬ ‫الخليج العربي وتسليط‬ ‫الضوء على مسيرتها‬ ‫العلمية والمهنية‬ ‫وأنشطتها االجتماعية‬ ‫والثقافية؛ أمر في غاية‬ ‫األهمية‪ ،‬ويستوجب عمال‬ ‫وممنهجا‬ ‫دؤوبا‬ ‫ً‬ ‫ً‬


‫دراسات‬

‫ليس العبقري‬ ‫معيا ًرا للحقيقة‬ ‫أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري‬ ‫أديب سعودي‬

‫إمعيَّة العقل العربي المعاصر َّ‬ ‫قال أبو عبدالرحمن‪ :‬ال أعلم في َّ‬ ‫أدل من‬ ‫ِ‬ ‫ِعبار ٍة لـ (سوسير) َي ُ‬ ‫زع ُم فيها َّ‬ ‫أن العا ِلـم العبقريَّ يكون معيارًا للحقيقة؛ وإنما‬ ‫ٍّ‬ ‫محمد صلى الله عليه وسلم في تبليغ الشرع‬ ‫ذلك للمعصوم عبدالله ورسوله‬

‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ومحاكمته‬ ‫داللة‪،‬‬ ‫وتحقيقه‬ ‫توثيق النص تاريخيًّا‪،‬‬ ‫وتـبيينه‪ ..‬إذن المعيا ُر هو‬ ‫ُ‬ ‫ِعلميًّا ِمن ْ‬ ‫حقله ال َـم ْع ِر ِفـي والحقول المعرفية المساعدة؛ والوسيط في ذلك‬ ‫الفك ُر بضروراته‪ ..‬وليس في جزئيات كتاب (سوسير) ما هو راجح؛ فكيف‬ ‫يكون ُّ‬ ‫كله ْ‬ ‫بقانون ُم ْلزم ؟‬ ‫أشبه‬ ‫ٍ‬

‫‪82‬‬

‫شريف الغاية‪..‬‬ ‫والعا ِلـم العبقريُّ قد يجمح به الخيال‪ ،‬وقد يكون غي َر‬ ‫ِ‬

‫َ‬ ‫كتاب سوسير (واد باسكين) من اللغة الفرنسية إلى اللغة اإلنجليزية؛‬ ‫وترجم‬ ‫ُ‬ ‫ترجمة (أحمد نعيم الكراعين) إلى العربية‪ ،‬وقد عرَّف (واد‬ ‫وعنه كانت‬ ‫ٌ‬ ‫باسكين) ُ‬ ‫«أشخاص قليلون هم الذين حظوا‬ ‫بالمؤلف (سوسير)؛ فقال‪:‬‬ ‫باالحترام الواسع واالنتشار في تاريخ علم اللغة على إنجازاتهم‬ ‫المختلفة مثل (فردينان دي سوسير)‪ ،‬ولقد استعار (ليونارد‬ ‫ُ‬ ‫ِّ‬ ‫[األبلغ‪ :‬في إضافة]‬ ‫السويسري بإضافة‬ ‫بلومفيلد) تف ُّو َق األستاذ‬ ‫األساس النظري لالتجاه الجديد في الدراسة اللغوية‪َّ ..‬‬ ‫وإن‬ ‫ِ‬ ‫الباحثين األوربيين نادرًا ما فشلوا في األخذ باالعتبار آراءَه‬ ‫هات نظره) كلما تعرضوا ِّ‬ ‫ألي مشكلة نظرية‪ ..‬ولكن‬ ‫(وجْ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫كل ما تضمنته تعليماته ‪-‬بالنسبة لجانِبَي الدراسات‬ ‫الثابتة (الوصفية) والتطورية‪ :-‬ال تزال صحيحة‪..‬‬

‫فردينان دو سوسير‬

‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬


‫لقد نجح (سوسير) في فرض طاب َِعه‬ ‫الشخصي على كل شيءٍ‬ ‫ِّ‬

‫من خالل مسيرته؛ ففي سنِّ العشرين [األفصح‪( :‬عشرينَ )؛ ألنه‬

‫ال معهو َد لها] عندما كان طالبًا في (ليبزج)‪ :‬نشر بحثه الهامَّ [الهامُّ‬ ‫ألنه دا ِفعٌ إلى االهتمام ْ‬ ‫ٌ‬ ‫صحيحة؛ َّ‬ ‫والـم ُِهمُّ أ ْبل ُِغ] (النظام الصوتي‬

‫ُ‬ ‫البحث على‬ ‫للغة الهندوأوربية األصلية (البدائية)‪ ..‬وقـد قـام هـذا‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ْ‬ ‫(مشاعا) في زمانه‪ ،‬وال يزال‬ ‫عامة‬ ‫كانت م ُْل ِكي ًَّة‬ ‫وحقائق‬ ‫ـات‬ ‫نظري ٍ‬ ‫يُعْ تبر أوسعَ وأشمل معالج ٍة لصوتيَّات الهندوأوربية األصلية‪..‬‬ ‫ولقد تتلمذ على النحويين الجدد (أوستوف)‪ ،‬و(لسكين)؛ ولكنه‬

‫علم‬ ‫رفض منهجهم التجزيئي لعلم اللغة في محاولته لتشكيل ٍ‬ ‫مترابط لعلم اللغة‪..‬‬ ‫َّ‬ ‫وبالرغم من [األفصح‪ :‬وعلى الرغم مِن أنَّ ] قلة منشوراتِه‬ ‫(أبحاثه) [وهي] ست مئة صفحة خالل حياته‪ :‬فقد وصل تأثير‬ ‫َّ‬ ‫(دي سوسير) حدًّا بعي َد المدى؛ ففي باريس (حيث‬ ‫تعلم‬ ‫السنسكريتية ِلـ ُم َّد ِة عشر سنوات‪ ،‬سنة [ ‪1891 -1881‬م]‪ ،‬وعمل‬

‫علم‬ ‫سكرتي ًرا للجمعية اللغوية الباريسية‪ :‬فإن أثره في تطو ُِّر‬ ‫ِ‬ ‫َ لاً‬ ‫لاً‬ ‫واو َقبْلها]‪ ..‬إن‬ ‫اللغة كان حاسمً ا وفعا [األفصح‪( :‬فعَّ ا ) بدون ٍ‬ ‫دراساتِه األولى للمخطوطات األفرنج َّي ِة واللهجات اللتوانية‪ :‬ربما‬ ‫ً‬ ‫مسؤولة إلى ٍّ‬ ‫ب‬ ‫تكون‬ ‫حد ما من بعض الجوانب فيما يُعبِّر عن حُ ِّ‬

‫طالبه له في جامعة جنيف سنة ‪1911-1906‬م‪ ..‬إن نظرته ْالـمُوحَّ دة‬ ‫أثمرت أو َّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫تفكير عصريٍّ ‪،‬‬ ‫أفضل‬ ‫حق َقت‬ ‫(التكاملية) لظاهر ِة اللغة‬ ‫ٍ‬

‫والفكر النافذ‪..‬‬ ‫باإلضافة إلى الصبر على البحث لسنوات طويلة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫إنَّ سيطرة النظام الفلسفي لكل عصر يضع بصماتِه على كل‬ ‫خطوة من خطوات تطور علم اللغة [و] إنَّ ْالـمَنهج التجزيـ ِئ َّي في‬

‫البحث عن الحقيقة الذي ساد القرن الثامن عشر‪ :‬هو الذي منع‬ ‫الباحثين من االقتراب من الحقائق الموجودة في مادة الكالم؛‬ ‫فقد كانت اللغة تعني بالنسبة ألولئك الباحثين بكل بساطة‪:‬‬ ‫ْالـمَخزونَ ‪ ،‬أو َ‬ ‫اآللي من الوحدات [التي] ُت ْستعمل في الكالم‪..‬‬ ‫الكمَّ‬ ‫َّ‬ ‫لقد حالت الدراسات ْالـمُتفرقة (التدرجيَّة) دون التطور في مفهوم‬ ‫ُ‬ ‫الحقائق التجزيئي َُّة‪..‬‬ ‫الطريقة الكلية التي كانت تالئمها‬

‫ليونارد بلومفيلد‬

‫المفهوم التجزيئي للكالم‬

‫ذري) للكالم‪ :‬انعكس على‬ ‫إنَّ المفهوم التجزيئي‬ ‫ِ‬ ‫(الج ِ‬ ‫ْ‬ ‫الدراسات التاريخية لعلماء فقه اللغة الـمُقارن‪ ،‬وفتحت‬

‫المجال للمفهوم الوظيفي والبنائي للغة‪ ..‬وقد كان (سوسير)‬ ‫ُ‬ ‫ًّ‬ ‫وظيفة‬ ‫خاصا تتوافق‬ ‫يرى في البداية أنَّ اللغة تحوي نظامً ا‬

‫قيمة من خالل عالقاتها مع الكل ْ‬ ‫ً‬ ‫[ال ُـك ّل بأداة‬ ‫أجزائِه‪ ،‬وتكتسب‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫التعريف صحيحة ل َغة؛ ألنها ترفع كثي ًرا من اإلبهام‪ ،‬وقد حقق‬ ‫ذلك الزبِيدي في كتابه (تاج العروس)]‪ ..‬وبتركيز االنتباه على‬ ‫اإلنساني الواضح في الكالم (أعني نظام اللغة)‪ :‬فقد‬ ‫الجانب‬ ‫ِّ‬ ‫أعطى (سوسير) لعلمه الوحدة والمباشرة حتى نشر بحثه (وقد‬ ‫رجم أخي ًرا إلى األلمانية واألسبانية)‪ ..‬فقط أولئك الذين سعدوا‬ ‫ُت ِ‬

‫بعالقات وثيقة مع (سوسير) هم الذين توصلوا (عرفوا نظريَّاته)‬ ‫إلى نظرياته‪ ..‬وبقيامنا بترجمة محاضراته هذه إلى اإلنجليزية‬

‫آمل أن أسهم في تحقيق هدفه‪ ،‬وهو دراسة اللغة في ذاتها [في‬ ‫نفسها]‪ ،‬ومن أجلها» [فصول في علم اللغة العام ص‪.]9-7‬‬

‫قال أبو عبدالرحمن‪ :‬في كتاب (سوسير) ميتافيزيقيات‬

‫وعمومات ومماحكات بتحليالت فيزيولوجية وفيزيائية (ال يهم‬ ‫ُ‬ ‫بطالنـها؛ ألنه ال أثر لها في علم‬ ‫دارس اللغة العربية صح ُتها أو‬

‫ُشو َ‬ ‫اصطالحات م َ‬ ‫ٌ‬ ‫ِّشة على اصطالح قائم دون أن‬ ‫الداللة)‪ ،‬وفيه‬ ‫ُ‬ ‫حاصل ولكن بزيادة تعقيد‪ ،‬وليس‬ ‫تفيد جديدً ا‪ ،‬وفيه تحصيل‬ ‫ٍ‬ ‫الكتاب بعد ذلك بذلك المستوى من َ‬ ‫األ َلق بإضافاته‪ ،‬وأنا قائم‬ ‫ً‬ ‫دراسة تحليلية بعد ترتيب واختصار؛ ألن‬ ‫إن شاء الله بدراسته‬ ‫الطبعتين العربيتين سَ ِّي َئتا الطباعة مع كثرة المحْ ِو‪ ،‬وسوءِ‬

‫استخدام عالمات الترقيم ‪-‬؛ مما يزيد الموضوع تعقيدً ا‪،-‬‬ ‫وإغفال ما يجب إيضاحُ ه‬ ‫األسلوب الفني عن الترجمتين‪،‬‬ ‫وانتفاءِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬

‫وكون المترجمين حاويين غير محاكمين‪ ..‬و(سوسير)‬ ‫وبسطه‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫بعد ذلك تلميذ أمين لـ (دور كايم)‪ ..‬وكفى بذلك فخ ًرا !!‪[ ..‬انظر‬ ‫علم اللغة‪ /‬مقدمة للقارئ العربي للدكتور محمود السعران‪ /‬دار‬ ‫النهضة العربية ببيروت]‪ ..‬ومن مصطلحاته التي طاروا بها فرحً ا‬

‫أوستوف‬

‫لسكين‬

‫‪83‬‬


‫دراسات‬

‫(السميولوجيا)‪ :‬أي علم العالمات‪ ..‬وعن تأثير سوسير قال الدكتور‬

‫من خالل ما ذكره عنه تالميذه»‪[ ..‬موجز تاريخ علم اللغة في‬

‫الخاصة بـ (الفونيم)‪ُ ..‬عني بذلك األمير الروسي المهاجر (ن‪.‬‬

‫ُ‬ ‫وأشياعهما ظهروا بتصو ٍُّر‬ ‫جاكوبسون‪ /‬ولد سنة ‪1896‬م)‪ ..‬هذان‬ ‫جديد هو (الفونولوجيا)؛ وقد ميز (تروبتسكوي) و(جاكوبسون)‬

‫المعرفة الكويتية‪ /‬رجب عام ‪1418‬هـ]‪ ..‬وقال (واد باسكين)‪:‬‬ ‫«لطالما سمعنا َنعْ َي (دي سوسير) َ‬ ‫األسس والمناهج التي‬ ‫قلة‬ ‫ِ‬ ‫ُتـميِّز علمَ اللغة خالل فترته التطورية‪ ،‬ولقد استمر طيلة حياته‬ ‫ً‬ ‫مباشرة عن أفكاره وسط هذه‬ ‫يبحث عن القوانين التي ُتعبِّر‬

‫األصوات اللغوية في المؤتمر اللغوي األول الذي عقد في الهاي‬

‫وهي واحدة في جميع األشياء في الجماد‪ ،‬والنبات‪ ،‬والحيوان؛‬

‫السعران‪« :‬وأخذ اللغويون يُنمُّون أفكار (دي سوسير)‬ ‫محمود َّ‬

‫تروبتسكوي ‪1938 -1890/‬م)‪ ،‬وتلميذه ومساعده الروسي (رومان‬

‫ومساعدوهما بين (الفونولوجيا) وبين (الفونيتيك)‪ :‬أي علم‬ ‫سنة ‪1928‬م؛ وكان مركز هؤالء مدينة (براغ)» [علم اللغة ص‪344‬‬ ‫]‪ ..‬وقال (ر‪ .‬ه‪ .‬روبنز) عن تأثيره‪« :‬وكانت الشخصية الرئيسة في‬

‫تغيير مواقف القرن التاسع عشر لمواقف القرن العشرين على‬ ‫ُ‬ ‫[شخصية] اللغوي السويسري (فردينان دي‬ ‫نحو مهم‪ :‬هي‬

‫سوسير) الذي ُع ِرف أولاً في المجتمع العـلمي من خـالل مسـاهم ٍة‬ ‫مهمة في عـلم اللغة الهندوأوربي المقارن‪ ،‬بعد دراسته في‬

‫(ليبزج) مع أعضاء مدرسة القواعديين الجدد‪..‬‬ ‫لاً‬ ‫ومع أن (دي سوسير) قد نشر القليل [الصواب‪ :‬قلي ؛ ألنه‬

‫ال معهود ألداة التعريف] بنفسه‪ :‬فإن محاضراتِه في علم اللغة‬ ‫في أوائل القرن العشرين قد َّأثرت كثي ًرا في بعض تالميذه في‬

‫‪84‬‬

‫الغرب ص‪ / 287‬ترجمة الدكتور أحمد عوض‪ /‬سلسلة عالم‬

‫ْالـ ُهيُولى [الهيولـى أو الهيوال كلمة يونانية تعني ْ‬ ‫األص َل أو الماد َ​َّة؛‬ ‫وإنما تتباين الكائنات في الصور فقط؛ فالهيولى في نفسها ال‬

‫صورة لها وال صفة؛ لذلك تحتاج إلى الصورة لكي تجعله يوصف‬ ‫وتظهر وتتحدد معالمه؛ فالصورة هي المبدأ الذي يعيِّن الهيولى‬ ‫ً‬ ‫ماهية خاصة؛ فالهيولى والصورة ال ينفصالن؛ إذ كل‬ ‫ويعطيها‬ ‫َ‬ ‫الهيولـى ْالـجَ وْهَ ر الماديَّ ‪،‬‬ ‫موجود يتكوَّن من كليهما‪ ..‬وتسمى‬ ‫َّ‬ ‫والشيءُ بما له من هيولى وصورة‪ :‬أطلق‬ ‫وفي فلسفة أرسطو‪..‬‬

‫عليه (أرسطو) كلمة (الجوهر)‪ ،‬ومن الجواهر المختلفة تتكون‬

‫الحقيقة (انظر‪ :‬ويكيبيديا‪ /‬الموسوعة الحرة)]‪..‬‬ ‫َّ‬ ‫محل‬ ‫ولـم يكن في مقدوره حتى سـنة ‪1906‬م عندما حـل‬ ‫(يوسف ويرثيمر) في جامعة جنيف أنْ يع ِّرف بأفكاره التي تب َّناها‬ ‫ورعاها خالل سنين عديدة؛ كما أنه درس ثالث مسافات في‬

‫باريس وجنيف؛ حتى إنهم نشروها في عام ‪1616‬م تحت عنوان‬ ‫ُ‬ ‫إعادة‬ ‫(محاضرات في علم اللغة العام)؛ وهذا بقدر ما أمكنهم‬

‫علم اللغة العام خالل السنوات‪ :‬سنة ‪1906‬م‪ ،‬سنة ‪1907‬م‪ ،‬سنة‬

‫تاريخ علم اللغة فإن (دي سوسير) يُعْ َر ُف ويدرس إلى حد كبير‬

‫نصف وقت فصوله لتدريس تاريخ اللغات الهندوأوربية ووصفها‪،‬‬ ‫األساسي في موضوعه اس ُتقبل‬ ‫مع األخذ بعين االعتبار أنَّ القسم‬ ‫َّ‬

‫بنائها [الصواب‪ :‬بناؤه] نقلاً عن كراسات محاضراتهم ومحاضرات‬ ‫ً‬ ‫باقية بخط (دي سوسير)‪ ..‬وفي‬ ‫آخرين‪ ،‬وموا َّد معين ٍة كانت‬

‫بين الكالم والرمز واللغةِ فرق عظيم؛‬ ‫است ُْحدِ ث‬ ‫فالرمز السيميائي‪ :‬ثمرةٌ لما ْ‬ ‫سا ِن َّيا ِ‬ ‫ت‬ ‫مِ ن ال ِّل َ‬

‫‪1909‬م‪ ..‬وما بين سنتي ‪1911-1910‬م‪ :‬فرض عليه جَ ْدو َُله أنْ يك ِّرس‬

‫باهتمام أقـل مما يسـتحق‪ ..‬كـل الذين كـان لهم شرف االشتراك في‬ ‫ً‬ ‫مؤلفا من إنتاجه‪،‬‬ ‫أس ُفوا؛ ألنه لم يترك‬ ‫معرفة موهبته الفذة‪ِ :‬‬ ‫وبعد وفاته نأمل أنْ نجد في مخطوطاته [كلمة (في) ههنا فضول]‬

‫ُس َّودَاتِه)؛ فقد تكرمت بإتاحتها لنا (مدام دي سوسير) [؛ وهي]‬ ‫(م َ‬ ‫ٌ‬ ‫مالحظات] صحيحة أو على األقل مالئمة من‬ ‫مالحظات [األصحُّ‬ ‫ٍ‬

‫محاضراته الحية المهمة‪ ..‬وكان علينا في البداية أن نقارن بين‬ ‫مالحظات (دي سوسير) الخاصة ومدونات تالميذه‪..‬‬ ‫لقد أخفقا بشكل كبير‪ ،‬لم نجد شي ًئا‪ ،‬أو دائمًا‪ ..‬ال‬

‫شي َء يشابه مذكرات تالميذه‪ ..‬وعلى كل حال فقد‬ ‫مسودات‬ ‫أدَّت َغ َر َضها؛ فقد أتلف (دي سوسير)‬ ‫ِ‬

‫أدراج‬ ‫مالحظاتِه التي استخدمها في محاضراته‪ ..‬وفي‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫قديمة له ليست تافهة أو‬ ‫مالحظات‬ ‫سكرتيرتِه وجدنا‬ ‫ٍ‬

‫عديمة القيمة‪ ،‬ولكن ال يمكن َدمْـجُ ها مع مادة الفصول‬ ‫ُ‬ ‫واكتشافنا كانت َتعْ َت ِر ُضه [األبلغ (كان يعترضه)‬ ‫الثالثة‪،‬‬ ‫بالياء ذات الثنتين من تحت قبل العين المهملة؛ ألنَّ‬

‫ٌ‬ ‫صعوبات؛ ألنَّ‬ ‫واجبات‬ ‫الضمي َر عائد إلى االكتشاف]‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫الجامعي) قد جعلت من المستحيل‬ ‫(العمل‬ ‫األستاذية‬ ‫َّ‬

‫بالنسبة لنا متابعة محاضراته األخيرة‪ ،‬وهذه تبدو خطوة‬ ‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬


‫معيارا للحقيقة‬ ‫ليس العبقري‬ ‫ً‬

‫دور كايم‬

‫مضيئة في سيرة حياته؛ ألنها الشاهد األو َُّل على ظهور بحثه عن‬ ‫النظام الصوتي في الهندوأوربية األصلية (البدائية)‪ ..‬علينا أن نعود‬ ‫إلى المالحظات والمذكرات التي ُدو َِّن ْ‬ ‫ت وجمعت بواسطة تالميذه‬ ‫في محاضراته في الدورات الثالث‪ ..‬ويوجد تحت تصرفنا ثالث‬ ‫مذكرات كاملة‪ :‬بالنسبة للفصلين األولين ُكتبا بواسطة (مسز‬

‫تروبتسكوي‬

‫جاكوبسون‬

‫الحر‪ -‬على الشفاه‪ ،‬والتداخالت‪ ،‬واألشكال المختلفة‪ :‬ستظهر‬ ‫هذا النشر‪ ،‬وتعطيه مظه ًرا متناف ًرا‪..‬‬

‫وتحديد الكتاب في فصل واحد ‪-‬أي الفصلين اآلخرين‬

‫والفصل الثالث لوحده‪ ،‬وهو أهم الفصول الثالثة‪ -‬ال يمكنه‬ ‫أن يقدم لنا إحصاءً كاملاً لنظريات ومناهج (ف‪ .‬دي سوسير)‪..‬‬

‫لويس كايلي)‪ ،‬و(وليبوبولد جوتير)‪ ،‬و(باول رجارد)‪ ،‬و(ألبرت‬ ‫ب بواسطة‬ ‫ريدلينجر)‪ ..‬أما بالنسبة للثالث ‪-‬أكثرها أهمية‪[ -‬فقد] ُك ِت َ‬

‫الواضحة من غير تغيير‪ ..‬هذه الفكرة طرأت في البداية‪ ،‬ولكن‬

‫يوسف)‪ ..‬ونحن مدينون لـ (م‪ .‬لويس بروتش) بمالحظات خاصة‪..‬‬

‫على هذه الصورة من التجزيء التي ال تظهر قيمتها إال من‬

‫(ألبرت سيخهاي)‪ ،‬والسيدة (جورج ديجالير)‪ ،‬و(فرنسيس‬ ‫بنقطة معينة كل أولئك المساهمين يستحقون منا جزيل الشكر»‬ ‫[فصول في علم اللغة العام ص‪.]12 -11‬‬ ‫تبعثر كتاب سوسير واضطرابه‬

‫قال أبو عبدالرحمن‪ :‬أسلفت في إحدى المناسبات كالمً ا‬ ‫مماثلاً لمق ِّدمِي طبعة جنيف عام ‪1915‬م‪ ،‬وهما (جارلس بالي)‪،‬‬

‫أحد االقتراحات كانت تنش ُر بعض الفقرات أو المقاطع األصلية‬

‫عندما اتضح أننا سنشوِّه أو نحرف أفكار أستاذنا إذا قدمناها‬ ‫خالل الصورة الجمعية أو الكلية‪ ..‬ووصلنا إلى الجرأة ولكن كما‬ ‫نعتقد إلى ٍّ‬ ‫حل أكثر معقولية أن نحاول إعادة التركيب والتأليف‬ ‫باستخدام الفصل الثالث كنقطة بداية‪ ،‬واالستفادة من كل المواد‬

‫األخرى الموضوعة تحت تصرفنا‪ ،‬باإلضافة إلى مذكرات (ف‪ .‬دي)‬ ‫الخاصة كمصادر مكملة‪ ..‬إن مشكلة إعادة تمثل وإبداع فكر (ف‪.‬‬

‫دي سوسير)‪ ،‬كانت األكثر صعوبة؛ ألن إعادة الخلق واإلبداع‪،‬‬

‫و(ألبرت سيكاهي) عن تبعثر كتاب (سوسير) واضطرابه‪ ..‬ثم‬

‫يجب أن تكون موضوعية‪..‬‬

‫االختالفات‪ ،‬ونعيد بناء أفكار (دي سوسير)؛ لنزيل عنها التردد‬

‫أو الحيوية لكل فكرة خاصة‪ ،‬وذلك بمحاولة معرفة الشكل‬

‫قال (واد باسكين) عن منهجه ومعاناته‪« :‬علينا أن نقارن كل‬

‫والبهوت والتضارب في بعض األحيان والتلميحات‪ ..‬وبالنسبة‬ ‫للفصلين األولين نستطيع أن نعدد الخدمات التي قدمها (م‪.‬‬

‫رايدلينجر) أح ُد الطالب الذين تابعوا فكرة األستاذ باهتمام بالغ؛‬

‫فعمله ذو قيمة كبيرة‪ ..‬أما بالنسبة للفصل الثالث فإن واحدً ا منا‬ ‫وهو (أ‪ .‬سيخهاي) قام بإنجاز تفصيالت العمل نفسه من فحص‬ ‫ومقارنة وتركيب للمادة‪ ..‬ولكن بعد ذلك فإن الكالم الشفوي الذي‬

‫يتناقض غالبًا مع الشكل الكتابي يشكل أكثر الصعوبات‪ ،‬وبجانب‬ ‫هذا فلم يكن (ف‪ .‬دي سوسير) من أولئك الرجال الذين يقفون في‬

‫مكانهم؛ فأفكاره تتطور في كل االتجاهات دون أن تتناقض ذاتيًّا‬ ‫ً‬ ‫نتيجة لذلك‪ ..‬إنَّ ْ‬ ‫نشر كل شيء في شكله األصلي يُعَ ُّد‬ ‫[في َن ْف ِسها]‬ ‫مستحيلاً ؛ فالتكرار ‪-‬الذي ال يمكن تجنبه أثناء الكالم الشفوي‬

‫وعند كل نقطة كما نعمل على الوصول إلى النقطة األساسية‬

‫المحدد في ضوء النظام الكلي‪ ..‬وكان علينا في البداية أن نزيل‬

‫االختالفات والخصائص الشاذة أو الغريبة للكالم الشفوي‪ ،‬وأن‬

‫نضع الفكرة في مكانها الطبيعي من العمل‪ ،‬ووضع كل جزء منها‬ ‫تبعً ا للنظام الذي قصده المؤلف؛ حتى ولو كان قصده غير واضح‬

‫دائمً ا يحتاج إلى حـدس‪ ..‬من هـذا العمل من المماثلة‪ ،‬وإعـادة‬ ‫التركيب‪َّ :‬‬ ‫ول َد أو َخ َّرج هذا الكتاب الذي نقدمه‪ ..‬ليس من غير‬

‫حذر إلى الجمهور المثقف وإلى كل األصدقاء من اللغويين‪ ..‬لقد‬ ‫كان هدفنا أن نعمل معً ا كلاًّ عضويًّا (وحدة عضوية) وذلك بعدم‬ ‫حذف شيء يؤثر على االنطباع أو الصورة الكلية‪ ،‬ولكن بالنسبة‬

‫للسبب الرئيسي فمن المحتمل أنْ يوجَّ ه لنا النق ُد من جهتين‬ ‫َّ‬ ‫الكل غي ُر كامل‪ ..‬إن األستاذ في‬ ‫األولى‪ :‬سيقول النقاد‪ :‬إنَّ هذا‬

‫‪85‬‬


‫دراسات‬

‫تدريسه لم َيد َِّع أو ي َُطالِب باختبار كل أقسام علم اللغة‪ ،‬أو يُك ِّرس‬

‫(البحث عن فردينان دو سوسير) لـ (ميشال أَر ْ‬ ‫ِّيفيه) بترجمة‬

‫ماديًّا‪ ..‬بجانب هذا لم يكن ذلك همه الرئيسي‪ ..‬وباالنسياق مع‬

‫وبمراجعة الدكتور (نادر سراج)‪ ،‬وصدر عن دار الكتاب الجديد‬

‫نفس الجهد لكل واحد من هذه االختبارات؛ فإنه ال يستطيع ذلك‬ ‫بعض العناصر األساسية والشخصية أينما وجدت في ثنايا البحث‬ ‫‪ -‬والتي [قال أبو عبدالرحمن‪ :‬الصواب‪ :‬وهي التي] شكلت لحمة‬

‫أو نسيج هذا العمل (فبْركته) الذي يعتبر صعبًا بقدر ما هو متنوع‬ ‫‪ -‬الذي حاول النفاذ إليها‪ ،‬فقط عندما‬

‫تتطلب هذه األسس تطبيقات خاصة‪،‬‬

‫أو عندما تتضارب بوضوح مع جانب من‬ ‫جوانب النظرية التي يحاول أن ينجزها‪..‬‬ ‫هذا هو السبب في أن بعض المجاالت‬

‫مثل علم الداللة ال تلمح بسهولة‪ ،‬ونحن‬

‫ال نشعر بأن هذه الثغرات تقلل من شأن‬ ‫البناء الكلي‪ ..‬إن عدم وجود علم لغة‬ ‫ً‬ ‫مؤسفا‪..‬‬ ‫للكالم يعتبر أم ًرا‬ ‫هذه الدراسة التي قررت على طالب‬ ‫ً‬ ‫مكانا‬ ‫الفصل الثالث تحتل بدون شك‬ ‫ً‬ ‫مرموقا‪ ،‬وعدم االحتفاظ بهذا المقرر أمر‬ ‫معروف جيدً ا‪ ..‬كل ما كان في استطاعتنا‬

‫‪86‬‬

‫األستاذ الدكتور (محمد خير البقاعي) مِن اللغ ِة الفرنسية‪،‬‬

‫المتحدة ببيروت طبعتهم األولى عام ‪2009‬م‪ ،‬وتك َّرم حفظه‬

‫الله في إهدائه ص‪ 5‬بقوله‪« :‬إلى شيخي الفاضل الشيخ أبي‬ ‫ُ‬ ‫ودوحة‬ ‫عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري؛ بح ُر العلم المتدفق‪،‬‬ ‫اللغة النضرة‪ ،‬رمز الكرم األصيل‪ ،‬ومعدنُ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫لعل فيه بعض الوفاء‬ ‫الخلق الطيب؛‬

‫علي‪ ..‬محمد خير محمود البقاعي»‪،‬‬ ‫بحقه َّ‬ ‫َ‬ ‫وما أنا إال أحَ د ْ‬ ‫أص َغ ِر تالميذه فيما هو مِن‬ ‫ُ‬ ‫استعراض ما‬ ‫َت َخ ُّص ِصه‪ ،‬ويهمني ههنا‬

‫ذكره الدكتور البقاعي في مقدمته‪ ..‬قال‬

‫حفظه الله‪« :‬لقد كان اللغوي السويسري‬ ‫(فردينان دو سوسير) الشخصية الرئيسة‬ ‫َ‬ ‫مواقف القرن التاسع عشر‬ ‫التي غيَّرت‬ ‫في مجال اللغة‪ ،‬وانتقلت بها إلى القرن‬ ‫العشرين‪ ..‬وال يستطيعُ أحدٌ أنْ ينكر تأثيره‬

‫دو سوسير في علم اللغة في القرن العشرين‪ ،‬وهو‬ ‫الذي َّ‬ ‫دشنه‪ ،‬وقد ُشبِّه ْ‬ ‫نش ُر كتابه (دروس)‬

‫عمله هو جمع االنطباعات السريعة من المالحظات المضطربة‬

‫بالثورة الكوبرنيكية‪ ..‬وإذا أردنا أن نق ِّر َب شخصية (فردينان دو‬

‫الممكن أن يقول النقاد‪ :‬إننا أعدنا استخالص الحقائق محمولة‬

‫أمالي دوَّنها تالمذته‬ ‫في أوروبا؛ لم ينشر كتابه بنفسه‪ ،‬وإنما كان‬ ‫َ‬

‫لهذا المشروع ووضعها في مكانها الطبيعي‪ ..‬وبالمقابل فمن‬ ‫على نقاط تطورت بواسطة (ف‪ .‬دي سوسير) والسابقين له‪ ..‬ليس‬

‫كل شيء على امتداد هذا البحث يعد جديدً ا‪ ،‬ولكن إذا كانت‬

‫األسس المعروفة ضرورية لفهم الكل [قال أبو عبدالرحمن‪:‬‬ ‫بينت كثي ًرا جواز دخول (ال) على كل وبعض وغير]‪ :‬فهل ُندَانُ‬ ‫ألننا لم نحذفها؟‪َ ..‬ف َف ْضل التغيرات الصوتية على سبيل المثال‬

‫يتضمَّن أشياء قيلت من قبل‪ ،‬ومن الممكن أن تكون قيلت بصورة‬

‫أوضح‪ ..‬ولكنَّ أح َد جوانب الحقيقة هو أن هذا الجزء يحتوي على‬ ‫تفصيالت أساسية وقيِّمة؛ وحتى [قال أبو عبدالرحمن‪ :‬الواو ههنا‬ ‫فضول] أن القاري السطحي (البسيط) سوف يرى إلى أيِّ مدى‬ ‫سيقلل حذفها من فهم األسس التي بنى عليها (ف‪ .‬دي سوسير)‬

‫نظامه لعلم اللغة الوصفي‪ ..‬نحن حذرون من مسؤوليتنا أمام‬ ‫النقاد‪ ،‬كما أننا حذرون من مسؤوليتنا بالنسبة للمؤلف الذي من‬ ‫الممكن أن ال يسمح لنا بنشر هذه الصفحات‪ ..‬لقد تقبلنا حمل‬

‫المسؤولية كاملة‪ ،‬ونرغب في تحملها منفردين؛ فهل يستطيع‬

‫النقاد التمييز بين األستاذ وشراحه؟‪ ..‬وسوف نكون شاكرين‬

‫لهم إذا توجهوا إلى مهاجمتنا مباشرة؛ ألنه ليس من العدل أن‬ ‫تنصب اللعنات على رجل ذكراه عزيزة علينا‪ ..‬جنيف يوليو ‪1915‬م»‬

‫[فصول في علم اللغة العام ص‪.]12 – 11‬‬ ‫كتاب‬ ‫العربية‬ ‫اللغة‬ ‫إلى‬ ‫قال أبو عبدالرحمن‪ :‬و َُن ِق َل أخي ًرا‬ ‫ُ‬ ‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬

‫سوسير) إلى القارئ العربي المهتم قلنا‪ :‬إنه سي َب َويْه اللسانيات‬ ‫الذين حضروا دروسه‪ ،‬وبادر اثنان منهم إلى نشرها بعد موته بين‬ ‫ط َّي َتي كتاب س َّموْه (دروس في اللسانيات العامة)‪..‬‬ ‫ونشأت حول الكتاب حركة لغوية نق ِّربها إلى القارئ العربي؛‬

‫فنقول‪ :‬إنها كالحركة النقدية التي نشأت حول أبي تمام والمتنبي؛‬

‫فتعددت الشروح والتفسيرات والطبعات المحققة‪ ،‬والمقارنة‬ ‫بالمخطوطات‪ ،‬وإثبات الفروق‪ ،‬واكتشاف أسس العلوم الالحقة‬ ‫من بنيوية وسيميائية‪ ،‬وغير ذلك من المعارف‪ ..‬إال أن أكثر ما َّأثر‬ ‫في الدراسات اللغوية من فكر (سوسير) الذي تضمَّن ْته الدروس هو‬

‫انتقاله في دراسة اللغة من المنهج التاريخي التطوري إلى المنهج‬ ‫الوصفي الذي اعتمدته العلوم الحديثة م ً‬ ‫ُنهية النظرة التاريخية‬

‫التي سيطرت على دراسات العلوم اإلنسانية َر َدحً ا غير قليل من‬ ‫الزمن‪ُ ..‬ت ْر ِجم كتاب (سوسير) إلى لغات كثيرة‪ ،‬وأُقيمت حوله‬ ‫دراسات متنوعة في أوروبا وأمريكا وآسيا وأفريقيا وأستراليا‪ ..‬أشار‬ ‫إلى بعضها ميشال أرِّيفيه في هذا الكتاب‪ ،‬وكان نصيب الكتاب في‬

‫العربية حتى ساعة كتابة هذه السطور خمس ترجمات‪ ،‬وليس‬ ‫من مهمة هذه المقدمة تقويم هذه الترجمات‪ ،‬وإنما اإلشارة إليها‬

‫في سياق اهتمام العرب بـ (فردينان دو سوسير)‪[ ..‬م‪.‬س ص‪.125‬‬

‫المترجم]‪ ..‬وقد اختلفت الترجمات الخمس في كتابة اسم مؤلف‬ ‫ُ‬ ‫اخترت أن أكتب اسمه حسب األعمّ األشيع‬ ‫الدروس؛ أما هنا فقد‬


‫معيارا للحقيقة‬ ‫ليس العبقري‬ ‫ً‬

‫في الكتابات العربية مشي ًرا إلى أن النون األخيرة من فردينان‬ ‫خيشومية فيها ُغ َّن ٌة ُت ْش ِعر بالحرف األخير من االسم؛ وهو‬ ‫ُ‬ ‫(الدال)‪ ،‬كما أن األداة (‪ )de‬ينبغي أن تقابل بـ (دو) حسب النطق‬

‫الفرنسي الذي يقتضي أن نكتب ً‬ ‫أيضا (سوسور)؛ ألن الواو أقرب‬ ‫إلى نطق (‪ )u‬الفرنسية من الياء؛ فتكون صحة االسم الفرنسي‬

‫بالحروف العربية (فردينان دو سوسير)‪..‬‬

‫انظر في تفسير هذه التسمية كتاب (أرِّيفيه) الذي نترجمه في‬

‫أول الفصل األول‪ ،‬ولم يعلل أحد من العرب الذين ترجموا كتاب‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫معينة‪ ..‬وانظر‬ ‫كتابة‬ ‫(دروس في اللسانيات العامة) سبب اختياره‬

‫ً‬ ‫أيضا تقديم صالح القرمادي لترجمة الطيب البكوش كتاب جورج‬

‫مونان (مفاتيح األلسنية)‪ ،‬منشورات الجديد‪ ،‬تونس‪1981 ،‬م‪،‬‬ ‫ص‪( 7‬تعاليم فردينان دو سوسير)‪ ،‬ولو أتيح لـ (أَرِّيفيه) وغيره من‬ ‫الغربيين الذين اختصوا بسوسير قراءة ترجمات كتاب (سوسير)‬

‫إلى العربية ألقاموا عليها دراسات عظيمة‪ ،‬ال في تقريعها‪ ،‬وإنما‬ ‫في كونها قراءات ُتخطئُ في بعض األحيان ُ‬ ‫وتصيب [المترجم]‪..‬‬

‫أما عن أهمية ترجمة كتاب (سوسير) إلى العربية بعد زمن طويل‬

‫ـم َّيز من اللغة‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫إن ملكة اللسان حدث ُم َ‬ ‫لكنه ال يحدث بدونها‪ ،‬ونعني بالكالم‬ ‫عمل الفرد الذي يمارس َملكتَه بوساطة‬ ‫المواضعات االجتماعية التي هي اللغة‬ ‫وفي عام ‪1985‬م يقول الدكتور مالك يوسف المطلبي في‬

‫مقدمته لترجمة الدكتور يوئيل يوسف عزيز‪« :‬إنَّ المحاضرات في‬ ‫علم اللغة لفردينان دو سوسير‪ُ ،‬ترجمت على نحو أو آخر من‬ ‫خالل مؤلفات المعنيين بالدراسات البنيوية واللغوية وبحوثهم‬ ‫منذ منتصف هذا القرن»‪.‬‬

‫صميم النظرية السوسيرية‬ ‫قال أبو عبدالرحمن‪ :‬في صميم ال َّنظريَّ ِة السوسيريَّ ِة أَ ْبدَأُ‬ ‫َ‬ ‫ومناق َش ِة ما َتي ََّس َر في هذه الحلقة‪ ..‬قال (ميشال‬ ‫باستعراض‬ ‫ِ‬ ‫أَرِّيفيه)‪« :‬إنَّ اللغة نظام العالمات النوعية –أهم نظام بين‬

‫من صدوره‪ ،‬فيقول الدكتور حمزة المزيني‪« :‬وعلى رغم تأخر‬ ‫ً‬ ‫سبقا عظيمً ا‬ ‫ترجمة كتاب (دو سوسير)‪ ،‬وسبق اللسانيات له‬ ‫اآلن‪ ،‬إلاَّ أن ترجمته إلى اللغة العربية ضرورية لقيمته التاريخية‪،‬‬

‫السيميولوجيا‪ ،‬ويبقى أن نخصص ذلك الموضوع‪ ،‬وأن نميزه‬

‫ويقول الدكتور عز الدين المجذوب [م‪.‬ص‪ .43‬المترجم]‪:‬‬

‫اإلشارة إليها هو أن اللغة مُدرجة في اللسان‪ :‬لكن ما اللغة؟‪..‬‬

‫ويجب أن يُقرأ هذا الكتاب لهذا الغرض وحده»‪..‬‬

‫«حظي كتاب فردينان دو سوسير في الفترة األخيرة بعناية كبيرة‬

‫من قِبل الباحثين العرب‪ ،‬فظهرت له خالل سنتي ‪ 1984‬و‪1985‬م‬ ‫ثالث ترجمات‪ ،‬وقد تظهر له ترجمة رابعة؛ َ‬ ‫ول َكأَنَّ العرب يحاولون‬ ‫تدارك ما فاتهم من أمر هذا الكتاب الفذ‪ ،‬وقد مضى اليوم عام‬ ‫‪1987‬م على نشره سبعون سنة تداوله فيها الناس‪ ،‬وتناهبه‬

‫الباحثون فكان له من األثر ما هو معلوم في علم اللسانيات‬

‫والثقافة العالمية بوجه عام‪ ..‬وقد يبدو تأخر العرب عن ترجمة‬ ‫هذا الكتاب أم ًرا غريبًا بالنظر إلى قيمة الكتاب وخطره»‪.‬‬

‫نفسها ُم ْدرَجة في‬ ‫األنظمة–‪ :‬هو موضوع اللسانيات التي هي‬ ‫ُ‬

‫على وجه الخصوص من اللسان‪ ،‬وأول النقاط التي ينبغي‬

‫إنها في رأينا ال تتداخل مع اللسان‪ ..‬إنها ليست إال جزءً ا محددًا‬ ‫نفسه َنتاجٌ‬ ‫منه؛ لكنه جزء جوهري بال شك‪ ..‬إنها في الوقت ِ‬ ‫اجتماعي لملكة اللسان ومجموعة من المواضعات الضرورية‬ ‫ٌّ‬ ‫ِّ‬ ‫ليمكن األفرا َد من ممارسة تلك‬ ‫التي يتبناها الكيان االجتماعي‬ ‫الملكة‪ ،‬وإذا أخذنا اللسان في ُكليَّته‪ :‬بدا لنا ُم َتعَ ِّد َد األشكال‪،‬‬

‫ً‬ ‫موزعا في اآلن نفسه بين ميادين متعددة؛‬ ‫متباينَ المقوِّمات؛‬

‫نفسي منتميًا في‬ ‫فيزيولوجي‪ ،‬وبعضها‬ ‫بعضها فيزيائي‪ ،‬وبعضها‬ ‫ٌّ‬ ‫ٌّ‬ ‫اآلن نفسه إلى ما هو َف ْردِيٌّ ‪ ،‬وإلى ما هو اجتماعي‪ ..‬وال يتس َّنى‬ ‫لنا تصنيفه في أيِّ قسم من أقسام الوقائع اإلنسانية؛ ألننا ال‬ ‫نستطيع أن نستخلص وحدته‪ ..‬أما اللغة؛ فهي على عكس ذلك‪:‬‬ ‫ٌّ‬ ‫[بنفسه]‪ ،‬ومبدأٌ يخضع للتصنيف‪ ..‬وما إنْ نجعلها‬ ‫كل قائمٌ بذاته‬ ‫ِ‬

‫في المقام األول بين وقائع اللسان‪ :‬حتى َن ُ‬ ‫دخ َل نظامً ا طبيعيًّا‬ ‫في مجموع ٍة ال تخضع أليِّ نوع آخر من التصنيف [دروس‪/25 ،‬‬

‫التونسية‪ ،29 ،‬العراقية‪ ،28 – 27 ،‬اللبنانية‪ ،21 ،‬المصرية‪– 31 ،‬‬ ‫‪ ،32‬المغربية‪ / 18 ،‬المترجم]؛ وبذلك‪ ،‬وضمن إطار هذه الم َ​َلكة‬

‫التي هي اللسان؛ وهي ملكة حَ ِريَّة بأنْ تتخذ مظاه َر (متعددة‬ ‫األشكال وغير متجانسة)‪ :‬ال تسمح لها بأنْ تتحدَّد بدقة (تكونُ‬ ‫ُ‬ ‫اللغة ُكلاًّ )‪ ..‬ويبقى بالطبع تحدي ُد هُ ِويَّة الموضوع الذي إذا أضيف‬ ‫األقل ‪ْ ( pastout‬‬ ‫َّ‬ ‫إلى كلية اللغة‪ ،‬فإنه سيكوِّن َّ‬ ‫فلنمت ِنعْ مرة‬ ‫الكل‬ ‫أخرى عن هذا التعبير الالكاني) للسان في مفهوم سوسير‪ ..‬ي َّتخِ ذ‬

‫‪87‬‬


‫دراسات‬

‫ُ‬ ‫الكالم ‪parole‬؛ والعالقات‬ ‫ذلك‬ ‫الموضوع في الدروس اسمَ‬ ‫ِ‬ ‫ص بطريق ٍة واضحة َّ‬ ‫بين اللغة والكالم في رحاب اللسان ُت َل ّخ ُ‬ ‫كل‬ ‫الوضوح في الفقرة التالية‪:‬‬

‫تجنبًا لتعريف الكلمات تعريفات عقيمة‪ :‬ميَّزنا في المقام‬

‫األول في نطاق [التونسية ص‪ ،23‬والعراقية ص‪ ،123‬واللبنانية‬ ‫ص‪ ،199‬والمصرية ص‪ ،140‬والمغربية ص ‪ .99‬المترجم ]‪ ..‬نطق‪:‬‬

‫خطأ‪ ..‬الظاهرة الكلية التي يُمثلها اللسان بين عاملين اثنين‪:‬‬ ‫اللغة والكالم‪ ..‬واللغة بالنسبة إلينا هي اللسان إذا ُطرح منه‬ ‫الكالم‪ ..‬إنها مجموع العادات اللغوية التي ِّ‬ ‫تمكن المتكلم من‬ ‫الفهم واإلفهام (دروس ص‪[ ..)112‬التونسية ص ‪ ،123‬والعراقية‬

‫ص‪ ،95‬واللبنانية ص‪ ،99‬والمصرية ص ‪ ،140‬والمغربية ص ‪.99‬‬

‫المترجم]‪ ..‬وبشكل مسبق؛ فالنص ينبثق من التضاد بين اللغة‬ ‫والكالم‪ ..‬عندما نفصل اللغة عن الكالم‪َّ :‬‬ ‫فإننا نفصل في الوقت‬ ‫نفسه [بين]‪ -1 :‬ما هو اجتماعي عما هو فردي [و] ‪ -2‬ما هو‬ ‫ً‬ ‫ونوعا ما َع َرضي (دروس ص‪[ ) 30‬التونسية‬ ‫جوهري عما هو ثانوي‬

‫ص‪ ،34‬والعراقية ص‪ ،32‬واللبنانية ص‪ ،25‬والمصرية ص‪،37‬‬ ‫والمغربية ص‪ .23‬المترجم]‪..‬‬

‫لن أنازع هنا األصول المخطوطة‪ ،‬مع أنها في هذا الموضع‬

‫مختلفة كل االختالف عن نص الطبعة المعتمدة‪ :‬إنَّ األصول‬

‫‪88‬‬

‫المخطوطة ال تدرج –وسأعود إلى هذا الموضوع بالتفصيل في‬

‫الفصل الرابع– اللغة والكالم فقط‪ ،‬لكن اللغة‪ ،‬و(ملكة اللسان)‬ ‫ً‬ ‫أيضا (إنكلر‪1989 -1968 ،‬م‪ ،41 ،‬كوماتسو‪ ..)189 ،‬والكالم‬ ‫لاً‬ ‫يتدخل بعد حين بوصفه كما يبدو عام يسمح بممارسة تلك‬ ‫الملكة‪ :‬إنَّ ملكة اللسان حدث مُ ـمَ يَّز من اللغة‪ ،‬لكنه ال يحدث‬ ‫بدونها‪ ،‬ونعني بالكالم عمل الفرد الذي يمارس مَ لك َته بوساطة‬

‫المواضعات االجتماعية؛ التي هي اللغة‪ ..‬ليس من المتنازع‬ ‫فيه أنَّ نص (الدروس) يقيم َتراتِبي ًَّة بين اللغة والكالم‪ :‬األولى‬ ‫ُ‬ ‫والثانية] (ثانوي) [سنرى في الفصل‬ ‫(جوهرية)‪ ،‬والثاني [بل‪:‬‬ ‫الرابع أن الصفة (ثانوي) هي من زيادة الناشرين‪ :‬لم يسمعها‬ ‫من (سوسير) أي من مستمعيه‪( ..‬المترجم)]‪ ..‬ويوجد هنا على‬ ‫أي حال خطأ ينبغي تالفيه‪ :‬إنه الخطأُ‬ ‫ِّ‬ ‫المتمث ُل في القول‪:‬‬ ‫إنَّ (سوسير) يستبعد من حقل اللسانيات كل ما يستخدمه‬ ‫(المتكلم) من راموز اللغة‪ ..‬إنه خطأ يتك َّرر غالبًا‪ ،‬وسأكتفي اآلن‬ ‫بمثال واحد‪ :‬وكان رد (سوسير) [‪[ ..]...‬قال أبو عبدالرحمن‪:‬‬ ‫؟] هو أن اللسانيات ينبغي أن تقتصر على دراسة اللغة لذاتها‬ ‫[لنفسها] ومن أجل ذاتها (سيرفوني‪ ..9 ،1987 ،‬ونجد مثالاً آخر‬ ‫ِ‬

‫على الموقف نفسه في الفصل الرابع (وهناك العشرات من‬

‫النمط نفسه)‪..‬‬

‫إنَّ ما في (الدروس) يعارض هذا الموقف تمامً ا‪ :‬فنصه ال‬

‫يعدل عن التراتبيَّة التي جرت اإلشارة إليها بين اللغة والكالم؛‬

‫بل إنه يؤ ِّكدها تأكيدً ا قويًّا‪ ،‬وهي قوة مبالغ فيها بال شك إذا‬ ‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬

‫ليس في جزئيات كتاب (سوسير)‬ ‫ما هو راجح؛ فكيف يكون ك ُّله ْ‬ ‫أشبه‬ ‫بقانون ُملْ زم؟‬ ‫ٍ‬ ‫قيست باآلراء التي كان (سوسير) [مع ذلك فإنه قد يحدث لـ‬ ‫(سوسير) أنْ يقيم تراتبية بين اللغة والكالم] يقول [عنها]‪« :‬إن‬

‫ما ينجزه الكالم مما هو مُعبِّر عنه في اللغة يمكن أن يبدو غير‬ ‫جوهري» (كوماتسو‪ ..)283،‬ويقول ً‬ ‫أيضا‪« :‬إن الظواهر األخرى‬

‫[ظواهر الكالم‪ ،‬م‪ .‬أ] تحتل بنفسها تقريبًا مرتبة تابعة[المترجم]‬ ‫يطرحها غالبًا‪ ..‬لكن وجود الفصل الذي ُخصص (للسانيات اللغة‬

‫ولسانيات الكالم) في الدروس يُظهر بوضوح أنَّ اللسانيات عليها‬ ‫أن تهتمَّ باللغة بالتأكيد؛ لكنها تهتم بالكالم ً‬ ‫أيضا»‪.‬‬

‫ومن هنا جاء التدقيق المصطلحي النهائي والحاسم‬

‫واو قبلها]‪ :‬وقد يمكن مع شيء من التجوُّز أن نطلق‬ ‫[األفصح بال ٍ‬

‫اسم اللسانيات على كل من هذين الفرعين‪ ،‬وأن نستعمل‬

‫عبارة لسانيات الكالم‪ ،‬لكن ينبغي أال نخلط بين العبارة األولى‬ ‫واللسانيات بالمعنى الحقيقي للكلمة؛ أي تلك التي موضوعها‬

‫الوحيد هو اللغة (دروس‪[ )39 -38 ،‬التونسية ‪ ،42‬العراقية‬

‫‪ ،38‬اللبنانية ‪ ،33‬المصرية ‪ ،45‬المغربية ‪ / 30‬المترجم]‪( ..‬انظر‬ ‫البحث عن فردينان دو سوسير‪ /‬ترجمة محمد خير محمود‬

‫البقاعي‪ /‬ص‪.)73-71‬‬

‫الكالم والرمز واللغة‬ ‫قال أبو عبدالرحمن‪ :‬أكتفي ههنا بتعليقة واحد ٍة‬ ‫واعدا إنْ شاء الله تعالى بال َّت َق ِّ‬ ‫ً‬ ‫صي في حلقةٍ قادمة؛‬ ‫التعليقة‪ :‬أنَّ بين الكالم والرمز واللغةِ فرقاً‬ ‫ُ‬ ‫وتلك‬ ‫ٌ‬ ‫اس ُتحْ دِ ث مِ ن‬ ‫عظيمً ا؛ فالرمز السيميائي‪:‬‬ ‫ثمرة لما ْ‬ ‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫َّات؛ وغاية ما في األمر‪ :‬أنه ال يُف َّس ُر بالرمز كالمٌ‬ ‫الل َسا ِني ِ‬

‫(ف ُ‬ ‫قديمٌ قبل االصطالح السيميائي الحديث‪ ..‬وأما َ‬ ‫راغ‬ ‫ال َّن ِّ‬ ‫ص) فشيءٌ آخر غير الرَّمْ ز‪ ،‬وله حديث يأتي إن شاء‬

‫الله تعالى‪ ..‬وأما الكالمُ ‪ :‬فإنَّ منه ما ليس له معنى‬

‫َ‬ ‫يوصف بالمُ ْهمل‪ ..‬ومنه ما يكون‬ ‫في اللغة؛ وهو ما‬ ‫ٌ‬ ‫حادث بعد االصطالح السيميائي‪ ،‬أو من‬ ‫له معنى‬

‫ُ‬ ‫اإلهمال‪ ،‬وحكمُ‬ ‫أنفسهم؛ فحكم األول‬ ‫المصطلحين‬ ‫ِ‬

‫َسعُ ه إال‬ ‫الثاني الرمز؛ وإذن فاالصطالحُ اللساني ال ي َ‬ ‫بناءُ ْ‬ ‫تق ِعيدِ ه على قوانين الداللةِ اللغوية‪.‬‬


89


‫دراسات‬

‫على دروب التنوير والحداثة‪..‬‬ ‫حمزة شحاتة وعبدالله عبدالجبار‬

‫علي الدميني‬ ‫شاعر وناقد سعودي‬

‫عمل مفكرو النهضة واألنسنة والتنوير‪ ،‬منذ القرن الرابع عشر الميالدي في أوربا حتى‬

‫‪90‬‬

‫قيام الثورة الفرنسية‪ ،‬على التأكيد على دور أسئلة النقد والشك والنقض؛ لتسييد ثقافة‬ ‫العقالنية وفضاءات الحرية لمواجهة أسئلة وتحديات حياة مجتمعاتهم‪ ،‬ولذلك عادوا‬ ‫إلى ثقافة العقل في الفلسفة اليونانية‪ ،‬وإلى ما حمله فالسفة المسلمين منها وبخاصة‬ ‫«ابن رشد»‪ ،‬ثم فتحوا األبواب بشكل نسبي للفكر النقدي؛ لمقاربة كل المنظومات التي‬

‫وقفت أمام تطور المجتمعات وتقدمها في مختلف الحقول والميادين‪.‬‬

‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬


‫هؤالء األفراد لم يكونوا يمتلكون ترف رسم أفكارهم عىل‬

‫الحرية والعقالنية واإلبداع والثورة عىل قيود األنماط‬

‫معرفية وشجاعة إنسانية حاولوا ثقب الجدران واألسوار؛‬

‫وأساليب البحث عنه لإلمساك به باليدين؛ لذا ترى غريترود‬

‫الجدران أو جذوع األشجار يف نزهة ريفية‪ ،‬لكنهم ببصرية‬ ‫لتفتيق فضاء كوى النور واآلفاق املستقبلية‪ ،‬فعلقوا األجراس‬

‫وقرعوها بقوة؛ لتعرب عن مصداقية صوت العقل والضمري‬ ‫وجدارتهما برفض كل أشكال االستبداد والظلم والتخلف‬

‫ومؤسساتها‪ ،‬يف كل املسارب والحقول‪ ،‬وإن تعددت أشكال‬ ‫هيلمفارب مؤلفة كتاب «الطريق إىل الحداثة» أن عصور النهضة‬ ‫(واألنسنة ‪ ..‬باعتبار اإلنسان محور الحياة والكون‪ ،‬ومصدر‬

‫املعارف) والتنوير تحديدً ا‪ ،‬هي محطات ومقدمات أساسية يف‬

‫التي كانت تعم حياة مجتمعاتهم‪ .‬وعىل الرغم مما عانوه من‬ ‫تحديات دفع بعضهم حياته ثم ًنا لها‪ ،‬فقد ظلت أصواتهم‬

‫هي العقل والحقوق والطبيعة والحرية واملساواة والتسامح‪،‬‬

‫األخرى عرب مئات السنني؛ إذ أسهموا بفاعلية نوعية يف تعبيد‬

‫من أنها تذهب يف هذا الكتاب إىل االنتصار للتنوير الربيطاين ضد‬

‫حية وفاعلة يف وجدان مجتمعاتهم ويف املجتمعات اإلنسانية‬

‫الطريق واستنبات األشجار املعرفية الجديدة التي أنتجت‬ ‫«تيارات نقدية وفكرية وفلسفية ومذاهب سياسية ‪ ،‬كاإلصالح‬ ‫الديني عند لوثر‪ ،‬وفلسفة التاريخ ( هيغل وماركس)‪ ،‬وفلسفة‬

‫القانون ( مونتسيكو)‪ ،‬ونظريات العقد االجتماعي (هوبز ولوك‬

‫وروسو)‪ ،‬والحداثة الفلسفية ( ديكارت)»‪ (.‬إبراهيم الحيدري‬ ‫– عصر التنوير والحداثة – موقع الحوار املتمدن – ‪2015\1\14‬م)‪.‬‬

‫إن التوق إىل حياة تبتسم فيها الحرية‪ ،‬وتتجىل فيها‬

‫مصابيح العقالنية‪ ،‬وتتعمق عرب مخاضاتها ملكات النقد‬

‫والشك والنقض والبناء واإلبداع‪ ،‬هي أصوات «الحداثة»‬ ‫املقموعة عرب العصور القديمة‪ ،‬رغم ما بقي منها من أوراق‬ ‫حية قليلة تبدّت يف الفكر والفلسفة واآلداب‪ .‬لهذا يقرع كانط‬

‫(مؤسس الفلسفة النقدية) يف عام ‪1784‬م أجراسه بصوت‬ ‫عال؛ لتحديد مفهومه للتنوير بالقول إنه‪« :‬خروج اإلنسان‬ ‫ٍ‬ ‫من قصوره املعريف الذي اقرتفه يف حق نفسه من خالل عدم‬

‫استخدامه «لعقله» إال بتوجيه من إنسان آخر»‪ .‬وقال بعد‬ ‫ً‬ ‫شجاعا واستخدم عقلك»‪.‬‬ ‫ذلك جملته الشهرية‪« :‬كن‬ ‫موقع معابر _ كانط والتنوير‪:‬‬

‫‪http://www.maaber.org/issue_january09/‬‬ ‫‪perenial_ethics1.htm‬‬ ‫لكل هذا‪ ،‬فإننا نرى أن هذا الصوت وسواه قد أسهما‬

‫يف خلق حالة «من التحوالت البنيوية الجذرية واالنقالبات‬ ‫أسسا لقيام عصر‬ ‫يف أغصان الحياة التي وضعت‬ ‫ً‬

‫التنوير يف أوربا وأمريكا‪ ،‬وقيام الثورة الفرنسية‬ ‫يف عام ‪1789‬م‪ ،‬التي قضت عىل السلطات‬ ‫والبنى اإلقطاعية والكنسية واالستبدادية‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وتـوجت بالئحة حقوق اإلنسان‪ ،‬وتدشني‬ ‫عصر الحداثة الذي رأى فيه هيغل زم ًنا‬ ‫جديدً ا ‪ ..‬زم ًنا صنعناه بأنفسنا» (إبراهيم‬ ‫الحيدري – املرجع السابق)‪.‬‬

‫الحداثة إذن تبدأ بذلك النزوع‬

‫والتطلع اإلنساين الطويل لبلوغ أزمنة‬

‫بنية فكر وعصر الحداثة‪ ،‬وأن أبرز السمات التي ترتبط بالتنوير‬

‫والعلم والتقدم‪ ،‬حيث يكون العقل يف املقدمة‪ .‬وعىل الرغم‬ ‫التنوير الفرنيس الذي احتكر مفهوم التنوير بجدارة مستحقة‪،‬‬ ‫فإننا سرنى معها أن «التنوير الربيطاين قد حمل سمة إصالحية‬ ‫غري ثورية؛ ألنه عايش مراحل إصالح دينية وسياسية‪ ،‬ويمثل‬ ‫(سوسيولوجيا الفضيلة)‪ ،‬أما التنوير الفرنيس الذي لم يصاحبه‬

‫إصالح ديني أو سيايس‪ ،‬فقد كان تنوي ًرا ثوريًّا‪ ،‬واستند إىل‬ ‫(أيديولوجيا العقل)‪ ،‬فيما ّ‬ ‫مثل التنوير األمرييك (علم سياسة‬ ‫الحرية) املتأثر بثقافة اإلصالح والتنوير الربيطاين»‪( .‬غريترود‬ ‫هيلمفارب ‪ -‬الطريق إىل الحداثة ‪ -‬ترجمة د‪ .‬محمود سيد‬

‫أحمد– نشر عالم املعرفة الكويتية – سبتمرب ‪2009‬م)‪.‬‬

‫‪91‬‬


‫دراسات‬

‫إذ سرنى أنه منذ البدء يف محاضرته سيسفر عن خطابه املعريف‬

‫الناهض عىل الفكر العقالين والفلسفة اإلنسانية‪ ،‬حني يقول‪:‬‬ ‫«وأنا أريد التجريد والتعرية‪ ،‬كباحث ال كمحاضر ‪ ...‬والتجريد‬

‫يف مرحلته األوىل رد املسائل إىل أصولها املفروضة‪ ،‬وإىل أساساتها‬

‫العارية‪ ...‬فالتجريد يمس العقائد الفكرية –ال شك– ويهدم منها‬ ‫شي ًئا ليقيم شي ًئا محله» ‪ ...‬ويميض للرتكيز عىل أهمية الشك‬ ‫نفس‪،‬‬ ‫املعريف بقوله‪« :‬والجديد متى استطاع أن يقيم الشك يف‬ ‫ٍ‬ ‫فإنه قد غزاها الغزوة األوىل»‪.‬‬

‫وحني يتعمق يف منحى التجريد الفلسفي يقف عىل منشأ‬

‫الفضائل بالتساؤالت اآلتية‪ :‬كيف نشأ الشعور بهذه الفضيلة؟‬ ‫وكيف ُف ِر َضت وكيف تم اإليمان بها؟ أو االصطالح عليها؟ وكيف‬ ‫سادت أحكامها؟‬

‫ويذهب يف اإلجابة عن تساؤالته إىل البعد التاريخي العميق‬

‫لتكون التجمعات البشرية‪ ،‬كباحث سوسيولوجي‪ ،‬مؤكدً ا أن‬

‫الخري والشر كانا متزامنني ومرافقني للوجود البشري البسيط‪،‬‬ ‫ويقول يف هذا املنحى‪« :‬وال شبهة‪ ،‬أن اإلنسان قد عرف النفع‬

‫واألذى قبل أن تقوم يف نفسه فكرته األوىل عن الخري والشر‪،‬‬

‫باعتبار مفهوميهما العام‪ ،‬فاهتداؤه إىل الخري والشر‪ ،‬كان بعد‬ ‫عقيدته يف النفع واألذى»‪.‬‬

‫‪92‬‬

‫حمزة شحاتة ( ‪1972 -1910‬م)‬

‫يف الجزء األول من هذه الكتابة‪ ،‬وقفنا عىل النواظم‬

‫األساسية يف اشتغاالت محمد حسن عواد‪( ،‬نشر يف هذه‬ ‫املجلة‪ ،‬العددان ‪ )476 -475‬وهي تأكيد دور العقل والعلم‬

‫ويصل بعد ذلك إىل أن ترسُّ خ قيم الفضائل لم يتم إال‬

‫يف فجر املدنية الفكرية األوىل لإلنسان‪ ،‬نافيًا أن تكون تلك‬ ‫ً‬ ‫موضوعا غريزيًّا ناب ًتا يف قلب اإلنسان‪ ،‬بل يردها إىل‬ ‫الفضائل‬ ‫العالقات االقتصادية واالجتماعية يف التجمعات البشرية‪،‬‬ ‫وهنا نرى صدى وعمق الصراع الفلسفي بني جون لوك وهوبز‬

‫والحرية والثورة عىل التقاليد االجتماعية واألدبية وبخاصة يف‬

‫حول خريية اإلنسان الطبيعية وخرييته املكتسبة واملرتسخة‬

‫وعىل الرغم من أن كتاباته قد افتقرت إىل العمق املعريف‬

‫وحول القيم اإلنسانية الفاضلة التي أنتجتها حاجة‬

‫حقل الشعر‪ ،‬كأسس للنهضة والتنوير والنزوع إىل الحداثة‪.‬‬

‫والفلسفي‪ ،‬فإن نربتها الراديكالية الشجاعة العالية دقت‬ ‫األجراس وأحدثت أصواتها تفاعالت نسبية مع مضامينها‬

‫القوية‪ ،‬يف حياتنا الثقافية؛ لذا يمكننا أن نعده منتميًا لألفكار‬

‫النهضوية العربية التي انحازت إىل التنوير الفرنيس‪.‬‬

‫أما حمزة شحاته‪ ،‬الشاعر البارز الذي نهل بتميز عصري‬

‫من تراث الحداثة الشعرية العربية القديمة‪ ،‬والكاتب املبدع‬

‫يف أسلوبه البياين املعاصر‪ ،‬فقد نهل من منابع الفكر والفلسفة‬ ‫النهضوية األوربية التي وصلتنا عرب أبرز الكتاب واألدباء العرب‬

‫املتأثرين بفاعلياتها‪ .‬ويمكن عده أقرب إىل التنوير الربيطاين النقدي‬

‫واإلصالحي الذي جعل من الفضائل والتعاون والضمري مسارًا‬ ‫رحبًا لتوجهاته‪.‬‬

‫ويف هذه الوقفة السريعة عىل منجزه الثقايف البارز (الذي‬

‫ُقمع بقسوة)‪ ،‬سنشري إىل بعض تجليات تلك الجذور الفكرية‬ ‫يف محاضرته وبيانه املوسوم بـ«الرجولة عماد الخلق الفاضل»؛‬ ‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬

‫بفعل القانون!‬

‫املجتمعات للتعاون من أجل الوقوف ضد كل ما يهدد حياتهم‬ ‫ووجودهم من مخاطر‪ ،‬والعمل عىل التطور والنهوض‪ ،‬يقول‬ ‫بعد ذلك‪« :‬كلنا يؤمن بضرورة االرتقاء والنهوض‪ ...‬فهل أفادنا‬

‫هذا اإليمان؟»‪ ،‬ليؤكد عىل أنه ال قيمة لذلك من دون العمل‬ ‫بهذه القيم والفضائل لبلوغ مرحلة الوفاء لهذا اليقني النائم!‬

‫إنها ثقافة عارفة وفكر عميق‪ ،‬نجدها يف كتابات حمزة‬

‫شحاتة‪ ،‬تنبئ عن فجر مفكر بارز ومنهج فلسفي مطلع يعمد إىل‬ ‫ً‬ ‫عميقا صوب الجذور؛ إلعادة الظواهر والقناعات والقيم‬ ‫الغوص‬

‫إىل أسبابها ليك تسمو الفضائل إىل مصاف الضمري‪ ،‬وهو ما عرب‬ ‫عنه «بالحياء» إذ يقول‪« :‬الحياء‪ :‬قوة النفس‪ ،‬وحرية العقل‪،‬‬

‫وميزان الضمري‪ .‬والرحمة عدالة النفس‪ .‬والعدالة رحمة العقل‬ ‫وبصره وسلطانه»‪.‬‬

‫ويختتمها بشعارات ثقافية يكون الحياء الغائب عنص ًرا‬ ‫مهيم ًنا عىل خطابها‪ ،‬قائلاً ‪ :‬أيها الكاتب الذي يئد الحق والجمال‬


‫على دروب التنوير والحداثة‪ ..‬حمزة شحاتة وعبدالله عبدالجبار‬

‫استح!‬ ‫والقوة ليظهر ‪...‬‬ ‫ِ‬

‫أيها الشاعر الذي يصنع الكذب والباطل والتملق يف شعره‬

‫استح! أيها الفاضل الذي يتاجر‬ ‫فيسجل به عارًا عىل أمته‪...‬‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫استح!‬ ‫بفضيلته ليفيد بها مالاً وسمعة‪....‬‬ ‫ِ‬ ‫أيها الوطني الكاذب الذي ّ‬ ‫ب سبل الجهاد‪ ،‬ويروغ من‬ ‫يتنك ُ‬

‫فلسفة ّ‬ ‫ً‬ ‫تتعلق باملمكن وغري املمكن‪...‬‬ ‫التضحية الصادقة‪ ،‬فيجعلها‬

‫استح! (اعتمدت يف نقل األجزاء املنصوص عىل نسبتها ملحاضرة‬ ‫ِ‬ ‫حمزة شحاتة‪ ،‬عىل نصها املنشور يف مدونة محمود صباغ)‪:‬‬

‫‪https://mahsabbagh.net/201222/09//elrojola‬‬

‫ً‬ ‫وبالغا قرأه مدة خمس ساعات‬ ‫الجماهريي الكبري‪ ،‬فكانت كتابًا‬ ‫متواصلة‪ ،‬قوبل خاللها بعض فقراتها بالتصفيق الحاد ألكرث من‬

‫ثالثني مرة !!‬

‫وقد عرب يف محاضرته عن إحساسه بذلك الخوف‪ ،‬بقوله‪:‬‬

‫فإذا خفت الليلة‪ ،‬فإين أخىش خط ًرا عرفت مشابهه يف نفيس‪،‬‬ ‫فإن ُكتبت يل السالمة –وال أتوقعها– فإنما تكون أثر الحظ‪،‬‬ ‫وخارقة من خوارق املعرفة‪ .‬وما أود أن تكون خاتمتي بينكم‬ ‫ً‬ ‫موتا‪ ،‬بل انتحارًا‪ .‬فاالنتحار –هنا عىل األقل– أضمن لتحقق‬ ‫االختيار من االستسالم للموت‪ .‬ولعله ّ‬ ‫أدل عندي عىل الحيوية‪،‬‬

‫وبعد هذه الخالصة املجحفة بحق ما ورد يف املحاضرة‪ ،‬يخيل‬

‫وتركز اإلرادة ‪ ،‬ووضوح الفكرة ‪ ،‬وقديمً ا قالت العرب‪« :‬بيدي‬

‫فإما حياة تسر الصديق *** وإما ممات يغيظ العدا!‬ ‫لقد كانت املحاضرة ً‬ ‫بيانا شاملاً إىل األمة‪ ،‬من مفكر نهضوي‬

‫كل ما توقعه حمزة شحاتة خالل املحاضرة قد حدث‪ ،‬فقد‬

‫التيارات األدبية يف قلب الجزيرة العربية)‪.‬‬

‫عميق وشجاع ومبدع؛ إذ كان يكتبها وهو يتحسس رأسه رمزيًّا‬

‫تنشر املحاضرة أو أجزاء منها يف الصحف آنذاك‪ ،‬ولم يتفاعل‬

‫يل بأن حمزة شحاتة قد كتبها ويف ذهنه كلمات الشاعر‪:‬‬

‫وتنويري‪ ،‬وكانت من جانب آخر‪ ،‬رصاصته األخرية‪ ،‬كمثقف‬ ‫وحياته معنويًّا‪ ،‬ولكنه كان مص ًّرا عىل الجهر بها يف ذلك املشهد‬

‫ثقافة عارفة وفكر عميق‪ ،‬نجدها في‬ ‫كتابات حمزة شحاتة‪ ،‬تنبئ عن فجر مفكر‬ ‫بارز ومنهج فلسفي مطلع يعمد إلى‬ ‫الغوص عميقً ا صوب الجذور إلعادة‬ ‫الظواهر والقناعات والقيم إلى أسبابها‬

‫ال بيد عمرو»‪( .‬من مقتطفات يف كتاب عبدالله عبدالجبار –‬

‫ألغي النشاط الثقايف لجمعية اإلسعاف الخريي يف مكة‪ ،‬ولم‬

‫مع مضمونها الكتاب‪ ،‬وتعرض شخصيًّا لكثري من املضايقات‬ ‫عىل خلفيتها‪ ،‬ومنها استدعاؤه من مدير األمن العام؛ إذ طلب‬ ‫منه نص املحاضرة‪ ،‬فأجابه بأنه أحرقها! وحينما رأى هذا املثقف‬

‫صخر من‬ ‫الواعي والنابه أنه يبذر يف واد غري ذي زرع‪ ،‬وينحت يف‬ ‫ٍ‬ ‫فراغ‪ ،‬قرر الهجرة إىل مصر عام ‪1944‬م‪ ،‬ومنذ ذلك التاريخ حتى‬

‫وفاته كان قد كسر قلمه إىل األبد!‬

‫ولذلك‪ ،‬وكما يشري الدكتور عبدالله الغذامي يف كتابه‬

‫املهم «حكاية الحداثة»‪ ،‬إىل أن الحداثة يف بالدنا بدأت‬

‫أصداء النهضة والتنوير‬ ‫األفكار الحضارية الفاعلة (كفكر إنساني) تمتلك أجنحة خفاقة تحملها على االنتقال بين األمكنة واألزمنة‪ ،‬باحثة عن‬ ‫ّ‬ ‫التخلق والوالدة واالنبثاق؛ لذا وجدت في عالمنا العربي‪ ،‬كما في غيره‪ ،‬أفرا ًدا يحتفون‬ ‫مثاالتها المتعطشة إلى حاالت‬

‫بطيرانها قريبًا منهم‪.‬‬

‫ولذلك اشتغلت عوامل كثيرة على تأثر نخب العالم العربي بفكر النهضة والتنوير األوربيين‪ ،‬يندرج ضمنها حالة التململ‬

‫والرغبة في االنعتاق من نير االستعمار التركي‪ ،‬والتأثر المباشر باالطالع على مكونات وعود األفكار التنويرية للثورة الفرنسية‪،‬‬

‫والبعثات التعليمية إلى أوربا‪ ،‬والحركة الثقافية للعرب في المهجر‪ ،‬فيما كان للحملة الفرنسية «على الرغم من طابعها‬ ‫وأهدافها االستعمارية» على مصر في عام ‪1798‬م‪ ،‬والشام بعد ذلك‪ ،‬دور مهم في تشكيل مناخات فكر اليقظة والنهوض‬

‫العربي‪ ،‬حين تعرفت تلك النخب المطبعة والكتاب والجريدة‪ ،‬فبدأت في تكوين جمعياتها الثقافية والسياسية‪.‬‬

‫وكان مثقفو رعيلنا األول في المملكة (من أمثال محمد حسن عواد‪ ،‬وحمزة شحاتة‪ ،‬وأحمد سباعي‪ ،‬وعبدالله‬

‫عبدالجبار‪ ،‬وحمد الجاسر‪ ،‬والجهيمان‪ ،‬وغيرهم من معظم المشتغلين بالهم التقدمي في بالدنا) من المتأثرين‪ ،‬بدرجات‬ ‫مختلفة‪ ،‬بفواعل تلك المرحلة العربية‪ ،‬ثقافيًّا وسياسيًّا وأدبيًّا؛ مما حدا بهم إلى اإلسهام المبكر في نقد ثقافة الجهل‬ ‫والتخلف في مجتمعاتنا‪ ،‬واجتراح مهام إشعال أنوار الفكر الحر المتطلع إلى التقدم اإلنساني والحضاري‪.‬‬

‫‪93‬‬


‫دراسات‬

‫من محمد حسن عواد وحمزة شحاتة‪ ،‬ومؤكدً ا عىل‪« :‬أن‬ ‫انكسار وانسحاب شحاتة قد حرم الحركة الثقافية عندنا من‬

‫نموذج مهم له من القوة والعمق ما كان سيكون سببًا لبدء‬ ‫حركة التحديث الثقايف الواعي»‪( .‬عبدالله الغذامي – حكاية‬ ‫الحداثة – املركز الثقايف العربي)‪.‬‬

‫عبدالله عبدالجبار ( ‪2007 – 1919‬م)‬

‫ربما يكون أقرب التوصيفات لهذه القامة األدبية السامقة‬

‫هو املثقف النهضوي والتنويري‪ ،‬الذي كانت بوصلة التقدم‬ ‫والحرية والعدالة االجتماعية والغد األجمل تقوده إىل دروب‬

‫الخيارات الصعبة فيقبل التحدي بصالبة رجل املواقف‪ ،‬ويميض‬ ‫يف مساره برحابة أفق ورؤية واعية‪ ،‬محتملاً النتائج من دون‬ ‫خوف أو تردد‪.‬‬

‫وهو شخصية وطنية تقدمية ترتكز عىل مقومات الثقافة‬

‫الواسعة والعميقة‪ ،‬التي تمتد من سعة االطالع عىل الرتاث‬

‫إىل املدارس النقدية الحديثة –يف مرحلته– حيث يُعد كتابه‬ ‫«التيارات األدبية يف قلب الجزيرة العربية» أحد أهم املراجع‬ ‫األدبية التي رصدت بوعي مختلف مسرية الحياة األدبية يف‬

‫الحجاز قبل توحيد اململكة وبعدها حتى تاريخ نشر الكتاب يف‬

‫‪94‬‬

‫عام ‪1959‬م؛ لذلك سيلحظ قارئ كتابه موقفه النقدي ذا البعد‬ ‫االجتماعي واألخالقي والثوري من النتاجات األدبية التقليدية‬

‫امليتة‪ ،‬مثلما سيقف عىل رؤاه النهضوية التنويرية ‪ ،‬وبخاصة‬

‫ما يتعلق منها بالحرية والعدالة االجتماعية‪ ،‬بما يسمح لنا‬ ‫بالقول بأنه ينتمي للتيارات املتأثرة بالتنوير الفرنيس‪ ،‬وبما‬ ‫يماثله بعد ذلك من تبديات اجتماعية وثقافية مختلفة يف‬

‫خندق ثقافة اليسار العربي‪.‬‬

‫ويبدأ الجانب النقدي من كتابه بالوقوف عىل معنى انطالق‬

‫رصاصة التحرر من االستعمار الرتيك وبدء الثورة العربية من مكة‬ ‫املكرمة يف عام ‪1916‬م‪ ،‬وأثر ذلك يف املناخ الثقايف واإلبداعي العام‬ ‫يف املنطقة‪ ،‬لينتقل بعد ذلك إىل مرحلة تكوين اململكة العربية‬

‫السعودية وما صاحبها من حراك متعدد األشكال والتباينات‪.‬‬

‫ربما يكون أقرب التوصيفات لعبدالله‬ ‫عبدالجبار هو المثقف النهضوي‬ ‫والتنويري‪ ،‬الذي كانت بوصلة التقدم‬ ‫والحرية والعدالة االجتماعية والغد‬ ‫األجمل تقوده إلى دروب الخيارات‬ ‫الصعبة‪ ،‬فيقبل التحدي بصالبة رجل‬ ‫المواقف‬ ‫ً‬ ‫تعريفا آخر‬ ‫رؤيته الجمالية والداللية يف تقييم النص‪ .‬ويضع‬ ‫أسماه الكالسيكية الحية التي تجمع بني السري عىل محاكاة‬

‫ويف ملحات مختصرة وعميقة –تعكس سعة اطالعه–‬

‫أساليب الشعر القديمة يف حياة شعريتنا العربية وامتزاجها‬

‫ضمها كتابه‪ ،‬ويصنفها بحسب موقعها‪ ،‬ضمن ما جرى تبيئته‬

‫سلمى إىل أبي تمام واملتنبي وأبي نواس واملعري‪ ،‬وامتدادها‬

‫يشتغل عىل قراءة وتحديد مالمح النصوص الشعرية التي‬

‫يف الثقافة النقدية العربية‪ ،‬عن مسارات املدارس النقدية‬ ‫الحديثة األوربية التي انتشرت يف مراكز النهضة العربية‪،‬‬ ‫مستعي ًنا يف ذلك بعناوين تلك املدارس النقدية الرئيسة‪ ،‬وبما‬ ‫فتقه منها من عناوين فرعية‪.‬‬

‫ففي تصنيف الشعر املنتمي إىل الكالسيكية يف بالدنا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫توصيفا للكالسيكية امليتة املعتمدة عىل محاكاة القدماء‬ ‫يضع‬

‫يف أساليبهم يف املديح والنفاق‪ ،‬بحيث تغدو التسمية جزءً ا من‬

‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬

‫بالبعد الوجداين الذايت (الرومانيس) للشاعر‪ ،‬من زهري بن أبي‬

‫عندنا من األسكوبي إىل حمزة شحاتة‪( .‬عبدالله عبدالجبار –‬

‫التيارات األدبية يف قلب جزيرة العرب –إشراف محمد سعيد‬ ‫طيب وعبدالله الشريف– دار الفرقان)‪.‬‬

‫وعن التيار الرومانيس يف شعرنا‪ ،‬يكتب خالصة ناقد مطلع‬

‫عليها يف مراجعها‪ ،‬مشريًا إىل بواعثها اإلنسانية التي يتشابه فيها‬

‫كل البشر والناتجة عن وعي ضدي بالواقع املعيش الذي يبعث‬ ‫عىل «القلق واالضطراب [التي] عاش يف ظله األدباء‪ ،‬وشعورهم‬


‫على دروب التنوير والحداثة‪ ..‬حمزة شحاتة وعبدالله عبدالجبار‬

‫بتخلخل املجتمع وانتكاس القيم‪ ،‬وعدم قدرتهم عىل تحقيق‬

‫مآربهم وآمالهم العريضة‪ ،‬يف جو يسوده الجهل والفوىض‬

‫والجمود واالستبداد‪ ...‬فهناك إذن مطامح عظيمة تجتاح قلوب‬ ‫الشعراء‪ ،‬ولكنها تصطدم دائمً ا بعقبات وحوائل تحول دون‬

‫تحقيقها يف واقع الحياة»‪ ( .‬املرجع السابق – ص ‪ ،)274‬وقد اختار‬ ‫يف هذا السياق عددًا من قصائد الشعراء؛ منهم‪ :‬إبراهيم فاليل‪،‬‬

‫وحمزة شحاتة‪ ،‬ومحمد سعيد املسلم‪ ،‬ومحمد حسن فقي‪،‬‬ ‫ومحمد عامر الرميح‪ ،‬ومحمد سعيد الخنيزي‪ ،‬وغريهم‪ .‬أما عن‬ ‫الشعر الرمزي يف نتاجات شعرائنا يف تلك املرحلة‪ ،‬فيذهب إىل‬

‫تحليل معنى املعنى يف قصيدة «الدودة األخرية» للشاعر حسني‬ ‫سرحان املنشورة يف مجلة اآلداب‪ ،‬عدد مارس من سنة ‪1958‬م‪،‬‬

‫التي رأى فيها أنموذجً ا لنقد الطبقة الجشعة التي تمتلك الجاه‬

‫واملال والسلطة‪ ،‬وتقسو عىل البسطاء فتأكلهم‪ ،‬لكن مصريها‬ ‫ً‬ ‫بعضا حتى تفنى!‬ ‫بعد ذلك سيقودها إىل أن يأكل بعضها‬

‫القديمة كواقعية تشاؤمية مغلقة وتصويرية باهتة‪ ،‬ثم‬

‫يف فاتنة جميلة ما لبثت أن تحولت يف النص إىل داللة عىل‬

‫النقدية الحديثة» عىل يدي «غوريك» وأمثاله‪ ،‬وتستند إىل‬

‫ويورد قصيدة حسن القريش «مناجاة» التي بدأها بالتغزل‬

‫«الحرية»‪ .‬كما يشري إىل رمزية قصيدة حمزة شحاتة ضد‬

‫االستبداد‪ ،‬الشهرية «ماذا قالت شجرة ألختها»‪ ،‬وسواها من‬

‫نماذج أخرى‪.‬‬

‫وقد استدعى ضمن حقل ثقافته النقدية‪ ،‬مقارنة دالالت‬

‫تلك النصوص بما يرتامى إىل مشابهاتها من قصائد رمزية‪ ،‬وقف‬ ‫فيها عىل ما أبدعه الشاعر الرويس «بلوك» يف قصيدته «االثني‬

‫عشر» وما حوته من دالالت عن الليل والتسلط‪ ،‬والجنود الذين‬ ‫يرمزون إىل الشعب‪ ،‬والريح التي تومئ إىل القوى القادمة‬

‫لتكوين الحياة الجديدة‪ .‬وأشار إىل ما حملته قصيدة «الوردة‬

‫الخفية» للشاعر اإليرلندي «ييتس» من رمزية‪ ،‬حيث تدل‬

‫الوردة عىل وطنه إيرلندا‪.‬‬ ‫الواقعية النقدية‬

‫ً‬ ‫وممارسة إىل‬ ‫الناقد بعد كل هذا العرض ينتمي فكريًّا‬

‫«الواقعية النقدية»‪ ،‬حيث أفرد لهذا الحقل النقدي اهتمامً ا‬ ‫ً‬ ‫معمقا‪ ،‬تعرض فيه ملفهومها الذي ترتابط فيه الذاتية‬ ‫ثقافيًّا‬

‫الرومانسية بالذاتية الواقعية تاريخيًّا‪ ،‬فعرض لتجلياتها‬

‫األفكار الحضارية الفاعلة تمتلك‬ ‫أجنحة خفاقة تحملها على‬ ‫االنتقال بين األمكنة واألزمنة‪،‬‬ ‫باحثة عن مثاالتها المتعطشة إلى‬ ‫حاالت التخلّق والوالدة واالنبثاق‬

‫تطورها بعد ذلك إىل واقعية تفاؤلية‪ ،‬سميت «بالواقعية‬ ‫الرؤية النقدية للواقع والبحث عن آفاق تطور الحياة يف أبعادها‬ ‫الشاملة‪ ،‬من أجل اإلعالء من شأن إنسانية البشر‪ .‬ويورد‬

‫نماذج متعددة لشعراء تلك املرحلة يف بالدنا ممن عربوا عن‬ ‫ذلك االتجاه‪ ،‬يف أبعاده االجتماعية‪ ،‬والراديكالية‪ ،‬والوطنية‬ ‫والقومية‪ ،‬من أمثال حمزة شحاتة‪ ،‬وماجد الحسيني‪،‬‬

‫واملنصور‪ ،‬والششة‪ ،‬وبابصيل ‪ ،‬وسواهم‪.‬‬

‫ولعل هذه املحاضرات ‪-‬التي صارت كتابًا يف جزأين فيما‬ ‫بعد‪ -‬قد أسهمت يف بقائه طويلاً مغرتبًا عنا يف مصر‪ ،‬حتى‬

‫سُ جن يف العهد الناصري الذي عشقه‪ ،‬وبعد خروجه من‬

‫املعتقل ذهب إىل لندن‪ ،‬حتى عاد إىل الوطن ليميض فيه‬ ‫عشرين عامً ا قبل وفاته‪ ،‬صام ًتا من دون مشاركة يف حياتنا‬ ‫الثقافية واألدبية‪ ،‬عدا تعيينه شرفيًّا مستشارًا لجامعة امللك‬ ‫عبدالعزيز‪ ،‬وملؤسسة تهامة‪ .‬ويف هذا السياق أذكر أنني ذهبت‬ ‫إليه يف جدة إلجراء حوار ثقايف معه ‪-‬بصحبة حسني بافقيه‪-‬‬

‫ملجلة النص الجديد‪ ،‬لكنه اعتذر منا بأدب بالغ!‬

‫وهنا‪ ،‬أخلص إىل القول بأن كتابه «التيارات» ال يُعد إضافة‬

‫أو رافدً ا للنقد األدبي يف اململكة‪ ،‬خالل مرحلته وحسب‪ ،‬بل هو‬ ‫تجاوز الشتغاالت الناقد نفسه خالل املراحل السابقة لتأليف‬ ‫الكتاب‪ .‬ولو ُق ِّدر للكتاب أن ينشر ويوزع يف ربوعنا حينها ألسهم‬

‫بعمق يف ترسيخ ثقافة الدرس النقدي الحديث‪ ،‬ولعمل‬ ‫عىل تطوير الرؤية النقدية ذات البعد االجتماعي والتحديثي‬ ‫والتنويري املفيض إىل دروب الحداثة‪ ،‬عىل الرغم من افتقاره إىل‬

‫إيالء البعد الجمايل يف اإلبداع حقه وموقعه يف قراءة النصوص‬ ‫األدبية التي اشتغل عليها يف هذا الكتاب وسواه!‬

‫‪95‬‬


‫دراسات‬

‫صورة الصراع العربي اإلسرائيلي‬ ‫في الكتب الدراسية البريطانية‪:‬‬

‫دراسة في تحليل الخطاب‬ ‫اللغوي التربوي‬

‫عبدالمحسن بن سالم العقيلي‬ ‫أستاذ المناهج وتحليل الخطاب‬ ‫في كلية التربية ‪ -‬جامعة الملك سعود‬

‫‪96‬‬

‫تحاول هذه الدراسة تحليل صورة الصراع العربي اإلسرائيلي في المنهج الدراسي البريطاني‬

‫كما يعرضها كتاب عنوانه «الصراع العربي اإلسرائيلي»‪ ،‬وهو مقرر دراسي يدرس في المرحلة‬ ‫األساسية الرابعة (‪ )Key Stage 4‬في النظام التعليمي البريطاني‪.‬‬ ‫ً‬ ‫تحديدا‪ ،‬تهدف الدراسة إلى فحص مكونات الجهاز‬ ‫وبشكل أكثر‬ ‫المفاهيمي للخطاب اللغوي التربوي في الكتاب‪ ،‬والكشف‬ ‫عن الرسائل الضمنية والرموز واإلحاالت التي يتضمنها‪ .‬وقد‬ ‫وظفت الدراسة منهجية تحليل الخطاب بوصفها أسلو ًبا‬ ‫فعالاً ومعاصرًا في مقاربة موضوع الدراسة‪.‬‬ ‫وقد أظهرت نتائج الدراسة أن مكونات الجهاز المفاهيمي‬ ‫للخطاب اللغوي التربوي المتضمنة في الكتاب تتمركز‬ ‫في بعدين رئيسين‪ :‬البعد القومي‪ ،‬والبعد الحضاري‪.‬‬

‫ويتكون البعد القومي من ثالثة مكونات أساسية‪:‬‬ ‫ً‬ ‫أرضا لليهود في األصل‪،‬‬ ‫تصوير فلسطين بوصفها‬ ‫وأرض فلسطين بوصفها ًّ‬ ‫حقا إلهيًّا لليهود‪ ،‬والتعاطف مع‬

‫اليهود والمبالغة في تصوير اضطهادهم على مر العصور‪ .‬أما البعد الحضاري‪ ،‬فيتضمن‬

‫ثالثة مكونات‪ :‬هامشية العرب والمسلمين في مقابل مركزية اليهود‪ ،‬وتسطيح القضايا الرئيسة‬

‫في الصراع العربي اإلسرائيلي‪ ،‬والتحيز في االستخدام اللغوي والتناول النقدي‪.‬‬ ‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬


‫خلفية الدراسة‬

‫ً‬ ‫وراعفا؛‬ ‫التاريخ العربي الحديث‪ ،‬وهما جرح ما زال مفتوحً ا‬

‫تكتسب هذه الدراسة أهمية خاصة؛ إذ تأيت يف ذروة‬

‫وهذا يجعلها تحتل مكانة بارزة يف الوعي العربي‪ .‬ويضيف‬

‫الفكر واملفاهيم والقيم وسيطرة القطبية األحادية يف عالم‬

‫وهما املسألة العربية ببعديها القومي واإلقليمي‪ ،‬وما تفرزه‬

‫التطورات العاملية ذات الوترية املتسارعة واملتجهة نحو عوملة‬ ‫اليوم‪ ،‬وانعكاسات كل ذلك عىل املجاالت كافة بما فيها املجال‬

‫الرتبوي والتعليمي‪ ،‬حيث تتعاىل االنتقادات الغربية ملا تحتويه‬

‫املناهج الدراسية يف بعض الدول العربية من مفاهيم ومبادئ‬

‫تبدو لهم غري متسامحة‪ ،‬وترسم صورة سلبية عن اآلخر‬

‫الغربي‪ ،‬عىل الرغم من أن جزءً ا كبريًا مما جاء يف هذه املناهج‬ ‫ينطلق أساسً ا من مجموع األسس الفكرية والثقافية والدينية‬

‫التي بني عليها املجتمع العربي واإلسالمي‪ .‬ولعله من املنطقي‬ ‫يف هذا السياق أن يطرح بعض التساؤالت املتصلة بما تتضمنه‬

‫الكتب الدراسية يف بعض الدول الغربية من قيم ومفاهيم‬ ‫ومكونات فكرية وثقافية‪ ،‬وهل تعكس هذه الكتب األسس‬

‫العقدية والفكرية واالجتماعية السائدة يف تلك املجتمعات؟‬

‫وذلك من أجل مقاربة صورة العرب واملسلمني بشكل عام‪،‬‬ ‫وتحديدً ا صورة الصراع العربي اإلسرائييل يف تلك الكتب‬

‫بشارة أن قضية فلسطني تقع عىل تقاطع مسألتني كبريتني‪،‬‬

‫من صراعات وتعقيدات‪ ،‬وكذلك ما تقدمه من تحفيز وترميز‬ ‫لرفض االستعمار والنزوع نحو التحرر واالستقالل‪ .‬أما املسألة‬

‫األخرى فهي اليهودية العاملية‪ ،‬وذلك عىل أساس أن الغرب‬ ‫هو العالم‪ ،‬وتاريخه هو التاريخ العاملي‪ ،‬وثقافته هي املسيطرة‬

‫يف صنع الصور عىل املستوى العاملي‪ .‬وهي املسألة التي ما زالت‬ ‫ً‬ ‫معلبة إىل منطقتنا من أوربا‪ ،‬التي تمنع رؤية قضية‬ ‫تصدر‬

‫فلسطني بوصفها قضية استعمارية كولونيالية‪ ،‬وتجعل‬ ‫إسرائيل جزءً ا من أوربا والغرب؛ إذ أُخرجت من عالم الشرق‪،‬‬ ‫وصورت عىل أنها ضحية شرقنا العربي‪ .‬ولذلك كله فالقضية‬ ‫الفلسطينية تحمل قدرًا هائلاً من الرمزية والدالالت املكثفة التي‬

‫تجعلها حاضرة دومً ا يف الوجدان والعقل؛ وهذا يجعلها قضية‬

‫مركزية سياسيًّا واجتماعيًّا وتربويًّا‪ .‬ومن هنا يأيت اهتمام بعض‬

‫الدول بتدريس القضية الفلسطينية والصراع العربي اإلسرائييل‬

‫الدراسية؛ وذلك لكون القضية الفلسطينية تقوم عىل رافعتني‬

‫لطالب التعليم العام‪ ،‬وبخاصة يف دول بعيدة جغرافيا؛ مثل‪:‬‬

‫وتعد املسألة الفلسطينية إحدى املكونات الرئيسة للمخيال‬

‫ولعله من املثري للدهشة أن يُخصص كتاب كامل لتدريس‬

‫والفكرية والرمزية‪ .‬ويف هذا املجال يؤكد (بشارة‪ )2009 ،‬أن‬

‫هامشية لهم وملن يف سنهم «الكتاب يدرس لفئة عمرية من‬

‫أساسيتني‪ :‬العروبة واإلسالم‪.‬‬

‫العربي واإلسالمي واإلنساين عىل جميع املستويات الوجدانية‬

‫مأساة احتالل فلسطني وقيام إسرائيل هما عقدة بارزة يف‬

‫بريطانيا وفرنسا وأمريكا‪.‬‬

‫الطالب الربيطانيني هذه القضية‪ ،‬مع أنها قد تبدو قضية‬ ‫سن ‪ 14‬إىل ‪»16‬؛ بل إننا حني ندقق النظر نجد أن أصحاب‬

‫‪97‬‬


‫دراسات‬

‫الشأن «وهم العرب واملسلمون» ال يخصصون كتابًا كاملاً‬

‫لهذه القضية يف كتبهم املدرسية مع مركزيتها يف وجدانهم‬

‫الهيكلية‪ ،‬وفحص املنطق املفاهيمي الداخيل الذي يحكمه‪،‬‬

‫العلوم االجتماعية! وإذا كانت «املعرفة دهشة» كما يقول‬

‫بتعبري أكرث تجريدً ا «ما سكت عنه النص»‪.‬‬

‫ً‬ ‫موضوعا داخل مواد‬ ‫وفكرهم‪ ،‬حيث يكتفى بتدريسها بوصفها‬

‫الفالسفة؛ أي أن الدهشة أحد مصادر التحفيز للمعرفة‪ ،‬فقد‬ ‫وجد الباحث نفسه مشدودًا معرفيًّا ونفسيًّا ووجدانيًّا ملقاربة‬

‫هذا الكتاب وقضيته بالتحليل والدرس العلميني‪ .‬إضافة إىل‬ ‫ما سبق‪ ،‬فإن قضية الصراع العربي اإلسرائييل تعد إحدى‬ ‫القضايا اإلشكالية يف عالقة العالم العربي والغربي؛ لذا فإنه‬

‫من املهم دراسة التنشئة الرتبوية السياسية للطالب تجاهها‪.‬‬

‫وقد جاء اختيار بريطانيا تحديدً ا؛ ألنها تعد واحدة من أهم‬ ‫الدول الغربية التي لها احتكاك مباشر بالعرب واملسلمني منذ‬

‫الحقبة االستعمارية حتى اليوم؛ بل إنها املسؤول األكرب عن‬ ‫املأساة الفلسطينية كما هو ثابت تاريخيًّا‪.‬‬

‫من مجموع ما سبق انبثقت مشكلة هذه الدراسة التي‬

‫تحلل صورة الصراع العربي اإلسرائييل يف كتاب درايس يف‬ ‫بريطانيا‪ ،‬عنوانه «الصراع العربي اإلسرائييل»‪ ،‬ومقاربة‬ ‫مستويات الخطاب اللغوي الرتبوي‪ ،‬والرسائل الضمنية‬

‫واملشفرة املبثوثة فيه‪ .‬ويمكن القول بشكل أكرث تحديدً ا‪ :‬إن‬

‫‪98‬‬

‫كشف وتشخيص عيوب الخطاب‪ ،‬وبيان تناقضاته البنيوية‬

‫مشكلة الدراسة تتمثل يف السؤال اآليت‪ :‬ما أهم مكونات الجهاز‬

‫املفاهيمي للخطاب اللغوي الرتبوي يف كتاب «الصراع العربي‬

‫اإلسرائييل يف املنهج الدرايس الربيطاين؟»‬ ‫منهجية الدراسة‬

‫توظف هذه الدراسة منهج تحليل الخطاب‪ ،‬وهو‬

‫منهج بحثي تحلييل نوعي «كيفي»‪ ،‬وتتسم منهجية تحليل‬ ‫الخطاب بانفتاحها عىل مجموعة من املصادر واملرجعيات‬

‫يف العلوم السياسية واللغوية والفلسفية‪ ،‬بل وحتى‬ ‫التاريخية؛ أي أنها توظف املعطيات واإلنجازات النظرية‬

‫التطبيقية لهذه العلوم‪ .‬كما أنها تهتم بتفكيك العناصر‬

‫املؤسسة لبنية الخطاب «أي خطاب» سعيًا نحو إعادة بنائها‬

‫من جديد بما يسمح برؤية الكليات التي ينتظمها ذلك‬

‫الخطاب‪ ،‬وذلك باستثمار آليات القراءة التأويلية؛ من أجل‬

‫التحليل الدقيق لألفكار والمفاهيم‬ ‫ومستويات الخطاب يشي بما يكشف‬ ‫تاريخا‬ ‫عن هامشية العرب والمسلمين‬ ‫ً‬ ‫وحضارةً وقضيةً في مقابل مركزية‬ ‫اليهود وتفوقهم في عراقة التاريخ‬ ‫وعدالة قضيتهم وأحقيتهم بفلسطين‬ ‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬

‫وفضح املقوالت واألنساق املضمرة التي يحملها الخطاب‪ ،‬أو‬

‫نتائج الدراسة ومناقشتها وتحليلها‬

‫مكونات الجهاز املفاهيمي للخطاب اللغوي الرتبوي يف‬

‫الكتاب‪:‬‬

‫من أجل بناء رؤية تحليلية متماسكة وشاملة لنتائج‬

‫الدراسة‪ ،‬فإن مناقشتها وتحليلها سوف يكون متمحورًا عىل‬

‫إجابة السؤال املركزي للدراسة‪ ،‬وهو‪ :‬ما أهم مكونات الجهاز‬ ‫املفاهيمي للخطاب اللغوي الرتبوي يف كتاب «الصراع العربي‬

‫اإلسرائييل» يف املنهج الدرايس الربيطاين؟‬

‫وألغراض منهجية وتنظيمية‪ ،‬فإن عرض نتائج الدراسة‬ ‫ً‬ ‫وفقا لبعدين (محورين) انتهت إليهما‬ ‫وتحليلها سيكون‬

‫ً‬ ‫وفقا ملنهجية‬ ‫إجراءات وعمليات التحليل النوعي االستقرايئ‬

‫تحليل الخطاب‪ .‬وهذان البعدان هما‪ :‬البعد القومي‪ ،‬والبعد‬

‫الحضاري‪ ،‬ويندرج تحت كل بعد ثالثة مكونات رئيسة‪ ،‬مع‬ ‫الرتكيز عىل املوضوعات الرئيسة التي انتظمت الكتاب؛ إذ تكاد‬

‫تشكل هذه املوضوعات معظم ما يمكن أن يسمى بـ «مكونات‬ ‫الهيكل املفاهيمي والقيمي» الذي أنتجه الخطاب اللغوي‬

‫الرتبوي بجميع تجلياته املختلفة‪.‬‬

‫لقد أظهر توظيف منهجية تحليل الخطاب يف الدراسة أن‬

‫من أهم مكونات الجهاز املفاهيمي للخطاب اللغوي الرتبوي يف‬ ‫الكتاب املحلل ما يأيت‪:‬‬

‫أولاً ‪ :‬البعد القومي‬

‫‪-1‬تصوير فلسطني بوصفها ً‬ ‫أرضا لليهود يف األصل‬

‫من أهم األفكار املركزية التي تنتظم الكتاب تصوير فلسطني‬

‫بأنها أرض لليهود منذ فجر التاريخ‪ ،‬أما العرب واملسلمون فهم‬

‫طارئون عليها‪ ،‬وقد دخلوها يف صورة غزاة‪ .‬ويحاول الكتاب‬ ‫أن يوحي إىل قارئه من تالميذ ناشئني وغريهم أن العالقة بني‬ ‫اليهود وفلسطني مستمرة وطويلة وقديمة حتى يبدوا كأنهما‬

‫متالزمان أو وجهان لعملة واحدة‪ ،‬وهذه الرسالة مبثوثة يف‬

‫الكتاب بشكل واضح؛ بدءً ا من العناوين‪ ،‬وانتهاءً بالنصوص‬

‫والفقرات ذاتها‪ .‬ولعل من األمثلة عىل ذلك عنوان الوحدة‬ ‫الثانية ص ‪ 8‬وهو «فلسطني واليهود‪ :‬من عصر الكتاب املقدس‬ ‫إىل العصر الحديث‪ ،‬وتلح هذه الوحدة عىل التأكيد عىل الحق‬ ‫التاريخي لليهود يف فلسطني وأنهم لعبوا دوراً مهمًّ ا يف تاريخ‬ ‫فلسطني‪ ،‬لقرون طويلة حتى قبل ميالد املسيح؛ بل إنهم‬

‫بلغوا قمة املجد والقوة تحت عهد امللكني داود وسليمان «وهنا‬


‫صورة الصراع العربي اإلسرائيلي في الكتب الدراسية البريطانية‬

‫إشارة إىل مدى عراقة وقدم الوجود اليهودي يف فلسطني‬

‫عاشوا فيها قبل ميالد املسيح‪ .‬باإلضافة إىل ذلك‪ ،‬فإن وصف‬

‫املؤلف يف ص ‪ 8‬ما يأيت‪:‬‬

‫ً‬ ‫انطباعا سلبيًّا عن العرب واملسلمني‪ ،‬ويشكك يف‬ ‫لدى القارئ‬

‫وحكمه لها حتى إنه سابق للميالد نفسه بقرون طويلة»‪ .‬يقول‬

‫‪«The Jewish people played an important part in‬‬ ‫‪the history of Palestine for many centuries before‬‬ ‫‪the birth of Christ… Under the kings David and‬‬ ‫‪Solomon, the Jews reached a peak of power in the‬‬ ‫»‪10th Century Before Christ‬‬

‫دخول العرب واملسلمني لفلسطني بأنه «فتح أو غزو» يخلف‬ ‫مدى شرعية وجودهم فيها‪.‬‬

‫‪-2‬أرض فلسطني بوصفها ًّ‬ ‫حقا إلهيًّا لليهود‬

‫ال يكتفي الكتاب بتصوير فلسطني عىل أنها أرض لليهود‬

‫بمقتىض «الحق التاريخي» وأسبقية وجودهم فيها منذ ما قبل‬

‫ويف خضم هذا اإللحاح يف التأكيد عىل قدم اليهود يف‬

‫ميالد املسيح بقرون‪ ،‬وبلوغهم أوج قوتهم يف القرن العاشر‬

‫اليهود اليوم يف فلسطني ال يتجاوز كونه استعادة لحق طبيعي‬

‫وهو ما يمكن تسميته بـ «الحق اإللهي»؛ أي توظيف الرموز‬

‫فلسطني منذ ما قبل امليالد وهذا يعزز فكرة أن ما يفعله‬ ‫لهم تسنده الوقائع واألحداث التاريخية القديمة قدم التاريخ‬ ‫نفسه‪ ،‬أقول يف خضم كل ذلك ويف موازاته يمعن الكتاب يف‬

‫تهميش الوجود العربي واإلسالمي يف فلسطني‪ ،‬حيث يشري‬ ‫املؤلف إىل أن ذلك الوجود لم يبدأ إال يف القرن السابع امليالدي‬

‫حني فتحت «أو غزيت» فلسطني من العرب أتباع النبي محمد‬ ‫الذين أحضروا معهم دي ًنا جديدً ا هو اإلسالم ولغة جديدة‬

‫قبل امليالد كما مر قبل قليل‪ ،‬لكنه يضيف إىل ذلك أم ًرا آخر‬ ‫واإلشارات واألساطري الدينية يف تدعيم الزعم بأحقية اليهود‬

‫بأرض فلسطني‪ ،‬وكأنها حق وقدر إلهي ال مناص منه لهم‪ ،‬بل‬ ‫ً‬ ‫خاف ما‬ ‫تنفيذا لإلرادة اإللهية‪ ،‬وغري‬ ‫يجب العمل عىل تحقيقه‬ ‫ٍ‬ ‫يف هذا االستثمار الذيك لألساطري الدينية من محاولة إلضفاء‬ ‫هالة من القداسة والطهر عىل املزاعم اليهودية يف فلسطني‬

‫وترسيخها يف الوعي الغربي «وبخاصة الناشئة» بوصفها‬

‫هي العربية‪ .‬كما أن هذا الغزو العربي قاد إىل إيجاد العرب‬

‫حتمية دينية مقدسة ال يجوز حتى مناقشتها‪ .‬ومن األمثلة عىل‬ ‫ً‬ ‫عنوانا ص ‪ 8‬بخط عريض ولون مختلف‬ ‫ذلك أن املؤلف يضع‬

‫يف الكتاب ما يأيت‪:‬‬

‫الحديث عن عالقة اليهود بفلسطني‪« :‬أرض الـمـنـحــة اإللهية‬

‫الفلسطينيني‪ .‬ويف أثناء العصور الوسطى أصبح يف فلسطني‬

‫أغلبية مسلمة تتحدث العربية‪ .‬يقول النص اإلنجليزي األصيل‬

‫‪«In the seventh century, Palestine was conquered‬‬ ‫‪by the Arab followers of the Prophet Muhammad.‬‬ ‫‪They brought a new religion- Islam- and a new‬‬ ‫‪language- Arabic… The Arab conquest led to the‬‬ ‫‪creation of the Arab Palestinian people. During the‬‬ ‫‪Middle Ages, Palestine had an Arabic- speaking‬‬ ‫»‪Muslim majority.‬‬ ‫وقد يكون الغرض من ذلك تمرير رسالة ضمنية مؤداها‬

‫أن العرب واملسلمني طارئون عىل أرض فلسطني حني مقارنتهم‬

‫باليهود‪ ،‬وبخاصة إذا عرفنا أن هذه املعلومة الواردة يف الكتاب‬ ‫جاءت مباشرة بعد التأكيد عىل مدى وعراقة الوجود اليهودي‬

‫فيها‪ ،‬وكأن املؤلف هنا يعقد –ضمنيًّا‪ -‬مقارنة بني اليهود‬ ‫والعرب واملسلمني‪ ،‬وأيهما أحق تاريخيًّا بفلسطني‪ ،‬ومن ثم‬

‫محاولة إنزال هذه األحداث التاريخية وتطبيقها عىل عالم اليوم‬

‫وتوظيفها سياسيًّا لتسويغ احتالل اليهود لفلسطني‪ .‬هذا من‬

‫جهة‪ ،‬ومن جهة أخرى فإن اإلشارة إىل أن الوجود العربي يف‬ ‫فلسطني ناتج عن الفتح أو الغزو العربي اإلسالمي لها يوحي‬

‫للمتلقي أو القارئ أن فلسطني كانت خالية من الجنس العربي‬ ‫واإلسالمي‪ ،‬وأنهم لم يسكنوها إال بعد القرن السابع بعد‬

‫امليالد؛ أي أنها ليست بالدهم األصلية‪ ،‬إنما هي لليهود الذين‬

‫ً‬ ‫صراحة عند‬ ‫عن بقية العناوين والنصوص األخرى يقول فيه‬ ‫‪ .»A God given land‬ثم يأيت تحت هذا العنوان ما يشري‬ ‫إىل أن تاريخ اليهود يف فلسطني والروايات اإلسرائيلية حول‬

‫‪99‬‬


‫دراسات‬

‫تلك الحقب التاريخية قد أخرب عنها يف الكتاب املقدس‪ .‬وهذه‬

‫الصارم لكل ما تعرض له اليهود من مظالم‪ ،‬حتى ليبدو‬

‫شعبه املختار ومنحهم أرض إسرائيل‪ .‬يقول النص اإلنجليزي يف‬

‫له من االضطهاد والتشرد والعذابات؛ بل إن الكتاب يقدم ما‬ ‫يصفه بـ«اضطهاد اليهود» بوصفه شي ًئا أسطوريًّا خرافيًّاً عاب ًرا‬

‫الرواية اليهودية تصف كيف أن الله اصطفى اليهود بوصفهم‬

‫الكتاب ص ‪ 8‬ما يأيت‪:‬‬

‫‪«The Jewish version of this period is told in the‬‬ ‫‪Bible. It describes how God chose the Jews as his‬‬ ‫»‪special people and gave them the land of Israel.‬‬ ‫وهنا محاولة لتمرير رسالة ضمنية لتحويل الروايات‬

‫اليهودية حول فلسطني من مجرد كونها مزاعم وروايات تاريخية‬

‫تقبل الجدل واملناقشة وربما الدحض‪ ،‬إىل مسلمات دينية تجد‬

‫أساسها املقدس واليقيني يف الكتاب املقدس‪ .‬أضف إىل ذلك أن‬

‫النص «وبمرجعية دينية» عىل أن الله تعاىل قد اصطفى اليهود‬ ‫ً‬ ‫مسكوتا عنه وهو اإليحاء بدونية‬ ‫بوصفهم شعبه املختار يتضمن‬ ‫األجناس األخرى‪ ،‬وهم العرب واملسلمون يف السياق العام‬ ‫للكتاب الذي يتناول قضية الصراع العربي‪ -‬اإلسرائييل‪.‬‬

‫للزمان واملكان كمحددين للوجود اإلنساين‪ .‬والدليل عىل ذلك‬

‫أن املؤلف يستعرض بشكل مسهب اضطهادهم زمانيًّا بدءً ا‬ ‫من العصور الرومانية وانتهاءً بالوقت الحاضر وعرب العالم‬ ‫كله مكانيًّا‪ ،‬ومن مختلف األجناس واإلمرباطوريات‪ .‬ويوظف‬ ‫الكتاب عددًا من اآلليات والوسائل اللفظية «سواء يف العناوين‬ ‫أو منت الفقرات» وغري اللفظية من صور ورسوم‪ ،‬من ذلك‬ ‫مثلاً جاء يف ص ‪ 9‬العنوان اآليت يف سياق الحديث عن اليهود‬

‫«الشعب املضطهد ‪ ،»A persecuted people‬وتحت هذا‬ ‫العنوان يقرر الكتاب أنه منذ العصور الرومانية كان اليهود‬

‫منتشرين ومبعرثين حول العالم‪ .‬وخالل العصور الوسطى‪،‬‬ ‫كان التمركز اليهودي األكرب يف أوربا الغربية‪ ،‬وقد هوجم‬

‫اليهود مرارًا من السكان النصارى املحليني‪ ،‬حيث طوردوا من‬

‫‪ -3‬التعاطف مع اليهود واملبالغة يف تصوير اضطهادهم‬

‫إنجلرتا عام ‪1290‬م‪ ،‬ومن فرنسا ‪1394‬م‪ ،‬ومن إسبانيا ‪1492‬م‪.‬‬

‫يتجاوز الكتاب حدود املعقولية واملقبولية يف إظهار‬

‫‪«Since Roman times, the Jewish people have‬‬ ‫‪been scattered all over the world. During the Middle‬‬ ‫‪Ages, the greatest concentration of Jewish people‬‬ ‫‪was in western Europe. The European Jews were‬‬ ‫‪repeatedly attacked by local Christians. Jews were‬‬ ‫‪expelled from England in 1290, from France in 1394,‬‬ ‫»‪and from Spain in 1492.‬‬

‫عىل مر العصور‬

‫‪100‬‬

‫تاريخهم للقارئ الخايل الذهن وكأنه مسلسل طويل ال نهاية‬

‫التعاطف مع اليهود من خالل املبالغة يف التتبع التاريخي‬

‫من أهم األفكار المركزية التي تنتظم‬ ‫الكتاب تصوير فلسطين بأنها أرض‬ ‫لليهود منذ فجر التاريخ‪ ،‬أما العرب‬ ‫والمسلمون فهم طارئون عليها وقد‬ ‫دخلوها في صورة غزاة‬

‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬

‫يقول النص اإلنجليزي يف الكتاب ص ‪ 9‬ما يأيت‪:‬‬

‫وفيما يتصل باستخدام الرسوم والنقوش يف تعزيز‬

‫فكرة اضطهاد اليهود عىل مر التاريخ‪ ،‬تحتل رسمة ملونة‬ ‫ومخرجة بشكل جذاب يف منتصف صفحة كاملة «ص ‪»8‬‬


‫صورة الصراع العربي اإلسرائيلي في الكتب الدراسية البريطانية‬

‫تصور تحطيم الرومان ملعبد يهودي عام ‪70‬م‪ ،‬حيث كتب‬

‫عليها الجملة اآلتية‪:‬‬

‫‪This 17th – century painting shows the destruction‬‬ ‫‪by the Romans of the Jewish temple in AD 70.‬‬ ‫واليشء نفسه يتكرر ص ‪ ،9‬حيث يوجد نقش يعود إىل‬

‫القرن التاسع عشر حول املذابح التي تعرض لها اليهود يف‬ ‫العصور الوسطى يف سرتاسبورغ‪ .‬وقد علق عىل هذا النقش‬

‫بالجملة اآلتية‪:‬‬

‫‪This 19th – century engraving shows a medieval‬‬ ‫‪massacre of Jews in Strasbourg.‬‬ ‫وال يفوت املؤلف أن يتحدث باستفاضة كبرية عن مذابح‬

‫الهولوكوست التي تعرض لها اليهود عىل يد النازية يف أملانيا‪،‬‬ ‫حيث يفرد الكتاب أربع صفحات كاملة من ‪ 15‬إىل ‪ 18‬للحديث‬

‫‪«After Hitler came to power in 1938, Jews in‬‬ ‫‪Germany were discriminated against in many ways.‬‬ ‫‪They were deprived of German citizenship and not‬‬ ‫‪allowed to marry non-Jews. During one night in‬‬ ‫‪November 1938, synagogues were destroyed all‬‬ ‫‪over the country…the Jews of many villages were‬‬ ‫‪rounded up and shot. …leading Nazis met together‬‬ ‫‪and decided to kill the Jewish population of Germany‬‬ ‫‪and German-occupied territory. Jews were taken to‬‬ ‫‪extermination camps to be murdered. By the end of‬‬ ‫‪the war in 1945, about six million Jews had been‬‬ ‫‪murdered and the large Jewish communities of‬‬ ‫»‪central and eastern Europe had been destroyed.‬‬ ‫ومع االعتذار عن هذه النقوالت الطويلة إال أنها ضرورية‬

‫لبيان مدى التعاطف الكبري الذي يفيض به الكتاب مع‬

‫عنها وتصوير مدى هولها وبشاعتها راصدً ا استجابات قادة‬

‫اليهود‪ .‬ولعل الدليل عىل ذلك أن املؤلف ال يسلك األسلوب‬

‫مأساوية ملا القاه اليهود يف أملانيا الهتلرية‪ ،‬فهم قد اضطهدوا‬

‫الصهيونية ضد الفلسطينيني‪ ،‬وهي هولوكوست أخرى‬

‫الصهيونية وبريطانيا وأمريكا لها‪ .‬ويوغل الكتاب يف بناء صورة‬

‫يف أساليب كثرية حيث حرموا من الجنسية األملانية ومنعوا‬

‫من الزواج من غري اليهود‪ ،‬وخالل ليلة واحدة يف شهر نوفمرب‬

‫عام ‪1938‬م حطمت جميع املعابد اليهودية يف أملانيا كلها‪ .‬ومع‬

‫نشوب الحرب العاملية عام ‪1939‬م طوق الجيش األملاين قرى‬ ‫يهودية وقتل سكانها‪ ،‬كما قرر النازيون عام ‪1942‬م قتل اليهود‬

‫يف أملانيا واألرايض التي احتلتها أملانيا‪ .‬وسيق اليهود إىل مخيمات‬ ‫اإلبادة لقتلهم‪ .‬وعند نهاية الحرب عام ‪1945‬م وصل القتىل‬ ‫اليهود نحو ستة ماليني‪ ،‬وحُ ِّطمت مجتمعات يهودية كبرية‬ ‫ً‬ ‫عرضا مختص ًرا لبعض‬ ‫يف وسط أوربا وغربها‪ .‬ما سبق كان‬ ‫األفكار والفقرات التي تضمنها الكتاب ص ‪ ،16‬ومن نصوصها‬

‫اإلنجليزية ما يأيت‪:‬‬

‫نفسه مع املذابح والجرائم البشعة التي قامت بها العصابات‬ ‫يرتكبها اليهود‪ .‬كما أن هذه املذابح التي اقرتفها اليهود ضد‬ ‫الفلسطينيني ال تقدم بذات العرض العاطفي املؤثر الذي‬ ‫قدم من خالله اضطهاد اليهود‪ ،‬وقد يكون هذا جزءً ا من‬

‫التهميش والدونية التي يعرض بواسطتها التاريخ والقضية‬

‫العربية واإلسالمية يف هذا الكتاب‪ ،‬وهو ما سوف يكون مدار‬ ‫الحديث يف الفقرات القادمة‪.‬‬ ‫ثانيًا‪ :‬البعد الحضاري‬

‫‪ -1‬هامشية العرب واملسلمني يف مقابل مركزية اليهود‬

‫التحليل الدقيق لألفكار واملفاهيم ومستويات الخطاب‬

‫التي تنتظم الكتاب ييش بما يكشف عن هامشية العرب‬

‫‪101‬‬


‫دراسات‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وقضية وذلك يف مقابل مركزية‬ ‫وحضارة‬ ‫تاريخا‬ ‫واملسلمني‬

‫اليهود وتفوقهم يف عراقة التاريخ وعدالة قضيتهم وأحقيتهم‬ ‫بفلسطني‪ .‬وإذا ما حاولنا أن نتجاوز «ظاهر النص» إىل «ما‬

‫لم يقله النص»؛ أي إذا واصلنا الحفر املعريف للبنى العميقة‬ ‫للخطاب املتضمن يف النصوص املشكلة للكتاب فإنه يمكن أن‬

‫ننتهي إىل الظواهر الداللية اآلتية‪:‬‬ ‫لاً‬ ‫ً‬ ‫‪-1‬تقدم نصوص الكتاب عرضا تاريخيًّا مفص لليهود يف‬ ‫العالم عامة ويف فلسطني خاصة‪ ،‬حيث تخصص الوحدة‬

‫الثانية كلها للحديث عن تاريخ اليهود فيها وأنهم سكنوها‬ ‫وبنوا فيها مملكة قوية منذ قرون طويلة قبل ميالد املسيح‪،‬‬

‫وربما يعزز هذا التخصيص واالهتمام مفهوم «التميز التاريخي»‬ ‫لليهود‪ .‬وتخصص الوحدة الثالثة للتفصيل يف صعود الحركة‬

‫يقدم الكتاب أحيانا تناوال مخال‬ ‫بالموضوعية عند عرضه لبعض القضايا‬ ‫المركزية في الصراع بين الطرفين‪ ،‬وربما‬ ‫يؤدي هذا التسطيح في التناول إلى‬

‫‪102‬‬

‫الصهيونية بوصفها أيديولوجيا سياسية ناجحة‪ ،‬ولعل يف‬

‫ذلك رسالة ضمنية تبني مفهوم «التميز السيايس» لليهود‬ ‫ً‬ ‫أيضا‪ .‬أما العرب واملسلمون وتاريخهم وحضارتهم فتسكت‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مطبقا‪ ،‬وكأنهم لم يكونوا شي ًئا مذكورًا‪،‬‬ ‫سكوتا‬ ‫النصوص عنها‬ ‫رغم ما يملكونه من تاريخ عريق وحضارة أصيلة‪ .‬وبما أن‬ ‫الكتاب يبحث يف قضية الصراع العربي األمرييك اإلسرائييل‬

‫فإن املوضوعية واإلنصاف يقتضيان أن يعالج الكتاب القضايا‬

‫التاريخية والحضارية املتعلقة بكل طرف بشكل متوازن ال أن‬ ‫يميز ً‬ ‫طرفا عىل حساب طرف آخر‪.‬‬ ‫‪ -2‬الرتكيز عىل الخصوصية الدينية الرتباط اليهود بأرض‬

‫فلسطني‪ ،‬وبأنهم جنس فوق بقية األجناس البشرية األخرى‬

‫فهم «شعب الله املختار» الذين اختارهم الله ومنحهم أرض‬ ‫إسرائيل‪.‬‬

‫‪ -3‬اإليحاء بتفوق العقلية السياسية اليهودية وقدرتها‬

‫عىل تأسيس الصهيونية التي استطاعت أن تجمع شتات اليهود‬ ‫ً‬ ‫محققة بذلك حلم اليهوديني يف العودة‬ ‫وتقيم دولة إسرائيل‬

‫إىل فلسطني‪ .‬ومما يؤيد ذلك أن الكتاب ينقل ص ‪ 15‬أن كثريًا‬ ‫من القادة اإلسرائيليني يرون أن السبب الوحيد لتأسيس‬

‫تمييع القضية األساس؛ ما ينتج عنه إيصال‬

‫دولة إسرائيل هو صعود الحركة الصهيونية يف القرن التاسع‬

‫مضللة للقارئ تخدم الطرف اليهودي‬

‫ما يشري إليه املؤلف ص ‪ 18‬و‪ 19‬من قدرة اليهود عىل استثمار‬

‫رسائل ليست غير دقيقة فقط؛ بل إنها‬

‫عشر وليس االعتداءات النازية عىل اليهود‪ .‬ويتصل بذلك‬

‫التحيز في االستخدام اللغوي والتناول النقدي‬ ‫تختفي الموضوعية من الكتاب في االستخدام اللغوي والعرض النقدي للمفاهيم والقضايا التي تعالجها النصوص‪،‬‬

‫ويمكن توضيح هذه الفكرة في النقاط اآلتية‪:‬‬

‫‪ -1‬يكثر استخدام األفعال السلبية في السياق اللغوي الخاص بالعرب؛ مثل‪ :‬هزموا‪ ،‬ودمروا‪ ،‬وأذلوا‪ ،‬واحتلوا‪،‬‬ ‫ورفضوا‪ ،‬وتجاهلوا‪...‬أما السياق اللغوي الخاص باليهود فهو يندرج تحت المعجم الداللي اإليجابي واإلنتاجي؛‬

‫مثل‪ :‬انتصروا‪ ،‬وبنوا‪ ،‬وأسسوا‪ ،‬واستقبلوا‪ ،‬وأنشؤوا‪ ،‬ونظموا‪ ،‬ونشطوا‪ ،‬وسيطروا‪ ،‬باإلضافة إلى صفات التعدد‬

‫والتنوع التي يوصفون بها‪.‬‬

‫‪ -2‬تغيب النبرة النقدية عندما يتعلق األمر بالحديث عن إسرائيل واليهود وما يرتكبونه في حق الفلسطينيين منذ‬ ‫عقود؛ إذ يكتفي الكتاب بالعرض السردي الوصفي العام من دون أي انتقاد أو لوم‪.‬‬

‫‪ -3‬التأييد المباشر وغير المباشر إلقامة دولة إسرائيل وتأسيس المشروعية التاريخية والدينية لها‪ ،‬مع اإلهمال الكامل‬ ‫للمسألة الفلسطينية وعدم اإلشارة إلى شرعيتها وبداية معاناتها‪ .‬وعندما جاء على ذكر وعد بلفور لم يذكر له أي‬

‫عالقة بالمشكلة الفلسطينية‪ ،‬إنما عرضه من خالل اليهود والمصالح البريطانية‪ ،‬حينما نجح اليهودي وايزمان‬ ‫في إقناع بلفور بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين؛ إذ أقنع بلفور مجلس الوزراء البريطاني بهذه الفكرة التي‬ ‫سوف تساعدها في كسب الحرب العالمية األولى وتسحب أميركا للوقوف معها ص ‪.12‬‬

‫‪ -4‬محاولة الربط بين المسيحية واليهودية؛ وهذا يوحي بأن اليهود قريبون للمسيحيين وهم مستحقون للدعم بناءً‬

‫على ذلك؛ إذ ينص الكتاب ص ‪ 8‬على أن النبي عيسى عليه السالم الذي توفي عام ‪29‬م كان يهوديًّا كما كان أتباعه‬ ‫األوائل كذلك‪.‬‬

‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬


‫صورة الصراع العربي اإلسرائيلي في الكتب الدراسية البريطانية‬

‫صهيونيني المعني ألي يهودي «هرتزل» ص ‪ ،11‬أو زعماء‬ ‫سياسيني ناجحني «جولدا مائري وإسحاق شامري» ص ‪.25‬‬

‫وال شك أن مثل هذه املرجعيات املتنوعة ذات الوزن الثقيل‬

‫ال تؤثر فقط يف طبيعة الحجة املقدمة وتماسكها وقوتها فقط‪،‬‬ ‫وإنما تمتد لتؤثر بشكل كبري يف نفسيات املتلقني لها؛ وهذا‬

‫يمنحها مصداقية أكرب لديهم؛ لكونها صادرة من أساتذة‬

‫وباحثني‪ ،‬أو قادة ومفكرين‪ ،‬أو زعماء سياسيني‪ ،‬وهنا مكمن‬ ‫الخطر‪ .‬أما مصادر الحجج الفلسطينية فهي ال تعدو أن تكون‬

‫صحيفة مغمورة يف أحد مخيمات الالجئني‪ ،‬أو شخصية‬

‫فلسطينية خاملة الذكر‪ ،‬أو إذاعة إحدى الدول العربية الفقرية‬

‫ص ‪ 23‬و‪ ،22‬ومن ثم فإن تأثري هذه الحجج يف أذهان املتلقني‬ ‫ً‬ ‫ضعيفا؛ ألن مثل تلك املصادر‬ ‫لها ومدى اقتناعهم بها قد يكون‬ ‫تفتقد الجاذبية‪ ،‬وربما املشروعية للحديث‪ ،‬والقدرة عىل‬

‫التأثري واإلقناع‪.‬‬ ‫الهولوكوست يف صياغة الرأي العام الغربي يف بريطانيا وأمريكا‬

‫بحيث أصبح مؤيدً ا إلسرائيل‪.‬‬

‫‪ -4‬تصوير إسرائيل بوصفها دولة صغرية محاطة بعدد‬

‫من أعدائها املجاورين لها من العرب واملسلمني‪ ،‬ومع ذلك‬ ‫فقد انتصرت عليهم وأذلتهم يف حروبها معهم؛ بل إن ثالث‬

‫دول عربية «مصر واألردن وسوريا» قد خسرت أرايض كبرية‬

‫يف حرب األيام الستة عام ‪1967‬م بما فيها البقية الباقية من‬

‫أرض فلسطني‪ .‬أما حرب ‪1973‬م‪ ،‬فعىل الرغم من أن إسرائيل‬ ‫هوجمت عىل حني غرة حيث كانوا يحتفلون بيوم العبور‪،‬‬

‫ومعظم القطاعات العسكرية والحربية كانت غري مستعدة‪،‬‬

‫فإن إسرائيل تمكنت من االنتصار يف النهاية وكانت عازمة‬ ‫عىل مواصلة الحرب لوال الضغط األمرييك املكثف عليها‬

‫لوقفها ص ‪ 34‬و‪.35‬‬

‫‪ -2‬تسطيح القضايا الرئيسة يف الصراع العربي اإلسرائييل‬ ‫ً‬ ‫أحيانا تناولاً مخلاًّ باملوضوعية عند عرضه‬ ‫يقدم الكتاب‬

‫لبعض القضايا املركزية يف الصراع بني الطرفني‪ ،‬وربما يؤدي‬ ‫هذا التسطيح يف التناول إىل تمييع القضية األساس؛ مما ينتج‬

‫عنه إيصال رسائل ليست غري دقيقة فقط؛ بل إنها مضللة‬

‫للقارئ تخدم الطرف اليهودي‪ .‬صحيح أن املؤلف يعرض وجهة‬

‫نظر الطرفني‪ :‬العربي واإلسرائييل يف األعم األغلب وهو ما يجب‬

‫أن نقرره بكل صدق وأمانة؛ لكن اإلشكالية تنبع من األسلوب‬ ‫والكيفية التي تقدم بهما حجج كل طرف‪ ،‬فعىل سبيل املثال‬

‫تكون الحجج الداعمة لوجهة النظر اإلسرائيلية أكرث من تلك‬ ‫الداعمة لوجهة النظر العربية‪ .‬هذا أولاً ‪ ،‬وثانيًا أن بعض املصادر‬

‫التي تستقى منها الحجج ذات مرجعيات علمية وأكاديمية‬ ‫«أستاذ للتاريخ يف جامعة أكسفورد» ص ‪ ،55‬أو قادة ومفكرين‬

‫ومن األمثلة عىل تسطيح القضايا الجوهرية يف الصراع‬

‫العربي اإلسرائييل وتمييعها أن الكتاب يعرض لقضية الالجئني‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ومجردة من كل ما‬ ‫مفرغة من بعدها اإلنساين‪،‬‬ ‫الفلسطينيني‬

‫بها من فظاعة‪ ،‬مع أنه لم يفعل اليشء نفسه عندما تناول‬ ‫ما مر به اليهود من محن وتهجري‪ .‬كما أنه يقدم هذه القضية‬ ‫اإلنسانية الكبرية بأسلوب يخفف كثريًا من حدتها‪ ،‬حيث يوحي‬ ‫بأنها قضية تتعدد فيها اآلراء ولها أسباب كثرية‪ ،‬ويسهب يف‬

‫عرض مقوالت متعددة تثبت أن القادة الصهيونيني األوائل لم‬ ‫يقصدوا تهجري الفلسطينيني وأنهم يؤمنون بإمكانية التعايش‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مكثفا لوجهة نظر‬ ‫عرضا‬ ‫معهم ص ‪ .21‬ويورد املؤلف ص ‪25‬‬

‫املسؤولني الحكوميني اإلسرائيليني حيال مشكلة الالجئني من‬

‫حيث إنها مشكلة عربية‪ ،‬فإسرائيل لم تخلقها إنما العرب هم‬

‫الذين بدؤوا الحرب ورفضوا قرار التقسيم ‪ .‬كما أن إسرائيل‬ ‫استقبلت ‪ 600‬ألف يهودي عربي من العراق واملغرب بني عامي‬ ‫‪1948‬م و‪1972‬م‪ ،‬ومن ثم فإنه يمكن للعرب أن يفعلوا اليشء‬

‫نفسه مع الالجئني الفلسطينيني‪ .‬إضافة إىل ذلك فإن القادة‬ ‫العرب يتعمدون عدم حل هذه املشكلة؛ الستخدامها يف‬

‫الدعاية السياسية ضد إسرائيل‪ ،‬والرثوة النفطية العربية قادرة‬ ‫عىل حلها منذ زمن طويل‪.‬‬

‫والحق أن مشكلة الالجئني الفلسطينيني ال تحتاج إىل كل‬

‫هذا الجدل الطويل من الكتاب‪ ،‬فهي ناتجة بالدرجة األوىل عن‬

‫مذابح دير ياسني وعصابات الهاغانا‪ ،‬كما أشار إىل ذلك املؤلف‬

‫لكن من طرف خفي‪ ،‬وبإخراج متواضع‪ ،‬وخط صغري جدًّ ا‪ ،‬وذلك‬ ‫بخالف إخراجه لوجهة نظر املسؤولني اإلسرائيليني السابقة‪ ،‬التي‬ ‫كانت بعنوان كبري وعىل شكل نقاط مركزة وبخط بارز‪.‬‬

‫‪103‬‬


‫نصوص‬

‫قصص قصيرة ج ًّدا‬ ‫جان لوي بالن‬ ‫ترجمة‪ :‬عبدالسالم بن خدة‬ ‫كاتب مغربي‬

‫مسكينة هي فرئان مخترب ‪ NRPB‬بمدينة سيدين األسرتالية؛ إذ أصبحت تتغوط‬

‫بمعدل مرتني أكرث من الفرئان املماثلة لها منذ أن تم إرغامها يوم ًّيا عىل سماع ‪ 45‬دقيقة‬

‫من األصوات الصادرة عن الهواتف النقالة‪.‬‬

‫♦♦♦‬ ‫اآلنسة «ماري س» الواقفة عىل درابزين شيب كنال بريدج بسياتل‪ ،‬كانت تهدد‬

‫عل‪ .‬رجال الشرطة‪ ،‬رجال اإلطفاء‪ ،‬القنطرة املغلقة‪ ،‬عرقلة السري‪،‬‬ ‫بإلقاء نفسها من ٍ‬

‫‪104‬‬

‫قلة صرب سائقي السيارات انتهوا إىل حث اليائسة عىل القفز‪ .‬وهو ما قامت به بالفعل‪.‬‬ ‫♦♦♦‬

‫كان السيد «مرتان»‪ ،‬من ساكني غرونوبل‪ ،‬يتسكع عىل سكة الرتامواي املهملة من‬

‫طرف عمال الرتام املضربني‪ .‬نهاية مفاجئة لإلضراب‪ ،‬مرت قاطرة غري منتظرة؛ لن يكون‬ ‫بمستطاع السيد «مرتان» امليش سوى برجل واحدة‪.‬‬ ‫♦♦♦‬ ‫وهو يرتنح من الفرح بعد رأي جماعي ألطبائه أعلنوا فيه شفاءه التام من املرض‬

‫املرعب الذي أصابه‪ .‬غادر السيد «فيليكس» املستشفى وث ًبا‪ .‬لكن سرعان ما عاد إليه؛‬ ‫لعدم انتباهه إىل القدوم املباغت للحافلة رقم ‪.31‬‬

‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬


‫نصوص‬

‫َص ْه‪ ،‬ال ت َُب ِّ‬ ‫الم َطر ‪..‬‬ ‫ل‬ ‫ل ِث َ‬ ‫ياب هذا َ‬ ‫ْ‬ ‫عصام رجب‬ ‫شاعر سوداني‬

‫(‪)1‬‬

‫هذا املساء‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫سيقول َ‬ ‫لك املطر‬ ‫َثمَّ َة شجَ ٌ‬ ‫رة‬ ‫ٌ‬ ‫وحيدة‬

‫هُ ناك ‪...‬‬ ‫َّ‬ ‫الط ُ‬ ‫ريق إىل َخ ْ‬ ‫ص ِرها‬ ‫مَ حْ ُف ٌ‬ ‫وفة بِظمأٍ يطول‪،‬‬ ‫وأخىش ‪...‬‬ ‫ُق ْل َله‪:‬‬

‫تشغ ُل َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫بال ال ُّنجوم‬ ‫القصائد التي‬

‫تنتظ ُرك‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫عارية الحِ برْ ِ ‪،‬‬ ‫ِلك َّ‬ ‫تحت ت َ‬ ‫َ‬ ‫الشجَ رة ‪...‬‬ ‫(‪)2‬‬ ‫مَ َط ٌر مِ سكني‬

‫َ‬ ‫يجه ُ‬ ‫أبسط األشياء‬ ‫َل‬ ‫يط ُر ُق بابَك‬

‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫منزلك‬ ‫غادرت‬ ‫وقد‬ ‫ُ‬ ‫منذ ِسنني ‪...‬‬ ‫ها هُ و مُ ب َت ُّل الثياب‬

‫نيس كعا َد ِت ِه‬ ‫فقد‬ ‫َ‬ ‫يأخذ مِ َّ‬ ‫َ‬ ‫أنْ‬ ‫ظل َته العَ تيقة‬

‫التي أهداها له أحَ ُدهُ مْ ‪،‬‬ ‫ال يذ ُك ُر اآلنَ مَ نْ هو‪،‬‬

‫َ‬ ‫َ‬ ‫قبل أنْ‬ ‫يموت بِساعات ‪...‬‬

‫(‪)3‬‬

‫ُ‬ ‫ستقول لك‪:‬‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫خفيف َكغيم‪،‬‬ ‫«أنت‬

‫وامل َ َط ُر الذي بِك‬ ‫َّ‬ ‫كأنه قامَ ِل َتوِّه‬

‫مِ نْ‬ ‫السابِعة ‪...‬‬ ‫سرير سمائه َّ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫خفيف َ‬ ‫َ‬ ‫الغيم‬ ‫أنت‬ ‫رت ِسوى األناشيد‬ ‫فاخ ْ‬ ‫أُ‬ ‫ً‬ ‫رجوحة َلك ‪» ...‬‬

‫ال تتأمَّ ْل كثريًا يف حَ ني ِنها‪،‬‬ ‫وقد َت َّ‬ ‫ْ‬ ‫شظى‬

‫حِ نيَ طا َر طريُك‪،‬‬ ‫َ‬ ‫أناشيد ‪ ...‬وال ‪...‬‬ ‫فال َغيمَ ‪ ...‬وال‬ ‫(‪)4‬‬ ‫الخارج‬ ‫المَْط ُر الذي ي َُط ْق ِط ُق أصابِعَ ه يف‬ ‫ِ‬ ‫َخبرِّ ْه َّأنهُم أقاموا ال ُبيوت‬ ‫يك يتش َّر َد يف ُّ‬ ‫الط ُرقات‬

‫نايات ْ‬ ‫والجُ دران ‪...‬‬ ‫وسطوح ال ِب‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫يسيل‬ ‫ويك‬

‫وهو يرجُ ُ‬ ‫ف مِ نَ البرَ ْد‪،‬‬

‫ولكِنْ‬

‫ال أحد‬

‫سيف َتحُ َله الباب‬ ‫أو يأويه ً‬ ‫ليلة واحِ دة‬ ‫ِ‬ ‫يف ُغ َ‬ ‫رف ِة ُّ‬ ‫الضيوف ‪...‬‬

‫‪105‬‬


‫حوار‬

‫المفكر اللبناني أوضح أن المشروع اإليراني‬ ‫يرمي إلى تفكيك دول المشرق العربي‬

‫علي حرب‪:‬‬

‫شخص يحرص على نظافة البيئة أفضل‬ ‫متطرف‬ ‫من داعية مشعوذ أو مثقف‬ ‫ّ‬ ‫حاوره في بيروت‬ ‫محمد الحجيري‬

‫‪106‬‬

‫نعت أو ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫رمز أو‬ ‫اسم أو‬ ‫«أنا كائن ال يستغرقه‬ ‫قناع‪ ،‬بل إني أشعر بأن لي َ‬ ‫ُ‬ ‫عنيت‬ ‫ألف وجه ووجه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ٌ‬ ‫بعضا‪ ،‬بل‬ ‫يغلف بعضها‬ ‫ب‬ ‫أنني‬ ‫مركب من ُح ُج ٍ‬ ‫لشخوص أجهل‬ ‫إني أشعر بأن نفسي هي مسرح‬ ‫ٍ‬ ‫إقليمها ومضاربها‪ .‬هكذا فأنا مجموع طيّاتي أو‬ ‫شبكة أطيافي وهواماتي»‪ .‬هكذا يعرف الكاتب‬ ‫والفيلسوف اللبناني علي حرب المعروف بآرائه‬ ‫النقدية الحرة والمثيرة لإلعجاب‪ ،‬والمتميز بنصه‬ ‫الفكري الرشيق القائم على نوع من فن الكتابة‪،‬‬ ‫وقد أغنى حرب الحقل الفلسفي في موضوعات‬ ‫تردد كثيرون في ولوجها‪ ،‬وبرع بنقده مأزق الهوية‬ ‫وأوهام الحقيقة‪ ،‬انتقل جهده من البحث‬ ‫عن الحقيقة إلى نقد خطابها؛ إذ ال‬ ‫نستطيع اإلمساك بها‪ ،‬وكتابته بقيت‬ ‫ً‬ ‫ودائما تجدد منطلقاتها‪.‬‬ ‫ابنة زمنها‪،‬‬ ‫«الفيصل» التقت المفكر علي‬ ‫حرب في بيروت وحاورته حول‬ ‫كتبه وقضايا أخرى‪.‬‬

‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬


‫ـــــ‬

‫من منظور نقدي‪ ،‬كيف تقرأ ظاهرة «داعش‬

‫وأخواتها»‪ ،‬كيف تفسرها؟ هل هي إفرازات الحداثة وصدام‬

‫«القيم الحضارية» أم نتاج النص الديني وخطاب الواعظين أم‬ ‫لعبة االستخبارات الدولية والتجاذبات؟‬

‫ال شك أن اإلرهاب الجهادي هو عنف فاحش ال سابق له‪،‬‬

‫كما تشهد نماذجه كحرق الناس أحياء‪ ،‬أو قتلهم في المقاهي‬ ‫والمالعب‪ ،‬أو دهسهم بشاحنة في الساحات والميادين‪ .‬وال‬ ‫يفوق هذه األعمال البربرية سوى ما قام به ذلك اإلسالمي الذي‬

‫فقأ عيني زوجته؛ ألنها لم تمتثل ألمره بالذهاب إلى سوريا‬

‫لتنفيذ عملية انتحارية‪ .‬مثل هذا العنف األعمى يحتاج إلى قراءة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وتحلل األسباب التي تقف وراءه‪ .‬والقراءة‬ ‫تتقصى جذوره‪.‬‬ ‫الجذرية تتناول المسائل على مستواها الفكري‪ ،‬أي من جهة‬

‫لم ينجح الفالسفة العرب في‬ ‫إنتاج نصوص (نظرية‪ .‬حقل‪ .‬منهج‪.‬‬ ‫وتحتل‬ ‫تيار) تخرق السقف المحلي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫مكانتها في ساحة الفكر العالمي‬ ‫داخل اإلسالم أم بين المسلمين وسواهم‪ ،‬بقدر ما اشتغل أئمّتها‬

‫بلغة التكفير والردّة‪ ،‬أو بعقلية الكره والحقد‪ ،‬أو بمنطق اإلقصاء‬ ‫والنفي المتبادل‪ .‬والحصيلة هي كل هذه البحار من الدماء‪ ،‬وكل‬

‫هذا الخراب المادي والمعنوي‪ ،‬كما تصنعه الحروب األهلية‬ ‫الطاحنة أو األعمال اإلرهابية الوحشية على يد الجهاديين من‬ ‫أهل الخالفة أو المجاهدين من أتباع الوالية‪ .‬لنحسن التشخيص‪.‬‬

‫العقليات وأنماط التفكير وأساليب التعامل‪ ،‬ما دامت ميزة‬ ‫ّ‬ ‫ويتفكر فيما يحدث له أو يصنعه‬ ‫اإلنسان هي أنه كائن يفكر‬

‫إذا أردنا معالجة المشكلة‪ ،‬لإلرهاب هويته اإلسالمية‪ ،‬بوجهيها‬

‫الظاهرة‪ ،‬منها ما هو خارجي كتدخل القوى الكبرى والدول‬

‫وبما هي إستراتيجية جذرية‪ ،‬راديكالية‪ ،‬عدائية‪ ،‬ال تنتج سوى‬

‫من حيث ال يحتسب‪ .‬قد تكون هناك عوامل مساعدة النتشار‬

‫الالعبة على المسرح‪ .‬ومنها ما هو داخلي؛ سياسي أو معيشي‪،‬‬

‫حضاري أو نفسي‪ ،‬كما هي مفاعيل األزمات الناجمة عن الفقر‬ ‫والجور واالستبداد أو عن االستالب واإلحباط‪ .‬لكن األساس في‬ ‫تجسد في األطروحة‬ ‫نشوء الظاهرة هو أيديولوجي ثقافي‪ ،‬كما‬ ‫ّ‬ ‫األصولية السلفية الرامية إلى أسلمة الحياة‪ ،‬بإقامة دولة‬

‫الخالفة وتطبيق الشريعة‪.‬‬ ‫هكذا ّ‬ ‫نظر وش ّرع اآلباء المؤسسون لمشروع اإلسالم‬

‫السياسي‪ ،‬من علماء ومرشدين ودعاة؛ من رشيد رضا وحسن‬

‫البنا وسيد قطب إلى الخميني وعلي خامنئي‪ ،‬ومن حسن الترابي‬ ‫إلى راشد الغنوشي‪ ،‬وصولاً إلى طارق رمضان‪ .‬هذه األطروحة هي‬ ‫ما تعمل على ترجمتها على أرض الواقع المنظمات اإلرهابية؛‬

‫مثل‪ :‬القاعدة‪ ،‬وداعش‪ ،‬والنصرة‪ ،‬ومثيالتها في المعسكر‬ ‫السني‪ ،‬أو أضدادها في المعسكر الشيعي‪.‬‬ ‫ُّ‬

‫ـــــ‬

‫أين هو دور القرآن الداعي إلى الوسطية واالعتدال‬

‫والتسامح؟!‬

‫حشر القرآن ال يفيد في المساجلة حول تفسير الظاهرة‬ ‫اإلرهابية‪ ،‬أولاً ‪ -‬ألن الخطاب القرآني هو كالم يحتمل القول‬

‫ونقيضه‪ ،‬بقدر ما هو كالم مفتوح على التأويالت المتعددة‬ ‫يتشكل ً‬ ‫ّ‬ ‫وفقا لمنطق‬ ‫والمتعارضة؛ ثانيًا‪ -‬ألن تاريخ اإلسالم لم‬ ‫التعارف وال بحسب فضيلة التقوى‪.‬‬

‫ـــــ‬

‫ما الذي شكله إذن؟‬

‫إنها المنظومات العقائدية واألنساق الفقهية التي تضيِّق ما‬

‫اتسع وتقطع ما اتصل‪ .‬فهي التي أسّ ست لالنشقاق والعداوة‪ ،‬سواء‬

‫الدعوي والجهادي‪ ،‬بما هي نمط فكري أصولي اصطفائي‪ ،‬مغلق‪،‬‬

‫ّ‬ ‫التعصب والتط ّرف والعنف‪ .‬من هنا تبدأ المعالجة‪ :‬تفكيك هذا‬

‫النمط من التفكير وكسر نماذجه وصوره‪ ،‬أو قوالبه وأختامه‪ .‬وهذا‬

‫يقتضي ثورة في برامج التعليم الديني‪ ،‬بقدر ما يتطلب الصدق‬ ‫مع النفس وشجاعة فائقة وعقلاً‬ ‫ً‬ ‫خالقا‪ ،‬قادرًا على إيجاد المخارج‬

‫واستنباط الحلول‪ .‬ال سيما أن اإلرهابيين إنما يكتبون‪ ،‬ببربريتهم‪،‬‬ ‫التي ال نظير لها‪ ،‬نهاية المشروع الديني‪.‬‬

‫ـــــ‬

‫كيف ذلك؟‬

‫لكل ظاهر ٍة وجهها اآلخر‪ .‬من هنا قولي‪ :‬إن الجهاد اإلرهابي هو‬

‫آخر مراحل اإلسالم السياسي‪ .‬وهذه هي حصيلة كل سعي للتطابق‬ ‫ً‬ ‫حليفا‪،‬‬ ‫مع األصل‪ :‬انتهاكه باستئصال كل مخالف ولو كان قريبًا أو‬ ‫كما هي العالقة‪ ،‬مثلاً ‪ ،‬بين داعش والنصرة‪ .‬هذا هو مآل العودة‬ ‫إلى نماذج مستهلكة أو بائدة لتطبيقها في هذا العصر‪ :‬اإلطاحة‬

‫بمكتسبات الحضارة القديمة والحديثة‪ ،‬وانتهاك كل المقدسات‬

‫آن واحد‪.‬‬ ‫والقيم واألعراف‪ :‬أي البربرية والعدمية في ٍ‬ ‫عنصرية البلدان األوربية‬

‫ـــــ‬

‫كيف تفسر صعود اليمين المتطرف في أوربا وأميركا‬

‫وشخصيات؛ مثل‪ :‬نوربرت هوفر النمساوي‪ ،‬ودونالد ترامب‬ ‫األميركي‪ ،‬ومارين لوبين الفرنسية‪ ،‬وبوريس جونسون‬

‫البريطاني؛ إضافة إلى انفصال بريطانيا عن االتحاد األوربي‪،‬‬

‫هل هو إخفاق لليسار أم ردة فعل تجاه الالجئين واألجانب؟‬

‫ال شك أن العنصرية «تزدهر» اليوم في البلدان األوربية‪،‬‬

‫وبخاصة بعد تدفق الالجئين والمهاجرين بسبب الحروب‬ ‫األهلية‪ ،‬وباألخص بعد تصاعد اإلرهاب الذي ّ‬ ‫ولد نماذج ترد على‬

‫‪107‬‬


‫حوار‬

‫التطرف بمثله‪ .‬هذا ما يحدث اآلن بعد صعود لوبن في فرنسا‬

‫(نقد العقل)‪ ،‬هي من أخصب المراحل‪ ،‬كما مثلها أعالم مثل‪:‬‬

‫النماذج العنصرية الفاضحة‪ .‬ومع أن بريطانيا أثبتت انفتاحها‬

‫الفالسفة العرب‪ ،‬على أهمية ما أنجزوه‪ ،‬في إنتاج نصوص‬ ‫ّ‬ ‫وتحتل‬ ‫(نظرية‪ .‬حقل‪ .‬منهج‪ .‬تيار)‪ ،‬تخرق السقف المحلي‪،‬‬

‫أو ترامب في أميركا أو جونسون في بريطانيا‪ ،‬وسواهم من‬ ‫بانتخاب عمدة للندن‪ ،‬المسلم البريطاني صادق خان‪ ،‬فإن التيار‬

‫اليميني‪ ،‬المحافظ والعنصري‪ ،‬صار أقوى من ذي قبل‪ ،‬ومن‬ ‫فضائحه أن إحدى الشخصيات السياسية البريطانية التي كانت‬ ‫ّ‬ ‫مرشحة لمنصب رئيس الوزراء‪ ،‬إنما تتهم الرئيس األميركي‬

‫مكانتها في ساحة الفكر العالمي‪.‬‬

‫ـــــ‬

‫أوباما‪ ،‬بأنه نصف كيني ونصف أميركي‪ .‬تفسيري للظاهرة أن‬

‫كيف ّ‬ ‫تفسر ذلك؟‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫أشير إلى خلل متعدد الوجوه‪ :‬األول هو غلبة هواجس‬

‫المختلفة والمتعارضة‪ .‬وما نحسبه ماضيًا قد يعود‪ ،‬إذا تهيّأت‬

‫بوصفه تح ّرر الفكر من كل أشكال الوصاية على العقل‪ .‬والثاني‬

‫اإلنسان هو كائن جيولوجي تتداخل فيه األطوار وتتراكب المراحل‬

‫له األسباب‪ ،‬عودة مرعبة‪ ،‬كما هي عودة الدين بعقول وحوشه‬

‫اإلرهابية‪ ،‬أو كما يشهد صعود التيارات العنصرية والفاشية من‬ ‫أحشاء المجتمعات الغربية‪ ،‬وعلى نحو مفاجئ وصادم‪.‬‬

‫التح ّرر السياسي والنضال الوطني على مهام التنوير العقلي‪،‬‬ ‫هو غلبة االعتبارات األيديولوجية‪ ،‬القومية أو الدينية‪ ،‬على‬

‫مشاغل المعرفة ولغة الفهم‪ ،‬على حين أن الفلسفة هي خطاب‬

‫عقالني عابر لحواجز اللغات والثقافات واالنتماءات‪ .‬أشير إلى‬ ‫عائق ثالث هو األهم ومضمونه أن مشكلة العقل العربي ُفهمت‬

‫والدرس المستخلص هو أن الماضي يتوارى وال يمحى‪،‬‬ ‫ً‬ ‫تفكيكا‪،‬‬ ‫يجر العمل عليه وصرفه‪ ،‬تعرية وتصفية أو‬ ‫إذا لم‬ ‫ِ‬

‫بوصفها آتية من خارجه؛ من السلطات السياسية أو الدينية‬

‫ومنازع العنصرية‪ .‬ومع ذلك ال ينبغي أن نثق ثقة مفرطة‬

‫أن مشكلة العقل عامة‪ ،‬هي بنيوية‪ ،‬داخلية‪ .‬وأساس ذلك أن‬

‫لسراديب الذاكرة ومعسكرات العقيدة‪ ،‬أو ألفخاخ الهوية‬ ‫باإلنسان‪ .‬وإال كيف نفسر تحول الضحية إلى جالد‪ ،‬والمظلوم‬ ‫إلى قاهر ظالم! مما يعني أن القيم المتعلقة بالمساواة والعدالة‬

‫‪108‬‬

‫أركون والجابري وحنفي والعروي وصفدي‪ ..‬ومع ذلك لم ينجح‬

‫أو الحقوق والحريات ليست مكتسبات نهائية‪ ،‬بل هي محتاجة‬

‫على الدوام إلى تعزيزها وتوسيعها وتفعيلها‪ ،‬بابتكار مساحات‬

‫أو أطر وسياق للتداول والتبادل والعمل المشترك‪.‬‬

‫ـــــ‬

‫هناك إشكالية دائمة‪ ،‬يختلف المهتمون بالفلسفة‬

‫في البلدان العربية بشأنها‪ ،‬وهي هل يوجد نص فلسفي في‬

‫العالم العربي؟‬

‫أو من اجتياح الخرافة له من جانب ثقافة أخرى‪ .‬على حين‬ ‫العقل ال ينفك عن أوهامه وخرافاته وممارساته المعتمة‪ ،‬فيما‬ ‫هو ينتج أدواته المنهجية وأنساقه المعرفية وصيغه العقالنية‪.‬‬

‫وهكذا فالوهم حاكم على العقل‪ .‬من هنا جاءت حاجته الدائمة‬ ‫إلى النقد‪ّ .‬‬ ‫لعلي أشير إلى عامل رابع هو أن الفالسفة العرب لم‬ ‫يتصرفوا بصفتهم العالمية‪ ،‬بل وقعوا في فخ تجنيس العقول‬ ‫بحديثهم عن عقل عربي أو إسالمي أو غربي‪ ،‬على حين خطاب‬

‫العقل ال هوية له؛ ألنه يخاطب جميع العقول‪ ،‬بصرف النظر‬ ‫عن جنسيات أصحابها‪ ،‬أو عن المعطيات التي يشتغلون عليها‪.‬‬

‫من هنا نجد أن بعض الفالسفة والمفكرين الذين يقيمون‬

‫هناك جهد فلسفي عربي قد انبثق وانتظم‪ ،‬شرحً ا أو ترجمة‬ ‫ً‬ ‫وتأليفا‪ ،‬منذ االحتكاك بالعالم الحديث‪ .‬وهذا الجهد الذي امتدّ‬

‫في هذا البلد األوربي أو ذاك ويحملون جنسيته‪ ،‬كما هو شأن‬ ‫المقيمين في فرنسا‪ ،‬مثالاً ‪ ،‬وبخاصة من كان منهم من أصول‬

‫تجلى في تعدد المذاهب واالتجاهات الفكرية التي هي‪ ،‬في‬

‫وعقولهم مشدودة إلى العالم العربي‪ .‬لم ينخرطوا في قراءة‬

‫على مراحل مختلفة‪ ،‬بدءً ا من عصر النهضة حتى المعاصرين‪،‬‬ ‫معظمها‪ ،‬استعادة للمنتج في أوربا وأميركا من الحركات‬

‫الفكرية؛ مثل‪ :‬الوجودية والوضعية والذرائعية والبنيوية‪ ،‬أو‬

‫من فروع المعرفة؛ مثل‪ :‬الظاهراتية واألناسة وأصول المعرفة‬

‫أو أثريات المعرفة‪ .‬وال شك أن المرحلة األخيرة المتعلقة بالنقد‬

‫العالم العربي هو اليوم في‬ ‫واضطرابا‪،‬‬ ‫وترديا‬ ‫أسوأ أحواله تفك ًكا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫باستثناء دول الخليج التي تشكل‬ ‫المساحة الحضارية المتبقية‬ ‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬

‫مسلمة‪ ،‬قد وقعوا في قوقعة الهوية‪ .‬لذا فقد كتبوا وألفوا‬

‫المجريات وتشخيص الواقع العالمي بمشكالته وتحدياته؛‬ ‫لكي ينتجوا أفكارًا تستأثر باهتمام اإلنسان المعاصر أيًّا كان‬

‫انتماؤه‪ .‬هذا ما حاولت تجنبه منذ البداية‪ ،‬بحيث تصرفت‬ ‫بوصفي عاملاً في حقل معرفي‪ ،‬هو الفلسفة‪ ،‬همّ ي األول‬

‫تجديد العُ دّ ة الفكرية عبر تشخيص الواقع‪ .‬هذا ما تشير إليه‬ ‫عناوين كتبي‪( :‬التأويل والحقيقة‪ -‬نقد النص‪ -‬أوهام النخبة‪-‬‬ ‫ً‬ ‫وانطالقا من‬ ‫حديث النهايات‪ -‬هكذا أقرأ‪ -‬العالم ومأزقه‪)...‬‬

‫ذلك فأنا أكتب عن أرسطو والفارابي وابن رشد وابن عربي‪،‬‬ ‫كما أكتب عن ديكارت وكانط وهيغل وهيدغر وفوكو‪ ...‬كذلك‬

‫فأنا أتناول األزمة المالية العالمية‪ ،‬وأفكك الظاهرة األصولية‬ ‫المعولمة‪ ،‬وأكتب عن األزمة في فرنسا‪ ،‬وأكتب عن األزمات‬


‫متطرف‬ ‫علي حرب‪ :‬شخص يحرص على نظافة البيئة أفضل من داعية مشعوذ أو مثقف‬ ‫ّ‬

‫في العالم العربي‪ .‬واألزمة في العالم العربي‪ ،‬في هذا العصر‬

‫حيث تتشابك المصالح‪ ،‬ال تنفصل عن أزمة العالم‪ ،‬بل هي‬ ‫وجه من وجوهها تتأثر بها‪ ،‬كما تغذيها‪ ،‬بعد أن اع ُتبر العرب‬ ‫مصدرًا لتصنيع اإلرهاب وتصديره‪.‬‬

‫من هنا تشخيصي للواقع العالمي بقولي‪ :‬ثالث كلمات‬ ‫تلخص اليوم األزمة الكونية‪ ،‬هي أولاً التخبّط؛ إذ الالعب على‬ ‫المسرح من القوى الكبرى والدول الفاعلة‪ ،‬إنما يتردد بين‬

‫النقيض والنقيض في مواقفه وسياساته‪ .‬وثانيًا التورط؛ إذ هو ال‬

‫يصنع سوى مآزقه‪ ،‬بمعنى أن حلوله للمشكالت يجعلها تزداد‬ ‫ً‬ ‫وثالثا التواطؤ‪ ،‬بمعنى أنه ال يخدم إال عدوّه‪ ،‬بقدر ما‬ ‫تعقيدً ا‪.‬‬ ‫يصنع النماذج التي يدّ عي محاربتها‪.‬‬

‫ـــــ‬

‫في رأيك هل انتهت الفلسفة في‬

‫زمن التحوالت‪ ،‬وهل بقي من دور للفلسفة؟‬

‫للفلسفة جذرها الراسخ في حياة البشر‪،‬‬

‫ما دام اإلنسان‪ ،‬كما م ّر ذكره‪ ،‬هو كائن ميزته‬

‫ّ‬ ‫ويتفكر‪ ،‬بالعودة النقدية االرتدادية‪،‬‬ ‫أنه يفكر‬

‫على ذاته وأفكاره وأعماله‪ ،‬بالنظر والتأمل‪ ،‬أو‬

‫بالمراجعة والمحاسبة؛ لتقصي أسباب األشياء‬

‫أو تحليل الظواهر أو قراءة التجارب أو تشخيص‬

‫المشكالت‪..‬‬

‫لذا ال يعرى إنسان من منزع فلسفي‪ .‬كل واحد‬

‫يمكن أن يتفلسف‪ ،‬عندما يتفكر ويتساءل؛ لكي يعرف‬

‫والهجرات؛ العرب إلى أين؟‬

‫ً‬ ‫تفككا وترديًا‬ ‫العالم العربي هو اليوم في أسوأ أحواله‬

‫واضطرابًا‪ ،‬باستثناء دول الخليج التي تشكل المساحة‬ ‫ّ‬ ‫ولعل المجتمعات العربية تدفع اآلن ثمن‬ ‫الحضارية المتبقية‪.‬‬

‫ّ‬ ‫يخص إصالح أحوالها وتطوير حياتها‪،‬‬ ‫عجزها أو ممانعتها فيما‬

‫بالطرائق السلمية والديمقراطية‪ ،‬كما فعلت شعوب أخرى‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وشل الطاقات الحية‪،‬‬ ‫وكانت الحصيلة هي هدر الموارد‪،‬‬

‫والوصول إلى هذه النهايات الكارثية‪ ،‬كما تتمثل في االنفجارات‬ ‫والحروب األهلية والتدخالت الخارجية؛ إذ أصبحت دول‬

‫مثل‪ :‬سوريا والعراق واليمن وليبيا ولبنان‪ ،‬ساحات مفتوحة‬

‫لكل داعية مشعوذ أو جنرال متغطرس‬ ‫ّ‬ ‫متدخل من الخارج‪ .‬والخارج ال‬ ‫أو العب‬ ‫ّ‬ ‫يحل لك مشكلتك‪،‬‬ ‫يعتمد عليه‪ ،‬أي ال‬ ‫بل يجعلها تزداد تعقيدً ا‪ ،‬بانتظار ّ‬ ‫حل‬ ‫مشكلته أو ضمان مصالحه‪ .‬واإلنسان‪،‬‬ ‫فردًا كان أم جماعة‪ ،‬إنما يحصد‬

‫ما يزرع‪ .‬وهذا مآل ما ال يحسن‬

‫طي صفحة وفتح أخرى في‬ ‫ّ‬ ‫سجل الحقيقة؛ لكي يتدبر‬ ‫حاضره ويهيئ لمستقبله‪،‬‬ ‫بما يبتكره في مجال من‬

‫المجاالت‪ ،‬وعلى النحو الذي‬

‫يتيح له المشاركة في صناعة الحضارة‪ .‬وإذا كانت أجيالنا‬

‫أسباب ما يحدث‪ ،‬أو لكي يحسن تدبير شؤونه‪ ،‬بتغيير أسلوبه‬

‫قد أخفقت أو عجزت أو حتى تواطأت‪ ،‬فاألمل في األجيال‬

‫أو مشكلة‪ ،‬تمامً ا كما أن هناك أناسً ا ليسوا بشعراء لكنهم‬ ‫ً‬ ‫أحيانا بصورة شاعرية‪.‬‬ ‫يتحدثون‬

‫في االنتفاضات والثورات العربية‪ ،‬التي تألب ضدها ثالوث‬ ‫االستبداد واإلرهاب في الداخل والغزو من الخارج‪.‬‬

‫لتجديد العدة الفكرية‪ ،‬فيضع نظرية في األسباب‪ ،‬أو يجترح‬

‫الحضاري‪ ،‬إال بتغيير العقليات والمفاهيم وأنماط التفكير‪.‬‬

‫في التفكير أو طريقته في المعالجة‪ ،‬عندما تواجهه صعوبة‬

‫أما الفيلسوف المحترف فهو الذي يشتغل على األفكار‬

‫طريقة في التفكير‪ ،‬أو يصوغ معادلة وجودية فيما يخص‬ ‫العالقة بين الذات والفكر والواقع‪ ،‬كقول ديكارت‪ :‬انا أفكر ً‬ ‫إذا‬ ‫أنا موجود‪.‬‬

‫الجديدة من القوى الحيّة والمدنية‪ ،‬وقد شهدنا نماذج منها‬

‫لكن ال عودة إلى الوراء‪ .‬ال مخرج من هذا المأزق‬

‫من غير ذلك سنحصد المزيد من الخراب والكوارث‪ .‬والتغيير‬ ‫ّ‬ ‫متأله أو بطل منقذ؛ ألن‬ ‫لم يعد صنيعة زعيم أوحد أو قائد‬ ‫أعمال النهوض واإلصالح أو التطوير والتحسين‪ ،‬هي مسؤولية‬

‫لذا لن تموت الفلسفة‪ ،‬لكنها تتطور بموضوعاتها ونظرياتها‬

‫المجتمع بكل دوائره وقطاعاته وفاعلياته‪ .‬ودور الحكام‬

‫ابن رشد أو كانط‪ ،‬فلن نجد فلسفة؛ ألن الفلسفة تكتب اآلن‬

‫نحو يتيح للمجتمع أن يتحوّل إلى ورشة دائمة من التفكير‬ ‫على ٍ‬

‫جديدة للحياة‪ ،‬أو تقتحم ُصعُ دً ا جديدة للوجود غير مسبوقة‬

‫وهذا هو الرهان أمام البلدان العربية‪ :‬أن تتقن لعبة الخلق‬

‫ومناهجها‪ .‬ولو حكمنا على ما يُكتب اليوم‪ ،‬بمقاييس أرسطو أو‬

‫بأشكال وأنماط وأساليب مختلفة‪ ،‬كما تنفتح على مجاالت‬ ‫وال متوقعة‪.‬‬

‫تفكك العرب واضطرابهم‬

‫ـــــ‬

‫بعد موجة الحركات والتظاهرات والحروب والنزوح‬

‫والساسة‪ ،‬هو المساعدة على فتح اآلفاق واألبواب والفرص‪،‬‬ ‫الحي والخالق‪ ،‬بقدر ما يترجم إلى عمل تنموي مثمر وبناء‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫والفتح؛ لكي تمارس وجودها وحضورها على سبيل الجدارة‬

‫واالستحقاق‪ .‬فهي تملك موارد هائلة طبيعية وبشرية‪ ،‬رمزية‬ ‫وتراثية‪ .‬ولكن ما ينقصها هو الرؤى المستقبلية والسياسات‬

‫الرشيدة أو اإلدارات العقالنية واإلستراتيجيات الفعالة‪.‬‬

‫‪109‬‬


‫حوار‬

‫مشروع شمولي‪ ،‬أو إلى فرد في قطيع تسيره الغرائز العمياء‬

‫والفالتة من كل معيار‪ ،‬كما نعاني في البلدان العربية ذات‬

‫التركيب الطائفي المتعدّ د‪.‬‬

‫فأنا ال يعنيني أن يكون الواحد مسيحيًّا أو مسلمً ا على هذا‬

‫المذهب أو ذاك‪ .‬ما يعنيني بالدرجة األولى عمله وما يتقنه‪،‬‬ ‫رئيسا أم عاملاً ‪ ،‬أم كاتبًا أم فالحً ا‪ ،‬أم صاحب شركة‬ ‫سواء أكان ً‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫بسيطا‪ ...‬إن امرءً ا يحترم قانون السير أو يحرص على‬ ‫موظفا‬ ‫أم‬

‫نظافة البيئة‪ ،‬هو في نظري أفضل من داعية مشعوذ أو مثقف‬ ‫متط ّرف يحدثنا‪ ،‬من على الشاشة‪ ،‬عن مشاريعه وحروبه التي‬ ‫تقود إلى هالك العباد وخراب البالد‪.‬‬

‫ـــــ‬

‫ـــــ‬

‫يكاد اإلنسان يدمّر الطبيعة بجشعه وتكالبه وجهله بما يفعل‪.‬‬

‫لذا فالحفاظ عليها هو أولى من جميع العقائد واأليديولوجيات‬

‫كيف تقرأ هويتك وأنت القائل في كتابك «خطاب‬

‫التي تدمر من جهتها جسور التواصل بين البشر‪ .‬من هنا كان‬ ‫نقدي لهويتي الثقافية‪ ،‬مدخلاً لنقد هويتي كإنسان وهو األهم‪،‬‬

‫وإثنيني وبوذيّ وزنديق‪..‬‬ ‫المعاني‪ ،‬ومسيحي ويهودي ووثني‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫من هنا كان السؤال عن ماهيّته‪ :‬أين أنا من كل هذه ُ‬ ‫‏الهويّات؟‬

‫المنطلق إلى ذلك هو أزمة المشروع الحداثي‪ .‬فبعد كل هذه‬ ‫العهود والمواثيق حول حقوق اإلنسان‪ ،‬نجد أن أكثر من يسيء‬

‫التنوع واالختالف‪ ،‬إبان الحرب األهلية التي لم تنته بعد؛ بسبب‬

‫التنوير العقلي والتطور الهائل في العلوم والمعارف‪ ،‬تنتهي‬

‫وقبلي وعربي ومسلم‬ ‫الهوية‪ ،‬سيرة فكرية»‪ :‬أنا بدوي وجاهلي‬ ‫ّ‬ ‫ولبناني شيعي عاملي ويوناني وغربي وفرنسي بمعنى من‬

‫‪110‬‬

‫ّ‬ ‫الحد تكتسب مسألة البيئة أهميتها في نظرك؟‬ ‫ألهذا‬

‫أنا عبرت عن مفهومي لهويتي على هذا النحو المفتوح على‬

‫التعامل مع الهويات بمنطق االصطفاء والنقاء والثبات‪ .‬وهكذا‪،‬‬

‫فإن التجارب المريرة واإلخفاقات المتالحقة والمعايشات‬ ‫اليومية‪ ،‬بمعاناتها ومكابداتها‪ ،‬حملتني على وضع هويتي‪،‬‬ ‫كلبناني وعربي ومسلم‪ ،‬على طاولة النقد والتشريح؛ للكشف‬

‫على ما هو شأن المقاربة الوجودية والتحليل الفلسفي‪ .‬وكان‬

‫إليها هم دعاتها وحراسها‪ .‬وبعد كل هذه العصور واألطوار من‬

‫المجتمعات البشرية إلى مثل هذه المآالت البائسة أو الكارثية‪،‬‬

‫من تلويث البيئة إلى االنهيارات المالية‪ ،‬ومن أزمة الديمقراطية‬

‫إلى صعود األصوليات الدينية والعنصرية‪ .‬وكل ذلك يشهد على‬ ‫عجز اإلنسان عن التدبير وفقدانه السيادة على نفسه‪.‬‬

‫هذا ما دعاني إلى إعادة النظر في مفهوم اإلنسان‪ ،‬بتفكيك‬

‫عمّ ا يقف وراءها من األوهام الخادعة والقوالب الجامدة أو الصور‬ ‫ّ‬ ‫تشكلت‬ ‫النمطية والتهويمات النرجسية‪ .‬وكانت حصيلة ذلك أن‬

‫العدّ ة التي صنعنا بها إنسانيتنا أو صنعتنا‪ ،‬من حيث ال‬

‫اآلخر‪ ،‬بقدر ما هي شبكة تأثيراتها المتبادلة وسيرورة تحوّالتها‬

‫والعصمة والبطولة والنخبة والنجومية‪ ،‬وسواها من الصور‬

‫عندي قناعة جديدة مضمونها أن الهوية هي ِن َسبها وعالقاتها مع‬ ‫المستم ّرة‪ .‬وهذا شأن الهوية الغنية والقوية أو المزدهرة‪ .‬إنها‬ ‫قدرتها على التواصل والتفاعل مع اآلخر‪ ،‬بقدر ما هي طاقتها‬

‫على التجدّ د في ضوء التحوالت وعلى وقع األزمات‪ .‬فكيف ونحن‬ ‫في عصر التواصل والتداول واالعتماد المتبادل‪ ،‬حيث تشابك‬ ‫المصالح والمصاير‪.‬‬

‫ـــــ‬

‫ولكن أليس هناك محطات ثابتة لهويتك؟‬

‫نعقل‪ ،‬كما هي مفاعيل مفردات كاأللوهة والقداسة والعظمة‬

‫والنماذج والقيم‪ .‬وهكذا فما ندافع عنه هو ما نشكو منه‪.‬‬ ‫بهذا المعنى يتجاوز النقد الصراعات األيديولوجية والصدامات‬

‫الثقافية‪ .‬والرهان للخروج من المأزق‪ ،‬هو اشتغال اإلنسان‬ ‫على نفسه لصوغ مفاهيم ونماذج أو قيم وقواعد جديدة إلدارة‬

‫شؤونه وشؤون الكوكب‪ .‬من هنا ال مخرج إذا لم ننجح في إدارة‬ ‫العالم ً‬ ‫وفقا إلستراتيجية جديدة تنبع من رؤية جديدة‪ ،‬بل من‬

‫إنسان جديد‪ .‬هذا ما يجعلني أعود دومً ا إلى مانديال الذي قضى‬

‫بالتأكيد‪ .‬هناك ثالث ركائز‪ .‬بلدي لبنان حيث أقيم وأعمل‪،‬‬

‫في السجن ‪ 27‬عامً ا‪ .‬وعندما تح َّرر بلده وتولى سدة الرئاسة‬ ‫ً‬ ‫خالفا للقانون‪ ،‬وهو الرمز المقاوم والمحرر‬ ‫لم يشأ التجديد‪،‬‬

‫الضيقة‪ ،‬بل ال أعترف بها وأحاول التح ّرر من تصنيفاتها الخانقة‬

‫مثل هذا النموذج الذي اتسم صاحبه بالتعقل ضد التعصب‪،‬‬

‫ثمّ مهنتي ككاتب‪ ،‬ثمّ هويتي العربية لكوني أنطق وأكتب‬ ‫بالعربية‪ .‬ال تعنيني كثي ًرا األصول الدينية أو األطر الطائفية‬

‫التي تحشر الفرد تحت خانة لتحيله إلى رقم في حشد لخدمة‬ ‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬

‫والمؤسس‪ .‬نحن نفتقر‪ ،‬وبخاصة في العالم العربي‪ ،‬إلى‬ ‫وبالتواضع ضد التأله‪ ،‬وبالخضوع للقانون ضد االستبداد‬


‫متطرف‬ ‫علي حرب‪ :‬شخص يحرص على نظافة البيئة أفضل من داعية مشعوذ أو مثقف‬ ‫ّ‬

‫واالنفراد بالحكم؛ لذا‪ ،‬ال نبحثنّ عن العلة في العولمة‪ ،‬وال في‬

‫ً‬ ‫إمكانا للتفكير ُفتحت معه أبواب‬ ‫وهكذا‪ ،‬فإن أعمالي شكلت‬ ‫جديدة بالمقاربة والمعالجة أمام النقاد والك ّتاب والدارسين‪،‬‬

‫األنا النرجسية والعقلية المفخخة‪ ،‬والذاكرة الجريحة‪ ،‬والهوية‬

‫في كتاباتهم الفلسفية‪ ،‬أو استخدموا تقنياتها المنهجية في‬ ‫ً‬ ‫وصيغا‬ ‫الدرس والتحليل‪ ،‬أو اقتبسوا منها أو نقلوا عنها أفكارًا‬

‫التقنية‪ ،‬وال في السوق المفتوحة أو في الرأسمالية المتوحشة‪.‬‬

‫بل في اإلنسان‪ ،‬فهو مصدر كل هذا التوحش الذي هو حصيلة‬

‫الموتورة‪ ،‬والنفس األمَّ ارة‪.‬‬ ‫الشخصية الثقافية‬

‫ـــــ‬

‫فاعتمدوها مراجع في تحصيلهم‪ ،‬أو نسجوا على منوالها‬

‫استخدموها في مؤلفاتهم ومقاالتهم‪.‬‬

‫بعد عقود من االنغماس في الكتابة والمقاربات‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ كيف تتعاطى اآلن مع كتابك «أوهام النخبة» الذي‬

‫العالمية واألضداد والتناقضات والفتوحات والصدامات؛‬

‫أما كتاب «أوهام النخبة» الذي رسخ لنقد المثقف‪ ،‬فيكفي‬

‫الفلسفية والفكرية إلى جانب أنك عشت تحوالت الثقافة‬ ‫كيف تقرأ شخصيتك الثقافية باختصار وموقعك في حقل‬ ‫الفلسفة‪ ،‬وما الذي لم تكتبه بعد؟‬

‫كانت له أصداؤه الواسعة في الساحة الثقافية؟‬

‫أن أذكر هنا أنه بعد صدوره قال لي أحد المثقفين الذي أصبح‬ ‫صديقي‪ :‬بعد قراءتي الكتاب خرجت على حزبي السياسي‬

‫ّ‬ ‫يخص شخصيتي‪ ،‬أشعر بأن هناك فجوة بين موقعي‬ ‫فيما‬

‫الفاشي‪.‬‬

‫بجهة أو مؤسسة أو جماعة أو حزب أو حتى صحيفة‪ .‬أما من‬ ‫حيث موقعي الفكري‪ ،‬فأنا‪ ،‬على العكس‪ ،‬أُمارس حضوري‬

‫مؤخ ًرا سئل جيجك‪ :‬ماذا نفعل في مواجهة الرأسمالية التي‬

‫جيجك؟‬

‫بالطبع ليس عبر عالقاتي أو منصبي‪ ،‬لكوني عاريًا من أي منصب‬

‫علينا أن نقلب نظرية ماركس؛ ألن المطلوب ليس فهم العالم‬

‫ككاتب‪ ،‬وبين مكانتي االجتماعية أو السياسية‪ .‬على هذا الصعيد‬ ‫ً‬ ‫أحيانا‪ ،‬بأنني أضعف خلق الله؛ لكوني ال أرتبط أو ألوذ‬ ‫أشعر‬

‫وأثري في المشهد الثقافي اللبناني والعربي‪ ،‬وربما خارجه‪،‬‬ ‫ثقافي أو سواه‪ ،‬بل عبر أعمالي ونصوصي ال غير‪ .‬وبات من‬

‫النرجسية أن أعاود الحديث عن األثر الذي تركته أعمالي‪ .‬بدءً ا من‬

‫ـــــ‬

‫كيف تقرأ في هذا السياق كتابات الفيلسوف سالفوي‬

‫ال تتوقف عن التوسع واالنتشار؟ أجاب‪ :‬لست أدري‪ ،‬ثم أضاف‬ ‫كما يفعل الفالسفة‪ ،‬بل تغييره؛ أي العودة إلى موقف الفالسفة‪.‬‬ ‫وعندما كان أحدنا يقول قبل عشرين عامً ا‪ ،‬على وقع‬ ‫انهيار المشاريع األيديولوجية للنخب الثقافية‪:‬‬

‫كتابي «التأويل والحقيقة» (‪1985‬م)‪ .‬ثم‬

‫إن النظريات واإلستراتيجيات السائدة في فهم‬

‫كتاب «النص والحقيقة» بأجزائه الثالثة‪،‬‬ ‫وباألخص «نقد النص» الذي اع ُتمِ د مقررًا‬

‫العالم وتغييره‪ ،‬قد فقدت مصداقيتها‪ ،‬وباتت‬

‫دراس ًّيا في جامعة باريس منذ عقدين‪،‬‬ ‫وما أعقب ذلك من كتب اس ُتقبلت بوصفها‬

‫بحاجة إلى التغيير‪ ،‬كان يُتهم صاحب الرأي‬

‫بأنه بورجوازي ومعا ٍد للتقدم‪ .‬واآلن يأتي‬

‫طريقة جديدة في التفكير‪ ،‬أو أسلوبًا جديدً ا‬

‫جيجك ليتبنى هذا الرأي ويتخلى عن‬ ‫رأي ماركس بوصفه تعبي ًرا عن موقف‬

‫في الكتابة الفلسفية‪ ،‬أو رؤية مختلفة‬

‫بورجوازي سابق‪ .‬وهكذا فإن جيجك‪،‬‬ ‫ً‬ ‫عوضا من أن يعيد النظر في أساس‬

‫إلى األشياء والعالم‪ .‬فالفالسفة مشهورون‬

‫بأنهم من عشاق الحقيقة وشهدائها‪ .‬ثم‬

‫مشروعه‪ ،‬يع ّد كل ما هو رأسمالي‬ ‫خاط ًئا‪ ،‬وكل ما هو اشتراكي صحيحً ا‪،‬‬

‫أتى من يكتب عن «نقد الحقيقة»‪ ،‬فكان‬

‫ذلك بمنزلة فتح أفق جديدة للتفكير والتنوير‪.‬‬

‫التجارب المريرة واإلخفاقات‬ ‫المتالحقة والمعايشات اليومية‪،‬‬ ‫حملتني على وضع هويتي‪ ،‬كلبناني‬ ‫وعربي ومسلم‪ ،‬على طاولة النقد‬ ‫عما يقف وراءها‬ ‫والتشريح؛ للكشف ّ‬ ‫من األوهام والقوالب الجامدة‬

‫مثله في ذلك مثل األصوليين اإلسالميين الذين‬

‫يسطون على النظريات العلمية لنسبتها للقرآن الكريم‪.‬‬

‫ـــــ‬

‫ً‬ ‫تعليقا على مجزرة صحيفة شارلي‬ ‫يقول إدغار موران‬

‫إيبدو الساخرة‪ ،‬إنه يدين هذا االعتداء‪ ،‬لكنه ليس مع ّ‬ ‫مس‬

‫المقدسات‪...‬‬

‫أنا أخالفه الرأي‪ ،‬فيما يخص العالم العربي؛ ألن الممارسات‬

‫التقديسية هي علة العلل وأم المشاكل‪ ،‬كما تتجلى في عبادة‬

‫الكتب واألشخاص واألسماء أو األمكنة واألحجار‪ .‬وللقداسة‬

‫‪111‬‬


‫حوار‬

‫ً‬ ‫أحيانا‪ ،‬بقدر ما تقوم على‬ ‫مفاعيلها السلبية‪ ،‬المدمرة والقاتلة‬

‫ـــــ‬

‫على ما هو عادي ونسبي ويومي ومتغير‪ ،‬وربما غير مقبول أو‬ ‫مشروع‪ ....‬وهكذا من يُقدس شي ًئا‪ ،‬إنما يسدل الستار على عقله‬ ‫ً‬ ‫تعلقا أعمى‪ .‬والحصيلة أن يقع ضحيته‪ ،‬أو أن‬ ‫بقدر ما يتعلق به‬

‫والداعشية؟‬

‫حجب قوامه خلع صفات األلوهة والتعالي أو العظمة واإلطالق‬

‫يضحي بغيره‪ ،‬كما تشهد عالقة الناس بمطلقاتهم ومقدساتهم‬ ‫وطوطماتهم الدينية أو السياسية أو الثقافية‪.‬‬

‫ـــــ‬

‫ما رأيك في المقوالت التي تتكرر في بعض األفكار؟‬ ‫ّ‬ ‫يخص‬ ‫أعترف بأن هناك شي ًئا من التكرار فيما أكتبه‪ ،‬أما فيما‬

‫ما لم أكتبه بعد‪ ،‬فأنا منذ سنوات أفكر في أن أكتب كتابًا يكون‬ ‫بمنزلة الجزء الثاني لكتابي «خطاب الهوية»‪ ،‬وبالطبع سوف‬ ‫يختلف األمر‪ ،‬بعد أكثر من ثالثين عامً ا‪ ،‬باألسلوب والمقاربة‪.‬‬

‫المهم أن يكون منطلق الكتاب عن حياتي وسيرتي أو مسيرتي‪.‬‬

‫ولكن مشاغل الدراسة والصحافة وقراءة المجريات واألحداث‬ ‫العاصفة‪ ،‬قد صرفتني عن ذلك‪ .‬وأخشى ألاّ يكون أمامي م ّتسع‬ ‫من العمر؛ لكي أنجز قصتي مع الحقيقة‪ ،‬من خالل التطرق إلى‬

‫هويتي ومهنتي ومهمتي‪.‬‬

‫‪112‬‬

‫ً‬ ‫دائما تحاول أن تكون سجاليًّا انتقاد ًّيا‪ ،‬نجحت بقوة‬

‫في كتابك «أوهام النخبة‪ /‬نقد المثقف»‪ ،‬وتابعت في مجاالت‬ ‫ً‬ ‫خصوصا األصوليات واألصنام الفكرية واأليديولوجية‬ ‫أخرى‪،‬‬ ‫ثمة كالم يتك ّرر منذ زمن‪ ،‬بأنه ال وجود لسجاالت خصبة‬

‫على ساحات الفكر في العالم العربي‪ .‬وكي ال أقول بأن هذا‬

‫الكالم ال معنى له أو ال طائل من ورائه‪ ،‬أقول بأن ما يعنيني من‬ ‫ً‬ ‫أحيانا علنية‬ ‫المعارك األدبية والسجاالت الفكرية‪ ،‬التي تكون‬ ‫ً‬ ‫وأحيانا أخرى صامتة‪ ،‬هو أن أُحْ ِسن قراءة المجريات‪ ،‬وأن تفتح‬ ‫ً‬ ‫إمكانا لتشخيص ما أتناوله من القضايا والمشكالت‪.‬‬ ‫مقارباتي‬

‫ـــــ‬

‫كيف تقيّم ما كتبته في السنوات األخيرة؟‬

‫ما كتبته في السنوات األخيرة‪ ،‬حول مشكالت الساعة‬

‫وحول التحديات المصيرية التي تواجه العرب‪ ،‬والعالم‪،‬‬ ‫أعطى مصداقية لما قدمته من اآلراء والتحليالت‪ .‬صحيح أن ما‬

‫قلته القى معارضة شديدة من جانب المتشبثين بأطروحاتهم‬

‫ومواقفهم‪ ،‬من أصحاب التيارات األصولية‪ ،‬الدينية والعلمانية‪،‬‬ ‫القومية واليسارية‪ ،‬ممن يتعاملون مع شعاراتهم بعقل أمني‪،‬‬ ‫عسكري‪ ،‬شمولي‪ .‬لكن ما كتبته أ ّكد صحة رهاناتي‪ ،‬سواء‬

‫أمين معلوف كاتب فرنسي غير ملتزم بمقاطعة إسرائيل‬ ‫ـــــ‬

‫لم تقل رأيك في قضية أمين معلوف الذي تحدث إلى قناة إسرائيلية‪ ،‬وما أثاره‬

‫ذلك من الجدل واالنقسام؟‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫حرصا‬ ‫في تعليقي أميّز بين الذين خونوا معلوفا وبين الذين تم ّنوا عليه االعتذار؛‬ ‫على مكانته‪ .‬أما األول فال ينطبق عليهم إال قول المتنبي‪ :‬يا أمة ضحكت من جهلها‬

‫األمم؛ ألنهم يشهدون على جهلهم وعلى خيانتهم؛ لكونهم يسيرون في ركاب أنظمة‬ ‫ً‬ ‫وتشريدا‪ ،‬بما يفوق ما فعلته أو‬ ‫ودول تفتك بالشعوب العربية‪ ،‬قتلاً وتعذيبًا أو تهجيرًا‬ ‫ً‬ ‫معلوفا باالعتذار‪.‬‬ ‫تفعله إسرائيل بالفلسطينيين؛ لذا كان نقدي يستهدف الذين طالبوا‬ ‫وهؤالء تعاملوا معه كمثقف لبناني عربي‪ ،‬عضوي‪ ،‬منخرط في دعم القضايا العربية‪.‬‬ ‫ً‬ ‫لكنّ‬ ‫معلوفا هو فرنسي؛ ألنه يحمل الجنسية الفرنسية‪ ،‬ويكتب باللغة الفرنسية‪ .‬ولم‬ ‫يعرف عنه طوال مسيرته ككاتب أي موقف داعم للقضية الفلسطينية أو للقضايا العربية‪.‬‬

‫أمين معلوف‬

‫من هنا قولي‪ :‬يا لسذاجة المثقفين اللبنانيين والعرب‪ .‬لقد رسموا لمعلوف صورة ليست له‪ ،‬وطالبوه بدور ال يطيقه وال‬

‫يرغب فيه‪ .‬فهو كاتب فرنسي غير ملتزم بمقاطعة إسرائيل‪ ،‬شأنه شأن أي كاتب فرنسي‪ .‬وأعتقد أنه لو كان يدعم القضية‬ ‫ً‬ ‫معلوفا كاتب فرنسي من أصل لبناني‪ .‬وهو‬ ‫الفلسطينية‪ ،‬لما دخل األكاديمية الفرنسية‪ .‬فهل كان يخطط لذلك؟! صحيح أن‬

‫يأتي إلى لبنان؛ لكي يُحتفى به أو يكرَّم‪ .‬كذلك لمعلوف وجهه العربي‪ ،‬وهو يأتي إلى البالد العربية‪ ،‬وبخاصة عندما ينال‬ ‫الجوائز‪ .‬وهو وافر الحظ في هذا الخصوص؛ إذ نال أهم وأكبر جائزتين عربيتين‪ :‬جائزة العويس لإلنجاز الثقافي‪ ،‬وجائزة زايد‬ ‫ّ‬ ‫يخص‬ ‫عن شخصية العام‪ .‬وهذا ما لم ينله ك ّتاب عرب لهم أثرهم البالغ وحضورهم القوي وسط المشهد الثقافي‪ ،‬سواء فيما‬

‫ّ‬ ‫يخص ادعاءات النصر المستحيل والخادع‪.‬‬ ‫الهوية وإستراتيجياتها القاتلة‪ ،‬أو فيما يخص العالم ومأزقه الحضاري‪ ،‬أو فيما‬

‫مرة أخرى‪ :‬يا لسذاجة المثقفين!‬

‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬


‫متطرف‬ ‫علي حرب‪ :‬شخص يحرص على نظافة البيئة أفضل من داعية مشعوذ أو مثقف‬ ‫ّ‬

‫في تفسيري للظاهرة األصولية بالعودة إلى جذورها الدينية‪،‬‬ ‫أو بقولي‪ :‬إن أنظمة االستبداد‪ ،‬شأنها شأن المشاريع الدينية‪،‬‬

‫غير قابلة لإلصالح أو للمفاوضة والتسوية‪ ،‬وهذا ما كتبته عن‬ ‫المحادثات حول اليمن قبل شهور‪ :‬إنها مضيعة للوقت‪ .‬وهذا‬

‫ما حصل؛ ألنه ال مساومة مع من يفكر بعقل طائفي‪ ،‬عنصري‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫يخص قراءتي لحرب تموز من خالل‬ ‫فاشي‪ .‬كذلك األمر فيما‬

‫مقولتي عن النصر الخادع والمستحيل‪ ،‬بعد أن انخرط أهل‬

‫التحرير في خوض حروب تفضي إلى تدمير غير بلد عربي‪،‬‬ ‫بدعم من إيران‪ .‬هنا ً‬ ‫أيضا‪ ،‬صحّ رهاني‪ ،‬حول طبيعة المشروع‬ ‫اإليراني الرامي إلى تفكيك دول المشرق العربي؛ إلعادة ترتيب‬

‫أوضاعه السياسية والطائفية‪ ،‬كما كتبت منذ سنوات‪.‬‬ ‫أَ ِص ُل من هذه المرافعة‪ ،‬غير المحمودة‪ ،‬إلى قضية‬

‫أعمالي شكلت إمكا ًنا للتفكير‬ ‫ُفتحت معه أبواب جديدة بالمقاربة‬ ‫والمعالجة أمام النقاد والك ّتاب‬ ‫والدارسين‬ ‫هواجس التحرر السياسي والنضال‬ ‫الوطني تغلّبت على مهام التنوير‬ ‫العقلي‬ ‫الشمولي‪ ،‬وحسبانها إشكالية تتعلق بوجودنا‪ ،‬على نحو‬

‫الساعة‪ ،‬بعد المذابح التي تعرضت لها فرنسا‪ .‬فأنا من القائلين‪،‬‬

‫تكون فيه الحقيقة ممارسة تنتجها الخطابات والروايات‬

‫الجهادية‪ .‬وما حصل شاهد؛ إذ تحولت الجالية اإلسالمية إلى‬

‫ال شك أنني أفدت من نيتشه فوائد جليلة‪ .‬لكني لست‬

‫منذ زمن‪ ،‬بأن فرنسا قد تراخت وتأخرت بمعالجتها للظاهرة‬ ‫حاضنة اجتماعية وثقافية لوالدة الوحوش اإلرهابية‪.‬‬ ‫مقوالت نيتشه‬

‫ـــــ‬

‫اشتغلت كثيرًا على مصطلحات «المنطق التحويلي»‪،‬‬

‫و«العقل التداولي» إضافة إلى ترجمات لمصطلحات أخرى؛‬

‫هل بات لديك قاموسك الخاص في الحقل الفلسفي؟‬

‫والتأويالت؛ ما رأيك بهذه المقاربة؟‬

‫نسخة عنه‪ ،‬وال مجرد شارح له‪ .‬لقد تجاوزته بقدر ما جددت‬ ‫وأضفت‪ .‬مثال ذلك مقولتي حول «المنطق التحويلي»‪ ،‬حيث‬ ‫شعاري ليس «أن أكون ذاتي»‪ ،‬كما هو شعار نيتشه وكثيرين‪.‬‬ ‫وبحسب المنطق التحويلي يجري تجاوز منطق المماهاة ومنطق‬

‫هيغل الجدلي معً ا‪ ،‬حيث الفكرة الحيّة والخصبة‪ ،‬تتغير هي‬

‫نفسها بقدر ما تسهم في تغيير الواقع‪ ،‬وتغير صاحبها أو من‬

‫أنا حصيلة كل ما قرأته وتأثرت به من األعمال الفكرية‬

‫يتداولها بقدر ما تسهم في تغيير عالقته باآلخر‪ .‬نحن إزاء تحويل‬

‫ودولوز أو ابن عربي وابن خلدون‪ .‬لكني لم أكن مجرد شارح‪.‬‬

‫بالثوابت ليست ثابتة‪ ،‬بل متحولة‪ .‬وآية ذلك أن الفكر هو توتره‬ ‫الدائم‪ ،‬والواقع هو حراكه المستمر‪ ،‬سلبًا أو إيجابًا‪ّ ،‬‬ ‫تخل ًفا أو‬

‫والنصوص الفلسفية‪ .‬ويأتي نيتشه في الطليعة‪ ،‬شأنه شأن فوكو‬ ‫بل أعدت إنتاج ما قرأته وتم ّرست به من األعمال‪ .‬وال أوثر هنا‬

‫كلمة «تخريج» القاصرة عن الوصف والفهم‪ .‬فاألمر يتعدى ذلك‬ ‫ً‬ ‫صرفا وتحويلاً ‪ ،‬أو تركيبًا‬ ‫إلى إعادة الخلق‪ ،‬شرحً ا وتأويلاً ‪ ،‬أو‬

‫ً‬ ‫انطالقا من لغتي وبيئتي الثقافية‪ ،‬أو أسئلتي ومشاغلي‬ ‫وتجاو ًزا‪،‬‬ ‫المعرفية‪ ،‬وبالطبع في ضوء تجاربي وخبراتي‪ .‬وهذه النصوص‬ ‫باتت تعبر عن فرادتي‪ ،‬وتحمل ْ‬ ‫بصمتي وختمي‪ .‬والشاهد أن‬

‫كثيرين قد اطلعوا على فكر نيتشه وفالسفة ما بعد الحداثة من‬

‫خالل أعمالي‪ .‬هناك من يكتب عن نيتشه‪ ،‬على حين أن كتابته‬ ‫آتية من نصوصي أكثر مما هي آتية من نصوص نيتشه‪.‬‬

‫ـــــ‬

‫كتب عبدالرزاق بلعقروز مقارنة معرفية ومنهجية‬ ‫ً‬ ‫كاشفا عن فضاءات التشارك والحوار‬ ‫بينك وبين نيتشه‪،‬‬

‫بينكما‪ ،‬ويستنتج أنك من أشد الناقدين للفيلسوف األلماني‪،‬‬ ‫ال سيما دعوته إلى اإلنسان «السوبرمان»‪ .‬ومع ذلك يجد‬

‫بلعقروز أن في نصك استثمارًا لمقوالت نيتشه وإشكاليته‬

‫الفكرية‪ ،‬أعدت تخريجها ومقاربتها والتعاطي معها‪ ،‬بما‬ ‫يتالءم مع تصورك لمقولة نقد الحقيقة بمعناها الكلياني‬

‫مربع الوجه‪ .‬بهذا نتجاوز مقولة الثابت والمتحول؛ ألن عالقتنا‬

‫ازدهارًا‪ .‬ولكن التغير قد يحصل بصورة صامتة أو بطيئة‪ ،‬ثم‬ ‫ينفجر‪ ،‬كما هي األزمات والثورات‪.‬‬

‫مثال آخر‪ ،‬أنا لست مع مفهوم «اإلنسان األعلى» الذي أورث‬ ‫ّ‬ ‫نيتشه محنته وجنونه‪ ،‬وهذا شأن ّ‬ ‫يتعلق بمبدأ مثالي‪:‬‬ ‫كل من‬ ‫أن يُحبَط ويُجَ نّ ‪ ،‬أو أن يتحول إلى إرهابي‪ .‬ومفهوم اإلنسان‬ ‫األعلى هو الذي يصنع أزمة اإلنسان عمومً ا‪ .‬من هنا مقولتي حول‬

‫«اإلنسان األدنى»‪ ،‬بمعنى أن الفاعل البشري هو أدنى بكثير مما‬ ‫يدعيه أو يدعو إليه‪ ،‬من حيث عالقته بشعاراته ومشاريعه‪.‬‬

‫نفسر كل هذا التراجع أو االنهيار على مستوى القيم‬ ‫وإال كيف ّ‬ ‫والمبادئ؟ والرهان هو كسر منطق التعالي واألعلى واألقصى؛‬

‫لالشتغال بمفردات الوسط والمساحة والفضاء واألفق‪ ،‬أي ما‬ ‫يتيح للبشر إقامة عالقات تبادلية مثمرة‪ ،‬وذلك يقتضي التفكير‬ ‫ّ‬ ‫والتحلي بالتقى الفكري والتواضع الوجودي‪.‬‬ ‫في عقل تداولي‬ ‫وأخي ًرا هناك قضية الحقيقة‪ .‬وأنا أفدت من نيتشه بفتحه‬

‫مفهوم الحقيقة على اللغة والمجاز واللغة والجسد والقوة‪.‬‬ ‫ولكن بقيت لديه أوهام ما ورائية حول الحقيقة عبر عنها بوصفه‬

‫‪113‬‬


‫حوار‬

‫أحد كتبه بأنه «اإلنجيل الخامس للبشرية»‪ .‬أنا أفهم الحقيقة‬

‫ما تنطوي عليه المنظومة األيديولوجية حول مفاهيم‬

‫التجاوز والتركيب‪ ،‬بل أفهمها من خالل مفردات اإلستراتيجية‬ ‫ّ‬ ‫ولعلنا نحتاج إلى مثل هذه المفاهيم لمقاومة‬ ‫واللعبة والرهان‪.‬‬

‫والخداع؛ لذا كان المآل الفشل واإلخفاق‪ .‬وكما أن حركات‬

‫من خالل مفردات الخلق والفتح‪ ،‬أو الصناعة والتحويل‪ ،‬أو‬

‫موجات التأله والتعصب والتطرف التي تنفجر حروبًا أهلية‪ ،‬أو‬ ‫بربرية إرهابية‪.‬‬

‫المساواة واالختالف والتحرر‪ ،‬من الوهم واالدعاء أو الزيف‬

‫التح ّرر الوطني والسياسي‪ ،‬ترجمت مزيدً ا من االستبداد‪،‬‬

‫فإن الحركات النسوية لم تمنع أعمال التمييز ضد النساء‪،‬‬ ‫ً‬ ‫تضييقا وقمعً ا أو اغتصابًا أو‬ ‫والتعامل معهنّ بلغة العنف‬

‫أنا تحررت من المفهوم األيقوني للحقيقة‪ ،‬بوصفها ماهية‬

‫قتلاً ‪ .‬ثمة تبسيط ت ّتسم به الحركة النسوية‪ ،‬بنسائها ومن‬

‫منطق التيقن والقبض والتحكم‪ .‬أين هو التحكم فيما اإلنسان‬

‫والرجل‪ ،‬إلى مج ّرد قوانين وقواعد أو إلى أدوار ووظائف‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫محل‬ ‫وذلك يطمس الكينونة الجنسية لكل منهما‪ ،‬أي ما هو‬

‫ثابتة أو هوية تامة أو بنية سحيقة وغائرة‪ ،‬بقدر ما تجاوزت‬

‫عاجز اآلن عن معالجة نفاياته؟ من كان يحسب أن بيروت التي‬

‫كانت مدينة نظيفة‪ ،‬أنيقة‪ ،‬في زمن الفرنسيين وما بعده‪ ،‬تكاد‬ ‫تطمرها النفايات؟!‬

‫ـــــ‬

‫يقف معهنّ من الرجال‪ ،‬يقوم على اختزال عالقة المرأة‬

‫جذب أو إغراء أو افتتان‪ .‬لذا فإن الرجل حين يلتقي المرأة‬ ‫إنما تلفته بالدرجة األولى صفاتها األنثوية‪،‬‬ ‫أي كونها امرأة بالدرجة األولى‪ ،‬أيًّا كانت‬

‫التعليقات على مقاالتك على‬

‫صفاتها األخرى العارضة؛ زميلة أو رفيقة‪،‬‬

‫اإلنترنت كثيرة‪ ،‬وكثير منها يصب في خانة‬

‫خادمة أو رئيسة‪ ،‬عالمة أو كاتبة‪ ...‬إال‬

‫الهجوم عليك؛ لمجرد أنك تقترب من‬

‫في الحاالت االستثنائية التي يدجّ ن فيها‬

‫«التابو الديني» أو حتى االجتماعي‪ ،‬هذا من‬

‫الرجل أو يغلب على أمره‪ .‬وبالعكس‬

‫دون أن ننسى ما حصل في إحدى الندوات‬ ‫ً‬ ‫انطالقا من هذا؛ هل تعرّضت‬ ‫في القاهرة‪،‬‬

‫‪114‬‬

‫إال إذا كانت المرأة تسحق رغبتها‬

‫بحكم التقاليد أو ألي سبب آخر‪.‬‬ ‫هنا ً‬ ‫أيضا يمكن القول بأن‬

‫للتهديد؟ هل شعرت بخطر على حياتك؟‬

‫ما يختزل ال يمحى‪ ،‬بل يتوارى‬

‫_ مثل هذه التعليقات ليست غريبة‪ ،‬بل هي‬ ‫طبيعية عندما تصدر عمن ُختم على عقولهم‪،‬‬

‫ويعود بصورة مخاتلة؛ مفاجئة‬

‫أو صادمة‪ .‬لنحسن التشخيص؛‬

‫ممن يتقنون تقديس الكتب وعبادة السلف‪ .‬نحن‬

‫إزاء ردات فعل غريزية تشهد على ممانعة أصحابها‬

‫كي نعالج المشكلة‪ .‬فاإلنسان هو ذات راغبة بالدرجة‬

‫تشخيص المشكلة التي يعترف الجميع بوطأتها‪ .‬ومثل هؤالء‬

‫األولى‪ .‬وإال كيف نفسر أعمال التح ّرش واالغتصاب‪ ،‬بعد هذه‬

‫ّ‬ ‫الحل هو المشكلة‪ .‬وبالعكس‬ ‫استعصاء! مما يعني أن ما نحسبه‬

‫بالفستان ألول مرة‪ ،‬حتى يخرج النواب الذكور‪ ،‬الذين يش ّرعون‬ ‫ً‬ ‫وصراخا وصفي ًرا‪ .‬ناهيك بحاالت‬ ‫لألمة‪ ،‬عن طورهم‪ ،‬هياجً ا‬

‫كمثل المريض النفسي الذي يقاوم محاوالت تفكيك عقدته‪ .‬وإال‬ ‫كيف نفسر أن نتصوّر حلولاً للمشكالت‪ ،‬فإذا بها تزداد تعقيدً ا أو‬

‫ما نرفضه وندينه قد يكون بداية الحل‪ .‬وهكذا فهم يهربون من‬ ‫مقاربة المشكلة‪ ،‬على نحو جذري‪ ،‬للكشف عن مكامن الخلل‬ ‫والعجز والقصور‪ .‬والحصيلة هي االستبداد السياسي واإلرهاب‬

‫الديني‪ ،‬أو التخلف المجتمعي والتقهقر الحضاري‪.‬‬

‫الحب والفناء‬ ‫َ‬ ‫قلت بعض المفاهيم عن المرأة في كتابك «الحب‬

‫ـــــ‬

‫والفناء» بعضهم اعتبرها سلبية وتقليدية على غير عادتك في‬ ‫ّ‬ ‫متمس ًكا بتلك األفكار‬ ‫الكتابة وتحطيم األصنام‪ ،‬هل ما زلت‬ ‫أو تعدها ابنة مرحلة وانتهت أو ّ‬ ‫تبدلت؟ وكيف تفسر كتاباتك‬

‫عن الحركة النسوية؟‬

‫كتابتي عن حرية المرأة‪ ،‬هي وجه لكتابتي النقدية‬

‫عن حركات التح ّرر الوطني‪ ،‬بمعنى أنها ترمي إلى كشف‬ ‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬

‫العهود التنويرية والتحررية؟ وأين؟ في البلدان األوربية؛ ففي‬ ‫فرنسا‪ ،‬مثلاً ‪ ،‬كان يكفي أن تأتي إحدى النائبات إلى البرلمان‬

‫الطالق وأعمال التحرش التي تضاعفت عما كانت عليه قبل‬ ‫عقود‪ .‬والدرس ألاّ‬ ‫ّ‬ ‫نلتف على المشكلة‪ .‬فالرغبة حاكمة على‬ ‫الذات؛ إذ هي األصل تمامً ا كما أن الوهم هو األصل في مسألة‬

‫العقل‪ .‬لذا ال تكفي القوانين والتشريعات التي تساوي بين المرأة‬ ‫والرجل‪ ،‬كما ال تكفي العقوبات لردع الرجال عن الخروج على‬

‫المسلك الحضاري‪.‬‬

‫ـــــ‬

‫هل يعني ذلك أننا أمام مشكلة تستعصي على الحل؟‬

‫السؤال يطرح إشكالية العالقة بين الطبيعة والثقافة‪ ،‬بين‬

‫الرغبة والواقع‪ ،‬بين الغريزة والقانون‪ .‬والصعوبة الفائقة هنا‪،‬‬

‫إن لم أقل االستحالة‪ ،‬تتأتى من كون الهوى عند اإلنسان هو‬ ‫األصل وليس العقل‪ .‬فالمرء لكي يصبح عاقلاً أو متعقلاً في‬


‫متطرف‬ ‫علي حرب‪ :‬شخص يحرص على نظافة البيئة أفضل من داعية مشعوذ أو مثقف‬ ‫ّ‬

‫عالقته مع اآلخر‪ ،‬يحتاج إلى كثير من االشتغال على الذات‬ ‫بالجهد والمراس أو التدرب والتحول‪ .‬لذا ال أخشى القول‬ ‫بأن مفردات الوفاء واالستقامة واالنضباط قاصرة عن إيجاد‬

‫الحل؛ ألن العالقة بين الرجل والمرأة‪ ،‬كما بين أي شريكين‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وعشقا‪ .‬وعندها‬ ‫قد تستهلك ولو كانت في البداية ودًّا أو حبًّا‬ ‫تشتغل المخيلة الخائنة‪ ،‬تحت وطأة الرغبات المتقلبة أو األهواء‬

‫الجامحة التي تجنح بصاحبها‪ ،‬نحو انتهاك القيم والقوانين‪.‬‬

‫ولكي ال تتحول الشراكة إلى حياة رتيبة أو إلى حرب باردة‪ ،‬أو‬ ‫تؤول إلى الهجر واالنفصال‪ ،‬فإنها تحتاج إلى من يحسن إدارتها‬

‫بالمصارحة والمكاشفة كما بالمرونة والمواربة والترويض‬ ‫الدائم‪ ،‬واألهم أنها تحتاج إلى التجديد؛ كي ال تستنفد العالقة‬

‫بين الزوجين‪ ،‬بل يبقى بينهما رابط جامع من سر جاذب أو لغز‬ ‫غامض‪ .‬واألساس ألاّ يفكر الواحد بامتالك شريكه؛ إذ إنه بذلك‬ ‫يخدع نفسه أو يظلم شريكه‪.‬‬

‫ـــــ‬

‫التأليف‪ ،‬أَوْليت أهمية لألسلوب‪ .‬وقد أفادني في ذلك تدريسي‬

‫كتب المفكر الجزائري محمد شوقي الزين «هناك‬

‫للفلسفة العربية طوال ربع قرن‪ ،‬وأكثر الفالسفة العرب هم‬ ‫ك ّتاب‪ .‬أضف إلى ذلك أن التم ّرس بالنص الفلسفي العربي‪ ،‬قد‬

‫ذوق جمالي يحيونه بقوة النظر أو ببالغة األسلوب‪ .‬هذا حال‬

‫وال أنسى مداومتي على قراءتي اآلثار واألعمال األدبية‪ ،‬شع ًرا‬

‫فالسفة في تاريخ الفكر البشري هجروا األنساق المعرفية؛‬ ‫لتتح ّول الفلسفة عندهم إلى كتابة أو فن أو متعة‪ ،‬أي إلى‬ ‫علي حرب الذي ابتكر مفردات أصيلة تعبر عن نفوره من‬

‫التصنيفات أو التنميطات‪ ،‬وهي مفردات حُ بلى بالمجاز‪ ،‬وال‬

‫تنفك عن نمط استعاري في الداللة واألداء‪...‬‬

‫ّ‬ ‫يخص ترجمة المصطلحات األجنبية‪.‬‬ ‫زوّدني بإمكانيات فيما‬ ‫ورواية‪ .‬وهكذا فقد حرصت على أن أكتب بأسلوب ذوقي بياني‪،‬‬

‫يجمع بين جمال العبارة وجدّ ة المفهوم أو قوة الفكر‪ .‬وأذكر‬

‫أنني في أول زيارة لي إلى تونس عام ‪1993‬م‪ ،‬سُ ئلت عما إذا كنت‬ ‫أتعاطى الشعر‪ ،‬فنفيت‪ ،‬لكني لم أستغرب السؤال؛ ذلك ألن‬

‫أنا محظوظ مع الجزائر؛ ألن كتبي تقرأ فيها أكثر من أي بلد‬ ‫آخر‪ ،‬وألن أعمالي ّ‬ ‫شكلت مادة لكثير من الدراسات واألطروحات‬

‫الكتابة ذات المنحى الذوقي‪ ،‬بإشاراتها والتماعاتها‪ ،‬شكلت‬

‫الزين‪ ،‬الذي هو اليوم أحد أعالم الجيل الجديد من الفالسفة‬

‫وأنا كانت لي تجربة في هذا الخصوص‪ ،‬على صفحات جريدة‬

‫الجامعية من جانب كثيرين‪ًّ .‬‬ ‫حقا كان الدكتور محمد شوقي‬ ‫العرب الذين أثبتوا جدارتهم في الساحة الفلسفية‪ ،‬هو أول من‬

‫اهتمّ بأعمالي وكتب عنها‪ .‬ثم ترجم كتاب «حديث النهايات»‬ ‫ّ‬ ‫شك أن ما قاله الصديق محمد شوقي هو‬ ‫إلى الفرنسية‪ .‬وال‬ ‫في مكانه‪ .‬فأنا لم أكتب ً‬ ‫وفقا لقواعد المنهج الصارم أو لقوالب‬ ‫النسق المغلق‪ ،‬كما أنني لست من أصحاب المشاريع الفكرية‬

‫العريضة والشاملة‪ .‬إنما أكتب بصورة ح ّرة ومفتوحة على‬ ‫األحداث والمعايشات‪ .‬فأتناول بالدرس والتحليل قضية أو‬

‫تجربة أو ظاهرة أو ًّ‬ ‫نصا‪.‬‬

‫رافدً ا من روافد القصيدة العربية الحديثة؛ أعني قصيدة النثر‪.‬‬ ‫«النهار»‪ ،‬منذ ثالثة عقود تحت العنوان اآلتي‪« :‬إشارات»‪ .‬من‬

‫مثاالتها هذه العبارة‪ :‬كلما قتل امرؤ نظيره فزعت من نفسي‪.‬‬ ‫وقد قرأت مؤخ ًرا كالمً ا جميلاً في هذا الخصوص للشاعر محمد‬ ‫علي شمس الدين‪ :‬أخشى أن يكون قاتلي في داخلي‪.‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ ـ هل يربكك المديح والثناء؟‬

‫أعتقد‪ ،‬باالستناد إلى تجربتي‪ ،‬أن من يكتشف شي ًئا‪ ،‬هو‬

‫أول من يعرف ما كشفه أو ما أنجزه‪ ،‬أي قبل النقاد وأهل الحقل‬ ‫أو االختصاص‪ .‬ومع ذلك فاإلنسان‪ ،‬ككائن اجتماعي محتاج إلى‬

‫من هنا لست مضط ًّرا إلى تغيير بعض ما كتبته بصورة‬ ‫جوهرية‪ .‬يكفي أن أحذف فصلاً أو أضيف فصلاً آخر‪ .‬وقد أغير‬

‫االعتراف بما ينجزه‪ .‬ومن سعادة المرء أن ينجح في عمله‪ ،‬وأن‬

‫األصولية والشعائر التقدمية‪ ،‬ثم أصنام النظرية وأطياف‬

‫السعادة‪ .‬لكن لكل شيء وجه آخر‪ .‬فالنجاح والشهرة أو الصيت‪،‬‬

‫ً‬ ‫عنوانا‪ .‬وهذا ما أنوي فعله‪ ،‬فيما لو أعيد طبع كتابي‪ :‬األختام‬

‫الحرية‪ ،‬بحيث أقوم باختصار كل منهما على النحو اآلتي‪:‬‬ ‫األختام والشعائر‪ ،‬ثم األصنام واألطياف‪ ،‬فيكون ذلك أبلغ‬

‫وأجمل‪ .‬أما من حيث طريقة الكتابة‪ ،‬فأنا منذ أن شرعت في‬

‫يكون مقدرًا في وسطه وعالمه‪ .‬أما إذا كان محبوبًا فتلك غاية‬ ‫قد تكون آلخرين‪ ،‬مصدرًا لمشاعر الحسد والكره والغل‪ .‬ثمة‬

‫من يظن أنك بنجاحك حجبت ذكره أو سرقت دوره‪ ،‬كما يظن‬ ‫أصحاب األقالم الرديئة والنفوس المريضة‪.‬‬

‫‪115‬‬


‫قضايا‬

‫مشرق ومغرب‬ ‫حوار بين كيانات متساوية ثقاف ًّيا‬ ‫أم بين مركز وهامش؟‬ ‫خاص‬

‫هل المشرق مشرق‪ ،‬والمغرب مغرب ولن يلتقيا‪ ،‬أم أن المغرب مشرق‪،‬‬

‫‪116‬‬

‫والمشرق مغرب ولن يفترقا‪ ،‬على حد تعبير المفكر الراحل محمد عابد‬ ‫الجابري‪ ،‬في حواره المشهور مع المفكر حسن حنفي في مجلة اليوم‬

‫السابع؟‬

‫هل تجاوز النقاش اليوم ثنائية المشرق والمغرب‪ ،‬وما تستدعيه من‬ ‫الغيبي لطرف‪ ،‬وتعطي الطرف اآلخر البعد‬ ‫توصيفات‪ ،‬تنسب التفكير‬ ‫ّ‬ ‫الفلسفي؟ هل تخطى السجال مقوالت مثل‪ :‬الضعف في «العربية» لدى‬ ‫المغاربة‪ ،‬وهشاشة في التفكير العقالني عند المشارقة؟ إذ يرى مثقفون‬

‫أنه عند أي نقاش لثنائية المشرق والمغرب دائمً ا هناك ما يمكن وصفه‬

‫بـ«اللبس» أو«سوء الفهم» في تصور العالقة بين الطرفين؛ فهل هي عالقة‬ ‫بين كيانات ثقافية واجتماعية وفكرية متساوية‪ ،‬ال مجال فيها للتعالي أو‬

‫المفاضلة‪ ،‬أم بين مركز وهامش؟‬

‫«الفيصل» تفتح ملف هذه القضية‪ ،‬وتسعى لتجديد النقاش عبر استكتاب‬

‫كتاب ينتمون إلى أكثر من بلد عربي‪ ،‬كتاب ال يختزلون المشرق والمغرب‬ ‫بقدر ما يتيحون‪ ،‬من خالل مقاالتهم‪ ،‬زوايا نظر مختلفة إلى القضية التي ما‬

‫إن يغيب السجال حولها حتى يعود ثانية أكثر سخونة‪...‬‬

‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬


‫العالقة بين المشرق والمغرب‬

‫الحقل الثقافي العربي‬ ‫بيـن مشرق ومغرب‬ ‫مـحــمد بــرادة‬ ‫ناقد وروائي مغربي‬

‫يـبدو لي أن معظـم ال ِـجـدال المتـصـل بفضاء الثقافة العربية المـمـتد من الخـليج إلى‬ ‫ً‬ ‫عوضا من‬ ‫المحيط األطلسي‪ ،‬يقوم على غير أساس؛ ألنه يــتوخى المفاضلة والتـرجيح‪،‬‬ ‫اعـتبـار التـكامل وتـبا ُدل التأثيـر‪ .‬وإذا كان هذا التـوجّ ـه مبررًا في العصور القديمة‪ ،‬فـإنه غير‬

‫مقبول اآلن ونحن نعيش حقبة تاريخية وحضارية مخـتلفة تمامً ا عما كانت عليه منذ أكثر‬ ‫من خمسة عشـر ق ً‬ ‫ـرنا‪ .‬قديمً ا‪ ،‬كنا نسمع نقا ًدا من المشرق يـرددون‪ ،‬بعد اطالعهم على‬

‫كتابات وإبداعات المغاربييــن‪ :‬هــذه بضاعـتـنا ُر ّد ْ‬ ‫ت إلـيـنا‪ .‬ولم يكونوا يأخذون في الحسبان‬ ‫بعض العناصر المائزة تاريخيًّا وجغرافيًّا لدى الشعراء والنقاد األندلسيـيـن والمغاربة‪.‬‬

‫‪117‬‬


‫قضايا‬ ‫هذا املوقف املـتـعايل يعود إىل أن العرب املشارقة كانوا يعدون‬

‫املـنـتجني الثقافيـيـن‪ ،‬وعن طـرائق استـهالك هذه الثقافة‪ ،‬وحجم‬

‫بعيدة يف ركاب التبـشيـر باإلسالم‪ ،‬لكن عصور االنحطاط وما أعقبها‬

‫تحظى بالقبول؛ ذلك أنه لم يعـد ممكنا يف عصرنا أن نتحدث عن‬

‫أنفسهم ماليك اللغة والرتاث والقواعد التي ص ّدروها إىل أرجاء‬ ‫من يقظة مـتباطئة عىل أصوات مدافع حملة نابـليون‪ ،‬ثم حركات‬

‫االستعمار طوال القرن التاسع عشر‪ ،‬ونصف القرن العشـرين‪،‬‬ ‫كانت تـعـلن تـدشني مرحلة غري مسـبوقة يف تاريخ اإلنسانية‪ ،‬هي‬ ‫مرحلة األزمنة الحديثة القائمة عىل العلوم والتـقـانة وتـرشيد‬ ‫ـات الـدولة والصـراع السيايس؛ بـعبارة أخرى‪ :‬دخلت البشـرية‬ ‫بـنـي ِ‬

‫الثقافة واإلبداع من دون أن تكون لنا مـعطيات ملموسة عن نوعية‬

‫وحجم املـنـتجيـن واملستهلكني‪ ،‬وعن مرجعيات هذه الثقافة وثـقلها‬

‫داخل الحقل االقـتـصادي‪.‬‬

‫الثقافة ّ‬ ‫مكون للمتخيل الوطني‬

‫يف أزمنة مختلفة تـمامًا عن سابقتها؛ ألنها اعتمدت عىل علوم‬

‫ـواز مع نشوء الحركات‬ ‫يف مطلع القرن العشـرين‪ ،‬وبـت ٍ‬ ‫الوطنية من أجل مكافحة االستعمار‪ ،‬أصبحت الثقافة عنص ًرا‬ ‫مُـكو ًّنـا لـلمــتخيّل الوطني‪ ،‬تـرمي إىل إحـياء الجوانب املُشرقة من‬

‫ما يهمنا نحن هنا أن املـثاقفة وتـبادل التـأثري يف كل املجاالت‬

‫فعـاليتها‪ .‬وبـعد االستـقالالت دخلت الثقافة العربية إىل مرحلة‬

‫ووسائط وأنـساق فكرية وفلسفية تستـهدف فك ألغاز املجهول‪،‬‬

‫وتطـويع الطبيـعة‪ ،‬وغزو الفضاء‪ ،‬وجعل التواصل الـرقـمي حقيقة‬ ‫ملموسة ُتـزيل الحواجز وتفرض الشفافية املطلقة‪.‬‬

‫الرتاث‪ ،‬ويف اآلن نفسه تـنفتح عىل ثقافة «اآلخـر» التي أثبتت‬

‫عمـا كانا عليه‪ ،‬سواء‬

‫مغـايرة تحمل بصمات الصراع؛ من أجـل تـثـبـيت العدالة واملساواة‬

‫أصبحا عنصريْن مؤثـريْن ومـخـتلفينْ‬

‫بيـن ثقافة وأخــرى أم داخل الثقافة القائمة عىل لـغة واحدة‬

‫مـشـرتكة‪ .‬من هنا يمكن أن نضع أيدينا عىل الخلــل الذي يعانيه‬ ‫النقاش املغلوط حول الثقافة واإلبداع بني املشرق واملغرب؛‬ ‫ـول اهتمامً ا ملبحث‬ ‫ذلك أن مؤسساتـنا التعليمية واألكاديمية لم ُت ِ‬

‫سـوسيولوجيا الثقافة واألدب الذي يسعى لتـشـريح هذا الـحـقل‬

‫‪118‬‬

‫املتلقـني‪ ،‬وعــن األجناس األدبية واألشكال الفنية والسينمائية التي‬

‫الشاسع؛ لتقديم إحصائيات وأرقام وتحليالت موضعية عـن عدد‬

‫إعادة اإلنتاج الثقافي العربي‬ ‫المعاصـر المتــصف بالـتـنوع والتكامل‬ ‫مؤهــل ألن‬ ‫بين مشرق ومغرب‪ ،‬هـو‬ ‫ّ‬ ‫يكون منـطلقً ا إلعــادة التفكيـر الجدي‬ ‫في أزمة المجـتمعات العربية‬

‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬

‫وحرية الرأي ضمن دساتيـر وقوانني تحرتم املواطنة‪ ،‬وتـتخذ من‬

‫دمـقـرطة الثقافة وسيلة لـتغـيـري الوعي‪ ،‬واالنفتاح عىل الثقافة‬

‫اإلنسانية الـمـمثلة لقيم السالم والحوار ورفض العنف والتعصب‪.‬‬ ‫وهنا أصبحت الثقافة العربية‪ ،‬عىل اختالف موقعها بني مشـرق‬ ‫ومغرب‪ ،‬أمام إشكالية مشــرتكة تــتمثل يف االنتماء إىل األزمنة‬ ‫الحديثة من خالل نظام سيايس عادل‪ ،‬وثقافة مسـتـوعبة ألشكال‬ ‫التعـبري والتفكري‪ ،‬قادرة عىل جعل املواطن حاض ًرا ومشار ًكا يف بناء‬

‫مجتمع جديد‪ ،‬وهذا الوضع املـستـجد بعد مرحلة االستقالل عن‬ ‫االستعمار‪ ،‬هو ما يجعل التفاخر أو املفاضلة بني مشرق ومغرب‬

‫ثقافـيًّا‪ ،‬غري قائم عىل أساس‪ .‬أنا ال أتـوفـر‪ ،‬لـألسف‪ ،‬عىل دراسات‬

‫سوسيولوجية للثقافة العربية يف مـضاربها املختلفة‪ ،‬لكنني ألحظ‬ ‫أن ما َنـتجَ عن هذه التحوالت السياسية واالجتماعية قد تـرك‬ ‫بصمات عميقة يف الحقل الثقايف‪ ،‬وبخاصة منذ ستـيـنيات القرن‬


‫العالقة بين المشرق والمغرب‬

‫أحد األعمال المسرحية المغربية‬

‫املايض وتـبـلوُر الصراع بني اتجاهات الحداثة والتـراثيني الذين‬

‫ـوق اقتصادية تعـتـمـد عىل صـناعة الثقافة محـليًّا‬ ‫عىل إنشاء س ٍ‬ ‫وعامليًّا؛ إذ ال يـعـقل أن املنتجيـن الثقافيـني العرب ال يـستـطيعون أن‬

‫الحقل الثقايف العربي الراهـن‪ ،‬هو تفاعل نسـبي عىل مسـتوى‬

‫استطاعت السوق األوربية املوحدة‪ ،‬عىل رغم تعدد اللغات‪ ،‬أن‬

‫والفني والسينمايئ‪ ،‬وبخاصة لـدى األجيال الشابة التي تـعيش‬ ‫تـم ً‬ ‫ً‬ ‫وتهميشا داخل املجتمع‪ ،‬وذهـولاً أمام الـمـ ّد‬ ‫ـزقـا يف الهوية‪،‬‬

‫وإعــادة صوغ اإلشكالية الثقافية سـيـقودنا‪ ،‬بالـحـ ْتـم‪ ،‬إىل‬

‫يـتـشبثون بمنـهجية ماضوية يف التـعاطي مع ما يحدث من حركة‬ ‫ً‬ ‫مشرقـا ومغربًا‪ .‬والظاهرة الواضحة يف‬ ‫وتبدّل يف الحقل الثقايف‬

‫اإلنتاج األكاديمي‪ ،‬وتفاعـل أكرب منه يف مجال اإلبداع األدبي‬

‫األصـويل املـتطرف الذي يوظف الدين لـهدْم املجتمعات العربية‪.‬‬

‫من هذه الزاوية‪ ،‬ال مجال للمفاضلة أو التصنيف (املشرق أقوى‬

‫يف اإلبداع‪ ،‬وأقطار املغرب أفضل عىل مستوى الفكر)‪ ،‬فهي أحكام‬ ‫مطلقة ال تـستـند إىل تحليل مقارن ملموس‪ ،‬إضافة إىل أنها تـتـغافل‬

‫عن دور املثاقفة العاملية يف تـوحيد وبلورة أشكال ومفاهيم مشــرتكة‬ ‫بني الثقافات يف عصــر الـعوملة‪ .‬ال أتصور‪ ،‬مثلاً ‪ ،‬أن روائيًّا أو مخرجً ا‬ ‫سينمائيًّا عربيًّا‪ ،‬سيـنـطلق يف إنتاجه من أشكال تقليدية متجاهلاً ما‬

‫حقـقـه اإلبداع يف مجاله‪ .‬ونفس اليشء بالنسبة للناقد أو املفكـر‪ ،‬إذا‬ ‫كان يـريد إلنتاجه أن يجد صدى يف مجال البحث العلمي‪.‬‬ ‫إعادة صياغة اإلشكالية‬

‫يعيشوا من إنتاجهم عىل رغم هذا الفضاء الواسع املشرتك‪ .‬بينما‬

‫تخلق صناعة ثقافية ذات أبعاد اقتصادية وحضارية فاعــلة‪.‬‬

‫وضع أيدينا عىل الخـلـل يف مؤسسة الجامعة العربية التي‪ ،‬إذا‬ ‫كانت تجد أعذارًا بالنسبة للمجال السيايس‪ ،‬فـإنها تقف عارية‬

‫أمام تقـصريها وفشـلها يف مجال الثقافة‪ .‬لكن األمـر‪ ،‬يف نهاية‬ ‫التحليل‪ ،‬يـتـعـلق ً‬ ‫أيضا باملأزق السيايس العربي املـتمـثل يف عدم‬ ‫الحسم بني الحداثة واملاضوية؛ بني االستبداد والديمقراطية؛ بيـن‬

‫ثقافة التــنوير وثقافة النـقل واالجتـرار‪.‬‬

‫ألجـل ذلك‪ ،‬فإن اإلنتاج الثقايف العربي املعاصـر‪ ،‬املتــصف‬ ‫بالـتـنوع والتكامل بني مشرق ومغرب‪ ،‬هـو مؤهّ ــل ألن يكون من ً‬ ‫ـطلقا‬

‫إلعــادة التفكيـر الجدي يف أزمة املجـتمعات العربية‪ ،‬عىل أساس‬ ‫من دراسات سوسيولوجية ميدانية‪ ،‬تجعلنا عىل بـينة من تأثـريها‪،‬‬ ‫ومدى رواجها‪ ،‬وقدرتها عىل محاربة ثقافة التـدجيل والعنف‪.‬‬

‫إن من شأن إتاحة الفرصة إلنشاء صناعة ثقافية عربية‪،‬‬

‫عىل ضوء هذه امللحوظات املقتضبة‪ ،‬أرى أن االهتمام‬

‫أن يـتـيح لكل بلد عربي أن يـتـعرف ما تـنتجه األقطار األخرى‪،‬‬

‫سـيـسـعـفنا بإعــادة صـياغة اإلشــكالية بـطريقة عميقة‪ ،‬بـعيدً ا من‬ ‫املفاضلة واملـفاخرة واألحكام املـ ُبـتسـرة‪.‬‬

‫وأفالمهم ولوحاتهم‪ ،‬محـقـقيـن بذلك ً‬ ‫نوعا من االستقالل املادي‬ ‫الذي هو ضـروريّ لحماية حـرية املنتجني الثقافيني واملبدعني‪،‬‬

‫أنه شــاسع بفضل لـغـته التي تشمـل ثالث مئة مليون نسمة‪ ،‬ومن‬

‫بمهمة اإلبداع والنــقد الضـرورية لكل مجتمع يتطلع إىل بناء‬

‫بـسـوسيولوجيا الثقافة العربية‪ ،‬وبخاصة يف جوانبها العملية‪،‬‬

‫ويف طليعة الحقائق التي يفاجئـنا بها الحقل الثقايف العربي‪،‬‬

‫خاللها يـتـكوّن فضاء مـتـنوع ومـمـتـلك ألداة الحوار والـتـبـادل‪ ،‬وقادر‬

‫وأن يسمح للمنتـجني يف هذا املجال أن يعيشوا من أقالمهم‬

‫ويمـهد الستـقالل الحقل الثقايف عن كل وصاية تـعـوق اضطــالعه‬ ‫مستقبل أفضل‪.‬‬

‫‪119‬‬


‫قضايا‬

‫التواصل والقطيعة ‪..‬‬ ‫التنافس والتباري الخلاَّ ق‬

‫حسين حمودة‬ ‫ناقد وأكاديمي مصري‬

‫مسيرة المشاركة والتواصل المتكافئ بين المشرق والمغرب العربيين مسيرة‬

‫‪120‬‬

‫قديمة وحديثة ً‬ ‫معا‪ ،‬طويلة وممتدة‪ ،‬ومتعددة المجاالت‪ ،‬ومتجددة المعالم‪.‬‬

‫قد يتوارى أو يبهت شيء من مالمح هذه المسيرة‪ ،‬في بعض األزمنة‪ ،‬لكن ال‬

‫يمكن للذاكرة البعيدة أو القريبة أن تذهب بها األهواء‪ ،‬أو سطوة النسيان‪ ،‬أو‬ ‫النزوع للتنافس‪ ،‬إلى ّ‬ ‫حد نكران تلك المسيرة وال إلى درجة تجاهلها‪.‬‬

‫خالل حقب تاريخية طويلة قديمة‪ ،‬كما نعرف جميعً ا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫أحيانا‪ ،‬لم تتوقف االرتحاالت بني‬ ‫وينىس بعضنا أو يتناىس‬

‫ومحمد بن الحسن الحجوي‪ .‬وكان من بني هؤالء الرحالة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫أيضا وطبعً ا‪ ،‬عبدالرحمن بن خلدون الذي ال تزال «مقدمته»‬

‫تتواىل طيلة قرون ممتدة‪ .‬أغلبها كان رحالت للحجّ وللمثاقفة‬

‫هذه الكتابات‪ ،‬أو أغلبيتها‪ّ ،‬‬ ‫تمثل وثائق وشهادات صيغت‬

‫املغرب واملشرق‪ .‬كان منها أسفار الرحّ الني املغاربة التي ظلت‬ ‫رث عرب عن‬ ‫وللتقارب وللتصاهر‪ ،‬ونتاجها األدبي واملعريف ال ّ‬

‫صامدة يف وجه تقلبات الزمن وتراكمات املعرفة وتجدّ دها‪.‬‬

‫بأكرث من منظور‪ ،‬حول مظاهر الحياة الروحية واالجتماعية‬

‫باق وملموس األثر‪ ،‬عن سعي إىل مناهضة تباعد‬ ‫تجسيد‪ٍ ،‬‬ ‫املسافات التي تفرضها الجغرافيا الواحدة املرتامية األطراف‪.‬‬

‫وحول الذات العربية الجمعيّة التي ظلت أطرافها‪ ،‬دائمً ا‪،‬‬

‫بكل الطرق الوعرة واملمهّدة‪ ،‬عن امتدادها يف أرض بعيدة‪،‬‬

‫هي قطع من األدب العربي الرفيع‪.‬‬

‫كما قدّ م هذا النتاج صورًا دالة عىل روح ظلت دائمً ا تبحث‪،‬‬

‫والسياسية والثقافية العربية يف مراحل عدة من التاريخ‪،‬‬ ‫تطمح إىل االلتئام‪ .‬وبعض هذه الكتابات‪ ،‬يف قراءتها حتى اآلن‪،‬‬

‫وترنو إىل هذه األرض؛ لكونها جزءً ا من عاملها الواحد‪ .‬يف‬

‫اتصل بهذه الرحالت ممارسات انصهار متعددة األشكال‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫توطن بعض املغاربة يف املشرق‪،‬‬ ‫لم تتوقف «عمليات»‬

‫ابن جبري‪ ،‬وأبو عبدالله العبدري‪ ،‬وابن بطوطة‪ ،‬وأبو البقاء‬

‫أوطانهم الجديدة‪ ،‬وتحوّل بعضهم إىل «أقطاب»‪ ،‬يف العلم‬

‫هذه الناحية‪ ،‬وضمن هذا النتاج‪ ،‬يمكن أن نستعيد كرثة‬

‫من كتابات صاغها الرحّ الون املغاربة طيلة قرون‪ :‬أبو الحسن‬ ‫البلوي‪ ،‬وأبو الحسن عيل القلصادي‪ ،‬وأبو سالم العيايش‪،‬‬

‫والشاوي الغنامي‪ ،‬وأبو عبدالله الحضييك‪ ،‬والشيخ ماء‬

‫العينني‪ ،‬والحسن بن محمد الغسال‪ ،‬وأبو عبدالله الكناين‪،‬‬ ‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬

‫ومشاركتهم أهله‪ .‬وقد توىل كثري منهم مناصب مهمة يف‬ ‫واملعرفة ويف الصوفية‪ ،‬ويف غري ذلك‪.‬‬ ‫***‬

‫طبعً ا‪ ،‬مع أشكال التقارب واالنصهار هذه‪ ،‬لم يتالش‬


‫العالقة بين المشرق والمغرب‬ ‫الوعي «الطبيعي» بالخصوصية‪ .‬يف دائرة األدب العربي‬

‫الثقايف‪ ،‬األدبي والنقدي العربي‪ ،‬الواحد عىل رغم تنوعاته‬

‫الشامي»‪ ،‬أو «أدب بني الرافدين»‪ ،‬أو «أدب الجزيرة العربية»‪،‬‬

‫املشهد‪ :‬هل هم من أهل املشرق أم من أهل املغرب‪.‬‬

‫القديم‪ ،‬كانت هناك تصنيفات لدوائر أصغر من مثل‪« :‬األدب‬ ‫أو «األدب املصري»‪ ،‬وطبعً ا كان هناك «األدب املغربي»‪ .‬ومثل‬

‫هذا التصنيف لم يكن يعني أكرث من تحديد الدوائر الصغرى‬ ‫ضمن الدائرة الكربى‪ ،‬من دون قطيعة أو انفصال‪.‬‬

‫امتداد الوعي بالخصوصية‪ ،‬بهذا املعنى‪ ،‬هو ما سيجعل‬ ‫بعض الك ّتاب املغاربة‪ ،‬يف العصر الحديث‪ ،‬يضع كتبًا تعمل‬

‫الفرعية‪ ،‬بما يستبعد التساؤل حول املسهمني يف عناصر هذا‬ ‫***‬

‫«الخصوصية الفرعية عىل رغم االنتماء الواحد»‪ ،‬ذلك‬

‫املظهر املطروح قديمً ا‪ ،‬هو نفسه الذي يمكن طرحه اآلن‪ .‬وإذا‬

‫شئنا التمثيل‪ ،‬من بني النتاج األدبي والثقايف املتنوع؛ فالرواية‬ ‫املغاربية املعاصرة‪ ،‬مثلاً ‪ ،‬يمكن أن نجد فيها ما يميزها عىل‬

‫عىل «توصيل» األدب املغاربي ألهل املشرق؛ تقوم بتجميعه‬

‫مستوى املوضوعات والتناوالت والجماليات‪ ،‬ولكننا يف النهاية‬

‫املائزة لهذا األدب؛ لتؤكد هويته العربية يف مواجهة هوية‬

‫وما يقال عن الرواية املغاربية املعاصرة يمكن أن يقال‬

‫وتقديمه لهم‪ ،‬ويف الوقت نفسه تسعى لتلمّ س املالمح‬

‫أخرى‪ ،‬استعمارية‪ ،‬عملت عىل ابتالع معالم الهوية املغاربية‬

‫العربية‪ .‬ومن أشهر هذه الكتب كتاب محمد بلعباس القباج‬ ‫املعنون بـ«األدب العربي يف املغرب األقىص»‪ ،‬الصادر يف نهايات‬ ‫عشرينيات القرن املايض‪ ،‬وكتاب عبدالله كنون «النبوغ املغربي‬

‫يف األدب العربي»‪ ،‬الصادر يف ثالثينيات القرن نفسه‪ .‬وقد‬

‫انطلق الكتابان من تسليم أساس‪ :‬األدب املغاربي دائرة من‬

‫دوائر األدب العربي‪ ،‬ال تنفصل عن مجالها األكرب وال تنقطع‬ ‫عنه‪.‬‬

‫***‬

‫بهذا كله‪ ،‬تصعب اإلجابة بغري النفي عن أسئلة من مثل‪:‬‬

‫هل انقطع‪ ،‬يف وقت من األوقات‪ ،‬التواصل األدبي والثقايف بني‬ ‫املشرق واملغرب العربيني؟ هل غاب إنجاز هؤالء عن هؤالء؟‬

‫نتلقاها ونراها كما نتلقى ونرى كل رواية عربية أخرى‪.‬‬

‫عن النقد املغاربي‪ .‬هناك حركة نشطة‪ ،‬وهناك «خصوصية»‬

‫ً‬ ‫خصوصا‪،‬‬ ‫فرضها التوجه لبعض إسهامات النقد الفرنيس‪،‬‬ ‫وهو نقد أساس ومهم ضمن مناهج أو مدارس «النظريات‬

‫األدبية املعاصرة» التي ظلت اجتهاداتها تتشكل خالل عقود‬ ‫القرن العشرين كلها تقريبًا‪ ،‬يف غري لغة ويف غري بلد‪ .‬طبعً ا‪،‬‬ ‫لم يكن اإلسهام الفرنيس هو اإلسهام الوحيد بهذه النظريات‪.‬‬

‫ولكن قراءة النقاد املغاربة‪ ،‬بالفرنسية‪ ،‬قادتهم إىل إسهام‬ ‫النقد الفرنيس أ ّولاً ‪ ،‬ثم قادتهم إىل إسهامات نقدية أخرى‪،‬‬ ‫فيما بعد‪ .‬ويمكن بسهولة مالحظة اهتمام كرثة منهم‪ ،‬إىل‬

‫حد الشغف‪ ،‬بمفاهيم نقاد من خارج فرنسا؛ مثل الناقد‬

‫الرويس ميخائيل باختني‪ ،‬وبعض األسماء املحسوبة عىل‬ ‫النقد األنغلو‪/‬ساكسوين‪.‬‬

‫هل كان أدب املغرب وثقافته بعيدين عن التجاوبات املشرقية‪،‬‬ ‫وهل كان أدب املغرب أقل ً‬ ‫شأنا من أدب املشرق أو العكس؟‬

‫مع مسرية التواصل واملشاركة املتكافئة‪ ،‬املشرقية املغربية‪،‬‬

‫األسئلة‪ ،‬وهي إجابة مدعومة بحركة التاريخ‪ ،‬وبتصورات ثاقبة‬

‫أصوات تنحو إىل القول بتأكيد التفاوت يف اإلنجازات بني‬

‫«ال»‪ ،‬هي اإلجابة القاطعة واملؤكدة والنهائية عن مثل هذه‬

‫ومنصفة؛ ومن بني هذه التصورات ما رآه بعض «أهل املشرق»‬ ‫يف أدب املغرب وثقافته‪ .‬كتب مثلاً عن كتاب «النبوغ املغربي»‪،‬‬ ‫املشار إليه‪ ،‬كل من شكيب أرسالن وطه حسني؛ وقد أكدا‬

‫قيمة األدب املغاربي الكبرية‪ ،‬وأهمية التواصل بينه وبني األدب‬ ‫املشرقي‪ .‬وغري بعيد عن هذا السياق‪ ،‬كلمات كثرية قالها طه‬

‫حسني يف غري محاضرة له‪ ،‬بتونس واملغرب‪ ،‬خالل خمسينيات‬

‫القرن املايض وما بعدها (وبعض هذه املحاضرات متاح بالصوت‬ ‫عىل شبكة «اإلنرتنت»)‪ ،‬وهي كلمات تشعر بالجميل وبالدين‬

‫العظيم ملا قدّ مه األدب املغاربي والثقافة املغربية لألدب العربي‬ ‫كله وللثقافة العربية كلها‪.‬‬

‫***‬

‫املمتدة عرب التاريخ‪ ،‬فقد الحت هنا وهناك‪ ،‬يف بعض األزمنة‪،‬‬

‫املشارقة واملغاربة‪.‬‬

‫ولعل أغلب هذه األصوات كان ينطلق من النزوع إىل‬

‫«التنافس»؛ وجزء منه هو التنافس املحمود الذي يمكن أن‬

‫يحتدم بني األشقاء يف األسرة الواحدة‪ ،‬الذي يبدأ ليتالىش‬ ‫ّ‬ ‫يتخطاه‪.‬‬ ‫سريعً ا‪ ،‬ويقف دائمً ا عند حدّ بعينه‪ ،‬ال يجاوزه أو‬ ‫التنافس املحمود يستدعي السؤال عن التنافس غري‬

‫املحمود‪ :‬ما الذي يفارق بينهما؟ التنافس غري املحمود تؤسسه‬

‫نزعة للنفي واالستبعاد‪ ،‬وينطلق التنافس املحمود من حرص‬ ‫عىل «قوة التباري الخلاّ ق»‪.‬‬ ‫آمل أن ما نسمعه مؤخ ًرا‪ ،‬من أصوات تسري يف هذه‬

‫فيما بعد القباج وكنون وأرسالن وطه حسني‪ ،‬وقريبًا من‬

‫الوجهة أو تلك‪ ،‬حول تقييم منجزات إبداع أو نقد أهل املشرق‬

‫املشرق واملغرب‪ :‬هناك كثري من املؤتمرات والندوات‪ ،‬وهناك‬

‫النوع األخري؛ ينطلق من امليل للتباري الخالق وليس من النزوع‬

‫سنواتنا التي نحياها‪ ،‬ثمة كثري من معالم املشاركة املتكافئة بني‬

‫كثري من تكامل اإلسهامات‪ ،‬املشرقية واملغربية‪ ،‬يف املشهد‬

‫وأهل املغرب‪ ،‬ينتمي إىل النوع األول من التنافس وليس إىل‬

‫للنفي واالستبعاد‪.‬‬

‫‪121‬‬


‫قضايا‬

‫اإلشكال المشرقي المغاربي‬

‫بين النهضة والحداثة‬

‫عبده وازن‬ ‫شاعر وناقد لبناني‬

‫‪122‬‬

‫ال يكاد يخفت السجال حول العالقة بين المشرق والمغرب حتى يستعر مرة تلو أخرى‪،‬‬ ‫فيُعاد طرح قضايا هذه العالقة الثقافية الشائكة التي لم تتخلص من طابعها اإلشكالي‪،‬‬ ‫وهذا يدل على أن السجال لم يلق خاتمته المفترضة‪ ،‬وأن األسئلة التي طالما طرحها منذ‬ ‫عقود ال تزال من دون أجوبة شافية‪ .‬وواضح أن المثقفين المغاربة لم يتخطوا مشكلة‬ ‫تاريخية ما زالت تحفر في ال وعيهم الجماعي‪ ،‬وهي تتمثل في غيابهم عن الحركتين‬ ‫الرئيستين اللتين شغلتا القرن العشرين‪ :‬وهما حركة النهضة‪ ،‬وثورة الحداثة‪ .‬وفي‬ ‫المقابل ما برح المثقفون المشرقيون يرون أن هاتين الحركتين اللتين وسمتا القرن‬ ‫المنصرم هما إرث مشرقي ترسخ في جغرافيا «المركز» بين القاهرة وبغداد وبيروت‪،‬‬ ‫وظل المغرب العربي ً‬ ‫وقفا على جغرافية «األطراف» مثله مثل الخليج وسواه‪.‬‬

‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬


‫العالقة بين المشرق والمغرب‬ ‫معروف أن حركة النهضة الفكرية‬

‫والروائيني املشارقة فاعلاً يف نشوء‬

‫األخرية من القرن التاسع عشر‪ ،‬ونشأت‬

‫ال سيما عرب أدونيس وشعراء مجلة‬ ‫«شعر»‪ ،‬وك ّتاب مجلة «اآلداب»‪ ،‬لكنّ‬

‫الحداثة املغاربية‪ ،‬إن أمكن القول‪،‬‬

‫واألدبية انطلقت من القاهرة يف العقود‬ ‫فيها وترسخت خالل العقود األوىل من‬

‫الجيل الالحق واألجيال التي أعقبته‬

‫القرن العشرين‪ .‬وكانت القاهرة حينذاك‬

‫ما لبثت أن تفردت بإبداعها ورؤيتها‬

‫بمنزلة البوصلة التي جذبت أعالم بالد‬ ‫ً‬ ‫مالذا يقيهم‬ ‫الشام الذين وجدوا فيها‬

‫الحداثية‪ ،‬ومقاربتها الجمالية للغة‪،‬‬

‫الطغيان العثماين‪ ،‬ومساحة لإلبداع‬

‫الفكري والشعري خاصة‪ ،‬وفيها أسسوا‬ ‫ً‬ ‫صحفا‪ ،‬وكتبوا وأبدعوا وناضلوا‪ .‬أما‬

‫متمردة عىل اإلرث املغاربي الذي غالبًا‬

‫محمد أركون‬

‫ما عرف بأصالته التقليدية‪ ،‬ولغته‬

‫التقعريية «أركاييك»‪ .‬وأغلب الظن اآلن‬

‫حركة الحداثة‪ ،‬واملقصود هنا الحداثة الشعرية‪ ،‬فانطلقت‬

‫أن املبدعني املغاربة واملشارقة‪ ،‬ومبدعي جميع «األطراف»‬ ‫ً‬ ‫سابقا) باتوا يف حال من‬ ‫(أو ما كان يسمى «األطراف»‬

‫شعراء مثل بدر شاكر السياب‪ ،‬ونازك املالئكة‪ ،‬وعبدالوهاب‬

‫«املركزية»‪ ،‬ولم يعد هناك من عواصم تقصر اإلبداع عىل‬

‫يف مرحلتها األوىل يف بغداد من خالل الثورة التي أعلنها بني‬

‫نهاية األربعينيات ومطلع الخمسينيات من القرن العشرين‪،‬‬ ‫البيايت‪ ،‬وبلند الحيدري‪ ،‬وسواهم‪.‬‬

‫التساوي واالنصهار بعدما زالت التخوم الجغرافية‪ ،‬وغابت‬ ‫نفسها‪.‬‬

‫لكن حركة الحداثة ما برحت أن انتقلت إىل بريوت مع‬

‫لم تعد بريوت عاصمة الشعر الجديد‪ ،‬وال القاهرة‬

‫املشروع الحدايث‪ ،‬ليس يف الشعر فحسب؛ إنما فكريًّا وفنيًّا‬ ‫ً‬ ‫أيضا‪ ،‬نظريًّا وإبداعيًّا‪ ،‬وقد جمعت يف بداياتها شعراء‬

‫العددي‪ ،‬وال بغداد وسواها‪ .‬لقد تحررت الحركة اإلبداعية‬

‫انطالق مجلة «شعر» عام ‪1957‬م‪ ،‬وهي املجلة التي جسدت‬

‫عاصمة الرواية الجديدة‪ ،‬وإن كانت هي األغزر عىل الصعيد‬ ‫العربية الراهنة من وطأة الجغرافية‪ ،‬وباتت تدور يف أفق‬

‫ونقادًا من لبنان وسوريا والعراق‪ .‬وبرزت هنا ً‬ ‫أيضا مجلة‬

‫عربي واسع يضم كل الدول‪ ،‬إضافة إىل املنفى أو املغرتب‪.‬‬

‫عام ‪1956‬م‪ ،‬وكانت تمثل مرجعً ا للتيار العربي القومي‪،‬‬

‫يف صهر التجارب العربية‪ ،‬وال سيما بعضها ببعض‪ ،‬حتى‬

‫«اآلداب» التي أسسها ورأس تحريرها الروايئ سهيل إدريس‬ ‫واألدب امللتزم‪.‬‬

‫وقد ساهمت حتمً ا مساحة اإلنرتنت يف السنوات األخرية‬ ‫بات املبدعون العرب ينتمون إىل أجيال‬

‫وتيارات شاملة أكرث مما ينتمون إىل‬

‫اضطراب املعادلة الثقافية‬

‫عواصم وبلدان‪.‬‬

‫ال شك يف أن غياب املغرب العربي‬

‫العقدة املشرقية‬

‫عن هاتني الحركتني جعل املعادلة‬

‫الثقافية املشرقية املغربية يف حال من‬

‫وعىل الرغم من صعود نجم‬

‫االضطراب وعدم االنصهار‪ ،‬ال سيما أن‬

‫الحضور املغاربي‪ ،‬ال سيما يف حقول‬

‫هذا املغرب سرعان ما شهد حركة فكرية‬

‫مهمة مثل الفلسفة الحديثة والفكر‬

‫استطاعت خالل ما يقارب العقدين‬

‫أن توازي الحركة الفكرية املشرقية‪،‬‬

‫والرتجمة‬

‫عبدالله العروي‬

‫والنقد‬

‫األكاديمي‪،‬‬

‫وقد‬

‫تجىل هذا الحضور كل التجيل يف هذه‬

‫ً‬ ‫الحقا‪ .‬ولعل مفكرين يف‬ ‫وبخاصة املصرية‪ ،‬وأن تتخطاها‬

‫ً‬ ‫سباقا‪ ،‬وكذلك يف حقيل الرواية والشعر بدءً ا‬ ‫الحقول‪ ،‬وبات‬

‫ومحمد عابد الجابري‪ ،‬وفاطمة املرنييس‪ ،‬وعبدالكبري‬

‫تسميته «العقدة» املشرقية‪ ،‬وبخاصة فيما يتعلق بحركتي‬ ‫النهضة والحداثة‪ .‬وليست املواقف السلبية أو املتوترة التي ُتعلن‬

‫حجم عبدالله العروي‪ ،‬ومحمد أركون‪ ،‬وهشام جعيط‪،‬‬ ‫الخطيبي‪ ،‬وعبدالفتاح كيليطو‪ ،‬وجمال الدين بن شيخ‪،‬‬

‫وسواهم‪ ،‬كانوا يف مقدّ م املوجة الفكرية الحديثة‪ ،‬وساهموا‬ ‫يف تأسيس تيار فكري جديد وطليعي يف طروحاته وتطلعاته‬

‫ومناهجه‪.‬‬ ‫أما اإلبداع األدبي والشعري‪ ،‬فكان عليه أن ينتظر قليلاً‬

‫حتى يربز عىل الصعيد العربي‪ ،‬وقد بدا أثر بعض الشعراء‬

‫من السبعينيات‪ ،‬فما زال بعض املثقفني يعانون ما يمكن‬

‫حي ًنا تلو آخر يف مضمار هذه العالقة‪ ،‬إال تعبريًا عن اإلشكال‬ ‫الذي لم ينته حتى اآلن‪ .‬وما يزيد من استعاره مواقف بعض‬

‫املشارقة التي ال تخلو من الغلو يف مدح الريادة املشرقية‪ .‬لكن‬ ‫ذنب تغيّب املغرب العربي أو غيابه عن النهضة والحداثة ال يقع‬ ‫عىل عاتق املشارقة‪ .‬واملسألة أبعد من أن تحد يف إطار الجغرافيا‬

‫‪123‬‬


‫قضايا‬ ‫أو الجهات‪ .‬وليس من املستغرب أن‬ ‫يغيب املغرب العربي مثلاً عن كل‬

‫أمثال‪ :‬بدر شاكر السياب‪ ،‬وأدونيس‪،‬‬

‫النهضة والحداثة‪ ،‬ما خال بضع مالمح‬

‫لم يركز بنيس عىل أسماء هؤالء‬

‫(‪1991-1941‬م) إىل جانب أسماء رائدة من‬

‫األبحاث النقدية والتاريخية التي تتناول‬

‫ومحمود درويش‪.‬‬

‫أو أسماء قليلة جدًّ ا‪ .‬الناقد والباحث‬

‫الشعراء املغاربة غري املعروفني عربيًّا‪،‬‬

‫يف تاريخ األدب العربي‪ ،‬قديمه وحديثه‬

‫ويمعن يف دراستهم مثلهم مثل‬

‫األب حنا الفاخوري الذي وضع واحدً ا من‬

‫نظرائهم املشارقة‪ ،‬إال ليعيد إىل الشعر‬

‫أهم الكتب املرجعية عن األدب املغاربي‬

‫املغاربي حضوره ودوره املنتقص يف‬

‫وعنوانه «تاريخ األدب العربي يف املغرب»‬ ‫لم يذكر يف كتابه املوسوعي «الجامع يف‬

‫تاريخ األدب العربي» (األدب الحديث)‬

‫سوى اسم الشاعر التونيس النهضوي أبي القاسم الشابي‪ .‬حتى‬ ‫أدونيس يف كتابه «الثابت واملتحول» يف أجزائه األربعة لم يركز‬ ‫عىل أي شاعر من املغرب العربي‪.‬‬

‫شعراء بنيس غري املعروفني‬

‫فاطمة المرنيسي‬

‫أن من املستغرب أن يدرج اسم الشاعر‬ ‫محمد الخمار الكنوين إىل جانب أسماء‬

‫الرواد الثالثة‪ ،‬مع أنه لم يصدر سوى ديوان واحد هو «رماد‬ ‫هسربيس» الذي صدر متأخ ًرا عن دار توبقال عام ‪1987‬م‪.‬‬

‫أما كتاب الشاعر محمد بنيس األكاديمي «الشعر‬

‫العربي الحديث» يف أجزائه األربعة‪ ،‬وسائر أعماله النقدية‬ ‫النظرية والتطبيقية‪ ،‬فبدت خطوة مهمة نحو ترسيخ‬

‫ولعل هذا «التغييب» الذي يخضع ملقياس موضوعي‬

‫الشعرية املغربية تاريخيًّا وحداثيًّا‪ ،‬وقد آزرته مجموعة من‬

‫كتابه الضخم «الشعر العربي الحديث» يف أجزائه األربعة‪،‬‬

‫األنطولوجية ودالالتها‪ ،‬ومن هؤالء النقاد‪ :‬محمد مفتاح‪،‬‬

‫حدا الشاعر والناقد محمد بنيس عىل إبراز شعراء مغاربة يف‬

‫‪124‬‬

‫مرحلتي النهضة والحداثة‪ .‬وبدا واضحً ا‬

‫سواء يف مرحلة النهضة أم الحداثة‪ .‬ففي الجزء الذي خصه‬

‫بما يسمى النزعة التقليدية أورد اسم الشاعر املغربي محمد‬ ‫ابن إبراهيم (‪1955-1897‬م) املكنى بـ«شاعر الحمراء»‪ ،‬إىل‬ ‫جانب أسماء شعراء نهضويني كبار من‬

‫أمثال‪ :‬أحمد شوقي‪ ،‬ومحمود سامي‬

‫البارودي‪ ،‬ومحمد مهدي الجواهري‪ .‬أما‬ ‫يف الجزء الخاص بالنزعة الرومانطيقية‬

‫فأدرج اسم الشاعر املغربي عبدالكريم‬

‫ابن ثابت (‪1961-1917‬م) مع أسماء كبرية‬

‫النقاد الجدد يف إيضاح خصائص هذه الشعرية وهويتها‬

‫والشاعر صالح بوسريف‪ ،‬وعبدالرحيم جربان‪ ،‬ومصطفى‬ ‫الغرايف‪ ،‬وعبدالفتاح الحجمري‪ ،‬وسواهم‪.‬‬

‫ً‬ ‫انطالقا من‬ ‫وبات من املمكن الكالم عن شعرية مغاربية‬ ‫الجهود التي بذلها ً‬ ‫أيضا نقاد يف تونس‬ ‫والجزائر‪ ،‬ومنهم محمد لطفي اليوسفي‪،‬‬

‫واملنصف الوهايبي‪ .‬وكان صدور مجلة‬

‫«انفاس» (سوفل) املغربية عام ‪1973‬م‬ ‫ً‬ ‫حدثا‬ ‫بالفرنسية أولاً ‪ ،‬ثم بالعربية‪،‬‬

‫شعريًّا مهمًّ ا عىل مستوى الشعر املغاربي‬

‫مثل‪ :‬خليل مطران‪ ،‬وجربان خليل‬

‫الفرانكفوين واملكتوب بالعربية‪ .‬هذه املجلة‬

‫الخاص بالشعر املعاصر أورد اسم‬

‫املغاربية التي تضاهي الحداثة املشرقية‬

‫جربان‪ ،‬وأبي القاسم الشابي‪ .‬ويف الجزء‬ ‫الشاعر املغربي محمد الخمار الكنوين‬

‫واضح أن المثقفين المغاربة لم يتخطوا‬ ‫مشكلة تاريخية ما زالت تحفر في ال‬

‫أرست ما يمكن تسميته الحداثة الشعرية‬ ‫أدونيس املوازية لها زمنيًّا‪ ،‬وقد شارك يف تأسيسها‬

‫الطاهر بن جلون‪ ،‬ومصطفى النيسابوري‪ ،‬وعبداللطيف‬

‫اللعبي‪ ،‬ومحمد خري الدين‪ .‬ثم صدرت مجلة «الثقافة الحديثة»‬ ‫عام ‪1974‬م التي أسسها محمد بنيس مع الكاتب مصطفى‬

‫املسناوي‪ ،‬وأعقبتها مجلة «البيت» الصادرة عن «بيت الشعر‬

‫وعيهم الجماعي‪ ،‬وتتمثل في غيابهم‬

‫املغربي»‪ .‬وعىل الرغم من انفتاح هذه املجالت عىل األدب العربي‬

‫القرن العشرين وهما حركة النهضة‬

‫هو بلورة الهوية املغربية ثقافيًّا وأدبيًّا وشعريًّا‪ ،‬وجعلها هوية‬

‫عن الحركتين الرئيستين اللتين شغلتا‬

‫ً‬ ‫مشروعا أساسيًّا‪،‬‬ ‫الراهن واألدب العاملي‪ ،‬فإنها بدت كأنها تتبنى‬

‫وثورة الحداثة‬

‫عربية‪ ،‬ولكن منفتحة عىل آفاق فرانكفونية وعاملية‪ ،‬وهذا يسبغ‬

‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬

‫عليها سمات التفرد والخصوصية‪.‬‬


‫العالقة بين المشرق والمغرب‬

‫فتنة المغاربة بالشرق‬ ‫حسونة المصباحي‬ ‫ّ‬ ‫روائي تونسي‬

‫ما يجمع أبناء بلدان المغرب العربي الثالثة؛ أي المغرب والجزائر وتونس‪ ،‬أكثر‬

‫ممّ ا يمكن أن يفرق بينهم‪ .‬وفتنتهم بالشرق هي من بين ما يشتركون فيه وجدانيًّا‬

‫ّ‬ ‫والمقدس هو الفاعل‬ ‫ودينيًّا ومعرفيًّا وتاريخيًّا منذ أن انتشر اإلسالم في ربوعهم‪.‬‬ ‫األساسي في هذه الفتنة‪ .‬فقد أصبحت مكة المكرمة وجهتهم؛ منها جاء اإلسالم‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫والقرآن الكريم‪ ،‬واللغة العربيّة التي فرضت وجودها في البلدان الثالثة ابتداء من‬

‫القرن التاسع‪ ،‬ماحية وجود اللغة الالتينية التي كانت سائدة في العصور الرومانية‪،‬‬ ‫ومُ ّ‬ ‫قلصة من نفوذ اللغة األمازيغية‪ :‬لغة البربر‪ .‬وكان الحجّ إلى بيت الله الحرام‬

‫الوسيلة المثلى لتعرف الشرق‪ .‬فقد كان الحجاج المغاربة ملزمين بعبور ليبيا‪،‬‬ ‫ومصر‪ ،‬وجزء من بالد الشام‪ ،‬والبحر األحمر؛ لبلوغ األماكن المقدسة‪ .‬وكانت‬ ‫ّ‬ ‫الشاقة والطويلة‪ ،‬تسمح لهم باكتساب معرفة واسعة بعادات وتقاليد‬ ‫هذه الرحلة‬

‫وتاريخ البلدان والمناطق التي يمرّون بها في غدوّهم ورواحهم‪ .‬كما كانت تسمح‬ ‫لهم بااللتقاء برجال دين‪ ،‬وشخصيّات سياسيّة وأدبيّة‪ ،‬وتجار‪ ،‬ومغامرين‪.‬‬

‫‪125‬‬


‫قضايا‬ ‫وشي ًئا فشي ًئا لم يعد الحجّ وحده الباعث الوحيد للرحلة‬

‫بطوطة‪ ،‬وابن طنجة‪ ،‬دليل آخر عىل فتنة املغاربة بالشرق‪ .‬من‬

‫توسيع معارفهم يف الفقه‪ ،‬ويف األدب‪ ،‬ويف مجاالت معرفيّة‬

‫واشتدت األزمات‪ ،‬والكوارث‪ ،‬والزالزل السياسيّة التي مَ هّدت‬

‫إىل الشرق‪ .‬حدث ذلك عندما أصبح املغاربة يتطلعون إىل‬ ‫أخرى سواء يف دمشق‪ ،‬أم يف بغداد‪ ،‬أم يف البصرة‪ ،‬أم يف‬

‫القاهرة‪ ،‬أم يف حواضر أخرى‪ .‬وكان طالب العلم املغربي يعود‬

‫إىل القريوان‪ ،‬أو إىل تلمسان‪ ،‬أو إىل فاس‪ ،‬أو إىل مراكش؛‬

‫ليحظى بتقدير واحرتام أهل السياسة‪ ،‬والدين‪ ،‬واألدب‪.‬‬ ‫فالشرق هو منبع املعارف الكربى‪ .‬ومن ينهل منه يصبح من‬

‫املك ّرمني املبجّ لني‪ .‬وكثريون هم املغاربة الذين فتنهم الشرق‬

‫ففضلوا أن يمضوا فيه ما تبقى لهم من العمر‪ .‬ومحيي الدين‬ ‫بن عربي واحد من هؤالء‪ .‬فبعد أن ساح طويلاً يف بالد األندلس‪،‬‬ ‫واملغرب‪ ،‬وتونس‪ ،‬رأى يف منامه وهو يف مراكش عرش الله‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ومالكا ينصحه بالتوجه إىل الشرق‪ ،‬فأخذ بالنصيحة من دون‬ ‫تردّد ليميض الجزء األكرب من حياته متنقلاً بني بلدان كثرية‪.‬‬

‫لسقوط العرب الحضاري‪.‬‬

‫سري مثقفني ومصلحني وسياسيني‬ ‫ويف العصور الحديثة‪ّ ،‬‬ ‫ظلت فتنة املغاربة بالشرق مشعّ ة‬

‫وملتهبة‪ .‬وهذا ما تعكسه سري مثقفني ومصلحني وسياسيني‪.‬‬

‫والتونيس الشيخ محمد بريم (مولود عام ‪1840‬م) الذي كان من‬ ‫ّ‬

‫أنصار املصلح الكبري خري الدين باشا التونيس واحدً ا من هؤالء‪.‬‬ ‫فبعد أن طاف طويلاً يف بلدان أوربيّة مختلفة للتداوي من مرض‬

‫عضال أصيب به يف طفولته‪ ،‬عاد إىل تونس ليناصر األفكار‬ ‫اإلصالحيّة‪ ،‬املنوّرة للعقول‪ ،‬لكن الوزير الفاسد مصطفى بن‬ ‫إسماعيل الذي تآمر مع الفرنسيني الحتالل تونس‪ ،‬شدّ د عليه‬

‫ويف النهاية‪ ،‬استقر به املقام يف دمشق ليموت ويدفن‬

‫الخناق ليجربه يف النهاية عىل الهجرة إىل إسطنبول‪ ،‬ثم إىل‬ ‫مصر التي وجد فيها َخيرْ َ املالذ؛ لذا ّ‬ ‫فضل االستقرار فيها حتى‬

‫فلمّ ا هلك أهله بسبب الطاعون الجارف الذي ضرب البالد‪،‬‬

‫والفتنة باملشرق هي التي ح ّرضت الشيخ التونيس املصلح‬

‫هناك‪ .‬وكذا كان األمر لعبد الرحمن بن خلدون الذي أمىض‬ ‫السنوات العشرين األوىل من حياته يف تونس‪ ،‬مسقط رأسه‪،‬‬

‫‪126‬‬

‫خاللها نتعرف حقبة مهمة من تاريخ بلدان كثرية‪ ،‬فيها تكاثرت‬

‫ذهب إىل فاس ليختلط فيها بأهل الفقه واألدب والسياسة‪.‬‬

‫بل إنه تورط يف مؤامرة سياسية‪ ،‬سجن بسببها ملدة عامني‪،‬‬ ‫اكتسب خاللهما تجربة مهمة سوف تفيده عندما يشرع يف‬

‫كتابة مقدمته الشهرية‪ .‬كما أنه عاش يف بالد األندلس‪ ،‬يف‬

‫وفاته يف الثامن عشر من شهر ديسمرب عام ‪1889‬م‪.‬‬

‫والزعيم السيايس الكبري عبدالعزيز الثعالبي عىل ترك تونس‬ ‫يف مطلع العشرينيات من القرن املايض ليميض ما يزيد عىل‬ ‫‪ 15‬سنة متنقلاً بني بالد الشرق‪ ،‬مدرّسً ا يف بغداد‪ ،‬وداعية‬

‫حماية وضيافة صديقه لسان الدين بن الخطيب‪ ،‬السيايس‬

‫والشاعر الالمع‪ .‬فلمّ ا كرثت السعايات الخبيثة بينهما‪ ،‬عاد من‬ ‫جديد إىل املغرب ليواجه تجارب ومح ًنا أخرى‪ ،‬نجد مالمحها‬

‫وعبرَ ها يف مقدمته‪.‬‬ ‫ِ‬

‫وكان ابن خلدون يف سنّ األربعني عندما عاد إىل تونس‬

‫آملاً أن يجد فيها ما يريض طموحاته‪ ،‬إال أن غريمه اإلمام ابن‬

‫عرفة شدّ د عليه الحصار واملراقبة ليجربه أخريًا عىل الرحيل‬ ‫بقى له من العمر مُ ّ‬ ‫إىل الشرق ليميض ما َت ّ‬ ‫تنقلاً بني األماكن‬ ‫املقدسة‪ ،‬وبالد الشام‪ ،‬ومصر حيث مات ودفن‪ .‬ورحلة ابن‬

‫اليوم وقد انتفت الفتنة‪ ،‬أنظر إلى‬ ‫الشرق وهو يحترق‪ ،‬بقلب مفعم‬ ‫باألسى واأللم‪ .‬ويزداد أساي وألمي‬ ‫اتساعا حين أعاين حرائق الشرق‬ ‫ً‬ ‫والدينية التي بدأت‬ ‫األيديولوجية‬ ‫ّ‬ ‫أيضا‬ ‫تهدد بلدان المغرب ً‬ ‫ّ‬

‫عبدالرحمن بن خلدون‬ ‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬


‫العالقة بين المشرق والمغرب‬

‫عبدالعزيز الثعالبي‬

‫إصالحيًّا يف مصر‪ ،‬ويف بالد الشام‪ ،‬ويف اليمن‪ ،‬ويف الكويت‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وأيضا يف الهند‪ ،‬ويف إندونيسيا‪ .‬وكان حلمه خدمة العالم‬

‫الحبيب بورقيبة‬

‫لم أسلم من فتنة الشرق‬

‫وبالرغم من أنني أنتسب إىل جيل متشبّع بالثقافة‬

‫اإلسالمي‪ ،‬ومساعدة العرب عىل النهوض من جديد‪ ،‬حتى‬

‫الفرنسيّة‪ ،‬وبلغة موليري َدر َْس ُ‬ ‫ت التاريخ‪ ،‬والجغرافيا‪،‬‬

‫وفالسفتها التنويريّني والعقالنيّني‪ ،‬لم يسلم من غواية فتنة‬

‫املواد فإنني لم أسلم من فتنة الشرق‪ .‬وكم كان يروق يل أن‬

‫الزعيم الحبيب بورقيبة العاشق لعدوّته فرنسا‪ ،‬ولشعرائها‬ ‫الشرق‪ .‬فبعد الحرب العامليّة الثانية‪ ،‬ف ّر إىل مصر عرب ليبيا بعد‬

‫أن بات متأكدً ا من أن السلطات الفرنسيّة تسعى العتقاله‪ .‬ويف‬ ‫القاهرة‪ ،‬التقى الزعماء املغاربة الذين كانوا قد بعثوا هناك‬

‫مكتبًا للدفاع عن قضايا املغرب العربي من أمثال عاللة الفايس‪،‬‬

‫والرياضيات‪ ،‬والفيزياء‪ ،‬والكيمياء‪ ،‬والفلسفة‪ ،‬وغريها من‬

‫أجلس إىل صديقي الشاعر خالد النجار الذي سافر إىل القاهرة‬

‫وبريوت ودمشق يف سنّ العشرين ليحدثني عن الشعراء‬ ‫والكتاب والفنانني واملفكرين الذين التقاهم هناك‪ .‬وبلهفة‬

‫بالغة كنت أقتني املجالت القادمة من عواصم الشرق؛ مثل‪:‬‬

‫وعبدالكريم الخطابي‪ ،‬والدكتور الحبيب ثامر‪ ،‬وغريهم‪ .‬ومن‬ ‫رحلته املشرقيّة تلك‪ ،‬استخلص بورقيبة أن ّ‬ ‫جل زعماء تلك‬

‫وقد سمح يل مؤتمر اتحاد الكتاب العرب الذي انعقد‬

‫وكان امللك عبدالعزيز هو الزعيم الوحيد الذي لفت انتباهه؛‬

‫أحلم برؤيتهم من أمثال‪ :‬الطيب صالح‪ ،‬ومحمود درويش‪،‬‬

‫املنطقة يكرثون من الكالم‪ ،‬وال يعريون الفعل اهتمامً ا كبريًا‪.‬‬ ‫لذلك أشاد بخصاله الرباغماتيّة‪.‬‬

‫«اآلداب»‪ ،‬و«شعر»‪ ،‬و«مجلة املجلة»‪ ،‬وغريها‪.‬‬

‫يف تونس يف ربيع عام ‪1973‬م‪ ،‬بتعرف شعراء وكتاب كنت‬ ‫ويوسف الصائغ‪ ،‬وعبدالوهاب البيايت‪ ،‬ويوسف السباعي‪،‬‬

‫وبسبب شعوره املبكر بالغربة يف وطنه‪ ،‬شرع الشاعر‬

‫وغريهم؛ لذلك انطلقت يف خريف العام املذكور إىل الشرق‬

‫تجارب شعراء املهجر‪ .‬وبهم سيتأثر‪ ،‬مُ ْنجذبًا إىل جربان خليل‬

‫الغرب‪ ،‬ودمشق‪ ،‬وبغداد‪ ،‬وبريوت التي كانت مالمح الحرب‬

‫التونيس الكبري أبو القاسم الشابي يف التطلع إىل الشرق ليتع ّرف‬

‫عازمً ا عىل العيش فيه سنوات طويلة‪ .‬وبعد أن زرت طرابلس‬

‫جربان خاصة‪ .‬كما سيتأثر بأفكار طه حسني وبخاصة الواردة‬ ‫يف كتابه‪« :‬يف الشعر الجاهيل»‪ .‬وكان يلتهم ّ‬ ‫كل ما يأيت من‬

‫وهذا ما عبرّ ت عنه يف روايتي «اآلخرون»؛ إذ رويت تفصيالت‬

‫ينشر من أفكار وأشعار ودراسات نقديّة‪ .‬وهذا ما نتبيّنه من‬

‫واإلحباطات‪.‬‬

‫القاهرة‪ ،‬أو من بريوت ‪ ،‬من كتب ومجالت‪ ،‬مبديًا آراءه فيما‬

‫خالل رسائله إىل صديقه القريواين محمد الحليوي الذي ساعده‬ ‫عىل االطالع عىل روح الحركة الرومنطيقية يف أوربا‪ .‬فلمّ ا ضاقت‬ ‫به األحوال‪ ،‬وصدّت ّ‬ ‫كل األبواب أمامه‪ ،‬بعث الشابي بقصائده‬

‫إىل مجلة «أبولو» ليتمّ االحتفاء بها من جانب أسرة تحريرها‪.‬‬

‫األهليّة بادية عليها‪ ،‬عدت إىل وطني ويف قلبي مرارة الخيبة‪.‬‬ ‫رحلتي من بدايتها إىل نهايتها‪ ،‬التي كانت سلسلة من الخيبات‬ ‫واليوم‪ ،‬وقد انتفت الفتنة‪ ،‬أنظر إىل الشرق وهو يحرتق‪،‬‬

‫ً‬ ‫اتساعا حني‬ ‫بقلب مفعم باألىس واأللم‪ .‬ويزداد أساي وأملي‬

‫أعاين حرائق الشرق األيديولوجية والدينيّة التي بدأت تهدّ د‬ ‫بلدان املغرب ً‬ ‫أيضا‪.‬‬

‫‪127‬‬


‫قضايا‬

‫صناعة الكتاب العربي‬ ‫في أزمة‬ ‫تواجه صناعة الكتاب في الوطن العربي صعوبات جمة منذ عام ‪2011‬م‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ومناقشا لمشكالت‬ ‫كاشفا‬ ‫حتى اآلن؛ لذا فقد أُ ِعد هذا الموضوع لكي يكون‬ ‫صناعة الكتاب في الوطن العربي‪ ،‬التي وإن كانت قد شهدت نم ًّوا مطر ًدا‬

‫خالد عزب‬ ‫كاتب مصري‬

‫في دولة كالجزائر نتيجة برنامج وزارة الثقافة الجزائرية الذي يدفع بحركة النشر بصورة كبيرة‪ ،‬وبخاصة عند‬

‫االحتفاء بمدن كالجزائر وتلمسان وقسنطينة كعواصم ثقافية أو عبر تحفيز القراءة على الصعيد الوطني أو‬ ‫من الجامعات الجزائرية التي باتت معنية بحركة التزويد‪.‬‬

‫لكن المذهل هو أنه أثناء قيامي بمسح لحركة النشر في الوطن العربي وجدت دولة مثل الصومال‬

‫تنتج سنويًّا ‪ 300‬عنوان‪ ،‬لكن ما يحزن هو غياب الوطن العربي بصورة غير كاملة من التقرير السنوي التحاد‬

‫‪128‬‬

‫الناشرين الدولي‪ .‬إن عدم وجود سياسات في الدول العربية لتزويد المكتبات بالكتب وبخاصة العامة منها‬ ‫أدى إلى تحجيم حركة النشر في الوطن العربي‪ ،‬وبخاصة الكتب العلمية والدراسات اإلنسانية‪ .‬الحقيقة‬ ‫المذهلة ً‬ ‫أيضا في صناعة النشر العربية هي افتقاد دور النشر العربية لمدير النشر الذي هو من يقيم الكتاب‬

‫ّ‬ ‫ويعد دراسة جدوى له وخطة تسويقية‪ ،‬بل ويبحث عن مؤلفين في موضوعات محددة يراها مهمة وناقصة‬

‫في حركة النشر‪ ،‬وبالتالي لدينا في الوطن العربي طباعون للكتب وموزعون‪ ،‬هذا ما يجعل النشر في الوطن‬ ‫بال سياسات محددة إال ما ندر في مؤسسات رسمية‪.‬‬

‫أرقام غير واقعية‬

‫في محاولة لتتبع أرقام جادة وتحليلية لحركة النشر في‬

‫الوطن العربي‪ ،‬تؤدي بنا كافة الدروب والمسالك إلى أرقام‬ ‫غير حقيقية؛ فحجم النشر في الوطن العربي يراوح بين ‪50‬‬

‫و‪ 75‬ألف عنوان‪ ،‬ما بين مجلة وكتاب ودورية وسلسلة‪...‬‬ ‫إلخ‪ ،‬لكن تقف عقبة أمام تحديد الرقم بدقة هي عدم دقة‬

‫أرقام اإليداع وعدم اكتراث عدد من المؤسسات بفكرة اإليداع‬

‫الوطني؛ فالمنشور رسميًّا في الوطن العربي خالل عام ‪2012‬م‬

‫ً‬ ‫فارقا كبي ًرا بين الرسمي وغير الرسمي‪ ،‬وهذا االستنتاج‬ ‫هناك‬

‫نستطيع أن نبنيه من مالحظات عدة أبرزها‪:‬‬

‫ حجم النشر في دولة مثل اإلمارات العربية المتحدة التي‬‫شهدت نموًّا في حجم الكتب المنشورة بين عامي ‪2010‬‬ ‫‪2014‬م‪ ،‬وتكشف النظرة الفاحصة لحركة النشر هذه عن‬‫عدم دقة تقديرات حجم النشر في اإلمارات العربية‪،‬‬

‫ونعود إلى تقسيم النشر إلى نشر حكومي تتواله‬ ‫مؤسسات داعمة للنشر على النحو اآلتي‪:‬‬

‫يراوح بين ‪ 30‬و‪ 40‬ألف عنوان‪ ،‬ونفس الرقم عام ‪2013‬م‪،‬‬ ‫والرقم ذاته أو يزيد قليلاً عام ‪2014‬م‪ .‬نستدل على ذلك من أن‬

‫‪ -‬مركز اإلمارات للدراسات السياسية واإلستراتيجية‪.‬‬

‫ألرقام اإليداع بدار الكتب المصرية‪ ،‬بينما بلغ عدد الكتب‬

‫‪ -‬مؤسسات األوقاف في دولة اإلمارات العربية المتحدة‪.‬‬

‫ً‬ ‫طبقا‬ ‫مصر وحدها في عام ‪2014‬م سُ جل لديها ‪ 22‬ألف عنوان‬

‫والمجالت التي لم تحصل على أرقام إيداع ‪ 4‬آالف‪ ،‬هذا يعني‬

‫أن مجمل النشر في مصر وحدها ‪ 26‬ألف عنوان‪ .‬وعليه‪ ،‬فإن‬ ‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬

‫‪ -‬هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث‪.‬‬

‫‪ -‬دائرة الثقافة واإلعالم – الشارقة‪.‬‬

‫‪ -‬المؤسسات الصحفية؛ كالبيان واالتحاد والخليج‪.‬‬

‫تنتج هذه المؤسسات الثالث مع غيرها من دور النشر‬


‫دور النشر العربية تفتقد لمدير النشر‬ ‫ويعد دراسة‬ ‫الذي هو من يقيم الكتاب‬ ‫ّ‬

‫ولكننا نرصد نموًّا مطردًا للطباعة في دولة اإلمارات العربية‬ ‫المتحدة التي اتسمت مطبوعاتها بالجودة والدقة‪ ،‬وتأخذ‬ ‫في بعض األحيان أرقام إيداع لبنانية‪ ،‬وهو ما يمثل حالة‬

‫جدوى له وخطة تسويقية‪ ،‬بل ويبحث‬

‫من حاالت الرصد غير الدقيق لحجم المنشور من كتب في‬

‫يراها مهمة وناقصة في حركة النشر‬

‫‪ -‬حجم النشر في قطر‪ :‬تعددت في العشرين عامً ا الماضية‬

‫عن مؤلفين في موضوعات محددة‬

‫ومؤسسات األوقاف إضافة إلى النشر باللغة اإلنجليزية‬ ‫وبخاصة في دبي وأبو ظبي ما ال يقل عن ‪ 500‬عنوان‪ ،‬وهو‬

‫رقم أكبر مما هو مقدر إلنتاج دولة اإلمارات من الكتب‪ .‬وإذا‬

‫اإلمارات العربية‪.‬‬

‫المؤسسات المنتجة للكتب في دولة قطر‪ ،‬وكانت وزارتا‬

‫الثقافة واألوقاف هما أكبر مؤسستين ناشرتين للكتب‬ ‫في قطر‪ ،‬يليهما نادي الجرة‪ ،‬لكن برز في السنوات‬

‫أضفنا لهذا الرقم ما تنتجه دور النشر ومؤسسات المجتمع‬

‫دورة اﻟﻜﺘﺎب‬ ‫اﻟﻤﺴﺘﻌﻤﻞ‬

‫المدني‪ ،‬ودعم رجال األعمال إلى حركة النشر‪ ،‬سنجد أن‬ ‫هناك مؤسسات فاعلة في حركة النشر بقوة على النحو‬

‫اآلتي‪:‬‬

‫‪ -‬ندوة الثقافة والعلوم (دبي)‪.‬‬

‫ﻣﻜﺘﺒﺔ‬

‫ﻗﺎرئ‬

‫ مؤسسة سلطان العويس (دبي)‪.‬‬‫ مركز جمعة الماجد (دبي)‪.‬‬‫‪ -‬مركز زايد للتراث (العين)‪.‬‬

‫‪ -‬دار مدارك (دبي)‪.‬‬

‫ﻣﺴﺘﺤﻮذ‬ ‫ﺑﺎﻟﺸﺮاء‬

‫ﻣﺴﺘﺤﻮذ‬ ‫ﺑﺎﻹﻫﺪاء‬

‫تكمن أكبر المشكالت هنا في أن عددًا ال بأس به‬

‫من هذه الكتب يطبع خارج اإلمارات العربية المتحدة‪،‬‬ ‫وبخاصة في بيروت‪ ،‬بل نرى اتجاهً ا للطبع في الهند‪،‬‬

‫ﻣﺸﺘﺮٍ ﻗﺎرئ‬

‫اﺳﺘﺤﻮاذ‬ ‫ﻻﻗﺘﻨﺎء اﻟﻨﺎدر‬

‫ﻣﻜﺘﺒﺎت‬

‫‪129‬‬


‫قضايا‬

‫العشر األخيرة المزيد من المؤسسات المعنية بالنشر‪،‬‬

‫مطبوعاته نقلة في حركة النشر في قطر‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وفقا لما سبق عدد العناوين المنشورة في قطر‬ ‫ويقدر‬ ‫سنويًّا ما ال يقل عن ‪ 300‬عنوان‪ ،‬وهو ً‬ ‫أيضا رقم أكبر من‬

‫‪ -‬هيئة المتاحف واآلثار التي بدأت برنامجً ا للنشر باللغتين‬

‫من ناحية أخرى تمثل المملكة المغربية الجانب اآلخر‬

‫ومنها‪:‬‬

‫ مؤسسة قطر التي أسست دار نشر مع بلومزبري‪ ،‬إضافة‬‫إلى النشر الذي تقوم به كليات ومراكز المؤسسة‪.‬‬

‫العربية واإلنجليزية‪.‬‬

‫‪ -‬مؤسسة كتارا التي تنشر بالعربية واإلنجليزية‪.‬‬

‫‪ -‬المركز العربي لدراسات وأبحاث السياسات الذي شكلت‬

‫‪ %60‬من حجم ما ينشر في الوطن‬ ‫العربي ينحصر بين ‪ %40‬للكتاب الديني‪،‬‬ ‫و‪ %20‬للروايات األدبية‪ .‬ويعني هذا أن‬ ‫الكتب الدينية خالل األعوام ‪ 2012‬و‪2013‬‬ ‫و‪2014‬م احتلت المرتبة األولى في‬ ‫مضمون النشر العربي‬

‫‪130‬‬

‫الحجم المقدر للمطبوعات الصادرة في دولة قطر‪.‬‬

‫في رصد حركة النشر في الوطن العربي‪ .‬هنا نتحدث عن‬

‫حجم أكبر من النشر؛ إذ ال يقل عدد المطبوع في المملكة‬ ‫المغربية سنويًّا عن ‪ 4‬آالف عنوان‪ ،‬لكن هناك مشكالت في‬ ‫هذا النشر وحركته والتعريف به‪ ،‬منها‪:‬‬

‫‪ -‬ضعف التوزيع خارج التراب الوطني المغربي‪.‬‬

‫ قلة عناوين النسخ المطبوعة؛ إذ تراوح النسخ ما بين ‪200‬‬‫و‪ 1000‬نسخة من العنوان الواحد‪.‬‬

‫‪ -‬ارتفاع سعر الكتاب المغربي‪.‬‬

‫ترتكز حركة النشر في المملكة المغربية على المجتمع‬

‫المدني العلمي الذي يتم التغاضي عن دوره في كثير من‬

‫التقارير‪ ،‬فمجتمعات المؤرخين والتراث في الجمعيات‬ ‫الدينية واألكاديمية تلعب دورًا غير منظور خارج النطاق‬

‫مرصد عربي للكتاب‬

‫هناك إشكالية كبيرة في حركة النشر في العالم العربي تتمثل في العالقة بين مضمون ما ينشر وحجم ما ينشر‬

‫وطبيعة النشر ذاته‪ .‬إن الحراك الذي حدث مع بداية القرن الحادي والعشرين والمرتكز على الرواية بشكل أساسي‬

‫كمصدر لحراك النشر‪ ،‬إنما قام على عدة معطيات أبرزها التفاعل عبر شبكات التواصل االجتماعي؛ فأجيال الكتاب‬ ‫الجدد نجحوا في بناء شبكة للدعاية لهم والترويج ألعمالهم عبر هذه الشبكات‪ ،‬بغض النظر عن مضمون إنتاجهم‬

‫الذي يصل في بعض األحيان إلى التعبير عن خواطر شخصية‪ ،‬حتى إن دور النشر العربية الكبرى نشرت مدونات على‬ ‫اإلنترنت‪ ،‬واجتذبت شبابًا لهم صفحات رائجة‪ ،‬وعدت هذا نجاحً ا كبيرًا‪ .‬لقد ساهمت شبكة التواصل االجتماعي بصورة‬ ‫أو بأخرى في ظهور أجناس مختلفة في عالم النشر‪ ،‬وظهور نجوم لهذه األجناس‪ ،‬حتى ظهرت القصة القصيرة ًّ‬ ‫جدا‬

‫التي أتت مواكبة لطبيعة الشبكة العمودية‪ .‬إن تفاعل الكاتب مع قرائه عبر شبكة اإلنترنت ورده على جمهوره؛ يتيح له‬ ‫ساحة لترويج أعماله‪ ،‬وهو ما جعل ُك ّتابًا مثل أحمد مراد الذي حققت مبيعات إحدى رواياته ‪ 100‬ألف نسخة‪ ،‬وهو رقم‬ ‫غير مسبوق في ساحة النشر األدبي العربي‪ ،‬يليه عمرو الجندي الذي صدرت روايته «‪ »313‬عن الدار المصرية اللبنانية‬ ‫ِّ‬ ‫محققة أكثر من ‪ 9‬طبعات في أقل من شهرين‪ .‬وبدأت دور النشر العربية تنتبه لهذا االتجاه من أدب الشباب‪ ،‬فتبنت دار‬ ‫الكتاب العربي في بيروت برنامجً ا كبيرًا لنشر الروايات ألدباء من مصر والمغرب والخليج العربي‪.‬‬

‫لكن يخالط هذا ظهور عدد من دور الشباب التي بلغت عام ‪2012‬م في مصر ‪ 30‬دار نشر‪ ،‬لترتفع في ‪2013‬م إلى ‪ 50‬دار‬

‫نشر‪ ،‬ويتجاوز األمر القاهرة إلى اإلسكندرية التي اشتهرت دور النشر فيها بصورة أساسية بنشر الكتب الجامعية‪ ،‬لتظهر‬

‫دار نشر كلمة وغيرها لنشر أدب الشباب‪ ،‬ويواكب هذا تالعب دور النشر العربية بأرقام الطبعات‪ ،‬وكذلك بأرقام التوزيع‬ ‫تحت ضغط حمالت إعالمية لألعلى مبيعً ا حتى صار بعض دور النشر يعلن تعدد طبعات أحد األعمال‪.‬‬

‫يؤشر هذا إلى ضرورة بناء مرصد عربي للكتاب‪ ،‬وهو مشروع أساسي يجب أن يقوم عليه اتحاد الناشرين العرب؛‬ ‫ليكون مرجعً ا في الحكم في هذه المسائل الخالفية‪ ،‬التي قد تؤثر مستقبلاً في صناعة النشر العربي بالسلب؛ إذ إن‬

‫استمرارية الخداع بلعبة األرقام ستؤدي إلى فقدان المصداقية بين القارئ والناشر‪ ،‬لكن بوجود قواعد حاكمة وتسجيل‬ ‫حقيقي على المرصد الخاص بالكتاب الذي سيرتبط ً‬ ‫أيضا بمنافذ التوزيع؛ سيؤدي هذا إلى بناء مصداقية لحركة النشر‪.‬‬

‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬


‫صناعة الكتاب العربي في أزمة‬

‫األكاديمي‪ ،‬فيما يتعلق بحركة النشر في المملكة المغربية‪،‬‬

‫‪ -‬المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (األليسكو‬

‫المحمدية للعلماء كناشر بدأ ينشر بكثافة ما ال يقل عن ‪100‬‬

‫‪ -‬المنظمة اإلسالمية للتربية والثقافة والعلوم (اإلسيسكو‬

‫ولكن خالل األعوام من ‪ 2010‬إلى ‪2014‬م‪ ،‬برزت الرابطة‬

‫عنوان سنويًّا‪ ،‬إضافة إلى ثالث مجالت دورية‪ ،‬وهذه األرقام‬ ‫آخذة في التزايد‪ .‬وتتميز الرابطة المحمدية بأن مطبوعاتها‬

‫أكبر من حيث عدد المطبوع في كل طبعة‪ ،‬وأكثر توزيعً ا‬

‫على الصعيد المغاربي‪ ،‬واكتسبت مصداقية من حيث جودة‬ ‫َ‬ ‫عدت إلى ركائز‬ ‫المضمون والدقة وجودة الطباعة‪ .‬ولكن إذا‬ ‫النشر في المغرب ستجد أنها من‪:‬‬

‫ وزارة الثقافة (دار المناهل ودائرة الكتاب)‪.‬‬‫‪ -‬وزارة األوقاف‪.‬‬

‫ومقرها تونس)‪.‬‬

‫ومقرها المغرب)‪.‬‬

‫‪ -‬معهد المخطوطات العربية‪ ،‬مصر‪.‬‬

‫‪ -‬رابطة العالم اإلسالمي‪ ،‬السعودية‪.‬‬

‫‪ -‬منظمة المدن العربية ومقرها الكويت‪.‬‬

‫ينشر بعض هذه المنظمات اإلقليمية بصورة موسعة؛‬

‫فعدد العناوين الصادرة عن اإلسيسكو ال يقل سنويًّا عن‬ ‫ً‬ ‫عنوانا‪ ،‬فهل تحسب ضمن النشر الوطني المغاربي؟ أم‬ ‫‪150‬‬

‫أنه من الواجب إفراد رقم مستقل للنشر العابر للحدود في‬

‫‪ -‬األكاديمية المغربية‪.‬‬

‫مثل هذه التقارير‪ ،‬باعتبار أن هذه المنظمات هي منظمات‬

‫‪ -‬مكتبة الملك عبدالعزيز (الدار البيضاء)‪.‬‬

‫إقليمية عابرة للحدود‪.‬‬

‫‪ -‬الجامعات‪.‬‬

‫إن الرأي األصوب هو قياس النشر العابر للحدود في‬

‫إن العديد من دور النشر المغربية نجحت في تثبيت‬

‫الدول العربية برقم مستقل؛ ويكشف مثل هذا الرقم عن‬

‫احتفلت عام ‪2015‬م بمرور ‪ 30‬عامً ا على إنشائها‪ ،‬وتعددت‬

‫النشر المشترك‪ ،‬وقد يساهم هذا التعاون كرافد في نمو‬

‫أقدامها في حركة النشر المغاربية‪ ،‬وأبرزها دار توبقال التي‬

‫مطبوعاتها بين المعرفة التاريخية والفلسفة والروايات‬ ‫والنشر العام‪ .‬وقد أسسها عدد من الكتاب وأساتذة‬

‫الجامعات؛ لدعم حركة النشر في المملكة المغربية‪.‬‬

‫حجم التمويل العربي المشترك للنشر‪ ،‬واتجاهات حركة‬

‫حركة المعرفة والنشر في العالم العربي‪ ،‬كما أنه يحسب‬ ‫ضمن النشر الوطني في دولة المقر باعتباره منج ًزا على‬ ‫التراب الوطني لهذه الدولة‪.‬‬

‫ويرتبط بهذا وجود مؤسسات مجتمع مدني أنشئت في‬

‫النشر العابر للحدود‬

‫السنوات األخيرة‪ ،‬كمؤسسة الفكر العربي التي تتخذ من‬

‫تبرز هنا قضية النشر العابر للحدود‪ ،‬وهل يمكن‬

‫بيروت مق ًّرا لها‪ ،‬فهل نحتسب إنتاجها ضمن النشر العابر‬

‫النشر ضمن النشر الوطني للدولة المقر؟ وهنا نقصد بصورة‬

‫يمكن أن ينطبق عليها المعيار السابق‪ ،‬أي إدراجها ضمن‬

‫احتسابه ضمن النشر الوطني‪ ،‬أم يجب إدماجه داخل تقارير‬ ‫محددة المنظمات اإلقليمية‪ ،‬ومنها‪:‬‬

‫لحدود العالم العربي‪ ،‬أم يحسب على النشر اللبناني؟ وهل‬

‫الرقم العابر للدول واعتباره جزءً ا من النشر الوطني؟ مع‬

‫دورة اﻟﻜﺘﺎب‬ ‫اﻟﻌﺮﺑﻲ‬

‫اﻟﻨﺎﺷﺮ‬

‫اﻟﻤﺆﻟﻒ‬

‫اﻹﻋﻼم اﻟﺮﻗﻤﻲ‬ ‫اﻟﺘﺴﻮق اﻟﺮﻗﻤﻲ‬

‫ﻣﻌﺎرض اﻟﻜﺘﺎب‬

‫اﻟﻤﻮزع‬

‫ﻋﺮوض اﻟﻜﺘﺐ‬ ‫اﻟﺼﺤﻔﻴﺔ واﻟﻤﺠﻼت‬

‫ﺑﺮاﻣﺞ اﻟﻜﺘﺐ‬

‫اﻷﻓﺮاد اﻟﻤﺸﺘﺮﻛﻮن‬

‫اﻟﻤﻜﺘﺒﺎت‬

‫‪131‬‬


‫قضايا‬

‫أخذ مالحظة على كل دولة بشأن النشر العابر المنشور بها‪.‬‬

‫وهنا ال بد من مراجعة النشر في لبنان كأحد أكبر الدول‬

‫العربية المنتجة للكتاب؛ فلبنان تقوم بدور الطابع بشكل‬

‫حالة التقاذف اإلعالمي بين أنصار‬ ‫الحركات اإلسالمية ومناوئيها‪،‬‬

‫أساسي بحكم جودة الطباعة ورخصها في ذات الوقت؛ لذا‬

‫انعكست على نشاط كتب محددة القت‬

‫فالسعودية واإلمارات والكويت وقطر وعمان والمغرب تطبع‬

‫إقبا لدى القراء‪ ،‬على غرار مؤلفات‬ ‫لاً‬ ‫رضوان السيد‪ ،‬وعبدالجواد ياسين‪،‬‬

‫تلجأ العديد من المؤسسات العربية للنشر عبر بيروت؛‬ ‫في بيروت‪ ،‬وبالتالي فإن أرقام اإليداع في بعض األحيان ال‬

‫تعكس الحجم الحقيقي للنشر في لبنان‪ .‬وهذه مالحظة ال‬ ‫بد من أخذها في الحسبان‪ .‬لذا على الناشر من هذه الدول‬ ‫أن يحرص على النشر بأرقام إيداع تعود إلى بلده حتى مع‬

‫طباعة األعمال في بيروت؛ ألن هذه المسألة تخلق اضطرابًا‬

‫وطه عبدالرحمن‪ ،‬ومحمد الحداد‪،‬‬ ‫والطاهر سعود‪ ،‬وعبدالغني عماد‪،‬‬ ‫وهشام جعيط وغيرهم‬

‫في احتساب طبيعة حركة النشر في كل دولة‪.‬‬

‫‪132‬‬

‫الكتاب الديني والرواية‬

‫لفهم ظاهرة اإلسالم السياسي والتيارات الدينية المتطرفة‪،‬‬

‫إن أكثر األمور التي جرى بحثها مضمون النشر ومدى‬

‫والفكر اإلسالمي‪ ،‬والتاريخ اإلسالمي‪ ،‬والصراعات السياسية‬

‫وترويج المعرفة‪ .‬وفي حقيقة األمر‪ ،‬إن قوائم دور النشر‬

‫الموضوعات؛ كالجدل السني الشيعي‪ ،‬كل هذه الموضوعات‬

‫تقديمه خدمات للباحثين والقراء‪ ،‬بل مدى امتداده إلى نقل‬ ‫العربية التي توزع في المعارض‪ ،‬كانت هي محل التحليل‬

‫للوصول إلى نتائج محددة في هذا االتجاه‪.‬‬

‫اإلسالمية‪ ،‬والتصوف‪ ،‬والحركات اإلسالمية وغيرها من‬ ‫كانت سببًا في زيادة عدد الكتب الدينية وحجم ما يطبع على‬

‫الصعيد العربي‪.‬‬

‫هناك نسبة محددة هي ‪ %60‬من حجم ما ينشر في الوطن‬

‫وحققت دور نشر مثل الشبكة العربية لألبحاث‪ ،‬ومركز‬

‫األدبية‪ .‬ويعني هذا أن الكتب الدينية خالل األعوام ‪ 2012‬و‪2013‬‬

‫الدوحة‪ ،‬وسلسلة مراصد التي تصدر عن مكتبة اإلسكندرية‬ ‫وغيرها إقبالاً من القراء العرب‪ ،‬وبخاصة في ظل حالة‬

‫العربي‪ ،‬ينحصر بين ‪ %40‬للكتاب الديني‪ ،‬و‪ %20‬للروايات‬

‫و‪2014‬م احتلت المرتبة األولى في مضمون النشر العربي‪ .‬وهذه‬ ‫النسبة ليست ثابتة بل كانت في عام ‪2012‬م ‪ ،%43‬وفي عام‬

‫‪2013‬م ‪ ،%40‬وفي عام ‪2014‬م ‪.%44‬‬

‫ويعود تصاعد هذه النسبة ليس فقط إلى وزارات‬

‫األوقاف العربية والمؤسسات الدينية التي تمتلك برامج‬ ‫نشر وميزانيات كبيرة‪ ،‬بل إلى ظهور رغبة عربية عارمة‬ ‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬

‫دراسات الوحدة العربية في بيروت‪ ،‬والمركز العربي في‬

‫التقاذف اإلعالمي بين أنصار الحركات اإلسالمية ومناوئيها‪،‬‬ ‫وانعكس ذلك ً‬ ‫أيضا على نشاط كتب محددة القت إقبالاً لدى‬

‫القراء على غرار مؤلفات الدكتور رضوان السيد‪ ،‬وعبدالجواد‬ ‫ياسين‪ ،‬وطه عبدالرحمن‪ ،‬ومحمد الحداد‪ ،‬والطاهر سعود‪،‬‬

‫وعبدالغني عماد‪ ،‬وهشام جعيط وغيرهم‪.‬‬


‫نصوص‬

‫لعبة شطرنج‬ ‫بالل قايد عمر‬ ‫شاعر يمني‬

‫يف البدء كان جمالك يحدثني‪:‬‬

‫ُ‬ ‫وجسدك ميلء بالطعنات‪.‬‬ ‫ترحلني‬

‫وللحرية النصف اآلخر‪.‬‬

‫يرقص عىل شرفك‪،‬‬

‫للموت نصف راحتنا‪،‬‬

‫والجرح يزف الجرح ويورق الكرنفال‬ ‫غابات من املنفى‬ ‫ٍ‬

‫والشمس حني تنهض ببطء‬ ‫من سباتها‬

‫تتوه يف وجوه املوت املتشابكة‪.‬‬ ‫٭٭٭‬ ‫حني تختبئ أغنية عاشقة داخل ورد ٍة آيلة للذبول‪...‬‬ ‫قلب‪،‬‬ ‫يلذن الحمائم بسنبلة ٍ‬

‫يخبنئ أعمارهن املطعونة بالخيبات‪،‬‬

‫وعىل طاولتي مقربة للعابرين املفقودين‪.‬‬ ‫٭٭٭‬

‫ً‬ ‫زنبقة تكتب سريتها لعاشق ٍة‬ ‫املساء يصافح‬ ‫لعصفور تبلل بالشوق‪.‬‬ ‫أوقدت الضوء‬ ‫ٍ‬

‫حني يجز النهار شرايينه‪،‬‬ ‫فأي بال ٍد ُ‬ ‫ك نصف جثة‪.‬‬ ‫تقبل ِ‬

‫٭٭٭‬ ‫ألنك لعبة شطرنج‬ ‫ِ‬

‫تتقاذفها‬

‫الحركات واملربعات املرسومة‬ ‫لها بدقة‪،‬‬

‫ووحده األلم‬

‫يشعل سجائره ويسكر‪.‬‬ ‫وحده ُ‬ ‫قلب لم يعد يعرتف سوى باللعنات‪.‬‬ ‫ينشد اإلجابات من ٍ‬ ‫٭٭٭‬ ‫انتظارك‪،‬‬ ‫عىل حافة الغيم تزخرفني‬ ‫ِ‬

‫حكايات من الخرافات‪،‬‬ ‫وتحكني للذابالت‬ ‫ٍ‬ ‫ويف زحمة االنتظار‬

‫شجر اللحظات‪.‬‬ ‫شرنقات من‬ ‫ألحالمك‬ ‫تنسجني‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ضباب‬ ‫يك تولدي من رحم‬ ‫ٍ‬ ‫داكن اللون‪،‬‬

‫جناحيك ليهشمهما حزن املدينة‪.‬‬ ‫وتفردي‬ ‫ِ‬

‫‪133‬‬


‫مقال‬

‫في النقد الثقافي‪:‬‬ ‫فوبيا الخوف من اآلخر‬ ‫لعل من أهم العوامل التي تشكل ارتبا ًكا وخللاً في تقاسم الثروات والكنوز اإلنسانية الثقافية والمعرفية واالقتصادية ظاهرة الخوف؛ خوفنا‬ ‫من اآلخر‪ ،‬وخوف اآلخر م ّنا‪ .‬وفي هذه الحال تتكاثر الحروب وتتشعب وتتوالد الكراهيات‪ ،‬وتتشكل القطائع‪ ،‬وترفع الحدود‪ ،‬وتنتج األمراض الثقافية‬

‫واالجتماعية والسياسية‪ ،‬وتلك هي األسس األولى لبذرة التخلف‪ ،‬بل التعصب الذي يتستر بستار حماية الذات والخوف عليها مما يسمى بالذوبان‪ ،‬أو‬

‫التفكك‪ ،‬أو التلوث‪ ،‬أو االحتواء‪ .‬وإن الخوف اإلبستيمي‪ ،‬الخوف المعرفي‪ ،‬حالة تاريخية يعيشها الشمال كما يعيشها الجنوب على حد سواء‪ .‬يعيشها‬ ‫الشرق كما يعيشها الغرب على قدم المساواة‪ .‬ويمكن ع ّد الخوف الثقافي صناعة تمارسها الشعوب التي تعيش حالاً من التخلف‪ً ،‬‬ ‫وأيضا حالاً من‬

‫العالقة المضطربة تجاه ما يسمى بمشكلة الهوية الحضارية أو الوطنية أو القومية‪.‬‬ ‫تجليات الخوف اإلبستيمي في الغرب‪:‬‬

‫أنتجت الثقافة الغربية في أوج حالة توسعها االستعماري في إفريقيا ما بعد الصحراء‪ ،‬أنتجت ثقافة احتقار ذوي البشرة السوداء الذين ظلوا إلى‬

‫زمن قريب بمنزلة سلعة تباع وتشترى لخدمة السيد األبيض‪ .‬وعلى الرغم من االستقالالت الوطنية التي حازت عليها كثير من الدول اإلفريقية‪ ،‬وبعد‬ ‫وصول جالية من هذه البلدان على شكل يد عاملة إلى أوربا‪ ،‬ومع انتشار ثقافة حقوق اإلنسان في العالم‪ ،‬وبتوسع خبرات المعرفة والعلوم‪ ،‬فإن‬

‫مجموعة من األوربيين الذين ظلوا على نوسطالجيا (األسود السلعة) تولدت لديهم بوادر مرض يمكن أن نسميه‪:‬‬ ‫أولاً ‪ -‬الزنجفوبيا « ‪ :»Negrophobie‬في مرحلة الحقة‪ ،‬ومع انحسار الفكر االستعماري المباشر الكالسيكي اتخذ هذا المرض «فوبيا اآلخر» تجليات‬

‫‪134‬‬

‫وصورًا أخرى كثيرة عكست حالة من االرتباك والتأزم السياسي والثقافي واالقتصادي الذي دخلته أوربا قبل توحيدها‪ ،‬وقد عبر عنه من خالل كثير من‬

‫الممارسات التي تجلت في الحياة االجتماعية اليومية وأفرزت جراء ذلك سلسلة من المفاهيم المعرفية واالصطالحية التي ننحتها في العربية كما يأتي ‪.‬‬ ‫ثانيًا‪ -‬العربوفوبيا ‪ :Arabophobie‬وهي ّ‬ ‫علة سياسية ثقافية لغوية محورها الخوف من اإلنسان «العربي»‪ ،‬خوف يُغلف دائمًا بكثير من األوصاف‬

‫العنصرية التي تلحق بالعربي الخائن‪ ،‬الوسخ‪ ،‬غير الوفي‪ ،‬الخداع‪ ،‬العنصري‪ ،‬المهووس بالجنس ‪،‬غير الحضاري‪ ،‬المنتقم ‪ ...‬ثقافة في مرجعيتها كثير‬

‫من مخلفات النظام االقتصادي الكولونيالي والعنصرية التي تأسس عليها منذ بداية القرن التاسع عشر‪ .‬وتجدر اإلشارة إلى أن هذه التهم والتوصيفات‬

‫الملحقة بالعربي ال تستثني األمازيغي «سكان إفريقيا الشمالية األولون من غير العرب»‪ .‬وإذا كان االستعمار في السابق‪ ،‬وهو يملك اليد الطولى‬ ‫المنبسطة على بلدان المغرب الكبير وبشكل خاص الجزائر‪ ،‬يعمل جاهدًا على التفريق العرقي والسياسي بين العرب واألمازيغ ‪ -‬ويطلق عليهم ً‬ ‫أيضا‬

‫اسم البربر‪ -‬بقصد التجزئة حتى تترسخ الهيمنة‪ ،‬فإنه وبعد االستقالالت الوطنية‪ ،‬لم يعد يفرق بين هذا وذاك‪ ،‬فالجميع في عين الثقافة العنصرية‪،‬‬

‫وفي نظر الثقافة المصابة بمرض العربوفيا‪ ،‬هم كتلة واحدة تصدر ذات الريبة‪ ،‬وتنتج الخوف‪ ،‬ومن ثم تتطلب ذات المقاومة وتستدعي التهميش‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ثالثا‪ -‬المغاربوفوبيا ‪ :Maghrébophobie‬إنها الفوبيا التي ينتجها الوجود المغاربي في الحيز األوربي بشكل عام‪ ،‬وفي بلجيكا وهولندا‪ ،‬وفي‬

‫فرنسا على وجه الخصوص‪ .‬ونظ ًرا لعدد المقيمين المغاربيين الذين يبلغون نحو خمسة ماليين نسمة فإن الوجود االجتماعي ‪la visibilité sociale‬‬ ‫الواضح‪ ،‬والمكثف ‪ ،‬يوجد ردة فعل ثقافية سياسية رافضة وخائفة‪ ،‬تتأكد يوميًّا في ثقافة أحزاب اليمين المتطرف التي أصبحت تحقق وجودًا سياسيًّا‬

‫كبي ًرا‪ ،‬وبدأت تنتقل إلى حقول النخب حيث ظهرت بعض بوادر هذه المغاربوفوبيا في خطابات النخب الفلسفية واألدبية واإلعالمية والفنية‪ ،‬وهو ما‬ ‫يعمق المرض‪ ،‬ويجعل الخوف من المغاربي سالحً ا سياسيًّا في الخطاب االقتصادي ً‬ ‫وأيضا في بناء أو خلخلة االتحاد األوربي‪.‬‬ ‫رابعً ا‪ -‬اإلسالموفوبيا ‪ :Islamophobie‬ولعل بقايا اإلسالموفوبيا تجيء من بقايا ذاكرة الحروب الصليبية‪ ،‬إال أنها تتجدد سياسيًّا‪ ،‬وبشكل واضح‬

‫في العشريتين األخيرتين‪ ،‬وقد تقننت سياسيًّا وإعالميًّا وعسكريًّا بعد هجوم ‪ 11‬سبتمبر ضد المجمع التجاري األميركي‪ .‬لقد مثلت أحداث ‪ 11‬سبتمبر‬ ‫ً‬ ‫مرتبطا عضويًّا باإلرهاب‪ ،‬وانتقلت عدوى اإلسالموفوبيا من النخب إلى العامة‪،‬‬ ‫المفصل التاريخي لإلسالموفوبيا‪ ،‬بحيث أصبح كل ما يمت لإلسالم‬ ‫مرضا اجتماعيًّا عامًّا متفشيًا في كل الطبقات االجتماعية األميركية واألوربية‪ .‬ويجب التنبيه إلى أن كثي ًرا من المصابين ّ‬ ‫فأضحت اإلسالموفوبيا ً‬ ‫بعلة‬

‫اإلسالموفوبيا ال يفرقون بين «العربي» و«اإلسالمي»‪ ،‬فهم ال يتصورون أن هناك عربيًّا مسيحيًّا‪ ،‬أو عربيًّا يهوديًّا‪ ،‬فكل عربي في مخيال اإلسالموفوبي‬ ‫ُ‬ ‫ظاهرة اإلرهاب التي أصبحت‬ ‫األميركي أو األوربي‪ ،‬هو مسلم بالضرورة‪ .‬ومن ثم فهو إرهابي بالحتمية الدينية‪ .‬وقد ساعد على تنمية ثقافة اإلسالموفوبيا‪،‬‬ ‫مادة اإلعالم العالمي‪ ،‬وشبكات القنوات التليفزيونية؛ إذ تحولت إلى أجهزة ملحقة بوزارات الدفاع وبالجيوش‪ ،‬التي تجوب العالم ب ًّرا وبح ًرا‪ ،‬شمالاً‬ ‫وجنوبًا‪ً ،‬‬ ‫شرقا وغربًا‪ ،‬ومن هذه الحال تعممت اإلسالموفوبيا في االجتماع‪ ،‬والسياسة‪ ،‬والدين‪ ،‬والثقافة‪ ،‬واإلعالم‪ ،‬والسياحة‪ ،‬واالقتصاد‪ ،‬والمال‪،‬‬

‫واألعمال‪.‬‬

‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬


‫إن الحرب على اإلرهاب وما أعقبها من تفكك في بنية الدولة التي تنحدر من منتصف‬

‫القرن الماضي‪ ،‬وهي دولة نتاج األيديولوجيا الوطنية أو القومية التحريرية التي لم تعد‬

‫صالحة لالستعمال السياسي في هذا القرن‪ ،‬نتج عنه بروز ظاهرة ثقافة االستبداد‪،‬‬ ‫والغضب‪ ،‬والرفض‪َ ،‬‬ ‫وتم ََّثل كل ذلك في ما سمي بالربيع العربي‪ :‬تونس‪ ،‬ليبيا‪ ،‬مصر‪،‬‬ ‫اليمن‪ ،‬سوريا‪ ،‬السودان ‪ ..‬هذا الوضع هذا وسّ ع من مساحة ثقافة اإلسالموفوبيا‪ ،‬وأنتج‬

‫بالمقابل تنويعات في الدين السياسي‪.‬‬

‫ولقد زادت العمليات اإلرهابية في أوربا‪ ،‬وفي فرنسا خاصة ‪-‬منذ مجلة شارلي إيبدو‬

‫واعتداءات ‪ 13‬نوفمبر ‪2016‬م‪ ،‬وأخي ًرا العملية اإلرهابية التي عاشتها مدينة نيس في ‪ 14‬يوليو‬ ‫‪2016‬م‪ -‬من حدة هذا الوضع‪ ،‬وتوسيع ثقافة اإلسالموفوبيا بشكل واضح‪ ،‬وتجاوزت رقعة‬

‫الخطاب السياسي لليمين المتطرف فأضحت مادة في الثقافة والفن والمسرح واإلعالم‪.‬‬ ‫خوف الجنوبي من اآلخر‪:‬‬

‫الخوف من اآلخر الغربي‪ ،‬شعور ورثه الفرد في بلدان الجنوب من أيام االستعمار‪،‬‬

‫ويتميز بخصوصيات بعضها يجد منبته في المجال السياسي‪ ،‬وبعضها في الديني‪ ،‬واآلخر‬ ‫في اللغوي‪ -‬الثقافي‪ ،‬وبعضها في اضطراب الهوية‪.‬‬ ‫أولاً ‪ -‬المستعمِر‪ :‬يحاول أصحاب الدعوة إلى فوبيا اآلخر‪ ،‬أن ينقلوا الماضي إلى‬

‫ربيعة جلطي‬ ‫روائية وشاعرة وأكاديمية جزائرية‬

‫الحاضر‪ ،‬وذلك باستعادة الذاكرة االستعمارية‪ ،‬ال لنقدها وإدانتها‪ ،‬وهذا واجب الذاكرة‪،‬‬ ‫والذهاب في البحث عن عالقة جديدة مع هذا اآلخر‪ ،‬مؤسسة على االحترام المتبادل‬ ‫واالستقالل والشراكة‪ ،‬بل ُتستدعى لتغليب ثقافة التوجس والحذر من هذا اآلخر عدو‬ ‫الماضي‪ ،‬والنظر إليه على أنه عدو األبد‪ .‬األمر الذي أحدث ردة فعل لدى المستعمَر‬ ‫ً‬ ‫«سابقا» من أن يقف موقف الريبة من الغرب‪،‬ويعده غربًا واحدًا متجانسً ا ال يزال يتربص‬

‫‪135‬‬

‫به الحتالله من جديد‪.‬‬

‫ثانيًا‪ -‬مقولة عداوة العروبة‪ :‬يركز حاملو فيروس فوبيا اآلخر على مقوالت‬

‫أيديولوجية جاهزة‪ ،‬وهي أن الغرب عامة و(بالجمع) يقف ضد العروبة‪ ،‬وأنه ال يبحث‬ ‫سوى عن التخلص منها ويعمل على القضاء عليها‪ .‬وقد ظهر مصطلح «حزب فرنسا»‬ ‫في الجزائر خاصة للترميز إلى حالة التربص بالعروبة ومحاربتها من الداخل‪ ،‬من خالل‬

‫فيلق المثقفين المفرنسين‪ .‬ولعل من أهداف هذا كله قطع أوصال الحوار بين المثقفين‬ ‫الجزائريين على أساس اللغة‪ ،‬وبتر كل ما يمكن أن يجمع الضفة الجنوبية بالشمالية‪،‬‬

‫من خالل الثقافة واللغة المشتركة التي يمكنها أن تتحول إلى عامل لتطوير عالقة شراكة‬ ‫لبناء مستقبل مؤسس على ما هو إيجابي‪ ،‬من دون نسيان ما هو سلبي‪ .‬يبدو أن الروائي‬

‫الجزائري كاتب ياسين تفطن مبك ًرا إلى هذه العالقة المرتبكة حين قال عن اللغة الفرنسية‬ ‫بأنها «غنيمة حرب»‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ثالثا‪ -‬القضية الفلسطينية‪ :‬لغرض إذكاء نار العداوة بين الجنوب والشمال‪ ،‬يوظف‬

‫دعاة فوبيا اآلخر القضية الفلسطينية التي ال أحد يشكك في عدالتها‪ ،‬وذلك لتأجيج‬ ‫ونشر ثقافة الكراهية عن طريق تعميم األحكام‪ ،‬وع ّد موقف الغرب موحدًا تجاه هذه‬ ‫القضية التي تعد في جوهرها قضية تصفية استعمار‪ ،‬وحق شعب في استعادة أرضه‬

‫واستقالله‪ .‬وجب التنويه إلى أنه كما كان للثورة الجزائرية أصدقاء من األوروبيين ومن‬ ‫بين الفرنسيين أنفسهم‪ ،‬ومنهم من ضحّ ى بحياته من أجلها ً‬ ‫إيمانا منه بعدالتها‪ ،‬فإن‬ ‫للقضية الفلسطينية رأس مال مهمًّا من أصدقائها في أوربا وأميركا‪ ،‬يدافعون عنها بشتى‬

‫السبل‪ ،‬ولعل االستثمار فيه يعد ورقة رابحة للدفاع عن هذه القضية العادلة‪ .‬هذه بعض‬

‫من مداخل قراءة الزلزال الذي يضرب اإلنسان منذ بداية العشرية األولى من هذه األلفية‪،‬‬ ‫حيث يسود الخوف ويتالشى السالم وتظهر بوادر حروب ثقافية وقيمية جديدة‪.‬‬

‫يركز حاملو فيروس فوبيا اآلخر‬ ‫على مقوالت أيديولوجية‬ ‫جاهزة وهي أن الغرب عامة‬ ‫و«بالجمع» يقف ضد العروبة‪،‬‬ ‫وأنه ال يبحث سوى عن‬ ‫التخلص منها ويعمل على‬ ‫القضاء عليها‬


‫شخصيات‬

‫حسن المشاري‬ ‫من رجاالت اإلصالح اإلداري‬

‫يوسف بن محمد العتيق‬ ‫كاتب سعودي‬

‫‪136‬‬

‫الراحالن الملك فيصل وحسن المشاري في افتتاح أحد المشاريع‬

‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬


‫درجة الحرارة مرتفعة والطريق خالية من السيارات تمامً ا‬

‫يف كل االتجاهات األربعة يف العاصمة الرياض‪ ،‬ويقف حسن بن‬

‫مشاري الحسني يف املسار الذي تيضء له اإلشارة اليدوية الحمراء‪،‬‬

‫فيأذن له رجل املرور بالعبور؛ ألن الطريق خالية من السيارات‪،‬‬ ‫ورجل املرور هو سيد املكان! يرفض حسن بن مشاري ْ‬ ‫إذن رجل‬

‫املرور‪ ،‬ويقول‪ :‬ال بد أن تيضء اإلشارة خضراء يل حتى أستطيع‬ ‫تجاوز اإلشارة!!‬

‫هذا هو حسن بن مشاري الحسني الذي فارقنا إىل رحمة الله‬

‫مؤخ ًرا‪ ،‬رجل يعيش االنضباط يف كل جوانب حياته‪ ،‬ويف كل موقع‬

‫يعمل فيه‪ .‬حسن املشاري هو أحد أعضاء مجلس الوزراء الشهري‬ ‫يف عهد امللك فيصل رحمه الله‪ ،‬وله بصمات واضحة يف أكرث من‬ ‫مجال يف خدمة الدولة السعودية‪.‬‬

‫ولد الراحل يف محافظة األحساء بلد الزراعة والنخيل األول‬

‫سنة ‪1349‬هـ‪ ،‬وفيها نشأ‪ ،‬ودرس يف املدرسة األمريية باألحساء‪،‬‬

‫وهي قلعة علمية كبرية لها تاريخها‪ ،‬ومن رواقها تخرج كثري من‬

‫الشخصيات الوطنية‪ ،‬ثم أعقب ذلك الدراسة يف مكة املكرمة حيث‬ ‫الدراسة املميزة يف مدرسة تحضري البعثات‪ .‬اب ُتعث إىل بريطانيا لكن‬

‫توقفت البعثة؛ بسبب حرب السويس‪ ،‬وانتقل للدراسة يف الواليات‬

‫املتحدة األمريكية‪ ،‬وهناك حصل عىل املاجستري يف إدارة األعمال‪.‬‬ ‫ً‬ ‫أستاذا لالقتصاد بجامعة امللك سعود‪ ،‬ثم عني‬ ‫عمل املشاري‬ ‫وكيلاً لوزارة املالية واالقتصاد الوطني‪ ،‬ويف هذه املرحلة من التاريخ‬

‫اإلداري لبالده كان من املساهمني يف تأسيس معهد اإلدارة‪ ،‬معلمة‬ ‫اإلدارة األوىل يف السعودية‪.‬‬

‫يعد حسن بن مشاري من أبرز العاملين‬ ‫في اإلصالح اإلداري في المملكة‬ ‫العربية السعودية‪ ،‬من خالل عمله وكيال‬ ‫لوزارة المالية‪ ،‬وعضويته في لجنة‬ ‫اإلصالح اإلداري‬ ‫االحتفاء والتكريم لضيوف البلد أو األصدقاء‪ ،‬وقال عنه‪«:‬حسن‬

‫لذا يعد حسن بن مشاري من أبرز العاملني يف اإلصالح اإلداري‬ ‫يف اململكة العربية السعودية من خالل عمله وكيلاً لوزارة املالية‪،‬‬

‫رجل باسم‪ ،‬ذو أناة يف الحديث وطريقة محببة يف هذا‪ ،‬وهو حسن‬

‫توسم فيه امللك فيصل مالمح النجابة‪ ،‬فأوكل إليه وزارة‬

‫قوة رأي محدثه وصوابه‪ ،‬وهي ميزة ال تتوافر إال عند القليلني‪.»...‬‬

‫فبقي فيها إحدى عشرة سنة كان البلد فيها يمر بمرحلة تطور‬

‫السعودي للمرة األوىل احتاج إىل صاحب خربة ومعرفة بالربوتوكول‬

‫وعضويته يف لجنة اإلصالح اإلداري‪.‬‬

‫الزراعة سنة ‪1384‬هـ وهو ال يزال شابًّا يف سن الخامسة والثالثني‪،‬‬ ‫إداري مهم يف الوزارات والدوائر الحكومية كافة‪ .‬وهو ما توسم ُه‬

‫املؤرخ منري العجالين يف كتابه (تاريخ مملكة يف سرية زعيم)‪« :‬يقوم‬ ‫عىل الوزارة شاب ذيك نشيط»‪.‬‬

‫عمل وزير الزراعة حسن املشاري يف حقول مهمة يف وزارته‪:‬‬

‫الزراعة‪ ،‬واملياه‪ ،‬والرتبية الحيوانية إال أن اسمه ارتبط باملشروع املايئ‬

‫املهم يف شرق الوطن واألحساء تحديدًا‪ ،‬وهو مشروع الري والصرف‬ ‫الذي افتتحه امللك فيصل بنفسه يف عام ‪1391‬هـ بحضور إعالمي كبري‬

‫محليًّا وعربيًّا‪ ،‬وكان الهدف من هذا املشروع توفري املياه الجوفية يف‬ ‫األحساء التي تذهب سدى‪.‬‬

‫تحدث عنه زميله يف العديد من مراحل الحياة ويف مجلس‬

‫الوزراء السعودي الراحل الدكتور عبدالعزيز الخويطر يف مذكراته‬ ‫«وسم عىل أديم الزمن» ووصفه بالكرم وكرثة إقامة مناسبات‬

‫االستماع‪ ،‬وحسن عند النقاش‪ ،‬سريع الرجوع عن رأيه إذا تبني له‬ ‫وال ينىس الخويطر نفسه أنه حني دخل بالط مجلس الوزراء‬

‫الوزاري‪ ،‬فكان حسن املشاري هو من يقدم الخويطر لهذا املجلس‪.‬‬

‫وبعد أن ترك الوزارة لم يرتك العمل يف خدمة الوطن‪ ،‬وكان له‬ ‫بصمات واضحة يف االقتصاد الوطني‪ ،‬فقام مع آخرين بتأسيس‬

‫البنك السعودي الفرنيس‪ ،‬والشركة السعودية للفنادق واملناطق‬ ‫السياحية‪ ،‬وترأس مجلس إدارة هاتني املؤسستني العمالقتني‬ ‫بموجب مرسوم مليك‪.‬‬

‫تويف املشاري يوم الثالثاء (‪1437 / 10 / 7‬هـ) يف مدينة الرياض‬

‫وبها صيل عليه ودفن بعد أن قىض حياة حافلة قاربت التسعني‬

‫عامً ا‪ ،‬متوّجة بالعمل والعطاء التأصييل والتأسييس يف وطنه‪ ،‬ال‬

‫سيما يف عهد امللك فيصل بن عبدالعزيز آل سعود –رحمه الله‪ -‬إذ‬

‫بلغ عطاؤه يف تلك املرحلة قمته‪ ،‬مع أنه كان يف تلك املرحلة يف‬ ‫سنوات الشباب‪.‬‬

‫‪137‬‬


‫شخصيات‬

‫وقفة خاطفة‬ ‫في سيرة رجل‬ ‫نورة الشمالن‬ ‫أكاديمية وأديبة‬

‫ال أدري ما الشجاعة التي ملكتني حين اتصلت بي األخت األستاذة هدى الدغفق‬

‫وطلبت مني باسم مجلة الفيصل أن أكتب عن زوجي وحبيبي الراحل الدكتور‬ ‫سليمان السليم في ألف كلمة فقط‪.‬‬

‫هل يمكن اختصار عمر يزيد على األربعين عامً ا بألف كلمة؟ لم أفكر كثيرًا‪ ،‬وأبديت‬

‫استعدادي لذلك‪ ،‬ومرت األيام‪ ،‬وكلما أمسكت القلم ألكتب ظهرت صورته أمامي‬ ‫كابوسا ثقيلاً‬ ‫وكأنها تكذب الواقع‪ ،‬وتتناغم مع أمنياتي بأن ما حدث ليس إال‬ ‫ً‬

‫‪138‬‬

‫سينجلي‪ .‬وليلة البارحة وصلتني رسالتان من األخت هدى‪ ،‬وأخرى من المجلة‬ ‫للسؤال عن المقال‪ ،‬وتذكر أن المجلة في عجلة من أمرها لنشره‪،‬‬ ‫فاستجبت للطلب ولكن من أين أبدأ؟‬

‫سأنحي العواطف جانبًا؛ ألن املجلة لم تطلب مني تأبي ًنا‬

‫للراحل العزيز‪ ،‬إنما طلبت تقديمه للقراء‪ .‬هو سليمان بن‬

‫عبدالعزيز السليم‪ ،‬حصل عىل الدكتوراه من جامعة جونز‬ ‫هوبكنز يف العالقات الدولية‪ ،‬وقبلها املاجستري من جامعة‬

‫جنوب كاليفورنيا يف التخصص نفسه‪ ،‬تدرج يف الوظائف بعد‬

‫حصوله عىل الدكتوراه من نائب ملدير التأمينات االجتماعية‪ ،‬إىل‬

‫أستاذ يف جامعة امللك سعود – كلية التجارة‪ .‬ويُعد التحاقه بها‬ ‫أحد مفاصل حياته؛ فقد أتاها ورياح الخالفات بني أساتذتها‬ ‫عاتية‪ ،‬وكانوا ينقسمون إىل فريقني متخاصمني‪ :‬الفريق األول‬ ‫يضم غازي القصيبي ومحسون جالل‪ ،‬والفريق الثاين يضم‬ ‫محمد امللحم ومحمد الهوشان‪ ،‬وكان سليمان يتمتع بحب‬ ‫الفريقني فاستطاع أن يكون حمامة السالم بينهما‪.‬‬ ‫ً‬ ‫أحيانا أربع وزارات يف آن واحد عندما‬ ‫كان يدير‬ ‫يسافر بعض الوزراء ويكلفونه بذلك‪ ،‬ولم أسمعه يومً ا‬ ‫يتأفف من ذلك أو يشكو كرثة العمل‪ .‬كان نظيف اليد‬ ‫لم يدخل يف جيبه إال راتبه عىل الرغم من اإلغراءات‬ ‫الكثرية التي صدها من اليوم األول له يف الوزارة‪،‬‬ ‫وهذا حديث يطول شرحه وتكرث أمثلته‪.‬‬

‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬


‫عندما مزق األمري محمد بن عبدالعزيز خطابه‬

‫حالته الصحية‪ ،‬وتوسط له امللك سلمان بن عبدالعزيز الذي‬

‫كان يحظى بتقدير القيادة‪ ،‬وهذا ما جعله يتخطى‬

‫كان سليمان يكنّ له االحرتام والتقدير‪ ،‬فقبل امللك االستقالة‪،‬‬

‫أزمة األسمنت عام ‪1979‬م قررت وزارة التجارة تقنني التوزيع‪،‬‬

‫وزي ًرا من الشعب يستقيل‪ .‬وبعد استقالته آثر التفرغ ألسرته‬ ‫وهواياته وقراءاته‪ ،‬فقد كان ‪-‬رحمه الله‪ً -‬‬ ‫قارئا نهمً ا‪.‬‬

‫الكثري من العقبات‪ ،‬منها عىل سبيل املثال عندما حدثت‬ ‫وتحديد حصص املقاولني‪ ،‬فأتاه يومً ا أحد املقاولني الكبار يطلب‬

‫وأعلنت يف الصحف‪ ،‬وهي املرة األوىل يف تاريخ اململكة أن‬

‫حصة أكرث بكثري من املقرر له‪ ،‬ويشفع الطلب بخطاب من‬ ‫األمري محمد بن عبدالعزيز شقيق امللك خالد الذي يكربه س ًّنا‪،‬‬

‫خاص‪ ،‬فاعتذر عن كل ذلك‪ ،‬ثم كلفه امللك فهد بعضوية‬

‫الحصة املقررة له‪ ،‬فما كان من سليمان إال أن أخذ الخطاب‬

‫عىل ذلك‪ ،‬واستمر فيها دورتني‪ ،‬ثم طلب عدم التجديد‪.‬‬

‫ويف هذا الخطاب أم ٌر بصرف أسمنت لهذا املقاول أكرث بكثري من‬ ‫ووعد املقاول خريًا‪ ،‬ثم اتجه إىل بيت األمري محمد وشرح له‬

‫املوضوع‪ ،‬وأن إعطاء هذا املقاول كمية كبرية سيكون عىل‬ ‫حساب حصص املقاولني الصغار‪ ،‬فاستمع إليه األمري ثم أخذ‬ ‫منه الخطاب ومزقه بعد أن شكره عىل حسه الوطني وإخالصه‬

‫وجرأته يف إحقاق الحق‪ ،‬واألمثلة تتكرر‪.‬‬

‫عند تويل امللك فهد الحكم عينه وزي ًرا للمالية‪ ،‬ولم‬

‫يكن سعيدً ا بهذا التعيني؛ ألنه يعتقد أن حمل هذه الوزارة‬ ‫ثقيل جدًّ ا‪ ،‬لكنه التحق بالعمل‪ ،‬وحقق كثريًا من اإلنجازات‪،‬‬

‫وهو أمر مسجل له‪ .‬وبعد أشهر عدة قدم استقالته ورفضها‬ ‫امللك فهد‪ ،‬وأتذكر جيدً ا املهاتفة الطويلة التي كان فيها امللك‬

‫فهد يقنعه بالبقاء بحب وإعزاز‪ ،‬لكنه أصر عىل ذلك؛ بسبب‬

‫كان نظيف اليد‪ ،‬لم يدخل في جيبه إال‬ ‫راتبه‪ ،‬على الرغم من اإلغراءات الكثيرة‬ ‫التي صدها من اليوم األول له في‬ ‫الوزارة‪ ،‬وهذا حديث يطول شرحه وتكثر‬ ‫أمثلته‬

‫عرضت عليه مناصب عدة‪ ،‬بعضها حكومي وبعضها‬

‫اللجنة االستشارية العليا ملجلس التعاون الخليجي‪ ،‬فوافق‬ ‫ألحّ عليه كثري من األصدقاء أن يرأس مجلس إدارة البنك‬ ‫السعودي األمرييك (سامبا) فوافق لدورة واحدة‪ ،‬ثم اعتذر‬ ‫عن ذلك رغم اإللحاح الشديد من أعضاء مجلس إدارة‬

‫البنك‪ ،‬وانضم عضوًا يف مجلس إدارة مجموعة الزامل‪ ،‬وبقي‬

‫فيها حتى وفاته‪.‬‬

‫تعرض ألزمات صحية عديدة‪ ،‬فذهب إىل أمريكا‪ ،‬وكان‬

‫من املقرر أن يخضع لعملية يف القلب املفتوح‪ ،‬ولم يخرب‬ ‫أحدً ا بذلك‪ ،‬وملا علم امللك فهد أرسل إليه رجلاً من السفارة‬ ‫يخربه أن جميع تكاليف العملية وسكن العائلة سيغطى من‬ ‫الدولة‪ ،‬فشكره شك ًرا جزيلاً ‪ ،‬لكنه اعتذر عن ذلك‪ ،‬قائلاً ‪ :‬إن‬

‫شركة التأمني ستدفع تكاليف املستشفى‪ ،‬أما السكن فقد دفع‬ ‫مقدمً ا‪ ،‬ولم يستلم من الحكومة ريالاً واحدً ا‪.‬‬ ‫أجرى عمليات عدة‪ ،‬منها عملية تبديل صمام يف‬

‫القلب‪ ،‬وترقيع الحجاب الحاجز‪ ،‬ولم أسمعه يومً ا يتأفف‬

‫أو يشتيك‪ ،‬فكلمته التي الزمته دائمً ا «الحمد لله»‪ .‬قبل وفاته‬

‫تع ّرض ألزمة قلبية يف لندن‪ ،‬وبقي يف املستشفى عشرة أيام‪،‬‬ ‫ً‬ ‫تاركا قلوبًا تنزف‬ ‫ثم انتقل إىل الرفيق األعىل راضيًا مرضيًّا‪،‬‬ ‫دمً ا من لوعة الفراق‪.‬‬

‫غازي القصيبي يؤنبه لعدم اهتمامه باإلعالم‬ ‫يف عام ‪1974‬م عني وكيلاً لوزارة التجارة‪ ،‬وبعدها بأقل من عام عني وزيرًا للتجارة‪ ،‬واستمر‬

‫يف الوزارة عشرين عامً ا‪ ،‬مرت خاللها البالد بكثري من األزمات االقتصادية‪ ،‬أدارها بكل حرفية‪،‬‬ ‫ً‬ ‫بعيدا من اإلعالم‪ ،‬فقد كان شعاره «العمل يتحدث عن نفسه»‪.‬‬ ‫وكان يعمل ليلاً ونهارًا‬

‫بحكم العالقة الوطيدة التي تربطه بالدكتور غازي القصيبي الذي عني وزيرًا للصناعة‬

‫معه‪ ،‬فطاملا سمعته يثور عليه لعدم إعالنه منجزاته‪ ،‬وإغالق باب وزارته أمام اإلعالم‪ .‬ويف‬

‫إحدى املرات‪ ،‬وكان سليمان يف جولة بني الفنادق يف الطائف فوجئ بكامريات اإلعالم‪ ،‬ولم يدر‬ ‫من الذي أرسلها؛ إذ إنه لم يطلب من وزارة اإلعالم ذلك‪ ،‬فعرف بعد ذلك أن الدكتور غازي‬ ‫علم بتلك الجولة فاتصل بوزارة اإلعالم‪ ،‬ولم يكن هذا التصرف من غازي النابع من الحب‬

‫غازي القصيبي‬

‫ً‬ ‫معتقدا أن ما يقوم به هو الواجب الذي ال يستحق الشكر عليه‪.‬‬ ‫مرضيًّا لسليمان؛ فقد تعود أن يعمل يف الظل‪،‬‬

‫‪139‬‬


‫ثقافات‬

‫اتفقا في مناظرة على ضرورة قراءة بروست‬ ‫وأن أفكار نيتشه صالحة لمجتمع المستقبل‬

‫جيليه ليبوفيتسكي وماريو فارغاس يوسا‪:‬‬ ‫الحياة ليست ثقافة فقط‪..‬‬ ‫أيضا‬ ‫الحياة سياسة ً‬ ‫ترجمة‪ :‬إلياس فركوح‬ ‫روائي ومترجم‬

‫‪140‬‬

‫ماريو يوسا‬

‫جيليه ليبوفيتسكي‬

‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬


‫جيليه ليبوفيتسكي وماريو فارغاس يوسا‬

‫في مناظرته مع الفيلسوف وعالم االجتماع الفرنسي جيليه ليبوفيتسكي‪ ،‬وصاحب كتاب‬ ‫«إمبراطورية الموضة»‪ ،‬و«األزمنة الحديثة ًّ‬ ‫جدا»‪ ،‬يناقش الروائي الحائز على جائزة نوبل‬

‫لألدب ماريو فارغاس يوسا ما هو جدير بالفحص حول الثقافة الراقية و«الجماهيرية»‬ ‫ضمَّ نها كتابه األخير «حضارة ُ‬ ‫مدافعا عن األفكار التي َ‬ ‫ً‬ ‫الف ْرجَ ة»‪.‬‬ ‫في العالم المعاصر‪،‬‬ ‫ً‬ ‫الحقا إلى‬ ‫المناظرة التي عقدت في معهد سرفانتس بمدريد باللغة اإلسبانية‪ ،‬ثم ترجمت‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫عميقا وحيويًّا حول العديد من الموضوعات والقضايا‬ ‫نقاشا‬ ‫اللغة اإلنجليزية‪ ،‬شهدت‬ ‫ذات الطابع اإلشكالي‪ .‬هنا نص المناظرة مترجمً ا من اإلنجليزية‪.‬‬

‫يوسا‪« :‬حضارة ُ‬ ‫شعور بالقلق‪،‬‬ ‫الفرْجَ ة» محاولة للتعبري عن‬ ‫ٍ‬

‫بمقدور األفراد اليوم االختيار ضمن مجال واسع وعريض من‬

‫ضرب من األىس‪ ،‬وعن رؤية ما كنا فهمناه بـ«الثقافة» عندما‬ ‫عن‬ ‫ٍ‬

‫االحتماالت الثقافية‪ ،‬وبالتايل ال تنحصر قدرتهم يف عدم االكتفاء‬

‫إىل يشء مختلف جدًّا‪ ،‬إىل يشء أصابه التميّز والتغيرّ يف جوهره‬ ‫ً‬ ‫مقارنة بما كنا نعنيه بكلمة «ثقافة» يف خمسينيات وستينيات‬

‫كذلك ممارسة أذواقهم وميولهم الشخصية‪ .‬إنه يحاجّ ليربهن‬

‫كنت شابًّا وقد أصابه التغيرُّ يف سني حيايت‪ ،‬حيث تحوّل فهمُ نا‬

‫وسبعينيات القرن املايض‪ .‬سعى الكتاب محاولاً وصف التحوُّل‪،‬‬

‫وفحص تأثريات أوهام ما نسميها ثقافة اليوم عىل مظاهر مختلفة‬ ‫من األفعال اإلنسانية –اجتماعيًّا‪ ،‬وسياسيًّا‪ ،‬ودينيًّا‪ ،‬وجنس ًّيا‪-‬‬

‫طارحً ا مسألة أن الثقافة تعمل عىل تخصيب كل أفعالنا يف الحياة‬ ‫وتحيلها إليها‪.‬‬ ‫َ‬ ‫هدف إىل اإلقالق‬ ‫لم ُي ْنجَ ز الكتاب ليكون متشائمً ا‪ ،‬لكنه‬

‫وحفز الناس إىل التفكري بالدور املهيمن للتسلية واإللهاء؛ لكونهما‬ ‫ينشران الزيف يف وقتنا الحاضر‪ ،‬مثلما كانا ً‬ ‫أيضا سببًا يف أن‬ ‫يصبحا مرك ًزا يف الحياة الثقافية‪ .‬أعتقد أن هذه هي املسألة‪ ،‬وأنها‬

‫حدثت بمباركة من قطاعات واسعة يف املجتمع‪ ،‬ومن ضمنها‬ ‫أولئك الذين ّ‬ ‫مثلوا تقليديًّا مؤسساته و ِقيَمه الثقافية‪.‬‬ ‫إنّ جيليه ليبوفيتسيك‪ ،‬من وجهة نظري‪ ،‬أحد املفكرين اليوم‬

‫الذين حللوا هذه الثقافة الجديدة بعمق بالغ وصرامة قصوى‪.‬‬

‫ففي كتابه «إمرباطورية املوضة‪ :‬ديمقراطية اللباس الحديثة»‪ ،‬قام‬ ‫ً‬ ‫ُّ‬ ‫وخالفا ملا قمت به‪،‬‬ ‫وبتبص ٍر بوصف مكونات هذه الثقافة الجديدة‪.‬‬ ‫لاً‬ ‫عالجها محل إيّاها من دون قلق‪ ،‬ومن دون أيّ إحساس مفرط‬ ‫باألذى؛ عالجها بتعاطف‪ ،‬رائيًا يف صورها ومالمحها ما عده أم ًرا‬ ‫إيجابيًّا جدًّا‪ .‬فمثلاً ‪ ،‬التأثري باتجاه الديمقراطية لثقافة تصل لكل‬ ‫شخص‪ ،‬إنما هو ثقافة‪ ،‬يف مقابل الثقافة التقليدية‪ ،‬ال تخلق‬ ‫ً‬ ‫فروقا‪ ،‬ثقافة ال تحتكرها النخبة‪ ،‬ليست محصورة باملتخصصني‬ ‫أو املثقفني واملفكرين‪ ،‬لكنها تتخلل كليَّة املجتمع وتنفذ فيه‪،‬‬

‫بطريقة أو بأخرى‪.‬‬

‫كما أنه يقول‪ ،‬وهذه نقطة الفتة وقابلة للنقاش‪ :‬إن هذه‬

‫الثقافة أدّت إىل حرية فردية كبرية‪ .‬وبالعكس يف املايض –عندما‬

‫نحو ما‪ ،‬هو األسري واملعبرِّ عن ثقاف ٍة ما– بات‬ ‫كان الفرد‪ ،‬عىل‬ ‫ٍ‬

‫بممارسة استقاللهم وإرادتهم الحرة فقط؛ ولكن بمقدورهم‬

‫عىل أن هذه الثقافة تتيح للناس البحث عن متعهم عرب أنشط ٍة‬ ‫نحو قاطع‪ ،‬لكنها لم تكن تعدّ كذلك يف املايض‪.‬‬ ‫هي ثقافية عىل ٍ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وأحيانا‬ ‫أحيانا ُتقنعني‪،‬‬ ‫هذه األفكار قابلة للجدال حولها‪:‬‬ ‫أخرى ترتكني حائ ًرا بال قرار‪ .‬أعتقد أن حوارًا بني موقفينا –‬

‫موقفان مختلفان لكنهما‪ ،‬بطريق ٍة ما‪ ،‬يمكن أن يتكامال – سيكون‬ ‫حوارًا مثم ًرا‪.‬‬

‫ليبوفيتسيك‪ :‬شك ًرا جزيلاً ‪ ،‬ماريو‪ ،‬عىل هذا التقديم الذي‬

‫أدركت فيه نفيس كاملاً ‪ .‬لقد أ َّك َ‬ ‫ُ‬ ‫دْت عىل حقيقة أن مجتمع‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫الفرْجَ ة هذا يشكل تحديًا ملعنى الثقافة النبيل‪ .‬أنا أوافقك‬

‫بهذا الخصوص‪ .‬ولسوف أسمح لنفيس بتطوير هذه النقطة‬ ‫قليلاً ؛ ألنني أعتقد أنها تندرج يف االتجاه الذي تر ِّك ُز عليه‪ .‬ماذا‬ ‫كانت الثقافة النبيلة‪ ،‬الثقافة الراقية‪ ،‬بالنسبة لدعاة الحداثة؟‬

‫قامت الثقافة بتقديم الكمال الجديد‪ .‬ففي الوقت الذي بدأ فيه‬ ‫َ‬ ‫خلقت‬ ‫دعاة الحداثة بتطوير املجتمع العلمي والديمقراطي‪،‬‬ ‫ً‬ ‫صيغة للدين بوساطة الفنّ ‪ ،‬حيث تمثلت‬ ‫الرومانطيقيّة األملانيّة‬ ‫مهمتها يف توفري ما لم يقم ال الدين وال العلم بتزويد املجتمع به‪،‬‬

‫وذلك ألنّ العلم ببساطة ال يقوم سوى بوصف األشياء‪ .‬أصبحَ‬

‫الفنّ شي ًئا مقدّ سً ا‪ .‬كان الشعراء –والفنانون عامة– هُ م أولئك‬

‫الذين يُظهرون الطريق‪ ،‬الذين قالوا ما كان الدين يقوله منذ وقت‬ ‫ِّ‬ ‫مبكر‪.‬‬

‫عندما نتقيَّد بماهيّة الثقافة يف عالم االستهالك‪ ،‬يف عالم‬

‫الفرْجَ ة –ما رأي َته مناسبًا أن تدعوه بـ«حضارة ُ‬ ‫ُ‬ ‫الفرْجَ ة»– إنما هو‬

‫تحديدًا التسليم بانهيار النموذج الرومانطيقي‪ .‬باتت الثقافة‬ ‫ً‬ ‫وحدة من وحدات االستهالك‪ .‬لم نعد ننتظر من الثقافة أن‬

‫تغيرِّ الحياة‪ ،‬أن تغيرِّ العالم‪ ،‬مثلما َّ‬ ‫فك َر رامبو‪ .‬كانت هذه‬ ‫َ‬ ‫رفض العالم‬ ‫مَ همة الشعراء‪ ،‬كبودلري عىل سبيل املثال‪ ،‬الذي‬

‫‪141‬‬


‫ثقافات‬

‫ال َّن ْفعي‪ .‬لقد آمنوا بأنّ الثقافة الراقية بمقدورها تغيري اإلنسان‪،‬‬

‫تغيري الحياة‪ .‬واليوم‪ ،‬من غري املحتمَ ل وجود أحد يؤمن بأنّ‬

‫السباق‬ ‫الثقافة الراقية سوف تغيرِّ العالم‪ .‬يف الحقيقة‪ ،‬وبمفهوم ِّ‬ ‫والتنافس‪ ،‬فإنّ مجتمع التسلية‪ ،‬مجتمع ُ‬ ‫الفرْجَ ة هو الذي فاز‪ .‬إنّ‬ ‫ضرب من اللهو‬ ‫ما نتوقع الحصول عليه من الثقافة هو التسلية‪،‬‬ ‫ٌ‬

‫الرفيع بعض اليشء؛ غري أن الرأسماليّة هي ما تغيرِّ الحياة اليوم‬ ‫َ‬ ‫بشكل أسايس‪ ،‬والتكنولوجيا ً‬ ‫أيضا‪ .‬ولقد‬ ‫تحولت الثقافة لتصبحَ‬ ‫ٍ‬ ‫املجد امل َُتوِّج لهذا ّ‬ ‫كله‪.‬‬

‫نحن‪ ،‬ضمن حدود معينة‪ ،‬نشرتك يف رؤي ٍة صارم ٍة سلبيّة‬ ‫لحضارة ُ‬ ‫الفرْجَ ة هذه‪ ،‬وللمجتمع االستهاليك عامة‪ .‬ورغم ذلك‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫حاولت عرب السنني إظهار إمكانياتهما اإليجابيّة‪ .‬وعند النظر من‬ ‫زاوية نموذج الثقافة التقليدي‪ ،‬فإنّ ما يبدو سلبيًّا هو الجانب‬

‫الطاغي بال ِجدال‪ .‬غري أن الحياة ليست ثقافة فقط‪ .‬الحياة سياسة‬ ‫ً‬ ‫أيضا –الديمقراطية بالنسبة لنا‪ -‬عالقاتنا مع اآلخرين‪ ،‬عالقاتنا‬

‫مع أنفسنا‪ ،‬مع أجسادنا‪ ،‬مع املتعة ومع عناصر كثرية أخرى‪.‬‬ ‫عىل هذا الصعيد‪ ،‬يمكننا القول بأنّ مجتمع ُ‬ ‫الفرْجَ ة‪ ،‬املجتمع‬ ‫االستهاليك‪ ،‬قام بتعميم مسلكيات َنمَ طيَّة‪ ،‬ومنح قدرًا أكرب‬ ‫من االستقالليّة للفرد‪ .‬ملاذا؟ ألنه َع َنى انهيار الخطابات الكربى‪،‬‬ ‫األيديولوجيات السياسية الكربى التي قيَّدَت األفراد برباط محكم‬

‫‪142‬‬

‫من مجموعة قوانني‪ ،‬واستبدلت بها الفراغ‪ ،‬بمذهب لذة ثقايف‪.‬‬

‫يوسا‪ :‬خالفً ا لك‪ ،‬ال أعتقد أن حضارة‬ ‫الفُ ْر َجة قد أتت بالسالم‪ ،‬وبالتالي‬ ‫التخ ُّلص من العنف‪ ،‬أو التقليل منه‪ .‬على‬ ‫موجودا‬ ‫العكس من ذلك‪ ،‬ال يزال العنف‬ ‫ً‬ ‫وحاضرا في مدننا المبتالة بالجريمة‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫الفرْجَ ة‪ ،‬رغم إمكانية مواصلتنا توجيه نقدنا له‪.‬‬ ‫انتصار الفوىض‬

‫يوسا‪ :‬تلك هي املظاهر اإليجابيّة لمِ ا يمكن لنا تسميتها‬ ‫بحضارة ُ‬ ‫ُ‬ ‫وافقت عىل املسألة ككل‪ .‬ولكن‪ ،‬فلننظ ْر‬ ‫الفرْجَ ة‪ ،‬إذا ما‬

‫وبتعاظم هذه الحال‪ ،‬لم يعد الناس يريدون الخضوع للسلطة‪،‬‬ ‫إنما يريدون أن يكونوا سعداء‪ ،‬والبحث عن هذه السعادة ّ‬ ‫بكل‬

‫أدّى كذلك إىل انتصار الفوىض واالرتباك‪ .‬لقد شهدنا‪ ،‬ضمن‬

‫املجتمع االستهاليك‪ ،‬أتاحا ألنماط الحياة أن تتكاثر‪ .‬فالتلفزيون‪،‬‬

‫التي أسستها الثقافة القديمة التي كنا نحرتمها بنسبة أو بأخرى؛‬

‫ً‬ ‫إضافة إىل‬ ‫معانيها ووضعها تحت تصرفهم‪ .‬مذهب اللذة‪،‬‬ ‫عىل سبيل املثال‪َ ،‬‬ ‫بات ضربًا من املقربة للثقافة الراقية‪ ،‬لكنه مَ دَّ‬ ‫الناس بمصادر أخرى وفتح لهم ً‬ ‫آفاقا جديدة؛ إذ مَ َّكنَ األفراد من‬ ‫عقد املقارنات‪ .‬عىل هذا الصعيد‪ ،‬أتاح مجتمع ُ‬ ‫الفرْجَ ة لألفراد أن‬ ‫نوعا من مجتمع بحسب َ‬ ‫ُوجدوا ً‬ ‫الط َلب‬ ‫يصبحوا مستقلني‪ ،‬وأن ي ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫ووفقا للثمن‪ ،‬حيث يشكلون فيه طريقة عيشهم الخاصة‪.‬‬

‫أعتقد أن هذا مظه ٌر مهمّ ؛ ألنّ املجتمعات حيث تهيمن‬ ‫ُ‬ ‫الفرْجَ ة هي مجتمعات اتفاقيّة بشكل عام أوجدها َع ْقدٌ ديمقراطي‪.‬‬

‫واليوم لم تعد الصراعات االجتماعيّة تنتهي بحمّ امات دم‪ ،‬وبات‬

‫ً‬ ‫مرفوضا يف جميع هذه األماكن‪ .‬بهذا املعنى‪ ،‬أعتقد‬ ‫رمز الطاغية‬ ‫أن مجتمع ُ‬ ‫الفرْجَ ة أتاحَ للديمقراطيات أن تحيا بمأساوية ّ‬ ‫أقل‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫أقل حالة شيزوفرينيّة عمّ ا كانت من قبل‪ .‬ومع هذا‪ ،‬لم يحررنا‬ ‫ذلك ّ‬ ‫كله من مَ ظهرين أساسيني –من العَ يبني العظيمني‪ -‬للعصر‬

‫الحديث‪ :‬الثورة‪ ،‬والقوميّة‪ .‬فالقوميّة توجد حيثما يسود مجتمع‬ ‫ُ‬ ‫الفرْجَ ة‪ ،‬لكنها ليست مجتمعات دمويّة‪ ،‬والثورة –ملحمة‬ ‫ُ‬ ‫بأتباع‬ ‫املاركسيّة الكربى‪ -‬األمل الثوري األخروي‪ ،‬لم تعد تحظى‬ ‫ٍ‬ ‫مؤمنني ُكرث‪ .‬إنّ َت َذ ُّكرنا ما كانت تعنيه ُك ٌّل من القوميّة والثورة‬ ‫للقرن العشرين إنما يتيح لنا َتجَ ُّنب القراءة الرؤيوية ملجتمع‬ ‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬

‫إىل بضعة مظاهر سلبيّة‪ .‬إنَّ اختفاء –أو انهيار– الثقافة الراقية‬

‫سريورة الثقافة الراقية‪ ،‬انهيار ِقيَم جَ مالية معينة‪ ،‬والرتاتبيّة‬

‫لم يعد للقاعدة أو املبدأ أو النظام املقبول لألولويات أيّ وجود‪.‬‬

‫يجوز لنا القول بأنّ هذا أم ٌر استثنايئ‪ ،‬ما دام أنه يعني حيازتنا‬

‫لحري ٍة مطلقة يف الوقت الراهن يف املجال الثقايف‪ ،‬غري أنه‬ ‫باإلمكان‪ ،‬ضمن تلك الحرية‪ ،‬أن نكون ضحايا السفاهة األسوأ‪.‬‬

‫هذه حقيقة يمكننا معاينتها يوميًّا‪ .‬وربما تكون الفنون البصريّة‬ ‫هي الحالة األكرث دراماتيكيّة‪ّ .‬‬ ‫تتمثل الحرية التي أحرزتها الفنون‬

‫البصريّة يف حقيقة أنّ بمقدور أيّ يشء أن يكون ف ًّنا‪ ،‬وأن ال يشء‬ ‫هو فنّ ؛ وأن كل فنّ يمكن أن يكون جميلاً أو قبيحً ا‪ ،‬غري أنه‬

‫ال مجال للتمييز بني االثنني‪ .‬لم يعد املبدأ أو النظام القديم‪،‬‬ ‫الذي أتاح لنا التمييز بني املمتاز‪ ،‬بني الدنيوي الطبيعي واللعني‬ ‫املقيت‪ ،‬متوف ًرا‪ ،‬اليوم يعتمد الوضع عىل و َ​َلع أو ذوق الزبون‪.‬‬

‫ً‬ ‫أحيانا‪ ،‬حدودًا قصوى‬ ‫ب َ​َل َغت الفوىض واالرتباك يف عالم الفنّ ‪،‬‬ ‫مضحكة‪ .‬الذيك األملعي والوغد كالهما ضحية ملؤامرات مختلفة؛‬ ‫القوْل َ‬ ‫إلعالنات وإشهارات‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬لها َ‬ ‫الف ْصل‪ .‬صحيحٌ‬ ‫ٍ‬

‫أن الفوىض واالرتباك‪ ،‬يف حقول أخرى‪ ،‬لم تبلغ هذا الحد‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫حالة حادّة‬ ‫وخلقت‬ ‫طريقا لها بمعنى ما‪،‬‬ ‫األقىص‪ ،‬لكنها وجدت‬ ‫من عدم اليقني‪.‬‬


‫جيليه ليبوفيتسكي وماريو فارغاس يوسا‬

‫إذا كانت الثقافة مجرد تسلية خالصة‪ ،‬فذلك يعني أنْ ال‬ ‫يشء يتسم باألهميّة‪ .‬إذا كانت مسألة لهو‪ ،‬فبمقدور امل ُ ْن َتحَ ل‬

‫شخص أصيل عميق‪ .‬ولكن‬ ‫إلهايئ وتسليتي بال أدىن شك أكرث من‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫إذا كانت الثقافة تعني أكرث من هذا؛ إذن فإنها تدعو للتفكري‪ .‬وإين‬ ‫أعتقد أنّ الثقافة تعني أكرث بكثري‪ ،‬ليس بسبب املتعة التي نحصل‬ ‫عليها نتيجة قراءة عمل أدبي كبري‪ ،‬أو مشاهدة أوبرا عظيمة‪،‬‬

‫أو اإلنصات لسيمفونيّة جميلة‪ ،‬أو حضور حفلة باليه ساحرة؛‬ ‫إنما ألنّ طبيعة الوعي‪ ،‬طبيعة الخيال‪ ،‬طبائع األذواق والرغبات‬

‫التي تخلقها الثقافة الراقية والفنّ العظيم يف الكائنات اإلنسانيّة‬

‫تمنحها القوة وتمدّ ها بما يجعلها تعيش عىل نحو أفضل‪ .‬تجعل‬

‫الكائنات اإلنسانيّة أكرث اهتمامً ا باملشكالت التي تغوص فيها‪،‬‬

‫وأكرث تبص ًرا بما هو صحيح وما هو خطأ يف العالم الذي تعيش‬ ‫فيه‪ .‬إنّ الوعي املُصوغ عرب الفنّ يجعل الكائنات اإلنسانيّة قادرة‬ ‫عىل الدفاع عن نفسها أكرث‪ ،‬وأن تستمتع بالحياة أكرث‪ ،‬أو أن‬ ‫تعاين ّ‬ ‫أقل‪.‬‬

‫وسيلة ملواجهة تلك األنانية والغرور‪ ،‬تلك الوحدة‪ ،‬وتلك املنافسة‬

‫الرهيبة التي تصل إىل حدّها األقىص من التج ّرد من اإلنسانيّة‪،‬‬

‫إنما هي الحياة الثقافية الغنية يف حدّ ها األقىص‪ ،‬وإنها املعنى‬

‫الرفيع السامي لكلمة «ثقافة»‪.‬‬ ‫إين‪ ،‬خِ ً‬ ‫الفا لجيليه‪ ،‬ال أعتقد أن حضارة ُ‬ ‫الفرْجَ ة قد أتت‬ ‫ُّ‬ ‫التخلص من العنف‪،‬‬ ‫بالسكينة واالنسجام‪ ،‬وبالتايل‬ ‫بالسالم‪،‬‬ ‫َّ‬

‫أو التقليل منه‪ .‬عىل العكس من ذلك‪ ،‬ال يزال العنف موجودًا‬ ‫وحاض ًرا يف مدننا املبتالة بالجريمة‪ ،‬يف جرائم الجنس ويف التمييز‬ ‫ٍّ‬ ‫متأت عن األزمات‬ ‫بني األجناس والتحامل عليها‪ .‬ثمّ ة ناتجٌ متخيَّل‬

‫االقتصاديّة أدّى إىل رُهاب األجانب‪ ،‬إىل العنصريّة والتمييز عىل‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ماثل ضد األقليات الجنسيّة‪ ،‬وهو منتشر‪،‬‬ ‫العنف‬ ‫هذا الصعيد‪.‬‬ ‫نفسر هذا ّ‬ ‫كله؟ أحد‬ ‫مع استثناءات قليلة‪ ،‬عرب العالم‪ .‬كيف ِّ‬ ‫التعبريات الذي يتجلىّ فيه هذا العنف إنما يرتكز تحديدًا يف انهيار‬ ‫الثقافة الراقية‪ .‬هذه الثقافة التي ُترثي وعينا وتقودنا‪ ،‬بطريقة أو‬

‫بأخرى ألن ننشغل نحن أنفسنا بالقضايا الكبرية‪ .‬ثقافة بقدر ما‬

‫إين أتحدث بناءً عىل تجربة شخصية‪ .‬وإين أعتقد أن حصويل‬

‫هي ممتعة فإنها تدعو للتفكري‪ ،‬وللقلق‪ ،‬غارسة يف الذهن حالة‬

‫إسباين ‪1627 -1561‬م)‪ .‬واالستمتاع به‪ ،‬وقراءة وفهم «يوليسيس»‬ ‫لجويس‪ ،‬قد ْ‬ ‫نحو عميق‪ .‬ليس فقط بسبب‬ ‫أغ َنت حيايت عىل‬ ‫ٍ‬

‫الثقاقة املسليّة الخالصة‪ .‬هذه الثقافة التي سمّ اها جيليه يف إحدى‬

‫عىل فرصة قراءة «غونكورا» ( لويس غونكورا‪ :‬شاعر بارويك‬

‫املتعة التي منحتني إياها بالعيش يف تلك التجارب الثقافية؛‬

‫بفهم أفضل للسياسة‪ ،‬وللعالقات اإلنسانيّة‪،‬‬ ‫لكن ألنها أمَ دّتني‬ ‫ٍ‬ ‫ولمِ ا هو عادل وما هو جائر‪ ،‬ولمِ ا هو صواب وما هو خطأ‪ ،‬ولمِ ْا هو‬

‫من عدم االنسجام ومثرية روح النقد؛ وهو أمر تعجز عن خلقه‬ ‫مقاالته «عالم الثقافة‪».‬‬ ‫ّ‬ ‫لست ضد ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫الفرْجَ ة؛ إنها بالنسبة يل باهرة وتسليني كثريًا‪.‬‬ ‫ولكن‪ ،‬إذا تحوَّلت الثقافة لتكون هذا فقط‪ ،‬فإنّ فقدان املعايري‬ ‫سيسود يف النهاية وليس االطمئنان‪ ،‬سيسود ٌ‬ ‫نوع من اإلذعان‬

‫خطأ كبري‪ ..‬كبري جدًّا‪ .‬اختفى الدين من حيايت عندما كنت يافعً ا‪،‬‬ ‫وحَ َّلت محله ِقيَمٌ روحيّة ما كان يل أن أبلغها من دون تلك الكتب‪.‬‬

‫الرأسمايل الحديث‪ ،‬ال يعني تعزيز ثقافة ديمقراطية بقدر ما هو‬

‫تعنيه ل ُت ْس َتبْدَل بالتسلية الخالصة‪ ،‬فماذا سيحدث لمِ ا َتبَقى؟ هل‬

‫املقاوم ملشاركة األفراد املبدعة والنقديّة يف الحياة االجتماعية‪،‬‬ ‫والسياسية‪ ،‬واملَدنية‪ .‬فيما يتعلق بي؛ إنّ أكرث الظواهر املقلقة‬

‫إين أتحدّث من زاويتي كفرد‪ ،‬غري أننا‪ ،‬إذا مددنا هذا ليشمل‬ ‫مجتمعً ا كاملاً ؛ عندها‪ ،‬ويف حالة اختفاء تلك الثقافة وكل ما‬

‫بوسع التسلية الخالصة تمكني املجتمع من مواجهة كل تلك‬ ‫املشكالت والتصدي لها؟‬

‫أنا لست ضدّ الرأسماليّة‪ ،‬أنا مؤيدٌ لها؛ لقد أتاحت املجال‬ ‫إنساين استثنايئ‪ .‬لقد جَ َلبَت لنا مستويات معيشية‬ ‫لتقدم‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫وصيغة من التطور العلمي سمحت لنا بالعيش عىل‬ ‫مرتفعة‪،‬‬

‫نحو أفضل وبال حصر مقارنة بأسالفنا‪ .‬ورغم ذلك‪ ،‬لطاملا قال‬ ‫امل ُ ِّ‬ ‫قاس بال قلب‪ِ ،‬نظامٌ يخلق‬ ‫نظرون الكِبار بأنّ الرأسماليّة ِنظامٌ‬ ‫ٍ‬

‫الرثاء لكنه يخلق األنانيّة ً‬ ‫أيضا‪ .‬وهذا يجب أن يُعَ وَّض بحيا ٍة ثقافية‬ ‫ِّ‬ ‫َ‬ ‫ري من مُ نظري الرأسماليّة اعتقدَ أنّ السبيل‬ ‫يف حدّ ها األقىص‪ .‬كث ٌ‬ ‫الروحي كان الدين؛ وآخرون‪ ،‬من غري املتدينني‪ ،‬اعتقدوا أنه‬ ‫الثقافة‪ .‬وإذا كنا ال نريد الوصول إىل النقطة التي يتحرك نحوها‬

‫روحي حيث جميع تلك املظاهر السلبيّة للمجتمع‬ ‫املجتمع –خواء‬ ‫ّ‬

‫الصناعي‪ ،‬وجميع حاالت التج ّرد من اإلنسانيّة التي يجلبها معه‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وسطوعا كل يوم– فإين أعتقد أن أفضل‬ ‫أصبحت أكرث وضوحً ا‬

‫السلبي‪ .‬واإلذعان السلبي الخالص لدى األفراد‪ ،‬داخل املجتمع‬

‫انهيار املؤسسات الديمقراطية؛ واملثال عىل ذلك السلوك املضاد‬

‫يف املجتمع املعاصر تتجلىّ يف عدم انخراط املثقفني والفنانني يف‬ ‫الشؤون العامة‪ ،‬ويف احتقارهم الكامل للحياة السياسية التي‬ ‫يرون أنها قذارة‪ ،‬وخساسة‪ ،‬وفساد‪ ،‬وأنها يشءٌ ينبغي لهم إدارة‬

‫ملجتمع‬ ‫ظهورهم له إذا ما أرادوا البقاء غري ملوَّثني‪ .‬كيف باإلمكان‬ ‫ٍ‬ ‫ديمقراطي النجاة عىل املدى الطويل من دون مشاركة الشخص‬ ‫ً‬ ‫إبداعا‬ ‫األكرث تفكريًا‪ ،‬األكرث وعيًا‪ ،‬من دون مشاركة الناس األكرث‬ ‫ً‬ ‫وقدرة عىل التخيُّل؟‬

‫ليبوفيتسيك‪ :‬نحن غالبًا ما ُن ْرف ُِق مجتمعَ ُ‬ ‫الفرْجَ ة باختفاء‬ ‫ّ‬ ‫شك‪ ،‬لكنها ليست‬ ‫امل ُثل العُ ليا‪ .‬هذه واحدة من مظاهره بال‬ ‫الوحيدة‪ .‬ففي األجيال الجديدة من الناس املَعنيني ثمّ ة قواعد‬ ‫وأُسس لم تعد سياسية‪ ،‬غري أنها متصلة بلزومات َ‬ ‫الك َرم‬ ‫ً‬ ‫مرادفا لكليّة‬ ‫والسماحة‪ ،‬وبالعَ ون املشرتك‪ .‬املجتمع املعاصر ليس‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫االستخفاف باألشياء (الكلبيّة) والعَ دَ ميّة‪ .‬ربما يكون هذا مظهره‬ ‫املسيطر‪ ،‬لكنّ ثمّ ة نزوعات مضادة وميولاً أخرى‪ ،‬نعاينُ ذلك يف‬

‫‪143‬‬


‫ثقافات‬

‫املنظمات غري الحكوميّة‪ :‬يف املتطوعني الواهبني أنفسهم للعطاء‪،‬‬

‫والواهبني وقتهم والساعني لِعَ مَ ل يشء يف سبيل اآلخرين ال يف‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ظاهرة عامليّة‪ ،‬لكنني‬ ‫أعرتف بأنّ هذا األمر ليس‬ ‫سبيل أنفسهم‪.‬‬

‫مفاجَ أ‪ ،‬بالرغم من كل يشء‪ ،‬من أن مجتمع ُ‬ ‫الفرْجَ ة يساند‬ ‫ويدعم هذا العطاء وينشره عرب العالم‪ .‬مجتمع ُ‬ ‫الفرْجَ ة ال يخلق‬ ‫األنانيّة فقط؛ بل يخلق ظواهر أخرى تسمح لنا بتعديل َّ‬ ‫كفة‬

‫امليزان‪.‬‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫نحن نملك رؤية مختلفة للثقافة الراقية‪َ .‬‬ ‫أنت تراها كالثقل‬ ‫نوعا من َ‬ ‫املوازن ً‬ ‫الخالص أو الرتياق حيال الحقيقة القاتلة املاثلة‬ ‫يف إفساح السلطة لصناعة ُ‬ ‫الفرْجَ ة والرأسماليّة الحرية األكرب‬

‫الراقية‪ :‬الطليعة‪ .‬فهناك يحدث الهجوم املضاد للفنّ األكاديمي‪،‬‬

‫لـ«الجَ مال»‪ .‬لم يكن «دوشان» (مارسيل دوشان (‪1968 -1877‬م)‪،‬‬

‫رسّ ام فرنيس وأحد مؤسيس املدرسة الدادائية والسريالية) جزءًا‬ ‫من مجتمع ُ‬ ‫الفرْجَ ة‪ ،‬ومع ذلك كان مَ ن فتحَ باب الفكرة القائلة‬

‫بقابلية وضع كل يشء يف املعرض‪ ،‬وأنّ هذا يجوز لنا أن ندعوه‬ ‫«ف ًّنا»‪ .‬إنّ بذور انهيار الجماليات والثقافة الراقية تكمن يف داخل‬ ‫الثقافة الراقية نفسها‪.‬‬

‫ويف النهاية‪ ،‬لم يكن مجتمع ُ‬ ‫الفرْجَ ة مَن قام بتغيري الرتاتبية‬

‫الجَ مالية كثريًا‪ .‬ما الذي حدث؟ لقد خلق مجتمعُ القرن العشرين‬ ‫الحديث شي ًئا لم ي ُْسمع به من ُ‬ ‫قبل يف التاريخ‪« :‬فنّ الجماهري‬

‫َ‬ ‫يف إدارة شؤونها‪َ .‬‬ ‫لست ضد الرأسماليّة‪ ،‬لكنك تبحث عن‬ ‫أنت‬ ‫وسيلة ْ‬ ‫ألن َسنتها‪ .‬نحن متفقان هنا‪ .‬لكننا لسنا‪ ،‬من ناحية ثانية‪،‬‬

‫– الفنّ الجماهريي»‪ .‬فلنأخذ السينما عىل سبيل املثال‪ .‬فالفلم‬

‫العامل األسايس والجوهري يف عملية ضبط وتصويب أحد مظاهر‬ ‫الرأسمالية‪ .‬أما أنا فأكرث ً‬ ‫ريبة؛ ربما ألين ّ‬ ‫ً‬ ‫إيمانا َ‬ ‫منك بالثقافة‬ ‫أقل‬

‫منحنا أعمالاً متوسطة القيمة لكنها رائعة ً‬ ‫أيضا‪ .‬وإذا أخذنا يف‬

‫ِّ‬ ‫متفائلني بالقدر نفسه‪َ .‬‬ ‫تشكل‬ ‫أنت تعتقد أنّ الثقافة الراقية‬

‫الراقية‪.‬‬

‫َ‬ ‫َ‬ ‫ذكرت بعض األشياء عن العنف يف غاية األهمية‪ ،‬منها‬ ‫أنت‬ ‫أن يف داخل مجتمع ُ‬ ‫الفرْجَ ة‪ ،‬املتصف كذلك بالتسلية واإللهاء‪،‬‬ ‫وقعت جميع أشكال العنف‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬ففي لحظة مهمة يف‬

‫‪144‬‬

‫مجتمع ُ‬ ‫الفرْجَ ة ليس املجرم امل َّتهم الوحيد‪ .‬فاألمر يبدأ بالثقافة‬

‫سريورة الثقافة الراقية أمىض أوسكار وايلد سنتني يف السجن‪،‬‬ ‫وبقية حياته الوجيزة يف املنفى‪ .‬كما عجزت الثقافة الراقية عن‬ ‫حماية الب َ​َشر‪ ،‬يف أُمة غوته وكانط‪ ،‬من الوحشيّة النازيّة‪.‬‬

‫أنا رجل أكاديمي‪ ،‬أدافع عن الثقافة الراقية‪ ،‬لكنني أعتقد أنْ‬ ‫َ‬ ‫العالم‬ ‫علينا أن نقرتح وسائل أخرى ومختلفة‪ .‬وبالنظر إىل حرية‬

‫املعاصر وتيهانه‪ ،‬فإنّ ما ينبغي لنا عمله هو املحافظة عىل كرامة‬

‫الناس واإليمان بالعمل‪ .‬ال االكتفاء باإليمان باملعرفة واالستمتاع‬ ‫باألعمال األدبية العظيمة‪ .‬الثقافة الراقية تساعد اإلبداع والفرد‪،‬‬

‫لكن يف الوقت نفسه فإنّ األفراد هم املمثلون الذين يبنون عواملهم‬ ‫الخاصة‪ .‬عىل التعليم ألاّ يقف ساك ًنا أو يهرب بعيدًا من التلفزيون‬ ‫وما يماثله‪ .‬عىل التعليم توفري األدوات لألفراد ليصبحوا مبدعني‪،‬‬ ‫ليس فقط فيما يتعلق بالفنّ واألدب إنما يف كل يشء‪ .‬عىل‬

‫الثقافة الراقية والنزعة اإلنسانية العمل جنبًا إىل جنب بطرائق‬

‫مختلفة‪ ،‬أما إذا مارسنا ذلك بطريقة محددة واحدة؛ فلسوف‬

‫السينمايئ يستهدف كل إنسان‪ ،‬بصرف النظر عن مكوناته‬ ‫ً‬ ‫مختلفا‪ .‬لقد خلق فنَّ تسلي ٍة بمقدوره‬ ‫الثقافية؛ مجرتحً ا شي ًئا‬ ‫الحسبان معدالت األفالم‪ ،‬وعىل نحو مطرد‪ ،‬فإنّ األعمال التي‬

‫هي ليست عظيمة وليست رديئة‪ ،‬تؤدي إىل تحريك املشاعر‬

‫وتدفع الناس إىل التفكري‪.‬‬

‫حريق يف الهواء الطلق‬

‫س موضوع النازيّة‪ .‬إنّ أوّل‬ ‫يوسا‪ :‬يسعدين أن جيليه قد المَ َ‬

‫يشء فعلته النازيّة وهي يف طريقها الستالم السلطة كان إقامتها‬ ‫ً‬ ‫محرقة هائلة للكتب أمام جامعة برلني‪ ،‬حيث بات كامل اإلرث‬

‫الثقايف العظيم ألملانيا‪ ،‬عمل ًّيا‪ ،‬داخل أتون حريق يف الهواء الطلق‪.‬‬

‫أن الثقافة‬ ‫ليبوفيتسكي‪َ :‬‬ ‫أنت تعتقد ّ‬ ‫الراقية تشكِّل العامل األساسي‬ ‫والجوهري في عملية ضبط وتصويب‬ ‫أحد مظاهر الرأسمالية‪ .‬أما أنا فأكثر‬ ‫منك‬ ‫أقل إيما ًنا‬ ‫ريبةً ؛ ربما ألني‬ ‫َ‬ ‫ّ‬

‫بالثقافة الراقية‬

‫نواجه مشكالت‪ .‬فمشاركة الجماهري‪ ،‬يف مجتمع التسلية‪ ،‬أكرث‬

‫صعوبة حني يتعلق األمر باختمار هذه الثقافة‪ .‬عند النظر إىل غري‬ ‫املمتلكني للتعليم الضروري‪ ،‬فإنّ قراءة «يوليسيس» اليوم ليست‬

‫هينة‪ ،‬لكنها ليست مستحيلة‪ .‬نحن بمقدورنا العيش‪ ،‬والعيش‬

‫وبوضع يتيح الكرامة‪ ،‬من دون االطالع عىل األعمال‬ ‫جيدًا‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫األدبية العظيمة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫نحن متفقان يف تشخيصنا ملجتمع الفرْجَ ة وبدء انهيار‬

‫الرتاتبيّة الجَ مالية‪ .‬لكن هنا علينا أن نرتاجع قليلاً ونشهد عىل أن‬ ‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬

‫يوسا‪ :‬ليس هناك من مجتمع واحد‬ ‫في العالم ال يعكس نظامه التعليمي‬ ‫لسبب بسيط‬ ‫أزمات عميقة‪ ،‬وذلك‬ ‫ٍ‬ ‫يتم ّثل في أننا ال نعرف ما هو النظام‬ ‫األفضل واألكثر قابلية لتلبية الحاجات‬


‫جيليه ليبوفيتسكي وماريو فارغاس يوسا‬

‫النازيّة ليست الحركة الشموليّة الوحيدة التي أضمرت ارتيابًا‬ ‫ً‬ ‫ساحقا يف اإلبداع الفني‪ ،‬وبالتفكري الفلسفي‪ ،‬وبالفنانني الذين‬

‫كانوا‪ ،‬بشكل أو بآخر‪ُ ،‬ن ّقادًا لزمنهم‪ ،‬وملجتمعهم؛ الفنانني‬

‫ليس سويًّا‪ ،‬وأنه باملقارنة مع األشياء الجميلة جدًّا‪ ،‬والكاملة‬

‫تمامً ا‪ ،‬والرائعة جدًّا‪ ،‬حيث كل األشياء رائعة –األشياء البشعة‬ ‫والرديئة هي ً‬ ‫أيضا رائعة وجميلة‪ -‬وأنّ العالم الحقيقي متوسط‬

‫وحيش‪.‬‬ ‫لقمع‬ ‫الذين‪ ،‬بطبيعة الحال‪ ،‬قد تعرضوا‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫وبسبب ارتيابهم الفظيع يف الثقافة‪ ،‬فإنّ أوّل يشء قامت به‬ ‫جميع املجتمعات التسلطيّة ّ‬ ‫تمثل يف سَ ِّنها ألنظمة الرقابة عىل‬

‫الرئيس للتقدم والحرية‪ ،‬ليس يف العالم املادي فقط؛ بل يف‬

‫التداول الحُ ر لآلراء والقناعات‪ ،‬وذلك بغية تصنيف األفكار‬

‫والديمقراطية‪.‬‬

‫الكتابة والنشر‪ .‬وكانوا محقني يف رؤيتهم للخطر الكبري الكامن‬ ‫ٌ‬ ‫مؤسسة لقمع‬ ‫يف الثقافة‪ .‬فمنذ محاكم التفتيش‪ ،‬اجْ ترُ ِحَ ت‬ ‫والحياة الفرديّة كما الحياة الروحيّة ضمن نماذج ومعايري دقيقة‬ ‫ُتدين ُ‬ ‫وتجَ ِّرم بما يتوافق مع السلطة‪ .‬هذا ما فعلته الشيوعيّة‪،‬‬ ‫والفاشيّة‪ ،‬والنازيّة‪ ،‬وجميع الدكتاتوريات التي و ُِجدَت‪ .‬وهنا نجد‬

‫الدليل األمثل عىل أهمية الثقافة الغنية‪ ،‬والراقية‪ ،‬واملبدعة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫والحُ رة‪ .‬يف الحقيقة‪ ،‬إنّ‬ ‫مبدعة ال تكون‬ ‫وراقية‬ ‫غنية‬ ‫ثقافة‬ ‫ُ‬ ‫إلاّ حُ رة‪ ،‬وهي‪ًّ ،‬‬ ‫حقا‪ ،‬أحد أسس الحرية‪ .‬وإذا ما اختفت تلك‬

‫القيمة إىل حد كبري‪ .‬لقد خلق فينا هذا األمر شعورًا رهيبًا بانعدام‬ ‫التكيُّف‪ ،‬باملقاومة ورفض الحقيقة الواقعية‪ .‬ذلك هو املصدر‬

‫مجال الحقوق اإلنسانية واملؤسسات الديمقراطية‪ .‬إنّ الدفاع‬ ‫عن الثقافة الراقية مرتبط بذلك االنهماك الكبري ٍّ‬ ‫بكل من الحرية‬ ‫صحيحٌ أن فظائع اجتماعيّة وإجحافات اقتصاديّة قد وقعت‬

‫يف مايض املجتمعات املثقفة‪ .‬ولكن‪ ،‬ما الذي جعلنا نقلق من كونها‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫واإلدراك‬ ‫الوعي‬ ‫الثقافة‬ ‫كانت موجودة؟ إنها الثقافة‪ .‬منحتنا‬ ‫َ‬ ‫والعقالني َّة مما دفعنا ألن نشعر بالقلق حيال ما كان ليس‬

‫صحيحً ا‪ ،‬وأن علينا وضع نهاية له؛ وأن االستعمار كان أم ًرا ليس‬ ‫صحيحً ا وأنْ علينا وضع نهاية له؛ وأن جميع ضروب العنصريّة‬

‫الثقافة‪ ،‬فبسبب أن الحرية اختفت من قلب ذلك املجتمع‪ .‬يمكن‬

‫والتمييز ليست صحيحة وعنيفة‪ .‬عندما كان بروست يكتب‬

‫هتلر‪ ،‬ستالني‪ ،‬فيدل كاسرتو‪ ،‬ماو تيس تونغ‪ ،‬لكن ثمّ ة إمكانية‬ ‫الختفائها ً‬ ‫أيضا بطرائق أخرى‪ .‬فإذا وصلنا نقطة االعتقاد بوجود‬ ‫ً‬ ‫أُناس معينني ال يجدون ضرورة للثقافة؛ لجويس‪ ،‬إلليوت‪،‬‬

‫أجل الحرية والعدل‪ ،‬لكنه كان يفعل هذا‪ .‬هذا ما كان رامربانت‬

‫للثقافة أن تختفي عىل أيدي األنظمة املتوحشة‪ ،‬والشموليّة؛‬

‫«البحث عن الزمن الضائع»‪ ،‬لم يكن يعرف أنه إنما يعمل من‬

‫ومايكل أنغلو يفعالنه؛ مثلما فعل فاغرن عندما قام بتأليف‬ ‫موسيقاه‪ ،‬مع أنه كان عنصريًّا‪ .‬وهذا نفسه ما حصل مع فنانني‬

‫كِبار‪ ،‬ومع مفكرين كِبار‪ ،‬ومع مبدعني كِبار‪ .‬إنّ عملهم يختلف‬

‫ولربوست‪ ،‬وأن هؤالء جميعً ا ال نفع منهم عىل اإلطالق وال‬ ‫يخدمون َغ َر ًضا‪ ،‬وأنّ لهؤالء الناس اهتمامات فوريّة آنيّة أكرث‬

‫عن عمل التكنوقراط أو املشتغلني بالعلوم‪ ،‬ومساهمة األخريين‬

‫العَ بَث والطيش‪ ،‬والزهو والخيالء‪ .‬هذا الضرب من التفكري‬

‫يتحرك يف خط مستقيم‪ .‬أما عمل اإلنسانيني الكِبار‪ ،‬باملقابل‪،‬‬

‫ً‬ ‫وضغطا؛ فلسوف يُصاب املجتمع باإلفقار املتزايد عرب‬ ‫إلحاحً ا‬ ‫خطري‪ .‬أعتقد أن بروست مهمّ لكل إنسان؛ رغم أن البعض ربما‬

‫مباشرة؛ إنهم متخصصون وعملهم‬ ‫االستثنائيّة لإلنسانيّة‬ ‫ِ‬ ‫فإنه يتحرك يف أكرث من اتجاه واحد؛ إنه يتجه نحو املجتمع‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وأحيانا يقوم بالتأسيس للقواسم املشرتكة‬ ‫مستهدفا إيّاه ككل‪،‬‬

‫ال يعرف كيف يقرأ؛ رغم أن ما قاله بروست يقع يف صالحهم‪،‬‬ ‫أيضا‪ ،‬بصرف النظر عن أنهم ليسوا يف وضع ّ‬ ‫ً‬ ‫يمكنهم من قراءته‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫لقد خلق ً‬ ‫نوعا من الوعي يعرب أشياء معينة تجعل األفراد غري‬ ‫قادرين عىل التأثر به هو أكرث إدرا ًكا لوضع الناس األفقر واألحْ وَج‪.‬‬

‫يجعلنا نشعر باملسؤولية الجماعية والرباط األخوي؛ ألن يف‬

‫إنسانيّة معينة‪ .‬هذا الضرب من اإلدراك والوعي ناتج عن الثقافة‪.‬‬

‫الثقافة ما يخلق مجموعة االنشغاالت تلك؛ فهي لم تتأسس أبدًا‬

‫كما أنه دفعهم إىل االلتفات واالهتمام باإلشارة إىل وجود حقوق‬

‫وحني ال تكون الثقافة وراء هذا الوعي واإلدراك‪ ،‬فإنها فقرية‬ ‫ً‬ ‫إضافة إىل أن أوربا عاشت تجربة‬ ‫يفسر‪،‬‬ ‫عىل نحو‬ ‫استثنايئ‪ .‬وهذا ِّ‬ ‫ّ‬

‫تختف الالساميّة؛ بل ولدت من‬ ‫الهولوكوست الشنيعة‪ ،‬ملاذا لم‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫عاملي‪،‬‬ ‫يفسر ملاذا رُهاب األجانب‪ ،‬الذي هو ف َشل‬ ‫جديد‪ .‬وهذا ِّ‬ ‫ّ‬

‫التي ضاعت يف خضم التحديث والتصنيع‪ .‬املجتمع الحديث يعزل‬

‫ويشتت األفراد؛ وهنا تكمن أهمية حصولنا عىل قاسم مشرتك‬

‫ذلك تتأسس فيما بيننا مجموعة اهتمامات وانشغاالت‪ .‬وحدها‬

‫بالتكنولوجيا والعلم؛ إذ يخلق األخريان متخصصني من أصحاب‬ ‫خالفات تبادلية فيما بينهم ال َلبس فيها‪.‬‬ ‫الدفاع عن الثقافة الراقية ال يعني الدفاع عن ال ُّن َخب‬

‫يجتاح املشهد ً‬ ‫ثانية‪ ،‬ليس يف مجتمعات بدائية غري مثقفة‪ ،‬إنما يف‬

‫الصغرية فقط‪ ،‬التي تستمتع بمخرجات هذه الثقافة‪ ،‬ولكنه‬ ‫دفاع ً‬ ‫ٌ‬ ‫أمور أساسية وضرورية لإلنسانية؛ كالحرية‪،‬‬ ‫أيضا عن‬ ‫ٍ‬

‫لم تصلها كتابات بروست‪ ،‬وإليوت‪ ،‬ورائعة جويس «يوليسيس»‪.‬‬

‫الشمولية والتسلطية‪ ،‬كما تدافع عنا ضد الطائفية واالعتقادات‬

‫مجتمعات مثقفة ثقافة قصوى‪ ،‬وتحديدًا ضمن تلك الدوائر التي‬ ‫الثقافة الراقية غري منفصلة عن الحرية‪ .‬ولطاملا كانت ثقافة‬

‫نقديّة‪ ،‬ولطاملا كانت نتيجة لعدم التطابق ومصدرًا له‪ .‬فاملرء ال‬

‫يمكنه قراءة كافكا‪ ،‬أو تولستوي‪ ،‬أو فلوبري‪ ،‬وال يوقِن بأن العالم‬

‫والثقافة الديمقراطية‪ .‬الثقافة الراقية تدافع عنا نحن ضد األنظمة‬

‫املغلقة‪.‬‬

‫يطرح جيليه ليبوفيتسيك رأيه القائل بأنّ األيديولوجيات –التي‬ ‫أيضا وأخشاها‪ -‬قد تآكلت يف مجتمع ُ‬ ‫ال أثق بها أنا ً‬ ‫الفرْجَ ة؛ وأنّ‬

‫‪145‬‬


‫ثقافات‬

‫مجتمع ُ‬ ‫الفرْجَ ة هذا كان أشد فعالية وتأثريًا من املنطق والعقالنية‪،‬‬

‫ذلك‪ ،‬فإننا ال نستطيع َشي َْط َنة املجتمع االستهاليك‪ ،‬وال ينبغي لنا‬

‫التفسخ‬ ‫إىل حاجته للهو والتسلية‪ ،‬واملوضة‪ ،‬واملتعة العاجلة‪ -‬فإنه‬ ‫ُّ‬

‫إىل أن ندرك‪ ،‬وهنا نحن متفقون‪ ،‬عىل أن عالم االستهالك ليس‬

‫ومن السجال الديمقراطي يف الصراع ضد األيديولوجيات اليوتوبية‬ ‫الكربى‪ .‬وإذا ما كان ثمّة إنجاز من إنجازات مجتمع ُ‬ ‫الفرْجَ ة –بالنظر‬

‫لكثري من األيديولوجيات‪ ،‬ولهذا فعلينا‬ ‫التدريجي والتاليش املتصل‬ ‫ٍ‬ ‫االحتفال بهذا األمر ًّ‬ ‫حقا‪ .‬إنّ انهيار األيديولوجيات الكربى هو انهيا ٌر‬

‫لواحدٍ من أكرب مصادر الحرب والعنف يف املجتمع الحديث‪.‬‬ ‫هيجان عنف السلطات الشمولية‬

‫ً‬ ‫نقطة أوافق عليها تمامً ا‪ ،‬إننا‬ ‫ليبوفيتسيك‪ :‬لقد أضاء ماريو‬ ‫حقيقة رجالاً ونساءً نعيش العصر الحديث‪ ،‬وندين بالكثري للثقافة‬

‫وعي‬ ‫الراقية‪ .‬إننا نشأنا هكذا نتيجة عملية اختمار لألفكار‪ ،‬ونتيجة ٍ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫صاغ‬ ‫فالسفة وك ّتاب‪ ،‬وهذا بالضبط ما‬ ‫حديث أسهمَ يف تكوينه‬ ‫َ‬ ‫اإلنساين‪ ،‬والفرديّ ‪ ،‬والديمقراطي‪ .‬لقد نشأ العالم‬ ‫وصبغ الكون‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫الحديث من عقول مفكرين معينني زرعوا البذور‪ ،‬بوساطة أناس‬

‫منحوا الشيفرة والناموس مجتمعً ا ال يُضاهى يف مؤسساته‪ ،‬ولكنها‬ ‫تواجه نفسها بإدراكها للحرية‪ ،‬والكرامة‪ ،‬واملساواة للجميع‪ .‬هذا‬

‫االبتكار العقيل ندين به للثقافة الراقية‪ .‬نحن متفقون‪ ،‬تمامً ا‬

‫مثلما اتفقنا عىل أنه يجب عىل اإلبداع أن يكون مدافعً ا عن الحرية‬

‫‪146‬‬

‫بوصفه مندوبًا عنها‪.‬‬

‫ُ‬ ‫لست مقتنعً ا تمام االقتناع بأنّ الثقافة الراقية تقينا‬ ‫باملقابل‪،‬‬

‫من هيجان عنف السلطات الشمولية‪ ،‬أو أي عنف من نوع آخر‪.‬‬ ‫فإذا كانت الثقافة الراقية تعمل عىل توليد الحرية‪ ،‬فإنها‪ ،‬يف كثري‬ ‫من األوقات‪ ،‬مثلما يمكن لـ«كانط» أن يقول‪ ،‬تحتمل أن ُتصاب‬

‫بالعجز تحت تهديدات السلطة واملصالح الخاصة‪ .‬واليوم‪ ،‬ليست‬ ‫الثقافة الراقية وحدها مَن يدافع عن ال ِقيَم التي تحبّها وتق ّدرها‬

‫بقدر ما أفعل أنا؛ فهناك التلفزيون‪ ،‬والسينما‪ ،‬وسلسلة عريضة‬ ‫من منتجات وسائل اإلعالم الجماهريية تحتفي هي ً‬ ‫أيضا بحقوق‬ ‫اإلنسان وكرامته‪ .‬ربما ال تكون أعمالاً قابلة للتكريس يف التاريخ‪،‬‬ ‫لكنها‪ ،‬رغم كل يشء‪ ،‬بذرت أيديولوجيا إنسانية‪ .‬إين أُدْهَ ش‬ ‫عندما أشاهد فلمًا لـ«سبيلربغ» (املخرج األمرييك ستيفن سبيلربغ‬

‫صاحب أفالم‪ :‬اللون القرمزي‪ .‬لينكولن‪ .‬ميونخ‪ .‬قائمة شندلر)‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫ً‬ ‫وتكلف ماليني‬ ‫ثقافة راقية‪ ،‬إنها أعمال رائجة جدًّا‬ ‫تلك ليست‬ ‫الدوالرات ل ُت ْن َتج‪ ،‬لكنها تعمل عىل نشر األفكار اإلنسانية والرموز‬ ‫الديمقراطية‪ ،‬وكذلك ال ِقيَم التي صيغت أصلاً يف ثقافة راقية وقد‬ ‫باتت يف حالة تواصل وتفاعل مع املجتمع‪.‬‬

‫أسهمَ مجتمع االستهالك‪ ،‬مجتمع ُ‬ ‫الفرْجَ ة –إنهما يشريان إىل‬ ‫كثري من األشياء؛ لقد َ‬ ‫خلق الرغبة يف حياة أفضل‪،‬‬ ‫املعنى نفسه– يف ٍ‬ ‫وأتاح للناس املشاركة بآرائهم‪ ،‬ودمَّر األيديولوجيات الكربى‪،‬‬

‫ومنح الشعب مزيدًا من االستقالل‪ .‬غري أن هذا ليس كافيًا‪ .‬إنّ‬

‫مجتمع ُ‬ ‫الفرْجَ ة‪ ،‬الذي ي َِعد بامل َ َس َّرات‪ ،‬ال يمكنه الوفاء بوعده‪ .‬ومع‬ ‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬

‫رفضه بقضه وقضيضه ككل‪ .‬علينا امليض مع ما هو إيجابي يف هذا‬ ‫املجتمع –الحرية‪ .‬إطالة العُ مْر‪ .‬طرائق العيش‪ -‬غري أننا نحتاج ً‬ ‫أيضا‬ ‫بمقدوره اإليفاء بطموحات الشعب وآماله‪ .‬فالناس ليسوا مجرد‬

‫مستهلكني‪ ،‬رغم أن املجتمع االستهاليك يتعامل معهم كأنهم‬ ‫كذلك‪ .‬ما الفارق بني املستهلك والفرد؟ الفرق كبري جدًّا‪ .‬إننا بطرحنا‬

‫للمنظور اإلنساين‪ ،‬وإرث الثقافة الراقية‪ ،‬إنما نتوقع من الناس أن‬

‫يكونوا مبدعني‪ ،‬وأن يبتكروا أشياء‪ ،‬وأن يمتلكوا ِقيَمً ا‪ .‬املجتمع‬

‫االستهاليك ال يزوِّدنا بذلك‪ ،‬ولهذا فإننا نشاهد حركات متكاثرة‬

‫تعمل عىل الربهنة عن نفسها‪ ،‬وعىل طرح األفكار واقرتاحها‪ ،‬وعىل‬ ‫اإلتيان باألعمال‪ .‬الناس بحاجة إىل توكيد ذواتهم‪.‬‬

‫نحن نرى‪ ،‬بوساطة اإلنرتنت وأدوات التواصل الجديدة‪،‬‬ ‫تطورًا مذهلاً لدى الهواة من الشباب وهم ينجزون أعمالاً معينة‪،‬‬

‫يبدعون أشرطة فيديو‪ ،‬وأفالمًا قصرية‪ ،‬وموسيقا‪ .‬ليست جميع‬ ‫هذه امل ُ ْخ َرجات عبقريّة‪ ،‬غري أن هذا النشاط يُرينا أنّ مقولة نيتشه‬ ‫«إرادة السلطة» ُترتجم اليوم بإرادة اإلبداع‪ .‬هذه اإلرادة لم يعمل‬

‫مجتمع االستهالك عىل تدمريها‪ ،‬كما لم يعمل عىل تحويل‬ ‫الناس إىل مجرد كينونة ال تريد سوى العالمات التجارية‪ .‬فالناس‬ ‫يواصلون املطالبة بأن يجعلوا من حيواتهم شي ًئا مهمًّا‪ .‬هذا ما يجب‬

‫عىل التعليم عمله‪ :‬إتاحة األدوات للناس‪ ،‬أينما كانوا؛ ليخلقوا من‬ ‫ً‬ ‫حالة مهمة من دون االكتفاء بكونهم مجرد مستهلكني‬ ‫حياتهم‬

‫للعالمات التجارية الشائعة وصراعات املوضة‪ .‬ثمّة َعم ٌ‬ ‫َل كبري يقع‬ ‫إنجازه عىل عاتقنا‪.‬‬

‫لقد َ‬ ‫قلل نظام الرأسمالية العاملي من مجال املناورة‪َ ،‬‬ ‫وضي َ​َّق من‬

‫الزمن املمنوح للفعل‪ ،‬لكننا نستطيع عمل أمور عدة يف الثقافة؛‬ ‫وبإمكان التعليم أن يفعل ً‬ ‫أيضا‪ .‬هذه واحدة من تحديات القرن‬

‫الحادي والعشرين الكبرية‪ .‬لن يتشكل املجتمع عرب التكنولوجيا‬ ‫فقط؛ بل عرب الناس الذين يملكون الحَ صافة ورجاحة العقل فيما‬ ‫يتعلق بذواتهم‪ ،‬والذين يملكون رغبات قوية‪ .‬يجب عىل التعليم‬

‫مساعدة الناس عىل فعل ذلك‪ .‬الثقافة الراقية واحدة من األدوات‪،‬‬

‫لكنها ليست األداة الوحيدة‪ .‬علينا إعادة التفكري بالتعليم يف حقبة‬ ‫مجتمع مرتبك تائه‬ ‫اإلنرتنت‪ .‬علينا التفكري يف طبيعة التعليم يف‬ ‫ٍ‬

‫لم يعد يملك املرجعيات السابقة‪ .‬إنها مَهمة هائلة‪ ،‬لكنها كفيلة‬ ‫بتصميم عالم الغد‪.‬‬

‫يوسا‪ :‬أتفق معك تمامً ا‪ .‬لقد أتاح املجتمع الصناعي الحديث‪،‬‬ ‫َ‬ ‫شروط العيش للفرد‬ ‫ومجتمع السوق‪ ،‬ومجتمع البلدان املتقدمة‪،‬‬

‫َ‬ ‫السعادة التي يبحث‬ ‫نحو هائل‪ .‬لكنه لم يجلب‪ ،‬قط‪،‬‬ ‫اإلنساين عىل ٍ‬ ‫ّ‬ ‫عنها الناس لكونها تمثل مصريهم األخري‪ .‬الناقص هو تحديدًا ما‬

‫يندرج تحت عنوان «الحياة الروحيّة الغنية»‪ .‬لقد أتاح الدين هذه‬

‫لقطاع من املجتمع –القطاع الذي يشعر بأنّ وجوده املادي‬ ‫الحياة‬ ‫ٍ‬


‫جيليه ليبوفيتسكي وماريو فارغاس يوسا‬

‫االشتراك السنوي‬ ‫إن مجتمع الفُ ْر َجة‪ ،‬الذي َي ِعد‬ ‫ليبوفيتسكي‪ّ :‬‬

‫‪ 150‬ريالاً سعوديًّا لألفراد‪ 250 ،‬ريالاً‬ ‫سعوديًّا للمؤسسات‪ ،‬أو ما يعادلهما‬

‫س َّرات‪ ،‬ال يمكنه الوفاء بوعده‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإننا‬ ‫َ‬ ‫بالم َ‬

‫بالــدوالر األمـيـركــي خـــارج المملـكــة‬

‫ال نستطيع َش ْي َطنَة المجتمع االستهالكي‪ ،‬وال‬

‫العربية السعودية‪.‬‬

‫ينبغي لنا رفضه بقضه وقضيضه ككل‬ ‫السعر اإلفرادي‬ ‫ٌ‬ ‫قطاع ال‬ ‫ُمحاط باإليمان‪ -‬لكن يتبقى قطاع عريض لم يكن للدين وجو ٌد فيه‪،‬‬

‫معنى للدين يف أوساطه‪ ،‬وهناك بالضبط ما يجب عىل الثقافة أن تلعب دورًا‬ ‫أساس ًّيا فيه‪.‬‬

‫السعــوديـــة ‪ 10‬ريـــاالت‪ ،‬اإلمــــارات‬ ‫‪ 10‬دراهم‪ ،‬قطر ‪ 10‬رياالت‪ ،‬البحرين‬ ‫فلسا‪ ،‬مصر ‪4‬‬ ‫دينار واحد‪ ،‬األردن ‪750‬‬ ‫ً‬ ‫جنيهات‪ ،‬المغرب ‪ 10‬دراهم‪.‬‬

‫أوافق‪ .‬يجب عىل التعليم أن يكون واحدًا من األدوات الرئيسية التي‬

‫بوساطتها يمكن للمجتمع الحديث أن يمأل هذا الخواء الروحي‪ .‬ولكن‪ ،‬إذا‬ ‫ما كان هناك ما يتعرض لألزمات يف املجتمع الحديث؛ فهو التعليم عىل وجه‬

‫الخصوص‪ .‬ليس هناك من مجتمع واحد يف العالم ال يعكس نظامه التعليمي‬ ‫لسبب بسيط ّ‬ ‫يتمثل يف أننا ال نعرف ما هو النظام األفضل‬ ‫أزمات عميقة‪ ،‬وذلك‬ ‫ٍ‬

‫واألكرث قابلية لتلبية الحاجات‪ ،‬النظام الذي يلبّي‪ ،‬من جهة‪ ،‬حاجات املجتمع‬

‫من تقنيني ومحرتفني‪ ،‬ومن جهة أخرى‪ ،‬يمأل الثغرات الكائنة يف العالم‬ ‫ً‬ ‫أزمة؛ ألنه عجز عن إيجاد‬ ‫الروحي لهذا املجتمع الحديث‪ .‬يعيش التعليم‬

‫معادلة يمكن لها أن تجمع هذين البُعدين معً ا‪ .‬هناك تحديدًا يجب أن نعمل‬ ‫ً‬ ‫حديثا قادرًا عىل إشباع الحاجات املاديّة للرجال والنساء مثلما‬ ‫إذا أردنا مجتمعً ا‬

‫أسايس بكل تأكيد‪ ،‬ولكن إىل جانب التعليم‬ ‫يمأل العالم الروحي‪ .‬التعليم أم ٌر‬ ‫ٌّ‬ ‫أيضا‪ ،‬وهذا ّ‬ ‫فإنّ العائلة والفرد أساسيان ً‬ ‫كله يقتيض وجود إجماع معينّ حني‬

‫تبدأ عملية تطوير الربامج التي سوف تحكم حياة مدارسنا‪ ،‬وحياة مؤسساتنا‬ ‫وجامعاتنا‪ .‬ث ّمة فوىض وارتباك غري مسبوقني يعرتيان هذه العملية‪ ،‬ولكن‬ ‫ّ‬ ‫األقل والرتكيز عىل أن ضمن مجال التعليم ينبغي‬ ‫إذا ما توافر االهتمام عىل‬ ‫ً‬ ‫خطوة هائلة‬ ‫أن نكون مبدعني وفعّ الني‪ ،‬عندها أعتقد أننا سنكون قد حققنا‬

‫إىل األمام‪ .‬عىل أي حال‪ ،‬ورغم أن تناقضاتنا تبدو عىل السطح عديدة؛ فإين‬ ‫أعتقد أنيّ وجيليه قد اتفقنا عىل ضرورة قراءة بروست‪ ،‬وجويس‪ ،‬ورامبو؛‬ ‫وأنّ أفكار كل من كانط‪ ،‬وبوبر ( كارل بوبر ‪1994 -1902‬م‪ :‬فيلسوف نمساوي –‬

‫هنغاري‪ ،‬ولد يف فيينا‪ ،‬ودرّس كأستاذ يف جامعات بريطانية عدة‪ .‬يُعترب أحد‬ ‫أكرب فالسفة العلوم يف القرن العشرين) ونيتشه تصلح لهذا اليوم والعصر‪،‬‬ ‫وقادرة عىل مساعدتنا يف تشكيل تلك الربامج التعليمية التي يعتمد عليها‬ ‫مجتمع املستقبل‪ً ،‬‬ ‫أقل ً‬ ‫ّ‬ ‫إذا سوف يكون ّ‬ ‫وأقل خلوًا من السعادة‪.‬‬ ‫عنفا‬

‫الموزعون‬ ‫السعودية‪ ،‬الشركة الوطنية الموحدة‬ ‫للتوزيع‪ ،‬هاتف‪ ،)٠١1(٤٨٧١٤١٤ :‬فاكس‪:‬‬ ‫‪ ،)٠١1(٤٨٧١٤٦٠‬مصر‪ ،‬مؤسسة توزيع‬ ‫األهرام‪ ،‬شارع الجالء‪ ،‬هاتف‪:‬‬ ‫‪ ،٣٣٩١٠٩٥‬فاكس‪ ٣٣٩١٠٩٦ :‬ـ ‪،..٢٠٢‬‬ ‫قطـر‪ ،‬دار الشرق للطباعة والنشر‬ ‫والتوزيع‪ ،‬ص‪.‬ب ‪ ،٣٤٨٨‬هاتف‪:‬‬ ‫‪ ،٤٦٦١٢٨٢‬فاكس‪ ٤٦٦١٨٦٥ :‬ـ ‪،٠٠٩٧٤‬‬ ‫األردن‪ ،‬شركة وكالة التوزيع األردنية‪،‬‬ ‫ص‪.‬ب ‪ ،٣٧٥‬هاتف‪ ،٤٦٣٠١٩١ :‬فاكس‪:‬‬ ‫‪ ٤٦٣٥١٥٢‬ـ ‪٦‬ـ ‪ ،٠٠٩٦٢‬البحرين‪ ،‬مؤسســــة‬ ‫الهالل لتوزيع الصحف‪ ،‬ص‪.‬ب ‪٢٢٤‬‬ ‫هاتف‪ ،٢٩٤٠٠٠ :‬فاكس‪ ٥٣١٢٨١ :‬ـ‬ ‫‪ ،٠٠٩٧٣‬اإلمارات العربية المتحدة‪،‬‬ ‫مكتبة دار الحكمة ص‪.‬ب ‪ ٢٠٠٧‬هاتف‪:‬‬ ‫‪ ،٤٩٣٥٦٦٢‬فاكس‪ ٢٦٦٩٨٢٧ :‬ـ ‪ ٤‬ـ ‪،٠٠٩٧١‬‬ ‫المغرب‪ ،‬الشركة الشريفية لتوزيع‬ ‫الصحف فاكس‪ ٢٢٤٠٤٠٣١/٣٢ :‬ـ ‪،٠٠٢١٢‬‬ ‫هاتف‪.٢٢٤٠٠٢٢٣ :‬‬

‫‪147‬‬


‫مقال‬

‫أثر الفلسفة اليونانية‬ ‫في الفكر العربي‬ ‫في العصر الوسيط‬ ‫كان للعرب قبيل اإلسالم لغة ناضجة‪ ،‬لكن كانت معارفهم وفنونهم‬ ‫وصفية في األغلب‪ ،‬وتخلو من التأمل والتفلسف‪ .‬فلم ُت ِتح البيئة الطبيعية‬ ‫لغالبية مجتمعات الجزيرة العربية مجالاً لثبات االستقرار المدني‬ ‫«المتواصل عبر أجيال» وال ثبات الوحدة السياسية‪ ،‬ومن ثم لم تتراكم‬

‫المعارف الفكرية بما يسمح لتكوّن شكل من أشكال التفكير الفلسفي‪.‬‬

‫عبدالرحمن الحبيب‬ ‫كاتب سعودي‬

‫وحتى في الحواضر القليلة الثابتة عبر أجيال‪ ،‬فإنها لم تتعرف‬

‫الفلسفة؛ ألنها كانت جزرًا صغيرة مستقرة في بحر مجتمعات الترحال‪،‬‬

‫وكانت ثقافتها السائدة من ثقافة تلك المجتمعات المحيطة‪ .‬وعدا‬

‫الحكمة الموجودة في األمثال والعبارات والخطب والشعر والقصص‪،‬‬ ‫فإن العقل السائد آنئذ كان يتحكم به التصور الخرافي للكون والحياة‪،‬‬ ‫إضافة لوجود السحر والكهانة والعرافة والتنجيم‪ .‬وعلى الرغم من ذلك‬

‫‪148‬‬

‫فالجزيرة العربية شهدت تالقيًا بين أديان وحضارات مختلفة؛ فقد كانت‬

‫مواسم الحج وأسواق العرب كسوق عكاظ تجمعً ا بين العرب وغيرهم من‬ ‫الشعوب التي تقطن المنطقة المحيطة بشبه الجزيرة العربية أو قريبة‬

‫منها كالسريان والفرس والهنود واليونان‪.‬‬ ‫وإذا أخذنا البعد الفلسفي في الدين‪ ،‬سنجد أن قليلاً من العرب كانوا‬ ‫إما يهودًا أو نصارى‪ ،‬والغالبية العظمى كانوا وثنيين دهريين‪ .‬هذه الديانة‬

‫الوثنية تتزامن مع ازدهار مذهب الدهرية الفارسي في عهد يزدجر الثاني‬

‫«ت‪457‬م»‪ ،‬وهذا قد يشير إلى مدى تأثر العرب بفلسفة المذهب الفارسي؛‬ ‫فالدهرية الفارسية تجعل الزمان هو المبدأ األسمى‪ ،‬وترى أنه ال نهاية له‪،‬‬

‫وتعده عين القدر أو الفلك األعظم‪ .‬وهذا المبدأ نال إعجاب أهل النظر‬ ‫ً‬ ‫مكانا بار ًزا في األدب الفارسي وفي اآلراء الشعبية «دي بور»‪.‬‬ ‫الفلسفي‪ ،‬وتبوأ‬ ‫العصر اإلسالمي األول‪ ..‬البوادر األولى‬

‫مع اإلسالم تشكلت الوحدة السياسية للعرب‪ ،‬حتى تمددت خارج‬

‫حدودها مشكلة الدولة اإلسالمية‪ ،‬التي كانت لغتها الدينية والسياسية هي‬ ‫اللغة العربية‪ ،‬لكن مع زيادة تمدد الدولة اإلسالمية واختالط المسلمين‬

‫بحضارات وأديان مختلفة ظهرت الحاجة لتعريب الدواوين التي بدأت منذ‬ ‫مطلع الخالفة األموية‪ ،‬وكانت تكتب أصلاً بالفارسية واليونانية «ماجد‬ ‫فخري»‪.‬‬

‫في تلك األثناء‪ ،‬كانت الدراسات الفلسفية والمنطقية مستمرة في‬

‫مراكز الدراسات اليونانية من دون انقطاع حتى بعد الفتح اإلسالمي‬ ‫لسوريا والعراق‪ .‬وظهر عدد من الشراح الذين ينتمون إلى فرقتي اليعقوبية‬

‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬


‫والنسطورية المنشقة‪ ،‬أمثال سويرس سيبوخت «ت ‪ 47‬هـ» وأثناسيوس البلدي «ت ‪77‬هـ» ويعقوب الرهاوي «ت ‪90‬هـ»‪ .‬أعقب‬

‫ذلك وتزامن معه بوادر تعريب المصنفات الطبية والكيميائية والفلكية‪ .‬في عهد مروان بن الحكم «ت ‪66‬هـ» ترجم أهرن اليعقوبي‬ ‫ً‬ ‫ملخصا طبيًّا مشهورًا في األوساط السريانية للطبيب اليهودي ماسرجويه‪ .‬كما ينسب إلى األمير األموي خالد بن يزيد «ت ‪85‬هـ»)‬

‫االشتغال بالكيمياء والتشجيع على ترجمتها من اليونانية إلى العربية‪ .‬كانت الترجمة آنذاك مشوشة من ناحية التعريب أو من‬

‫ناحية نحل األعمال لغير أصحابها‪ .‬فمن ذلك أن العرب وقتئذ يحسبون أن تاريخ اليونان لم يبدأ إال مع اإلسكندر األكبر‪ ،‬وقد عرفوا‬ ‫شي ًئا من أطوار الفلسفة وكتب أرسطو لكنها معرفة مشوبة بأساطير كثيرة «دي بور»‪.‬‬ ‫العصر العباسي األول‪ ..‬ممهدات الفلسفة‬

‫مع زيادة اختالط المسلمين بحضارات وأديان وأعراق مختلفة‪ ،‬وبأشكال مدنية جديدة وعادات وأفكار وفلسفات وأنماط‬

‫معيشية متنوعة وجديدة عليهم‪ ،‬ال يكفي معها مجرد الرجوع لنص القرآن الكريم والسنة الشريفة‪ ،‬كان ال بد من الرأي المستند‬

‫على القياس والتأويل واالجتهاد‪ .‬وكان ال بد من وضع مناهج ومقاييس لهذه االستنادات وقواعد للرجوع للقرآن والسنة‪ .‬ومن‬

‫هنا ظهر الفقه والفقهاء وفرقهم مثل أهل الرأي وإمامهم أبو حنيفة النعمان‪ ،‬وأهل الحديث كالشافعي‪ .‬وألن القرآن الكريم دعا‬ ‫الناس للتأمل والتبصر والتعقل‪ ،‬فإن ذلك أثر في نشوء الفرق اإلسالمية والجدل العقلي وعلم الكالم‪ .‬كان هدف علم الكالم‬

‫الدفاع عن العقائد الدينية باألدلة العقلية مقابل األدلة النقلية‪.‬‬ ‫على رغم أن القياس وهو من أشكال المنطق ظهر قبل التأثر بالمنطق الفلسفي اليوناني‪ ،‬لكن مع التوسع فيه واتخاذه أصلاً‬

‫من أصول األحكام ومصدرًا للتشريع‪ ،‬كان ال بد من دراسة المنطق اليوناني والتأثر به بطريقة مباشرة أو غير مباشرة‪ .‬والفقه بحد‬

‫ذاته ‪-‬وليس القياس فقط‪ -‬هو علم نظري فكري بشري وإن كان يستند على نص سماوي؛ لذا ال بد له من التفلسف‪ ،‬وبخاصة في‬

‫المنطق االستنباطي وليس فقط االستقرائي‪.‬‬

‫كانت تلك ممهدات لدخول الفلسفة اليونانية للفكر اإلسالمي والعقل العربي‪ .‬فاآلراء الفقهية اضطرت للدخول في فلسفة‬

‫اللغة لتفسير وتأويل وشرح النص المقدس‪ ،‬ثم دخلت في تفرعات فلسفية أخرى‪ .‬ظهرت بوادر الترجمات الفلسفية في مطلع‬ ‫الخالفة العباسية مثل ما ينسب إلى عبدالله بن المقفع بتعريبه لكتب المقوالت والعبارة والبرهان ألرسطو‪ .‬كان ذلك في عهد‬

‫أبي جعفر المنصور «ت ‪159‬هـ» الذي تصفه المصادر القديمة ببراعته في الفقه وكلفه بالفلسفة‪ ،‬ورعايته لترجمة كتب الطب‬ ‫والهندسة والفلك «تاريخ مختصر الدول البن العربي»‪ .‬ومن الكتب التي ترجمت في عهده رسائل ألرسطو‪ ،‬وكتاب «المجسطي»‬

‫في الفلك‪« ،‬وأصول الهندسة» إلقليدس «مروج الذهب للمسعودي»‪ .‬وقد أضاف هارون الرشيد مزيدً ا من الدعم للتعريب‪،‬‬

‫واعتنى بالثقافة والعلم وترجمة األعمال اليونانية‪ ،‬وعلى وجه الخصوص في الطب والفلك والتنجيم‪.‬‬ ‫من الترجمة إلى الشرح والتأسيس‬

‫ظلت الترجمات مشتتة حتى عهد المأمون حين بلغ االهتمام بالفلسفة ذروته بإنشاء «بيت الحكمة» في بغداد سنة ‪217‬هـ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫إضافة إلى ترجمة األعمال‬ ‫ترجمت األعمال الفلسفية اليونانية إلى السريانية والعربية‪ ،‬فترجمت أهم أعمال أفالطون وأرسطو‪،‬‬ ‫األخرى؛ مثل‪ :‬كتاب البرهان‪ ،‬وكتاب األخالق لغالينوس‪ .‬في تلك الحقبة نقل الجزء األكبر من التراث اليوناني في الفلسفة‬ ‫والطب والعلوم إما عن اليونانية مباشرة أو عن السريانية‪ .‬لم تنحصر الترجمة في التراث اليوناني‪ ،‬بل امتدت إلى غيره كالتراث‬

‫الفارسي والهندي‪ ،‬وتركزت في مجالي الطب والمعتقدات الدينية‪ ،‬لكن التعريب كان في توجهه األكبر نحو اإلرث اليوناني‪.‬‬

‫تطورت الحالة الفلسفية آنذاك من تراجم الفلسفة اليونانية‪ ،‬إلى الشرح‪ ،‬مع بعض االبتكارات الفلسفية‪ ،‬حيث مهد لها‬

‫الكندي «ت ‪260‬هـ» الذي يتفق أغلب الدارسين أن بداية التأليف الفلسفي العربي بالمعنى األصيل للفلسفة ظهر معه‪ .‬وتعد‬

‫الفلسفة الرياضية للكندي أهم ما في نتاجه الفلسفي‪ ،‬وفيها تمتزج األفالطونية الجديدة بالفيثاغورية الجديدة «دي بور»‪ .‬مثله‬ ‫األعلى سقراط‪ ،‬مع محاولة التوفيق بينه وبين أرسطو الذي يجله كثي ًرا على طريقة األفالطونية الجديدة‪ .‬أما الرازي «‪298‬هـ» فيعد‬ ‫حامل لواء األفالطونية في تاريخ الفلسفة العربية «ماجد فخري»‪ .‬أكبر أعالم الفلسفة في الحضارة اإلسالمية وأعالهم شأوًا هو‬

‫الفارابي «ت ‪339‬هـ» أول واضع ألسس األفالطونية المحدثة في صيغتها العربية‪ ،‬وأول مفكر عربي عمل على وضع نظام فلسفي‬ ‫متكامل‪ .‬إضافة إلى شرحه فلسفة أفالطون‪ ،‬فقد درس الفارابي مؤلفات أرسطو ورتبها وفسرها وشرحها‪ُ ،‬‬ ‫فل ِّقب المعلم الثاني‪.‬‬ ‫وعلى رغم ذلك فإن األفالطونية المحدثة اقترنت أكثر بابن سينا «ت ‪428‬هـ» في كل من المشرق والمغرب العربي‪ ،‬أما كتابه في‬ ‫الطب «القانون» فله تأثير هائل عالميًّا جعل منه األشهر على النطاق العالمي‪.‬‬

‫‪149‬‬


‫مقال‬

‫انتقال الشعلة إلى األندلس‬

‫في الجانب الغربي من العالم العربي ظهرت في المغرب العربي واألندلس أعمال فلسفية كان من أوائل أعالمها ابن باجة‬

‫«‪533‬هـ» وله مصنفات في الفلسفة والطب‪ ،‬واعتنى بشرح عدد من مؤلفات أرسطو‪ .‬وكان العلم الثاني ابن طفيل «ت ‪580‬هـ» الذي‬ ‫لم يصلنا من مؤلفاته غير «حي بن يقظان»‪ .‬أما العلم األكبر‪ ،‬وربما في الفلسفة العربية كلها‪ ،‬فهو ابن رشد «‪595‬هـ» الذي شرح‬

‫أغلب كتب أرسطو بطريقة تضاهي جميع من سبقه‪ ،‬إضافة إلى شرحه جمهورية أفالطون؛ لذا لقب بالشارح‪ .‬وكان البن رشد كثير‬ ‫من المؤلفات الفلسفية‪ ،‬وبخاصة في التوفيق بين الفلسفة والشريعة‪.‬‬ ‫تأثير الفلسفة اليونانية في الفلسفة العربية‬

‫أهم عامل مؤثر في الفلسفة العربية هو الدين اإلسالمي‪ :‬القرآن الكريم‪ ،‬والحديث الشريف‪ ،‬والفقه‪ ،‬وعلم الكالم‪ ،‬والتأويل‪،‬‬

‫وأهل الحديث «أهل الظاهر» وأهل الرأي واالجتهاد «المدلول الباطن»‪ .‬بعد هذا العامل تأتي الفلسفة اليونانية‪ .‬المصدر الرئيس‬

‫للفلسفة اليونانية كان عبر ترجمة التراث اليوناني‪ :‬المنطق‪ ،‬والطبيعيات‪ ،‬واإللهيات‪ ،‬واألخالق‪ ،‬والرياضيات‪ ،‬و الفلك‪ ،‬والطب‪.‬‬ ‫ً‬ ‫أستاذا للعرب في‬ ‫كان للفلسفة اليونانية تأثير هائل في الفلسفة العربية ال سيما في الطبيعيات والرياضيات‪ ..‬وإذا كان فيثاغورس‬ ‫الرياضيات كما يقول دي بور‪ ،‬فإن أرسطو أستاذهم في المنطق‪.‬‬ ‫وكان للفلسفة اليونانية ً‬ ‫أيضا تأثير في غير العلوم الطبيعية والرياضيات «الفقه‪ ،‬والكالم‪ ،‬والنحو‪،‬والتاريخ‪ ،‬واألدب»‪.‬‬ ‫لاً‬ ‫فمثلاً الخطابة ألرسطو والمنطق اليوناني عمومً ا أثرا في النحو العربي والبالغة بشكل واضح‪ ،‬فالجاحظ‪ ،‬مث ‪ ،‬أدخل أشكال‬ ‫القياس المنطقية في أساليب البالغة‪ .‬وقد كان التأثر العربي إيجابيًّا متفاعلاً ؛ إذ أضاف العرب إليها إضافات ضخمة أصيلة‬

‫ومبتكرة‪ ،‬ومن ثم أسسوا منها علومهم الخاصة‪ ،‬مثل فلسفة أساس اللغة بين الفطري والوضعي‪ ،‬والقياس واالستنباط في‬ ‫علم اللغة‪ ،‬وفلسفة البالغة بين المبنى والمعنى‪ ،‬وتقسيم أنواع الجمل «خمسة أو ثمانية أو تسعة» أو أقسام الكالم «اسم‪،‬‬ ‫وفعل‪ ،‬وحرف»‪ .‬ومن ذلك ما أطلق على نحاة البصرة «أهل المنطق»؛ ألنهم يجعلون للقياس ً‬ ‫شأنا كبي ًرا في األحكام المتعلقة‬

‫‪150‬‬

‫بأمور اللغة تميي ًزا لهم من نحاة الكوفة الذين ترخصوا في أمور كثيرة تشذ عن القياس‪ .‬وقد يكون مرد ذلك أن تأثير المذاهب‬

‫الفلسفية ظهر في البصرة قبل غيرها‪ .‬ومن فروع اللغة ظهر علم العروض للفراهيدي‪ ،‬وعده بعضهم علمً ا طبيعيًّا ومن أقسام‬

‫الفلسفة؛ ألن الوزن اإليقاعي أمر طبيعي فطري مشترك بين البشر؛ فهو حالة جوهرية‪ ،‬وليس حالة اجتماعية خاصة بشعب‬

‫معين «دي بور»‪.‬‬

‫أثرت الترجمات في حقل التصنيف العلمي وبزوغ روح علمية جديدة في األوساط الفكرية العربية‪ ،‬فقد أدخلت الترجمات‬ ‫األرسطية منهج «المقالة» أو أسلوبها الذي يتبع ًّ‬ ‫خطا موضوعيًّا ال يحيد عنه‪ ،‬ويقتصر على موضوع معين للمقال‪ ،‬واإلحاطة به‪،‬‬

‫واالسترشاد باألعمال السابقة وتمحيصها والتعليق عليها‪ .‬وكانت الحال قبل ذلك أن الموضوعات التي تدور عليها العلوم الجزئية‪.‬‬ ‫وكان يغلب عليها االستطراد او االسترسال األدبي‪ .‬حيث ينتقل المؤلف من خبر إلى آخر كما لدى الجاحظ في أوضح صورة‪.‬‬

‫وإذا أردنا أن نعطي طابعً ا عامًّ ا للفلسفة العربية؛ ففي األغلب سنجد أنها تأثرت كثي ًرا باألفالطونية المحدثة‪ .‬االحتكاك‬

‫بالشعوب األخرى؛ كالسريان‪ ،‬والفرس‪ ،‬واليونان‪ ،‬والهنود‪ ،‬مزج الفكر الشرقي الروحاني «ديني وصوفي» مع الفكر اليوناني‬ ‫الفلسفي‪ .‬ومن هنا نالت األفالطونية المحدثة التي مزجت بين الروح الشرقية والروح اليونانية‪ ،‬نالت حظوة كبرى وقبولاً‬ ‫واسعً ا لدى الفالسفة العرب في فكر القرون الوسطى؛ إذ حاول أغلبهم التوفيق بين الفلسفة اليونانية والعقيدة اإلسالمية أو‬ ‫الشريعة اإلسالمية‪.‬‬

‫الموقف العربي من الفلسفة اليونانية‬

‫يمكن أن نجمل موقف المفكرين العرب من فالسفة وفقهاء ومؤرخين وأدباء تجاه الفلسفة اليونانية إلى ثالثة مواقف‪.‬‬

‫األول موقف جمهور الفالسفة العرب المؤيد والمرحب بالفلسفة اليونانية‪ ،‬وبعضهم يعدها ضرورة عقالنية للتعامل مع النص‬

‫الديني‪ ،‬إضافة إلى التعامل مع الحياة الدنيوية‪ .‬الثاني نقيضه تمامً ا‪ ،‬ويرى أن ال حاجة لهذه الفلسفة بالجملة‪ ،‬بل هي مفسدة‬

‫للدين والعقل‪ ،‬ومن أشهر القائلين بذلك ابن تيمية وابن قيم الجوزية‪ .‬الموقف الثالث‪ ،‬يرى التمييز بين أجزاء هذه الفلسفة؛‬ ‫فالمنطقيات والطبيعيات «فيزياء‪ ،‬وطب‪ ،‬وكيمياء‪ ،‬وزراعة» نافعة‪ ،‬بل يجب تعلمها عند بضعهم؛ مثل‪ :‬الغزالي وابن حزم‬ ‫األندلسي‪ ،‬أو ال مانع منها مثل ابن خلدون؛ أما اإللهيات «الماورائيات» واألخالقيات فهي ال شك في فسادها وبطالنها ووجوب‬

‫منعها‪ .‬ولعل هذا الموقف يمثل أغلبية السياق في الفكر العربي من مفكرين وفقهاء وأدباء وغيرهم‪.‬‬ ‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬


‫نصوص‬

‫الذين غامروا بالضحك‬ ‫االبتسام؟ كم إهانة وشتيمة ظلت ملتصقة بهم لم تمحها السنوات‬

‫إبراهيم غرايبة‬ ‫كاتب أردني‬

‫الخمسون بسبب االبتسام؟ اليوم‪ ،‬ما يحريه ويدعوه إىل التوقف‬ ‫طويلاً للتأمل والتفسري‪ ،‬كيف كان األساتذة «يسلخون» التالميذ‬

‫ال يزال عيسو غري قادر عىل فهم درس الولد الشجاع يف‬

‫بسبب االبتسام‪ ،‬ثم يقرؤون لهم درس القراءة‪ ،‬ويشرحون لهم‬

‫متواصلة‪ ،‬لقد استوعب هيغل وبرتراند راسل وكارل ماركس لكنه ما‬

‫نفسه ملح حسن يضحك‪ ،‬وكان املوقف يسمح لألوالد بأن يتهامسوا‬ ‫ويبتسموا‪ ،‬فقد كان منشغلاً عن التالميذ ومكبًّا يقرأ أو يكتب شي ًئا‬

‫كتاب القراءة حتى بعد خمسني عامً ا أعقبت الدرس؛ كلها قراءة‬

‫زال يفكر فيما تعلمه‪ ،‬وما زال يتذكره عن أطفال القرية الذين صاروا‬

‫يلعبون يف الحقول بعيدًا عن الطريق‪« .‬األطفال يلعبون»‪ ..‬صورة‬ ‫مدهشة لم يستوعبها عيسو‪ ،‬كيف يكون اللعب متقبلاً وأم ًرا جيدًا‬ ‫كما يبدو يف الكتاب‪ ،‬ولكنه كان لدى املعلمني الذين يعلمون الدرس‬ ‫نفسه عملاً بشعً ا‪ ،‬يتلقى األطفال بسببه عقوبات قاسية! واألهل ً‬ ‫أيضا‬

‫بصدق وإخالص فائضني عن الولد الشجاع الباسم! هو األستاذ‬

‫(يظن عيسو أنه كان يعد خطته املنهجية‪ :‬صفحات مسطرة طوليًّا‬ ‫وعموديًّا‪ ،‬تشرح األهداف والوسائل للدروس‪ ،‬وما سيفعله األستاذ‬

‫لتحقيق األهداف‪ .‬قرأها كلها مرة يف غفلة من األستاذ)‪ .‬لكنه رفع رأسه‬

‫فجأة ورأى حسن يضحك‪« ،‬ملاذا تضحك يا ابن الـ‪ ...‬تعال هنا منشان‬

‫كانوا يعتربونه جريمة!‪ ..‬كيف كان األستاذ يعلمهم الدرس الذي يثني‬

‫أسلخ بدنك» هو لم يضحك‪ ،‬ولكنه ابتسم‪ .‬كان هناك أوالد كثريون‬ ‫وأساتذة ً‬ ‫أيضا اسمهم بسام وباسم‪ ،‬لكنه لم يعرف معناها‪ ...،‬لعلها‬

‫باحرتام؛ وألن اللعب كان مغويًا وال يمكن مقاومته فقد كان يلعب‬

‫باإلرهاب نفسه ضد من يقدر عليه كلما رآه يضحك‪ ،‬ويصرخ فيه بكل‬

‫عىل اللعب أو يتقبله‪ ،‬وهو يعاقبهم عىل الفعل نفسه؟ وبما أن عيسو‬ ‫كان يأخذ الكتاب بجدية‪ ،‬ويتلقى من املعلم بقبول‪ ،‬ويسمع ألهله‬

‫ويشعر يف الوقت نفسه بالخطيئة وتعذيب الضمري‪ ،‬ظل اللعب‬

‫والضحك خطيئة يمارسها عندما ينىس أو يضعف أو يستدرج‪ ،‬ثم‬

‫أشياء مثل فاكهة املانجا! وملا كرب عيسو صار بال إدراك واضح‪ ،‬يقوم‬

‫ما يقدر عليه من غضب‪ :‬الضحك بدون سبب قلة أدب‪.‬‬ ‫تنازل عيسو عن كربيائه‪ ،‬وهمس سائلاً الصديق الذي كان‬ ‫ً‬ ‫ضاحكا‪ .‬وازدادت حريته؛ ملاذا‬ ‫يجلس بجواره ما معنى باسمً ا؟ قال له‪:‬‬

‫يحاسب نفسه عليها بقسوة! ويا للخسارة‪ ،‬فعندما اكتشف املعلمون‬ ‫واألهل‪ ،‬واكتشف عيسو ً‬ ‫أيضا أن اللعب واملرح يشء إيجابي وجميل‪،‬‬

‫يشجعنا الكتاب عىل االبتسام؟ «حتى عندما كربنا قليلاً وقرأنا قصيدة‬

‫التالميذ الذين غامروا باالبتسام ظلت مغامرتهم قصة تروى عىل‬

‫بقيا (االبتسام والتفاؤل) ممارسات جرمية‪ ،‬نمارسها بالسر‪ ،‬ونضحّ ي‬

‫«الولد الشجاع»‪ .‬جاء الولد‪ ،‬ووقف باسمً ا‬

‫يف حصة الرياضة يلعب األطفال؛ يصبح اللعب واجبًا قاسيًا مثل‬

‫كان قد فات األوان!‬

‫مدار العقود‪ ،‬ولم يكن للمصري الذي واجهوه عالقة بدرس‬ ‫أمام الطبيب‪ ،‬وقال عنه الطبيب‪ :‬هذا‬ ‫ولد شجاع‪ .‬ظل عيسو حائ ًرا أمام كلمة‬ ‫«باسمً ا»؛ لم يعرف معناها‪ .‬كتاب‬ ‫القراءة الذي قرأه كله مرات عدة يف‬ ‫أول يوم استلمه من املدرسة‪ ،‬كما‬

‫قرأ كتب إخوانه الكبار يف اإلعدادية‪،‬‬ ‫وحفظ كثريًا من قصائدها وما زال‬

‫يحفظها حتى اليوم؛ ومجلة العربي‬

‫التي كان يقرؤها خلسة مغام ًرا بما‬

‫يمكن أن يتلقاه من عقاب‪ ..‬كل ذلك لم‬

‫يسعفه يف معرفة معنى «باسمً ا»‪ .‬كيف‬ ‫سيعرف كلمة غري مستخدمة؟‬ ‫كم‬

‫جلدة‬

‫تلقى‬

‫التالميذ بسبب‬

‫إيليا أبو مايض «ابتسم»‪ ،‬ومقالة أحمد أمني عن االبتسام والتفاؤل‪،‬‬

‫ألجلها بعقوبات يجب أن تكون رادعة»‪.‬‬

‫حصة اإلمالء والعلوم‪ ،‬ويتعرض عيسو للتوبيخ؛ ألنه يف امللعب مثل‬

‫«العمود»‪ ،‬ال يضر وال ينفع‪ .‬ولكنه تعلم فيما بعد‪ ،‬بسبب فشله يف‬ ‫اللعب‪ ،‬درسً ا جميلاً من أجمل ما َّ‬ ‫تعلم يف الحياة‪.‬‬ ‫ففي املدينة التي كان يدرس فيها يف الجامعة‪ ،‬كانت ممارسة كرة‬

‫القدم فرض عني (تقريبًا) يف أيام العطل ويف الرحالت‪ ..،‬كان يجلس‬

‫وحده والشباب يلعبون‪ ،‬ويف إحدى املرات‪ ،‬انخرط الشباب جميعهم‬

‫يف لعب الكرة‪ ،‬وبقي عيسو وشادي ابن السنوات األربع جالسني‬ ‫وحدهما يتحدثان‪ ،‬تعلم عيسو من شادي درسً ا مفيدًا وجميلاً يتذكره‬ ‫دائمً ا‪ .‬فقد بدأ النهار يرحل‪ .‬كانت الشمس تغرق يف البحر‪ ،‬والقمر‬ ‫ّ‬ ‫يطل متسللاً من وراء الجبال‪ .‬سأل عيسو شادي‪ :‬ملاذا تغيب الشمس‬

‫يف الليل ويأيت القمر؟ قال‪ :‬الشمس ال تسمح لها أمها بالبقاء حتى‬

‫الليل‪ ،‬فتذهب إىل بيتها‪ ،‬والقمر تسمح له أمه بالخروج يف الليل! وال‬ ‫يزال عيسو مدي ًنا لشادي بهذا التفسري الجميل والعميق لحركة الكون‬ ‫والليل والنهار‪.‬‬

‫‪151‬‬


‫إصدارات‬

‫الخطاب الديني في الفضائيات العربية‬

‫المؤلف‪:‬يحيى اليحياوي‬

‫الناشر‪ :‬مكتبة مؤسسة مؤمنون بال حدود للدراسات واألبحاث‬

‫َّ‬ ‫تشكل؟ وما س ّر االنتقال من الدين إلى التدين؟ ما مكوّنات‬ ‫ما طبيعة التدين الجديد؟ كيف‬

‫التديّن المرتكز على الفرد؟ وكيف بدأت ظاهرة الدعاة الجدد الذين يروجون لثقافة دينية‬ ‫يلتقي حولها ّ‬ ‫كل األطياف االجتماعية‪ ،‬الميسورة منها‪ ،‬والمتواضعة اإلمكانيات‪ ،‬والفقيرة‬ ‫على حدّ سواء؟ ما مدى نجاح تقديم الدين إعالميًّا‪ ،‬بعدما كان مقتص ًرا على حلقات‬

‫المساجد واللقاءات التوجيهية في الحسينيات؟ هل انفجار أعداد الفضائيات الدينية في‬ ‫كرمز للهوية‪ ،‬أو كملجأ لالحتماء من انفتاح‬ ‫العالم العربي‪ ،‬نتيجة تنامي الحاجة إلى الدين‬ ‫ٍ‬ ‫المجال واسعً ا لعولمة تنقل السلع المادية والالمادية الغربية؟ تساؤالت كثيرة يطرحها هذا‬

‫الكتاب الصادر عن «مؤمنون بال حدود» لمؤلفه يحيى اليحياوي‪.‬‬ ‫أوربا والعالم العربي‬

‫المؤلف‪:‬بشارة خضر‬

‫الناشر‪ :‬مركز الجزيرة للدراسات‬

‫تتبَّع الدكتور بشارة خضر في كتابه «أوربا والعالم العربي‪ :‬رؤية نقدية للسياسات األوربية‬

‫من ‪ 1957‬إلى ‪2014‬م»‪ ،‬الصادر عن مركز الجزيرة للدراسات‪ ،‬تاريخ العالقات األورومتوسطية‬ ‫واألوروعربية خالل العقود الخمسة األخيرة؛ مُ تأمِّ لاً في مراحلها‪ ،‬وناظ ًرا في تحوُّالتها‬ ‫المختلفة التي م َّرت بها العالقة بين الجماعة األوربية واالتحاد األوربي‪ ،‬الذي َ‬ ‫خل َفها‪ ،‬من‬

‫‪152‬‬

‫جهة‪ ،‬والعالم العربي من جهة أخرى‪ ،‬منذ إبرام معاهدة روما عام ‪1957‬م حتى اليوم‪.‬‬ ‫ويرى المؤلف أن العالقات بين االتحاد األوربي ومجلس التعاون الخليجي َّ‬ ‫ظلت من دون‬

‫مكانة مجلس التعاون الخليجي اإلستراتيجية‪ ،‬وأهمية مصالح االتحاد األوربي واستثماراته‬ ‫ِّ‬ ‫المؤلف أن أوربا إذا لم تتمكن من أن تعتمد‪ ،‬في طريقة تعاملها مع الخليج‪،‬‬ ‫المالية‪ .‬ويتوقع‬ ‫ً‬ ‫موقفا أبرز‪ ،‬فإنها س ُتخلي الساحة لالعبين اآلسيويين الجدد في القريب العاجل‪.‬‬

‫القطة‪ ..‬التاريخ الطبيعي والثقافي‬

‫المؤلف‪ :‬كاثرين روجرز‬

‫ترجمة‪ :‬ريم أحمد الذوادي الناشر‪ :‬مشروع كلمة ‪ -‬أبو ظبي‬

‫َ‬ ‫العالقة بين القطط والبشر‪ ،‬التي تأرجحت بين التأليه واالحتقار من القرون‬ ‫الكتاب‬ ‫يتتبّع‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫السابقة إلى يومنا هذا الذي تحتل فيه القطط مكانة عزيزة كرفيق أليف إلى جانب الكلب‬ ‫الوفي‪ .‬يقدم هذا الكتاب معلومات مفيدة ودقيقة عن تاريخ القطط وصورها في األدب والفن‪.‬‬ ‫ّ‬

‫مخرج على الطريق‬

‫المؤلف‪ :‬محمد خان‬

‫الناشر‪ :‬دار الكتب‬

‫ً‬ ‫بعضا من ذكرياته وسيرته عبر مشوار حياته مع‬ ‫يستعيد المؤلف في هذا الكتاب‬

‫السينما والبشر‪ .‬قدم على مدار صفحاته‪ ،‬التي تقترب من ستمئة ورقة‪ ،‬خالصته في مشواره‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وصناعة وإخراجً ا‪ ،‬عبر عشرات المقاالت التي تناول فيها قضايا‬ ‫عشقا‬ ‫الطويل مع السينما‪،‬‬ ‫وموضوعات كلها عن السينما؛ همومها وأوجاعها‪ ،‬وحنين السنوات البعيدة‪ ،‬وذكريات‬ ‫لندن‪ ،‬وغيرها مما سجله خالل أكثر من خمسة وعشرين عامً ا على صفحات الجرائد العربية‬

‫والمصرية والمواقع اإللكترونية‪.‬‬ ‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬


‫نساء األسرة العلوية ودورهن في المجتمع المصري‬ ‫المؤلف‪ :‬مروة علي‬

‫الناشر‪ :‬دار الشروق‬

‫يقع الكتاب في خمسة فصول‪ ،‬ومقدمة وضعها الدكتور حمادة إسماعيل‪ .‬الفصل‬

‫األول يتناول «الحياة الخاصة» ألميرات أسرة محمد علي‪ :‬الملكات‪ ،‬واألميرات‪ ،‬والنبيالت‪،‬‬ ‫والفصل الثاني عن الشؤون المالية واألوقاف واألراضي الزراعية‪ ،‬والثالث يتحدّث عن األنشطة‬

‫الثقافية و َدوْر أميرات األسرة العلوية‪ .‬والرابع مخصص لالهتمامات الصحية‪ ،‬وفصل أخير‬ ‫عن القضايا والمنازعات والخالفات العائلية داخل األسرة‪.‬‬

‫إلى الفنار‬

‫المؤلف‪ :‬فرجينيا وولف‬

‫الناشر‪ :‬الهيئة العامة لقصور الثقافة‬

‫ُت َع ّد هذه الرواية إحدى عالمات الحداثة الروائية في القرن العشرين ومن أهم األعمال‬

‫التي أسست لتيار الوعي في الرواية العالمية‪ .‬وهي رواية من دون أحداث خارج سياق وعالم‬

‫الداخلي‬ ‫النص المكتوب ذاته‪ ،‬فال تعنيها أشياء هذا العالم بقدر ما يعنيها الغوص في العالم‬ ‫ّ‬ ‫للكاتبة؛ حيث العالم غير المعلن وغير المكتشف‪ ،‬والكامن فيما وراء جذور عملية اإلدراك‬ ‫والوعي بالعالم‪.‬‬

‫حفيدات غريتا غاربو المؤلف‪ :‬عائشة البصري‬ ‫الناشر‪ :‬الدار المصرية اللبنانية بالقاهرة‬

‫في هذه الرواية تعتمد الكاتبة على ابتكار شخصية طبيب أمراض نفسية يدعى خوان‬

‫رودريغو‪ ،‬يدّ عي أنه ابن الفنانة السويدية المشهورة غريتا غاربو‪ ،‬وعبر تقنية سرد توثيقية‬ ‫تجيء أحداث الرواية التي ُتذيب المساحة الفاصلة بين الواقع والخيال‪.‬‬

‫هل يستطيع غير األوربي التفكير؟ المؤلف‪ :‬حميد دباشي‬ ‫ترجمة‪ :‬عماد األسعد الناشر‪ :‬منشورات المتوسط‬

‫يصوغ هذا الكتاب منظورًا جديدًا في نظرية ما بعد االستعمار؛ إذ يتساءل حميد دباشي‪ :‬ما الذي‬

‫يحدث للمفكرين الذين يشتغلون خارج الساللة الفلسفية األوربية؟ ومن خالل الخوض في هذه الجدلية‬ ‫ّ‬ ‫والموظفين والمزيّفين‪ .‬ويدرس الطريقة التي يستمر‬ ‫اإلشكالية‪ ،‬يناقش حميد دباشي وصفهم بالمهمّشين‬ ‫من خاللها النقاش الفكري في ترسيخ نظام كولونيالي للمعرفة‪ ،‬مستندًا إلى سنوات من الدراسة والنشاط؛‬ ‫ليقدم في كتابه هذا مجموعة من االستكشافات الفلسفية التي تثير الحفيظة والفرح على حد سواء‪.‬‬

‫رسائل إلى الوطن المؤلف‪ :‬سالمة بنت سعيد (إميلي رويته)‬ ‫ترجمة‪ :‬زاهر الهناني الناشر‪ :‬منشورات الجمل‬

‫في الجزء الثاني من «مذكرات أميرة عربية»‪ ،‬تتناول الرسائل تفاصيل حياة سالمة من‬

‫لحظة انطالق رحلتها من عدن إلى ألمانيا عبر البحر األحمر في منتصف الثمانينيات تقريبًا‪،‬‬

‫واستقرارها في العاصمة األلمانية برلين‪ .‬وقد وجّ هت سالمة رسائلها إلى إحدى صديقاتها‬

‫ّ‬ ‫النص على الشكل المعهود‬ ‫في زنجبار‪ ،‬وربما تكون شخصية وهمية على األرجح‪ ،‬ولم يكن‬ ‫ً‬ ‫متدفقا من دون انقطاع‪.‬‬ ‫للرسائل‪ ،‬فقد خال من ذكر اسم المرسل إليه والعنوان‪ ..‬وكان سردًا‬

‫‪153‬‬


‫زمان الفيصل‬

‫‪154‬‬

‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬


155


‫بورتريه‬

‫جمـاليـة البسيــط‬ ‫في تجـربة أيف بونفوا‬ ‫انت ُّ‬ ‫اعرَ‪ ،‬و َي ِق ُ‬ ‫ُواج ُه َّ‬ ‫ف يف َطري ِقه‪.‬‬ ‫َك ِ‬ ‫الش ِ‬ ‫الل َغ ُة‪ ،‬دا ِئمً ا‪ ،‬هي ما ي ِ‬ ‫ُّ‬ ‫وإذا كان الشعراء‪ ،‬كما قال الخليل بن أحمد الفراهيدي‪ُ ،‬هم‬ ‫ّف يف ُّ‬ ‫اع َر يتصر ُ‬ ‫«أُمراء الكالم»‪ ،‬باملع َنى الذي يجعل َّ‬ ‫الل َغة‪،‬‬ ‫الش ِ‬ ‫وي َْفعَ ُل بها ما ي َ​َشاء‪ ،‬بعكس غريه ِممَّ ن يكتبون‪ ،‬يف غري ِّ‬ ‫الشعر‪،‬‬

‫َت ُّ‬ ‫الل َغة‪ ،‬بمنزلة الحَ جَ ر َّ‬ ‫الث ِقيل الذي يعوق حُ رِّية‬ ‫فقد َب ِقي ِ‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫اعر‪ ،‬ويضعُ ه يف مواجَ هَة ماضيها‪ ،‬من جهة‪ ،‬فاللغة لها‬ ‫الش ِ‬ ‫ُ‬ ‫تاريخها‪َ ،‬‬ ‫ولها َذاك ُ‬ ‫رون َ‬ ‫ُ‬ ‫مض ْ‬ ‫ت‪ ،‬بمع َنى أنَّ‬ ‫ِراتها التي تعو ُد إىل ق ٍ‬ ‫الل َغ َة مُ حَ مَّ َلة ْ‬ ‫ُّ‬ ‫ض عىل َّ‬ ‫بأل ِس َنة األسْ الف‪ ،‬ما ي َْف ِر ُ‬ ‫اعر أن ي َْخرُج‬ ‫الش ِ‬ ‫َ‬ ‫كيف ينزاحُ عنه‪ ،‬أو يعمل عىل‬ ‫من ماضيهم هذا‪ ،‬أو يعرف‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫اعرُ‪،‬‬ ‫توسيعه‪ ،‬واال ْب ِتداع فيه‪ ،‬من داخله‪ .‬ومن جه ٍة أخرى‪ ،‬الش ِ‬ ‫ِ‬

‫‪156‬‬

‫مهما كانت طبيعَ ة ال َّزمَ ن الذي َي ْن َتمِ ي إليه‪ ،‬فهو مُ جْ برَ ٌ عىل‬ ‫َ‬ ‫آخر إىل َصرْح ِّ‬ ‫وإضافة حَ جَ ٍر َ‬ ‫الشعْ ِر هذا‪ ،‬ح َّتى‬ ‫ال َّتف ُّردِ‪ ،‬وال َّتمَ يُّز‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫ال يكون مُ ج َّر َد مُ َقلدٍ ‪ ،‬تابِ ٍع‪ ،‬ي َْذ َه ُ‬ ‫كالم أسْ ال ِفه‪،‬‬ ‫ب إىل امل َ ْكرُور من‬ ‫ِ‬ ‫أو يكون‪ ،‬باألحْ رَى‪َ ،‬‬ ‫عال ًة عليهم‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫الل َغة‪ ،‬بهذا املعنى‪ ،‬هي املحَ ّك‪ ،‬أو هي األرْض التي ي َْخ َتبرِ‬

‫مساحات غري مَ حْ ر َ‬ ‫فيها َّ‬ ‫ُوثةٍ‪ ،‬أ ْو َلم‬ ‫اعر ُق ْدر َ​َته عىل الحَ رْث يف‬ ‫ٍ‬ ‫الش ِ‬ ‫ُ‬ ‫ي َْس ِبق أن جرَى حَ رْثها من قبل‪.‬‬ ‫***‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫أتحدث عن‬ ‫حني أ ْك َت ِفي‪ُ ،‬هنا‪ ،‬بالحديث عن اللغةِ‪ ،‬فأنا‬ ‫ُ‬ ‫الك ّل ِّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫أتحد ُث عن ِشعْ ِريّة ال َّن ّ‬ ‫ص‪ ،‬عن األ ُفق الجمايل‬ ‫الشعْ ِريّ ‪.‬‬

‫ِّ‬ ‫الذي ي َْف َتحُ ُه‪ ،‬أو ُي ِتيحُ ه‪ ،‬هذا ال ّنص‪ ،‬بما فيه من َدو ّ‬ ‫فالشعْ رُ‪،‬‬ ‫َال‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ْسيع َد ّ‬ ‫فإضافةً‬ ‫واله َ‬ ‫ُ‬ ‫وت ْك ِثي ِفها‪.‬‬ ‫يتم َّي ُز‪ ،‬من‬ ‫حيث َط ِبيعَ ُته‪ ،‬بِ َتو ِ‬

‫إىل ِّ‬ ‫الصوَر ِّ‬ ‫دال اإليقاع‪ ،‬هناك ُّ‬ ‫دال الخيال‪ ،‬أو ُّ‬ ‫الشعرية‪ ،‬وهو‬ ‫قارئِه‪،‬‬ ‫ما يحْ ُدث من خالل‬ ‫ِ‬ ‫املجازات التي ي َْقترَ ِحُ ها ال َّنص عىل ِ‬ ‫ْ‬ ‫للكلمات‪ ،‬وإعا َدة بناء ْ‬ ‫ً‬ ‫فاظ‪ ،‬وَف َق‬ ‫جديدا‬ ‫باعتبارها تركيبًا‬ ‫لألل ِ‬ ‫ِ‬

‫نظام‪ ،‬هو نوع من «االنزياح» عن ُ‬ ‫مألوف الكالم‪َ ،‬‬ ‫وخر ٍْق له‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫الشعراء‪ ،‬باعتبار ما ي ْب َتدِ ُع َ‬ ‫وهنا َتب ُْدو «إمارة» ُّ‬ ‫ُ‬ ‫وخروج عنه‪ُ .‬‬ ‫ونه‪،‬‬ ‫الل َغة‪ُّ ،‬‬ ‫يف ُّ‬ ‫بالل َغة ذاتِها‪ ،‬أي بمفرداتها نفسها‪ ،‬وبنحوها‪ً ،‬‬ ‫أيضا‪.‬‬

‫***‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫بقدر ما يَعْ ِنينا هذا يف العَ َربِية‪ ،‬بقدر ما ن ِج ُده أحَ َد املشترَ‬ ‫َكات‬ ‫ِ‬ ‫الث َ‬ ‫يف َّ‬ ‫قافة َ‬ ‫الك ْو ِنيَة‪ ،‬أو يف الو َْع ِي الجَ ماليِ ّ ‪ ،‬أو ما كان هربرت‬ ‫دِث َّ‬ ‫َّ‬ ‫«الشرْط الجَ ماليِ »‪ ،‬الذي فيه ُيحْ ُ‬ ‫اعرُ‪،‬‬ ‫ماركوز سَ مَّ ا ُه بـ‬ ‫الش ِ‬ ‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬

‫صالح بوسريف‬ ‫شاعر وكاتب مغربي‬

‫َّ‬ ‫خاصة‪ ،‬ما يُمْ كِن ترجَ مَ ُته بـ «ال َّتب ِْعيد»‪ .‬وهو ما كان جَ رَى‬ ‫بصورة‬ ‫النقاش الذي دار حول «عمود ِّ‬ ‫عندنا َع َربِيًّا‪ ،‬يف ِّ‬ ‫الشعْ ر»‪ ،‬أو‬ ‫َّ‬ ‫اع ِريِّني العرب‪ْ ،‬‬ ‫اع َتبرَ ُوها ضرورية‬ ‫الخِ صال التي كان بعض الش ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ري وَفق خصوصية «القصيدة‬ ‫لهذا العَ مُ ود‪ ،‬ليستقيم‪ ،‬وي َِس َ‬

‫خاص‪ْ .‬‬ ‫ّ‬ ‫وأق ِصد ُهنا‪،‬‬ ‫العربية»‪ ،‬يف بنائها‪ ،‬ويف لغتها‪ ،‬بشكل‬ ‫ْ‬ ‫َخ ْص َلة «املُقاربَة يف ال َّت ْشبيه»‪ ،‬أي عدم اإلفراط يف َتجْ ِسري ال ُه َّو ِة‬

‫َبينْ امل ُ َشبَّة وامل ُ َشبَّه به‪ ،‬أو َتبْدِ يد عالقة ال َّت ْشبيه‪َ ،‬‬ ‫وت ْص ِعي ِبها‪ ،‬بهذا‬ ‫املعنى الذي ْ‬ ‫اقترَ َحَ ه ماركوز‪ُ ،‬هنا‪.‬‬ ‫***‬

‫إيف ْ‬ ‫اعر الفرنيس‪ْ ،‬‬ ‫بال َّن َظر يف تجربة َّ‬ ‫بونفوَا الذي رحل يف‬ ‫الش ِ‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫يوليو املايض‪ ،‬فهو كان بني الشعراء القالئِل الذين حَ ر ُ‬ ‫َصوا عىل‬ ‫هذا «ال َّت ْقريب»‪ ،‬فهو َلمْ ي َُكنْ ي ْن َت ِصر للخيال ْ‬ ‫راط‪ ،‬أو بنوع من‬ ‫بإف ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫نفسه‪ ،‬أما ُل َغة شديدة الترَّ ْ كِيب‪،‬‬ ‫القارئ‬ ‫فيه‬ ‫د‬ ‫َج‬ ‫ي‬ ‫الذي‬ ‫ال َّتجْ ِسري‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ْسيع األمْ ِك َنة َ‬ ‫َ‬ ‫أقول ال َّتعْ ِقيد‪ .‬وليس مبدأ َ‬ ‫اءات»‬ ‫ح َّتى ال‬ ‫والف َض ِ‬ ‫«تو ِ‬ ‫لاَّ‬ ‫َ‬ ‫االخ ِتيار الجَ ماليِ ّ ‪ ،‬وهو ْ‬ ‫الذي نا َدى به‪ ،‬إ تعبريًا عن ْ‬ ‫اختيار ال‬

‫ينفي ِشعْ ِرية ال َّن ّ‬ ‫ص‪ ،‬أو ي ُْقصيها لِصالِح «البسيط» أو «الوا ِق ِع ّي»‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫تتبدى عند بونفوا‪ ،‬يف َت َصو ُِّره ال َّن َظريّ ‪ ،‬ويف‬ ‫فالكلمات‪ ،‬كما‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫تجربته ِّ‬ ‫الشعرية‪ ،‬هي أفق مف ُتوحٌ عىل اللاَّ مُ َتوَقع‪ ،‬أي بِما َيحْ ُد ُث‬

‫ضافر َ ُ‬ ‫من َت ُ‬ ‫اآلن ذاتِه‪ ،‬واملقصو ُد‪ُ ،‬هنا‪ ،‬الترَّ ْ كِيب‪ ،‬ال‬ ‫وتنافر‪ ،‬يف ِ‬ ‫الكلمات يف إطارها املُعْ جَ مِ ّي ِّ‬ ‫الصرْف‪.‬‬ ‫الذين َقرَؤوا بونفوا‪ ،‬أو َك َتبُوا عن تجرب ِته‪ ،‬يف حُ ُدود ما‬ ‫قرأته‪َ ،‬لمْ ي ُْدر ُكوا أنَّ بُونفوا‪ ،‬رغم انحيازه للبسيط‪ ،‬أو َّ‬ ‫ُ‬ ‫اهر‬ ‫الظ ِ‬ ‫ِ‬

‫من األشياء التي تجري يف الطبيعة‪ ،‬ويف الواقع‪َ ،‬‬ ‫يذه ُ‬ ‫ب إىل‬ ‫َف ْتح َ‬ ‫هايئ‪ْ ،‬‬ ‫هايئ‪ُ ،‬هنا‪،‬‬ ‫الكل ِ‬ ‫باع ِتبار اللاَّ ِن ّ‬ ‫ِمات عىل جُ رْحِ ها اللاَّ ِن ّ‬ ‫ِ‬ ‫الكلمات‪ ،‬من دون‬ ‫دالالت‬ ‫هو َذلِك ال َّت َخ ُّلق الذي َيحْ ُد ُث يف‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫فالداللة‪َ ،‬‬ ‫ْ‬ ‫طاع‪َّ .‬‬ ‫تتش َّق ُق‪ ،‬وتتوسَّ ع‪ ،‬وهي بهذا‪ ،‬بقدر ما ترت ِبط‬ ‫ان ِق ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ضاع ُ‬ ‫ف‬ ‫باألشياء البسيطة اليومية التي نراها‪ ،‬ونعرفها‪ ،‬بقدر ما ُت ِ‬

‫أص َ‬ ‫ـ«الصو ُ‬ ‫واتها‪ .‬ف َّ‬ ‫ْ‬ ‫ْت هو الكا ِئنُ الذي يُمْ كِن أنْ ُي ْز ِهرَ‪ ،‬حَ َّتى فيما‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫ال يُوجَ د»‪ .‬وأنا أشد ُد عىل هذه العبارة؛ ألنها‪ ،‬تفتح مَ عْ ِرفتنا‪،‬‬ ‫وو َْعيَنا ِّ‬ ‫َ‬ ‫س‪َّ ،‬‬ ‫الشعْ ِريَّينْ ‪ ،‬عىل هذا َ‬ ‫واملتخ ِّفي‪ ،‬الذي‬ ‫الد ِفني‪،‬‬ ‫املند ّ‬ ‫َت ْن َط ِوي عليه َ‬ ‫ِمات‪ ،‬وهي يف و ْ‬ ‫َض ِعها ُ‬ ‫الكل ُ‬ ‫الغ ْفل‪ .‬فـ «الحَ ْسمُ » عند‬ ‫بونفوا «للكلمات»‪ ،‬لكنه الحَ ْسم الذي ي َ‬ ‫ُصيرِّ «ال َّز ْهر َ​َة الحَ ِقي ِقي َ​َّة…‬ ‫ُ‬ ‫اسْ ِتعار ًَة»‪ ،‬أي َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫بالق ْدر الذي تتحرَّر فيه من حُ لمِ ها‪ ،‬أو ت ْدخل فيه‪،‬‬ ‫لكن‪ ،‬بِحُ ِّريَة‪ْ ،‬‬ ‫وانطِ الق‪.‬‬

‫***‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫أعمالِه ِّ‬ ‫َ‬ ‫يف ْ‬ ‫الشعْ ِريَة‪ ،‬كام َِل ًة‪ ،‬ثمَّ ة ُصوَر‪ ،‬أو تعْ بريات‪،‬‬ ‫َ‬ ‫َحر ُ‬ ‫ص بونفوا عىل‬ ‫وتراكِيب‪ ،‬تتك َّر ُر بصورَة ال ِفتةٍ‪ .‬و ُربَّما‪ ،‬ي ِ‬ ‫ِّ‬ ‫ضارها‪ ،‬وال َّت ْذكِري بِها باستمرار؛ َّ‬ ‫َ‬ ‫رات التي‬ ‫املؤش‬ ‫ى‬ ‫د‬ ‫ألنها إحْ‬ ‫ِ‬ ‫اسْ ِتحْ ِ‬ ‫ُتمَ ِّي ُز َفهْمَ ُه ِّ‬ ‫للشعر‪ ،‬أو رؤ َي َته له‪ ،‬من جهة‪ ،‬وطريقة مُ مارَسَ ِته‬ ‫َن ِّصيًّا‪ ،‬يف ْ‬ ‫ْ‬ ‫و«أصواتِه»‪ ،‬أو مُ وسيقاه‪ ،‬من‬ ‫االش ِتغال عىل ُصو َِره‪،‬‬ ‫رات‪ ،‬أو التعبريات «الينابيع األ ْكثرَ‬ ‫جهة أخرى‪ .‬وبني هذه امل ُ ِّ‬ ‫ؤش ِ‬ ‫َّ‬ ‫ي َ​َق َظ ًة»‪« ،‬ال َّنبْع الحَ ّي ً‬ ‫«الثمَ رَة‬ ‫أبدا»‪ ،‬أو «ال َّت َد ُّفق األبدي»‪،‬‬

‫اللاَّ مُ ْن َت ِهيَة»‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫الس ُ‬ ‫ِّ‬ ‫التعبريات‪ ،‬يرتبط‪،‬‬ ‫يص‪ ،‬أو الشعْ ِري‪ ،‬لهذه‬ ‫ِ‬ ‫ياق ال َّن ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫الداليل الذي يتوخى بونفوا فضحَ ه يف تجربته‪َ .‬‬ ‫باألفق َّ‬ ‫عند ُه‪،‬‬ ‫«ع ْو َدة» لجَ و َْهر مَ ْنسيِ ٍّ ‪ ،‬أو ل َ‬ ‫دا ِئمً ا‪ُ ،‬هناك َ‬ ‫ِضرورة ي َ​َق َظةٍ‪ ،‬يف َلحْ َظة‬ ‫َ‬ ‫من َّ‬ ‫عالقة َ‬ ‫الكلِمات بعضها ببعض‪ ،‬وهي‬ ‫حظات‪ ،‬يف ال َّن َظر إىل‬ ‫الل‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫تتجا َو ُر وتتحاوَر‪ ،‬أو ت َ‬ ‫تصا َدى‪ ،‬وتتجاوب فيما بينها‪ ،‬ولو بنوع‬ ‫من ال َّت ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫نافر‪ ،‬لك َّنها‪ ،‬يف النهايَة‪ ،‬تؤدي إىل اإلشراق‪ ،‬أو إىل‬ ‫ُ‬ ‫الخروج من َلي ِْل املع َنى إىل نهاره‪ .‬هذا ال َّت َخ ِّفي‪ ،‬الذي هو‬ ‫ُّ‬ ‫والظهور‪ ،‬أو ما كان كمال‬ ‫ُورات ال َّت َك ُّشف‬ ‫أحد َضر ِ‬ ‫ليِّ‬ ‫أبو دِيب سَ مَّ ا ُه بـ «جدلية الخفاء وال َّتج »‪.‬‬ ‫يقول بونفوا‪ ،‬يف هذا املعنى‪:‬‬

‫«أسْ مَ ُع َكلِمَ ًة‪ ،‬أُ ْد ِنيها ِمنْ أُ ْخرَى‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ظان‬ ‫هذا ال َّنا ِئمُ و َ​َهذِ ه ال َّنا ِئمَ ة ي َْس َت ْي ِق ِ‬ ‫َ‬ ‫ور َّ‬ ‫س َ‬ ‫س أ ْيدِ يِهما…»‬ ‫ت تتالمَ ُ‬ ‫الخا ِف ِ‬ ‫الشمْ ِ‬ ‫فيِ ُن ِ‬ ‫أخرَى‪ُ ،‬تعا ِن ُقها‪َ ،‬‬ ‫ي ٌَد ُتصافِحُ ْ‬ ‫وت ْن َف ِتحان‪ ،‬معً ا‪ ،‬يف مِساحَ ة‬ ‫للكلمات أن َ‬ ‫تتآل َ‬ ‫ف‪،‬‬ ‫س الذي ُي ِتيح‬ ‫هذا ال َّت َك ُّشف املُيضء‪ .‬ال َّتالمُ ُ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫ري املعْ َنى‪ .‬فبتوسيع اللفظة‪ ،‬يف عالق ِتها‬ ‫تتزاوَجَ ‪ِ ،‬ل ُت ْفضيِ إىل َت ْك ِث ِ‬ ‫ْ‬ ‫زاوجُ ها بها‪ ،‬أو معها‪ ،‬فنحنُ ُنحْ ُ‬ ‫دِث‬ ‫بغريها من األلفاظ التي ُن ِ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ُّ َ‬ ‫ْداع جديدة‪ ،‬وهو ما ُك ْن ُ‬ ‫ت سَ مَّ ْي ُته‬ ‫يف اللغ ِة دينا ِميَة‪ ،‬أو حَ َر ِكيَة إب ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ص‪ .‬وبونفوا‪ ،‬حني يضع ِّ‬ ‫أف ًقا‪ ،‬يف شعرية ال َّن ّ‬ ‫الشعْ رَ‪ ،‬يف مواجَ هَة‬

‫الوا ِقع‪ ،‬فهو‪ ،‬يف حقيقة األمْ ِر‪ ،‬ي َ‬ ‫نفسه‪ ،‬أي يف‬ ‫َضعُ ه يف مواجَ هَة ِ‬ ‫َ‬ ‫مواجَ هَة وُجُ و ِده‪ ،‬باعتبار ِّ‬ ‫ب الوُجود‪،‬‬ ‫الشعٌ ر‪ ،‬هو وُجُ ود يف ق ْل ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ب الواقع‪ ،‬وقد كانَ َّ‬ ‫أك َد عىل هذا املعنى‪ ،‬حني رأى يف‬ ‫وواقع يف ق ْل ِ‬ ‫ِّ‬ ‫الشعْ ر‪َ ،‬توا ُزناً يف العالقة بني ْ‬ ‫سان ووُجو ِده‪ .‬من ُهنا‪ ،‬نفهَم‬ ‫اإلن ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫معنى تأكيدِ ه عىل ضرُورة أن « َيبْقى هذا العالم»‪ ،‬وي َْس َتمِ رّ‪ ،‬أمام‬ ‫ما َيحْ دِ ق به من ْ‬ ‫طار‪.‬‬ ‫أخ ٍ‬ ‫***‬

‫ُص ِّد ُر به بونفوا بعض أعمالِه ِّ‬ ‫ما كان ي َ‬ ‫الشعرية من مقاطع‬ ‫َ‬ ‫مأخوذة من نصوص‪ ،‬أو كتابات مسرحية‪ ،‬كان ذا داللةٍ‪ ،‬يف‬

‫‪157‬‬


‫بورتريه‬

‫َ‬ ‫عالق ِته بهذا العَ مَ ل كا ِملاً ‪ .‬ويب ُْدو يل أنَّ بونفوا كان مشغولاً بكتابة‬ ‫ّص ِّ‬ ‫«العَ مَ ل ِّ‬ ‫الشعْ ِري» ‪ L‪’‬oeuvre poétique‬ال النـ ّ‬ ‫الشعري‪ ،‬أو‪‪‬‬

‫ْ‬ ‫واالن ِب َثاق‪ ،‬أو «الخالص» أو َيحْ ُد ُث‬ ‫الوال َدة‪،‬‬ ‫بهذا ال ِفعْ ل‪َ ،‬تحْ ُد ُث ِ‬ ‫ْ‬ ‫الش‪ ،‬أو «الهالك»‪.‬‬ ‫االنهيار‪ ،‬وال َّت يِ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫عند بونفوا‪ ،‬يف لحظة الربزخ‪ ،‬بني االث َنينْ ‪ ،‬يف هذا املفرق‬

‫يمكن تفادِي َ‬ ‫الق ْصد من وُجود هذه العبارة يف َعمَ ٍل ِشعْ ِري‬ ‫َ‬ ‫َّس للحَ جَ ر‪ ،‬ليس حَ جَ ر أوس بن حَ جَ ر‪ ،‬الذي تمَ َّنى أن يكون‬ ‫مُ كر ٍ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ترَ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫الغياب‪ ،‬بل إنَّ‬ ‫الف َتى حَ جَ رًا‪ ،‬حتى ال يَخ ِقه املوْت‪ ،‬أو َيجْ ِرفه ِ‬

‫وباخ ِتفاء ال َّنهار‪ ،‬بنوع من ال َّت ُ‬ ‫ْ‬ ‫عاقب والتواليِ وال َّتبا ُدل‪َ .‬ف َكما يخرُجُ‬ ‫الليل من ال َّنهار‪ ،‬ي َْخرُجُ ال َّنهار من الليل‪ ،‬وال أحد منها ي َْس َت ِب ُّد‬

‫‬ما ُنترَ ِْجمُ ه نحن يف العربية بـ «القصيدة‬‬‬‬‬‬‬‬»‪.‬‬ ‫يف تصدير «حَ جَ ر مَ ْك ُتوب»‪ ،‬نقرأ هذه العبارة ْ‬ ‫«أن َ‬ ‫ت َت ْل َت ِقي‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫األشيَا َء ال َول َ‬ ‫ِيد َة» [حكاية شتاء]‪ .‬ال‬ ‫األشيا َء امل َِّي َت َة‪ ،‬وأنا ْأل َت ِقي‬

‫الحَ جَ ر‪ُ ،‬هنا‪ ،‬هو حَ جَ ر َ‬ ‫ياب‪ ،‬ي َُق ُ‬ ‫وله‪ ،‬كما‬ ‫بأث ٍر‪ ،‬حَ جَ ٌر ي يَِش ِ‬ ‫بالغ ِ‬ ‫أصمّ ‪ْ ،‬‬ ‫ي يَِش بالعُ بور‪ ،‬فهو َأث ٌر بعد َعينْ ٍ ‪ ،‬وليس حَ جَ رًا َ‬ ‫ملمُ ومً ا عىل‬ ‫راره؛ ما يعني‪َّ ،‬أننا يف هذا ِّ‬ ‫السياق‪ ،‬ويف عالقته بالنصوص‬ ‫أسْ ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫التي يف العمل‪ ،‬أو املقاطع‪ ،‬باألحرى‪ ،‬ووَفق الت ْصدِ ير‪ ،‬الذي‬ ‫ٌ‬ ‫وينبوع‪ ،‬ال ي َْف َتأ يُجَ ِّدد‬ ‫هو َع َتبَة َن َّصية‪ ،‬فثمَّ ة َت َخ ُّلق‪ ،‬ووالدة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫الحياة‪ ،‬مثلما َت َتجَ َّد ُد َّ‬ ‫الشمْ س‪ ،‬أو كما قال هرياقليط‪ ،‬فيلسوف‬

‫س التي نراها اليوم‪ ،‬ليست هي َّ‬ ‫الصيرْ ُورَة َّ‬ ‫َّ‬ ‫نفسها‬ ‫«الشمْ ُ‬ ‫الشمْ س ُ‬ ‫َ‬ ‫نفسه الذي يُعَ برِّ عنه يف قولِه‬ ‫البارحَ ة»‪ ،‬وهو املعْ نى ُ‬ ‫التي رأيْناها ِ‬ ‫َّ‬ ‫الشائع «ال يُمْ ِك ُنك أن َت ْسبَحَ يف [ماءِ ] ال َّنهْر مَ ر َ​َّتينْ ِ »‪.‬‬ ‫***‬

‫‪158‬‬

‫ثمَّ ة َخ َطرٌ‪ ،‬كما يقول جان ستاروبنسيك‪ ،‬يف تأرْجُ ح األشياء‬ ‫بني املَوْت والحَ ياةِ‪َ .‬‬ ‫ِّت‪ ،‬فإمَّ ا‬ ‫الخ َطر الذي هو ُخروج الحَ ّي من املَي ِ‬

‫ُ‬ ‫الكلمات‪ ،‬كما تتب َّدى عند بونفوا‪ ،‬هي‬ ‫الالمت َ​َوقَّ ع‪ ،‬أي ِبما‬ ‫ُوح على‬ ‫ُأفُ ق مفت ٌ‬ ‫ُ‬

‫اآلن ذاتِه‪،‬‬ ‫َي ْح ُد ُث من تَضافُ ر وتَنافُ ر‪ ،‬في‬ ‫ِ‬ ‫هنا‪ ،‬الت َّْركِيب‪ ،‬ال الكلمات‬ ‫والمقصود‪ُ ،‬‬ ‫ُ‬

‫الص ْرف‬ ‫ي ِّ‬ ‫الم ْع َج ِم ّ‬ ‫في إطارها ُ‬

‫ب والحَ ِرج‪َ ،‬تحْ ُدث الوالدة؛ ألنَّ َلحْ َظة ُ‬ ‫َّ‬ ‫الغروب‪ ،‬لي َْست‬ ‫الصعْ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ْان ً‬ ‫سائدا‪ ،‬بل َّإنها إيذانٌ ُ‬ ‫ً‬ ‫بظهور الليل‪،‬‬ ‫بثاقا ل ِل َّنهار الذي كان‬

‫ُ‬ ‫تذهب إليه تجربة بونفوا‪،‬‬ ‫باآلخر‪ ،‬و َيجْ ثم عليه‪ .‬وهذا هو ما‬ ‫يف رؤيتها ِّ‬ ‫الشعْ ِريَة التي تتأبَّى عىل املفاهيم‪ ،‬وعىل الحسابات‬

‫الع ْلمِ يَة‪ ،‬ذات َّ‬ ‫الطابَع الريايض املنطقي‪ ،‬رغم َّأنه هو رجل علم‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ِّياضيات‪ُ ،‬هما ما جعال بونفوا يبتعد‬ ‫العلم والر‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ورياضيات‪ ،‬بل إنَّ ِ‬ ‫دال برأْسَ ينْ ‪ ،‬أو بدالينَّْ‬ ‫الشعْ ر؛ ألنَّ ِّ‬ ‫من ال َّتجريد يف ِّ‬ ‫الشعْ ر‪ ،‬هو ٌّ‬

‫ُكبرْ َ يَينْ ‪ ،‬كما َّ‬ ‫أك ْد ُت يف أكرث من َعمَ ل‪ُ ،‬هما الخيال واإليقاع‪ ،‬ال‬ ‫ُ‬ ‫َت إىل ذلك ِّ‬ ‫اإليقاع وَحْ َده‪ ،‬كما َذ َهب ْ‬ ‫املعاصرَة عند هرني‬ ‫عرية‬ ‫الش‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ميشونيك‪ ،‬أو مَ نْ حَ ذا حَ ذوَه من العرب‪.‬‬

‫وبونفوا‪ ،‬حني ر َ​َف َ‬ ‫السرْيا ِليِّني‪ ،‬رغم ما‬ ‫ض البَقاء يف مُ ربّع ُّ‬ ‫تأثري يف املشهد ِّ‬ ‫الشعري ْ‬ ‫الس ِت ْغرا ِق ِهم يف‬ ‫كان َلهُم من‬ ‫اإلنساين‪ْ ،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫الخيال‪ ،‬ويف ما ُّ‬ ‫عدوه «كتاب ًَة أوتوماتيكي ًَّة»‪ ،‬وحني ْان َت َقد َذهاب‬ ‫ً‬ ‫جان بول سارتر‪ ،‬إىل األيديولوجيا‪ ،‬فهو كان‬ ‫حريصا عىل بناءِ‬ ‫َفهْمِ ه الخاص‪ ،‬أو ر ُْؤ َي ِته لعالقة َّ‬ ‫اعر بالكلمات‪ ،‬وعالق ِته‬ ‫الش ِ‬

‫بالواقع‪ ،‬أو بالطبيعة‪ .‬هذه البساطة يف تناوُل األشياء‪ ،‬ويف‬ ‫هانه ِّ‬ ‫ال َّن َظر إليها‪ ،‬كانت ِر َ‬ ‫الشعريّ والجمايل‪ .‬فهو لم يكن ِض َّد‬ ‫ُ‬ ‫تذهب إىل البسيط‪،‬‬ ‫الجمال‪ ،‬بل إنَّ ر ُْؤ َي َته للجمال‪ ،‬هي رؤية‬ ‫املُتاح‪ ،‬لكن‪ ،‬بنوع من ال َّتوْسيع‪ ،‬يف عالقة «الوردة» بتح ُّولِها إىل‬

‫«استعارة»‪ ،‬كما قال يف أحد أعماله ِّ‬ ‫الشعرية‪ .‬فهل يُمْ كِن ّ‬ ‫عد‬ ‫يتوخا ُه بونفوا يف تجربته ِّ‬ ‫َّ‬ ‫الشعرية‬ ‫جمالية البسيط‪ ،‬هي ما كان‬ ‫والنقدية معً ا؟‬

‫األفق الممكن لشعرية البسيط‬ ‫ْ‬ ‫تنطوي عليه‬ ‫كانت َت ْس َته ِْويه‪ ،‬بما‬ ‫َب ِق َي أنْ َنتساءَل‪ ،‬بصدد عالق ِة بونفوا‪ ،‬بال َّت ْشكيل‪ ،‬واملسرح‪ ،‬وال َّنحْ ث‪ ،‬والحِ جارة التي‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫خاصةٍ‪.‬‬ ‫وأيضا الفلسفة والفكر‪ ،‬وغريها مما له عالقة بحقول الجمال‪ ،‬بصور ٍة‬ ‫أسرار‪،‬‬ ‫من ْ‬

‫َسيط ال املُعَ َّقد‪ ،‬فهو كان‬ ‫يب ُْدو ليِ ‪ ،‬أنَّ ْان ِتصا َر بونفوا ل ِ​ِشعْ رية ال َّنص‪ ،‬و ِلو َْع ِيه‬ ‫الجمايل‪ ،‬يأيت يف سياق التأسيس لِجما ِليَّة الب ِ‬ ‫ّ‬ ‫مُ جْ برَ ًا‪ ،‬يف معرف ِته‪ ،‬ويف تكوينه‪ ،‬عىل أن َيحْ َتمِ َي بهذه ُ‬ ‫الفنون واملعارف‪ِ ،‬ل ُيعَ ِّ‬ ‫ض َد بِها هذه الجمالية‪ ،‬أو الحِ س الجماليِ ّ الذي‬ ‫ب إليه‪ ،‬أو بدا له هو ُ‬ ‫األفق املُمْ كِن ل ِ​ِشعْ ِرية ال ِبسيط‪ ،‬الذي ليس‪ ،‬هو َّ‬ ‫َذ َه َ‬ ‫بالضرُورَة امل ُْب َت َذل‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ومهما ي َُكن‪ ،‬فتجربة بونفوا‪ ،‬يف عالقته ُّ‬ ‫اختا َر أن ُيحْ َ‬ ‫بالل َغة‪ ،‬وبهذا املزج الخِ يمْ يائيِ ّ الذي ْ‬ ‫عالق ٌة‪،‬‬ ‫دِث به زواج الكلمات‪ ،‬هي‬ ‫الد َ‬ ‫َسعَ ى من خاللِها إىل تنويع َّ‬ ‫وسعَ ى‪ ،‬من جهة ثاني ٍة‪ ،‬إىل توظيف املجاز‪ ،‬لكن‪ ،‬بالبقاءِ يف‬ ‫اللة‪ ،‬من جهة‪َ ،‬‬ ‫السياق الجماليِ‬ ‫ِ‬ ‫الج ْسر الذي يربط بني َض َّف َتينْ ِ ‪َ ،‬ض َّفة اللفظة يف‬ ‫الذي ا ْب َت َد َعه‪ ،‬ومن خاللِه‪َ ،‬ك َتب أشعا َر ُه‪ ،‬وجعلها قابِ َل ًة ألنْ تكون بمثاب ِة ِ‬ ‫كمثال‪َ ،‬‬ ‫وض َّفة التوسيع‪ ،‬الذي ي َْخرُج َّ‬ ‫ذاكرتها‪َّ ،‬‬ ‫بالشجَ رَة من املَعْ َنى العامّ ‪ ،‬السائِد وامل ُْب َت َذل‪ .‬ويف هذا املفرق‪َ ،‬تحْ ُدث‬ ‫الشجرة‪،‬‬ ‫ٍ‬

‫بعض ْال ِتباسات فهم الوعي الجمايل‪ ،‬يف تجربة بونفوا‪ ،‬التي هي تجربة امل َُتفرِّد‪ ،‬والباحِ ث عن املُغاي ِ ِر وامل ُ ْخ َتلِف‪.‬‬

‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬


159


‫آثار‬

‫مقدمة في لغة النقوش‬ ‫اللحيان َّية وتاريخها‬ ‫محمد علي الحاج‬ ‫باحث يمني بقسم اآلثار في كلية السياحة‬ ‫واآلثار بجامعة الملك سعود‬

‫‪160‬‬

‫ملحة تاريخية‬

‫بينما يرى آخرون أن شعب لحيان من الشعوب العربية‬

‫تقع مدينة العال عاصمة مملكة لحيان يف وادي القرى‬

‫الجنوبية األصل‪ ،‬كون بليني ذكرهم يف جملة شعوب العربية‬

‫الجبال يف الشرق والغرب‪ ،‬عىل بعد ‪ 22‬كيلو مرتًا جنوب مدائن‬

‫من أصل عربي جنوبي‪ ،‬ورود اسم لحيان يف النقوش العربية‬

‫جنوب شرق حرة عويرض‪ ،‬ويف وا ٍد ضيق بني سلسلة من‬ ‫صالح‪ ،‬عىل الطريق التجاري الذي يربط املحيط الهندي عرب غرب‬

‫الجزيرة العربية بالبحر األبيض املتوسط مارًّا بمكة ويرثب وخيرب‬

‫ومدائن صالح‪ ،‬وهذا الطريق كان له الفضل يف ازدهار مدينة‬ ‫العال خالل عصور ما قبل اإلسالم (أبو الحسن‪1997 ،‬م‪.)32 :‬‬

‫وقد سكن هذه املنطقة مجموعة قبائل عربية استطاعت‬ ‫أن تؤسس دولاً امتد تاريخها من القرن السادس قبل امليالد‪،‬‬ ‫إىل الثاين امليالدي‪ ،‬كان أولها كما يرى الدكتور عبدالرحمن‬

‫األنصاري‪ ،‬قبيلة دادان‪ ،‬ثم قبيلة لحيان‪ ،‬ثم املعينيني الذين‬ ‫انتهى حكمهم عىل يد األنباط (األنصاري‪1975 ،‬م‪.)79 :‬‬

‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬

‫الجنوبية؛ مما يؤيد وجهة نظر من يرى أن اللحيانيني هم‬

‫الجنوبية املعروفة باملسند مثل‪( :‬أب يدع ذلحني) أي‪( :‬أبيدع‬ ‫اللحياين) (عيل‪1978 ،‬م‪.)244 :‬‬

‫وقد أظهرت األعمال األثرية يف جنوب الجزيرة العربية‬

‫وشمالها أن مملكة لحيان قد عاشت كشعب يف شمال الجزيرة‬

‫العربية‪ ،‬وامتد سلطانها حتى شمل معظم أجزائها الشمالية‪،‬‬

‫وكانت عاصمتها فيما يبدو منطقة الخريبة‪ ،‬التي هي جزء‬ ‫من مدينة العال حاليًا‪ ،‬ثم توسعت حتى شملت مدينة العال‬ ‫بحجمها الحايل جنوبًا‪ ،‬وامتدت حتى قبيل مدائن صالح (الحجر‬ ‫شمالاً )‪ ،‬ومما يساعدنا عىل هذا التحديد انتشار الكتابات‬


‫اللحيانية يف املنطقة؛ مثل‪ :‬جبل الخريبة‪ ،‬وجبل عكمة‪ ،‬ووادي‬ ‫ساق‪ ،‬وتلعة الحمادي‪ ،‬وأبي عود وغريها‪( .‬اللحياين مساعد‪،‬‬ ‫‪2004‬م‪.)27 :‬‬

‫جنوب الجزيرة العربية عالقات اقتصادية وسياسية متينة‪ ،‬وفق‬

‫ما أشار إليه النقش أعاله‪ ،‬ونقوش مسندية أخرى‪.‬‬ ‫الدراسات السابقة‬

‫كما أظهرت الحفريات األثرية يف قرية ذات كهل (الفاو‬ ‫حاليًا) وجودًا واضحً ا وفعالاً للحيان‪ ،‬حيث ُعرث عىل نصب‬

‫يعد الرحالة اإلنجليزي تشارلز داويت الذي زار املنطقة عام‬

‫لحيانية‪ ،‬وكذلك كثري من النصوص التي تحمل أسماء وقبائل‬

‫أخرى من النقوش اآلرامية والثمودية والنبطية واإلسالمية‬

‫ورغم ما ذهب إليه الدارسون عن أصل اللحيانيني وحقبة‬

‫صدر عام ‪1884‬م‪ ،‬ثم أعقبه يف عام ‪1884‬م الرحالة واملستشرق‬

‫بتشجيع من البطاملة ليتمكنوا من الضغط عىل األنباط الذين‬

‫تشارلز هوبر وقاما باستنساخ مجموعة من النقوش اللحيانية‬

‫تذكاري ُق ِّدمت للمعبود ذي غيبة‪ ،‬ووجود مقابر عائلية‬

‫لحيانية (أبو الحسن‪1997 ،‬م‪.)7 :‬‬

‫حكمهم من حيث إن ظهورهم كان يف عهد بطليموس الثاين‬ ‫يعملون عىل عرقلة التجارة (عيل‪1978 ،‬م‪ ،)246-245 :‬أو ما‬

‫‪1876‬م أول من قام باستنساخ النقوش اللحيانية مع مجموعة‬ ‫يف كتابه‪( :‬وثائق نقشية من شمال الجزيرة العربية) الذي‬

‫األملاين يوليوس أويتنغ الذي زار املنطقة برفقة الرحالة الفرنيس‬

‫(السعيد‪2001 ،‬م‪.)334-333 :‬‬

‫يأت إال بعد‬ ‫ذهب إليه كاسكل من أن الوجود اللحياين لم ِ‬

‫وعىل ضوء دراسة هوبر وأويتنغ نشر موللر كتابه عام‬ ‫‪1889‬م الذي خصص قسمًا منه لدراسة ‪ً 75‬‬ ‫نقشا لحيانيًّا (أبو‬

‫(اللحياين مساعد‪2004 ،‬م‪)33 :‬؛ فإننا نرى من خالل ما جاء يف‬

‫فك رموز الكتابة اللحيانية اعتمادًا عىل النقوش التي كان قد‬

‫الوجود املعيني يف الشمال حيث انتزع اللحيانيون الحكم منهم‬ ‫عام (‪ )150‬قبل امليالد بعد أن ضعف حكم املعينني يف الجنوب‬

‫النقوش املسندية أن الوجود اللحياين يف العال كان مبك ًرا‪ ،‬رافق‬ ‫ظهور ممالك جنوب الجزيرة العربية‪ ،‬بدليل أنه كشف مؤخ ًرا‬

‫عن نقش سبئي يف جوف اليمن يؤرخ ببداية القرن السادس قبل‬ ‫امليالد‪ ،‬جاء فيه ذكر كثري من األماكن يف الجزيرة العربية؛ منها‪:‬‬ ‫دادان ولحيان (‪:)Demirjian 1‬‬

‫حيث يذكر صاحب ذلك النقش القائد (صبحهمو بن عم‬

‫شفق بن رشوان النشقاين) املهام الحربية والدبلوماسية التي‬ ‫كلفه بها سيده امللك (يدع إيل بني بن يثع أمر) ملك سبأ؛‬

‫من بينها أن صبحهمو (ركل ومصر عد ددن وغزة) بمعنى‬

‫(ذهب يف حملة إىل دادان وغزة)‪ ،‬ويف السطر الثامن عشر‬ ‫والتاسع عشر من النقش نفسه يرد ذكر (أرض ذكرم ولحيان)‬

‫(‪.)Robindemaigret 2009,83‬‬

‫وبحق فإن هذا النقش يعد وثيقة مهمة عىل ِقدَم املمالك‬

‫العربية يف شمال الجزيرة العربية التي كان يربطها بممالك‬

‫الحسن‪2002 ،‬م‪ .)17 :‬هذا ويعود لهايرن شموللر الفضل يف‬

‫أحضرها يوليوس أويتنغ عام ‪1884‬م‪ ،‬مع أن البداية ملحاولة فك‬ ‫رموز الخط اللحياين كانت من قبل يوسف هاليفي الذي قام‬

‫بقراءة أربعة نصوص لحيانية كان قد جلبها معه تشارلز داويت‬ ‫عام ‪1876‬م (السعيد‪2001 ،‬م‪ .)334 :‬ويف عام ‪1909‬م زار منطقة‬

‫العال كل من جوسني وسافينياك‪ ،‬واستطاعا خالل هذه الزيارة‬ ‫نقشا لحيانيًّا و‪ً 660‬‬ ‫جمع ما يقارب ‪ً 380‬‬ ‫نقشا ثمود ًّيا ومجموعة‬

‫من الكتابات املعينية والنبطية واإلغريقية‪ ،‬وقاما بدراسة هذه‬ ‫النقوش وتحليلها‪ ،‬ويعد عملهم من أهم الدراسات التاريخية‬

‫واألثرية بالعال ومدائن صالح‪.‬‬

‫ييل ذلك الدراسة التي قام بها جريمي عام ‪1937‬م عن‬ ‫النقوش التي جمعت من العال؛ إذ ميز أشكالاً من الحروف‬

‫لها ميزات خاصة من باقي األحرف‪ ،‬ثم دراسة العالم وينت‬ ‫(‪ )Winnett‬عام ‪1937‬م عن النقوش اللحيانية والثمودية‪،‬‬ ‫وتعد دراسته من الدراسات املهمة؛ إذ استطاع أن يفرق بني‬

‫‪161‬‬


‫آثار‬

‫حريف امليم والجيم‪ ،‬وحريف الضاد والطاء يف اللحيانية املتأخرة‪،‬‬ ‫إضافة إىل تناوله تطور الكتابة الثمودية والدادانية (أبو الحسن‪،‬‬

‫‪1997‬م‪.)26-25 :‬‬

‫كذلك دراسة كاسكل (‪ )Kaskel‬عام ‪1953‬م عن مملكة‬

‫لحيان واللحيانيني التي تناول فيها موضوع النقوش اللحيانية‬

‫والدادانية‪ ،‬ووضع قائمة باألبجدية اللحيانية‪ ،‬والتسلسل الزمني‬ ‫لدادان ولحيان ومعني‪ ،‬ودرس ‪ً 112‬‬ ‫نقشا من النقوش التي درسها‬

‫جوسني وسافينياك‪ ،‬ويعود إليه الفضل يف أنه أول من حاول‬ ‫دراسة الكتابات العربية القديمة بحروف عربية‪ ،‬ويعد ما قام به‬ ‫كاسكل أفضل ما ُق ِّدم عن مملكة لحيان‪ ،‬إضافة إىل الدراسة التي‬

‫الحسن‪2002 ،‬م‪.)395 -27 :‬‬

‫بعض خصائص النقوش اللحيانية ومضمونها‬

‫وجدت الكتابات اللحيانية يف منطقة العال يف شمال غرب‬

‫اململكة العربية السعودية‪ ،‬حيث أقيمت حضارة مملكة لحيان التي‬ ‫كانت سائدة يف تلك املنطقة يف املدة من بداية القرن السادس قبل‬

‫امليالد إىل نهاية القرن الثاين قبل امليالد‪ .‬وقد اشتق القلم اللحياين‬

‫من القلم املسند‪ ،‬مثله مثل القلم الثمودي والصفوي؛ ذلك ألن‬

‫قام بها روث شتيل (‪ )Stiehl‬عام ‪1971‬م عن مجموعة من النقوش‬ ‫اللحيانية يف عكمة التي تشتمل عىل دراسة أربعني ً‬ ‫نقشا‪.‬‬

‫عىل كتابات معينية يف العال أقدم عه ًدا من الكتابات اللحيانية‬

‫أعدها الدكتور عبدالرحمن األنصاري عام ‪1966‬م‪ ،‬عن أسماء‬

‫وما يميز الكتابات اللحيانية أن مدونيها لم يتقيدوا بهندسة‬

‫ومن الدراسات العربية عن النقوش اللحيانية الدراسة التي‬

‫األعالم اللحيانية يف رسالته للدكتوراه‪ ،‬تناول فيها التحليل لنقوش‬ ‫من منطقة العال وآثارها‪ ،‬ومقارنة هذه األسماء مع أخرى سامية‬

‫من فلسطني وسوريا وغريهما (أبو الحسن‪1997 ،‬م‪.)27 :‬‬

‫‪162‬‬

‫كذلك رسالته للدكتوراه عن نقوش لحيانية من منطقة العال‬ ‫التي شملت دراسة ‪ً 151‬‬ ‫نقشا لحيان ًّيا جديدًا من منطقة العال (أبو‬

‫القلم املسند متقدم يف الوجود عىل هذه األقالم‪ ،‬بدليل العثور‬ ‫والثمودية (عيل‪1978 ،‬م‪.)231-230 :‬‬

‫أشكال الحروف كما هو متبع يف املسند الجنوبي؛ مما نتج عنه‬ ‫تعدد أشكال الحروف‪ ،‬ومعظم الكتابات اللحيانية تبدأ من اليمني‬

‫إىل اليسار ما عدا بعض النقوش القليلة جدًّا‪ ،‬فإنها تبدأ من اليسار‬

‫ومن أهم الدراسات عن النقوش اللحيانية ما قام بها أبو‬

‫وتتجه إىل اليمني‪ ،‬ويف هذه الحالة توجه الحروف باتجاه معاكس‬

‫إىل جانب إعادة دراسة أربعني ً‬ ‫نقشا لحيان ًّيا كان قد قام بدراستها‬

‫الواحد أكرث من شكل إال أنها متقاربة‪ ،‬كما أن الكتابة اللحيانية ال‬

‫الحسن يف رسالة املاجستري عام ‪1996‬م ونشرت عام ‪1997‬م؛ إذ‬ ‫شملت دراسة مئة وستة وخمسني ً‬ ‫نقشا لحيانيًّا من جبل عكمة‬ ‫روث شتيل (أبو الحسن‪1997 ،‬م‪.)500-39 :‬‬

‫أظهرت الحفريات األثرية في قرية ذات‬ ‫واضحا وفعا‬ ‫وجودا‬ ‫حاليا)‬ ‫كهل (الفاو‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫للحيان‪ ،‬حيث ُعثر على نصب تذكاري‬

‫لاً‬

‫ُقدمت للمعبود ذي غيبة‪ ،‬ووجود مقابر‬ ‫عائلية لحيانية‬

‫ملا هو معروف‪.‬‬ ‫ً‬ ‫والحروف اللحيانية تعدادها سبعة وعشرون حرفا‪ ،‬وللحرف‬ ‫تستعمل حروف اللني إال نادرًا‪ ،‬وتعنى بذلك بعض النقوش التي‬

‫تعود إىل الحقبة اللحيانية املتأخرة التي ُعرث عليها يف موقع أم درج‪،‬‬

‫حيث بدأت تظهر حروف اللني يف بعض األسماء مثل‪( :‬ذ غ ب ت)‬ ‫أصبحت ُتك َتب‪( :‬ذ غ ي ب ت)‪ .‬كما أن الفاصل بني الكلمات له‬ ‫أكرث من شكل يف الكتابات اللحيانية؛ ففي بعض النقوش يكتب‬

‫عىل شكل خط عمودي‪ ،‬ويف نقوش أخرى يكتب عىل شكل خطني‬ ‫ً‬ ‫وأحيانا يكون عبارة عن نقطتني متقابلتني أو‬ ‫أفقيني متقابلني‪،‬‬ ‫نقطة واحدة‪ ،‬وهناك نقوش تخلو من الفواصل بني الكلمات‪ ،‬كما‬

‫الفعل في النقوش اللحيانية‪ ..‬ماض ًيا‬ ‫يأيت الفعل يف النقوش اللحيانية بصيغة املايض؛ مثل‪:‬‬

‫حروف الجر‪ ،‬فهي حرف الباء‪ ،‬وهي تسبق األماكن‪( :‬ببدر)‪ ،‬وحرف‬

‫ورد يف نقش (أبو الحسن ‪ )38‬بصيغة ييسر‪ ،‬أي يسهل‪ .‬ويرجع‬

‫له)‪ ،‬كذلك حرف الالم‪( :‬لذغيبة)‪ ،‬وحرف الجر من‪( :‬من دثأ) (أبو‬

‫نذر‪ ،‬أطلل‪ ،‬فعل‪ ،‬ثلم‪ ،‬ويندر استخدام الفعل املضارع حيث‬ ‫السبب يف مجيء معظمها بصيغة املايض أنها كتبت بعد القيام‬ ‫بالعمل الذي تتحدث عنه النقوش‪ .‬كما استخدم اللحيانيون‬ ‫ً‬ ‫ملحقا‬ ‫حرف الهاء ضمريًا متصلاً للمفرد املذكر واملؤنث الغائب‬ ‫بالفعل؛ مثل‪( :‬فرضيهم‪ ،‬أثابه)‪ ،‬كذلك اس ُتخدم حرفا الهاء‬ ‫وامليم ضمريًا متصلاً بالفعل يف حالة الجمع؛ مثل‪( :‬أثابهم)‪ .‬أما‬

‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬

‫الجر عن‪( :‬عن فرضه)‪ ،‬وعل‪( :‬عل ذكن لهم)‪ ،‬وعىل‪( :‬عىل ما كان‬ ‫الحسن‪1997 ،‬م‪.)410 :‬‬

‫وللتنوين حضور يف النقوش اللحيانية يتمثل يف إضافة حرف‬

‫النون يف آخر الكلمة‪ ،‬كما جاء يف نقش (أبو الحسن ‪« )35‬أطلل‪/‬‬ ‫طللن» بمعنى‪« :‬أطلل طللاً »‪ .‬كذلك صيغة املضاف واملضاف إليه؛‬

‫مثل‪( :‬نخله) فنخل مضاف‪ ،‬والهاء مضاف إليه‪( .‬املرجع السابق‪،‬‬


‫مقدمة في لغة النقوش اللحيان َّية وتاريخها‬

‫أن بعض الخطوط اللحيانية جاءت دقيقة يف كتابتها يظهر عليها‬

‫حيث يذكر النقش أن الحدث وقع يف سنة كذا من حكم امللك‬

‫ومعظم النقوش اللحيانية التي ُعرث عليها يف منطقة العال‬

‫التسلسل الزمني ململكة لحيان‪ ،‬وأن الحكم يف لحيان كان وراثيًّا‪،‬‬

‫العناية والدقة (أبو الحسن‪2002 ،‬م‪.)303 :‬‬

‫تتحدث عن أمور شخصية يف الغالب إال أنها أمدَّتنا بمعلومات‬

‫ذات فائدة كبرية عن تاريخ لحيان‪ ،‬فعىل سبيل املثال جاءت‬ ‫النقوش اللحيانية لتلقي مزيدً ا من الضوء عىل النواحي الدينية‬

‫عند اللحيانيني‪ ،‬فهناك نقوش تتحدث عن تقديم قرابني‪ ،‬وأخرى‬

‫عن تقديم زكاة‪ ،‬وأخرى تتحدث عن الحج للمعبود ذي غيبة‬

‫أو املعبود خرج‪ ،‬ومن النقوش اللحيانية ما تتحدث عن أنواع‬

‫النذور والقرابني التي كان يقدمها اللحيانيون ملعبوداتهم‪ ،‬إضافة‬ ‫إىل أسماء اآللهة والشخصيات التي وردت يف النقوش‪ ،‬وجميع‬

‫النقوش السابقة عىل الرغم من أنها دينية فإنها إثبات ملكية‬

‫(أبو الحسن‪1997 ،‬م‪ ،)406 :‬وما يميز النقوش اللحيانية من باقي‬

‫النقوش الشمالية أن بعضها مؤرخ بسنوات حكم ملوك لحيان‪،‬‬

‫فالن (سنة خمس برأيهنأوس بن تلمي)؛ مما ساعد عىل معرفة‬ ‫ويف معرفة تطور الكتابة من خالل أشكال الحروف (أبو الحسن‪،‬‬ ‫‪2002‬م‪.)304 :‬‬

‫وتتشابه النقوش اللحيانية من ناحية املضمون وبخاصة‬

‫النقوش الدينية؛ إذ تبدأ جميعها بأسماء أعالم بسيطة أو مركبة‪،‬‬ ‫وييل األسماء بعض األفعال التي تدل عىل العمل الذي قام به‬

‫صاحب النقش؛ مثل‪( :‬أطلل‪ ،‬أطلت‪ ،‬نذر‪ ،‬نذرت) كتقديم زكاة‪،‬‬ ‫أو قربان‪ ،‬أو نذر‪ ،‬أو حجّ ‪ ،‬أو غري ذلك من األعمال‪ ،‬ثم يأيت اسم‬ ‫املعبود الذي قدم له العمل‪ ،‬ويف أكرثها يكون املعبود ذا غيبة‬

‫يليه املعبود خرج‪ ،‬ثم عبارات طلب الرضا والسعادة من املعبود‬ ‫لصاحب النقش وذريته‪ ،‬ويف بعضها يطلب صاحب النقش من‬

‫املعبود إلحاق الضرر بمن يتلف أو يدمر النقش‪.‬‬

‫‪ .)413‬أما أداة التعريف يف النقوش اللحيانية فهي حرف الهاء يف‬

‫يف النقوش اللحيانية شواهد تدل عىل معرفة اللحيانيني بنظام‬

‫(الطلل)‪.‬‬

‫األرقام‪ ،‬فالرقم واحد يعرب عنه بخط عمودي‪ ،‬ويتكرر حتى الرقم‬

‫بداية الكلمة؛ مثل‪( :‬هـ ن ق) بمعنى‪ :‬النوق‪ ،‬و(ه ط ل ل) بمعنى‪:‬‬ ‫وجميع النقوش اللحيانية التي ُعرث عليها يف منطقة العال‬

‫كانت مكتوبة إما عىل واجهات صخرية يف سفوح الجبال وقممها‪،‬‬ ‫أو عىل ألواح حجرية ُنحتت لهذا الغرض‪ ،‬أو عىل مذابح ومجامر‬ ‫منحوتة من الحجر‪ ،‬ولم يوجد أي كتابة عىل املعادن‪ ،‬وتتفاوت‬

‫أحجام النقوش اللحيانية بني الطويل والقصري‪ ،‬فهناك نقوش‬ ‫ً‬ ‫حرفا‪،‬‬ ‫يتجاوز عدد سطورها ‪ 12‬سط ًرا‪ ،‬كل سطر يحتوي عىل ‪24‬‬ ‫ومنها ما هو عبارة عن كلمة أو كلمتني تمثل اسم شخص‪ .‬وظهرت‬

‫العدد والرتقيم‪ ،‬وذلك إما بكتابتها حسب نطقها أو حسب‬ ‫تسعة‪ ،‬أما العشرة فتكون عبارة عن دائرة أو معني‪ ،‬والرقم‬ ‫عشرون عبارة عن دائرتني‪ ،‬واألربعون شكل العشرين مرتني (أبو‬ ‫الحسن‪2002 ،‬م‪.)306 :‬‬

‫كما جاء يف النقوش اللحيانية وبخاصة املتأخرة منها ما يدل‬

‫عىل قربها من اللغة العربية الفصحى‪ ،‬ومن هذه الجمل‪..( :‬أن‪/‬ي‬ ‫ك ن‪ /‬ل هـ‪ /‬و ل د‪ /‬ف ر ض هـ‪ /‬وأ خ ر ت هـ) بمعنى‪ :‬إن يكن له ولد‬

‫فرضيه وأخرته (الرضا عنه)‪( .‬أبو الحسن‪ ،‬املرجع السابق)‪.‬‬

‫‪163‬‬


‫إعالم‬

‫في مواجهة‬ ‫التضليل اإلعالمي‬ ‫بدر اإلبراهيم‬ ‫كاتب سعودي‬

‫‪164‬‬

‫لعل كثيرًا منا سمع هذا النوع من العبارات في الماضي القريب‪ :‬نحن في زمن االنكشاف‬

‫المعلوماتي‪ ،‬ال شيء يمكن إخفاؤه في عصر الصورة‪ ،‬تمرير الكذب بات صعبًا مع ثورة‬

‫االتصاالت وتكاثر وسائل اإلعالم‪ ،‬ال يمكن حجب المعلومة في عصرنا‪ .‬راجت هذه العبارات‬ ‫وغيرها‪ ،‬مع الدهشة التي رافقت التقدم التقني‪ ،‬وزيادة عدد الفضائيات‪ ،‬وتوسع شبكة‬

‫اإلنترنت‪ ،‬وسهولة االتصال بالعالم‪ ،‬ومنطلق هذه العبارات كلها‪ ،‬يتلخص في إيمان من‬ ‫يرددها بنهاية عصر األكاذيب والضحك على الذقون‪ ،‬وتقليدية اإلعالم الرسمي‪ ،‬بفعل‬ ‫االتصاالت المتطورة‪ ،‬وعدسات الكاميرات المصوبة للمشهد‪ ،‬من الفضائيات والمواطنين‬

‫على السواء‪ ،‬حيث يصعب خداع الناس برواية إعالمية في هذه الحالة‪.‬‬

‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬


‫من يتابع اإلعالم يف السنوات األخرية‪ ،‬بشقيه التقليدي‬

‫والجديد «شبكات التواصل االجتماعي»‪ ،‬يجد أن العبارات‬

‫املذكورة كانت حاملة‪ ،‬وبعيدة تمامً ا عن الواقع؛ فالتطور التقني‬

‫زاد من إمكانية التضليل والخداع‪ ،‬ولم يقلصها‪ ،‬ولم تعد الشكوى‬

‫يف األغلب من حجب املعلومات أو إخفائها‪ ،‬بل من سيلها العارم‬ ‫وتضاربها؛ إذ يعاين املتلقي التدفق الكثيف واملتواصل للمعلومات‪،‬‬

‫ويصبح ضروريًّا أن يقوم بفرزها‪ ،‬إذا كان يريد بالفعل الوصول‬

‫إىل الحقائق‪ ،‬وهو ما يستدعي بذل مجهود كبري يف التحقق‬ ‫والتدقيق‪ ،‬وتقديم الشك والتساؤل حول كل معلومة‪.‬‬

‫لم يكن تطور أدوات االتصال والتوثيق سوى فرصة للتالعب‪،‬‬

‫فكامريات الفيديو التي أصبحت يف كل الهواتف النقالة‪ ،‬والصورة‬ ‫الناتجة عنها‪ ،‬التي َّ‬ ‫ِّي «صحافة املواطن»‪ ،‬حيث‬ ‫بشرت بما سُ م َ‬

‫بمقطع‬ ‫اإلنسان العادي يمكنه أن يصنع الخرب ويحرك الرأي العام‬ ‫ٍ‬ ‫مصور‪ ،‬تبني أنها تساعد يف التضليل‪ ،‬عرب االقتطاع وعدم نقل‬ ‫املشهد كاملاً‬ ‫ً‬ ‫أحيانا‪ ،‬أو عرب املونتاج الذي يوجه مقطع الفيديو‬ ‫أمر غري موجود‬ ‫نحو إدانة هذا أو تربئة ذاك بالفربكة واصطناع ٍ‬ ‫عىل أرض الواقع‪ .‬عززت أدوات االتصال املتطورة يف العموم فرص‬ ‫ٌ‬ ‫التضليل ً‬ ‫وسط ينضح‬ ‫أيضا‪ ،‬فشبكات التواصل االجتماعي مثلاً هي‬ ‫بأنواع اإلشاعات واألكاذيب سريعة االنتشار‪ ،‬وهي إشاعات تشمل‬

‫مجاالت مختلفة‪ ،‬لكنها تؤكد ذات الفكرة‪ ،‬من أن ثورة االتصاالت‬ ‫ٍ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫يمكن أن توَظف يف التضليل والخداع‪.‬‬

‫التطور التقني زاد من إمكانية التضليل‬ ‫والخداع‪ ،‬ولم يقلصها‪ ،‬ولم تعد الشكوى‬ ‫في األغلب من حجب المعلومات أو‬ ‫إخفائها‪ ،‬بل من سيلها العارم وتضاربها‬

‫اإلعالم املنحاز‬

‫ليس هناك وسيلة إعالم محايدة؛ إذ إن لكل وسيلة إعالم‬

‫توجهًا ورأيًا‪ ،‬ينبثق من توجه مالكيها ومن يديرونها‪ ،‬وهذا يشمل‬ ‫اإلعالم العربي والغربي عىل السواء‪ .‬ربما بسبب سوء اإلعالم‬

‫العربي‪ ،‬بالذات يف أزمنة ماضية‪ ،‬وغياب املصداقية فيما يبثه‪،‬‬ ‫تنتشر أسطورة عىل نطاق واسع‪ ،‬مضمونها أن اإلعالم الغربي‬

‫متفوق عىل صعيد املصداقية واملوضوعية‪ ،‬أو أنه مستقل تمامً ا‪،‬‬ ‫لكن أبسط فحص لهذه األسطورة‪ ،‬يخلص إىل عدم دقتها؛ إذ‬

‫إن اإلعالم الغربي يف أغلبه‪ ،‬يتحرك يف إطار مصالح املتنفذين من‬ ‫ً‬ ‫ونفوذا سياسيني‪،‬‬ ‫أصحاب رؤوس األموال‪ ،‬الذين يملكون توجهًا‬ ‫أو يرتبطون بصناع السياسات‪ ،‬وهذا اإلعالم ال ينفصل عن‬

‫املؤسسة الحاكمة يف البلدان الغربية بخطوطه العامة؛ إذ يعرب‬

‫هذا اإلعالم عن قيم املؤسسة الحاكمة ورؤيتها العامة‪ ،‬وإن كان‬ ‫أكرث حرية يف نقدها‪ ،‬كما أن الصحفيني الغربيني‪ ،‬مثل غريهم‪،‬‬

‫عرضة للتأثريات املالية والسياسية‪ ،‬التي تجعلهم يكتبون مقاالت‪،‬‬

‫بحمالت‬ ‫أو يصيغون تقارير مع هذا أو ضد ذاك‪ ،‬ويقومون‬ ‫ٍ‬

‫أجندات محددة‪.‬‬ ‫إعالمية ضخمة تخدم‬ ‫ٍ‬

‫ال يوجد إعالم محايد‪ ،‬واالنحياز مفهوم‪ ،‬لكن املوضوعية‬

‫مطلوبة‪ ،‬ونعني هنا محاولة مقاربة الحقائق بغض النظر عن‬

‫االنحيازات‪ .‬املوضوعية الكاملة ال يمكن تحقيقها‪ ،‬لكن السعي‬ ‫ألعىل درجة من املوضوعية ركيزة مهمة ألي وسيلة إعالم‪ ،‬غري‬

‫أن اإلعالم العربي‪ ،‬خالل السنوات األخرية‪ ،‬ودّع الحد األدىن‬ ‫من املوضوعية‪ .‬ومع اشتعال األزمات يف املنطقة العربية‪ ،‬صارت‬

‫أغلبية وسائل اإلعالم أدوات للتعبئة والتحشيد‪ ،‬لصالح خيارات‬

‫سياسية محددة‪ ،‬ولم تعد تهتم بنقل الخرب بشكل اعتيادي؛ بل‬ ‫بالتعليق عىل الخرب يف أثناء تقديمه‪ ،‬والتالعب بالخرب نفسه‪،‬‬

‫لخدمة التوجه الذي تتبناه‪.‬‬

‫‪165‬‬


‫إعالم‬

‫انتقلنا من تراجع املوضوعية إىل انعدامها تقريبًا‪ ،‬يف وسائل‬

‫اإلعالم التقليدية‪ ،‬وسطوة الدعائية عىل نقل الخرب‪ ،‬أما اإلعالم‬

‫الجديد‪ ،‬الذي ُروِّجَ له بوصفه الحالة املتجاوزة لحسابات ومصالح‬ ‫ً‬ ‫مكانا مالئمًا لنشر الشائعات وفربكة‬ ‫اإلعالم التقليدي‪ ،‬فقد أصبح‬ ‫ً‬ ‫خزانا إسرتاتيجيًّا لوسائل اإلعالم التقليدية‪،‬‬ ‫األخبار والصور‪ ،‬وصار‬

‫عىل مستوى األخبار واملقاطع املصورة املفربكة‪ ،‬وهو بالطبع ال‬ ‫ينفصل عن التأثريات املالية واإلعالمية خارجه‪ ،‬وقد وضعت وسائل‬

‫اإلعالم التقليدية أقدامها فيه؛ لتبث أخبارها لرواده‪ ،‬ونجومها‬ ‫يتصدرون قائمة األكرث متابعة يف شبكات اإلعالم الجديد املختلفة‪.‬‬

‫الناس واهتماماتهم بناءً عىل الخرب املتصدر؛ بل أصبح التعبري عن‬ ‫االنحياز متمثلاً بالذهاب بعيدً ا يف التالعب بالخرب‪.‬‬

‫يف هذا اإلطار‪ُ ،‬تص َنع خدعة أساسية‪ ،‬تتمثل يف وجود‬ ‫ً‬ ‫مضمونا‬ ‫«مطبخ» لصناعة األخبار‪ ،‬يصنع فيه الخرب ليتواءم‬

‫ً‬ ‫وصياغة مع أجندة محددة‪ ،‬ويخرج الخرب ليتوزع عىل مجموعة‬

‫من وسائل اإلعالم املختلفة‪ ،‬من صحف وقنوات فضائية ومواقع‬ ‫إلكرتونية‪ ،‬وتقوم برتويجه ً‬ ‫أيضا مجموعات من املوظفني يف هذه‬

‫القنوات والصحف‪ ،‬يف مواقع التواصل االجتماعي‪ ،‬فينتشر بسرعة‬

‫االنحياز وسط األزمات الكربى يدفع إىل استخدام الكذب‬

‫فائقة‪ ،‬ويصبح املتلقي أمام تدفق هائل للخرب نفسه‪ ،‬من مجموعة‬

‫الناس؛ لجذبهم نحو الخيار السيايس الذي تتبناه الوسيلة‬

‫هذه تستقي الخرب من جهة واحدة طبخت الخرب وأعدَّته‪ ،‬أي أنها‬

‫والتضليل‪ ،‬واالستعانة بالخطاب الشعبوي‪ ،‬واستنفار عواطف‬ ‫اإلعالمية‪.‬‬

‫أساليب التضليل‬

‫كبرية من وسائل اإلعالم‪ ،‬من دون أن ينتبه ألن كل وسائل اإلعالم‬

‫ليست مصادر متعددة للخرب‪ ،‬بل مصدر واحد بقنوات متعددة‪،‬‬ ‫تسهم كلها يف إغراق الناس باألخبار واملعلومات‪ ،‬التي تخدم‬

‫توجهًا محددًا لهذه الجهة‪.‬‬

‫أسايس لخدمة توجه وسائل‬ ‫دغدغة العواطف اإلنسانية أمر‬ ‫ّ‬

‫الضخ املتواصل واإلغراق باألخبار‪ ،‬حول مسألة معينة‪ ،‬يضمن‬

‫مع رفدها بصور أو مقاطع‪ ،‬معدلة أو مفربكة‪ ،‬ليكتمل استنفار‬

‫أعصابه وعواطفه بشكل متتابع ومستمر‪ ،‬وحتى لو شكك املتلقي‬

‫اإلعالم‪ ،‬ويمكن مالحظة صياغة األخبار يف إطار هذه الدغدغة‪،‬‬ ‫املشاعر‪ .‬لم يعد االنحياز يعرب عن نفسه بتغيري ترتيب األخبار‪،‬‬

‫‪166‬‬

‫ولفت الجمهور لخرب بعينه وإهمال آخر‪ ،‬وتاليًا صياغة أولويات‬

‫اإلعالم الجديد‪ ،‬الذي ُر ِّو َج له بوصفه‬ ‫الحالة المتجاوزة لحسابات ومصالح‬ ‫مالئما‬ ‫اإلعالم التقليدي‪ ،‬فقد أصبح مكا ًنا‬ ‫ً‬ ‫لنشر الشائعات وفبركة األخبار والصور‬

‫تكرار الدعاية عىل الجمهور‪ ،‬وتحشيده وتعبئته‪ ،‬بالضغط عىل‬ ‫خرب أو اثنني‪ ،‬فإنه لن يتمكن من مقاومة السيل الجارف من‬ ‫يف ٍ‬

‫األخبار واملعلومات كل يوم‪ .‬أكرث من ذلك‪ ،‬ال يدقق املتلقي يف مصدر‬ ‫الخرب نفسه‪ ،‬واملقصود هنا املصدر األويل للخرب‪ ،‬وليس ناقل الخرب‬

‫من القنوات واملواقع؛ إذ إنه لو دقق لوجد أخبارًا كثرية من مناطق‬ ‫الصراع والحروب‪ُ ،‬تحيل إىل «ناشطني» أو «مراقبني» أو «شهود‬ ‫عيان»‪ ،‬بوصفهم املصدر األويل للخرب‪ ،‬وهم اليوم املصدر األساس‬

‫ألخبار عدد من وسائل اإلعالم‪ ،‬التي تلجأ لهم دائمًا وليس بشكل‬

‫اختراع حرب للتغطية على فضيحة الرئيس‬ ‫يف فلم «‪ ،»Wag the dog‬من بطولة روبرت دي نريو وداسنت هوفمان‪ ،‬يستعني مستشارو الرئيس األمرييك‪ ،‬بأحد‬

‫منتجي هوليوود‪ ،‬للتغطية عىل فضيحة أخالقية للرئيس‪ ،‬قبل االنتخابات الرئاسية بأسبوعني‪ .‬يقوم املنتج السينمايئ‪،‬‬

‫مع مدير العالقات العامة يف حملة الرئيس‪ ،‬بإنتاج حرب افرتاضية أمريكية يف ألبانيا‪ ،‬ال تحصل إال عىل شاشات التلفزة‬ ‫األمريكية؛ لشد العصب الوطني‪ ،‬وإبعاد األنظار عن الفضيحة‪ .‬للحرب هذه روايتها املصورة‪ ،‬التي تستند إىل خطر‬ ‫يشكله متمردون ألبان‪ ،‬ومشهد سينمايئ يصور فتاة ألبانية هاربة من قصف املتمردين‪ ،‬كما أن هذه الحرب تنتج قصصها‬ ‫الخاصة‪ ،‬مثل قصة جندي أمرييك مفقود يف ألبانيا‪ ،‬تستثري عواطف الناس‪ ،‬وتصبح حديث الرأي العام‪ .‬الفلم يعرض‬

‫حرب لم تحدث عن طريق اإلعالم‪ ،‬وتوجيه اهتمام الناس‪ ،‬والتالعب بعاطفتهم الوطنية وحسهم اإلنساين‪،‬‬ ‫كيفية فربكة‬ ‫ٍ‬

‫من خالل الصورة وسطوتها‪.‬‬ ‫الفلم ُع ِرض عام ‪١٩٩٧‬م‪ ،‬وبعد ما يقارب عشرين عامً ا‪ ،‬نجد أن أدوات اإلعالم واالتصال أصبحت قادرة بسهولة عىل‬

‫صناعة وقائع غري موجودة‪ ،‬واستثارة عواطف الناس واستنفارهم‪ ،‬والتحكم بتوجهات الرأي العام‪ ،‬ومع التطور التقني‬ ‫مقطع مصور‪ ،‬وهو يجلس‬ ‫بخبري سينمايئ‪ ،‬فكل شخص يمكنه فربكة أو تغيري‬ ‫املذهل‪ ،‬لم تعد الحاجة كبرية لالستعانة‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬

‫أمام حاسوبه يف بيته‪.‬‬

‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬


‫في مواجهة التضليل اإلعالمي‬

‫استثنايئ‪ ،‬وهؤالء الناشطون مجهولون‪ ،‬إضافة إىل أنهم يف األغلب‬ ‫ً‬ ‫وأحيانا تخرتعهم بعض‬ ‫جزء من الصراع القائم‪ ،‬وليسوا محايدين‪،‬‬ ‫وسائل اإلعالم؛ ألنها تريد بث خرب ما‪ ،‬فتنسبه إليهم‪.‬‬ ‫الصور ً‬ ‫أيضا تخضع للفربكة‪ ،‬وقد تنقلها وسائل اإلعالم‬

‫ال بد من وضع أمور كثرية يف الحسبان؛ أهمها‪ :‬خلفية هذه‬

‫الوسيلة اإلعالمية‪ ،‬والخيارات التي تتبناها‪ ،‬ومن يقف وراءها‪،‬‬ ‫اصر هذا الطرف أو ذاك‪.‬‬ ‫وما مصلحتها من نشر أخبار ُتدِ ين أو ُت َن ِ‬

‫هذا النهج يف التدقيق يشمل حتى وسائل اإلعالم الغربية‪ ،‬التي‬

‫من دون تثبت‪ ،‬أو يشارك بعضها يف فربكتها‪ ،‬واملسألة سهلة‪،‬‬

‫تحدثنا عن عدم حياديتها وانحيازاتها‪.‬‬

‫صورة تختلف تمامً ا عن الواقع‪ ،‬كما يمكن لوسائل اإلعالم أخذ‬

‫الخرب املنشور نفسه‪ ،‬ومعرفة مصدره األول‪ ،‬أي معرفة املصدر‬

‫فباستخدام أدوات تقنية من برامج وتطبيقات‪ ،‬يمكن صناعة‬ ‫صورة تتعلق بحدث معني جرى يف بلدٍ ما‪ ،‬وتقديمها كصورة ملا‬ ‫وزمن آخر‪ ،‬وهذا التضليل البصري يهدف غالبًا‬ ‫يجري يف بلدٍ آخر‬ ‫ٍ‬

‫لكسب عواطف الناس‪ ،‬ويحوي كمية من الوحشية وربما الدموية‬ ‫التي ُتذهب عقل املتابع لشدة قسوتها عىل النفس‪ .‬بعض وسائل‬ ‫اإلعالم تستثمر هذه الصور لزراعة الكراهية واألحقاد‪ ،‬وإشعال‬ ‫الفنت يف املجتمعات‪ ،‬عرب تفسري الصورة ضمن صراع بني املكونات‬

‫االجتماعية يف املنطقة‪ ،‬عىل أسس قبلية أو مذهبية‪ ،‬ورفد الصور‬ ‫بتحليالت ملوتورين طائفيني‪ ،‬يُق َّدمون كخرباء ومحللني‬ ‫التي ُتبَث‬ ‫ٍ‬ ‫إسرتاتيجيني‪ ،‬بما يسهم يف شد العصب الطائفي‪.‬‬

‫تتنوع أساليب التضليل‪ ،‬لكن الخالصة واحدة‪ :‬ال بد من‬

‫التشكك يف سيل األخبار الجارف‪ ،‬والتدقيق للوصول إىل الحقائق‪،‬‬ ‫قبل االنفعال واتحاذ مواقف بفعل عمليات التضليل املتنوعة‪.‬‬ ‫مواجهة التضليل‬

‫من الضروري أن يف ّرق املتلقي بني الخرب والرأي؛ فوسائل‬

‫ً‬ ‫انطباعا ألحد العاملني فيها‪ ،‬وقد يمزج‬ ‫اإلعالم قد تنشر رأيًا أو‬

‫هذا الشخص بني صياغة خربية‪ ،‬ورأيه الشخيص‪ ،‬ما يستدعي‬ ‫االنتباه والحذر‪ .‬مع قراءة الخرب املنشور يف أي وسيلة إعالمية‪،‬‬

‫بعد التدقيق يف الوسيلة اإلعالمية‪ ،‬ال بد من التدقيق يف‬

‫الذي اعتمدت عليه الوسيلة اإلعالمية يف نقل الخرب؛ إذ إن‬ ‫مصادر مثل «شهود عيان» أو «ناشطني» ُت َ‬ ‫ضعِّ ف كثريًا من‬

‫مصداقية الخرب‪ ،‬ومثل هذه األخبار يمكن فربكتها ببساطة؛‬ ‫إذ يمكننا أن نخرتع خربًا ما‪ ،‬ثم ننسبه لناشطني أو شهود‬

‫عيان‪ ،‬وال يشء يؤكد األمر‪ .‬التأكد من وجود مصادر متعددة‪،‬‬ ‫متناقضة املصالح‪ ،‬يعطي للخرب مصداقية أكرب‪ ،‬والتدقيق ً‬ ‫أيضا‬ ‫ال بد أن يشمل الصور واملقاطع املصوّرة‪ ،‬فليست كل صورة‬

‫تأكيدً ا لخرب ما‪ ،‬وال حتى كل مقطع مصوَّر‪ ،‬ففربكة مثل هذه‬ ‫املقاطع والصور بات سهلاً كما نعلم‪ ،‬وهذا يستدعي الحذر‬ ‫من التعاطي معها‪ ،‬وعىل األقل عدم نشرها بكثافة يف وسائط‬

‫التواصل االجتماعي‪ ،‬من دون التأكد من صحتها‪.‬‬

‫إذا كان التدقيق يف أخبار وسائل اإلعالم التقليدية واملشهورة‬

‫ضرورة يف هذه املرحلة‪ ،‬فإن التدقيق يف أخبار شبكات التواصل‬ ‫االجتماعي‪ ،‬التي تنتشر بشكل سريع بيننا‪ ،‬هو أوىل وأوجب‪،‬‬

‫أخبار‬ ‫وبخاصة أن الكذب فيها كثري‪ .‬أخطر ما يحصل هو استخدام‬ ‫ٍ‬ ‫وصور مفربكة؛ لتهييج الناس يف اتجاهات سلبية‪ ،‬وإذا كان املرء‬ ‫ٍ‬

‫ال يستطيع التدقيق يف كل خرب‪ ،‬فعليه أال يص ّدق كل خرب؛ يك ال‬

‫يقع ضحية التضليل‪ ،‬و ُي َم ِّررَه عرب أجهزته لآلخرين‪.‬‬

‫لقطة من الفلم‬

‫‪167‬‬


‫مقال‬

‫حسرة المثقف على انحساره‬

‫ّ‬ ‫يتحسر المثقف اليوم‪ .‬يلعن التلفزيون واإلنترنت‪ ،‬يحمّ لهما المسؤولية كاملة‪ .‬يحزن على ما كانه في ماضيه القريب‪ .‬يتذكر‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مسموعا‪ ،‬نجمً ا‬ ‫مرموقا‪،‬‬ ‫وبحنين موجع‪ .‬الصورة القديمة التي بنى من أجلها دوره كانت مشرقة‪ .‬وهو ال يستطيع أن ينساها‪ :‬كان‬ ‫ساطعً ا في محيطه الضيق واألوسع‪ .‬هو الذي يفسر‪ ،‬ويشرح‪ ،‬ويصف‪ ،‬ويترجم‪ .‬هو المرجع الفكري‪ .‬كان هذا هو دوره‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ومنخرطا في هموم‬ ‫ومنغمسا‪،‬‬ ‫بل جاء من يقول له‪ :‬إن عليه أن يكون «عضويًّا»؛ أي نازلاً من برجه العاجي المفترض‪،‬‬ ‫ً‬

‫وأفعال وخطايا المجتمع الذي يريد أن يغيره بالفكر‪ .‬وهذا إرث عريق‪ ،‬يعود إلى الثوار البالشفة الروس‪ ،‬وإلى فيلسوف التجديد‬ ‫الشيوعي أنطونيو غراشي‪ ،‬مخترع كلمة «المثقف العضوي»‪ .‬وبعده صفة «النهضوي» التي أذاعها مثقفو عصر النهضة‪ ،‬أصحاب‬

‫األفكار الكبيرة‪ ،‬وقد أثروا في التكوينة الذهنية ألجيال بعينها من المثقفين‪ .‬بحيث صار عصر النهضة المحطة‪ ،‬والمنبع‪،‬‬ ‫والمرجعية؛ وإن كانت ّ‬ ‫جل أفكارها ونظرياتها منتهية المدة‪ ،‬بحكم الزمن وتعقيداته‪ .‬اآلن‪ ،‬الوضع تغير‪ .‬تراجع المثقف إلى‬ ‫مصاف المواطن البسيط‪ .‬مثله يبحث عن دور‪ ،‬أو يئس من البحث عن دور‪ .‬مثله فاقد التأثير في الجموع‪ ،‬ومحروم من النجومية‬ ‫ّ‬ ‫وينق‪ ،‬وينظر‬ ‫جالسا في زاويته‪ ،‬يسخر‪ ،‬ويندب‪،‬‬ ‫واالمتيازات الرمزية والمادية التي كان يتمتع بها نظيره في عصور االزدهار‪ .‬فتراه‬ ‫ً‬

‫إلى المهانة بصفتها نهاية تاريخه ودوره‪ ،‬ومعها نهاية السياسة والتاريخ‪.‬‬ ‫لاً‬ ‫بعضهم‪ ،‬األكثر ذكاء من غيرهم‪ ،‬يريد أن يثبت العكس؛ من أن المثقف ما زال بألف خير‪ .‬يتجه صوب األداة الجديدة‪ ،‬مث ‪،‬‬ ‫التلفزيون‪ ،‬ويفعل المستحيل ليحتل شاشته‪ ،‬ولو برهة من الزمن‪ :‬كخبير في شؤون قضية أو ملف‪ ،‬كمقدم للبرامج‪ ،‬أو كمحاور‬ ‫مع من يستحق رتبته‪ ،‬أي مثقفين مثله أو أقل منه ً‬ ‫شأنا لكنه ال يبلغ مبلغ بقية النجوم‪ ،‬الشيوخ أو مغنيات الفيديو‪ ،‬أو اإلعالميين‬

‫المخضرمين‪ ،‬فينسحب بعضه‪ .‬أما بعضه اآلخر‪ ،‬فلكي يستمر‪ ،‬عليه أن يغير طبائعه الثقافية‪ ،‬ويتحول إلى «إعالمي»‪ ،‬أي‬ ‫صحافي بالصورة‪ ،‬سطحي‪ ،‬متس ّرع‪ ،‬ال يبالي ًّ‬ ‫حقا بالمادة الثقافية التي «يقدمها»‪ ,‬أو ««يناقشها»‪.‬‬

‫‪168‬‬

‫أهم مقدم ألهم برنامج ثقافي‬

‫أذكر منذ سنوات‪ ،‬لدى صدور كتابي األول‪ ،‬اتصل بي مثقف كانت له طموحات تلفزيونية‪ ،‬وكان لتوه ً‬ ‫بادئا تجربة تلفزيونية‬

‫ُ‬ ‫فرحت وسألته ما رأيه به‪ ،‬أي‬ ‫ثقافية‪ .‬قال لي‪ :‬إنه يريد أن أظهر في برنامجه؛ ألنه سوف يعرض فيه كتابي الجديد ويناقشه‪.‬‬

‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫وطرحت عليه السؤال البديهي‪ ،‬وقتها‪« :‬كيف تريد أن تقدم كتابًا على الشاشة لم تقرأه؟»‪.‬‬ ‫تعجبت‬ ‫بكتابي‪ .‬أجاب بأنه لم يقرأه‪.‬‬

‫ُ‬ ‫علي أسئلة يعرف هو كيف يصيغها‬ ‫أجاب بعبارات مغمغمة‬ ‫فهمت منها أن التلفزيون «ال يحتاج إلى قراءة»؛ وأنه يكفي أن يطرح ّ‬ ‫ُ‬ ‫شئت‪ ،‬أن أقترح عليه األسئلة‪ ،‬فأسهّل عليه المهمة وغير ذلك‪ .‬طبعً ا رفضت وقتها‪.‬‬ ‫من دون العودة إلى الكتاب؛ وبأنه بوسعي إذا‬

‫أما هو فأصبح اآلن أهم مقدم ألهم برنامج ثقافي‪.‬‬ ‫لاَّ‬ ‫ّ‬ ‫كلهم لم ينجحوا مثل صديقنا هذا‪ :‬بعضهم ألنهم ال يتمتعون‪ ،‬مثله‪ ،‬بط ت بهية‪ ،‬فوتوجينيك‪ ،‬تحبها الكاميرا‪ .‬وجلهم ألن‬ ‫البرامج التلفزيونية الثقافية أصلاً ضاقت سُ بُلها؛ كأن الطلب عليها تفوق على العرض بمسافات‪.‬‬

‫على الرغم من خروجه إلى الشاشة‪ ،‬فإن شأن المثقف لم يرتفع‪ ،‬وال الثقافة معه‪ ،‬وبقيت الحسرة لدى األكثر جدية وتجهّمً ا‬ ‫من أن المثقف ماذا يفعل بالضبط؟ ما دوره؟ هل كان فعلاً في عصره الذهبي‪ ،‬أيام المثقف التقليدي‪ ،‬الثوري‪ ،‬المرغوب‪،‬‬

‫صاحب الهالة والدور؟ بل‪ ،‬هل يمكن االسترسال في الحسرة إلى األبد؟ بانتظار انقشاع لن يأتي؟ وما العمل من أجل أن يكون‬

‫ً‬ ‫خصوصا الكتابي منه‪ ،‬ممارسة محبوبة لنفسها؟ من أجل أن يقرأ المثقف‪ ،‬أن يكتب‪ ،‬أن يسأل الميدان‪ ،‬مادته‬ ‫الفعل الثقافي‪،‬‬

‫الحيوية‪ ...‬من دون أن يلهث خلف «األكثر مشاهدة»‪ ،‬من دون أن يضطر للكتابة االستفزازية الترفيهية عن الجنس أو الدين أو‬

‫الرعب المشوِّق‪...‬؟‬

‫ثالثة أنواع من النرجسيات‬ ‫عليه أولاً أن يتخلص من ثالثة أنواع من النرجسيات‪ ،‬تقف خلف الحسرة على االنحسار‪ :‬النرجسية الواسعة‪ ،‬أولها‪ ،‬أي التي‬

‫تنكب على نظراء المثقف‪ ،‬أشباهه‪ .‬أو كل من ينتج نتاجه‪ .‬وتكتفي بهذا االنكباب‪ ،‬نظ ًرا لكون ال أحد يستحق فعلاً الكتابة عنه‪،‬‬ ‫ّ‬

‫واالهتمام به إال أصحاب الكتب‪ ،‬الشهيرة إن أمكن‪ ،‬أو الجوائز‪ ،‬األسماء «الكبيرة» وغير ذلك‪ .‬الثانية هي النرجسية المتوسطة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫جزافا «األصدقاء»؛ الذين يتصورون أنهم «أفضل» ما أنتجته ثقافتنا في مجاالت الكتابة‪،‬‬ ‫الشلة‪ ،‬أو ما يسمى‬ ‫المقتصرة على‬ ‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬


‫أصحاب الجاه الثقافي‪ .‬وهذه الحلقة المتوسطة من النرجسيات يمكن أن‬

‫تكون عابرة للقارات‪ ،‬لكنها ضيقة‪ ،‬قائمة على تبادل المصالح‪ ،‬وحسب؛‬

‫تبادل خفي‪ ،‬ال تنتبه إلى تأثيراته إال بعد حين‪.‬‬

‫ثم الحلقة النرجسية األخيرة‪ .‬هي فردية‪ ،‬باطنية؛ لكنها مفهومة‪،‬‬

‫بفضل مئة إشارة وإشارة‪ .‬بعضهم ال يخفيها‪ ،‬وصار من عاديات األمور‪،‬‬

‫أن يتفاعل مع الدنيا كلها على أساس نفسه هو‪ .‬على أساس استثنائيته‪،‬‬ ‫ً‬ ‫خصوصا إذا كانوا من خارج الدائرة‬ ‫وعلوّه درجات عن بقية أقرانه‪،‬‬ ‫المتوسطة‪ ،‬وقد دخل إليها «المستحقون»‪ .‬وقد يورث هذه الصفة غير‬

‫المتواضعة ألبنائه‪ ،‬مثله مثل سياسيي بالده‪.‬‬ ‫فقط عندما يعترف أولاً بإصابته بمرض النرجسيات الثالث‪ ،‬أو بواحدة‬

‫منها‪ ،‬ثم يقبل الدخول في «برنامج» التخلص من الحسرة على االنحسار‪،‬‬ ‫يستطيع المثقف أن يتابع درب السعادة الثقافية‪ .‬ويتكوَّن هذا «البرنامج»‬

‫من نقاط محدّ دة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫التواضع أولاً ‪:‬‬ ‫التحلي به في هذا الزمن الفايسبوكي‪ ،‬أمر في غاية‬ ‫ّ‬ ‫الصعوبة‪ .‬كذلك التخلي عن فكرة أن المثقف سوف يغير العالم بمقاالته‬

‫دالل البزري‬

‫ً‬ ‫دمثا‪ ،‬ليس ًّ‬ ‫وكتبه‪ ،‬أو بمجرد ّ‬ ‫سلسا ً‬ ‫جارفا؛ كأن‬ ‫جافا‬ ‫طلته‪ .‬يمكن أن يبدأ‬ ‫ً‬

‫كاتبة لبنانية‬

‫يقول المثقف لنفسه بأنه سوف يبقي على نرجسياته الثالث هذه؛ لكنه‬ ‫بموازاتها‪ ،‬سوف يخلق عالمً ا جديدً ا‪ ،‬قوامه أنه‪ ،‬بالنسبة إلى هذا الكون‬ ‫الذي ال يتوقف عن التوسع‪ ،‬هو ليس إال ذرة‪ ،‬بالكاد تراها بالمجهر‪ ،‬وأن‬

‫التواضع يوسع نطاق حريته‪ ،‬مغامراته؛ بحيث ال يخشى ال ارتكاب الخطأ‬

‫‪169‬‬

‫النظري أو المفهومي‪ ،‬وال يخشى االعتراف لنفسه بأنه ال يعرف في هذه أو‬

‫تلك من الموضوعات‪ ،‬أو لم يفهمها‪.‬‬

‫ثانيًا‪ -‬الفضول‪ :‬التواضع يج ّر إلى الفضول‪ ،‬والفضول هو باب‬ ‫ً‬ ‫خصوصا الفضول لعوالم غير معهودة‪ ،‬أو منبوذة‪،‬‬ ‫المعرفة المتجدّ دة‪.‬‬ ‫أو «غير نبيلة»‪ .‬مثل أن تخلق مجالاً للمعرفة اسمه عالم الفيديو كليب‪،‬‬

‫ً‬ ‫موضوعا‬ ‫سوسيولوجية الفيديو كليب مثلاً ‪ ،‬من دون أن تعد بأنك تعالج‬ ‫ّ‬ ‫أقل خطورة من السجال األبدي بين الحداثة والتقليد‪ .‬ما يستدعي الخفة؛‬ ‫خفة الوجود تناقض الحسرة على مجد فارغ‪ّ .‬‬ ‫النقطة الثالثة‪ّ :‬‬ ‫خفة اللهجة‪،‬‬ ‫والموضوع والمقاربة‪ .‬خفة ألاَّ يقبض المثقف نفسه جديًّا‪ .‬أن يكون قادرًا على‬

‫السخرية من نفسه‪ ،‬ومن دوائره‪ ،‬قبل السخرية من خصومه وشريريهم‪.‬‬

‫ورابعً ا‪ -‬الغيرية‪ :‬أي الفضول بالغير‪ ،‬واالهتمام به‪ ،‬واالستماع إليه‪،‬‬

‫وتحويله إلى مادة سؤال عبر حياته ومجمل حَ يَوات غيره‪ ،‬وإعطاء الوقت‬

‫للغير‪ ،‬واقتطاع هذا الوقت من ذاك الذي يسخره في عمليات التسويق‬

‫لشخصه أو اسمه‪.‬‬ ‫لاَّ‬ ‫لاَّ‬ ‫ّ‬ ‫المفخمة‪ ،‬وأ ينتحل صفة‬ ‫والجاذبية أخي ًرا‪ :‬أ يكتب بتلك اللغة‬ ‫المنظر‪ ،‬أو أن ّ‬ ‫ّ‬ ‫ينظر بحرية‪ ،‬من دون «تعريفات» إنجليزية أو فرنسية‪،‬‬ ‫غالبها ال يفهمها القارئ‪ ،‬وال هو يفهمها‪ ،‬وأن يختار الموضوعات التي‬ ‫ً‬ ‫حقيقة‪ ،‬وأن يتخلص من انفصاميته‪ ،‬من أنه في السر يفكر بهيفاء‬ ‫تجذبه‬

‫وهبي‪ ،‬ويطلب من أصدقائه ان ينظموا له موعدً ا سريًّا معها‪ ..‬وفي العلن‬ ‫ينشد األشعار المك َّررة من أجل الوطن واإلنسان‪ .‬كما حصل مع أحد‬ ‫شعرائنا الكبار‪ ،‬وقد يكون حاصلاً ‪ً ،‬‬ ‫أيضا‪ ،‬مع أدنى منه‪.‬‬

‫على الرغم من خروجه إلى‬ ‫الشاشة‪ ،‬فإن شأن المثقف‬ ‫لم يرتفع‪ ،‬وال الثقافة‬ ‫معه‪ ،‬وبقيت الحسرة لدى‬ ‫وتجه ًما من أن‬ ‫األكثر جدية‬ ‫ّ‬

‫المثقف ماذا يفعل بالضبط؟‬ ‫ما دوره؟ هل كان فعال‬

‫في عصره الذهبي‪ ،‬أيام‬ ‫المثقف التقليدي‪ ،‬الثوري‪،‬‬ ‫المرغوب‪ ،‬صاحب الهالة‬ ‫والدور؟‬


‫تراث‬

‫الربيعية‪..‬‬ ‫بلدة الشعراء وميدان‬ ‫معركة الصريف‬ ‫تعد بلدة ال ُّر َبي ِْعيَّة من أبرز المناطق التاريخية واألثرية َ‬ ‫بالق ِصيم‪ ،‬كما أنها‬ ‫من أهم المناطق الزراعية بالمنطقة‪ ،‬وتقع شرق مدينة ُب َري َْدة ‪-‬حاضرة‬ ‫َ‬ ‫الق ِصيم‪ -‬وتبعد منها ‪ 27.5‬كم تقريبًا بخط مستقيم أما الطريق المزفت‬

‫‪170‬‬

‫فهو ‪ 30‬كم تقريبًا‪ ،‬ويبلغ تعداد سكانها حسب النتائج األولية للتعداد‬ ‫ً‬ ‫ووفقا للتقسيم اإلداري الذي‬ ‫العام للسكان لعام ‪1413‬هـ (‪ )1987‬نسمة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مرتبطا بإمارة المنطقة‪.‬‬ ‫صدر مؤخرًا صنفت ال ُّر َبي ِْعيَّة مرك ًزا فئة (أ)‬

‫تركي إبراهيم القهيدان‬ ‫باحث في اآلثار والجغرافيا‬

‫الرُّب ْي ِع َّية‪ ،‬بناه عبدالله العوني داخل مزرعته في حدود عام ‪1250‬هــ‪ ،‬وفيه ولد ابنه‬ ‫منزل (العوني) في َ‬ ‫شاعر الجزيرة المشهور محمد بن عبدالله العوني‪ ،‬في عام ‪1275‬هــ‪.‬‬

‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬


‫لمحة تاريخية عن ال ُّر َبي ِْعيَّة‬

‫يعرف موقع ال ُّر َبي ِْعيَّة إبان القرون اإلسالمية األولى‬ ‫(الديرتين أو روضة الز ْب َر َتين)؛ إذ يقول ياقوت الحموي‪:‬‬ ‫الديرتان‪ :‬روضتان لبني أسيد بمفجر وادي ال ُّرمة من التنعيم‬

‫َ‬ ‫(الق ِصيم) عن يسار طريق الحاج المصعد ‪(،‬معجم البلدان‪،‬‬

‫ج‪ ، 2‬ص‪ ،)495‬وابتدأ العمران فيها قبل نحو ثالثة قرون‪،‬‬ ‫واستمرت تتنامى حتى وصلت إلى ما هي عليه من حاضر‬

‫الط ْرفِ َّية أن‬ ‫يؤكد كبار السن من سكان ُّ‬ ‫العديد من آبارهم استخدمت كقبور‬ ‫جماعية‪ ،‬ومما يؤكد ذلك أن شواهد‬ ‫قبر عبدالرحمن الربدي ال تزال باقية‬ ‫حتى وقتنا الحاضر‬

‫مُ شرق‪.‬‬

‫وقد أكسب مرور وادي ال ُّرمة بأراضي ال ُّر َبي ِْعيَّة أهمية بارزة‬

‫لها في القديم والحديث‪ ،‬من جانب آخر فقد كانت المنطقة‬

‫خالل العصور اإلسالمية المختلفة مم ًّرا للحجاج والتجار‬ ‫والمسافرين عبر طريق الحج العراقي البصري‪ ،‬الذي يتخذ من‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫طريقا له (السنيدي‪ ،‬ال ُّر َبي ِْعيَّة‪،‬‬ ‫الص ِريف وال ُب َري َْكة وقاع بوالن‬ ‫ص‪.)17‬‬

‫وعندما ظهرت السيارات في المملكة أصبحت ال ُّر َبي ِْعيَّة من‬ ‫أشهر محطات طريق الرياض ‪ -‬الوشم ‪َ -‬‬ ‫الق ِصيم‪ ،‬ثم بعد ذلك‬ ‫وقوعها على طريق الرياض ‪ -‬سدير ‪َ -‬‬ ‫الق ِصيم‪.‬‬

‫ولكثرة الشعراء الذين يتمتعون بجودة الشعر وغزارته في‬

‫ال ُّر َبي ِْعيَّة فقد أطلق عليها بعض المختصين «بلدة الشعراء»‪،‬‬

‫‪171‬‬

‫ومن هؤالء الشعراء شاعر الجزيرة المشهور محمد بن عبدالله‬

‫ُ‬ ‫وقفت‬ ‫العوني‪ ،‬الذي ولد في ال ُّر َبي ِْعيَّة في عام ‪1275‬هــ‪ ،‬وقد‬ ‫على منزل (العوني) في ال ُّر َبي ِْعيَّة‪ ،‬الذي بناه عبدالله العوني‬ ‫داخل مزرعته في حدود عام ‪1250‬هـ (النقيدان‪ ،‬من شعراء‬

‫بريدة‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪ ،)254‬وال يزال منزله باقيًا ومزرعته قائمة في‬

‫ال ُّر َبي ِْعيَّة حتى اآلن‪ ،‬وفيه ولد ابنه شاعر الجزيرة المشهور ‪،‬‬

‫ومن أشهر قصائده (الخلوج) التي مطلعها‪:‬‬ ‫خلوج تجذ القلب باتلي عوالها‬ ‫(السنيدي‪ ،‬ال ُّر َبي ِْعيَّة‪ ،‬ص‪)163‬‬

‫ترزم بعبرات تحطم أسمالها‬

‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫وزرت عدة معالم‬ ‫قمت بزيارة ميدانية لمنطقة ال ُّر َبي ِْعيَّة‪،‬‬

‫طبيعية ومواقع أثرية مهمة‪ ،‬منها‪:‬‬ ‫منشآت ودوائر حجرية‬

‫ُ‬ ‫شاهدت منشآت ودوائر حجرية في عدة مواقع شرق‬

‫ُ‬ ‫تتبعت تلك المواقع في المنطقة‬ ‫وشمال شرق ال ُّر َبي ِْعيَّة‪ ،‬وقد‬ ‫لاً‬ ‫الواقعة من طريق األسياح شما إلى جنوب طريق الملك‬ ‫عبدالعزيز جنوبًا‪ ،‬ووقفت على عدد كبير منها‪ ،‬وقد الحظت‬ ‫أن الفاصل بين كل وحدة وأخرى ما بين كيلو متر إلى نصف‬

‫كيلو متر تقريبًا‪ ،‬وأغلب تلك المنشآت تمتد بمحاذاة الحافات‬ ‫الصخرية المتعددة في هذه المنطقة‪.‬‬

‫الرُّب ْي ِع َّية‪ُ ،‬وضع لمراقبة األعداء والتصدي لهم‬ ‫أحد أبراج َ‬ ‫مؤخرا‪.‬‬ ‫قبل مباغتتهم البلدة‪ ،‬وقد جرى ترميمه‬ ‫ً‬

‫ال ُب َري َْكة‬ ‫ُتحَ ِّتم مكانة هذا الموقع األثري وأهميته بيان مكوناته‬

‫العمرانية ومنشآته المائية وغير ذلك مما شاهدته في الموقع‪،‬‬ ‫ً‬ ‫حديثا آخر‪.‬‬ ‫ولهذا فإنني سأخصص له‬ ‫َّ‬ ‫الص ِريف‬

‫ُ‬ ‫خصصت هذا الموقع األثري بحديث في هذه‬ ‫سبق أن‬

‫الصريف»‪.‬‬ ‫المجلة بعنوان‪« :‬مواقع أثرية في أرض معركة‬ ‫ِ‬ ‫قاع بوالن‬

‫ومستو‪ ،‬يقع جنوب غرب ال ُّر َبي ِْعيَّة‪ ،‬وكان‬ ‫هو مكان واسع‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫معروفا منذ القدم‪ ،‬فقد ذكره بعض الشعراء المتقدمين؛‬

‫مثل‪ :‬مالك بن الريب وجرير‪ ،‬ويمر بهذا القاع الحجاج‬

‫والمسافرون القادمون عبر طريق الحاج البصري‪ ،‬يقول‬ ‫العبودي مؤكدً ا ذلك‪ :‬وجدنا بقايا أعالم طريق الحاج باقية‬ ‫ظاهرة للعيان (مُ عْ جَ م بالد َ‬ ‫الق ِصيم‪ ،‬ج‪ ،5‬ص ‪.)1910‬‬


‫تراث‬

‫لكثرة الشعراء الذين يتمتعون بجودة‬ ‫الر َب ْي ِع َّية فقد أطلق‬ ‫الشعر وغزارته في ُّ‬ ‫عليها بعض المختصين «بلدة الشعراء»‬ ‫المعالم التاريخية‪ ،‬وقد جرى في اآلونة األخيرة تعبيد جزء منه‬ ‫شجرة (العبرية) يقدر عمرها بأكثر من ‪ 250‬سنة‪ ،‬اشتهرت كمحطة‬ ‫بالرُّب ْي ِع َّية‪.‬‬ ‫يستظل بها المسافرون الذين يمرون‬ ‫َ‬

‫األبراج‬

‫شجرة (العبرية)‬

‫ُ‬ ‫شاهدت شرقي ال ُّر َبي ِْعيَّة في قمة الحافة الصخرية برجين‪،‬‬

‫تقع في وسط ال ُّر َبي ِْعيَّة جنوب طريق الملك عبدالعزيز‪.‬‬

‫والتصدي لهم قبل مباغتتهم البلدة في وقت كان الخوف وعدم‬

‫بال ُّر َبي ِْعيَّة بعد أن يهيئ لهم أهل البلدة سبل الراحة فيها‪،‬‬

‫يسمي األهالي المفرد منها صنقر‪ ،‬وقد وُضعت لمراقبة األعداء‬ ‫االستقرار السمة البارزة في نجد‪ ،‬ويطل أحد هذه األبراج على‬

‫وسط البلدة‪ ،‬ويشرف على قصر اإلمارة القديم فيها‪ ،‬وقام‬ ‫األهالي بترميمه سنة ‪1405‬هـ ـ أما اآلخر فيقع شمال البرج‬

‫السابق بنحو ‪ 1٫5‬كم تقريبًا‪ ،‬ويطل على شمال البلدة‪ ،‬وهذا‬ ‫ً‬ ‫محتفظا بشكله رغم انهيار بعض أجزائه‪.‬‬ ‫البرج ما زال‬

‫‪172‬‬

‫وسفلتته‪.‬‬

‫طريق الملك عبدالعزيز‬ ‫َ‬ ‫في عام ‪1347‬هـ توجه الملك عبدالعزيز إلى الق ِصيم‪ ،‬وم ّر‬

‫بال ُّر َبي ِْعيَّة في أول رحلة له إلى المنطقة بالسيارات‪ ،‬ونظ ًرا إلى‬

‫وقد اشتهرت كمحطة يستظل بها المسافرون الذين يمرون‬

‫ويقدر عمرها بأكثر من ‪ 250‬سنة‪.‬‬ ‫قصر اإلمارة القديم‬

‫يعد من أهم القصور األثرية في ال ُّر َبي ِْعيَّة وأقدمها؛ إذ‬

‫أُسِّ س سنة ‪1250‬هـ تقريبًا‪ ،‬وهو مربع الشكل‪ ،‬وتبلغ أطواله‪:‬‬

‫‪100‬م × ‪100‬م تقريبًا‪ ،‬ويحيط به سور ضخم‪ ،‬في كل زاوية‬

‫مقصورة (برج مراقبة)‪ ،‬وال تزال المقصورة الشمالية الشرقية‬ ‫وأجزاء من المقصورة الجنوبية الشرقية باقيتين‪ ،‬إضافة إلى‬

‫أجزاء من أسوار القصر‪ ،‬وغرف وآبار للمياه‪ ،‬ويؤكد ما تبقى‬

‫صعوبة تضاريس المنطقة الشرقية من ال ُّر َبي ِْعيَّة على مرور‬ ‫السيارات قام أمير ال ُّر َبي ِْعيَّة وأهلها عندما اقترب موكب الملك‬

‫وصر بها أهالي ال ُّر َبي ِْعيَّة عندما‬ ‫القصر من أهم القصور التي حُ ِ‬

‫اشتهر هذا الطريق باسم طريق الملك عبدالعزيز‪ ،‬وأصبح أحد‬

‫عشر الهجري‪.‬‬

‫عبدالعزيز بإصالح طريق لعبور سياراته‪ ،‬ومنذ ذلك الحين‬

‫من البناء قوته ومتانته وحسن تصميمه‪ .‬الجدير بالذكر أن هذا‬ ‫هجم عليهم بندر بن رشيد في العقد التاسع من القرن الثالث‬

‫من أبرز األحداث التاريخية التي وقعت في ال ُّر َب ْي ِع َّية (والقريبة منها)‬ ‫أولاً ‪ -‬نظ ًرا إلى موقعها المتميز اتخذها اإلمام عبدالله‬

‫بن فيصل بن تركي في عام ‪1271 - 1270‬هــ‪ ،‬وكذلك عام ‪1277‬هـ‬ ‫ً‬ ‫ومنطلقا لعدد من عملياته‬ ‫مق ًّرا له في رحالته للقصيم‪،‬‬ ‫الحربية آنذاك‪.‬‬

‫ثانيًا‪ -‬تعرضت ال ُّر َبي ِْعيَّة لحصار دام أكثر من شهر من‬

‫بندر بن رشيد‪ ،‬وقد نجح أهلها في الدفاع عنها‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ثالثا‪ -‬معركة َّ‬ ‫الص ِريف المعروفة التي وقعت أحداثها‬ ‫عام ‪1318‬هــ‪ ،‬بين ابن أمير الكويت ابن صباح ومعه أهل‬ ‫َ‬ ‫الق ِصيم‪ ،‬ضد ابن رشيد‪ .‬وقد كانت بداية المعركة هجوم‬ ‫جيش ابن رشيد على أهل َ‬ ‫الق ِصيم مع ابن صباح في ُق َويْ َرة‬ ‫الحاكم شمال ُّ‬ ‫الط ْر ِفيَّة بميل نحو الشرق على بعد ‪ 3.2‬كم‬

‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬

‫تقريبًا‪ ،‬وإحداثيات الموقع كاآلتي‪:‬‬ ‫‪ 26ْ , 33َ , 970‬‬

‫‪44ْ , 02َ , 395‬‬

‫ثم امتدت المعركة إلى َّ‬ ‫الص ِريف‪ ،‬ويؤكد كبار السن‬ ‫من سكان ُّ‬ ‫الط ْر ِفيَّة أن العديد من آبارهم استخدمت كقبور‬

‫جماعية‪ ،‬ومما يؤكد ذلك أن شواهد قبر عبدالرحمن الربدي‬ ‫ال تزال باقية حتى وقتنا الحاضر‪ ،‬وهو يقع جنوب ُق َويْ َرة‬ ‫الحاكم على بعد ‪ 1250‬مت ًرا تقريبًا‪ .‬وإحداثيات الموقع كاآلتي‪:‬‬ ‫‪ 26ْ , 33َ , 302‬‬

‫‪44ْ , 02َ ,478‬‬

‫رابعً ا‪ -‬معركة أبرق المذبح الشهيرة بروضة مهنا التي‬

‫وقعت سنة ‪1324‬هــ‪ ،‬وتعد من أهم المعارك التي خاضها‬ ‫الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود‪.‬‬


‫الربيعية‪ ..‬بلدة الشعراء وميدان معركة الصريف‬

‫آثار أخرى‬

‫تقريبا‪ ،‬وهو من أهم القصور األثرية في‬ ‫الرُّب ْي ِع َّية‪ ،‬أسس سنة ‪1250‬هــ‬ ‫أطالل قصر اإلمارة القديم في َ‬ ‫ً‬ ‫الرُّب ْي ِع َّية وأقدمها‪ ،‬ويؤكد ما تبقى منه من بناء على قوته ومتانته وحسن تصميمه‪.‬‬ ‫َ‬

‫ومبان مطمورة تحت رمال‬ ‫يقال‪ :‬إن هناك آثار آبار‬ ‫ٍ‬ ‫عرق العويقر جنوب الركيّة عن يمين الطريق المتجه نحو‬ ‫ً‬ ‫وأيضا آثار زراعة طمرتها الرمال‬ ‫ال َّن ْب ِقيَّة عبر طريق األسياح‪،‬‬ ‫بالركية شمال ال ُّر َبي ِْعيَّة على بعد ‪ 9.8‬كم‪ ،‬وتحديدً ا في‬ ‫روضة شجعان في الجزء األوسط من شمال غرب الركيّة‪،‬‬

‫وهذا ما أشار إليه الدكتور عبدالعزيز السنيدي؛ إذ يقول‪:‬‬

‫‪173‬‬

‫ذكر لي بعض الرواة‪ :‬كان هناك آثار زراعة‪ ،‬إضافة إلى آثار‬ ‫بئر قد طمرتها الرمال‪ ،‬وقد أعيد حفرها فوجدها مطوية‬

‫بالحجارة‪ ،‬ولما وصلوا إلى قعرها وجدوا بعض جماجم‬ ‫رجال دُفنت فيها‪ ،‬كما ذكر أن هناك آثارًا أخرى في الجزء‬

‫الغربي من الركية‪ ،‬مطمورة في الرمال وهي بقايا جدران‬ ‫ومبان‪ .‬إضافة إلى أن هناك العديد من القصور واألبراج‬ ‫ٍ‬ ‫واآلبار القديمة في ال ُّر َبي ِْعيَّة مما مضى عليه أكثر من قرن‬ ‫من الزمن ال يزال معظمها ماثلاً للعيان‪.‬‬

‫عدة منازل طينية بعضها متهدم وبعضها اآلخر ال يزال يحتفظ ببعض‬ ‫قديما (الجصة)‪.‬‬ ‫أجزائه‪ ،‬واألسهم تشير إلى أماكن حفظ التمر‬ ‫ً‬

‫الرُّب ْي ِع َّية‪ ،‬وبعض المزارع الرائعة‪ ،‬وتبدو فيها غابة نخيل كثيفة‪.‬‬ ‫منظر جوي يوضح‬ ‫جانبا من المنازل الجميلة في َ‬ ‫ً‬


‫فنون‬

‫محمد خان‪..‬‬

‫المثقف الذي تعاطف مع‬ ‫الفاشلين في تحقيق أحالمهم‬ ‫القاهرة‬

‫مثل فلم «ضربة شمس» لمحمد خان‪ ،‬الذي رحل في يوليو الماضي عن ‪ 73‬عامً ا‪،‬‬

‫البداية القوية التي ينشدها أي مخرج لمسيرته الفنية‪ ،‬فمن خالله أظهر خان قدراته‬ ‫على رسم مسارات الكاميرا وتحريك الشخوص ومفاجأة المتلقي‪ .‬أظهر ً‬ ‫أيضا مدى‬ ‫عشقه القاهرة وشوارعها وليلها الطويل وصمتها المريب‪ ،‬ومزج ما بين الواقع‬

‫الجديد لها في ثمانينيات القرن الماضي وما شاهده في السينما األوربية‪ ،‬وما درسه‬

‫‪174‬‬

‫في لندن‪ ،‬ومارسه كمساعد مخرج ببيروت في منتصف السبعينيات‪.‬‬

‫هكذا قدم خان الواقعية التي أحبها لدى أستاذيه صالح‬

‫قدم معادلاً جيدً ا قال من خالله‪ :‬إنه بإمكان السينما الجيدة‬

‫منهما لتفصيالت األماكن والشوارع ومالمح الشخوص من‬

‫إىل أن خان لم يكن مخرجً ا نمطيًّا‪« ،‬فقد كان انشغاله الدائم‬

‫أبو سيف وكمال الشيخ‪ ،‬وسعى إىل املزج بني عشق كل‬

‫خالل أربعة وعشرين فلمً ا هي مجمل إنتاجه السينمايئ‪،‬‬ ‫من بينها‪« :‬طائر عىل الطريق‪ .‬موعد عىل العشاء‪ .‬نصف‬ ‫أرنب‪ .‬الحريف‪ .‬مشوار عمر‪ .‬خرج ولم يعد‪ .‬عودة مواطن‪.‬‬

‫زوجة رجل مهم‪ .‬أحالم هند وكاميليا‪ .‬سوبر ماركت‪ .‬فارس‬ ‫املدينة‪ .‬مسرت كاراتيه‪ .‬أيام السادات‪ .‬يوم حار جدًّ ا‪ .‬بنات وسط‬ ‫البلد‪ .‬يف شقة مصر الجديدة‪ .‬عشم‪ .‬فتاة املصنع‪ .‬قبل زحمة‬

‫الصيف»‪ .‬وهي يف مجملها أعمال ناقشت أزمة املواطن املصري‬

‫يف ظل التحول إىل عصر االنفتاح‪ ،‬وكيف استطاع املصري‬ ‫النزول بسقف أحالمه إىل الحدود الدنيا‪ ،‬لكنه ً‬ ‫أيضا عجز عن‬

‫تحقيقها‪.‬‬

‫يرى الناقد السينمايئ طارق الشناوي أن خان كان من أكرث‬

‫املخرجني الذين عملوا ضد منطق السوق؛ إذ إنه يف ذروة انتشار‬ ‫ما سمي أفالم املقاوالت قدم أفالمً ا تتوافق مع مزاجه هو وليس‬ ‫مزاج السوق‪ ،‬وأنه بنجاح أفالمه يف الثمانينيات والتسعينيات‬ ‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬

‫أن تنجح وتحقق أرباحً ا‪ .‬أما الناقدة سارة نعمة الله فقد ذهبت‬ ‫بالطبقتني الوسطى والدنيا من املجتمع املصري‪ ،‬ما جعله‬ ‫يخرج علينا بأعمال شديدة الجاذبية‪ ،‬كان الحلم فيها هو‬

‫محرك األحداث لدى البطل الذي تارة نراه مواط ًنا عاديًّا تمثل‬

‫كرة القدم حلم حياته الذي يتخىل من أجله عن كل يشء‪،‬‬ ‫كما يف «الحريف»‪ ،‬وتارة يكون الريفي الفقري الذي يأيت فيعيش‬

‫هوسً ا بأفالم األكشن والكاراتيه كما يف «مسرت كاراتيه»‪ ،‬وهكذا‬ ‫ً‬ ‫عنوانا ألبطالها»‪.‬‬ ‫تجيء أعمال خان ظل الحلم‬

‫خان كان من أكثر المخرجين الذين عملوا‬ ‫ضد منطق السوق‪ ،‬وبنجاح أفالمه في‬ ‫الثمانينيات والتسعينيات قدم معادال‬ ‫جيدا قال من خالله‪ :‬إنه بإمكان السينما‬ ‫ً‬ ‫أرباحا‬ ‫الجيدة أن تنجح وتحقق‬ ‫ً‬


‫مع السيناريست وسام سليمان فقدما (بنات وسط البلد‪ .‬يف‬

‫شقة مصر الجديدة‪ .‬فتاة املصنع) وغريها»‪.‬‬ ‫عاش محمد خان حاملًا بالجنسية املصرية أكرث من‬

‫سبعني عامً ا‪ ،‬فقد ولد ألب باكستاين وأم مصرية عام ‪1942‬م‬

‫بحي السكاكيني بالقاهرة‪ ،‬ولم يحصل عىل الجنسية املصرية‬

‫إال بقرار رئايس من عديل منصور عام ‪2014‬م‪ ،‬وقد تويف يف ‪26‬‬

‫يوليو ‪2016‬م بعد مشوار طويل يف الفن والحياة‪ ،‬بدأه عام‬

‫‪1956‬م حينما سافر إىل إنجلرتا لدراسة الهندسة املعمارية‪،‬‬ ‫غري أنه ترك الهندسة والتحق بمعهد السينما‪ ،‬ولم يكتف‬

‫بمعرفة اآلالت والتقنيات فقد تعرف السينما العاملية يف‬ ‫الستينيات‪ ،‬من خالل متابعته أفالم املوجة الفرنسية‬ ‫الجديدة‪ ،‬وأفالم املوجات الجديدة يف السينما التشيكية‬ ‫والهولندية واألمريكية‪ ،‬وما قدمه أنطونيوين وفلليني‬ ‫وكريوساوا وغريهم من عمالقة اإلخراج يف العالم‪ ،‬إضافة إىل‬

‫متابعته مدارس النقد السينمايئ؛ مثل‪« :‬كراسات السينما‬ ‫الفرنسية» وغريها من املجالت السينمائية األخرى التي‬ ‫شكلت مدرسة محمد خان الحقيقية‪.‬‬

‫أما الناقد كمال القايض فريى أن فلم «أحالم هند‬

‫وكاميليا» قدم شريحة اجتماعية مهمشة تمثلت يف الخادمة‬ ‫وابنتها وصديقتها والزوج‪ ،‬وجميعهم ضحايا قطار الحياة‪،‬‬

‫«فظلت أمنياتهم مختزلة يف الحصول عىل املال والخالص‬

‫من الفقر الذي صار هويتهم‪ ،‬أما فلم «موعد عىل‬

‫العشاء» فهو من النوعية اإلنسانية التي ميزت‬

‫أعماله‪ ،‬ففيه يتناول العالقة القسرية املركبة بني‬ ‫زوجني مختلفني يف كل يشء‪ ،‬إىل الحد الذي‬ ‫تصعب معه قدرة الزوجة عىل التكيف؛ ومن‬

‫ثم اختيارها االنتحار كحل بديل للحياة‪ ،‬وفيه‬

‫يؤكد خان عىل أهمية الحرية كقيمة إنسانية ال يعوضها‬

‫يشء آخر»‪.‬‬

‫ويرى املخرج الكبري داود عبدالسيد أن خان مر بمراحل‬

‫عدة‪« ،‬أكرثها غنى هي التى تعاون فيها مع السيناريست‬

‫عاصم توفيق‪ ،‬فقدما عددًا من أجمل األفالم؛ من بينها‬

‫«خرج ولم يعد»‪ .‬وذهب عبد السيد إىل أن أفالم خان التي‬ ‫قامت عىل فكرة البطل الوحيد كـ(ضربة شمس‪ ،‬والحريف‪،‬‬

‫وفارس املدينة‪ ،‬وطائر عىل الطريق) «تحيك بشكل غري مباشر‬

‫تجربته كابن وحيد سافر وحيدً ا وتعلم وأثبت نفسه»‪ .‬وقال‬ ‫عبدالسيد‪ :‬إن خان كان شديد االهتمام بقضايا املرأة منذ‬

‫«أحالم هند وكاميليا»‪« :‬وتأجج هذا االهتمام بعد أن تعاون‬

‫‪175‬‬


‫سينما‬

‫عباس كياروستامي‪..‬‬ ‫السينما التي ال تشبه إال ذاتها‬ ‫إبراهيم العريس‬ ‫ناقد سينمائي لبناني‬

‫‪176‬‬

‫«تعجز كلماتي عن وصف شعوري تجاه هذه األفالم‪ .‬حين رحل ساتياجيت راي‪ ،‬شعرت بانهيار‬ ‫شديد‪ .‬لكني بعدما شاهدت أفالم كياروستامي‪ ،‬شكرت ربي على كونه أعطانا الشخص المناسب‬ ‫ليأخذ مكانه»‪ .‬قائل هذا الكالم ليس سوى المخرج الياباني الكبير الراحل آكيرا كوروساوا‪ .‬وهو‬ ‫كتبه كما يبدو واضحً ا‪ ،‬بصدد أفالم المخرج اإليراني الراحل قبل أسابيع عباس كياروستامي‪،‬‬ ‫ليضاف كالمه إلى ما قال كبير آخر من كبار السينما العالمية في أيامنا هذه‪ ،‬مارتن سكورسيزي‬ ‫مشيرًا إلى أن كيارستامي يعد من بين أفضل السينمائيين األحياء في العالم‪.‬‬

‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬


‫اليوم بعد رحيل صاحب «طعم الكرز»‪ ،‬و«أين منزل‬

‫الصديق؟»‪ ،‬يمكن التساؤل عن املكانة التي يحتلها يف تاريخ‬

‫السينما‪ ،‬وقد اكتملت سينماه‪ ،‬ولم يعد قادرًا عىل إضافة يشء إىل‬ ‫ما سبق له إنجازه‪ .‬مهما يكن‪ ،‬من املؤكد أن رحيل كياروستامي‪،‬‬

‫سوف يعدل النظرة إىل سينماه ومساره الفني؛ إذ لم يعد قادرًا‬

‫اآلن عىل أن يحدث أي تعديل فيه‪.‬‬

‫لكن رحيل كياروستامي أىت مفاج ًئا‪ ،‬ويف وقت كان الرجل ال‬

‫يزال مملوءً ا باألحالم واملشروعات‪ .‬هو الذي كان يقول دائمً ا‪ :‬إن‬ ‫لديه باستمرار شي ًئا يقوله‪ ،‬يف سينماه‪ ،‬وهو الذي كان التجديد‪،‬‬

‫يف املوضوعات واألشكال السينمائية سمة أساسية لديه‪ ،‬ناهيك‬ ‫عن اهتمامه بعدد ال يستهان به من الفنون األخرى‪ ،‬كاألوبرا‬

‫والشعر والتصوير الفوتوغرايف واملسرح‪ .‬فكياروستامي كان من‬

‫طينة أولئك املبدعني القلة يف األزمان األخرية‪ ،‬الذين ال ينظرون إىل‬

‫السينما‪ ،‬مجال نشاطه الرئيس عىل أي حال‪ ،‬كفن بني الفنون‪،‬‬ ‫بل كفن يشمل العديد من الفنون‪ .‬ومن هنا حتى وإن كان إيرانيًّا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫منغلقا عىل هوية محددة‪ ،‬أو‬ ‫يف تراثه وتعبرياته‪ ،‬فإنه لم يكن‬ ‫عىل ثقافة محدودة‪ .‬بمعنى أنه حني انصرف يف سنواته األخرية‬ ‫إىل تحقيق أفالم يف «الخارج»‪ ،‬مرة يف إفريقيا «إ‪.‬ب‪ .‬ث‪ .‬إفريقيا»‪،‬‬

‫ومرة يف إيطاليا مع نجمة فرنسية ومغني أوبرا إنجليزي شهري‪،‬‬

‫«نسخة طبق األصل»‪ ،‬وثالثة يف اليابان «مثل شخص مغرم»‪،‬‬

‫لم يكن يرى نفسه منفيًّا خارج بلده‪ ،‬وخارج ثقافته؛ بل متابعً ا‬

‫عمله يف سرب أغوار املوضوعات التي دائمًا ما أثارت اهتمامه‪ ،‬لكن‬

‫أكرث من هذا‪ ،‬األشكال السينمائية التي كانت تحركه فتستنفره‪،‬‬ ‫ويجدد فيها؛ يك يبدع تلك السينما املتفردة‪ ،‬التي من الصعب‬

‫القول‪ :‬إنها تشبه أية سينما أخرى‪.‬‬ ‫إعادة اخرتاع الحقيقة‬

‫فلم نسخة طبق األصل‬

‫«الحياة مستمرة»‪ ،‬موضوعه الزلزال‪ ،‬والبحث عن مصري صبي‬ ‫الفلم األول عىل وقع تلك النكبة‪...‬‬

‫قد يبدو كالمنا هنا أشبه بالكلمات املتقاطعة‪ ،‬ولذلك سنعود‬ ‫ً‬ ‫انطالقا من سؤال قد يبدو تبسيطيًّا هنا‪ ،‬لكن أهميته‬ ‫إليه مواربة‪،‬‬

‫سوف تنجيل بعد قليل‪ :‬ترى لوال الزلزال املريع الذي عرفته منطقة‬

‫شمال إيران يف (يونيو) ‪1990‬م‪ ،‬هل كان من شأن سينما املخرج‬ ‫اإليراين الكبري عباس كياروستامي‪ ،‬أن تلفت نظر العالم إىل الحد‬

‫الذي لفتته به؟ وبشكل معاكس يمكن طرح السؤال عىل النحو‬

‫لعل «الشكل» السينمايئ األول لديه يتلخص يف ذلك املزج‬

‫اآليت‪ :‬لوال ثالثية عباس كياروستامي املؤلفة من أفالمه «أين منزل‬

‫لعبًا عىل الكالم هنا‪ ،‬بل قسط من جوهر اللعبة الفنية‪ ،‬يتمثل‬

‫يمكن لذلك الزلزال املرعب أن يبقى يف ذاكرة الناس الذين لم‬ ‫يعيشوا ذلك الزلزال ًّ‬ ‫حقا؟‬

‫املدهش بني الواقع والخيال‪ ،‬أو باألحرى‪ ،‬إعادة اخرتاع الحقيقة‬ ‫ً‬ ‫انطالقا من فكرة تخييلية مستمدة أصال ً من الواقع‪ .‬وليس هذا‬ ‫لدى كياروستامي منذ البداية‪ ،‬ويجد نموذجه األمثل يف العالقات‬

‫االستنباطية التي تربط أفالم ثالثيته املشتهرة واملسماة «ثالثية‬

‫كوكر»؛ ألن «أحداث أفالمها الثالثة» تقع يف منطقة جبال كوكر‬ ‫اإليرانية‪ ،‬املنطقة التي بقدر ما اشتهرت بأفالم كياروستامي‪،‬‬

‫اشتهرت كذلك بالزلزال العنيف الذي وقع يومًا فيها‪ .‬لكن ما يجدر‬

‫مالحظته هنا هو أن كياروستامي قد بدأ االشتغال سينمائيًّا عىل‬ ‫قرية يف تلك املنطقة الجبلية‪ ،‬قبل وقوع الزلزال‪ ،‬وكان ذلك يف‬

‫أول أفالمه الشهرية «أين منزل الصديق؟»‪ .‬أما الزلزال فقد حدث‬ ‫ً‬ ‫الحقا بعد إنجاز الفلم‪ ،‬ما دفع املخرج‪ ،‬يف ربطه املحكم بني الواقع‬ ‫والسينما‪ ،‬إىل أن يعود بعد الزلزال إىل املنطقة ليصور فلمً ا ثانيًا هو‬

‫الصديق؟»‪« ،‬الحياة مستمرة»‪ ،‬و«عرب أشجار الزيتون»؛ هل كان‬

‫نطرح هذين السؤالني ملجرد اإلشارة إىل ذلك التواصل املدهش‬

‫بني ما ينتمي إىل عالم الواقع والحياة‪ ،‬وما ينتمي إىل عالم الفن‪،‬‬ ‫نعني الفن الحقيقي الذي ينهل من الحياة وشرايينها‪ .‬ومع هذا‬

‫فإن العالقة بني سينما كياروستامي والزلزال الذي ضرب شمال‬ ‫إيران يوم ‪1990/6/21‬م‪ ،‬لم تبنها سوى صدفة مدهشة جعلت من‬

‫تلك املنطقة املكان الذي صور فيه كياروستامي واحدً ا من أجمل‬

‫وأول أفالمه وهو «أين منزل الصديق؟»‪.‬‬ ‫ً‬ ‫إذا‪ ،‬حني صور املخرج فلمه هناك‪ ،‬لم يكن الزلزال قد حدث‬ ‫بعد‪ .‬والفلم يدور حول حكاية هادئة عن فتى يبحث عن منزل‬

‫صديقه؛ ليعطيه دفرت دروس كان هو قد احتفظ به خطأ‪ .‬الذي‬

‫‪177‬‬


‫سينما‬

‫حدث بعد إنجاز الفلم‪ ،‬هو أن الزلزال ضرب املنطقة نفسها ودمر‬

‫كان كرث يدهشون لكونه ال يغادر إيران نهائيًّا كما فعل حتى اآلن‬

‫ومن هنا كان من الطبيعي لكياروستامي أن يحقق فلمً ا جديدً ا‬

‫انصرف‪ ،‬من دون أي إعالن سابق‪ ،‬ومن دون أداء دور املضطهد‬

‫القرية التي يسكن فيها الصديق الذي بحث الفلم األول عن منزله‪.‬‬ ‫يدور حول البحث عما آل إليه مصري بطل الفلم الصغري‪ .‬فإذا‬

‫بالفلم يكشف عن إصرار الناس عىل العيش رغم قسوة الزلزال‪.‬‬ ‫ً‬ ‫متحدثا عن قوة الفن وارتباطه‬ ‫أما الجزء الثالث من الثالثية فأىت‬

‫أو الشهيد‪ ،‬خالل األعوام األخرية إىل تحقيق فلميه األخريين يف‬ ‫الخارج‪ :‬يف إيطاليا بالنسبة إىل «نسخة طبق األصل»‪ ،‬ويف اليابان‬ ‫بالنسبة إىل «مثل شخص مغرم»‪ .‬والالفت أن ليس ألي من هذين‬

‫بالحلم من خالل حكاية شاب يحب فتاة‪ ،‬لكن أهلها ال يرغبون‬ ‫عريسا لها؛ ألنه ال يملك بي ًتا‪ .‬وإذ يحدث الزلزال‪ ،‬يصبح أهل‬ ‫فيه‬ ‫ً‬

‫ظاهريًّا عىل األقل كما سوف نرى بعد قليل‪ .‬ألم نعرف دائمً ا‬

‫والفتى) ال يجتمعان إال ككومبارس خالل تصوير فلم كياروستامي‬

‫أفالمه األوىل؟ وتجريبية كياروستامي كانت تشمل كل يشء‪ ،‬من‬

‫الفتاة أنفسهم من دون بيت‪ ،‬فيتساوى الطرفان‪ .‬لكنهما (الفتاة‬

‫الثاين‪ ،‬حيث يحل اجتماعهما يف الفن الفلم‪ ،‬محل اجتماعهما‬ ‫يف الحياة‪ .‬وهكذا صار للزلزال ثالثية‪ .‬ولكن لنئ كان العالم كله‬

‫قد اهتم بالثالثية فإن اإليرانيني أنفسهم ‪-‬وهذا طبيعي‪ -‬اهتموا‬ ‫بالزلزال نفسه؛ ألن جمال السينما وعمقها ال يمكن أن ينسيا أحدً ا‬

‫عمق املأساة ورهبتها‪.‬‬

‫الفلمني عالقة بسينماه القديمة الرائعة‪ ،‬وال بإيران نفسها‪،‬‬ ‫أن كياروستامي فنان تجريب متواصل‪ ،‬وعىل كل الصعد‪ ،‬منذ‬ ‫االشتغال بالتصوير الفوتوغرايف‪ ،‬إىل ربط أفالمه بعضها ببعض‪.‬‬ ‫عوالم استثنائية‬

‫باك ًرا‪ ،‬منذ أول أفالمه إىل «ستحملنا الرياح»‪ ،‬و«كلوز أب»‪،‬‬

‫وما أعقبها من أفالم‪ ،‬سرعان ما غزت العالم وحققت الجوائز‬

‫والحقيقة أننا ما أسهبنا يف الوقوف عند هذه النقطة‪ ،‬إال‬

‫الكربى‪ ،‬وأضافت اسم عباس كياروستامي إىل أسماء أولئك‬

‫بني الواقع والفن‪ .‬ونعود هنا إىل رحيل كياروستامي‪ ،‬الذي لم‬

‫الياباين‪ ،‬حتى يوسف شاهني املصري‪ ،‬الذين يؤكدون دائمً ا مقولة‬

‫ألنها تكاد وحدها تختصر تلك العالقة التي يقيمها كياروستامي‬

‫‪178‬‬

‫معظم كبار املبدعني واملفكرين اإليرانيني‪ ،‬تمامًا كما دهشوا حني‬

‫السينمائيني العامليني الكبار‪ :‬ساتياجيت راي الهندي وكوروساوا‬

‫يكن أحد يتوقع له أن يأيت يف مثل تلك السرعة؛ فالرجل كان‬ ‫ً‬ ‫معروفا منذ شهور‪ ،‬أنه مريض وتزداد حال مرضه سوءً ا يومً ا‬

‫سينما عن املوت والحياة‪ ،‬سينما عن السينما‪ ،‬سينما ال تخاف‬

‫السرعة‪ .‬فصاحب األفالم الكبرية التي طبعت السينما العاملية‬

‫الفرد وموقعه‪ ،‬سينما روحية تكاد تكون صوفية‪ ،‬سينما تستنجد‬

‫بعد يوم‪ ،‬لكن أحدً ا لم يكن يتوقع أن يكون رحيله بمثل هذه‬ ‫بتجديداتها اللغوية واملفهومية‪ ،‬وساهمت يف السمعة املبهرة التي‬

‫حازتها السينما اإليرانية يف العالم‪ ،‬كان ال يزال يعطي حتى شهور‬

‫قليلة خلت‪ ،‬مؤشرات حيوية ال تنضب‪ ،‬ويشتغل عىل موضوعات‬

‫عدة ملشروعات مقبلة‪ .‬ومع هذا‪ ،‬ها هو نبأ رحيله يصل يف وقت‬ ‫أوبرايل‪،‬‬ ‫سينمايئ‪،‬‬ ‫كنا نتساءل عمّا سيكون مشروعه املقبل؟‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أدبي‪...‬؟ فكياروستامي خاض كل هذه األنواع وغريها‪،‬‬ ‫فوتوغرايف‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫وخصوصا األنواع‬ ‫مجتمعة أو متفرقة‪ ،‬يف داخل إيران وخارجها‪،‬‬

‫غري السينمائية‪ ،‬كانت خارجها‪.‬‬

‫مهما يكن‪ ،‬وعىل رغم أن كل الدالئل كانت دائمً ا تشري إىل أن‬

‫راض عن بعض سياسات بالده‪ ،‬من دون‬ ‫عباس كياروستامي غري ٍ‬

‫أن يجعل من نفسه وفنه سالحً ا يف أي معركة من هذا النوع‪،‬‬

‫أن ال مكان لنبي يف بلده‪ ،‬حدد كياروستامي عوامله السينمائية‪:‬‬

‫خوض التجارب‪ ،‬سينما تتأرجح بني الوثائقي والروايئ‪ ،‬سينما عن‬ ‫بالصورة لكنها ال تخىش اختفاءها تاركة لألصوات أن تشتغل‬

‫بديلة منها‪ ،‬وبخاصة سينما تشاكس إنما ال يبدو عليها أنها تفعل‬

‫ذلك‪ ،‬تشاكس أخالقيًّا وسياسيًّا وجماليًّا‪ ...‬ولكن دائمً ا باالستناد‬ ‫إىل ذلك املكر اإليراين الظريف والخفي الذي كان كياروستامي ً‬ ‫ملكا‬ ‫من ملوكه يف مجال الفن‪.‬‬

‫وعلينا للتيقن من هذا عىل أية حال‪ ،‬أن نتذكر امرأة فلم‬ ‫«عشرة» وهي تتجول بسيارتها يف شوارع طهران مبدّلة ر ّكابها‬ ‫عشر مرات‪ ،‬أو نساء إيرانيات وهنّ يشاهدن بشغف حكاية‬ ‫«شريين» َّ‬ ‫تمثل أمامهن عىل شاشة ال نراها‪ .‬أو ذلك الشغف‬ ‫بالسيارات ودالالتها يف درامية أفالمه‪ ...‬هذا كله وغريه علينا أن‬ ‫نتذكره؛ يك ندرك الخسارة التي يمثلها غياب هذا املبدع الكبري‬ ‫الذي حني سئل يومً ا‪ :‬ملاذا ال يغادر إيران كما فعل غريه؟ أجاب‬

‫رحيل كياروستامي أتى مفاج ًئا‪ ،‬وفي وقت‬

‫مبتسمًا‪« :‬أنتم لو انتزعتم شجرة من أرضها وزرعتموها يف أرض‬

‫دائما‪ :‬إن لديه باستمرار‬ ‫هو الذي كان يقول‬ ‫ً‬

‫املذاق كما كانت حالها يف أرضها القديمة»‪ .‬والحقيقة أن مقارنة‬

‫كان ال يزال مملوءًا باألحالم والمشروعات‪.‬‬ ‫شي ًئا يقوله‪ ،‬في سينماه‪ ،‬وهو الذي‬

‫كان التجديد‪ ،‬في الموضوعات واألشكال‬ ‫السينمائية سمة أساسية لديه‬

‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬

‫أخرى‪ ،‬قد تواصلون الحصول عىل ثمارها‪ ،‬لكنها لن تكون طيبة‬ ‫سريعة بني أفالم كياروستامي اإليرانية‪ ،‬والسينما التي حققها يف‬

‫الخارج‪ ،‬ستحسم الجواب هنا‪.‬‬


‫موسيقا‬

‫شيخ المؤرخين والنقاد الموسيقيين‬

‫زين نصار‪ :‬االستخدام العشوائي‬ ‫للتقنية دمر الموسيقا‬ ‫وأفسد الذوق العام‬ ‫القاهرة‬

‫يعد الدكتور زين نصار شيخ المؤرخين الموسيقيين في مصر‬ ‫وربما في العالم العربي‪ ،‬فقد شغل منصب أول رئيس لقسم‬

‫النقد الموسيقي في المعهد العالي للنقد الفني مدة سبع‬

‫سنوات‪ ،‬وأشرف وشارك في مناقشة (‪ )147‬رسالة ماجستير‬

‫ودكتوراه في مجاالت الموسيقا والغناء والنقد في كل من‬ ‫(أكاديمية الفنون‪ ،‬وجامعة حلوان‪ ،‬وجامعة القاهرة‪،‬‬

‫وجامعة عين شمس‪ ،‬وجامعة اإلسكندرية)‪ ،‬وكتب المادة‬ ‫العلمية على مدار ‪ 37‬عامً ا لكثير من البرامج الموسيقية‬ ‫في اإلذاعة المصرية ومن بينها‪ :‬عالم‬ ‫الموسيقا (استمر مدة ‪ 26‬عامً ا)‪،‬‬ ‫وفن الباليه‪ ،‬وسؤال موسيقي‪،‬‬ ‫والموسيقا المصرية المتطورة‪،‬‬ ‫وإيقاعات ونغمات‪ ،‬وسهرة مع‬ ‫الموسيقا‪ ،‬ومع الموسيقا‬ ‫العالمية‪ ،‬وأوتار موسيقية‪،‬‬ ‫والموسيقا عبر العصور‪.‬‬

‫‪179‬‬


‫موسيقا‬

‫زكريا أحمد‬

‫اهتم بشكل خاص بالتأريخ للموسيقا والغناء يف مصر‬

‫ملاذا لم تلجأ إىل الدولة لتقديم العون يف هذا الشأن؟‬

‫كبار املوسيقيني املصريني؛ لتوثيق املعلومات عن حياتهم‬

‫الجمع والتسجيل والتفريغ‪ ،‬وكنت كلما أنجزت رصدي لحياة‬

‫يف القرن العشرين‪ ،‬وأجرى كثريًا من األحاديث املسجلة مع‬ ‫ومؤلفاتهم‪ ،‬وصدر له كثري من املؤلفات يف مقدمتها «موسوعة‬ ‫املوسيقا والغناء يف مصر يف القرن العشرين»‪ .‬الفيصل حاورته‬

‫حول هذه املوسوعة وموضوعات أخرى‪.‬‬

‫_ ألنه لن يساعدين أحد‪ ،‬ولدي خربة كبرية اآلن يف مسألة‬

‫وتاريخ وأعمال ملحن أو مؤلف أقوم بنشر ما أنجزت يف مجلة‬ ‫الفنون التابعة للنقابات الفنية التي صدرت عام ‪1977‬م‪ ،‬وبدأت‬ ‫مشاركتي فيها من العدد الخامس‪.‬‬

‫ما الذي دفعك إىل إعداد موسوعة عن املوسيقا والغناء‬

‫هل تسعى إلعداد موسوعة موازية عن املوسيقا والغناء‬

‫_ يف عام ‪1977‬م كنت أعد دراستي للماجستري‪ ،‬ولم‬

‫_ هذه خطة طموحة أتمنى أن يوفقني الله لها‪ ،‬وإن كنت‬

‫كباحث‪ ،‬ومن هنا بدأت الفكرة وأنا أعمل عىل املؤلفني املصريني‬

‫املصري‪ ،‬إضافة إىل أن األشقاء يف البلدان العربية لديهم من‬

‫املصري‪ ،‬وما الذي قدمته عىل مدار أجزائها الثالثة؟‬

‫‪180‬‬

‫سيد درويش‬

‫عمار الشريعي‬

‫يكن هناك تاريخ مكتوب للموسيقا بشكل يفي بالغرض لدي‬

‫ومؤلفات األوركسرتا السيمفوين‪ ،‬وقد نشرت هذا الكتاب عام‬ ‫‪1990‬م تحت عنوان‪« :‬املوسيقا املصرية املتطورة»‪ ،‬بعد ذلك بدأت‬ ‫يف تسجيل حوارات حية مع كبار امللحنني‪ ،‬وصدرت املوسوعة‬

‫عام ‪2003‬م‪ ،‬كان جزؤها األول عن امللحنني‪ ،‬وقد رتبتهم فيها‬

‫حسب أسبقية تواريخ امليالد بداية من عبده الحامويل إىل عمار‬ ‫الشريعي املولود عام ‪1948‬م‪ .‬ويف الجزء الثاين من املوسوعة‬

‫أضفت ملحنني آخرين‪ ،‬فقد اشتمل الجزء األول عىل نحو ‪48‬‬ ‫ملح ًنا‪ ،‬أما الجزء الثاين فقد ضم أسماء لم تكن أدرجت‪ ،‬من‬

‫يف العالم العربي؟‬

‫أرى أنني لم أنته بعد من رصد وتسجيل كامل املوسيقا والغناء‬ ‫يؤرخ ملوسيقاهم‪ ،‬وقد التقيت كثريين منهم يف إطار سفريايت‬

‫أو عميل األكاديمي‪ ،‬وأشرفت يف بعض األوقات عىل رسائل‬ ‫ماجستري ودكتوراه لبعضهم يف هذا املجال‪ ،‬ويف حال توافر‬

‫الطاقة والجهد املالئم فإنني سأشرع يف ذلك‪.‬‬

‫يف رأيك كيف يمكن الحفاظ عىل تراثنا املوسيقي املتنوع؟‬ ‫_ عرب كتابة تاريخه بشكل صحيح ودقيق‪ ،‬وتسجيله‬

‫عىل تسجيالت صوتية ومرئية لألجيال املقبلة‪ ،‬ونشره اآلن‬

‫بينها‪ :‬محمد رشدي‪ ،‬وكمال الطويل‪ ،‬وسيد إسماعيل‪ ،‬وسيد‬

‫يف الصحف واملجالت ومختلف تقنيات اإلعالم الحديثة‪ ،‬مع‬

‫وقمت بتفريغ الحوارات وإعادة تحريرها وحدي وبنفيس‪ ،‬وبلغ‬ ‫تعداد امللحنني يف الجزء الثالث نحو ‪ 150‬ملح ًنا‪ ،‬وأسعى اآلن‬

‫حدث يف أثناء إنجازهم لها وكل ما يعن من تفصيالت مفيدة‬

‫مكاوي وغريهم‪ ،‬وأجريت حوارات مع الجميع بالكاسيت‪،‬‬

‫إلنجاز جزء جديد عن املؤلفني وقادة الفرق والنقاد‪.‬‬

‫تعريف بأهم الفنانني وامللحنني والتعليق عىل أعمالهم وما‬ ‫يف الرصد والتأريخ‪.‬‬

‫كيف أثرت فكرة السعي املتزايد خلف الربح يف املنتج‬

‫ثورة يوليو تعاملت بسخاء مع الفن‪،‬‬

‫املوسيقي اآلن؟‬

‫‪1959‬م وما بها من معاهد فنية‪ ،‬لكن‬

‫أجل استمرار الحياة‪ ،‬لكن اآلن أصبح التفكري يف هذا االتجاه‬ ‫متزايدً ا‪ ،‬ومع تدهور الذوق العام ُ‬ ‫ضمِّ نت األغاين املصرية‬

‫فهي أنشأت أكاديمية الفنون عام‬ ‫عصر االنفتاح أضر بكل شيء‬

‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬

‫_ طيلة الوقت والفنان يفكر يف الربح بشكل ما‪ ،‬ربما من‬

‫ً‬ ‫ألفاظا خارجة وبذيئة وسوقية‪ ،‬وصاحب ذلك تركيبها عىل‬


‫أعمال فنية تلفزيونية تدعو إىل البلطجة‬

‫وتجعل الشباب يتصورون أن هذه هي‬ ‫الحياة الحقيقية‪ ،‬وقد لعب عامل‬

‫الربح بشكل واضح عىل دفع الفنانني‬ ‫من شعراء وملحنني وموزعني إىل السري‬

‫يف ركاب املوج العايل للمادة‪ ،‬وهذا‬ ‫أسهم بشكل واضح يف تزييف كل يشء‬ ‫بدءً ا من املوسيقا وصولاً إىل القيم التي‬ ‫يتغنون بها‪.‬‬

‫حدثنا عن املحطات األساسية يف تاريخ املوسيقا والغناء‬

‫املصري يف العصر الحديث؟‬

‫_ أول محطة أساسية يف تقديري هي صناعة األسطوانات‬

‫عام ‪1904‬م‪ ،‬حيث سُ جِّ ل للشيخ سالمة حجازي وغريه‪ .‬املحطة‬

‫الثانية هي ظهور املسرح الغناين لسالمة حجازي وسيد‬ ‫درويش وزكريا أحمد وكامل الخلعي وغريهم‪ .‬واملحطة‬

‫الثالثة كانت ظهور اإلذاعة املصرية عام ‪1934‬م‪ ،‬فقد كانت‬ ‫من قبل إذاعات أهلية يقوم كل صاحب محطة بإذاعة‬

‫وقول ما يريده من خاللها‪ ،‬حتى قررت الحكومة إلغاء هذه‬ ‫اإلذاعات وإنشاء اإلذاعة املصرية فقط‪ ،‬وكانت تقدم املؤلفات‬

‫املصرية والعاملية من خالل أوركسرتا اإلذاعة املصرية‪ ،‬وظل‬ ‫هذا األوركسرتا موجودًا يف اإلذاعة حتى عام ‪1959‬م إذ انتقل‬ ‫إىل دار األوبرا‪ .‬لكن املحطة الرابعة يف نظري هي ثورة يوليو‬

‫التي تعاملت بسخاء مع الفن‪ ،‬كما أنشأت أكاديمية الفنون‬ ‫عام ‪1959‬م وما بها من معاهد فنية‪ .‬واملحطة الخامسة كانت‬

‫ظهور شرائط الكاسيت‪ ،‬وهي تضافرت مع مجيء عصر‬

‫االنفتاح الذي أضر بكل يشء؛ إذ إن املهنيني كانوا يعودون‬ ‫من بلدان الخليج بما معهم من أموال‪ ،‬فيقومون باالستثمار‬ ‫يف املجال الفني‪ ،‬كل حسب ذوقه ودرايته بالفن‪ ،‬فظهرت‬ ‫شرائط الكاسيت خارج نطاق لجان اإلذاعة املصرية‪ ،‬وهذا عاد‬

‫بنتائج سيئة جدًّ ا عىل الذوق العام‪ ،‬ولنا أن نتخيل أن فريد‬ ‫األطرش تويف عام ‪1974‬م‪ ،‬وتوفيت أم كلثوم عام ‪1975‬م‪،‬‬

‫وتويف عبدالحليم حافظ عام ‪1977‬م‪ ،‬هكذا خسر العالم‬ ‫العربي أهم وأشهر ثالث قامات يف الغناء عىل مدار ثالث أو‬

‫عبدالحليم حافظ‬

‫أم كلثوم‬

‫عدم المعرفة بالفن والموسيقا أدى‬ ‫إلى قتل المواهب وفتح المجال على‬ ‫مصراعيه للسرقة من األعمال العالمية‬ ‫أو التراث الشرقي‬ ‫ً‬ ‫أصواتا ال عالقة‬ ‫هذا الجهاز أيسء استخدامه بشكل أنتج‬

‫لها بالواقع‪ ،‬كما أيسء استخدام األورغ الكهربايئ وقدرات‬ ‫الحاسب اآليل وضبطها ألصوات اآلالت الصناعية‪ .‬لقد صرنا‬

‫نعيش يف عالم زائف ال وجود له‪ ،‬عالم من الخداع والربامج‬ ‫الجاهزة التي تستخدم من دون فهم‪ ،‬إضافة إىل أن الحس‬

‫اإلنساين يف الغناء واملوسيقا لم يعد موجودًا‪ .‬ولألسف ال‬

‫أحد يعرف أن املوسيقا العربية أساسها العود‪ ،‬وأن كل هذه‬ ‫اآلالت غربية‪ .‬املوسيقا العربية هي العود وليس الغيتار‪ ،‬وأهم‬ ‫أساس إلنتاج موسيقي جيد هو فهم اآلالت وطبيعتها إضافة‬ ‫إىل املوهبة والدراسة‪ ،‬أما االستخدام العشوايئ لآلالت توفريًا‬

‫لتكاليف ال ِف َرق أو عدم معرفة بالفن واملوسيقا فقد أدى ذلك‬

‫كله إىل قتل املواهب وإفساد الذوق العام وجعل الفن كتمثال‬ ‫من نحاس‪ ،‬ضجيج بال روح‪ .‬وهو ما أضر بالبناء املوسيقي كله‪،‬‬

‫كما فتح املجال عىل مصراعيه للسرقة من األعمال العاملية أو‬

‫الرتاث الشرقي‪ ،‬وكذلك فتح املجال لالستسهال واستخدام‬ ‫األلحان القديمة بتوزيعات جديدة‪ ،‬حتى إن كل اإلعالنات‬ ‫اآلن تقوم عىل سرقة ألحان مهمة مثل الليلة الكبرية وغريه‪،‬‬

‫ولألسف قانون جمعية املؤلفني وامللحنني حسبما علمت مؤخ ًرا‬

‫أربع سنوات‪ ،‬لنفتح املجال لكل من أراد أن يغني‪ ،‬وكل من‬ ‫ً‬ ‫شريطا ويطرحه يف األسواق‪.‬‬ ‫أراد أن يمأل‬

‫يسمح بأن يدفع أي شخص رسوم استغالل أي لحن ويقوم‬

‫ما أثر التقنية الحديثة يف الغناء يف مصر والعالم‬

‫يزيحه وال يتذكر الناس سوى شكل اإلعالن‪ ،‬كما أنه ال يدفع‬

‫العربي؟‬ ‫_ لقد زيفت كل يشء‪ ،‬يكفي أن نعرف أن هناك جهازاً‬

‫لتحسني الصوت وضبطه من غري إعادة الغناء من جديد‪،‬‬

‫بإعادة إنتاجه‪ ،‬وهذا األمر كارثة ألنه يفقد املرجع أهميته‪ ،‬وقد‬ ‫الشباب إىل االبتكار واملغامرة وتقديم طرح موسيقي جديد‬

‫بقدر ما يجعلنا ندور يف حسبة عدد معني من األلحان نعيد‬ ‫إنتاجها بشكل مبتذل ومتكرر‪.‬‬

‫‪181‬‬


‫مقال‬

‫عزلة الشاعر وواقع الشعر‬

‫ماجد الحجيالن‬ ‫رئيس التحرير‬

‫‪182‬‬

‫لعل أكثر الظواهر‬ ‫بروزا فيما يخص الشعر‬ ‫ً‬ ‫العربي اليوم هي مرور‬ ‫الربيع العربي ثقيلاً على‬ ‫الشعب خفيفً ا على‬ ‫الشعر‪ .‬خرجت الناس‬ ‫إلى الشوارع والميادين‪،‬‬ ‫وصدحت الحناجر ولم‬ ‫نرصد قصيدة واحدة‬ ‫ترددها الجماهير‬

‫ُ‬ ‫حاورت الشاعر الراحل محمد الثبيتي منذ قرابة عقدين في لقاء‬ ‫إعالمي‪ ،‬وكان حينها قد مال إلى العزلة‪ ،‬وابتعد من النشر وأجواء الصحافة‬ ‫الثقافية في أعقاب ما تعرضت له موجة الحداثة من نكسات‪ ،‬وعلى خلفية‬ ‫ما واجهه ديوانه (التضاريس) من هجوم التيارات اإلسالمية؛ إذ صودر من‬ ‫األسواق‪ ،‬ثم سحبت من الشاعر جائزة النادي األدبي في جدة‪ ،‬أتذكر قوله‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫موظفا عند النقاد» مؤكدً ا أنه تجاوز (التضاريس) لكن النقاد‬ ‫«لست‬ ‫وقتها‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫لم يتجاوزوها‪ ،‬وظلوا يسجنون قصيدته في أجوائها‪ ،‬وأنه مل من إقناع‬ ‫األكاديميين بذلك‪ ،‬وكدليل على تجاوزه هذا؛ أنشدني ألول مرة قصيدته‬ ‫النوعية (تعارف‪ /‬غرفة باردة)‪ ،‬وتضمنت تأمله الذاتي واشتغاله بالمحسوس‬ ‫واليومي‪ ،‬تمامً ا كما يصف النقاد قصائد شعراء اليوم التي تحولت من الشأن‬ ‫العام إلى الخاص‪ ،‬ومن قضايا األمة إلى هموم الفرد‪..‬‬ ‫والحقيقة أن نصوص الثبيتي في الثمانينيات كانت مختبر جيل كامل‬ ‫من النقاد السعوديين المفتونين بالشعر الحديث آنذاك‪ ،‬وهو ما أثقل‬ ‫روحه المرهفة وشخصيته الميّالة للعزلة والخجل‪ ،‬غير أن عزلته وغيابه‬ ‫الطويل بعد (التضاريس) أنتجا في وقت الحق مجموعة (موقف الرمال)‬ ‫التي رآها هو نقلة فنية وبنيوية في شعره إلى مرحلة جديدة‪ ..‬ومنذ أن‬ ‫رأيته في لقاء المثقفين السعوديين بالرياض منفردًا وحائ ًرا‪ ،‬مرورًا بانتظاره‬ ‫على مسرح كلية اليمامة حيث أدرج اسمه في األمسية ولم يحضر‪ ،‬حتى‬ ‫زرته في المستشفى في أيامه األخيرة بجدة مستوحدً ا ومنتظ ًرا الرحيل؛‬ ‫ً‬ ‫برهانا على الثمن الذي يدفعه الشاعر إلنتاج‬ ‫ظلت شخصية الثبيتي عندي‬ ‫قصائده‪ ،‬إنه كم هائل من المزاجية والعزلة والفردية‪..‬‬ ‫إلي بعض هذه الذكريات وأنا أقرأ مقالة الشاعر سعدي يوسف‬ ‫عادت ّ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫أطال‬ ‫صمت‬ ‫المنشورة في هذا العدد من مجلة الفيصل‪ ،‬حين تساءل‪« :‬ثمّ ة‬ ‫الـمَ ْـك َ‬ ‫ث‪ .‬مَ ن بعد الثبيتي؟» مستفهمً ا عن حال الشعر السعودي بعد غياب‬

‫الثبيتي‪ ،‬والواقع أن سعدي يوسف كرر السؤال نفسه عن المشهد الشعري‬ ‫في دول عربية أخرى بعد رحيل كبار الشعراء العرب‪ ،‬وقد تبدو اإلجابات‬ ‫الجاهزة عن هذه األسئلة يسيرة‪ ،‬بإحالتها إلى ما يتردد عن زمن الرواية‪ ،‬أو‬ ‫ظهور أوعية إلكترونية جديدة للتعبير‪ ،‬وخالف ذلك من أسباب؛ غير أنها‬ ‫جميعً ا غير كافية لتكون إجابة شافية عن مساحة الشعر اآلخذة في التقلص‬ ‫واالنكماش‪.‬‬

‫وقد خصصت « الفيصل » ملف هذا العدد لمحاولة اإلجابة عن أسئلة‬ ‫غياب الشعر العربي ومآالته في السنوات األخيرة‪ ،‬وكثير ممن شاركوا في‬ ‫هذا الملف رفضوا فكرة تقسيم أحوال الشعر جغرافيًّا مؤكدين أن ما يمر به‬ ‫الشعر العربي هو شأن عام وال يخص منطقة أو بلدً ا بعينه‪ ،‬وسيجد القارئ‬ ‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬


‫مقاالت لكبار الشعراء والنقاد العرب يحاولون فيها التعاطي مع المسألة‬ ‫الشعرية اليوم‪ ،‬رافضين وصفها باألزمة‪ ،‬مؤكدين أن «الشعر ضرورة» كما‬ ‫يعبِّر أحمد عبدالمعطي حجازي في مقالته‪.‬‬ ‫ولعل أكثر الظواهر برو ًزا فيما يخص الشعر العربي اليوم هي مرور‬ ‫ً‬ ‫خفيفا على الشعر‪ .‬خرجت الناس إلى‬ ‫الربيع العربي ثقيلاً على الشعب‬ ‫الشوارع والميادين‪ ،‬وصدحت الحناجر ولم نرصد قصيدة واحدة ترددها‬ ‫الجماهير‪ ،‬لقد حمل العرب حقائبهم‪ ،‬وتشتتوا في المنافي‪ ،‬أو هاجروا في‬ ‫البحر‪ ،‬وتركوا الشعر وراءهم‪ ..‬إن غياب الشعر عن أكبر هزة زلزلت الثقافة‬ ‫والسياسة العربية لهُو سؤال كبير‪ ،‬وحيثما قرأت اعتذارات نقدية تقول‪ :‬إنها‬ ‫لحظة انفعالية آنية يحتاج الشاعر وق ًتا ليستوعبها؛ تذكرت الجواهري ونزار‬ ‫قباني وغازي القصيبي‪.‬‬ ‫القصيدة هي ثمرة احتدام طويل‪ ،‬إنها المرحلة األخيرة من تجارب‬ ‫حياتية ولغوية يجب أن يعيشها الشاعر‪ ،‬وإذا قطع هذا االحتدام طارئ ما؛‬ ‫أفسد التجربة كلها‪ّ ،‬‬ ‫ونغص على الشاعر عزلته التي يغتنمها ليجمع المعاني‬ ‫وتنصهر الصور في الكلمات‪ ،‬فهل تتوافر هذه العزلة في أيامنا هذه؟ لقد‬ ‫صار الشعراء اليوم مصلوبين على حساباتهم في فيسبوك وتويتر‪ ،‬وما إن‬ ‫تعنّ للشاعر فكرة حتى يسربها في مئة حرف لتغيب وسط ماليين الحروف‬

‫األخرى في الدقيقة الواحدة‪.‬‬ ‫ويعنيني هنا إيراد حكاية شاعر ظل يقاوم فكرة الهاتف الذكي وحسابات‬ ‫المواقع االجتماعية وتطبيقاتها المتناسلة‪ ،‬ونجح في الصمود سنوات حتى‬ ‫هُ زم أمام إلحاح الناس‪ ،‬وصار اليوم يكره قراره بشراء هذا «الجاسوس‬

‫الصغير» كما يسميه‪ .‬لقد أنهكت األخبار العاجلة وبرامج المحادثات‬ ‫خصوصية المبدع‪ ،‬وانطواءه الخالق‪ ،‬ولعلها خدمت الكاتب واإلعالمي‪،‬‬ ‫غير أن األجهزة الذكية أجهزت على خيال الشاعر‪ ،‬واقتحمت عليه الباب‪،‬‬ ‫وهاجمته بالنصوص والمعلومات والصور‪.‬‬ ‫ولد الشعر عند العرب ليكون وسيلة التواصل االجتماعي‪ ،‬به يتناقلون‬ ‫األخبار ويعبرون عن أشجانهم وأفراحهم‪ ،‬عن واقعهم وأحالمهم‪ ،‬وجاء‬ ‫استحداث وسائط تقنية لهذا االتصال االجتماعي ليؤثر في الشعر تأثي ًرا ً‬ ‫بالغا‪،‬‬ ‫لقد هزم الفيديو الصورة الشعرية‪ ،‬وخضع المجاز واالستعارة أمام النصوص‬ ‫اإلخبارية والتعليقات اليومية‪ .‬عالمنا اليوم شديد الواقعية‪ ،‬ال يترك مساحة‬ ‫للخيال الذي هو مادة الشعر‪ ..‬إنه واقع جديد يتطلب استجابات جديدة‬ ‫تناسبه‪ .‬هكذا نرى الشعر محض نص هامشي ألغنية سريعة‪ ،‬لقد عبث‬ ‫موسيقيو اليوم بالقصيدة؛ كي تستجيب للنوتات الزاعقة‪ ،‬وهكذا ً‬ ‫أيضا نجد‬ ‫َ‬ ‫أردت دليلاً أخي ًرا على واقع‬ ‫الشعر يلهث في مسابقات ال عالقة لها به‪ ،‬وإذا‬ ‫الشعر اآلن فما عليك إال قراءة قصائد الفائزين بالجوائز الشعرية العربية‪.‬‬

‫‪www.alfaisalmag.com‬‬ ‫مدير التحرير‬

‫أحمد زين‬

‫اإلخراج‬

‫ينال إسحق‬ ‫التنفيذ‬

‫رياض دفدوف‬ ‫مبارك علي‬ ‫الموقع اإللكتروني‬

‫معتز عبدالماجد‬

‫المراجعة اللغوية‬

‫محمد نصير سيد‬ ‫مراسالت التحرير واإلدارة‬

‫ص‪.‬ب (‪ )3‬الرياض ‪11411‬‬ ‫المملكةالعربيةالسعودية‬ ‫هاتف المجلة ‪)+966( 11٤٦٥3027 :‬‬ ‫‪)+966( 11٤٦٥٢٢٥٥‬‬ ‫فاكس‪)+966( 11٤٦٤٧٨٥١ :‬‬ ‫‪contact@alfaisalmag.com‬‬

‫اإلعالنات‬ ‫هاتف‪ .11٤٦٥٢٢٥٥ :‬ـ فاكس‪.11٤٦٤٧٨٥١ :‬‬ ‫‪advertising@alfaisalmag.com‬‬ ‫االشتراكات والتوزيع‬

‫‪ .11٤٦٥٢٢٥٥‬تحويلة‪6640 :‬‬ ‫‪subscriptions@alfaisalmag.com‬‬


‫مقال‬

‫ديوان العرب‪...‬‬ ‫ُ‬ ‫أمأهول هو اآلن؟‬ ‫ٌ‬ ‫اعتراضات ِع ّدةٍ‪ ،‬أن الشع َر ال يزال ديوانَ‬ ‫العرب‪.‬‬ ‫أرى‪ ،‬بالرغم من‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫معرض مفاضل ٍة نافلةٍ‪ ،‬بين الشعر والرواية‪،‬‬ ‫أقول هذا‪ ،‬ليس في ِ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫روائي‬ ‫فاألنواع األدبية متداخلة‪ ،‬متآخية‪ ،‬يش ُّد بعضها بعضا‪ .‬كم من‬ ‫ٍّ‬ ‫بدأَ‬ ‫شاعر انتهى روائيًّا‪.‬‬ ‫من‬ ‫وكم‬ ‫ا‪،‬‬ ‫ر‬ ‫شاع‬ ‫ً‬ ‫ٍ‬ ‫الحالي لساحة اإلبداع‪ ،‬وهو مشو ٌ‬ ‫َّش‪ ،‬غي ُر‬ ‫إالّ أن المشه َد‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫نفسا‪ ،‬مع أن‬ ‫باهت‪ ،‬يدعوني إلى أن أكون أهدأ‬ ‫مست ِقرٍّ‪ ،‬بل‬ ‫َ‬ ‫وأرحب ً‬ ‫النفس هذا قد يأتي إلى نتائجَ ال تس ُّر أحدًا‪ ،‬مثل ما أنها ال تس ُّرني‪.‬‬ ‫هدوءَ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫أعوام‬ ‫وقبل‬ ‫الشعر»؛‬ ‫«زمن‬ ‫عن‬ ‫ا‬ ‫الحديث‬ ‫كان‬ ‫د‬ ‫عقو‬ ‫قبل‬ ‫جً‬ ‫مؤجَّ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫الحديث متوات ًرا عن «زمن الرواية»‪،‬‬ ‫كان‬ ‫ّ‬ ‫وفي الحالتين كلتيهما‪ ،‬كنا غير دقيقين‪.‬‬ ‫العربية تي ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫الحديث عن «زمن الشعر» كان آنَ‬ ‫ّاهة في بهائها‬ ‫الرواية‬ ‫لدى نجيب محفوظ‪ ،‬وعبدالرحمن منيف‪ ،‬وجمال الغيطاني‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫العربي حمّال أسئل ٍة‬ ‫والحديث عن «زمن الرواية» كان آنَ الشع ُر‬ ‫ّ‬

‫‪184‬‬

‫الجدة ّ‬ ‫والصرامة‪.‬‬ ‫في تمام ِ‬ ‫* * *‬ ‫ً‬ ‫العرب‪ :‬الشعر‪.‬‬ ‫الحالي لديوان‬ ‫إذا‪ ،‬نحن إزاء المشهدِ‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫إقامتي المديدة في ديار العرب‪ ،‬وإطاللتي الدائمة على المشهدِ‬ ‫الشعري فيها‪ ،‬جعلتاني أتق ّرى األمو َر في من ِبتِها‪.‬‬ ‫أبدأُ بالبدء‪.‬‬ ‫وأعني هنا‪َ ،‬‬ ‫التهائم والنجود والسواحل‪.‬‬ ‫أرض الجزيرة ذات‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫أطال الـم َْـك َ‬ ‫ٌ‬ ‫ث‪ .‬مَن بعد الثبَيتي؟‬ ‫صمت‬ ‫ثمّة‬ ‫مَن بعد أحمد راشد ثاني؟‬ ‫السالمي؟‬ ‫مَن بعد زهران‬ ‫ّ‬ ‫أشاع ُر المليون؟‬ ‫النبطي المتنافجون؟‬ ‫أم أمراءُ‬ ‫ّ‬ ‫* * *‬ ‫ُ‬ ‫اليمن اليمان‪ ،‬بعد رحيل محمد حسين هيثم‪...‬‬ ‫ّ‬ ‫ظل عبدالعزيز المقالح يحرس المعبد‪...‬‬

‫* * *‬ ‫ُ‬ ‫العجيب للقصيدة الح ّر ِة بُعَ ي َد الحرب‬ ‫العراق الذي شه َد الميال َد‬ ‫َ‬ ‫العالمية الثانية‪ ،‬خام ُد الجذوة‪ ،‬بعد أن فقد استقالله‪ ،‬وتداوَلهَ‬ ‫األعاجمُ ‪ ،‬وأمسى وزير ثقافته ُكرديًّا‪.‬‬ ‫* * *‬ ‫في الشام التي أنجبت نزار قبّاني‪ ،‬وعلي أحمد سعيد‪ ،‬وممدوح‬ ‫ٌ‬ ‫ْ‬ ‫خلت‪ ،‬ومراب َد‬ ‫ّام‬ ‫عدوان‪ ،‬ورياض الصالح حسين‪ ،‬حسرة على أي ٍ‬ ‫ْ‬ ‫أقفرت‪.‬‬ ‫وبسام حَ جّ ار‪ ،‬مضى‬ ‫ولبنان‪ ...‬مَن فيه اآلن؟ مضى سعيد عقل ّ‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫مسوخ القصيدة الفرنسيّة في تخل ِفها‪ .‬هؤالء‬ ‫حسن عبدالله‪ .‬هناك‬ ‫ّ‬ ‫الذين ال يعرفون من قصيدة النثر سوى تخليها‪.‬‬ ‫* * *‬ ‫فلسطين‪ :‬هل أراهن على طارق الكرمي‪ ،‬ومهيب البرغوثي ؟‬ ‫باق‪...‬‬ ‫لكن زكريّا محمد ٍ‬ ‫العددان ‪ 480 - 479‬ذو الحجة ‪1437‬هـ ‪ -‬محرم ‪1438‬هـ ‪ /‬سبتمبر ‪ -‬أكتوبر ‪2016‬م‬

‫سعدي يوسف‬ ‫شاعر عراقي‬

‫وادي النيل‪ ،‬وكان فيه مَن فيه‪ :‬الفيتوري‪ ،‬وأمل دنقل‪ ،‬وحلمي‬ ‫سالم‪ ،‬وصالح عبدالصبور‪.‬‬ ‫هذا العام فاز بجائزة الشعر الكبرى فاروق شوشة‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫استقاللها‪ ،‬واندثرت‬ ‫اندثرت‪ ،‬كالعراق‪ ،‬بعد أن فقدت‬ ‫ليبيا‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫إرهاصات عميقة لقصيد ٍة جديدة‪.‬‬ ‫* * *‬ ‫ٌ‬ ‫جديرة باالنتباه‪ .‬أعتق ُد أن الحركة الشعرية في تونس‪،‬‬ ‫تونس‬ ‫ُ‬ ‫العربي‪.‬‬ ‫المشهد‬ ‫في‬ ‫واألبهى‪،‬‬ ‫‪،‬‬ ‫األعمق‬ ‫اآلن‪ ،‬هي‬ ‫الشعريّ‬ ‫ّ‬ ‫ِّ‬ ‫رحيل محمد الصغير أوالد أحمد لم يؤث ْر في الصورة البهيّة‪:‬‬ ‫لدينا شاعر القيروان‪ ،‬منصف الوهَ يبي‪.‬‬ ‫* * *‬ ‫الجزائر‪ ،‬لم ُ‬ ‫تكن‪ ،‬في أحد األيام‪ ،‬غاب ًرا كان اليوم أو حاض ًرا‪،‬‬ ‫َ‬ ‫عر‪ ،‬باستثناء المكتوب باللغة الفرنسية‪.‬‬ ‫حاضنة ِش ٍ‬ ‫* * *‬ ‫ّ‬ ‫النص‬ ‫المملكة المغربية كانت مهادًا غنيًّا لحركة التجديد في‬ ‫العربي‪.‬‬ ‫الشعريّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫أمّا اآلن ُ‬ ‫المعيش‪،‬‬ ‫فأزعمُ أن انفصال القصيد ِة المغربية عن الواقع‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ب الخروجُ منها إِلاَّ بالعودة الشجاع ِة إلى‬ ‫أدخلها في متاه ٍة يصعُ ُ‬ ‫المغربي المناضل‪ :‬عبداللطيف اللعَ بي ورفاقه‪.‬‬ ‫الحي للشعر‬ ‫الميراث‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫* * *‬ ‫ُ‬ ‫وددت لو تحد ُ‬ ‫ّثت قليلاً عن موريتانيا ذات الخصيصة المختلفة‪،‬‬ ‫لكن ّ‬ ‫رأي حتى‬ ‫قل َة ما بين ي َديّ من‬ ‫ٍ‬ ‫نصوص جعلتني أتحرّجُ من إبداءِ ٍ‬ ‫لو كان موجَ ًزا‪.‬‬ ‫* * *‬ ‫ٌ‬ ‫كابية؟‬ ‫هل الصورة‬ ‫بالتأكيد‪...‬‬ ‫سبيل إلى خارج النفق؟‬ ‫من‬ ‫لكنْ هل‬ ‫ٍ‬ ‫صعب المنال‪.‬‬ ‫أرى أن ثمّة سبيلاً ‪ ،‬وإنْ كان‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫العجب‪ ،‬أجب ُته‪:‬‬ ‫الدرب‬ ‫سائل عن هذا‬ ‫فإنْ سألني‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الجاهلي!‬ ‫العودة إلى الشعر‬ ‫ّ‬ ‫لماذا؟‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫النص ِشع ًرا‪:‬‬ ‫يجعل‬ ‫متوافرة على ما‬ ‫ألن القصيدة الجاهلية‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫(استعمال االسم الجامد ال‬ ‫اللغة الماديّة‬ ‫المشتق‪ ،‬وانتفاءُ‬ ‫واإلقالل من َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫الف ْضلة)‪.‬‬ ‫المص َدر‪،‬‬ ‫العالقة مع الطبيعة‪.‬‬ ‫العالقة مع «أنا» ال مع «نحن»‪.‬‬ ‫بدائية الموسيقا الداخلية‪.‬‬ ‫* * *‬ ‫ٌ‬ ‫مأهول‪.‬‬ ‫ديوان العرب‬ ‫لكن أيّامَ الجاهلية األولى‪...‬‬ ‫لندن ‪2016/07/16‬‬




Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.