العددان 480 - 479ذو الحجة -محرم 1437هـ سبتمبر -أكتوبر 2016م
موسع عن مآالت الشعر العربي: ملف ّ
متردم؟ هل غادر الشعراء من ّ
العالقة بين المشرق والمغرب: مركز وهامش أم تنافس خالق؟ علي حرب :تفكيك المشرق العربي مشروع إيراني
النخب في الخليج العربي www.alfaisalmag.com
كياروستامي :السينما التي ال تشبه إال نفسها
alfaisalmag
@alfaisalmag
(+966 11) 4647851 ¢ùcÉa (+966 11) 4653027/ 4652255 ∞JÉg - ájOƒ©°ùdG á«Hô©dG áµ∏ªŸG 11411 ¢VÉjôdG (3) Ü.¢U www.alfaisalmag.com :ÊhεdE’G ™bƒŸG editorial@alfaisalmag.com :ÊhεdE’G ójÈdG
أسسها عام 1397هـ1977/م
األمير خالد الفيصل يصدرها
رئيس مجلس اإلدارة
األمير تركي الفيصل العددان
الناشر
الثقافية
دار
2
في هذا العدد
رئيس التحرير
ماجد الحجيالن editorinchief@alfaisalmag.com تعبر عن وجهة نظر اآلراء المنشورة ّكتَّابها ،وال تم ِّثل رأي مجلة الفيصل. تكفل المجلة حرية التعليق علىموضوعاتها المنشورة شريطة االلتزام
العالقة بين المشرق والمغرب
116
صناعة الكتاب العربي في أزمة
128
شخصيات ..سليمان السليم
138
مناظرة ..ليبوفيتسكي و يوسا
140
جمالية البسيـط في تجربة أيف بونفوا
156
في مواجهة التضليل اإلعالمي الربيعية ..بلدة الشعراء وميدان معركة الصريف
170
محمد خان..المثقف الذي تعاطف مع الفاشلين
174
االستخدام العشوائي للتقنية دمر الموسيقا
179
اإللكتروني: -لالطالع على سياسة النشر يرجى زيارة
حوار ..علي حرب
106
164
-ترسل المواد إلى بريد المجلة
editorial@alfaisalmag.com
الصراع العربي اإلسرائيلي
96
مقدمة في لغة النقوش اللحيان َّية وتاريخها
بالموضوعية.
ورقيا الحصول على إلكترونيا أو مادة ً ً موافقة المجلة مع اإلشارة إلى المصدر.
معيارا للحقيقة ليس العبقري ً
82
160
تحتفظ المجلة بحقوق ملكيتها للموادالمنشورة فيها ،ويتطلب إعادة نشر أي
480 - 479
السنة الحادية واألربعون
مقاالت
الموقع اإللكتروني
www.alfaisalmag.com ردمد ٨٥٢٠ - ٠٤١١ رقم اإليداع مكتبة الملك فهد الوطنية 41/2450 العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
عبدالله المدني
80
ربيعة جلطي
134
عبدالرحمن الحبيب
148
دالل البزري
168
شخصيات
تقارير
76
معهد العالم العربي في باريس..
يعد حسن بن مشاري من أبرز العاملين في اإلصالح اإلداري في المملكة العربية السعودية ،من خالل عمله وكيال لوزارة المالية ،وعضويته في لجنة اإلصالح اإلداري
136
حسن المشاري ..من رجاالت اإلصالح اإلداري
خيبات وآمال تتجدد
دراسات
سينما
90
176
نصوص
على دروب التنوير والحداثة..
عباس كياروستامي..
حمزة شحاتة وعبدالله عبدالجبار
السينما التي ال تشبه إال ذاتها
جان لوي بالن
104
عصام رجب
105
بالل قايد عمر
133
إبراهيم غرايبة
151
ملف العدد
هل غادر الشعراء؟ شارك في ملف هذا العدد: سعدي يوسف عبد القادر الجنابي أحمد عبدالمعطي حجازي محمد علي شمس الدين -منصف الوهايبي
14
-رشيد يحياوي
-جعفر العقيلي
-فوزية أبو خالد
-جعفر حسن
-سماء عيسى
-محمد جميل أحمد
-سامر إسماعيل
-رنا نجار
-صبحي موسى
-هدى الدغفق
-حسن جوان
-الشيخ ولد سيدي عبدالله
-فتحي أبو النصر
-عباس بيضون
3
المركز
تتويج الفائزين في مسابقة «الفيصل بأعيننا»
4
ّ توجت أمانة العاصمة المقدسة الفائزين في مسابقة الفن ّ التشكيلي «الفيصل بأعيننا» التي أطلقتها األمانة ،ممثلة في
وشهد الحفل الختامي للمعرض يوم الخميس 18رمضان
للبحوث والدراسات اإلسالمية في نادي األمانة بحي الخالدية
بحضور األمير فيصل بن سعود بن عبدالمحسن مدير الشؤون الثقافية والعالقات العامة بالمركز ،الذي أ ّكد أن المسابقة كانت
اإلدارة العامة للعالقات العامة واإلعالم ،ضمن فعاليات معرض «الفيصل ..شاهد وشهيد» ،الذي ّ نظمه مركز الملك فيصل خالل شهر رمضان الماضي ،وافتتحه األمير خالد الفيصل مستشار خادم الحرمين الشريفين أمير منطقة مكة المكرمة،
بحضور األمير تركي الفيصل رئيس مجلس إدارة المركز ولفيف من المسؤولين .وكانت جائزة أفضل ثالثة أعمال مختارة من نصيب :دانة الربيعة ،ومها العسكر ،ووداد األحمدي .كما شهدت
المسابقة لفتة طيبة ،وهي تقديم اللجنة التنظيمية جائزة تقديرية
لمتسابقين من ذوي االحتياجات الخاصة ،هما :عمر السحيباني العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
(عن لوحته المرسومة بلغة برايل) ،وهالة فقيها «رسم بالقهوة». الماضي ( 23يونيو 2016م) تسليم الفائزين بالمسابقة جوائزهم
تهدف إلى تقديم تطبيق عملي يواكب معرض «الفيصل ..شاهد
وشهيد» في جولته الحالية بمكة المكرمة؛ حتى تعرف األجيال الجديدة ما قدّمه الراحل الملك فيصل من خدمات جليلة لوطنه وأمتيه العربية واإلسالمية .وأثنى األمير فيصل بن سعود بن عبدالمحسن على مستوى المشاركين في المسابقة ،الذين تجاوز
تعدادهم 100مشارك ،أبدعوا في رسم صورة الملك فيصل بأدوات الفن التشكيلي المختلفة.
وفد من المركز يزور اليابان لتعميق أواصر البحث العلمي
زار وفد من مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية مؤخ ًرا دولة اليابان في مهمة رسمية شملت وزارة الخارجية وبعض الجامعات والمؤسسات والمراكز البحثية اليابانية؛ لهدف تعميق أواصر البحث العلمي بين المركز وهذه الجهات .ورأس الوفد الدكتور سعود السرحان مدير إدارة البحوث ،فيما ضمّ الوفد :األميرة نورة بنت تركي بن عبدالله آل سعود مديرة إدارة البحوث المساعد رئيس وحدة دراسات الطاقة ،والباحث فيصل أبو الحسن رئيس وحدة الفكر السياسي المعاصر. والتقى الوفد في جولته السفير تسوكاسا أويمورا المدير العام لمكتب شؤون الشرق األوسط وإفريقيا في
وزارة الخارجية اليابانية ،والسيد توموفومي نيشيناغا مدير شعبة الشرق األوسط الثانية التابعة لمكتب شؤون الشرق األوسط وإفريقيا في الوزارة ...وشارك الوفد في حلقة نقاش مشتركة مع المعهد الياباني للشؤون الدولية؛ للتعريف بأنشطة مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية، والسياسة اليابانية ،واألوضاع الحالية في شرق آسيا .كما شارك الوفد في محاضرة بمعهد اقتصاديات الطاقة، ً عرضا وافيًا عن تنوّع مصادر الطاقة في المملكة قدّ م فيها العربية السعودية ،وأسواق النفط ،وما ي ّتصل بها من معلومات ،كما تحدّث الوفد عن برنامج التحوّل الوطني، والرؤية السعودية 2030م.
ترميم قطعة من كسوة الكعبة صنعت في عهد الفيصل في إطار التعاون بين المركز والرئاسة العامة
لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي ،يقوم مصنع كسوة الكعبة المشرفة بمكة المكرمة بترميم قطعة من كسوة الكعبة المشرفة مصنوعة في عهد الراحل
الملك فيصل ،مكتوب عليهاُ : «صنعت هذه الستارة في مكة المكرمة وأهداها إلى الكعبة المشرفة خادم
الحرمين الشريفين فيصل بن عبدالعزيز آل سعود تقبّل الله منه» ،وهي قطعة من ستارة باب الكعبة
المشرفة تحتفظ بها قاعة الملك فيصل التذكارية.
5
المركز
«الحج ..وابن رشد ..والحضارة» إصدارات حديثة أصدر المركز مؤخ ًرا ثالثة كتب في موضوعات علمية
مختلفة ،األول في أدب الرحالت ،وحمل عنوان «بيان مراحل الحج من ت ُِلو» ،وهو من تحقيق الدكتور يحيى محمود بن جنيد،
ويتضمّن الرحلة التي قام بها مصطفى فقير الله العباسي من قرية
تلو في جنوب تركيا إلى بالد الحرمين الشريفين ،التي بدأت يوم السبت 22شعبان سنة 1177هـ ،ثم عودته إلى بلده مرة أخرى في
20ربيع األول سنة 1178هـ ،ووصف فيها المناطق الجغرافية التي م ّر
بها ،واألوضاع االجتماعية واالقتصادية والدينية في القرن الثاني
عشر الهجري.
وضمن أدب السيرة الذاتية ،يتناول الدكتور أمين سيدو في
الكتاب الثاني «أبو الوليد ابن رشد ..رائد الفكر وفيلسوف العقل» حياة هذا الفقيه والفيلسوف الذي عاش في قرطبة باألندلس في القرن السادس الهجري ـ الثاني عشر الميالدي ،وكان
ينتمي إلى أسرة عريقة معروفة بالعلم والفقه والقضاء ،وقدّم المؤلف شرحً ا وافيًا لحياته، وآثاره ،ومصادر دراسته.
6
وقدّم الدكتور عبدالله العويسي في الكتاب الثالث دراسة نقدية لـ«مشكلة الحضارة»، محاولاً فيها طرح بعض اإلشكاليات التي يثيرها العصر الحاضر بما يشهده من تقدّم تقني
عن الحضارة؛ مثل :ما الحضارة؟ وعلى أيّ أساس تقوم؟ وما األهداف التي تسعى لتحقيقها؟ وهل هي ضرورية لإلنسان أم ظاهرة كمالية؟ وهل هناك منهج محدّد يمكنه أن ينتج حضارة ّ وتنحل؟ وهل يمكن بعثها مرة أخرى؟ نموذجية؟ وهل تستمر الحضارة أم تزول
«دراسات» :داعش واإلرهاب العابر للحدود واصل المركز إصدار دورياته المختلفة ،فأصدر مؤخ ًرا عدد دراسات رقم ( )11بعنوان« :داعش واإلرهاب العابر
ّ المتخصص في شؤون الجماعات المتط ّرفة حسن سالم بن سالم ،ويرصد فيها مدى للحدود» ،للباحث السعودي
اعتماد تنظيم داعش منذ ظهوره على إستراتيجية رئيسة تقوم باستهداف العدو القريب وفق جهاد التمكين والسيطرة المكانية ،وحصر ساحات المواجهة في الدول القريبة ،وهي إستراتيجية ّ تمثل أحد أبرز الفوارق بينه وبين تنظيم القاعدة ،الذي كان ير ّكز نشاطه في استهداف «العدو البعيد» من خالل الجهاد والهجمات النكائية .ويؤكد الكاتب أن
تنظيم داعش دعا ،في أعقاب تشكيل التحالف الدولي لمحاربته بقيادة الواليات المتحدة األميركية في سبتمبر عام 2014م ،إلى تنفيذ هجمات ضد المصالح الغربية في أنحاء العالم ً كافة عبر تحريضه «الذئاب المنفردة» على تنفيذ عمليات فردية وشبه عشوائية ضد تلك
المصالح ،مشي ًرا إلى أن إعالن التنظيم تب ّنيه المسؤولية عن تنفيذ الهجمات اإلرهابية التي
عصفت بالعاصمة الفرنسية باريس في نوفمبر عام 2015م يشير إلى نقطة تحوّل جوهرية ً ً جديدة مرحلة في إستراتيجيته ونهجه التقليدي ،وبدئه بقرار مركزي من قيادة التنظيم ً هدفا له من استهداف عواصم الدول الغربية وكبريات مدنها ،وأن «العدو البعيد» أصبح
األولوية عند قيادة التنظيم.
العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
7
كاريكاتير
فعاليات
تحدث عن فعاليات مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي وما يتيحه للشباب
خالد اليحيا« :المملكة الموازية» مبادرة تتوسل الفن في تحقيق هدفها فواز السيحاني
8
ً واحدا من أضخم مبادرات التنمية االجتماعية يعد مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي التي أطلقتها أرامكو السعودية ،و ُب ِدئ في تشييد المركز في شهر مايو من عام 2008م ،عندما وضع الراحل خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز حجر األساس .ويهدف ً مركزا بشكل خاص على المركز إلى دعم جهود المملكة في التنمية االجتماعية والثقافية، الصفة اإلبداعية في المجاالت المعرفية .يقع المركز في منطقة الظهران ،على ُبعد خطوات من «بئر الخير» حيث ُ اكتشف النفط في المملكة للمرة األولى .ولهذا الموقع داللته الرمزية؛ اَّ الخلقة الكامنة في المجتمع إذ يسعى المركز إلى تطوير مصدر أكبر للثروة يتمثل في الطاقات واألجيال الصاعدة والمقبلة .بدأ المركز بإطالق فعالياته الثقافية والفنية والفكرية الموجهة للشباب ،وستستمر هذه األنشطة إلى حين االفتتاح الفعلي للمركز. بدأت أوىل مبادرات املركز يف أمريكا وتحديدً ا يف والية
تكساس أكرب الواليات األمريكية من ناحية املساحة؛ فهناك
تجول األمريكيون يف متحف ستيشن ،إذ أقيمت يف يونيو املايض فعاليات معرض اململكة املوازية ،بالتعاون مع أستديو غارم.
وقال الدكتور خالد سليمان اليحيا الذي يرأس الربامج التعليمية
يف مركز امللك عبدالعزيز املسؤول عن فعاليات اململكة املوازنة :إن رؤية املعرض الرئيسة هي بناء جسور التواصل بني املجتمعات؛
«فالشباب السعودي قد يساء فهمه؛ ألنه لم تتح له الفرصة لعرض امللكات اإلبداعية التي يمتلكها ،فنحن نرى أنفسنا نافذة
لهؤالء الشباب ،وهذه املبادرة اختارت العمل اإلبداعي تحديدً ا
لتعريف العالم عىل السعودية والشباب السعودي؛ فالفن واإلبداع يصل إىل العموم وليس إىل النخبة ،ويخاطب الجمهور العريض .واملبادرة تحتمل القراءة وليس الحتمية التي كرست
مفاهيم خاطئة عنا ،إذ إنها قابلة للنقد والحوار ،وإعادة اكتشاف
ذواتنا من خالل القراءات املتعددة».
العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
غارم وقصب السبق
وفيما يتعلق باختيار أستوديو غارم للفنان عبدالناصر
غارم تحديدً ا يف االنطالقة األوىل لهذه املبادرة؛ أوضح اليحيا
أن املسألة متعلقة بالجاهزية فقط؛ «إذ حقق غارم قصب السبق يف العمل الفني ،وله أعمال اقتنتها كبار املتاحف
العاملية ،كما هو معروف يف مدينة لوس أنجلس وغريها من الواليات األمريكية ،إضافة إىل أنه غالبًا ما يلجأ يف أعماله إىل
أنماط هندسية معقدة يستقيها من الثقافة العربية ،ويمزجها برسائل غامضة تدور حول الطريقة التي يجري من خاللها
استغالل الدين والسلطة يف التأثري يف الناس .وهو يعمل عىل تقديم الفكرة بطريقة تجعلها تبدو جميلة ،حتى إن كانت
الرسالة التي يوصلها صعبة ً نوعا ما». اليحيا أكد ً أيضا أن مركز امللك عبدالعزيز الثقايف العاملي
أتاح من خالل املعرض للشباب أن يتواصلوا مع العالم ،بعرض
لوحاتهم الفنية التي تناقش قضايا تتصل بالتحديات التي تواجه
9
العالم املعاصر ومكوناته البشرية ،مهما كان العرق أو الجنس
واحدًا من أفضل خمسة معارض يف الشهر السادس من هذا
املوازية» ،مشريًا إىل انتقال املعرض إىل سان فرانسيسكو ،تحت
ويضيف أن السبب يف هذا النجاح أن املبادرات األخرى «ربما
أو الديانة التي ينتمي إليها ،كما هي الحال يف معرض «اململكة
العام».
عنوان (جيل ،)generation .ملجموعة من الفنانني والفنانات
أسايس ،لكن ليس كان لديها هاجس قوي يف التعريف بنا بشكل ّ
سيكون أكرب حجمًا ،وسيحتوي بمساحته الشاسعة عىل لوحات
وفق القانون الفني الذي ينص دائمً ا عىل أن الفن هو القيمة
السعوديات ،ويبلغ عددهم تقريبًا أحد عشر« ،علمً ا بأنه فنية متعددة التأويالت واملدارس الفنية ،إضافة إىل منحوتات
ومجسمات «كابيتال دوم» بـارتفاع اثني عشر مرتًا ،التي تمتلك ً ً خالصا سقفا للكونغرس ،ومن الداخل تحمل طابعً ا قبة تبدو
للبناء اإلسالمي ذي الهوية الخالبة جدًّا». عالمة فارقة
يف تقديم فنوننا ،وترك الجميع يف أن يفهمها بالطريقة التي يود، األسمى بني كل القيم األخرى!».
وعن الحرص عىل تقديم هذه الفعاليات يف أمريكا من دون
غريها ،أشار اليحيا إىل أن الفعاليات «ليست موجهة تحديدً ا إىل
أمريكا من دون غريها من الدول والثقافات ،إنما هي موجهة إىل العالم أجمع .ففي املستقبل ستكون هناك زيارات عدة لدول
أوربية».
وعن التأثري أو االنطباع الذي تركه املعرض يف الزوار وعكسته
وأكد الدكتور خالد سليمان اليحيا أن الطموحات لن تقف
بمنزلة العالمة الفارقة والنوعية ،مقارنة باملبادرات الثقافية التي
يف الشهور القريبة عىل إقامة معرض آخر يف سان فرانسيسكو
الصحافة األجنبية ،قال الدكتور خالد اليحيا :إن املعرض كان
قامت بها املؤسسات السعودية األخرى؛ «فالصحف يف مدينة هيوسنت قد غطت الخرب يف شكل موسع ،وصنفه الك ّتاب هناك
عند هذا الحد« ،بل هناك فعاليات أخرى متنوعة ،بجانب االعتزام ونيويورك ،إضافة إىل سلسلة من عشرة معارض ستقام ً تباعا يف أمريكا بوالياتها املتعددة ،خالل األشهر التسعة املقبلة».
فعاليات
وسط حضور أكثر من 300ألف زائر ألول مرة واستضافة 340مثقفً ا
«سوق عكاظ» ..يستعيد مجده ويفتح نافذة على المستقبل الطائف تصوير :محمد الهذلي
10
لم يدر َ بخ َلد الملك الراحل فيصل بن عبدالعزيز وأعضاء اللجنة التي شكلها برئاسة المؤرخ محمد بن بليهد لتحديد موقع سوق عكاظ التاريخي قبل نحو ً 82 عاما؛ أن تكون جهودهم في ذلك الوقت بذرة يصنع منها ملحمة سوق عكاظ الحديث ،وتساعد على إحياء إرث عربي تاريخي يعود تاريخه إلى أكثر من 1500عام؛ ليتجاوز المحيطات ،ويصل إلى العالمية ،ويصبح مركز إشعاع حضاري ،ومنتدى إثرائيًّا معرفيًّا ،وملتقى للحياة. «لم َي ُه ْن على الملك فيصل -يرحمه الله -ضي ُ سيانه ،فبحث عنه حتى وجده ـاع ُعكاظ ونِ ْ ّ وحدد مكانه ،ثم أَ ْ تاريخي ملكي استدعاء صدر الملك عبدالله بن عبدالعزيز -يرحمه الله -أمر ْ ّ ّ استثنائي فحضر ُعكاظ»ّ ، تذكر هذه الكلمات ،التي ألقاها األمير خالد الفيصل مستشار خادم الحرمين الشريفين أمير منطقة مكة المكرمة رئيس اللجنة اإلشرافية العليا لسوق عكاظ في حفل افتتاح الدورة العاشرة لسوق عكاظ يوم الثالثاء 1437/11/6هـ ،بأهل الفضل في إعادة إحياء أهم وأشهر أسواق العرب التاريخية.
العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
11 انطلقت فعاليات الدورة العاشرة لسوق عكاظ التي استمرت من 16-6ذي القعدة 1437هـ( 19_9أغسطس 2016م) بحفل افتتاح شارك فيه فنان العرب محمد عبده؛ اشتمل عىل تكريم الفائزين بجوائز سوق عكاظ البالغة قيمتها مليون و 800ألف ريال؛ إذ فاز الشاعر األردين محمد العزام بشاعر عكاظ وبُردته ،والشاعر السعودي خليف الشمري بلقب شاعر شباب عكاظ وبُردته، فيما نال جائزة الرواية التي اس ُتحدثت يف الدورة الحالية الروايئ السعودي مقبول موىس العلوي ،وفاز بجائزة لوحة وقصيدة عبدالرحمن خضر الغامدي «املركز األول» ،ومحمد عيل الشهري «املركز الثاين» ،وسعيد الهالل الزهراين «املركز الثالث» ،وتسلم جائزة املركز األول يف جائزة الخط العربي عبدالباقي أبو بكر من ماليزيا ،وجاء محفوظ ذنون يوسف عراقي الجنسية يف املركز الثاين ،ويحيى محمد فالته من نيجرييا يف املركز الثالث ،ونال جائزة التصوير الضويئ عبدالرحمن إبراهيم املاجد من البحرين، وظافر مشبب الشهري من السعودية ،وقاسم محمد الفاريس سعودي الجنسية .كما حصل عىل جائزة رائد أعمال عكاظ املستحدثة ألول مرة يف الدورة العاشرة لؤي محمد نسيب من السعودية ،وحصد جائزة مبتكر عكاظ محمد بإسالمة. وشهدت الدورة العاشرة إطالق برامج ومشاريع نوعية تخدم الثقافة العربية ،تمثلت يف توقيع اتفاقية إنشاء واحة للتقنية بالقرب من موقع سوق عكاظ التاريخي ،ووضع حجر األساس
لجادة عكاظ املستقبل ،وتدشني أكاديمية الشعر العربي الفصيح التي ُتعَ ّد أول مشروع عربي من نوعه ،وجرى تدشني باكورة أعمال األكاديمية بطباعة وتوزيع أربعة دواوين شعرية لشعراء فائزين يف الدورات السابقة بجوائز عكاظ الشعرية. وتضمنت الدورة التي حضرها وزراء ومثقفون وأدباء وشعراء من داخل اململكة وخارجها؛ إثراءً معرفيًّا يف شتى املجاالت .بدأت الفعاليات بملتقى الريادة املعرفية الذي حظي بحضور وتفاعل كبريين ،تحدث فيه عرب ثالث جلسات وزير الحج والعمرة ورئيس مدينة امللك عبدالعزيز للعلوم والتقنية ومدير جامعة الطائف يف ورقة قدمها نيابة عن وزير التعليم ،ومسؤولون يف صندوق التنمية الصناعية وهيئة املنشآت الصغرية واملتوسطة وعدد من رياديي األعمال .وأوىص امللتقى بضرورة وجود القيمة املضافة يف األعمال الريادية املعرفية باململكة ،كما استعرض أبرز خطط تحقيق رؤية اململكة (.)2030 حوار الشباب وخاطب األمري خالد الفيصل شباب سوق عكاظ يف لقاء حواري مفتوح شارك فيه وزير الثقافة واإلعالم الدكتور عادل الطريفي أقيم بجامعة الطائف ضمن فعاليات الدورة العاشرة، وأكد يف كلمته أن تمسك اململكة العربية السعودية وشعبها بالكتاب والسنة منذ تأسيسها هو السبب وراء الحملة الشرسة
فعاليات
12
التي تواجه اإلنسان السعودي ،وقال« :اليوم يتحقق حلم اآلباء واألجداد ذلك الحلم العميق جدًّ ا أن يكون اإلنسان السعودي قدوة للعالم بأسره ..فماذا أنتم فاعلون؟ أنا أجيب عىل ذلك :ارفع رأسك أنت سعودي» .كما شهد اللقاء إعالن وزير الثقافة واإلعالم عن تأسيس صندوقني للدعم :األول لدعم ً كاشفا الفن والفنانني ،والثاين خاص بمدينة إنتاج إعالمية، عن صدور موافقة خادم الحرمني الشريفني امللك سلمان بن عبدالعزيز عىل إنشاء املجمع املليك للفنون الذي يتضمن مسرحً ا ً ً ومتحفا إسالميًّا. ومعرضا فنيًّا وطنيًّا ً وشارك 72مفك ًرا ومثقفا وشاع ًرا من مختلف الدول العربية يف إثراء الربنامج الثقايف للدورة العاشرة بأوراق عمل وبحوث أدبية وعلمية يف 7ندوات ثقافية و 3أمسيات شعرية .وتضمنت ً استعراضا لدراسات نقدية للشاعر الجاهيل موضوعات الندوات عروة بن الورد ،وعن األديب السعودي عبدالله بن خميس، كما بُحثت جهود الرتجمة يف فرنسا ،واملخطوطات املهاجرة، مع تناول عدد من التجارب الكتابية والفنية ،بجانب البحث عن موضع الهوية الثقافية يف العالم الرقمي ،وحماية الخصوصية يف وسائل التواصل االجتماعي. وألن استدعاء سوق عكاظ من املايض ليس استظهارًا له فحسب ،بل جاء ليبني ما ينفع الحاضر ويفيد املستقبل ،كما أكد ذلك األمري خالد الفيصل؛ فقد أقيم معرض عكاظ املستقبل الذي شارك فيه أكرث من 50جهة حكومية وخاصة ُتعنى بمجاالت االبتكار وريادة األعمال ،والذي يعد أضخم معرض من نوعه يف اململكة ،حيث يُعَ دّ أول منصة وطنية تعنى باالبتكار وريادة األعمال املعرفية .وضم املعرض 5منصات إبداعية تقدم مفاهيم عصرية حديثة .حيث فتح مجال النقاش بني الزوار والشباب وصناع القرار حول تقنيات املستقبل عرب منصة االستقبال ،فيما العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
أعطى فرصة للجامعات واملراكز واملؤسسات املهتمة باالبتكار وريادة األعمال ،وكذلك املبتكرين واملبدعني لعرض ابتكاراتهم ومنتجاتهم املعرفية ،والنقاش البناء بني املهتمني واملختصني واملستثمرين يف مجال االبتكار والريادة من خالل منصة الحاضر. أما منصة االنطالق التي هدفت إىل وضع الشباب عىل الطريق الصحيح لبدء مشاريعهم الريادية؛ واشتملت عىل 3 ورش عمل تدريبية ،وهي :فعالية (ستارت أب ويكيند) التي قدمها برنامج بادر لحاضنات األعمال بمدينة امللك عبدالعزيز للعلوم والتقنية .وبرامج تدريبية ،وورش عمل متخصصة يف ريادة األعمال قدمها مركز امللك سلمان للشباب .وورشة عمل تدريبية قدمها مركز تسامي لريادة األعمال االجتماعية. وأتاحت املعارض فرصة لزوار سوق عكاظ للتربع بالخاليا الجذعية وأخذ عينات مبدئية للمتربعني ،واملشاركة يف ورش عمل ودورات تدريبية لتعلم الخط العربي ،واالطالع عىل مقتنيات أثرية نادرة ،واالطالع عىل ابتكارات وبراءات االخرتاع ملبدعي الوطن ،إضافة إىل جناح لكتب األطفال ومرسم لهم. ومع كل هذه الفعاليات الثقافية واإلبداعية املتنوعة ،كان لجادة سوق عكاظ النصيب األكرب من اهتمام ومتابعة زوار السوق الذين سجلوا أرقامً ا قياسية ألول مرة منذ إحياء السوق قبل عشر سنوات متجاوزين 300ألف زائر ،بعد أن كانوا 60 ً ألفا فقط يف الدورة األوىل .واشتملت فعاليات الجادة :أجنحة
للحرفيني وللحرفيات الذين تنافسوا للفوز بجوائز األعمال الحرفية البالغة قيمتها 500ألف ريال ،و 4عروض مسرحية بعنوان «عبس وذبيان ..حكايات الشعر والحرب» تبدأ من الساعة الرابعة عص ًرا إىل بعد صالة العشاء يوميًّا ،إضافة إىل عروض الخيل والجمال ومسريات القوافل التي تحايك مايض السوق.
13
ملف العدد موسع عن مآالت الشعر العربي: ملف ّ
متردم؟ هل غادر الشعراء من ّ ً قرونا طويلة بمنزلة العماد الرئيس للثقافة العربية ،وصار عالمة الرقي حين ظل الشعر
اهتم الخلفاء والملوك واألمراء برعاية الشعراء في رحاب بالطهم ،وظل يمارس تأثيره وفاعليته في مستوى النخب ،وفي مستوى العامة ،ولم يتوقع أحد يومً ا أن يتوارى فن العربية األول
على مدار كل هذه القرون لصالح فن وافد من الغرب؛ كالرواية أو المسرح أو السينما أو
الدراما التليفزيونية ،فهل عجز ديوان العرب عن المنافسة على وظيفته ودوره وتأثيره لصالح ٍّ معني باللغة وجمالياتها وبالغتها ال يتفق مع آليات الذيوع واالنتشار كفن هذه الفنون؟ أم أنه ّ الجديدة؟ أم أن العرب أنفسهم أصبحوا خارج إطار المنظومة الحضارية في العالم ،ومن َثمّ
14
فال حاجة للعالم بفنهم األول ،كثير من األسئلة التي يثيرها تواري الشعر عن دوره لصالح فنون أخرى ،فما الذي حدث؟
لقد كان الشاعر العربي رائد أهله ،يكثف في قصائده األحالم العربية الكبرى ،ويعالج
الهزائم ،ويفرح بالبهجات ،واليوم يمر الشعر العربي بمرحلة صعبة لعلها األسوأ منذ تدوينه ً بعيدا منه ،أو ربما مستغنيًا عنهُ .دور النشر العربية صارت تحجم األول؛ إذ صار القارئ العربي ً ً توزيعا ،ما ُعدنا ننتظر قصيدة أو أمسية أو ديوانا ،وكنا عن طباعة الدواوين الشعرية ألنها األقل لعقود ننتظر جديد نزار قباني ،ومحمود درويش ،والجواهري ،وأجيال من الشعراء حتى هذا
العقد األخير .فمن يتخيل أنه ال توجد قصيدة شعرية واحدة يرددها العرب اليوم بعد كل ما مروا به من ثورات؟ إلى أين وصل الشعر اليوم؟ ما الذي غيّبه؟ ندرة المواهب الجديدة؟ رحيل
الشعراء الكبار؟ توافر أجناس أدبية بديلة؟ سيطرة الشعر المكتوب باللهجات؟ وجود وسائل تعبير إلكترونية فورية؟ هل ُه ِزمت الصورة الشعرية أمام الصورة الفيزيقية بكاميرا الجوال؟ هل هو العالم المتسارع حولنا شديد المادية؟ أم نقول ما قاله عنترة« :هل غادر الشعراء من
متردم؟» وإن كل ما يمكن قوله في الشعر قد قيل وانتهى؟
تفتح مجلة الفيصل هذا الملف وتثير األسئلة حول الشعر والشعراء؛ سعيًا إلى إجابات أو
ما يشبهها ..ملف يشارك فيه بعض أهم الشعراء والنقاد في الوطن العربي.
العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
15
شقائق نثرية في مسائل شعرية
عبد القادر الجنابي شاعر وناقد عراقي يقيم في باريس
كان
الشاعر الفرنيس بيري ريفريدي يأمل أن يكتب «أجمل
قصيدة يف العالم» .لم يدر أنه كتبها ،ولم يدر أنه من املستحيل ٌ نظر ق ّرائه ،أصدقائه ،الشعراءِ، كتابتها! نظرهِ ، نظر مَنْ ؟ ِ جميلة يف ِ
ّ النقادِ..؟ إذا كان هذا هو األمر ،فإن أجمل قصيدة يف العالم قد ُك ِتبَت
16
آالف امل ّرات!
*** ٌّ نبدأ دومًا من صفر ثابت؛ من تجربة أوىل .كل حسب اإليقاع
املوروث مداره .هذا ينظم ،ذاك ينرث ،وهناك من يصل ،بموئل ّ الضف َة الثالثة من رغبة املراهقة يف التمرد عىل قوانني مرسومة،
نهر الكتابة؛ فيكتب وفق إيقاعه الخاص شع ًرا غري موزون عىل البحور املألوفة.
***
بجمهور أكرب ،يج ّر ّ كل ما آه! كم كاتب لدينا ال يزال ،مهووسً ا ٍ يولد مبتورًا ،بشتى أدوات الربط ،ليك يحيا (أي أن يموت حتمًا) يف ٍّ كل
مفتعَ ٍل؛ ُممَن َتج ،مشدودًا بما سبقه وما يليه .بينما القطيعة أقصر طريق لالرتباط!
***
أيها الراقدون يف الكتاب ً دعوا أشعارَكم تكون صديقة لذاكرة القارئ. النافذة عني الشاعر.
*** ***
ثمة شاعر ينام يف قصيدته فيغفو معه القراء.
ليايل بيضاء. ثمة قصيدة تعيش ألف عام ،بال نوم ،يقيض فيها القراء َ ***
آت من تلقاء نفسه ،يبدأ دومًا ..من أي مكان؛ من الشعرٍ ، َ الالمكان .وبصفته شهقة اإلنسان املرصودة ،فهو ال يلبث إال يف قواه العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
وليس يف الدليل» ،محاكاة لرينيه شار. األولية :الكلمات« ..يف األثر َ
غبي إنما هو إشراقة تندلع لكن احذروا ،الشعر ليس تجربة إلهام ّ وفق طبيعة ومكان الشاعر الذي ُتنار فيه. *** ُ هناك شعراء ،الشع ُر لهم وسيلة تعبري ال غري .وبما أن املوضوع ً وسيلة للتعبري عنه سيئ ،فإن أيَّ قصيد ٍة الذي يستخدمون الشع َر
ً ً عاجزة سيئة مهما كانت براع ُتها الوزنية ،اللفظية واإليقاعية ،تبقى
عن الذهاب أبع َد من مضمونها الذي جاءت لخدمته .وهكذا تعود
القصيدة ،يف أزمنة املعنى الخوايل ،مج ّرد رمز لبَطالة الكلمات. ُ فالقصيدة هذه يأسرها الذوق العام ،إكراه الحقبة التي ترتعد من
كل شعر ترى فيه نهايتها املحتومة .ذلك أن اللغة العربية ،شع ًرا، ميدان لهذا الشعر املُخت َزل وسيلة تعبري ال غري ،حيث مقدا ُر ضيق أفق
مقدار ما يف القراء ،الذين يتغ ّنى بهم ،من آفاق شاعر ما ،يكون عىل ِ ٍ ضيّقة .بعض هذا الشعر ،ربما ،ناريٌّ ،لكنه ال يضرم نار الرؤية ،إنما
يحرتق فيه الشاعر نهائيًّا .فما هو ٌ إيقاع يُحييه .آه ،كم ميت ،ما من ٍ ً أحيانا ،لحظة كتابة قصيدة ،بأننا منفيّون داخل لغتنا قبل أن نشعر
نكون منفيني يف هذا العالم .ومع هذا ،يمت ّد الشعر بنا خارج اإلسار. لقد تغيرّ ت سحنة العربية وطبيعة تركيبة جُ مَلها ،ونحن اليوم يف سياق لغة مفتوحة لكل الرتاكيب التي كانت تبدو غريبة يف نظر فقهاء
اللغة السابقني ..وهذا الفضل يعود إىل هؤالء الذين لم يتوقفوا عن
ممارسة الشعر وفق وزن طبيعتهم.
***
الشاعر يهتمّ ،عىل نحو ما ،بكل األلسنة وبكل أشعار األرض إن
كانت غربية ،صينية ،عربية ،أمازيغية ،عربية ،إفريقية .إنها ثقافة الشعر التحتيّة .ففي نظره ،إذا افتقد الشعر جانبه اإلثني ،أي لم يعد يتع ّرف ّ تجلياته داخل لغات اآلخر املطمور يف اللغات املسجّ لة،
ً ميتة ،فإن هذا الشعر يصبح جزئيًّا وغري قابل يف وفيات األلسنية،
للنمو ،ومن ثم غلطة ال يشفع لها أحد ،باألخص ،يف حقبة كحقبتنا
الشباب ،باألخص الشاعرات الشابات .فهؤالء ال يدركون أنهم عندما
وتعاريفها – تناقضاتها ،ويف نهاية األمر إشكالياتها .ناهيك من أن
شك قواعدي ،فإنهم ،شاؤوا أم أبوا ،يكتبون ضد اإلدراك الرتايث
هذه التي ال يمكن أن تحمي نفسها إال عرب مواجهة هُ ويّاتها املتعدّدة الشعر الحديث ،حتى يف تم ّرداته املتط ّرفة ،لم يتوانَ عن التزوّد من الثقافات املسمّاة بدائية ،مثلما كان شعراء النهضة يبحثون عن
اإللهام يف الثقافة اليونانية.
*** ُ يف ّ حيلة شاعرها اللغوية التي يُس ِّرب من كل قصيدة تكمن خاللها عواطفه املُبعدة من واجهة الكلمات. ***
يكتبون أشعارًا ال تخضع ألبسط قواعد الشعر املرسومة؛ وفيها ألف ملفهوم الكتابة الرتايث ،ومن ثم يوارون ،تلقائيًّا ،الرتكيبة العربية
للجملة يف تراب التاريخ .إن وعي هذا «الدفن» يحوّل الرتاب إىل أسفلت؛ القبَيل إىل فرد؛ اإلنشاء إىل كتابة! ***
مشكلة الثقافة العربية السائدة تكمن يف هذا الفارق الكبري بني
تراث سلفي له تاريخ طويل استطاع أن يرسّ خ مراجعَ صلدة لها نسق
فكري منتظم ،وبني محاوالت نهضوية ،ليربالية ،حداثوية ..دامت
القصيدة تكمن يف األبيات األوىل التي حذفناها.
أكرث من قرن ،من دون أن تستطيع ترسيخ أي مبدأ من مبادئها؛
أن تكتب قصيدة هو أن تقتل املرسوم؛ األنموذج!
الذهنية العربية.
*** ***
ما مِن قصيدة فاشلة .فكل قصيدة مصريها الفشل إذا لم تجد قارئها الحقيقي الذي يجعلها ّ تخلف شاع ًرا جديدًا! ***
ص ْر أنتّ .. تنفس كلماتك؛ اعج ْنها حسب إيقاعك ..وال تأبه
للذين يريدونك أن تكون نسخة أخرى بني آالف النسخ املكررة التي ال َ س لها. نف َ ***
من خالل الصراع بني تدفق آيل لكلمات مطموسة يف الوعي،
وبني أخذ ورد ،محو وتشديد ،وبني وعي يريد أن يُحدد مسا َر يشء
كإسوار يرنّ يف العتمة! بشكل مفهوم إىل حد ما ،تولد القصيدة.. ٍ
وكأن ثمة إلهامًا كان يعمل!
***
يف الحمّى املتصاعدة صوب القصيدة ،عىل الشاعر أن يعرف كيف
يدخل التاريخ؛ كيف يخرج منه.
***
هناك شعراء موجودون يف كل مكان :يكتبون كما يأكلون،
يشربون كما يتغوطون ،ال مهمة عصيّة تنتظرهم ..يموتون وهم
نائمون ..الفرق الوحيد بيني وبينهم :أنهم يف أمان وأنا يف معمعان! ***
هناك دخالء يظنون أنفسهم شعراء ،لكنهم يف حياتهم اليومية
هم وشاة حد أنهم يكتبون أشعارًا باهتة ال تبوح بأي يشء .ناهيك عن
أن الشعر شاهد وليس َبوْحً ا.
*** أحيانا ،إليك ِّ ً بكل ما ثمّ عليك أنْ تعرف. تفصيالت عابرةُ ،تفيش، ***
هناك أسلوب علماين يفصل بني مؤسسة اللغة الدينية وبني
مدنية الكالم املعيش ،يمارسه ،من دون وعي ،معظم الشعراء
ألنها اجتهادات انتقائية ال نظام لها قادر عىل أن يحفرها يف تربة ***
لم ّ تولد العربية خالقني ،وإنما خ ّناقني! ***
الخوف الوحيد الذي ينتاب الشاعر هو الخوف من الشعور
بالعقم؛ الشعور بعدم مواجهة املجتمع؛ بعدم املشاركة يف بناء يشء إيجابي ..باختصار الخوف من الشعور بحيا ٍة قد ال تبدأ بعد املوت.
17
***
لكل شيطانه؛ دمارُه الداخيل!
***
اليوم :حرب شبكية مع عدو بال وجه :آالف الضحايا يتكدسون ّ التطلعية مشهدًا غرضه إفراغ األعني من قدرة النظر االستشفافية،
نحو مسافات حلمية أبعد ،إنها حرب املستقبل الباردة حيث املكتوب
ينتظم وفق قوانني اإلنرتنت ،والعيش تحت بُؤر ُمسيرّ ي العالم نحو
الهالك .ومع هذا فإن الشعر ال يزال هو ،أي ذلك املجهول البالحدود؛ الفالت من كل رقابة ساك ًنا مخيلة البشر ،وكأن شي ًئا لم يحصل. لكن ،يف الواقع ،يشء قد حصل ،لقد ّ تعلم الشعر ،بفضل كل التجارب الطليعية التي اجتازها ،كيف يؤسس نفسه كموضوع بذاته؛ أن «يعبرّ عما ال تستطيع اللغة التعبري عنه؛ أن ّ يكف عن التعبري عن حاالت» .هذا االنتقال التاريخي يف تاريخ القصيدة الحديثة لم يحدث،
لألسف ،يف وقائع الشعر العربي الحديث.
*** وقت للبكاء ..لقد ذهب الشعراء إىل أرض الكلمات .القصيدةُ ال َ اليوم ٌ لغة ال التزام ***
تعرف العزلة يف غرفة معتمة ،لم ْ تنزل جحيمَ نفسك، كيف؟ لمْ ِ لم يساورْك ٌّ شك ..وتري ُد أنْ تكتب! الجُ ملة حياة!
***
ملف العدد
الشعر ضرورة! أحمد عبدالمعطي حجازي شاعر مصري
قبل بضع سنوات وأنا مقرر لجنة الشعر في المجلس األعلى للثقافة في مصر ،جلست مع زمالئي أعضاء اللجنة ،نضع برنامج العمل في الدورة الثانية لملتقى الشعر العربي الذي
ينظمه المجلس كل عامين بالتناوب مع ملتقى الرواية ،فاقترحت تخصيص ندوة من ندوات الملتقى للحديث عن الشعر كحاجة من حاجات اإلنسان الضرورية .وفي هذه األيام األخيرة
اجتمعت لجنة الشعر التي أصبح الناقد المصري المعروف محمد عبدالمطلب مقررًا لها؛
18
لتضع برنامج الدورة القادمة للملتقى ،فرأت أن يكون موضوعه الرئيس هو ضرورة الشعر اآلن .وقد أحسنت اللجنة بهذا االختيار الذي ّ يدل على إدراك عميق لرسالة الشعر ولحاجتنا
إليه ،وللظروف الصعبة التي تقف حائلاً بين الشعر وجمهوره في هذه األيام. والحقيقة أين لست أول من قال :إن الشعر ضرورة ،إنما
أحص عددهم ،لكني أتوقع أن سبقني إىل هذا شعراء ونقاد لم ِ يكونوا كثريين؛ ألن ضرورة الشعر تبدو يل مسألة بديهية ،نصل إليها بأنفسنا دون أن نحتاج ملن يدلنا أو يقنعنا ،وهذا ما ج ّربته بنفيس، فأنا حني قلت :إن الشعر ضرورة ،لم أقلها نقلاً عن أحد ،إنما كنت
أعبرِّ عن حاجتي للشعر التي أعتقد أنها ليست حاجة خاصة أو
منه كما فعل دوالمانت ،وهو شاعر فرنيس يف قصيدة يقول فيها:
ً قافية! أيتها القيود الغريبة الظاملة .أتكون أفكاري دائمًا عبيدًا يا
لك؟ حتام تتحكمني فيها مغتصبة حقوق العقل؟ فور ما تأمرين
بالتزام العدد والوزن يجب التضحية بالصحة والدقة والوضوح. مطلب أبدي
فردية ،إنما هي حاجة إنسانية عامة .والدليل عىل هذا ما قاله كثريون
لكن بول هازار يع ّد هذا املوقف من الشعر تعبريًا عن األزمة التي
بول هازار املفكر الفرنيس وعضو األكاديمية الفرنسية يتحدث يف
أبدي كما يقول يف الصفحات التي خصصها له يف كتابه وسماها «زمن بال شعر» .وهو عنوان يحمل معنى املفارقة؛ ألن الزمن ال يكون زم ًنا
القرن الثامن عشر ،وهي املرحلة االنتقالية الفاصلة بني عصر النهضة
-التاسع عشر والعشرين -واستعاد مكانته ،وتعددت مدارسه
عن ضرورة الشعر للحياة.
كتابه «أزمة الضمري األوربي» عن الحرب التي أعلنت عىل الشعر وعىل
كل ما له صلة بالعاطفة والخيال بني أواخر القرن السابع عشر وأوائل الذي أحيا الرتاث اليوناين الالتيني وعصر االستنارة الذي انحاز للعقل، وع ّد الشعر صورة من صور الكذب والتعمية والتضليل ،تصرف اإلنسان عن طلب الحقيقة ،وتخدعه بتهاويل الخيال .وقد انساق
األوربيون يف تلك املرحلة؛ لتبني هذا املوقف من الشعر ،بل لقد انساق إليه الشعراء أنفسهم فنظموا قصائد يهجون فيها ف َّنهم ويتربّؤون العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
م ّر بها الضمري األوربي يف تلك املرحلة وتجاوزها؛ ألن الشعر مطلب
إنسانيًّا بغري شعر .وقد رأينا كيف ازدهر الشعر يف القرنني الالحقني
واتجاهاته ،وأصبح املوضوع املفضل للنقاد والباحثني ،يتحدثون عن أشكاله ومضامينه ،وعن ماضيه وحاضره ،وعما يؤدّيه يف الحياة
ويعبرّ عنه.
الشاعر الفرنيس جان كوكتو يعرب عن حريته بني شعوره العميق
وإيمانه الكامل بأن الشعر ضرورة ،وما يراه يف هذه املدينة الحديثة
من جفاف ووحشة وانصراف عن الشعر وعن الفن بشكل عام .يقول «الشعر ضرورة .وآه لو أعرف ملاذا؟» ً وسوف أحاول اإلجابة عن سؤال كوكتو مبتدئا من الشطر األول
يف عبارته :الشعر ضرورة .والدليل عىل ذلك وجوده واستمراره يف كل
اللغات وكل الحضارات وكل العصور .بل الشعر هو األصل .هو أصل اللغة ،ومن َثمَّ أصل الحضارة؛ ألن اللغة حني بدأت لم تكن نحوًا ً وصرفا ،ولم تكن ً فنونا وعلومًا مختلفة تتميز فيها لغة التعبري من
لغة االتصال ،ولغة العلم من لغة األدب ،إنما كانت لغة واحدة تعرب يحسه اإلنسان ويشعر به ويخطر له يف اليقظة والحلم ويف عن كل ما ّ
الواقع والخيال .وهذا هو الشعر الذي نستطيع أن نسميه لغة كلية؛
ألنه تعبري عن وعي كيل.
ويف هذا يقول الفيلسوف األملاين مارتن هيدغر« :فالشعر ال يتلقى اللغة قط كأنها معطاة له من ُ قبل ،بل الشعر هو الذي يبدأ بجعل
جان كوكتو
هل نسلم بأن الشعر مات؟
وألن الشعر للتيارات املعادية له مجرد انفعال وتخييل ،فهو
اللغة ممكنة .الشعر هو اللغة البدائية األوىل للشعوب واألقوام. ً خالفا ملا قد يتوهم أن نفهم ماهية اللغة من خالل ماهية إذن يجب
صور وإيحاءات تثري االنفعال من دون أن تفصح عن معنى محدد.
واالجتماع ومن التفكري والتعبري .وربما كانت الحضارة العربية خري
كل يشء موضو ًعا للبحث واملناقشة واملنطق ،ونحن نرى أن الشعر لم قبل .فهل ِّ يحتل يف هذه األيام املكان الذي كان يحتله من ُ ّ نسلم يعُ ْد
الشعر» .فإذا كان الشعر هو أصل اللغة كما رأينا فهو أصل الحضارة؛ ألن الحضارة بدأت من اللغة التي ّ مكنت الناس من التواصل شاهد عىل الدور الذي أدَّته اللغة وأدَّاه الشعر يف قيامها.
فالشعر هو ديوان العرب .والديوان هنا هو الثقافة والرتاث
والتاريخ .وبنا ًء عىل إدراكنا لهذه الحقائق نعرف أن الشعر ضرورة،
ونفهم حاجتنا له؛ ألنه وسيلتنا ألن نعرف أنفسنا ونمثل حاجاتنا
ونعبرّ عنها باالسم والصورة والصوت والحركة .فالشعر وعي كيل ِّ ويمثلها ويغ ِّنيها .ومن هنا نستطيع أن يسمِّي األشياء ويصوِّرها
ولهذا لم يعُ ْد له مكان يف هذا العصر الذي ازدهر فيه العلم ،وأصبح
بأن الشعر مات ،وبأنه لم يعد ضرورة ،ولم يعد م َْطلبًا؟ أم أن تراجع
الشعر له أسباب ليس من بينها استغناء الناس عنه ،وأنه ال يزال حيًّا قادرًا عىل مواصلة حياته ،وال يزال ضرورة وم َْطلبًا ،وأن علينا أن
نبحث عن العقبات التي تمنعه من الوصول للناس ،وأن ِّ نذلل هذه
العقبات؛ ليزدهر الشعر من جديد يف الحاضر كما ازدهر يف املايض؟
وأنا أرى من خالل اتصايل بالحركة الشعرية املصرية ،ومتابعتي
للنشاط الشعري يف عدد من البالد أن الشعر لم يفقد خصوبته
نتصدى لتلك التيارات التي تظهر بني حني وحني؛ لتعلن الحرب عىل ً نقيضا للعقل وخصمًا له .ملاذا؟ ألن هذه التيارات تجعل الشعر وتع ّده
وقدرته عىل إنجاب أجيال جديدة من الشعراء املوهوبني .والعقبة
واالستنتاج .وكذلك تفعل مع الشعر فتجعله مجرد تخييل وتهويم
االتصال املنتظم بالجمهور ،وتحرمها من هذا الحوار الخصب ،وهذا
العقل مجرد آلة حاسبة ،وتحصر نشاطه يف اإلحصاء والتحليل وانفعال .وهذا تضييق وتعسف ال يتفق مع ما نحسه ونعيشه ونعرفه
من تواصل الحواس والطاقات ،وتداعي األفكار واالنفعاالت والخواطر والذكريات.
نحن ننفعل بعقولنا؛ ألننا نكتشف بها املجهول ونتخيله ونتوقعه
ونحلم به .ونحن يف املقابل نفكر بأفئدتنا ،ونحس بها ،ونزن األشياء، ً مرادفا للعقل .وباستطاعتنا أن ونمتحنها .ولهذا رأينا القلب يف تراثنا
نفهم من هذا أن العقل ليس واحدًا يف كل الثقافات ،وأن وظيفته تختلف قليلاً أو كثريًا من ثقافة ألخرى .ولهذا يتحدث الباحثون عن
التي تواجهها هذه األجيال تتمثل يف انعدام الوسائل التي تمكنها من
التجاوب الذي ال بد أن يتحقق بني الشاعر والجمهور؛ يك يستعيد الشعر طاقته ويمأل مكانه.
ونحن حني نتحدث عن انعدام الوسائل نشري بالطبع إىل ما ترتب عىل هذه الثورة اإللكرتونية التي خلقت أجهزة ّ ّ محل الكتاب، حلت
وكان لها أثر سلبي عىل الكتابة والقراءة ،وعىل اللغة التي خسرت كثريًا بموت الكتاب ،ولم تعد لها تلك السلطة املعنوية التي كانت
لها من قبل .ونحن نرى أن النقاد الجدد يتحدثون عن موت األدب وموت املؤلف!
العقل الشرقي والعقل الغربي من دون أن ينكروا بالطبع ما هو
كيف نواجه هذه التطورات التي تعطل حركة الشعر ،وتحول
واحدًا يف كل اللغات ،وليس واحدًا حتى يف اللغة الواحدة ،فالشعر
الشعر نفسه هو الذي سيجيب عن هذا السؤال؛ ألن الشعر
مشرتك بينهما .ونحن ال نعرف من ناحية أخرى أن الشعر ليس
الغنايئ يشء ،والشعر امللحمي أو املسرحي يشء آخر .والرومانتييك
غري الكالسييك ،والجديد غري القديم.
19
بينه وبني الناس؟
ضرورة ،وألنه كما قال بول هازار :مطلب أبدي ،وألنه بعد كل أزمة يتعرض لها يعود حيًّا من جديد.
ملف العدد
انحالل الهويات الشعرية محمد علي شمس الدين شاعر وناقد لبناني
البحث في الشعر العربي اليوم ،كالشعر نفسه إشكالية مفتوحة على مصراعيها،
20
ً جميعا؛ ألنها التعبير الراهن ،باللغة الشعرية ،عن تأجّ ج بل هي إشكالية اإلشكاليات الصراع على الهوية .في عالم وحلي مفترس ،وفي رياح التوجس والتوحش ..إن الحرية
والذات والموت والمقاومة ،شأنها شأن الخبز والنفط والماء والتراب ...شأنها شأن الحب والخديعة والخوف والضجر ...هي مسائل ال تستطيع القصيدة العربية الراهنة،
مهما كانت خاصة وخفية ،هامشية أو هاربة ...ال تستطيع اإلفالت من شباكها .فأنى
لذبابة الشعر الذهبية الطائرة هذه أن تفلت من عنكبوت الحصار؟
العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
املشهد الشعري الراهن
يصح عن الشعر صحته عىل العلم« :إن الكون ينتج عن حالة عدم
من العصر الجاهيل كانت جماعات العرب ترى القصيدة جرحً ا
استقرار خالق يمكن له أن يتكرر إىل ما ال نهاية .وهنا نرى األبدية». ً تفوقا وخصبًا. مع التطور تغدو عالقة القصيدة باللغة أكرث
وشهدت نهوض العواصم وسقوطها ،ثم جلست عىل عتبات
اإلشارة والبارقة والرقم وما إىل ذلك ،ما يجعل الشعر من أكرث الفنون ً قلقا .وما نشهده اليوم هو التحول يف مفهوم اللغة وانتقالها
من جروحها يف الغيب الصحراوي الطويل ،وسابقت القصائد بعد
ذلك الجيوش الغازية يف الفتوح ،واختلطت بالشعوب ،وتغربت العصور لتنوح مناحات الشعراء الطويلة .فمن خصائص العرب، عىل ما رأى ابن خلدون ،تحطيم الهدايا وتخريب العمار ،هكذا
تنفتح الستارة عىل املشهد العربي الراهن .والراهن يمتد لسنوات طويلة تعد بالعشرات .فالشعر الذي كان صدح يف حناجر متعددة
يف أواسط القرن السابق ،عىل عادته التاريخية ،ما لبث أن تمزق
وتشرد يف بالد كثرية وبعيدة ،واندس يف لغات أخرى .يلوح يل ً أحيانا مشهد الشعراء العرب املتسكعني عىل أرصفة عواصمهم أو
هذا التطور الذي يصل اليوم إىل اللحظة العنكبوتية للعالم؛
من البالغة الكالسيكية إىل برق اإلشارة ،ومن مفهوم الوزن إىل
متاهة اإليقاع؛ إذ يختلط النسق بالفوىض ،والشعر بالنرث ،والشاعر ً باحثا هو الدكتور نبيل عيل اقرتح تغيري اسم باملتلقي .حتى إن املتلقي الحديث إىل «املتليك» ،ونشأت مع التطور اإللكرتوين قصائد
الفيسبوك ،والقصائد الفورية ،ونص املوبايل ،والنص الجماعي، والنص الرقمي التفاعيل أو الهايرب تكست ...هي تجارب كثرية عىل
عواصم العالم ،أشبه ما يكون بأحصنة تموت عىل أرصفة بعيدة.
كل حال .تحاول اليوم أن تغري من مفهوم ارتباط القصيدة باللغة
نفسها بأنها شاعرة فرنسية من أصل سوري .ويعرف سعدي
وتسعى العتبار الشعر هباء اإلشارة اإللكرتونية .إنها تحاول...
تعرف مرام مصري (شاعرة سورية من الالذقية تقيم اآلن يف فرنسا)
يوسف نفسه بأنه شاعر بريطاين من أصل عراقي .وشاعر فلسطيني بأنه شاعر هولندي من أصل فلسطيني ..وهلم ج ًّرا .حس ًنا ،املسألة
والوزن واإليقاع وهو ارتباط تاريخي وثني أو ديني إىل حدود كبرية.
من خمسينيات القرن الفائت إىل اليوم
يف خمسينيات القرن الفائت ،وعىل وجه التحديد يف عام 1949م،
ليست أخالقية عىل ما يظن .هي أشد وأصعب من ذلك .إن من ً أحيانا إعالن اليأس حتى من الشعر نفسه ،ذلك الذي الشعرية
قالت نازك املالئكة يف مقدمة ديوانها «شظايا ورماد» الصادر بطبعته
املشهد الدموي عىل بوابة لبنان .لكن االنحالل التام لهوية الشاعر
والقوايف واألساليب واملذاهب ستتزعزع قواعدها جميعً ا» .وكأن هذا
سماه املاغوط «الجيفة الخالدة» وأعلن كرهه له يف لحظة احتدام
مسألة فيها نظر.
األوىل عام 1945م« :لن يبقى من األوزان القديمة يشء؛ فاألوزان الحصان الجامح للشعر العربي الذي أطلقته نازك املالئكة ،كان أكرث
شراسة ومغامرة ممن أطلقه ،فما لبثت أن ترجلت عنه لينطلق هو
بعض الهويات العربية اآلن تقتل أصحابها لتنجب من جثثهم ً ً وأحيانا مشوهة أشخاصا آخرين ذوي مالمح خالسية أو مختلطة،
بأكرث مما تنبأت له صاحبته األوىل ...وليصل يف جموحه إىل اللحظة
هنا ليست أخالقية وال سياسية ،إنها أخطر من ذلك .إنها مسؤولية
وتحلل أعضائها ،لحظة التفتيت الهائلة.
وعجائبية ،ومع ذلك فالشعر مسؤول عن كل يشء ،واملسؤولية
وجودية؛ ألنه يف الشعر واحتداماته تتجىل عالمات الصراع عىل
21
الشعرية العربية الراهنة .لحظة التبدد الخطري وانفالج دم القصيدة
الوجود .فالشاعر ليس حارسً ا عىل باب األخالق لكنه بالتأكيد حارس عىل باب الهوية .ومن ألف عام خلت قال األصمعي:
«الشعر نكد بابه الشر ،فإن دخل يف الخري ضعف»؛ يقصد الصراع. اللحظة الراهنة
اإلمساك باللحظة الشعرية الراهنة عمل متقص وصعب،
يقتيض إرهاف الحواس جميعً ا إليقاع الحياة الدائرة فينا وحولنا
من خالل اللغة واالستعارة الشعرية؛ من النملة الدابة عىل الرتاب
إىل املحراب ...ومن انتظام الشوارع واملدن إىل الخراب ...فلكل يشء لغة ،واللغة هنا تتجاوز مفهوم التقليد والقاموس لتندرج
يف سيميولوجيا اإلشارة العالمة ( )signeوبمقدار ما هي اللحظة الشعرية لحظة إشارية برقية وحسية ..إال أنها ً أيضا إشارة يف الروح ،بارقة ميتافيزيقية ،وما يقوله بريغوجني «نال جائزة نوبل
يف الكيمياء عام 1977م) املتوفى 2003م يف كتابه «بني الزمن واألبدية» نازك المالئكة
ملف العدد
تحركت القصيدة الحرة العربية بعد نازك والسياب والبيايت
القتل (املعنوي) .ولم ال؟ كل تجديد خروج عىل النسق ORDRE
أساليبها ولغاتها عىل أرض واسعة مفتوحة كثرية الفسوخ
الخلل أو الفوىض يف النظام .والعبارة علمية أكرث مما هي أدبية أشار
والحيدري مع جماعة مجلة شعر وشعراء مجلة اآلداب بكل
واملطبات .وقد ظهر الصراع األسلوبي يف القصيدة العربية الحرة والحديثة قريبًا مما قاله عبدالقاهر الجرجاين حول «الجمع بني
من خالل الالنسق .DESORDREيسمونه بالفرنسية الكاوس أي إليها عالم الكيمياء بريغوجني.
اهتم جان جينيه يف الغرب باملرىض واملهمشني والشواذ.
رقاب املتنافرات» القصيدة تحاور ذاتها وتحاور سواها عىل امتداد
وهو ما تحاول علوم ما بعد الحداثة يف الطب والفلك والفيزياء
تطور الحياة غريزة التجاوز أو التغيري بسبب امللل .إن الضجر من
عىل األصول قديم .وجد الباحثون يف الشعر القديم ًّ 13 نصا
الرقعة والزمن .إن من أسباب انفجار البنية اإليقاعية ،إضافة إىل اإليقاعات القديمة أدى إىل والدة القصيدة الحديثة ولم ال؟ دعك من تسمية التجديد باملروق واللعنة والفضيحة ...إىل غري ذلك،
والرياضيات االنتباه إليه اليوم ،ونحن نرى يف العربية أن الخروج
خارجً ا عن أوزان الخليل بن أحمد الفراهيدي؛ من بينها قصائد لشعراء فحول كما ورد يف المية المرئ القيس ،ويف بائية مشهورة
لعبيد بن األبرص مطلعها« :أقفر من أهله ملحوب فالقطبيات
إنه بكل بساطة الجديد .وهو صراع عىل سلطة اللغة التي هي سلطة الحياة نفسها .لم تشأ مثلاً
فالذنوب» رأى ابن رشيق أن القصيدة غري موزونة .كذلك ميمية
أن تتسلم السلطة الشعرية
أبي الصلت ،كلها صنف يف باب الشاذ واملختل واملضطرب ،وهي
جماعة مجلة شعر اللبنانية
الجديدة بسالسة؛ بل سلكت أساليب عرفها الغرب فيها
التشويش والتخريب حتى
للمرقش األكرب ،والمية لعدي بن زيد العبادي ،وأبيات ألمية بن
لشعراء فحول .حتى إن شاع ًرا متواضعً ا كأبي العتاهية كان يقول: «أنا أكرب من العروض» ويعلل ذلك بمحاكاة شعره ألصوات
يسمعها «يراجع كتاب اإلبداع العربي للدكتور عبداملجيد زراقط، وكتاب االختالالت العروضية يف السكون املتحرك للدكتور علوي الهاشمي ،اتحاد الكتاب يف اإلمارات1992 ،م».
فإذا كان الشعر العربي الحديث بأساليبه وأشكاله ولغاته يرتكب من أنظمة إيقاعية متاّلفة أو متنافرة...
22
وفيه كثري من الخروج عن القاعدة ،فلم ال؟
القصيدة الجديدة .أجيال وتجارب جديدة
«وقال يا بني ال تدخلوا من باب
واحد وادخلوا من أبواب متفرقة»
محمود درويش
القصيدة ميتة والشعراء متسكعون ً وأحيانا بشذرات الفيسبوك .غالبًا ما يرتفع السؤال :إنه زمن غري يف بعض قصائد النرث تختلط القصيدة بالقصة القصرية
شعري .القصيدة ميتة والشعراء متسكعون عىل هوامش املدن واملنايف والجئون إىل الشبكة العنكبوتية .نعم ،هذا صحيح .لم تعد الكتابة مهنة مشتهاة ،وغاب ذلك االفتتان السابق بفكرة النخبة .لم يعد العمل التشكييل مثلاً ،صاحب سطوة .ال تجد اآلن الشاعر النجم .وربما انكفأت الفنون الجميلة من شعر ورسم ومسرح ورقص تجاه النفايات ...لم تعد لوحة كلوحة رامربانت أو غويا أو
فالسكيز أو بيكاسو أو دايل تفعل فعلها .صارت تقنيات السعر والغالرييهات تتحكم باللوحة .وغدت الفنون هوايات خاصة «ال
ضرر فيها» ،أما أن تجمع الجميل واملفيد معً ا أو الجميل والجليل عىل غرار ما كان يحصل يف املايض فأمر من الصعوبة بمكان .فال بد من االختيار ،فإما الجميل الصعب الخاص واملعزول ،وإما السريع املفلوش عىل الشاشات والعابر كفقاعة ماء.
من املهم اإلشارة كما يقول الشاعر والناقد األمرييك «ويسنت أودن» يف كتابه «محنة الشاعر يف زمن املدن» (ترجمة سهيلة
أسعد نيازي) إىل أن التطورات التقنية االستهالكية واالتصاالت كونت مساحة بشرية جديدة ال تنطوي تحت خانة املساحات البشرية السابقة .لقد ولد ما سماه الفيلسوف الدانمريك كريكغارد ( )publicوهم غري محددين بمكان وزمان؛ بل ينتمون إىل وسائل
العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
«سورة يوسف ،اآلية .»67التجربة الشعرية العربية الحديثة
واملعاصرة حقل خصب ومتنوع يف اإليقاع واألسلوب .لكنه يكاد يكون حقلاً مهجورًا ،وهو حقل متطور ً أيضا من حيث املعاين .من وجهة النظر املوازية الفكرية والنقدية .لن تعرث سوى عىل اسم واحد
ابتكر مفردة هي مفتاح قصائد بدر شاكر السياب الخائفة الرحمية امللتجئة للموت أو الكهف ،كمخرج من ظلمات الحياة ومن خراب
الجسد املريض ،هو إحسان عباس .قال باختصار« :قصائد السياب
قصائد كهفية» .لكننا لو نظرنا إىل تجارب شعرية ضخمة كتجارب
أدونيس والبيايت والحيدري وعبدالصبور وأنيس الحاج واملاغوط وخليل حاوي مثلاً ،وهم من الرياديني األوائل ،فأي عمارة نقدية
أو عمائر نقدية نشأت يف مقابلهم؟ أقصد هنا مقارنة افرتاضية تتناول سطور الحداثة الشعرية الغربية وما رافقها من تطور فكري
فلسفي يف العمارة النقدية ،فاملستقبلية والدادائية والسريالية مثلاً ،كما الوجودية ،تساوي تناظ ًرا مزدوجً ا يف وقت واحد :اإلبداع
فاضل العزاوي
عىل حني أن طائر اإلبداع العربي يكاد يحلق بجناح واحد،
الفني املتنوع من شعر ورسم ومسرح وسينما وغري ذلك .واإلبداع
جاء أمل دنقل بني شاعرين معدودين يف مصر؛ صالح عبد الصبور
يف وقت واحد .ويف مقابل بروتون وإليوت وإيلوار ورينيه شار
وهو شاعر جنائزي عمل عىل ذلك «اإلملاح البودلريي
النظري املرافق يف الفكر والفلسفة .سارتر روايئ وفيلسوف وجودي وأراغون ،سنجد روالن بارت وجوليا كريستينا وتودوروف...
البحث في الشعر العربي اليوم، كالشعر نفسه إشكالية مفتوحة على مصراعيها ،بل هي إشكالية اإلشكاليات جميعا؛ ألنها التعبير الراهن ،باللغة ً الشعرية ،عن تأجج الصراع على الهوية
وأحمد عبد املعطي حجازي ،جاء بشعر حاد وكابويس وغرائبي.
الذي يصل ما بني الغناء والرغبة» «ع .بيضون السفري عدد 30 مايو 2003م» ،وينطوي عىل شطح سريايل وصورية سينمائية تعبريية وحشية توازن بني االنتهاك واملخيلة السوداء .نلحظ يف
شعر أمل دنقل قسوة هائلة كفأس قاطعة .وشعره كضريح
23
من بلور وعظام مسننة .فيه مزاج السم (كداء ودواء) كما
وصفه األبنودي .ولد عام 1940م ،ومات بالسرطان يف جسد
الهزيمة العربية .يف أشعاره شحنة نقدية يتفجر العذاب والنواح يف خاليا النص .يقف عاريًا ويعري البالد املهزومة،
وبدأ يضرب ضرباته القوية منذ قصيدة «البكاء بني يدي زرقاء
االتصال ،ال هم مجتمع وال جماعة وال أفراد متميزون .إنهم «عمالق تجريدي موجود وعقيم ،بمعنى أنه كل يشء وال يشء يف آن». وهم يختلفون عن مفهوم الجماعة ،وعن مفهوم الرعاع ،وعن مفهوم العامة .هم تجمعات افرتاضية تتوجه إليهم إشارات
االتصاالت ،وعليهم يعول يف حركات جماهريية كثرية ،ويف اتصاالت واسعة ،أداتها السرعة والاليك ،والخفة واإلشارة .وقد تجد اآلن من يمارس كتابة النرث اليوم من خالل التغريدات املتبادلة؛حيث يدخل الشعر يف لحظة الشواذ هذه ...حيث كل واحد هو
شاعر للحظة ،وبطل للحظة ،ومشهور للحظة ،ومهم للحظة ...والخالصة ،هل ثمة من خالصة؟
يفر الشعر اليوم من اللغة املتعالية األيديولوجيا وادعاءات املايض يف البطولة والخلود إىل املقهى واإلنرتنت واملرتو .إنه يتذرر ً أحيانا أن يرتك عناوينه بال تنسيب .فينسرح يف شكل نرثي ويتصعلك ويطرق أبوابًا كثرية ليفك عن نفسه عزلته الصعبة .ولعله يؤثر
يصلح لقصة أو مقالة أو تعليق ،ولعل الشعر غدا قليلاً ،فقد انحل يف فنون أخرى كثرية ،وتوسع شأن اللغة يف الحرف واإلشارة. وحني كان هم النرث أن يكون مبذولاً للجميع بحيث إنه موجود ليك يحيك «من كليلة ودمنة إىل ألف ليلة وليلة إىل ثرثرات الباعة وربات
املنزل والخدم ...إىل سرد الروايات والقصص» صار هم بعض الشعراء اليوم أن يكون هكذا ..أن يلتحم بالنرث يف سيوالته وسردياته التي
ال تحد ،لكن يف الجانب اآلخر من افرتاس النرث للشعر «واالفرتاس املبني هو افرتاس الرواية له» ما زال ثمة من يتخاطبون فيما بينهم بربق الشعر وانخطاف اللغة ،ويتداولون فيما بينهم شمس املجاز العظيم «كما يقول نريود» شمس القصيدة.
ملف العدد
اليمامة» يف 13يونيو 1967م؛ حيث أدخل التاريخ يف قصيدته ال كورود حجرية بل كألغام قابلة للتفجري ،نقل أمل دنقل
تجربة التأمل امليتافيزيقي لعبدالصبور من الغيب إىل الرتاب،
إىل صعيد مصر والشوارع واملقاهي والناس .وشعره وإن كان ً هادئا يف شكله وتركيبه ولغته ،إال أنه يف العمق صاخب وقادر
عىل لغم الصورة بكلمات قليلة «الزهور تحمل أسماء قاتليها يف بطاقة» واستعمل األقنعة التاريخية؛ ليقدم قصيدة عربية حديثة مشحونة ونقدية.
يشيد محمود درويش بالتجربة اللغوية يف دواوينه األخرية
«ملاذا تركت الحصان وحيدً ا» و«كزهر اللوز أو أبعد» و«جدارية»
إىل مناطق جديدة من خالل التدوير اإليقاعي والقوايف يف القوايف ،ويكتب القصيدة كلعبة لغوية بارعة؛ حتى يتحول شعره إىل نقر إيقاعي يف اللغة .يقول يف الجدارية« :واسمي إذا
أخطأت لفظ اسمي بخمسة أحرف أفقية التكوين يل/ميم املتيم
وامليتم واملتمم ما مىض حاء الحديقة والحبيبة حريتان وحسرتان/ ميم املغامر واملعد املستعد ملوته املوعود منفيًّا مريض املشتهى/
واو الوداع ،الوردة الوسطى /والء للوالدة أينما وجُ دت ،ووعد
24
إياد الحكمي
الخصب والتوليد.
يف الجهة الثانية من التجارب الشعرية الجديدة ،وبفسحة
واسعة من حرية التجريب ،بسبب التحلل من الوزن والقافية، نعرث عىل حساسيات شعرية كثرية مفارقة كليًّا أو جزئيًّا
لحساسيات آباء قصيدة النرث العربية .مخففة مهمشة طريفة
ْ درست ،ودوري الوالدين /دال الدليل ،الدرب ،دمعة /دار ٍة يدللني ويُدْ ميني وهذا االسم يل /أما أنا وقد امتألت /بكل أسباب
أو ساخرة يومية ومن دون ادعاءات بنيوية ،بشرية وأكرث يومية.
يف التجربة الشعرية العربية املؤسسة عىل اإليقاع الوزين
ذهنية نرثية ،إخبارية أكرث مما هي غنائية أو بالغية؛ وأكرث مما
الحصني وهو يف مجموعته «كأين أرى» «من منشورات
عليوان نعرث عىل بصمات اإلنرتنت وظالل األرقام واإلشارات ويف
الرحيل /فلست يل /أنا لست يل /أنا لست يل».
من بعد الرواد ،نذكر تجربة الشاعر السوري عبدالقادر اتحاد الكتاب العرب 2006م» يضرب عىل وتر عميق وصاف كعيون املاء يف الجبال «دعاين إىل نفسه بالذي يستطيع من النخل والورد /أهرق جرة خمر بروحي /وسرح غزالنه يف سفوحي /ونادى عيل بأوصافه يف املرايا /فكان كأن سواه ينادي سوايا /وقال أقل وأكرث/ ولكنني لم أكن أتذكر /نصف الحقيقة أين رأيت /ونصف الحقيقة أين نسيت» «من
قصيدة ماء كوثر» .هذه النماذج املتنوعة
التي إذا شددناها آلخرها عىل صعيد عربي
«وأستثني التجربة اللبنانية وهي خصبة»
تصل آنيًّا إىل الشاعر الشاب الفلسطيني املقيم
يف اإلمارات عبدالله أبو بكر ،والسعودي املقيم يف الواليات املتحدة األمريكية إياد الحكمي تبني أن البنية اإليقاعية للشعر العربي يف لحظته الراهنة املؤسسة عىل الوزن
سركون بولص
والتفعيلة
هي
بنية متطورة بخاصية
العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
قصائد منازل ومقهى وشارع ومكتب ويدوية أكرث مما هي هي أخالقية وتبشريية .ويف بعض األصوات األخرية مثل سوزان
نصوص الشاعر املصري الشاب عماد أبو صالح نعرث عىل روح متصعلكة مشردة ومتمردة ً أيضا «خراف راقدة تلمس ضوء القمر املخنوق /نسوة جالسات عىل العتبات /ينظرن بفرح/
للجالليب املشنوقة عىل املسامري /ويتخيلن األزواج داخلها» من قصيدة ليلة الدلتا من مجموعة «كلب ينبح ليقتل الوقت» طبعة
خاصة ومحدودة القاهرة 1996م .وقصائد هذا الشاعر تفيض بألم
كاسر عبثي وفائض عن االحتمال .إصداراته عىل العموم خاصة ومحدودة وهي :عجوز تؤمله الضحكات /جمال كافر /مهندس العالم /قبور واسعة/أنا خائف /كلب ينبح ليقتل الوقت».
يف العراق انفرطت البالد .وشكلت تجربة فاضل العزاوي
كثيرون يطبعون دواوينهم على حسابهم بنسخ محدودة ،يوزعونها باليد على أصدقائهم أو ينشرون قصائدهم من خالل مواقع اإلنترنت يقدمون حساسيات شعرية مؤلمة ونفاذة وخاصة
غال ًبا ما يرتفع السؤال :إنه زمن غير شعري .القصيدة ميتة والشعراء متسكعون على هوامش المدن والمنافي والجئون إلى الشبكة العنكبوتية
يف أملانيا ،وتجربة سركون بولص يف نيويورك ما يمكن أن نسميه التشظي الشعري ودمار األصل ،فاضل العزاوي
يفرع القصيدة ويكرها كشريط تسجييل من صور وإيقاعات... ً تمزيقا يشبه تمزق وسركون بولص يمزق الجملة الشعرية
الجسد العراقي املتناثر يف الديار البعيدة ...وتتحول اللغة يف شعره إىل قشعريرة .وقد استخدم الرسوم واألرقام والدوائر وقطع الكلمات تقطيعً ا يف الجملة من أجل العبور إىل الجهة الثانية من الكالم «بقول جالل الدين الرومي» إنه يكتب
الكتابة املضطربة للمعنى ..املعنى العابر الذي كما يقول «دائمً ا يدخن منتظ ًرا» .ويف قصيدة «حانة الكلب» بصمات من آلية أمريكية تظهر يف التقطيع والرصد العددي واستعمال األرقام
والصورة الهندسية البصرية ..يكتب «قصيدة اللكمة» حيث ال جفن عاطفيًّا للشعر .ويف قصائده ما نسميه سرد السرد،
والشعر ضد الشعر ،وبرمجة كتابية للنص،وهو ضغط من ً أحيانا يفلت من خالل استخدام اآللية األمريكية عىل أصابعه.
عبدالله أبو بكر
الرواد وبعدهم حتى اآلن .إن يل فيها ً بحثا منفصلاً عىل حدة .كذلك
التجربة السعودية عرب أجيالها ،وتدخل يف هاتني التجربتني إىل جانب الفصحى العامية والزجل يف لبنان والشعر النبطي يف اململكة. يسعى السوري بندر عبدالحميد السرتجاع ابن املوسيقا
املجنون «العصفور» يف شعره ويف الطرف املقابل يقف الشاعر السوري نوري الجراح شاع ًرا دراميًّا بالحس واملعنى .قصائده
كاللهاث .يقول« :ألنني مجوف وسهل االصطياد /لم يبق من السلم عىل السلم غري زلة القدم» «من قصيدة السم يف املطر» ،ويرى أن الشاعر «يولد انتحاريًّا ويولد منتح ًرا» «موقع جهة الشعر عىل اإلنرتنت» .ثمة ورثة يظهرون يف زمن غري شعري .يكتب الفلسطيني زكريا محمد« :عبأنا مصايرنا
امليثولوجيا أو الثيولوجيا «لو كنت يف مركب نوح» ،ويلجأ إىل
يف أكياس ورميناها يف الشاحنات» .ويقول يف ضربة شمس
«بني القصبات املحطمة طائر أحمر يجري أو يحلق نحو نقطة
دواوينهم عىل حسابهم بنسخ محدودة ،يوزعونها باليد عىل
إشارات شبيهة برقم أور وإيماءات من مشرق سعدي الشريازي مجهولة»« ...قصيدة مشهد باتجاه واحد» ..لكن كل ذلك هو
شكل من التذكر يف النسيان.
عم ًدا ال أخوض يف التجربة الشعرية اللبنانية وهي خصبة قبل
25
«املؤسسة العربية 2002م»« :بكاؤنا يخصنا» .كثريون يطبعون أصدقائهم أو ينشرون قصائدهم من خالل مواقع اإلنرتنت،
يقدمون حساسيات شعرية مؤملة ونفاذة وخاصة .يقول مازن معروف يف ديوان له بعنوان «الكامريا ال تلتقط العصافري» دار أيضا تتغوط /واملطر ً األنوار 2004م« :والعصافري ً أيضا يتسبب
بفيضانات الصرف الصحي /وأنا وأنت عكروتان تحت شجرة مليئة بالغبار والحشرات( .من قصيدة غرنكا) إنها كتابة أولية وخاصة .يقول« :أمتطي رأيس كمن يمتطي بغال» وهي نصوص
قصرية مكتوبة بتقنية الصنارة يف متابعة السمكة واصطيادها.
وهي تصلح قصيدة نرث وقصة قصرية مثل قصيدة الرصاصة: «رصاصة طائشة بعد أن عربت غرفة الجلوس /فاملكتبة فممر
البيت /فالصورة التي تجمعنا يف رحلة نهر الكلب /فالغسالة األوتوماتيكية وأمي املرهقة/الرصاصة أحنت قليلاً مسارها/ بفعل الجاذبية /واستقرت بأسفل رأيس يف الخلف».
مازن معروف
ملف العدد
ســؤال الـشـعــر منصف الوهايبي شاعر وأكاديمي عضو المجمع التونسي للعلوم واآلداب والفنون «بيت الحكمة»
كثي ٌر ممّ ا نقوله عن الشعر شعراء وقرّاء ّ ونقا ًدا في هذا البلد العربي أو ذاك ،يحتاج إلى قدر غير يسير من التوقف والتثبت وحسن التناول ،وإلى شواهد وأسانيد من األدب والفنّ الحديث تنهض له وتعضده .لكن ال يذهبنّ في الظن أنّ سؤال الشعر من المتعاود الثقافي ،أو هو
من المسائل المحسومة .وإذا كان أهل الغرب ،وقد صارت آدابهم وفنونهم بمنزلة «معجز»
26
ّ يتحدانا مهما حاولنا أن ندانيه أو نجاذبه مكانته ،يعيدون طرح سؤال الشعر وأزمته أو يعودون
له وعليه ،بعد أن استأثر بهم ،موضوع «ما بعد الحداثة»؛ فما أحوجنا نحن إلى تأصيل السؤال في سياقه التاريخي والحضاري ،بعد أن آلت «الحداثة الشعريّة» لدينا إلى ما آلت إليه في ّ ّ يتسلق غافلاً عن أنّ تخطى الس ّتين ،وصار يتسلق على جذوعه من «شعرنا الحديث» الذي
نعمة الشعر ،هي في إيقاعه ومنه؛ هذا اإليقاع الذي هو انتصار اإلنسان على الزمن ،أو سبيله إلى جعل الزمن يرقص على نغم إنساني ،وليكن!
العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
فربّما كان حالنا أشبه ،كما يقول بعضهم؛ بحال
يف ّ ظل تقاليد نوعيّة مخصوصة ،أو يف ضوئها ،لكنّ عمله ال يُقاس بها فحسبّ ،إنما ً أيضا بما يجرتح من احتماالت
ً ً وخيطا خيطا من هنا كيف بدأ الفلم .ثمّ يتماسك ،ويلتقط من هناك؛ وشي ًئا فشي ًئا يلمّ باألحداث أو يمسك بخيطها،
قد يكون موطن أزمة الشعر يف هذا الزواج العريف بني
شخص يدخل إحدى دور السينما ،بعد بداية العرض؛ فيأخذ ّ بالتلفت حوله ،ويهمس للجالس بجواره سائلاً عمّ ا حدث أو
ويتع ّرف إىل الشخصيّات .وهكذا يبدأ بمتابعة الفلم ،من
دون كبري عناء ،أو هكذا يتهيّأ له ،ويتجاوز موقف «الذي ّ متأخ ًرا» .ويف هذه الصورة كثري أو قليل من حسن الظنّ وصل ّ متلق ً باملتلقي ،وربّما باملنئش ً ٍّ أيضا. أيضا؛ وهو
والنص -أيّ ّ ّ نص -ينشأ «قِرا ِئيًّا» ،وهو يقرأ خاماته وما ّ يتحدّ ر إليه من نصوص وأجناس أخرى .إنما يعنينا من هذه الصورة ّأنها تصلح مثلاً لكثري من الشعراء والك ّتاب الذين
انخرطوا يف مشهد األدب الحديث ،وقد قامت معامله، ّ وتوطأت سبله ،أو هكذا تهيّأ لهم؛ فإذا هم ال يكادون
وإمكانات فيها.
ثقافتنا وثقافتهم ،منذ اللحظة الفارقة التي سمّ يناها «صدمة الحداثة» ،وليس يف هذا أيّة غضاضة ،فالحداثة فيما يق ّرره
شمويل ،ونزوع إىل القانون الذي ما مؤرّخوها :فعل كوين ّ
بعده قانون .هي ليست معيارية تنهض عىل قواعد تستتبع الحكم بالصواب أو الخطأ ،إنما عىل قوانني وأحكام عامة.
للكيل والجزيئ معً ا ،فإذا والقانون رهْ ن بمدى استيعابه ّ
ما تدافعا يف موضوع مادّته األدب أو الفنّ ؛ وهما كثريًا ما يتدافعان ،استدعى األمر إعادة نظر يف كفاية القانون.
وللحداثة األدبيّة يف الغرب قوانني غري تلك التي تجري عليها الحداثة األدبيّة يف ثقافتنا ،فاألوىل ّإنما نشأت يف املدينة
يالمسون أرضه ،أو يمسكون بخيط منه .وإذا هم يعيشون
ّ وتجلياتها ،حيث يغدو أي كالم عليها، أو هي من مفرداتها ّ ً فضفاضا ،إن هو لم يُباشرها يف فضاء املدن الغربيّة متعذرًا أو
ويلوي بعضها عىل بعض .وهل تشفع ثقافة محدودة لشاعر
أو تحوّله إىل مج ّرد أداة من أدواتها ورقم من أرقامها .عىل
يف هذا املشهد أكرث ممّ ا يعيشونه ،وإذا هم ال يربحون موقف ّ ّ تلتف، متأخ ًرا»؛ وقد أخذت أحداث املشهد «الذي وصل أو كاتب أن يشارك يف مشهد هو أشبه بأيقونة لفظيّة مغلقة، تمازجها عناصر وأمشاج من حداثة غربيّة تهجم عىل األدب
العربي منذ بدايات القرن املايض مثل وحيد القرن؟
هدم املواضعات ُ أحب لهذه الصورة أن تحمل عىل وجه ال غري ّأنني ال ّ ّ يتنقص شعرنا العربي الحديث، أرتضيه .فلست بالذي ويتحيّفه .فاملدوّنة الشعريّة شأنها شأن قرينتها الروائيّة، ّ وطلقت االتجاه تحفل بأعمال استوعبت منجزات العصر، التعبريي القائم عىل التصريح باملعنى ،يف شكله املحدّ د، وح ّررت العبارة من عالئق املجاورة املتعاودة والتجانس املألوف
بني الصفة واملوصوف ،وهدمت املواضعات اللغويّة القديمة املتواترة حيث الصورة ّ ظل اللغة وهي تتو ّكأ عىل متخيّل ّ التدفق الوجداين؛ وليست اللغة داثر ،وتسرتسل إىل نوع من -الشعر التي ال نقيض لها؛ أعني تلك التي تقدح املضمر
واملمكن ،وال تتأبّد يف مكرور الصور والرتاكيب؛ حتى ال تنلحق بأشباه لها ونظائر .وبعض أدبنا الحديث يشحذ عن دراية
«نشوة الكالم يف الالمعنى» ،تلك التي نستشعرها يف الفنّ
الحديث املأخوذ بالتجريب وهو ينقلنا من كتابة املغامرة إىل
مغامرة الكتابة حيث املبادرة للغة.
وربّما نحن نكتب لنسرت ونخفي ،ال لنفصح ونعرب .وال
نوعي مثلها مثل نظنّ أنّ هناك من يماري يف أنّ الكتابة عمل ّ القراءة املحكومة هي ً نوعي .والكاتب ّإنما ينئش أيضا بسياق ّ
الضخمة بمؤسّ ساتها ومشاريعها الكربى التي تستلب الفرد حني أنّ الحداثة األدبيّة يف ثقافتنا ،حالة جزئيّة أو هي ،يف ٍّ تجل يف جانب كبري منها ،لحداثة اآلخر ذات الطابع تقديرنا، الكليّ الشمويل .هي «حداثة» تتناسل من حداثة ،وليس من
27
املدينة أو من املعيش باملعنى الحصري الدقيق للكلمة.
وإضافة إىل ما تقدّ م فإنّ الحداثة األدبيّة عندنا مرتبكة
كأشدّ ما يكون االرتباك .فقد انخرطت يف بداياتها ،وربّما
إىل حدود السبعينيات ،أو بعدها بقليل ،يف مسار املشاريع الوحدانيّة الكربى (املشروع القومي مثلاً ) ،وقد باء بالفشل؛
قبل أن تنكفئ إىل ضروب من السريالية أو الدادائية أو العدميّة « النهلستية» والالمعقول ...وهي مذاهب ّ تولدت
من االنطباعيّة التي يعدّ ها بعض املتخصصني جوهر النظرية
الحديثة يف األدب ويعزوها إىل موقف ابن املدينة من املدينة
وليس موقف ابن الريف منها. ّ ولعل القارئ أن يشاطرين الرأي يف أنّ لهذه املذاهب يف الحداثة الغربيّة مالبسات غري تلك التي ّ حفت بها يف ثقافتنا. وقد أشار غري واحد ،إىل أنّ الحداثة الغربيّة صداميّة عدوانيّة أو هي خرق يف الزمن والتاريخ وخروج إىل الذات .وقد أدرك
الغربي الذي رأى نفسه يسيطر عىل كون صنعته الفيزياء والكيمياء أنّ الفلسفة العلميّة املتغطرسة باتت اآلن بالية،
و«اكتشف» أنّ اإلنسان ليس سوى جزء من أنظمة ضخمة، ّ الكل. وليس بميسور هذا الجزء السيطرة عىل
ّ إنّ أدبي أو ف ّني مالمحه املتميّزة بحيث يلوح لكل عصر ّ بناءً قائمً ا بنفسه؛ منطلقه عنصر ما مركزيّ فاعل ،أو جملة
ملف العدد
ّ ّ تتعلق بـ«استجابة القارئ» وما استق ّر يف مشاعره تأثرات ّ التلقي» عامّ ة .ولكنّ األعمال الفرديّة ووعيه ،أو بـ«جماليّة ّ يظل لها شأن ،وبعضها يمكن أن نعده نواة العصر أو
الرغم ممّ ا يثريه إلحاقها بالشعر؛ أعني مشكل األجناس
يسم فيها هذه الفرديّة أو تلك .وهذا العنصر ال يمكن أن ِ عص ًرا من العصور إلاّ داخل نظام ما أو بنية ما ،فالرومانسيّة
أدبيّة األجناس ،كما تبينّ الدراسات الحديثة. إنّ نصوص محمد املاغوط مثلاً شع ٌر؛ وإن لم ينتظمه
مح ّركه .والفارق بني عصر وآخر يكمن يف الدرجة التي تظهر
ّ تتمثل يف جماع سماتهاّ ،إنما مثلاً أو الرمزيّة أو التصويريّة ال
يف طبيعة العالقة بني تلك السمات .وقد تقوى سمة ويكون لها أثر بنيويّ يف مجمل السمات األخرى.
ولنئ كان من الصعب يف حيّز كهذا أن نتميّز السمات
الدقيقة أو الظالل الخفيّة بني أطوار الشعر العربي منذ
ّ خاصة ،بسبب من تداخل بعضها يف بعض، الخمسينيات ً نمطا من «الشعر» ينتشر يف سائر البالد فإنّ هناك اليوم العربيّة؛ ال يشدّ ه نسق أيديولوجي مخصوص ،وأكرثه ّ ويتمثل يزاوج بني الصور املجازيّة القريبة والجمل اإلشارية؛ هواجس الذات وحاالتها الوجدانيّة وإحساسها بالعجز
والصدع والخواء ،يف غنائيّة تحتفي باألشياء والتفاصيل
الصغرية .وربّما راهن بعضه عىل األشكال الحديثة .لكن من
دون أن يستوعب مكوّناتها وتحوّالتها؛ أو يقف عىل منحاها
28
االنقالبي والنقلة النوعيّة التي يحدثها يف بنية الخطاب
الشعري.
غري أن الظاهرة التي تستوقف الباحث يف الشعر العربي الحديث عامّ ة هي ظاهرة هذه النصوص التي ُتص ّنف عىل
ّأنها «قصيدة نرث» أو «شعر ح ّر»؛ وقد ذاع أمرها ،عىل نحو
يستدعي الفحص واملدارسة ،ومراجعة مشروعيّة بعضها ّ بالتسلق عىل جذوعه؛ الذي ينتشر باسم الشعر ،ويغري وهي التي تعوزها أبسط أدوات الشعر :الكلمة واإليقاع. عىل ّأنه من الضرورة ،قبل فحص هذه الظاهرة ،أن نشري
إىل ذلك التمييز الدقيق الذي تنبّهت إليه الدراسات الحديثة،
بني الشعر من حيث هو نمط للكتابة ،والشعر من حيث هو صفة للكالم ْ ورشح عنه ،أو بني الشعر والشعريّة ،أو بني ما يمكن أن نسمّ يه اصطالح الشعر ،ومطلق الشعر .كان ال بد
ربما راهن بعض الشعر الذي ينتشر في سائر البلدان العربية على األشكال الحديثة ،لكن من دون أن يستوعب وتحوالتها؛ أو يقف على مكوناتها ّ ّ النوعية التي منحاها االنقالبي والنقلة ّ يحدثها في بنية الخطاب الشعري
العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
ّ تتوضح مناقشتنا لهذه الظاهرة ،فليس من هذه اإلشارة حتى املقصود ّ كل هذه النصوص الخارجة عىل األوزان املوروثة .عىل األدبيّة ،وإن كان هذا املشكل قد يصبح ثانويًّا أمام مشكل
وزن أو قافية .فهي تتوفر عىل ضرب من اإليقاع .هو ليس
«نقلة عىل النغم يف أزمنة محدودة املقادير والنسب» كما هو الشأن يف القصيد «الخلييل» أو «قصيدة البيت»ّ ، وإنما هو تناسق بني عناصر الجملة ،وتناسب بني أجزاء الصورة. أمّ ا الظاهرة موضوع حديثنا .فال ندري كيف نص ّنفها :أهي
نرث مرسل أم هي «شع ٌر محلول» إذا استعرنا لها عبارة ابن طباطبا يف حديثه عن الرسائل .هي نصوص تهجس اللحن ّ يحل بعضها السجع محل من دون أن تقبض عليه ،وقد
القافية ،وقد يقع يف الظنّ ّأنها اعتاضت بذلك عن الوزن، أو أضفت من دون وجه ّ ً إيقاعا أو حق ،عىل الكالم املرجرج موسيقا .ومن عجب أنّ بعضهم ال يميّز السجع من القافية.
والسجع ،يف كالم العرب ،موطنه النرث أساسً ا ،وإن كان ّ ً أحيانا .كما هو الشأن يف بعض قصائد أبي تمام يتخلل الشعر واملتنبي ،فيع ّزز اإليقاع الشعري من حيث هو تفاعل بني الكمّ
والنرب ،ويوحّ د بني النرب الشعري والنرب اللغوي يف مستوى
الوحدة اإليقاعيّة .واللغة العربيّة شاعرة من نفسها ،بحكم ّأنها نشأت ودرجت يف بيئة شعريّة :الجزيرة العربيّة .وقد ال تكون القافية ضروريّة يف قصيدة التفعيلة مثلاً ،عىل قلق هذه التسمية .والتفعيلة مصطلح ال أثر له يف املدوّنة
العروضيّة املأثورة. عىل أنّ اإليقاع من حيث هو تركيبة صوتية – دالليّة ،يظلّ
العنصر األهمّ الغائب يف كثري من هذه النصوص «املنثورة» أو املسجّ عة التي يلحقها بعضهم ،عن جهل ،بقصيدة النرث،
عىل حني هي ليست يف أفضل األحوال سوى شعر مرتجم
إىل النرث .وترجمة القصيدة إىل النرث ،ال تحتفظ بأيّ قدر من الشعر؛ فللمعنى الشعري بنيته املتميّزة التي تتغري ،وتفقد
شكلها ،عندما تنتقل من صيغتها الشعرية إىل صيغة نرثيّة. وما نخال االحتيال لهذه الصيغة النرثيّة بالسجع أو بالتالعب اللفظي والصورة املغربة والطرافة املستجلبة باسم عدول ال تنتظمه قواعد تكوينيّة وتنظيميّة .من شأنه أن يزحزح بنيتها أو يضفي عليها سمات.
إنّ التجربة الشعريّة ال تنفصل عن تجربة الحياة ،وما نعدّ ه شع ًراّ ،إنما هو تحويل شكل لغويّ إىل شكل من أشكال
الحياة ،وتحويل شكل من أشكال الحياة إىل شكل لغوي. والنصوص السرديّة أو «الرواية» التي ينزع إليها الشعراء
حدسً ا أو ظ ًّنا عىل تجربة عند أيّ م ّنا هي تجربة «التقبّل ّ الذايت» أو إدراك الذات وتع ّرفها. إنّ «أنا» أشبه باسم لغري علم ،يعقد صلة ّ املتكلم حميمة أشبه بوشيجة القربى ،بني وكالمه .وهذا الضمري عىل ذيـوعه وشيوعه
«شديد الغرابة» وليس بامليسور محاصرته؛ ّ لتعقده وعدم ثباته .ومن نافل القول أن نذ ّكر بأنّ الك ّتاب أنفسهم يص ّرون عىل التمييز بني الكاتب من حيث هو «أنا اجتماعيّة» والكاتب من حيث
هو «أنا إبداعيّة».
ّ محصلة أنا أخرى غري التي بل إنّ الكِتابة
نظهرها يف عاداتنا ،أو يف املجتمع .وإذا ما سعينا إىل فهم تلك األنا ّ فإنما يف أعماقنا وحدها نستطيع أن ننفذ إليها؛ ونحن نحاول أن نبتعثها فينا وأنا
عىل رأي بعضهم؛ ففي حيايت قطيعة كبرية بيني أنا والرجل الذي يؤلف كتبًا .وأنا يف حيايت ،أعرف تقريبًا ما أفعله ،لك ّني إذ أكتب ،أكاد أهيم تمامً ا.
أحب الجلوس يف وكنت حتى عام 2005م ّ
مقهى قريب من بيتي ،أتخيرّ ركنا ،صار يعرف
بي؛ ألقرأ وأكتب من السابعة إىل ما بعد منتصف النهار .أمّ ا يف السنوات األخرية ،فقد غيرّ ت ما
رسم ألبي العالء المعري
الشعرية ال تنفصل عن تجربة إن التجربة ّ ّ شعرا ،إ ّنما هو تحويل نعده الحياة ،وما ً ّ لغوي إلى شكل من أشكال شكل ّ الحياة ،وتحويل شكل من أشكال الحياة إلى شكل لغوي
بي ،وبدأت أستخدم الكمبيوتر أكرث فأكرث؛
وقد أنجزت محاولة روائيّة فايسبوكيّة «عشيقة آدم» فازت ّ أتوقعها «الكومار الذهبي» وهي أشهر جائزة بجائزة لم أكن
ُتمنح للرواية يف تونس .وأظنّ أنّ مؤسّ س موقع التواصل َ خلق عاملًا جديدً ا االجتماعي «فيسبوك» مارك زوكربريغ،
وواقعي. حقيقي افرتايض لك ّنه لتبادل املعلومات .هو عالم ّ ّ ّ ولقد غيرّ حياتنا ّ كلها ،فنحن كائنات فايسبوكيّة ...اإلنرتنت... واليوتيوب والهاتف الجوّال ...ويف سياق كهذا يمكن أن
اآلن ،وأنا أحدهم فقد نشرت ثالث محاوالت روائيّة ،وشرعت
ىّ نتقص خصائص الكتابة األدبيّة املتنوّعة. ّ وال ّنصّ ،إنما يُنظر فيه من جهة بنائه أو تركيبه اللغويّ ،
وشوارد ،قد ال ي ّتسع لها الشعر .ومن ثمّ ة يلجأ بعضنا إىل
نأخذ به ونأنس إليه يف أيّة قراءة؛ الحتفائه بمظاهر القول أو «ال ّت ّ ّ النص العربي لفظ» من جهة ،وألنه يتيح لنا أن نباشر
يف الرابعة؛ تحمل الشعر يف مطاويها .وال أقصد لغة الشعر، ّإنما ما يفيض عن الشعر .وهناك موضوعات وتفاصيل ّ القصة. الرواية أو
الواقع أي ما هو خارج الكتابة؛ «بنية جوفاء» .أمّ ا وأنا أكتب هذا النص الشعري أو الروايئ ،فيتهيّأ يل أنيّ شخص
آخر مختلف .كيف نحدّ العالقات ونرسم الحدود بني
«الداخل» يف العالم مكتوبًا و«الخارج»؟ ّ املتكلم يف نظام النص ،سواء أدرناه وحضور ضمري بصيغة «أنا» أو عىل مقتىض أسلوب «االلتفات» يمكن أن ّ يدل
29
ومن جهة شروط إنتاجه أو صناعته .وهذا مفهوم يُفرتض أن
الحديث شع ًرا كان أو رواية؛ من حيث هو خطاب «قلق»
يف ذاته ويف مراتب تقبّله ،من جهة أخرى .وما نقوله وصف محايد وليس حكم قيمة .فاآلداب العربيّة الحديثة ،لم تستق ّر بعد ،وال تزال «ثقافتنا» ثقافة مرتبكة؛ بل هي تكاد تكون «سايكس بيكو اآلداب العربيّة» منذ أن نشأ هذا «األدب العربي الحديث» يف مركزيه األوّلني :بالد الشام ومصر .وهي
تثري من األسئلة ،أكرث ممّ ا تجرتح من األجوبة.
ملف العدد
أسئلة القصيدة المغربية رشيد يحياوي ناقد مغربي
ال ينفصل راهن الشعر عن راهن الكتابة في المغرب كما في أقطار عربية أخرى .فلم يعد
30
األنواعي ومجاالت الشعر معزوال عن أسئلة الكتابة من حيث جدواها وانفتاحها عبر ّ تداولها .وهنا تطرح أسئلة كثيرة حول هجرة الشعر نحو القصة والرواية ،وانفتاح القصيدة على ممكنات تعبيرية ذات هيمنة أقوى في األنواع النثرية كالسرد ،أو آتية من فنون
بصرية كالتشكيل والبناء المشهدي للكتابة السينمائية ،مما أصبح الفتا في قصيدة الراهن
الشعري بالمغرب.
وإذا كانت الكتابة تنبني عىل مبدأ تراكم التجارب ،فإننا نالحظ
يتحاور فيها الهايكو باألقصوصة القصرية ج ًّدا بالشذرات السريية
فراهن الشعر املغربي بشكل عام ،أشبه بمصب ألنهار منحدرة
كالعامية واألمازيغية والحسانية لهجة أهل الصحراء. ً تعايشا لتجارب الشعر يف حد هذا التعايش الشعري ليس
ذات األمر يف التجارب الشعرية املغربية ،فهي تتجاوب وتتصادى. من عقود خلت .إنه راهن بفعل شعراء من عقدي الستينيات والسبعينيات ومما أعقبهما من عقود .هؤالء الشعراء تأسس
فعلهم اللغوي الجمايل عىل وعي براهنية القول الشعري يف عقود
مؤزمة للفعل الكتابي بسبب تحوالت القيم الثقافية والنظم الفكرية واملستجدات الحضارية وشيوع وسائط جديدة للتواصل تميل
لالستهالك اللحظي السريع.
تعايش الحساسيات الشعرية
الفايسبوكية ،وكل ذلك إىل جانب تعبريات شعرية بلغات محلية
ذاته ،بل إنه تعايش يف ذات الوقت ألجيال شعرية واصل بعض
شعرائها مسارهم واستطاعوا «التأقلم» مع أسئلة القصيدة املغربية يف راهنها املمتد من زمن التأسيس الستيني إىل األلفية الجديدة ،بل كانوا فاعلني يف ذلك.
وتلك األسئلة ال يمكن أن ننسبها لجيل دون آخر ،بقدر ما
ننسبها لوعي اللحظة التاريخية بانكتابها شعريًّا .وكل الشعراء
الذين كان لهم مثل هذا الوعي ،أسهموا يف تلك األسئلة ويف تمثلها
وما يميز التجربة الشعرية املغربية يف راهنها هو انفتاحها عىل
شعريًّا بصياغتها ضمن رؤى جمالية قائمة عىل التعدد ال عىل
لكل الحساسيات الشعرية بالتعايش؛ من القصيدة العمودية إىل قصيدة النرث وصولاً إىل صيغ شعرية عصية عىل التصنيف
ومع أن الجوائز األدبية ال تمثل معيارًا حاسمًا يف الحكم
مختلف التجارب الشعرية التي قد تصل حد التباين؛ إذ تسمح
العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
التوحد ،وعىل االختالف ال عىل التماثل.
عىل ظاهرة من الظواهر ،لكن يمكن االستئناس بها الستكشاف
ميول الذائقة القرائية الشعرية يف بعض اللحظات .ومن باب ذلك أن جوائز املغرب الكربى يف الشعر التي تمنح من طرف لجان
متخصصة ،قد حازها يف السنة الجارية الشاعر عبدالكريم الطبال وهو شاعر من جيل التأسيس الستيني ،فيما كان قد فاز بها يف سنوات سابقة شعراء لقصيدة النرث.
ضمن هذا األفق ،ال يكاد يكون بني الشعراء املغاربة اختالف
حول الحضور الفاعل لشعراء من الستينيات يف راهن الشعر املغربي ،مثل محمد السرغيني وعبدالكريم الطبال ،وال حول شعراء
من السبعينيات كان لهم بدورهم أثر يف مسار القصيدة املغربية يف راهنها مثل محمد بنطلحة ورشيد املومني .ومن الجيل أن عددًا كبريًا من شعراء العقدين الستيني والسبعيني افتقدتهم القصيدة املغربية بسبب رحيلهم إىل دار البقاء ،أو بسبب انقطاعهم ،أو
لكونهم عجزوا عن تجاوز تجاربهم القديمة.
ويعد عقد الثمانينيات عق ًدا مفصليًّا يف مسار الشعرية املغربية
عبدالكريم الطبال
التزامه بذاته وفردانيته؟ وسار الشعراء منذ ذلك العقد يف طريق
حساسيات جديدة رأوا أنها تقتيض لغة شعرية جديدة ليست
الراهنة .ففيه ُعرض كثري من املفاهيم للمراجعة بطرائق أكرث وضوحً ا وح ّدة .فلم ُتراجع املفاهيم الفنية واألدبية فحسب ،بل روجع ً أيضا
أن تكون بدورها موضو ًعا للشعر يشتغل عليه .ولم تعد القضايا
وأىت ذلك يف سياق كوين راجت فيه أفكار مرتبطة بالعوملة وسقوط
شعريًّا ،وبما تراه عيناه عن قرب ،وأن األشياء الصغرى التي طاملا
ما كان ثاب ًتا ومسلمًا به يف الفكر السيايس واالقتصادي واالجتماعي،
املعسكر الشرقي ،بحيث وجد األفراد أنفسهم أمام اختبار صعب ألفكارهم الشمولية.
هوية عىل املحك أصبحت هوية الشعر عىل املحك ،ومن بني ما كان داخلاً يف هويته السبعينية مثلاً ،مبدأ االلتزام .والسؤال الذي طرح هو
بماذا يلتزم الشاعر؟ وهل من الضروري أن يكون ملتزما؟ وماذا عن
ما يميز التجربة الشعرية المغربية في راهنها هو انفتاحها على مختلف التجارب الشعرية التي قد تصل حد التباين؛ إذ تسمح لكل الحساسيات الشعرية بالتعايش ،من القصيدة العمودية إلى قصيدة النثر وصوال إلى صيغ شعرية عصية على التصنيف يتحاور فيها الهايكو باألقصوصة القصيرة ج ًّدا بالشذرات السيرية الفايسبوكية ،وكل ذلك إلى جانب تعبيرات شعرية بلغات محلية كالعامية واألمازيغية والحسانية
أحادية الوظيفة ،وأن لغة الشعر وإن انفتحت وظيفيًّا فإنها تحتاج
الكربى تستأثر بمخيال الشاعر ،فقد وجد أنه يحس بذاته وبجسده جرى تهميشها ال تخلو من قيم دالة.
أدرك الشاعر أنه مجرد فرد ضمن منظومة كبرية من
الفاعلني ،وأن له ضمن ذلك دورًا محدودًا إذا قيس بالفاعلية
31
املباشرة يف املجتمع ،وأن تعلقه باألحالم الكربى لن يصيبه سوى
باملزيد من الخيبات .إنه ذات ضمن ذوات كثرية تصطدم أحالمها مع
إمكانياتها ،وتتكسر طموحاتها عىل صخرة واقع مادي نابذ وظالم. فلم يعد أمام الشاعر من حل ملجابهة ذلك الواقع سوى بتحرير طاقاته الداخلية وإنطاق املسكوت عنه يف اللغة.
وكل ما نقرؤه يف قصائد الشعر املغربي الراهن ،إنما يعرب عن
انكسارات الذوات وخيبات أحالمها ورصد لعزلتها ،كما يعرب عن تربمها مما يحيط بها ،وعن تغييبها مقابل بروز سطوة األماكن.
وقد تعرب القصائد يف إطار ذلك عن هشاشة الكائنات والذوات داخل الفراغ الذي يحس به الكائن الشعري حوله أو داخله .هذه الخطوط
وغريها تفصح عن انتباه الشعراء للصور التي توجد بها ذواتهم يف العالم يف ظل املتغريات التي طرأت عىل القيم املادية والقيم الرمزية يف املجتمع املغربي.
وهذا ما يفسر دعوات التجديد والتجريب املتواصلة يف القصيدة
املغربية التي تكاد تنفرد عن راهن الشعر مغاربيًّا بهيمنة قصيدة النرث
عىل تجارب الشعراء يف املغرب ،دون إلغاء لقصيدة التفعيلة بعد
تطويعها وتحريرها من لغة الشعر الحر التأسييس .فالفارق ليس هو الحد الوزين إنما بناء القصيدة يف مخيالها وبالغتها وعالقاتها
اللغوية الداخلية إضافة إىل الصورة التي تخلقها عن العالم ،صغريًا
كان أم كبريًا.
ملف العدد
اكتواء يدي بشعلة قصيدة النثر
فوزية أبو خالد شاعرة وكاتبة سعودية
32
سؤال الشعر وأحواله ،يستحق التأمل وإعادة التفكير في منتج اإلبداع الشعري على مر العصور، وفي مختلف البيئات االجتماعية والسياسية والعمرانية ،بما فيها اللحظة التاريخية الراهنة المدججة ً بالتراجع السياسي والفكري في عموم الوطن العربي .فبقدر ما ّ مطلقا من ثوابت يعد الشعر ثاب ًتا الحياة اإلنسانية ومن عمران الضمير البشري ،بقدر ما تكون أشكاله ومضامينه في حال دائمة من التحوالت المستمرة التي ما إن ترسي على حال يثري وجدان البشر إال وتتحول بالتماس مع مشاعر الناس وتفاعالتها المتقلبة إلى حال جديدة .فعلى سبيل المثال في الحال العربية التي جعلت من الشعر ديوان العرب ،ظل الشعر في تقدمه على الحقب المتعاقبة من التاريخ االجتماعي والسياسي العربي قادرًا على إعطاء صورة متموجة عن أحوال مختلف المراحل التاريخية. فكما كانت املعلقات رم ًزا لعزة العرب السياسية يف تعالقها
إىل قصيدة النرث املتحررة من كل قوالب موسيقا الشعر املتعارف
والضراوة الصحراوية ،فقد كان الشعر يف كل عصور االنكسار
املضمون .وباملجاوزة بينهما أي (بني التمردين) يف قصيدة الومضة
مع املقدس الديني ،ومع الجاه التجاري ،ومع العنفوان البدوي
إكسريًا لالستنهاض .وكان هذا ال يجري عرب القوالب الشعرية
ومحتوياتها السابقة ،بل عرب تجاوزها عروضيًّا ومعنى .حدث هذا
يف مراحل مفصلية عدة من تاريخ الحضارة العربية اإلسالمية إبان
دول الخالفة األموية والعباسية وعىل إثرهما وسواهما من دول الخالفة ببالد الشام والعراق ومصر واألندلس وإسطنبول.
وقد اجرتح الشعر العربي من منتصف القرن العشرين إىل
مطلع القرن الحادي والعشرين واحدة من أهم التحوالت املفصلية يف بنية القصيدة العربية شكلاً ً ومضمونا ،بالخروج عن املستتب
عليها قبلها يف الشكل ،وباالنحياز إىل شاعرية اليومي والعادي يف
الشعرية إن صح التعبري.
قصيدة النرث ال تعرف شيمة الوفاء
أما ما ينقض السؤال ويتماس معه يف الوقت نفسه بما يشبه
تالقي األضداد ،فهو أن هذا النوع من الشعر أي شعر قصيدة النرث هو نوع شعري ،رغم منجزه اإلبداعي الشاهق لعدد من األصوات
املعتقة والشابة يف الوطن العربي ،ال يزال ً نوعا عصيًّا عىل أن
يصل مرحلة نستطيع أن نقول معها إنه بلغ مرحلة االستقرار كما
العرويض الفراهيدي والغريض أو الغايئ من الرثاء إىل الغزل وما
يطرح السؤال .ويرجع ذلك يف رأيي إىل أن قصيدة النرث هي نوع
اليوم فقد بلغ الشعر العربي ذروة ذلك التمرد باالنفالت من الوزن
لحفر واستكشاف منابع ومصاب جديدة لشكل ومضمون القصيدة
بينهما من مديح وهجاء .أما من الربع األخري للقرن الفارط إىل
العمودي والتفعييل معً ا عىل مستوى الشكل ،واالنسالخ عن
املضامني الشمولية للشعر العربي عىل مستوى املحتوى ،بالتحول العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
من الشعر التجريبي بطبيعته بحيث ال يكف عن البحث وال يتعب
وللدهشة الشعرية .ولهذه الطبيعة املخالفة التي بقدر ما تنعم فيها قصيدة النرث برعب القلق ونشوة االنقضاض التجريبي عىل نفسها
بقدر ما تعيش لذة وعذابات ذنب عدم التزامها بشيمة الوفاء ملا
املوات أن الحس النقدي هو شرط الزب من شروط الحرية واإلبداع
هذا النوع من الشعر مرحلة االستقرار .ومن اكتواء يدي اليومي
للمسألة أوجه أخرى قد ال تكون بالضرورة تعبريًا عن نوع من
سبقها من منجز شعري لها ولسواها ،يصعب الحديث عن بلوغ بشعلة الشعر لقصيدة النرث أزعم أنها قصيدة ال تستطيع أن تعيش
خارج ماء اسمه التجريب ،موجة تمحو موجة وتؤلف بحورًا من األمواج املتجددة.
واملقاومة .فأي أزمة حقيقية يكشفها هذا العزوف النقدي وإن كان حال استسالم عام .ومن ذلك أن النقد األدبي عندنا ارتبط باإلطار
األكاديمي بما يف ذلك اإلطار من تضييق عىل الحريات.
كما أن النحسار املطالت الورقية حيث لعبة املالحق األدبية،
وهذا ما يجعل ،يف رأيي الشخيص عىل األقل ،قصيدة النرث نبعً ا
وبخاصة يف التجربة السعودية ،دورًا يف التواصل بني ثاليث األديب
تتورع عن منازلة الظالم املطبق الذي يكاد يخيم عىل املنطقة العربية
الجدل النقدي الفوار الذي شهدته الساحة املحلية يف مراحل ً وأيضا قد يكون لجدة األوعية اإللكرتونية واتساع تاريخية سابقة.
من ينابيع الضوء التي عىل تضوعها الشفيف وسهولة انكسارها ال
تقديسا للقصيدة من عوادم السياسة عن بكرة أبيها .هذا ليس ً
وعدمية الحروب ،لكنها شعلة الشعر التي ليس لنا أن نكف عن سرقتها ،وليس لألكف أن تكف عن تخاطف قبسها ،ليس لرتميم
الخراب لكن للخروج عليه ،بما فيه الخروج عىل غربة الشعر اليوم، وعىل ذلك النوع من الشعر الرديء الذي هو وجه آخر للخراب الذي
ال يمكن مقاومته إال بإبداع شعري جديد .ال أظن أن الشعر اليوم،
مع هذه الثورة العارمة يف أوعية الثقافة ،وأدوات اإلنتاج مقابل هذا التداعي السيايس عربيًّا ودوليًّا ،إال تح ٍّد لخلق حال جديدة من
التحوالت الشعرية التي لم تعهدها الحواس من قبل. موت الحس النقدي
ال أحفل كثريًا بموضوع الجوائز يف الشعر وال قليلاً ،ال
والناقد والقراء قد يكون من أسباب فراغ هذه األوعية من ذلك
نطاقاتها دور يف تشتت املنافذ النقدية وخلق حال من االرتباك لدى أجسادنا ولدى العقل النقدي املعتاد الذي لم يجرب هذه السقوف
العالية من حرية النقد من قبل .ولهذا فما زلت أعتقد ،كما سبق
وكتبت يف مواقع أخرى ،أن تحدينا اليوم أن املدى املفتوح أمامنا أوسع من مدّات األجنحة يف دربتها وخرباتها السابقة ،وعلينا عمل شاق وطويل الكتساب خربات ودربة الحرية التي تتيحها ثورة الفضاء واالتصاالت .فمن املخجل أن نبقى يف مدى ال حدود له
بتلك األيدي القصرية واألجنحة القليلة نفسها .ولربما كما أن كرثة الطريان تقوي األجنحة ،فاتساع فضاء التعبري يعلمنا الحرية.
33
بمعناها العيني ،وال الرمزي؛ لذلك ال أستطيع اإلجابة عن
السؤال عن أثر غياب الجوائز .أما عزوف النقد عن تناول اإلصدارات الشعرية الجديدة ،فهذا ًّ حقا
سؤال مقلق ،لكن ليس شعريًّا بقدر ما هو مقلق يف تعبريه عن تماوت أو موت الحس
النقدي .والخطري يف مثل هذا
ملف العدد
العماني الشعر ُ المعاصر سماء عيسى شاعر عماني
كان على الشاعر ُ العماني المعاصر أولاً أنْ يلتفت إلى موروثه الشعري الخصب، ً ً مودعا أرض عميقا في التاريخ ،منذ أنْ كتب مالك بن فهم األزدي مراثيه األولى، الضارب
السراة إلى ُعمان ،والثانية راثيًا نفسه بعد أنْ اخترق سهم سليمة أحب أبنائه إليه قائلاً :
34
جزاه الله من ولد جزاءً
سليمة إنه سامً ا جزاني
أعـلمه الرماية كل يوم
فلما اشتد ساعده رماني
أال شلت يمينك حين ترمي
وطارت منك حاملة البنان
فأهوى سهمه كالبرق حتى
أصاب به الفؤاد وما عداني
كان عليه االلتفات إىل التجربة الروحية التي حظيت بمعظم
ً محافظا عىل خصوصيات ومالمح التجربة الدينية، الشعر هنا
للذاكرة الدينية ،ومن كتب الشعر العُ ماين معظمهم من الفقهاء
التي أضحت مؤسسة ثقافية اجتماعية سياسية يف آن واحد،
املوروث الشعري العُ ماين؛ فالشعر يف ُعمان أساسً ا ابن روحي ورجال الدين ،الذين تشربوا بالغة اللغة العربية منذ نعومة أظفارهم؛ لذلك حظيت ثيمات الزهد والسلوك والندم واملدائح
والتي انبثقت نتاجً ا ملؤسسة الفلج االقتصادية ،املؤسسة الدينية
هيمنت هذه املؤسسة عىل املخيال اإلبداعي ،تقل لدى املجتمعني
البحري والصحراوي ،إىل درجة خلق أساطري عن خلق العالم
النبوية والحب اإللهي ،بمعظم نتاجهم اإلبداعي؛ بل ذهب الفقهاء ً أيضا إىل صوغ دروسهم يف الفقه نظمً ا ،أخذ من الشعر
لدى البطاحرة ،وهي قبيلة بحرية تعيش يف جنوب ُعمان« :هنا يف
الشعر العربي الجمال الذي أسبغه عىل تدفق معانيه وسالستها.
رجل وامرأة ،واتفقا فيما بعد بينهما عىل الزواج ،لم يكن بينهما
قوانني تدفقه املعروفة يف العروض والقافية ،بل أخذ من بالغة الشاعر هنا ابن لخصوبة التنوع الجغرايف الذي وهبه الله
لعمان ،هذا التنوع الذي تشكلت عليه خصوصيات ثقافة تختلف يف عطائها عن املجاورة األخرى ،وإن كانت تقف عىل أرض روحية
واحدة .أعطت تجربة تأسيس املجتمع الزراعي العماين أساطريها
الخاصة املعتمدة عىل تأسيس مؤسسة اقتصادية عرفت بمؤسسة الفلج التي هي شكل من أشكال االقتصاد اآلسيوي املختلف يف
تطوره وتكوينه عن أشكال التطور االقتصادي األوروبي .لذلك جاء العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
مختلفة كليًّا عما هو يف القرآن الكريم ،كما هو يف هذه األسطورة
البداية لم يخلق البطاحريون ،ولم يوجد أحد منهم ،جرى خلق ملبس ،اللهم سوى شعر البحر الذي ينجرف إىل الشاطئ ،ثم َّ لفاه حولهما ،ولم يكن لديهما ما يأكالنه سوى املحار ،ثم تناسل
البطاحريون وتكاثروا وزاد عددهم ،ولم يكن هناك غريهم يف
البالد ،لقد وجدوا يف الصحراء ويف الرباري وعىل طول الساحل.. ولم يكن غريهم منْ يعيش معهم ..لم يكن هناك سواهم». الشاعر العُ ماين املعاصر ابنٌ لرتاثه الوطنيَّ ، ظل وال يزال وثيق
الصلة بالحركات الوطنية التي عصفت وال تزال برتابه ،يصل به
ً ً ناطقا باسمها ،كما هو يف حال صوتا سياسيًّا ذلك إىل أن يكون عدد من كبار شعرائنا ،مثل الشيخ سعيد بن خلفان الخلييل،
الذي ال تكتمل دراسة ثورة اإلمام عزان بن قيس البوسعيدي إال بدراسة شعره ،والشاعر سالم بن ناصر ابن عديم الرواحي ،الذي
كان الصوت الشعري األكرب لثورة اإلمام سالم بن راشد الخرويص. كذلك الحال مع من جاء بعدهم ،منذ خمسينيات القرن
املايض؛ إذ حفلت التجربة الشعرية العمانية بأصوات شعرية متعددة ،عملت عىل تجديد الشعر العماين؛ إذ تخلصت املفردة
من ثقلها الكالسييك البالغي كما هو لدى عبدالله الطايئ ،وذهب الشاعر الكبري عبدالله الخلييل إىل كتابة املسرح الشعري ،وقدم سليمان بن سعيد الكندي أول محاولة الستخدام بحور شعرية
مختلفة يف القصيدة الواحدة ،وحفلت موضوعات شعرهم -وألول مرة -بالتفاعل مع ثورات التحرر العربي يف الجزائر ومصر
وفلسطني...
العطاء التاريخي لألسالف
الجديدة يف توجهاتهم املختلفة ،نحو البحث عن سر الخلق
والكون ومجراته املختلفة.
املنفى الداخيل للشاعر
روح االغرتاب هذه تطال الواقع االجتماعي والسيايس ً أيضا،
فشعراء التجربة الجديدة كثريًا ما يلجؤون إىل طفولتهم ،وإىل ذكريات قراهم البعيدة الريفية الهادئة ،قبل أن تصل إليها
جرارات األسمنت ،وتحول عالقتها االجتماعية الربيئة إىل عالقات
تعتمد عىل املصالح الشخصية املتبادلة ،وينتشر بها الوالء املزيف للسلطات االجتماعية والدينية والسياسية املختلفة.
خلقت هذه التحوالت االجتماعية ظاهرة يمكن تسميتها
باملنفى الداخيل للشاعر ،الذي وجد نفسه منفيًّا يف وطنه .إال
أنَّ ذلك لم يحل دون التزام عدد منهم بروح النضال السيايس،
ونظري مواقفهم السياسية دخل عدد منهم السجون مثل الشاعر محمود حمد ،واحتجز عدد آخر يف أروقة أجهزة األمن مددًا مختلفة ،مثل الشعراء :صالح العامري ،وعبدالله حبيب،
ً انطالقا من منجزها التاريخي، نقرأ التجربة الشعرية الراهنة،
وإبراهيم سعيد ،وناصر البدري ،وخميس قلم ،وحمد الخرويص
الحداثة الشعرية العربية يف عقودها األخرية ،إال أنه من جهة
احتفاء الشاعر العُ ماين بالحياة ذهب به إىل االحتفاء بما
قراءة نقدية جادة له ،عليها االلتفات إىل املنجز التاريخي حتى
تفصيالتها الدقيقة ،ساردًا ذكرياته معها يف ألفة ،ندر التطرق
والصوت الشعري العماين الراهن ،وإن كان أكرث اقرتابًا من منجز
موضوعات شعره ،يتميز بتدفق عطاء أسالفه التاريخي ،وأي يتبني لها خصوصية وخصوبة الصوت الرثايئ والصويف ،واتساع
مساحة ثيمات املوت والرحيل والفراق والهجر يف تجارب شعرائها. تتسع أرضية الشعر لتشمل تجارب شعرية شابة ،تكتب
بأشكال شعرية مختلفة :الشعر العمودي ،وشعر التفعيلة،
وقصيدة النرث .هذا التنوع شكل مصدر خصوبة ،تعدد األشكال الشعرية يضفي عىل التجربة ثراءً ،تسبب يف تعايشها وعدم
إلغاء بعضها اآلخر؛ بل تحول بعضها من شكل آلخر ،وبخاصة يف توجه عدد من شعراء التفعيلة إىل قصيدة النرث ،التي تشهد
اليومَ انتشارًا واسعً ا استقطب معظم املواهب الشعرية الجديدة...
رحمه الله.
هو محيط حوله ،والنظر إىل األشياء بحميمية بالغة ،ذاهبًا إىل
35
إليها من قبل ،كالحجارة واألشجار واألفالج واألطالل ،وكل ما
ترسب يف ذاكرة الشاعر منذ طفولته ،معتمدًا يف ذلك عىل القبض عىل املحسوس وتجريده ،وصولاً به إىل عالم خفي غري مريئ هو
عالم الشعر ،الذي يدرك الشعراء العمانيون صعوبة الوصول
إليه ،مع صعوبة التخيل عن محاولة بلوغ ذراه البعيدة .لذلك فإن الشعر ألبناء التجربة الشعرية الجديدة يف عمان ،طريق
نضال صعب وشاق ،واإلنجاز يكمن يف عدم التخيل عن مواصلة محبته وعشق كتابته.
أدى تحرر شعراء األجيال الجديدة ،واكتسابهم ثقافات
فكرية وسياسية متنوعة إىل انطالق الكتابة لديهم بوعي مختلف
عن أسالفهم؛ إذ نقرأ لديهم روح الضياع والتمرد والتمزق ً متواصلة حول معنى الوجود الوجودي ،وتطرح تجاربهم أسئلة ومصري اإلنسان به ،حس االغرتاب هذا وإن كان متجذرًا فيما ً سقفا مىض ،إال أنه كان يجدُ مالذه يف الشعور الديني الذي وضع
ملعاناة االغرتاب وأسئلة الوجود الكربى لدى الشعراء العمانيني فيما مىض ،تجد اآلن انطالقتها الكربى لدى شعراء التجربة
ملف العدد
الشعر السوري بين داخل وخارج: قصيدة واحدة مكتوبة بقلم الحرب سامر إسماعيل دمشق
بتداعيات كثيرة على مستوى الكتابة الجديدة في سوريا ،فمن ال تزال الحرب ُتنبئ ٍ
«هجمة الستينيات» التسمية التي أطلقها الشاعر شوقي بغدادي على جيله في تصديره ألنطولوجيا الشعر السوري المعاصر ،مرورًا بـ«منعطف السبعينيات» أكثر المراحل تمر ًدا
36
على القوالب الشعرية الجاهزة كما أطلق عليها الشاعر منذر مصري ،الذي أصدر في الحرب كتابه الالفت «لمن العالم» (دار نينوى2016 -م) ،وصولاً إلى شعراء الحرب في عامها السادس ،واالنقسام الذي أصاب النخب األدبية بين داخل وخارج ،نلحظ ثيمات جديدة
لنصوص مفخخة حملت لعنة االقتتال الدائر ،مثلما حملت وزر أحالمها المنكوبة.
العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
فالشعر السوري املعاصر وجد انحسارًا يف السنوات
األخرية ،يف رأي الناقد جمال شحيّد الذي يقول :إن «الرواية أخذت حي ًزا كبريًا ومهمًّ ا يف الثقافة العربية؛ إذ إن االنحسار
الذي تم للشعر عوضت عنه الرواية ولو كان جزئيًّا؛ لكن موت
الشعر يف بعض البلدان األوربية واملجتمع االستهاليك ال يعني موته يف بلداننا ،فالشعر يف سوريا ما زال إىل حد ما بخري رغم النكسة التي حصلت لهذا الفن األدبي العظيم ،علمً ا بأن
شعوب العالم الثالث بشكل عام تهتم بالشعر ،فكل شاب يف مرحلة حياته وبخاصة مرحلة املراهقة يكتب شع ًرا كون
القصيدة يف النهاية هي تعبري عن الحياة واإلنسان ،وبحاجة
ألن يعبرّ عن مشاعره وأحاسيسه فيبدأ بالشعر ويرتكه عندما
ينضج إذا أراد» .ويضيف الناقد شحيّد أنه شخصيًّا بات متأكدً ا من أن الحرب التي تمر بها سوريا أنتجت شع ًرا جميلاً ، ً نشيطا يف األزمات». «فالشعر يصبح
لم ينج الشعر السوري بطبيعة الحال مما ألمّ بالوطن
برمته من كوارث .وكما انقسم الوطن إىل شظايا انقسم الشعر
وشعراؤه إىل شظايا ،يقول الشاعر تمام تالوي املقيم حاليًّا يف السعودية ويضيف« :ثمة شعراء وقفوا إىل جانب النظام، وآخرون وقفوا إىل جانب الحراك ،وآخرون اختاروا الحياد،
وثمة من آثر الصمت .وتبعً ا لهذه املواقف جاءت أشعارهم ،عىل أن هنالك من صمت عن قول الشعر ليس ألنه ال موقف له مما يحدث ،وإنما ألن الكارثة ألجمت لسانه .وال مالم عليه ،فمن يستطيع النطق أمام كارثة كهذه ،سوى أشخاص لديهم قدرات
استثنائية عىل الكالم ،فكلما اتسعت الكارثة ضاقت العبارة».
تمام تالوي :الشعر السوري حال ًّيا يشبه مصاير بعض الشعراء ،فهو إما مهجر أو هارب شاعر مقتول أو أسير أو ٌ ّ
جمال شحيد :الحرب التي تمر بها شعرا جميال ،فالشعر سوريا أنتجت ً نشيطا في األزمات يصبح ً إننا نحتاج زم ًنا حتى نستوعب هول الصدمة ،نحتاج زم ًنا
حتى نستطيع أن ننظر بعني شاعرية إىل هذا الخراب العميم وهذا املوت املجاين وهذا التشرد املليوين عرب الحدود والبحار-
يستطرد الشاعر تالوي الحائز عىل جائزة الشعراء الشباب يف دمشق عاصمة للثقافة العربية 2008م« :عىل املستوى الشخيص ً والحقا كان موقفي واضحً ا منذ البداية مع التغيري السلمي
37
ضد السالح وضد األسلمة؛ ألنني أعتقد أن املوقف األخالقي والثقايف والوطني يجب أال يكون منحا ًزا إال ملا يخدم مصلحة الوطن والتغيري نحو األفضل بالوسائل الوطنية والسلمية التي ُ فكتبت قصائد عدة ال تؤدي إىل مزيد من القتل والخراب،
تتناول يف األساس البعد اإلنساين ملا آلت إليه حال اإلنسان ُ كتبت عن املوت وعن الهدم وعن السوري منذ آذار 2011م ،كما التشرد وعن الشرخ اإلنساين الذي جاء نتيجة للشرخ عىل
املستوى الوطني».
ملف العدد
ثمة شعراء كرث تهجّ روا يف املنايف ،وكانوا يف معظمهم
مؤيدين للحراك ،وكتبوا له وغنوا لشهدائه .ومنهم من التحق
بالعمل اإلعالمي أو امليداين ،وهم شعراء مبدعون ومعروفون
عىل نطاق واسع ،بينما ظل معظم الشعراء املحايدين أو
جسمك املؤيدين داخل سوريا -يضيف صاحب ديوان «تفسري ِ يف املعاجم» :ثمة شعراء استشهدوا بالقصف كالشاعر محمد وليد املصري ،أو استشهدوا بسكني داعش كالشاعر بشري
العاين ،وشعراء آخرون اعتقلوا كالشاعر وائل سعد الدين الذي أفرج عنه النظام مؤخ ًرا ،وثمة شعراء تهجّ روا من بيوتهم ومدنهم أو هربوا ،وهؤالء أسماؤهم ال حصر لها .الشعر السوري يف رأيي الشخيص حاليًّا يشبه مصاير هؤالء الشعراء،
فهو إما شاع ٌر مقتول أو أسري أو مهجّ ر أو هارب».
أمام انعطافة كبرية عىل صعيد النص الشعري ،سوف تتبلور ً الحقا لكن متى؟ ال أحد يعرف بالضبط! هذا األمر تؤكده كثري
من النصوص املكتوبة من أجيال شعرية مختلفة ،فاملسألة ال
ِّ الشعر يقود املرحلة
تتعلق بالشعراء الشباب كما يتخيل البعض .هذه االنعطافة
الشاعر زيد قطريب الذي أدار وأشرف يف سنوات الحرب
ال يُقصد بها حضور ألفاظ الحرب وأسماء السالح ومفردات
أنطولوجيا بعنوان «شعراء تحت القصف» باللغتني العربية
طبيعي ،وال يمكن أن يعد انعطافة أو تجديدً ا .إنما هناك
عىل ملتقى «ثالثاء شعر» يف العاصمة السورية منتجً ا عنها واألملانية له رأي أقل تشاؤمً ا يف هذا السياق؛ إذ يقول« :نحن
38
زياد قطريب
االنفجارات وأصوات الرصاص؛ ألن حضور هذا املعجم أمر انعطافة كبرية عىل صعيد املعنى والشكل يف آن واحد،
شوقي بغدادي: شعراء يتشابهون كأنهم يحبون امرأة واحدة الشاعر شوقي بغدادي له رأي مختلف يف شعراء اليوم؛ إذ يقول« :الشاعر الحقيقي هو الذي يموت إن لم يكتب، ِّ فالشعر نابع أولاً وآخرًا من املعاناة الشخصية للكاتب ،وهذا ما ال أراه عمومً ا عند شعراء اليوم الذين يتشابهون يف كتاباتهم
وكأنهم يحبون امرأة واحدة أو كأنهم يكتبون من دون أن يعيشوا ويعايشوا ما يؤلفونه من قصائد».
الشعر العربي قديمً ا كان له مكان الصدارة لكنه اليوم لألسف يجلس يف الصفوف الخلفية من املشهد الثقايف السوري يضيف بغدادي -فكون الشعر نابعً ا من إصغاء الشاعر لصوته الداخيل هذا ال يعني أنتخلص قصيدة اليوم إىل نوع من الهوامات ،بل يجب تكوين املناخ النفيس والعاطفي عىل أساس الصدق يف القول الشعري ،ال من باب التزيني واالحتفاء باألفكار الكبرية؛ بل بالتعويل عىل أهمية الشكل الفني وضرورته يف إبداع النص الشعري املتوازن واملؤسس إلشراقات جديدة يف القصيدة العربية املعاصرة» .الشعر ً إذا
ً واعظا أو هو لغة الروح ال لغة العقل ،فليس مطلوبًا من الشاعر أن يكون ً صادقا وجري ًئا يف طرح الشكل الفني داعيًا أو خطابيًّا ،بل املطلوب منه أن يكون
وترسيخه يف نصوصه ،وهذا ال يعني كما يرى بغدادي أن «الشعر الحر هو الصيغة َ أيقونة ِّ الشعر العربي، الوحيدة للتعبري؛ إنما هناك الشعر العمودي الذي يعد لكن من يستطيع الكتابة اليوم كبدويّ الجبل أو سليمان العيىس ،فهؤالء قالئل ًّ جدا ،وال يتقنون التعبري بأدوات قصيدة العمود التي لم تندثر لكن شعراءها يعدون عىل أصابع اليد الواحدة».
العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
فهذه الحرب كانت مناسبة الستيقاظ كل األسئلة الفكرية
ابن حذام وبالتمعّ ن أكرث ،يكتشف كيف تشتغل اآللة الثقافية
استيقاظ أسئلة الشكل املتعلقة بأسلوب الكتابة الشعرية،
سوق العرض لالستهالك التطهريي وفق رؤية أرسطو»!؟
والفلسفية املؤجلة منذ أمد بعيد ،وهو ما أدى عمليًّا إىل
ولنقل :إن هناك عالقة جدلية بني الطرفني؛ بحيث ال خالف
عىل أسبقية املضمون عىل الشكل أو بالعكس ،فكل واحد منهما يتسبب يف إيقاظ اآلخر .قريبًا ،ستودّع كثري من الكتابات
السياسية يف تعويم األسماء وتوجيه الخطاب الشعري نحو ليس ما سبق هو التقليل من املنجز الشعري السوري يف
ً دفاعا عن الجمال وإنقاذ ما يمكن إنقاذه سنوات املوت ،بل
من التلوث الذي أصاب جوانب الحياة السورية كافة -يعقب ً مضيفا« :إن كان من ثورة نقدية مضادة الشاعر باسم سليمان
الشعرية معجمها املعروف واملستخدم حاليًّا وأقصد به اللغة ّ تشكل معجم جديد العربية بشكلها الحايل ،يف إشارة إىل
تعيد الشعر السوري إىل ريادته ال بد لها من أن تعرتف بأن
والنص السيايس االستبدادي ،وكل ذلك بفضل الحرب التي
اإليجابيات أو السلبيات -كررت إنتاج ذات املناحي السيئة
اليوم كما يخربنا الشاعر قطريب« :سيتوىل ِّ الشعر قيادة
الجهويات السياسية؛ يك ينتصر لقيم الحق والجمال والخري،
ُّ يفك عقد التحالف الذي نشأ تاريخيًّا بني النص الغيبي الديني
أعادت أسئلة االنتماء والهوية والثقافة والذائقة الجمالية إىل الواجهة».
املرحلة الجمالية والثقافية القادمة ليعيد صياغة الذهنية واملخيلة السورية التي رزحت طويلاً تحت االحتالل العربي، واآلن نحن أمام حركة تحرر كبرية يقودها النص الشعري،
وهي تأيت تتمة ملا فعله شعراء سوريون عظماء يف التاريخ بدءً ا من املتنبي واملعري وصولاً إىل السيّاب واملالئكة
واملاغوط وأدونيس»!
جزيرة تنمو وسط املحيط
ويقول الشاعر باسم سليمان الذي
أصدر خالل الحرب أكرث من كتاب
الشعرية السورية قبل الحرب وخاللها ،سواء من ناحية
والرتويج لها عىل أنها الخري الوفري يف الشعر السوري اآلن، فالقطيعة التي أُمل منها أن تح ِّرر الشعر من تجاذبات
أكملت بنفس النسق الذي ثارت عليه». أين الشعر؟ تتساءل الشاعرة السورية سوزان عيل مردفةً: «عناوين كثرية ُط ِبعت وتطبع منذ بداية املأساة السورية يف الداخل والخارج ،ومع إيماين العميق بأن الحرب بفوضاها وموتاها تجعلنا ال نرى ،فإن النتاجات الشعرية فاقت أي إنتاج أدبي آخر ،مع كل الغرق ،مع كل الضبابية التي تحيط باملشهد ،هذا بال شك ما تدل عليه أغلب النصوص الشعرية التي خلصت
إليها السنوات الست األخرية يف سوريا».
وتضيف سوزان عيل« :للحظة تشعر فيها
شعري وروايئ كان أهمها «تمامً ا
أن الشاعر يرقب ما يجري يف الشارع،
قبلة»« :الشعر ليس الهدف منه
ثم يبدأ بتدوين أحداثه داخل ورقة
فنيًّا البتة بل سياسيًّا ،فالربيع
يف جيبه .تأخذ رحى الحرب مفردات
العربي الذي أراد القطع مع الخطاب
الثقايف السائد واملتماهي مع السلطة املثار عليها ،ذهب مغرتبًا يف وصف
الجيل الشعري الذي نضج وأثمر خالل سنوات الصراع املستمرة ،فوصفه بأنه جزيرة تنمو يف وسط املحيط لها جملها
واستعاراتها ومجازاتها الخاصة ،وكأن اللغة ولدت اآلن لكن
املدقق واملتابع بشكل فني من دون التأثر بتجاذبات الجهويات السياسية املتبناة؛ يستطيع أن يرى التأثري الواضح لألسماء
الكبرية يف الشعر السوري عىل هذا الجيل واستنساخ تجربته وتطويرها ،وهذا ليس عيبًا فأمري الشعراء وقف وبىك كما فعل
سوزان علي :النتاجات الشعرية فاقت أي إنتاج أدبي آخر ،مع كل الغرق ،مع كل الضبابية التي تحيط بالمشهد
39
باسم سليمان
الشعر وتطحنها ،لتج ّردها من كل ما ألفناه من ِّ الشعر السوري». الكارثة حدثت لنا يف املوت ،ولم
يكن هناك من عمل يوازي هذا القتل -تشرح عيل وتضيف:
«ألننا يف إثر ِه نميش ،نحن لم ننشف بعد ،وإن نظرنا خلفنا لن نرى سوى ظالل تتكسر ،وكما نضع ًّ كفا فوق جبهتنا أثناء ظهرية حادة لرنى بصعوبة ،الشعر اليوم يكاد ال يُرى؛ باملقابل
هناك عناوين تمسك خيط األلم من بدايته قبل حتى أن تفتح الكتاب لتقرأ».
كال إن الشعر ال يلفظ أنفاسه األخرية ،تقول سوزان عيل وتضيف« :إنه يعطي االنطباع بأنه متعب ًّ حقا كما ّ وصف
الشاعر املكسييك (أوكتافيو باث) يومً ا حال الشعر ،فالبالد أيضا ،حيث القبور مفتوحة ً متعبة ً سلفا ،والغبار غدً ا سيكون
ً سميكا فوق الكتب ،الوقت يرتنح يف ِّ ً ِّ طارقا والشعر ينتظر ظله،
جديدً ا يقوده إىل العماء األول ،صافيًا عذبًا كما كان».
ملف العدد
أسباب انحسار الشعر في مصر صبحي موسى القاهرة
حين تدعى إلى أمسية شعرية في القاهرة فإنك تتخيل أن كل الذين يجاهرون بحبهم للشعر
سيكونون في انتظارك ،لكنك حين تذهب ال تجد جمهورًا غير المشاركين في األمسية ،وبعض هؤالء يفضل أن يدخن سجائره خارج المكان إلى أن يأتي دوره .من ناحية أخرى ،حين تكتمل لديك
قصائد ديوان فإنك تبحث عن ناشر يقبل نشره ،وإن قبله فالبد أن تتحمل كلفة الطباعة ،وحين يطبعه تبدأ مهمتك في الترويج له وتوزيعه على األصدقاء ،وتصبح حفالت توقيع الشعر إن وجدت
ً نوعا من تبادل المجامالت.
40
هكذا أصبح واقع الشعر ،فال جمهور وال جوائز وال اهتمام إعالمي ،وال شيء سوى صراعات
الشعراء بعضهم مع بعض على أيهم األشعر ،أو أي األنواع الشعرية أكثر حياة من غيرها. فالتقليديون ال يؤمنون بقصيدة النثر ،ويكفرون من يكتبها فنيًّا ،والنثريون يؤمنون بالشعر العمودي
وقصيدة التفعيلة لكنهم يرون أن الريادة اآلن للنثر ،ومن يكتب سواه فقد أصابته الردة ،هكذا يتصارع الشعراء في حارة ال يكاد يراها أحد ،واألضواء مسلطة على الرواية والسينما وربما المسرح.. فما الذي حدث لديوان العرب وفنهم األول؟
العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
يقول أستاذ األدب العربي
ذلك قديم قدم الشعر ذاته ،فلطرفة
يف جامعة عني شمس الدكتور
بن العبد بيت يقول فيه: «رأيت القوايف َّ يتلجن موالجً ا
محمد عبداملطلب :إن الشعر اآلن
يضيق عنها أن تولجها اإلبر».
أصبح له منافسون لم يشهدهم طوال تاريخه ،وإن هؤالء املنافسني
ويذهب عبداملطلب إىل أن املشكلة
أنتجتهم الحضارة الحديثة من خالل
املسلسالت
والربامج
الحقيقية تكمن يف أن الشعر هو فن
التليفزيونية
اللغة العربية األول ،وال يمكن تذوق
والعروض السينمائية« ،منافسني
إبداعاته وجمالياته من دون اإلملام
استحوذوا عىل بعض من تقنيات
باللغة العربية« ،نحن يف زمن تضيع ً ضياعا شبه كامل يف مختلف فيه اللغة
الشعر الروحية والجمالية؛ لذا فقد
انحسر الواقع العام عن تلقي الشعر، لكن ذلك لم يحدث يف الواقع األدبي، يدلنا عىل ذلك أن الشعراء يتزايدون،
ولو قمنا بإحصاء عدد شعراء الحداثة يف زمن السبعينيات وشعراء الحداثة
اآلن لوجدنا العدد أكرب بكثري».
مستويات التعليم ،وهذا سبب
محمد عبدالمطلب :المشكلة الحقيقية تكمن في أن الشعر هو فن اللغة العربية األول ،في حين ضياعا شبه كامل نرى أن اللغة تضيع ً
وأوضح عبداملطلب أن املشكلة يف الفهم الخاطئ عن أن
الشعر فن شعبي« ،وهذا غري صحيح؛ فالشعر منذ ظهر وهو فن الخاصة ،وللرسول -صىل الله عليه وسلم -حديث يقول
فيه« :إنما الشعر كالم من كالم العرب جزل ،تتكلم به يف بواديهاُ ، وت َس ّل به الضغائن من بينها» ،أي أن الشعر جنس
خاص من الكالم وليس كل كالم شعر ،واألمر الثاين أنه ليس ف ًّنا شعبيًّا عامًّا ،واألمر الثالث أن له جمالياته الخاصة وله وظائفه االجتماعية ،كما أنه ليس فناً شعبياً كما يتصور الكثريون حني يقولون بانحسار دور الشعر ،وربما كان يف مراحل معينة
من مراحله أقرب إىل الفن الشعبي؛ من بينها مرحلة جرير
والفرزدق ،ومرحلة شوقي وناجي،
الكتاب كمصدر وحيد للمعرفة ،وبدأ عصر الشاشة» ،وهو ما ً وإنعاشا لفنون ،أخرى كالرواية التي يعني إزاحة لبعض الفنون،
يمكنها أن تتحول إىل فلم سينمايئ» .ويشري إىل أن السينما هي التي أدخلت نجيب محفوظ إىل النجوع والقرى ،وأن كبار الكتاب يف العالم
العربي راجت أعمالهم؛ بسبب األفالم
والشاشة البيضاء« ،ويمكن القول :إن التصوير وأدوات امليديا الجديدة أفادت ً فنونا كاملسرح وغريه ،لكن الشعر
من ذلك يظل هو الفن األكرث قدرة عىل
لم يستفد من هذا العصر؛ ألنه من
اخرتاق جوهر اإلنسان» .ويلفت إىل
الصعب تحويل قصيدة إىل عمل فني
جالل األحمدي
وتفصيالت الوقائع« ،لكن حني يخرتق
إدريس ،وكل كتاب السرد ،ويبدو أن
41
حمل عنوان «السينما املستقبلية» وجاء يف صدارته« :انتهى عصر
التاريخية ،فن خاص ،لكنه عىل الرغم
ذلك عند نجيب محفوظ ،ويوسف
نحن مقبلون عىل مرحلة ينفصل فيها
«وعلينا أن نتذكر بيان الحركة املستقبلية الصادر عام 1916م ،الذي
ما هو عليه طوال مساره ومراحله
الداخلية يتحول إىل شاعر ،نجد
تذوق الشعر أو معرفة جمالياته،
عصر الشاشة
كل مراحله فن خاص ،وهو اآلن عىل
الكاتب جوهر الشخصية ومكنوناتها
األجنبية ،فكيف ستخرج طالبًا يمكنهم
ويرى الشاعر محمد سليمان أننا نعيش يف عصر الشاشة،
قباين ،لكن فيما عدا ذلك فالشعر يف
الحياة ،ونجد صراعات الشخوص،
وجامعات اآلن لغتها األوىل هي اللغات
املواطن عن لغته ،وهو ما يعني انفصاله عن ثقافته ودينه ووطنه ً أيضا؛ فاللغة هي املواطنة».
وربما آخر هذه املراحل هي مرحلة نزار
أنه يف الرواية يمكننا أن نجد تقابالت
عدم رواج الشعر ،فهناك مدارس
يعرض عىل املسرح».
ويؤكد سليمان أن الجوائز ليست
العامل الحاسم يف انحسار األضواء عن
محمد سليمان :الميديا وآلياتها سحبت السجادة من أسفل أقدام الشعر
الشعر والشعراء« ،لكن امليديا وآلياتها هي التي سحبت السجادة من أسفل أقدام الشعر الذي ظل مهيم ًنا طوال
النصف األول من القرن العشرين».
ملف العدد
من جانب آخر يذهب أستاذ األدب
كثريًا حني نقول :إن الشعر يمر يف
سامي سليمان إىل أنه من الصعوبة
أسبابها معً ا للوقوف يف طريق الشعر
اللحظة الراهنة بأزمة كبرية تتشابك
العربي يف جامعة القاهرة الدكتور
وعرقلة مسريته ،ويتفق بعض
الحديث عن الشعر عىل إطالقه يف
الشعراء مع كثري من النقاد ،مع
دوائر التلقي العربية .ويقول :إنه
عدد من أصحاب دور النشر ،يف هدم آخر َل ِبنات جدار الشعر .ويوضح
يمكن التمييز بني ثالثة أنماط رئيسة وعامة ،وهي :الشعر الحر وقصيدة
أن الشعراء باتجاههم إىل نوع من الكتابات التي غالبًا ما ُتنفر املتلقي من
النرث والشعر التقليدي املتطور كالشعر
الكالسييك والشعر الرومانيس ،ثم شعر العامية .ويضيف قائلاً « :يف شكل عام نحن نحيا يف العقود التالية ملرحلة الحرب العاملية الثانية يف عصر
السرد وعصر الصورة ،وكال التعبريين
دال عىل مرحلة حضارية تتقدم فيها أنواع أدبية وفنية كالسينما واملسلسل
سامي سليمان :إنه يمكن التمييز بين ثالثة أنماط رئيسة وعامة، وهي :الشعر الحر وقصيدة النثر والشعر التقليدي المتطور كالشعر الكالسيكي والشعر الرومانسي
وأصحاب دور النشر بمساندتهم ُ اب النرث وتحمسهم للرواية لك َّت ِ ورفضهم –إال نادرًا– طباعة دواوين
الشعر ألنها –من وجهة نظرهم– ال
التليفزيوين والرواية والقصة القصرية عىل حساب الشعر .ونلحظ
تباع ،كل ذلك يُفاقم من أزمة الشعر.
ً اتساعا، نمط الشعر التقليدي املتطور فيتحرك يف دوائر تلقي أكرث
ملقولة :إن الرواية هي ديوان العرب ،وبعد أن تنافست دور النشر
أن نمط الشعر الحر وقصيدة النرث يتلقيان يف دوائر محدودة .أما
42
الشعر ،والنقاد بتلميعهم للنماذج ً أحيانا، الشعرية املتواضعة والرديئة
ويرى أن تأثري الشعر تناقص «بعد أن ظهر من يروجون
يف نشر السرد ،وظهرت جوائز جرى تخصيصها للرواية والقصة
وهي دوائر تسودها أنواع من الجماليات ذات الصلة باملوروث من مسرية الشعر العربي .ويبقى النمط األخري ممثلاً يف شعر العامية
القصرية .لقد شارك الجميع يف الهجوم عىل الشعر :شعراء،
العام ،عىل الرغم من أن الحركة النقدية املعاصرة له لم تمنحه ما
عىل الشعر ،وجعل الجماهري تبتعد منه وال تتفاعل معه .اآلن يمر
الذي اكتسب -يف العقود األخرية -مساحات كبرية من دوائر التلقي يستحق من اهتمام».
ويوضح أن هذه الوضعية هي التي تفسر عالقة وسائل
اإلعالم بأنماط الشعر العربي؛ «فرغم محدودية املساحات املخصصة للشعر يف تلك الوسائل فإن شعر العامية والشعر
التقليدي املتطور لهما حضور أقوى يف
ونقاد ،وقراء ،وناشرون ،ومخصصو جوائز ،وهذا ضيق الخناق الشعر بأزمة حقيقية ،غري أن بعض الشعراء ال يزالون يكابرون
وهم جالسون يف أبراجهم العاجية التي لن يعود للشعر دوره
وتأثريه إال بعد أن يغادروها ،ويمتزجوا بجماهري القراء ،معبرّ ين عن أحاسيسهم ومشكالتهم وقضاياهم».
ال أحد يرحب بشاعر ينتصر للعدالة
مساراتهما من الشعر الحر وقصيدة
النرث .ولكن يف العقد األخري أخذت تتاح
ويذهب مدرس األدب العربي
للشعر إمكانيات جديدة للتلقي عرب
بجامعة أسيوط الدكتور أحمد
وسائل التواصل االجتماعي املختلفة. وليس ممك ًنا التنبؤ بإمكانيات تغري
الصغري إىل أن القصيدة بدأت يف
الرتاجع مع التقدم املعريف ،ألسباب متعددة ،منها ،أولاً :تهميش دور
هذه الوضعية يف املستقبل القريب؛ ألن أشكال التطور يف وسائل االتصال
الشعر ،فلم تعد املؤسسات السياسية
تؤدي دائمً ا إىل تقليص املساحات
واإلعالمية ترحب بوجود الشعر؛
املتاحة للكلمة التي أخذت الصورة
جالل األحمدي
تحل محلها وتتحول إىل بديل عنها».
أزمة كبرية تعرقل مسرية الشعر
من جانب آخر يقول الشاعر
واملرتجم عاطف عبداملجيد :ال نختلف
ألن الشعر ينتصر للعدالة والحقيقة
واملساواة ،رغبة من الشعر يف وجود
عاطف عبدالمجيد :شعراء ،ونقاد، وقراء ،وناشرون ،ومخصصو جوائز، ضيقوا الخناق على الشعر
العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
حياة إنسانية مناسبة يجد اإلنسان
فيها روحه املعذبة .ثانيًا :تشجيع
الفنون األخرى عىل حساب الشعر مثل فن (الرواية والقصة واملسرح)،
وإن كانت الرواية هي التي سحبت
ما زال يلملم جراحاته يف وجدانات
الشعر كالفارس الوحيد الذي يقف يف ميدان املعارك معزولاً ً ومهمشا ،حزي ًنا عىل نفسه ملا ألم به من غيابً . ثالثا:
من حني إىل آخر».
للشعر قائمة« ،إال إذا تبنت الدولة
تفرد مساحات واسعة للرواية والقصة
الرتبية والتعليم يف تجديد مناهجها
البساط من تحت أقدام الشعر ليصبح
اإلنسانية من خالل روحه التي تيضء وقال الصغري :إنه لن تقوم
سياسة الجوائز العربية التي أصبحت
املصرية أفكار الشعراء ،وبدأت وزارة
عىل حساب الشعر ،فتحول كثري من
العقيمة التي تقف عند أحمد شوقي ً نصوصا جديدة للشاعر فقط ،لتطرح
الشعراء إىل روائيني أو كتاب سيناريو، رغبة يف تحقيق مكاسب مادية سريعة
الحي الذي يعيش بيننا اآلن ،وأن
أو شهرة واسعة .رابعً ا :لم يعد اإلعالم
يحتفي بدور الشعر املجدد ،بل يرتكن إىل استدعاء الشعراء التقليديني الذين
ينفذون املطلوب منهم .فجاءت صورة
الشاعر يف السينما مشوهة ورديئة .ويف
النهاية رغم تراجع الشعر املدوي فإنه
يفرد األساتذة يف الجامعة مساحات
أحمد الصغير :لن تقوم للشعر قائمة، إال إذا تبنت الدولة أفكار الشعراء، وبدأت وزارة التربية والتعليم في تجديد مناهجها العقيمة
لتدريس الشعر الجديد أو شعر
الحداثة العربية ،واستضافة الشعراء
األحياء؛ ألنهم هم وحدهم األكرث قدرة عىل إحياء الشعر وممارسة
دوره الحقيقي».
ً ضيقا على التعبير والتواصل الشعر أضحى يرى الشاعر عالء خالد (مؤسس مجلة أمكنة) أن تحول الشعراء إىل الرواية ً ضيقا عىل التعبري والتواصل مع الناس؛ «يعود إىل أن مجال الشعر أصبح
43
ً مقطوعا ،ومن ثم توصيل املعنى فاملجال الرمزي بني الشعراء والناس أصبح َ ال يتم .والرواية لها مجال رمزي واسع ومشرتك مع الناس ،لذا ي ُنتقل إليها كوسيط له تقاليده ،وسهولته فى التواصل والتوصيل». ويضيف قائلاً :يف لحظات األزمة فى التوصيل كما نعيشها اآلن داخل الشعر ،وعدم وجود مشرتك عام ،يجب أن يتحرك طرفا األزمة ،الشاعر والناس ،لشق طريق جديد داخل هذا النوع األدبي وطريقة القراءة .أقصد املهم
فى هذه اللحظات أال ينصرف الشعراء عن الشعر ،بل يحاولون أن يطوروه ويكسبوه رمزية أوسع ،وهو ما حدث بالفعل يف تغري شكل القصيدة واتجاهها نحو القص والسرد والسيناريو .ولكن عىل الرغم من هذا التحول يحدث االنتقال
إىل الرواية؛ ألنه انتقال وتطوير شكيل للقصيدة ،وربما كذلك أفقد الشعر شعريته .انتقال مشوه وشكيل ،أو بمعنى ما انفتاح شكيل عىل األنواع األخرى .يف الوقت نفسه أصبحت الرواية مخزناً ً نشطا داخل الرواية وليس داخل الشعر». للحس الشعري ،الذي امتصته من الشعر ،ولهذا أصبح املجال الشعري وأضاف خالد أن الجمهور العريق اختفى منذ نزار قباين ومحمود درويش ،الذين كانوا يمثلون «لحظة جماعية عىل
كل املستويات ،أو كانوا الضوء األخري من لحظة جماعية سياسية ،كانت لها رموزها املشرتكة ،وكان الشعر يمثل الحياة ً مبالغا فيه ،مثل أشعار نزار قباين مثلاً .اآلن لحظة «الحقيقة» وكسر نموذجها اإليهامي ،الذي فيها حتى لو كان كاذبًا أو
له أسباب كثرية ،إذ لم ينتج بعد شعره أو أبطاله القوميني ،أو جمهوره ،بل أنتج جماعات صغرية من الجمهور .مصطلح الجمهور تفتت من تلقاء نفسه مع تفتت النمودج اإليهامي».
وخلص إىل أن الجوائز «فكرة سياسية تريد أن تصل ملن له تمثيل اجتماعي واسع ،وإىل من يحقق لها االستمرار
واالنتشار؛ لذا فإنها تتجنب الشعر الذي يدور يف مساحات ضيقة من املجتمع».
ملف العدد
الشعر العراقي بين راهنية المشهد وارتهان الحضور حسن جوان بغداد
ّ التلقي وطبيعة التداول الثقافي شهد العقدان األخيران تحوّالت كبيرة في مزاج لألجناس األدبية ،وربما كانت اله ّزات السياسية واالجتماعية والثورة التكنولوجية التي تهيمن على المشهد العام ،قد أسقطت الحدود الوهمية ما بين هذا الجنس األدبي والف ّني
44
أو ذاك ،وأسهمت في تبادل أدوار كثيرة ما بين األجناس النثرية عمومً ا؛ إذ لم يكن الشعر العربي الذي دخل األلفية الثالثة محمّ لاً بأزمات ومخاضات سابقة ،ببعيد من احتمال ّ نصيبه من هذه التحوّالت ،واالنحسار لصالح أنواع صاعدة أكثر فتوّة وأوسع ّ تمثلاً في ّ التلقي. بسط مهيمناتها الجمالية والواقعية في مساحة
العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
وإذا كان انحسار املطبوع الشعري قد أصبح حقيقة واقعة يعرفها الناشر ويق ّر بها الشاعر نفسه ،فإن تفشيّ ظواهر موازية لتداول الشعر يف مواقع التواصل االجتماعي ،قد تكون ّ وفرت
بهذا املعنى ،فإنَّ األسئلة
تفاعيل أو يومي .وعىل الرغم من أن مثل هذه الفضاءات املفرتضة
لجوهر واحد». وم ـخـتـلـفــة ٍ
رافعات مبتكرة وغري مشروطة لكل من يكتب الشعر بشكل ال يمكن االحتكام إليها يف تقويم وحضور أي منجز ثقايف أو أدبي
يف نهاية املطاف ،فاملراهنة هنا عىل االحتكاك املباشر بني األنواع األدبية األخرى التي أصبحت تتشابك يف حقول ش ّتى من التجربة
الوجودية الداخلية ال تتغيرّ ،ما يتغيرّ هو املعطيات الخارجية.
تأخذ صـي ــاغـ ــات مـت ـع ـدّدة
وبهذا املعنى نفسه،
يضيف مظلوم« ،أعدت توجيه
السؤال وأحلته [إىل] الشاعر
اإلنسانية ،بني ما هو حاضر ومعبرّ عن اللحظة ،وبني ما هو ً مالذا دائمً ا .ومع تأمّيل ي ّتخذ من العزلة والتعقيب ال املشاركة
أننا يجب أن نبحث عن الشجرة،
املوروث ،وال ضري من بروز أزمة وجود هنا أو إشكالية رؤيوية
والثمر؛ إذ يبدو يل الشاعر
ذلك ،بقي الشاعر العربي يؤمن بأنه ال يزال يمسك بصولجانه وتقنية هناك ،باملقارنة بني راهنية واقعه وما يواكبه من تجارب
عاملية يف مكان آخر.
نفسه ،وليس [عن] الشعر؛ ذلك قبل أن نسأل عن غياب الظالل
اآلن مثل الكائنات املهدّدة
محمد مظلوم
باالنقراض ،وثمّة ِمنَ األشجار ْ ما انق َر َض ْ قاس بال ثمر أو ظالل، ُسخت إىل ت فعلاً ،أو م حجر ٍ ٍ
حول هذه الراهنية يف الشعر العراقي والعربي عمومً ا ،وعن جملة األسئلة وال ّتحديات التي يواجهها الشعر اآلن ،وعن الشاعر
وهذا الحشد غري القابل لإلحصاء ممّن يكتبون الشعر حولنا
انحسر فيها ق ّراء الشعر وغابت الجوائز املرموقة عنه ،لتحضر
وشيوع اإلسفاف والرداءة؛ لذلك فاملحنة هنا ذاتية مزدوجة قبل
نفسه الذي يوصف بأنه كان يتيمً ا فأصبح أكرث يتمً ا يف لحظة الرواية ومواقع التواصل االجتماعي بقوّة ...حول هذه األسئلة واملحاور نستعرض آراء أربعة شعراء عراقيني من أجيال مختلفة
وأساليب كتابية ع ّدة. تحديات أزلية
يرى الشاعر والباحث العراقي محمد مظلوم أن األسئلة والتحدّيات التي يواجهها الشاعر تكاد تكون واحدة يف ّ كل «أقرب إىل األزل َّي ِة منها إىل اآلنيَّة ،فاألسئلة العصور ،وأنها ُ
اآلن أبطال وشهود عىل مأزق الشعر :انحسار نموذجه العايل، كل يشء ،طرفها األول أشرت إليه بتلك اللوثة األزلية وغموض
األسئلة لدى الشاعر نفسه ،وطرفها الثاين النماذج السائدة التي توحي بالقحط بل ُتفصح عنه؛ حيث التضحية بالفضاء
45
اإلنساين ،والكوين ،والركون إىل التعبري عن أوهام هويات ضيِّقة،
والنزوع إىل مطامح رثة».
وعن تعبري االنقطاع و«اليتم» اللذين انطوت عليهما محاور
الظاهرة الشعرية الراهنة ،يعرتض الشاعر محمد مظلوم عىل
تقارب التي كابدها هومريوس اإلغريقي ،أو فريجل الروماين، ُ
املطامح الغامضة المرئ القيس أو املتنبي العربيّني ،وهي ذاتها حقيقي يف ِّ كل عصر شاعر التي قد يصطدم بها أيُّ ٍّ ٍ ومكان .ما يختلف هو الشرط التاريخي، وخصائص املرحلة .األسئلة
ملف العدد
جانب الشفقة الذي توحي به املفردة ،فالشاعر بحسب قوله: «ليس مسكي ًنا إىل هذا الح ّد من التوصيف! فهو من جعل من ً ً جمالية؛ غربة املعري هوية هذا املصري -وإن بمازوخية مريبةٍ-
األمومي! أو الباطنية ،أو منفى أوفيد ،مرض السياب ال يُتمُه ُّ متاهة رامبو ،كانت صورًا تقريبية ،مجازية ربما ،ملا تسميه اليتم، وأدعوه :لعنة االنشقاق وهاجس البحث الغامض .أما الشعر فهو
العربي بال مواربة ،فعمر الرواية العربية وأصول نشأتها ،ال املج ُد ُّ
لكن ما يحيط به من هذه الظواهر أسهم يف خلق «لحظة اليتم املفرتض» .أما «الجوائز» وعىل الرغم من أنها أقرب إىل طقوس اجتماعية وتقاليد صالونات ،فهي بدل أن تحتفي بالشعر
الحقيقي ،ك َّر ْ ست ُعزلته».
الراهن الشعري وحكايا املندثر ً وعطفا عىل محاور املوضوع بإشكالياته املطروحة نحو رؤى ّ تشكلت تجاربها يف العقد األخري ،يطرح يف أولها الشاعر شابّة
تنطبق عليهما صفة املجد ،بينما نحن نتحدَّث عن شعر مكتمل رث من خمسة عشر ً قرنا». ُعمره أك ُ
ً ًّ أحيانا خاصا يلتقي فيه مع اآلخرين أو يتف ّرد ميثم الحربي فهمً ا
الشعر عىل قدر غري مسبوق من اإلسفاف« ،ال يف مستواه
الشعري) يرتبط بالحياة الثقافية ،والسياسية ،وأطوارها
ويرى مظلوم أن مواقع التواصل االجتماعي جعلت من
فحسب ،إنما يف طريقة عرضه .فنحن إزاء ما يشبه «سوق الهرج»
يف طريقة قراءته .يقول ميثم« :طاملا فهمنا أن مفهوم (الراهن
َّس البضائعُ ويُطرح الشع ُر إىل جانب تتداخل فيه األصوات ،وتتكد ُ ِّ كل يشء ،وأيِّ يشء! هكذا يتحوَّل «التواصل» املفرتض إىل انقطاع
وغيبوبة حقيقيني عن ذلك السحر القديم للشعر ،لصالح انبهار عابر هو سمة العصر .صحيح أن الشعر كان محاص ًرا يف ّ كل عصوره ،إلاّ أن هذا االنحسار الخطري الذي نراه يف حياتنا املعاصرة
هو نتيجة طبيعية لنكوص شامل يف القيم الروحية والجمالية
46
والثقافية». ّ ويلفت إىل أن القراءة ،والنقد ،وطريقة التلقي ،تراجعت معني بهذه التغيرُّ ات الطارئة، ري كذلك« ،وربما كان الشاع ُر غ َ ٍّ
محمد مظلوم :الحشد غير القابل ممن يكتبون الشعر حولنا اآلن لإلحصاء ّ
أبطال وشهود على مأزق الشعر
ميثم الحربي
الزمن العربي شعري بامتياز من ناحية أخرى ،ال يبدو الشاعر هاشم شفيق مرتاحً ا لوصف الشعر بالرتاجع واالنحسار إزاء أجناس أدبية أخرى صاعدة عىل مستويي الحضور والتداول .فهو يعبرّ عن وجهة نظره بطريقة ناقدة؛ إذ يقول« :دائمًا يُثار حول ِّ الشعر لغط ما؛ مثل أزمة الشعر
العربي ،ويف حقبة الستينيات برزت مشكلة قصيدة النرث وأثرها يف األصالة والرتاث والقدامة يف الشعر العربي ،لنشهد بعد كل تلك اإلرهاصات ،ومنذ أكرث من عقد ظاهرة الرواية التي نادى بها بعض ّ النقاد الذين لم يستطيعوا مجاراة فن النقد وتتبّع األساليب الشعرية املتطوّرة يف سياق الحداثة الشعرية ،حتى انربوا يردّدون أنه زمن الرواية التي أصبحت ديوان العرب .إنها تسمية خاطئة ،يف الزمان الخطأ ،واملكان الخطأ؛ الزمن العربي هو شعري بامتياز ،واملكان كذلك ،نحن أمّة شعرية ،ومجبولون عىل الشعر وعىل قول جهد ساعيًا إىل تغطية الشعر حتى يف جلساتنا وقعداتنا ،ويف مشوارنا الطويل مع الحياة .أما الناقد الذي ّاتكأ عىل هذا التعبري ،فهو ِ
ً ْ شوطا كبريًا ،من التحوّالت الفنية واألسلوبية قطعت قصوره يف فهم النصوص الحديثة ،واألج ّد يف كتابة القصيدة املعاصرة التي
واإلستاتيكية يف كتابة نسق جديد ومستحدث للقصيدة». ّ ويميض هاشم شفيق قائلاً « :لو رجعنا قليلاً إىل الوراء ورأينا حال الشعر وقارناه باليوم؛ لوجدنا الشعر يف هذه األزمنة أكرث انتشارًا
من السابق .الشعر اليوم بدأ يصعد معراجً ا جديدًا مع التقنيات الحديثة والوسائط الجديدة للمجتمع الحديث ،فالفيسبوك ساعد
العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
املتح ّركة كما تختزن مفردة الراهن شحنة الزمن ،وتبذر لنا يف ّ املحك ،ومرحلة الصعب ،وحضور الصراع. كل م ّرة مرحلة ّ وعىل هذا األساس يتغذى راهن الشع َريْن العراقي والعربي من بنياته االجتماعية الحافلة بحكايا املندثر والجديد ،واملغايرة،
واملشاكسة ،واالتهام ،ومواجهة سدنة الثوابت .ونكاد نجزم أنّ هواجس التحديث وقيمها نابعة من هذا املأزق أو املآزق املر ّكبة. لقد هبّت رياح كثرية وملوّنة عىل الفنون ومنها فن الشعر ،وكانت
اإلفادة من ذلك تتمحور حول فكرة التخصيب بني الحاجات ّ املحلية ملجتمعاتنا وبني الرّجّ ات املَوْجيّة للتثاقف عرب الرتجمات من اللغات املختلفة فيما يتعلق بالتأويل الجمايل للعالم».
ويرى بخصوص ثنائية الشعر والق ّراء عدم وجود إشكالية
ّ املختص« ،غالبًا ما يُغطي فهمنا لعوامل انحسار تجاه القارئ
القراءة كتلة الجمهور العام .وهذا يمكن أن ّ يحل عرب إنشاء برامج
فعّ الة للرتويج .لكننا نصطدم هنا بعقبة دور النشر التي تضع األرباح يف املق ّدمة وتتح ّرك وفق هذه املعادلة .وبال شك هناك تأثري
واضح لعوالم التواصل االجتماعي ،فالتثاقف عرب «السوشيال ميديا» أبرز ّ غثه وسمينه عىل السطح ،لكن تبقى التجارب األصيلة مُفحمة لكل جدال».
أزمة الشاعر والقارئ ً معا
وتختم الشاعرة الشابة رشا القاسم بجملة تشخيصات
تعرض لها ببساطة حول رؤيتها لطابع اإلشكال الشعري من
رشا القاسم
جنسه ولونه ،بينما التفت املجتمع إىل أجناس أدبية أخرى ذات لغة وأسلوب سهلني ومفهومني .ما يحدث اليوم هو أن الشاعر
الحقيقي يواجه أزمة ق ّراء ،والقارئ املثقف يواجه أزمة يف الشعر».
تضيف القاسم «نعم ،أصبح الشعر أكرث يُتمً ا ،ليس ألن الرواية تحايك بشكل ّ أدق معاناة الواقع العراقي أو العربي
ً سابقا اختلفت عن شروط فحسب ،بل إن شروط كتابة الرواية كتابتها اليوم بدءً ا من األسلوب وصولاً إىل عدد الصفحات. أصبحت كتابة الرواية اليوم أكرث سهولة ،وذات عوالم متح ّركة؛
من أحداث وأزمان وأماكن تفصيلية ،تنقل الحياة «أي حياة»
خالل عوامله الداخلية ،أو باملقارنة بالرواية وتسيّد األخرية املستم ّر عىل مساحات كانت ُتحتسب للشعر فيما مىض .تصف
عىل الورق .كما أنها ال تتداول الرموز التي يتناولها الشعراء يف
عن لغة الشاعر ،فصار جمهور الشعراء هم الشعراء من ذات
هو يف الرواية».
رشا «ما حدث» بأن أحد أسبابه هو «أن لغة املجتمع تغيرّ ت
47
نصوصهم ،وقد يتوافر ذلك يف بعض النصوص ،لكن ليس كما
عىل انتشاره رغم تسميته بفن ّ القلة ،كما جاء عىل لسان الشاعر اإلسباين الكبري رامون خمينيثُ ، وول من بعده ،ووسّ ع من مدلوله الشاعر املكسييك أكتافيو باث .الشعر وت ُد ِ حساده الذين توقفوا عند عتبة أسلوبية وتعبريية وجمالية لن يموت كما يشيع بعض ّ
معيّنة ،هو مثل أيِّ فنٍّ آخر ،أصابه تطوّر جمايل ملحوظ ،وأفاد هذا التطوّر من بقية الفنون الصديقة واملجاورة له ،كاملوسيقا والرسم والسرود عالية الفن واملُكنة .لقد تطوّر الشعر وشهد ثورات كثرية ،استهدفت الشكل واملحتوى وطرائق التعبري ،وجاءت عىل كل تاريخه لتق ّدمه بحُ ّلة مختلفة». ويق ّر شفيق بتحول الشعر إىل بضاعة كاسدة« ،هذا صحيح؛ ألنه ال يباع مثل الكتب اإليروتيكية التي ينشرونها ،أو مثل كتب املذ ّكرات ،أستثني طبعً ا الناشر املثقف
هاشم شفيق
واالستثنايئ ،ناهيك عن املستوى الدرايس والتعليمي للشعوب العربية التي ىَّ تدن ّ مستواها العلمي واألكاديمي ألسباب ال تحىص؛ أبرزها الحروب املجانية التي حصلت يف املنطقة ،وهد ْ َّدت أمنها وع ّرضتها للتخلف
والرتاجع لحقب طويلة .كل ذلك يف اعتقادي أدّى إىل تراجع بيع الكتاب عىل نحو عام ،وجاء هذا األمر عىل حساب التعليم ونهوضه، ونشر الفكر التنويري ،ذلك الطامح إىل إلغاء الغايات واملطامح الضيقة ّ ً عوضا من إنبات النور وانتشاره». كلها ،التي تحاول زرع العتمة
ملف العدد
شعراء يمنيون بين تغريبة الحرب وأهوالها فتحي أبو النصر صنعاء
ماذا بوسع القصيدة أن تفعل وهي تواجه تفاصيل الحرب المتالحقة؛ من تشرد
وفقدان وخراب وهلع ورجاء ويأس؟! ثم ما الذي يتبقى من الوطن ،حين يتحول نصفه
إلى قتلى؛ ونصفه اآلخر إلى قتلة؟! لقد أثخنت الحرب يوميات الشعراء في اليمن ،كباقي
الفئات المجتمعية؛ وهي الحرب الدؤوبة التي فاقت المخيلة ،كما تنطوي على واقعية
48
سريالية ذات مفارقات صادمة وعجيبة ،لم يتحملها العقل ،بقدر ما أثخنت العاطفة.
العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
وعىل سبيل املثال ،أعرف شاع ًرا تشرد كالجئ يف أربع
محافظات هو وعائلته ..وآخر طالته ثالث رصاصات آثمة وسط العاصمة من بالطجة ،واألرجح بسبب آرائه ،فيما أجرى ثالث
عمليات يف ثالث دول ..وآخر قطعت امليليشيات راتبه ومصدر دخله الوحيد ،فقرر ترك املدينة والعودة إىل قريته ّ عله ينجو.. وآخر وقعت قذيفة عشوائية عىل منزله وما زال يسكن فيه
متصالحً ا مع كل هذا العبث ..وآخر غادر اليمن ملدة وجيزة كما
قال ،ولم يستطع العودة منذ عام ونصف؛ ألن الحرب دمرت منزله وتشردت عائلته وهو بعيد ال يملك قيمة تذكرة العودة.. وآخر ُقتل شقيقه يف انفجار انتحاري؛ ألنه كان موجودًا يف مكان
الحادث بالصدفة ،وحتى اللحظة ال يزال ممسوسً ا لشدة وقع
الحادث عىل ذهنه ..وآخر زادت حالته النفسية سوءً ا؛ ألنه
يخضع لعالج عصبي ال يتاح بسهولة من جراء الحرب ..وآخر انضم للمقاومة ..وآخر انضم للحوثيني ..وآخر فقد مصدر رزقه؛
ألنه يعمل يف صحيفة قرر االنقالبيون إغالقها ..وآخر صار يبيع
منتجات غذائية مه ّربة عىل أحد األرصفة ليس ّد رمقه.
وهكذا ..عىل نحو فجايئ وصلت اليمن إىل مصاف اللحظتني
العراقية والسورية األكرث مرارة عربيًّا ،فيما تملشن وتعسكر كل
يشء حول اليمنيني عىل نحو طائفي ومناطقي بغيض.
ثم ها نحن يف خضم اللحظة املارقة التي صارت مملوءة
بالحقد والهوس والخيبات والالتسامح والالعقالنية .والحال أن
معظم الخطابات يف ظل التجاذبات السياسية والعنفية الحادة ،ال تهمها فكرة الوطن واملواطنة لألسف ،ما بالكم باإلبداع والتجريب.
كما أن اللغة من الطبيعي أن تأيت هشة وخاوية إال ما ندر. السخط هوية للشاعر
فحيث تدور املعارك منذ نحو عامني يف كل الجهات؛ صارت ً أحيانا -وغالبًا السخط -هوية الشاعر اليمني الحديث، العزلة
إضافة إىل املثقف الذي يحرتم ذاته واألكرث حساسية ،كأقل احتجاج ضد ما يجري.
ووسط هذه التغريبة وأهوالها املزدوجة ،يعيش الشاعر
اليمني خاصة واملثقف عامة ..يف خضم الصراعات املعقدة القائمة اليوم ،يحاول املثقف املوضوعي جاهدً ا االنحياز إىل ما يمثل جامعً ا
وطنيًّا ،والتموضع داخل حلم املدنية والعدالة والقانون. الحاصل أنها الهزة األشد ً عنفا يف املجتمع اليمني التائق
للتغيري .كما طالت اللغة ومحموالتها .لذلك فإن التفاؤل تقابله امتيازات التشاؤم بما تحمله هذه االمتيازات من إدانة
مثىل للواقع .لكن هل ستكون النهاية كما تخيلها الشاعر أحمد العرامي مثلاً :
أحمد العرامي
جالل األحمدي
«آخر رصاص ٍة يف حوز ِة الحرب ً حائرة بني قاتلني، ستقف
هكذا يمكن للكالب املشردة
شنق حزن األمهات يف الهواء»! أما ونحن يف صميم الحرب ،فيمكننا أن نجد خالصة الاليشء
ً أيضا بمحاذاة كل األشياء ،تمامًا كما يف قصيدة «هدنة» لجالل األحمدي:
«هذه الليلة
يمكن للدموع
أن تصطاد فرائسها بسالم
49
يمكن ألغنية معطوبة
أن تدور وحدها بالشوارع دون أن يعتقلها حاجز أو أن تالحقها الكالب
والعتمة عىل غري العادة ً حصانا للنسيان تفتح وآخر للقبلة
كل األشياء تبدو بليدة وغامضة
ال منتصر
وال مهزوم
حتى إن البنادق مع قتالها تنام
جنبًا إىل جنب
بعد أن توقفت عن السعال»
ملف العدد
أوراس األرياني
فارس العليي
غري أن األحمدي يبدو مكللاً أكرث بالتهكم واللوعة معً ا ،كما
يف نص آخر: «تم ّن ُ لك عن الحرب يت لو أكتب ِ
الشعراء بتكريسها يف النصوص بصورة تعقيدية تنال مما تبقى من هوامش باإلمكان اإلمساك عندها برأي يأخذ مكانه يف العالم».
لكنه يستدرك« :لست ضد هذا إنما أشعر باالمتعاض من
لكن كيف أكتب صوت الرصاصة! ً حشرت لك ً ُ كثرية جثثا
التأويل واألسلوبية وإصرار التفكيكية عىل تشتت الوجود ،والتلقي املقرفص ونحن هناك يف السريالية غائطني حي ًنا وجافني دون
تريدين أن تعريف كيف تبدو رائحة الجنود
التصور واالحتمال».
إنها تشبه ال ّتعب والذكريات الجريحة».
تحول أصدقائها إىل أطراف وخصوم« ،لكن األكرث إيالمً ا أن يكون
عىل حني أن الشاعر أوراس اإلرياين ما زال يصرخ ببوهيميته
سوى من يباعد بيني وبني وطني ...وطني يتسع لهم جميعً ا،
لك ّن ِك ال تقرئني! حقائبك افتحي ِ
50
نبيلة الزبير
محمد اللوزي
الحنونة وصرامته الساخرة:
«بينما كنت أجهز قلبي للحب أضعت رأيس.
بعد كل قصيدة كتبتها إليك أعد أصابعي. عندما وضعت أذين يف قلب املطر
قطرة واقعية لتبليل ريق فجائعنا من تخوم ال معقولة وتفوق ومن ناحيتها تتأسف الشاعرة والروائية نبيلة الزبري ،عىل
يف أصدقائك من هم أطراف وخصوم باملؤازرة ...أنا ال خصم يل ووطنهم يضيق بي!» .وتضيف« :لكرثة أعداد القتىل واملوىت التي تشهدها أيامنا هذه تعذر عيل القيام بواجب العزاء أولاً بأول.
فليعذرين املحزونون وليتقبلوا حزين .كذلك؛ لكرثة جرائم الحرب وسرعة تواليها بات يتعذر إدانتها أولاً بأول».
سمعته يتحدث عن الحرية وينئّ ».
أما الشاعر محمد اللوزي فهو يؤكد لفوىض ذاته الرائعة:
يبقى «الشهداء أقل ضحايانا ،نحن الضحية ﻻ الراحلون»
بقدر ما كنت أعمى
كما يقول الشاعر فارس العليي ،ويضيف «:ربما ذهبت القصائد ً أحيانا ألداء لعبة الغموض عندما تنحذف من شعرية اإلحساس الدائم بأنك شاعر ومكون ملوقف ينحاز دائمً ا للخفة ،ﻻ أدري كيف
أشعر اآلن عىل نحو مخاتل يحفز إيقاع سلوك عامل بلدية أو فالح مهمل لألرض ويشعر بال جدوى االستمرار يف االعتناء بها». شعور بال جدوى الشعر
ويتابع العليي« :إنه شعور يلخص اعتقاد إمكانية أي شعرية
داخلية ،شعور عابث مغمور بالضياع وشعور بالقلق والالجدوى من الشعر وأن ﻻ وظيفة يمكن أن يرتبها يف الوجود اإلنساين ،سوى
املواقف غري املكتملة لجمل وعبارات تتنافر يف الجمال بما ال يفيض بداللة تقول عىل وجه التحديد شيئية ،وطاملا تستمد الحداثة
الشعرية بصورتها الحالية هذه الفوىض والعشوائية والتسارع
املحموم للنقائض حد تاليش اإلشارات وتوهجاتها الفجايئ ،فإن الصورة املنعكسة من االضطرابات العملية لتقدم العالم نقوم نحن العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
«لم تكن شاع ًرا
تتحسس ما تراه من كرنفاالت بيدين معزولة عن العالم وال تفقه مما ملسته شي ًئا. بالغت فيما ترى
حتى إنك رأيت اليشء قبل أوانه
ورأيت فيه ضده
تفحصته بيديك وهلة أخرى ورميت يف البرئ أصابعك. لم تكن غرابًا
أو زئريًا يطارد غزالة وكنت بمعزل عنك
ناهيك عن أنك تحسب الجميع أعداء بما فيهم لثغة الراء حني تنطقك».
51
ملف العدد
الشعر في األردن: مسارات ورؤى ومشارب جعفر العقيلي عمان
ّ ً واقعه ،وفي التحديات واحدا في المتأمل في المشهد الشعري العربي في شكل يجده ِ
التي يواجهها ،وفي األسئلة األكثر إلحاحً ا المطروحة على الشاعر ،وكذلك في المأزق الكبير
الذي يعيشه الشعر العربي اليوم .لكن األمر ال يخلو من فروقات وتباينات في التفصيالت
بلد وآخرً ، تبعا لطبيعة التجربة في كل بلد ،وامتداداتها بين ٍ
التاريخية والمعاصرة ،والسياق العام الذي يتحرك
52
الشعراء –وبقية المبدعين -في إطاره ،وبخاصة في
ظل التحوالت الكبرى التي شهدتها السنوات
األخيرة ،على الصعد كافة.
العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
وأقصاه« ،فكانت هذه الجمرة املتقدة
وفيما يتعلق بخصوصية التجربة
التي قبض عليها الشاعر األردين ،وبخاصة
األردنية ،شهد العقد األوّل من األلفية ً فورة شعرية نوعية يف األردن بربوز الثالثة
بعد هزيمة 1967م ،فعاش الهمّ القومي
أكرثهم من طلبة الجامعات ،غري أن
الوحدة والتحرر والتحرير ،وعذابات األخ
ّ ثل ٍة من الشعراء الشباب من الجنسني
واإلقليمي والوطني مشبعً ا بمضامني الشقيق ،حتى وصل اليوم إىل مآيس
تلك الفورة أخذت تخفت بحسب الشاعر
اإلخوة األشقاء» .والخطيب تر ّد عدم
والناقد واألكاديمي خالد الجرب ،يف ظل
«التغيرّ ات الهائلة يف الحياة االجتماعية،
وتراجع
االهتمام
بقطاع
اهتمام الناس بالشعر يف زمننا إىل عاملني: «أولوية املعيشة ،والبحث عن مستوى
الشباب،
املجتمعي بالشعر وانحسار االهتمام ّ ً نتيجة لرتكيز ّ النقاد واملؤسّ سات الثقافية
خالد الجبر
الجمعي حيال القضايا الكربى». عىل ال ّرواية ،وذبول الوجدان ّ ومع ذلك ،فإنّ عددًا من ك ّتاب الشعر ّ تمكن من تحقيق
العربي؛ ومنهم بحسب الجرب: منزل ٍة واضح ٍة يف العالم ّ نبيلة الخطيب ،ومها العتوم ،وراشد عيىس ،وناصر شبانة،
وسعيد يعقوب ،وعماد ّ نصار ،ومحمد مقدادي .ويرى الجرب أن شعراء القصيدة الكالسيكية وشعراء التفعيلة ّ تمكنوا من الثقايف املنحاز تجاوز العقبات التي فرضتها «مصادرات الوسط ّ
إىل قصيدة النرث منذ أواخر ثمانينيات القرن العشرين ،ممتدّ ين بالقصيدة تشكيلاً ً ً ً آفاق ْ حني يف وصورة وبنية ولغة إىل ٍ بدت ذات ٍ العيص البعيد .وهو ما يجعله يؤكد أن بإمكاننا النظر اليوم إىل ّ األردنّ بكثري من التفاؤل، يف الشعرية الحالة يف البادي التنوّع ٍ مطمئ ّنني إىل استعادة الشعر مكانته الالئقة يف الحياة األدبية عىل مستوى األمّ ة».
أما الشاعرة نبيلة الخطيب ،فتقول :إن «حديث الواقع
يختلف عن حديث التاريخ ،وإن كانت العالقة بينهما جذرًا وساقا ،أو ً ً وفرعا ،أو ً ً فرعا وثم ًرا» .وتضيف أن هذا ْ يصدُ ُق ساقا عىل األردن؛ «ذلك أن هذا البلد م ّر ّ بخط ال عوج فيه ،وال مفارقات كبرية ،بحكم «دكتاتورية» موقعه الجغرايف الذي فرض عليه ً نمطا متشابهًا من األحداث واملواقف ،فإذا نظرنا إىل مصطفى وهبي التل (عرار) نراه امتدادًا لشعراء النهضة يف ديار الشام يف وجه االستعمار ،حتى ّ شكل ِّ مؤثرة يف الواقع مدرسة ما زالت
الحديث ،وإن دخل عىل الشعر بعض االستحداث الفني».
وألن الــشع ــر األردنـ ــي هو ابنُ
واقعه بالضرورة ،كما تؤكد الخطيب ،فإنه ال يستطيع أن
نبيلة الخطيب
ينسلخ
من
لحم
عروبته وفلسطينه وقدسه
من الكرامة مفقود ،وعدم وصول الشاعر إىل مستوى تطلعات وحاجيات الفرد
العادي وال حتى املثقف ،فكانت املسافة بني الشاعر والناس بائنة ،بل هي تزداد بينونة! هذا هو املأزق الحقيقي الذي يواجه
الشعر ويجعله ينحسر حتى يكاد يغلق عىل نفسه األبواب،
رغبًا ورهبًا؛ إذ ال ينفصل واقع الشعر العربي اليوم عن الواقع املتشظي».
مئات الشعراء وآالف األدعياء
أما الشاعر والناقد واألكاديمي ناصر شبانة فال يرتدّد
ُّ «تغص اآلن بعشرات يف القول :إن الساحة األدبية يف األردن
الشعراء ومئات األدعياء ،الذين يطلق عليهم «شعراء الفجأة»
53
ُ تمتئل الساحة ويظهرون كالفطر عىل املواقع اإللكرتونية ،كما
باملجاميع الشعرية ،وتشهد إقامة األمسيات والفعاليات ِ غائب عن الساحة ،فـبات سنويًّا ،لكن النقد يبدو غائبًا أو شبه ٍ والصفحات اإللكرتونيةِ ،يتسيّدون العالقات العامّ ة أبطال ِ ِ
بمشاريعهم املشهد ،وانزوى الشعراءُ الحقيقيون املنشغلون ِ الظل ُّ ِّ ً ترفعً ا الشعريةِ الحقيقية إىل ونشدانا للسالم ،يف حالةٍ ُ نعرف كيف وال متى ستنتهي». غرائبية ال
ويعود شبانة إىل الوراء ليبني أن عنوان املرحلة هو «عقود
متتالية من الشعر والهزائم» ،فلو عدنا بذاكرتنا خمسني عامً ا
إىل الوراء ،وتأملنا املشهد الشعري يف األردن، ُ أطالل يقف عىل لوجدناه بكائيًّا بامتياز، ِ َ ُ اللحظة الراهنة، يتأمل األمجا ِد الغابرة، يعقدُ مقارناتِه املكرورة ،ويـ ـعـ ـي ــدُ تقي ــيمَ
ـوب رهـ ــان ِت ــه الخاسرة ،كلما ارتفعَ مـ ـن ـسـ ـ ُ حاصرتـ ــه الخي ـبـ ُـة مــع كــلِّ ْ األمل ل ــديـ ــه ِ هزيم ٍة جديدة» .ويستنتج شبانة من ذلك
الشعر يف األردن «أنْ أن قد َر ِ َّ يظل سياسيًّا بامتياز ،وأنْ َّ غرب يظل يرنو بعيو ِنه إىل ِ النهر ،حيث البوصلة؛
ناصر شبانة
ملف العدد
وكثري من األلم» .ويربط بقليل من اليقني، ليعيدَ إنتاجَ الواقع، ٍ ٍ سقوط ما ّ عصابات تبقى من فلسطنيَ يف أيدي شبانة بني ِ ِ
العرب –ومنهم الجوالن وسيناء ،وبني عجز وسقوط اليهود، ِ ِ ِ األردنيون -عن التح ُّرر سوى عىل مستوى القصيد ِة والشعر، َ شكلها، جنبات القصيدة ،ويغيرِّ ون «فراح الشعراءُ يوسِّ عون ِ َّ غري ويتخلصون من قوافيها ،وأنظم ِتها القديمة ،يف رد ِة فعل ِ ٍ هزائم السياسيني والعسكريني عىل السواء» .ويلفت واعي ٍة عىل ِ
أفخاخ الثنائيات ً إمنيعم ،فإنّ ووفقا ملا يراه الشاعر واألكاديمي خلدون ِ
ثمة مسارات ورؤى ومشارب متنوعة تحكم ذهنية منتج
النص الشعري ،لم تنجُ من «أفخاخ الثنائيات» التي حكمت
الشعر العربي الحديث ،بني مسرب التقليد واالتباع مثلما
الشاعر الذاتية والجمعية، انكسارات األردين صوّر إىل أن الشعر ِ ّ ِ
هو يف نصوص زهري أبو شايب ومحمد سمحان وحيدر
بقادر عىل تزييف وعيه ،أو الخروج من عباءة الواقع، كان ٍ ْ حتى غدا تيسري سبول بوضع ٍّ الرفض حد لحياتِه نموذجً ا لحال ِة ِ
واإلبداع مثلما هو يف نصوص زياد العناين ومحمد العامري
العربي عىل الخيبة واالنكسار والهزيمة ،وما فقد «نشأ الشاع ُر ُّ ُ يعيشها الشاعر». والهزيم ِة التي
الحقب الشعرية يف األردن؛ الثمانينيات أغنى وتمثل حقبة ِ ِ َ ّ ّ ْ ف من جهة ،وبات متعلم والدة شهدت ألنها جيل شعريٍّ ومثق ٍ ٍ ٍ سيايس وحصانة ضدّ أنواع الوهم التي سقط فيها لديه وعي ٌّ ُ باألمل الكاذب ،وبات الشعراء السابقون ،فلم يعد ينخدع ِ الواقع عىل سوداويَّته وكآبته ،ومن هؤالء مثلاً : أقرب إىل فهم َ ِ زهري أبو شايب ،وعبدالله رضوان ،وطاهر رياض ،ويوسف عبدالعزيز ،وحبيب الزيودي ،وعمر شبانة ،وجريس سماوي،
54
والعبثية واللو ِذ باملرأة ،والشكوى والتذمر.
وراشد عيىس ،وأحمد الخطيب ،وعمر أبو الهيجاء ،ومحمد
سالم جميعان.
الشباب ويف التسعينيات بزغ نجمُ جيل جديدٍ من الشعراءِ ِ ٍ جماعات تشكيل أُطلق عليهم «شعراء التسعينيات» مالوا إىل ٍ ِ ُ تحمل طابعً ا شلليًّا؛ كجماعة النوارس ،وجماعة «سني» أدبية
الفت إىل «الصعلكة طابع األدبية وغريهما ،كما جنحوا يف ٍ ٍ ُّ شعرهم الذي مال إىل الحزن والتسكع» ،فكان لهذا أث ٌر يف ِ
محمود -مع اختالف الرؤى -وغريهم من جهة ،والتجريب وراشد عيىس من جهة أخرى .غري أن ما رسخه منتج النص
الشعري يف األردن دار يف «فلك االتباعية» ،فنأى الشع ُر كما إمنيعم ،عن كونه ًّ نصا إبداعيًّا تجاوزيًّا يف الرؤى« ،وإن يقول ِ
كانت مشاربه متنوعة بني التقاليد املوروثة وفق معجميات األمكنة واألزمنة للنص املن َتج عىل مقاس السلطة األدبية ّ واملثقفة لتطور والنقدية ،وتوجيه الذائقة القرائية امللهمة إمنيعم عند تجارب تقاليد القصيدة الغربية» .ويتوقف ِ ً «مخضعة انماز أصحابُها يف تقديم مشاريع متفردة، َ املوروث لسلطة التساؤل والتجاوز واملغايرة»؛ لتكون بعض
املجموعات الشعرية مشاريع رؤيوية ألصحابها ،من مثل
«شمس قليلة» لزياد العناين ،و«ممحاة العطر» ملحمد العامري ،و«ما أقل حبيبتي» لراشد عيىس.
وهو يرى أن الشعر يف األردن استطاع أن يحظى بمكانة الئقة -عىل ّ قلة جمهوره -ذلك أن الرواية تحديدً ا «تحتل
املساحة األوفر حضورًا ومقروئية» ،إضافة إىل دور الحراك ً خالفا ملا كان عليه املسرحي يف تراجع حالة التلقي الشعري، األمر يف عقود سابقة ،غري أن الشعر
ما زال يشكل مرجعية الذائقة
موسى حوامدة :تتكاتف الظروف والسياسات؛ لـقتل الشعر أو وأده ووضعه في مخزن الالمباالة
األدبية ،وثمة جمهور للشعر «قادر عىل تمييز ما يُطرح
بعيدً ا من شكالنية التواصل وأدواته».
وبشأن األسئلة والتساؤالت
ال ـجـ ــذري ــة الـمـلـق ــاة عـلـ ــى عـ ــات ــق
ناصر شبانة :المشهد األردني يغص اآلن بعشرات الشعراء ومئات ُّ األدعياء ،الذين يطلق عليهم «شعراء الفجأة» ويظهرون كالفطر على المواقع اإللكترونية
الشــاعر ،التي يَجْ هَد ويُجْ هَد يف
ّ تقصيها
بحـ ـس ـ ــب
إمنيعم، ِ
الثقايف يتعلـ ــق بالراهن ّ العربي والشعريّ ّ
مـا
ومآالته ،وانعكاسات «الربيع
العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
وتتبّعها،
فمن
أبرزها
العــرب ــي»
خلدون إمنيعم
الدم ــوي عـل ــى اإلنســان واألرض من جهــة ،وأسئلة الحرية
وتحديات صعبة ،فعىل الرغم من بروز كثري من الشعراء
واملواطنة ،ومحاوالت تأسيس جذر ديمقراطي ناهض يطمح
اللغة وجمالية املعنى ،فإن هناك كثريًا من التحديات التي ً عائقا يف طريقهم ،وأهمها غياب الفعاليات الثقافية، تقف
والهوية والذات والكينونة من جه ــة أخرى ،غي ــر أن أكرث هذه األسئلة إلح ــاحً ــا -م ـ ــا يــشكــل حالـ ـ ًـة تع ــالقية -سؤال املدنية إىل النجوز من خالل حوارات فكرية رصينة مع املوروث العربي
وراهنه من تحديات معاصرة من دون إغفال حالة االشتباك
الشباب الذين يمتازون بروحهم الثقافية العالية ،وسالسة
وعدم تشجيعهم أو االهتمام بهم؛ بسبب قلة املوارد املالية املخصصة لدعم الساحة الثقافية». ّ وتلخص أبو خالد األسئلة التي تواجه الشاعر األردين
إمنيعم أن تبوّؤ الشعر يف األردن مع الثقافات الوافدة .ويؤكد ِ ً مكانة الئقة ال ينفي كونه عالقا يف مآزق تتعلق ببنية النص
بقولها :إنها «تنبع من منطلقات قصائده ،وأهم
الشعرية لدى األجيال الشعرية املتأخرة ،إضافة إىل افتقار ً حديثا للمحموالت كثري من املجموعات الشعرية الصادرة
بهم» .وتق ّر أن غياب االهتمام قاد بعض
ّ وتشكله؛ لهيمنة التقليد وافتقاد الخربة وآليات تشكيله
الثقافية والفكرية والفلسفية؛ إذ «يتوهم كثريون أن النص
الشعري رهن املفردة والصورة املبتورتني عن سياقاتهما ،لتقرأ ًّ نصا يفتقد ألدىن مقومات شعريته». وتقول الشاعرة الشابة رنا أبو خالد :إن األردن خ ّرج جيلاً
من الشعراء املميزين« ،ما زلنا نذكرهم حتى يومنا هذا، وتربّينا عىل قصائدهم ودرسناها يف املناهج؛ أمثال الشاعر
مصطفى وهبي التل (عرار) .أما اآلن ،فيعيش الشعر واقعً ا
املحاور التي تتحدث عنها ،وطبيعة ونوعية ّ يفضلها ،والشعراء الذين يتأثر الكتب التي الشعراء إىل اتباع طرق «تحقق لهم انتشارًا ّ وتمكنهم من إيصال كتاباتهم بطرق أوسع
حديثة؛ إذ أصبحت مواقع التواصل ً مالذا لهم ،لتفيض أقالمهم االجتماعي بمواهب مدفونة نتعرف عليها من
خالل شاشة صغرية».
رنا أبو خالد
55
إصرار على تبخيس الشعر وتحطيمه أوضح الشاع ُر موىس حوامدة أن الشعر يف األردن «ال يمكن عزله عن محيطه
العربي» ،وأن حاله يف األردن كحاله يف بقية أقطار الوطن العربي ،فـ«ما زالت
الثقافة العربية رغم محاوالت التفتيت والتقسيم والتجزئة متماسكة ًّ جدا ،وما زالت كذلك تعاين األمراض واملشاكل نفسها». ً ويضيف حوامدة أن هناك تجارب متعددة وأصواتا متفاوتة« ،سواء يف
قصيدة النرث أو التفعيلة أو العمودي ،وحتى يف الشعر النبطي ،وبالرغم من ذلك تتكاتف الظروف والسياسات؛ لـقتل الشعر أو وأده ووضعه يف مخزن الالمباالة،
حتى إن النقاد ال يتورعون عن تكرار مقولة جابر عصفور« :هذا زمن الرواية»، محاص ً رة القصيدة فتشعر كأن هناك «سياسة عربية» ملسح الشعر من االهتمام، ِ لتحويلها إىل نرث وسرد ،والتخليّ حتى عن ضرورة الشعر وأهميته وقيمته التي ال ترتقي لها بقية الفنون».
موسى حوامدة
ونتيجة لذلك ،بحسب حوامدة ،بدأ عدد كبري من الشعراء «يستجيبون للضغوط ،فيكتبون السرد ،وصار
عدد من النقاد يتنصلون من مهام النقد ،ويقولون :إنهم «نقاد رواية فقط» ،وباتت دور النشر ال تطبع الشعر،
حتى القراء صاروا يعزفون عنه لذرائع مختلفة ،فصار الشاعر أشبه بـ«اليتيم عىل موائد اللئام» ،ومَ ن يكتب الشعر اليوم كمن يحب بال أمل»! ويعتقد حوامدة أن هناك إصرارًا عىل «تبخيس الشعر وتحطيمه ،وإقامة مسابقات تافهة تجعل الشاعر يلهث خلف جوائز وبرامج تهني الشعر أكرث مما تخدمه .وعىل الرغم من ذلك ما
زلنا نكتب كأننا غرقى ،نتشبث بالحياة وال نريد موت القصيدة».
ملف العدد
ِ راهن الشعر في الخليج العربي
جعفر حسن ناقد بحريني
قبل أن ندخل في النظر إلى راهن الشعر العربي في الخليجُ ،ترى هل لنا أن نعرج
على تساؤل يعبر عن ظاهرة ربما تشمل المشهديات األدبية في دول الخليج من دون
56
استثناء ،وذلك من خالل ما نشهده من تحول بعض الشعراء إلى كتابة نصوص سردية
من القصة القصيرة إلى الرواية ،ولعل بعض المتابعين يمكن له أن يشاركنا التوجس من تضاؤل دور الشاعر واختزاله في الشاعر النجم ،الذي يهيمن حضوره على معظم
االحتفاليات داخل وخارج هذه الدول ،ومن ثم بقاء الشعراء في الهامش المتاح. ولعل من الصعوبات التي تواجه الشاعر يف الصحافة الثقافية مثلاً ،عدم تخصيص نقاد للنظر إىل النصوص،
واالكتفاء بنشر نقد انطباعي ،إضافة إىل تلك املشكالت التي تطرأ من ناحية صعوبة طباعة دواوين الشعر؛ فالناشرون عادة ما يفضلون الرواية؛ ذلك ألن لها قابلية للتسلع ،فعىل الرغم من كل الضغوط التي تمارس عىل الشعر فإنه يظل
يأبى التحول إىل سلعة ،عرب انتشار ما بات يعرف بظاهرة
الشعرية الطارئة يف الدعاية واإلعالم .فهل نحن أمام ظاهرة يمكن ان تهمش الشعر والشعراء؟ الشعرية العربية يف الخليج
إن أكرث املقاربات للشعر يف الخليج يف شكل عام تتعلق
باللغة من جهة ،وتلك األشكال التي تظهر فيها الشعرية
العربية يف الخليج من جهة أخرى .فمن حيث اللغة نجد الشعرية تعاين االنقسام نفسه بني العامية والفصحى، ولعل كثريًا من النقاد يبعدون العامية من النقد األدبي،
ويمكن تلمس أهميتها يف ظهورها من خالل األشكال الفنية العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
املتعددة ،ومنها الشعر ً تراثا ومعاصرة ،فمعظم أغانينا تكتب
بالعاميات السائدة ،ولعل التعدد الكامن يف اللهجات العامية
ميزة خاصة كانت قديمً ا مقصورة عىل القبائل العربية...
ويتمظهر الشعر الفصيح يف ثالثة أشكال ،وتخضع إىل ذلك َ التمايز بني الشكل واملضمون ،فيغلب املضمونُ الشكل يف معظم قصائد العمود سوى حاالت يمكن ملسها؛ ألن فيها ما
قصيدة التفعيلة وتحدها .ولعل كثريًا ممن كتب التفعيلة
كان بشكل ما يكتب العمود ولو بشكل تجريبي .وقد خلط
الشعراء يف الخليج بني الشكلني يف إنتاجهم للدواوين (العمودي والتفعيلة) حتى إنهم أدخلوا العامية يف إنتاج
قصيدة التفعيلة .وليس عودة بعض املساهمني يف كتابة
قصيدة التفعيلة إىل العمود كما فعلت (نازك) وغريها من
النماذج عندنا يف الخليج إال دليل كما يرى بعض النقاد عىل
يل الكلمات؛ لتناسب بنيته ،وهو ما ورثته يفرضه اإليقاع عىل ّ الشعرية العربية من األصول الغابرة للشعر العربي ،وبذلك ً مربوطا بخيط األغراض الشعرية. يظل العمود يف معظمه
العامّ «القافية» ،التي ظلت تشتغل داخل قصيدة التفعيلة؛
ناحية بناء الجملة الشعرية والصور والتشبيهات ،والخروج
القانون عىل القصيدة.
وأقل القليل منه ما حاول اإلفالت من محاكاة القديم من
إىل تقنيات جديدة.
جيل يف اندفاعة وتظهر لنا قصيدة التفعيلة بشكل ّ الشعر العربي نحو تفجري بنية العمود ،وتلقف مكوناته التي اس ُتخدم بعضها بطريقة تكرار تفعيلة واحدة وعدم االلتزام بالتشطري العمودي ،ثم اندفع شعراء التفعيلة إىل تلك
الحال التي قامت باستخدام التفاعيل ضمن قوانني االنتقال من تفعيلة إىل أخرى.
تلك الدائرية الحاكمة للشعرية العربية كما تظهر يف قانونها لتحيلها إىل العمود من دون تفطن بعض كتابها لخطورة ذلك
يف اتساع األفق
كثريًا ما يعتقد بعض املتابعني أن التفعيلة كانت هي
الناتج الوحيد من تفتت عمود الشعر ،ولعله يغفل قصيدة ً محايثا يف النرث التي نشأت إىل جوارها بشكل يكاد يكون الخليج كنماذج مبكرة ،ولعلنا نجد تيارًا من الشعراء يتبنى
قصيدة النرث ويكتب فيها ،بينما جرب بعض كبار الشعراء
ويبدو أن شعر التفعيلة لقي مقاومة يف كل البالد
يف الخليج كتابتها .وقد خص بعض األدباء قصيدة النرث
الجديدة التي كانت بداياتها مع نهاية الستينيات يف الخليج
التفعيلة من صراعات عندنا ،وقد وُجِّ ه لها كثري من النقد،
العربية ،وقاومه املؤيدون لعمود الشعر يف وجه الهبة العربي ،وهي لحظة الحقة بانبثاق قصيدة التفعيلة يف الدول العربية ،وقد ال يعتدّ كثريًا باآلباء املؤسسني لها؛ مثل:
(السياب ونازك ...وغريهما) عىل الرغم من تقديمهم للنماذج األوىل التي صارت تحتذى ،وكثريًا ما اتهمت قصيدة التفعيلة
يف الخليج كما يف الوطن العربي عامة بالغموض ،وقد دارت معارك واسعة يف هذا الجانب ،وأُهدر فيه حرب كثري .ولعل ً بعضا اعتقد بنوع من الرابطة املقدسة بني قداسة لغة القرآن
(العربية) وبني قصيدة العمود ،وكما يبدو للجميع فبعض قصائد العمود كانت غري مقدسة ،بل بعضها كان يعرب عن
نزق أرعن يف وقته ،وقد اتهم شعراء قصيدة التفعيلة بالعجز عن كتابة قصيدة العمود وهو ما لم يكن يف أغلبه صحيحً ا
حتى لدينا يف الخليج.
بديوان بأكمله .وواجهت قصيدة النرث ما واجهته قصيدة وعاب بعض املتخصصني قصيدة النرث ألنها بال نموذج ترجع
إليه ،وتبدو مسألة النموذج ما زالت تحت البحث والتقليب، فيقول أنصار قصيدة النرث بأنهم يكتبون نماذجهم التي تفرضها عليهم حساسيتهم ،كما أنهم يقفون ً أيضا ضد
النموذج املعمم. لاً وتبدو قصيدة النرث أنها أخذت مجا ال بأس به من
خطوط اإلنتاج يف الخليج العربي ،وإن لم ترث مسألة األسبقية فيها بعد ً ً وتمحيصا ،وهي نزعة فكرية عندنا يف البحث بحثا عن أصول للنصوص الجديدة وكأنها محاولة لتأصيلها .ويبدو ما هو متأصل يف الثقافة اليوم سيغدو بحكم الزمن جزءً ا أصيلاً منها .ووجدنا بعض الشعراء يكتبون قصيدة النرث منذ
بداياتهم التي كانت متساوقة مع انبثاق قصيدة التفعيلة،
وقصيدة التفعيلة عندنا ما زالت تسمى يف بعض املناهج
ومن املهم اإلشارة إىل أن كل تلك األشكال التي انبثقت يف
يف بعض الكتابات النقدية .ويمكن بيشء من التفطن إدراك ً مكونا جوهريًّا من أن قصيدة التفعيلة قد ورثت عن العمود
الخليج العربي؛ ما يجعلنا دائمً ا ننتظر الجديد .ونعتقد بأن
عىل إقفال قصيدة التفعيلة وعودة بعض منتجها للعمود
كنه التغيري الحاصل ،ومن ثم سيص ّر عىل استخدام مقايسته
بالقصيدة الحديثة ،وهي تسمية خاطئة ما زلنا نقع عليها
مكوناته هو القافية ،وقد وجد بعض النقاد لدينا أنها تعمل
بحكم تلك القافية التي تقفل الصورة التي تنمو داخل
57
فن الشعر قد أظهرت نقادها يف العربية بشكل سريع .من ناحية ،يبدو يل أن هناك ميلاً دائمً ا للتجديد عند شعرائنا يف من ال يرى الجديد وهو ينبثق يف لحظته الراهنة سيفوته إدراك
القديمة التي ستحيله إىل الفشل.
ملف العدد
زمن مختلف للشعر السوداني محمد جميل أحمد ناقد وشاعر سوداني
ال يعكس الحديث عن مأزق الشعر وندرته ،أو أزمته ،إال تصورًا جزئيًّا مستقرًّا على
منعكسا من تمثالت خاصة هي أقرب إلى التأويل الثقافي منها هوية مفترضة ،أو ً
58
إلى حقيقة الشعر كإبداع متصل بالحياة .والحال أن تلك األزمة ربما تتعين ،فقط، إذا ما نظرنا إلى الشعر كتعبير متعارف عليه من خالل نظم إدراك نخبوية! أما
الشعر في الحياة ،كحاجة ،فهو موجود أكثر منه ،بكثير ،من كونه حيازة متوهمة لنخبة ما ،تحدد هويته بمقاييسها.
الشعر متصل بالحياة .وتجلياته املتلبسة بالفنون األخرى
كالغناء والتشكيل والسرد هي ما يكاد يخرجه من دائرة
األزمة التي يتصورها بعض املهتمني عن مطلق معناه.
الشعر ذاتها .إن حالة االعتالل اللغوي العامة ،عربيًا( ،ليس بالنسبة لقراء الشعر فحسب ،بل للشعراء كذلك) هي التي
تساهم بقوة يف تلك اإلزاحة املستمرة للشعر إىل الهامش.
اتصال الشعر بحاجة البشر ،أكرب من الظن بقبول
ثمة اغرتاب يف اللغة ينزاح عىل الكتابة الشعرية العربية
يغيب تفصيل من الشعر يراه بعض املتابعني مقياسً ا للشعر
اغرتاب ال يغيّب الشعر .فالشعر ،بوصفه حاجة وصريورة،
فكرة أفوله أو انسحابه من زحمة الحياة املعاصرة .ربما وهويته ،فيزعم وهم االختفاء واألفول.
غياب الشعر عربيًّا ،كمدونة ثقافية مشغولة ،وانكفائها
عن تسييل حالة عامة للشعر تناظر حيويته كأحد خطوط
اإلبداع األساسية (كما هي الحال يف اللغات العاملية الحية) إنما هو يف الحقيقة انعكاس لغياب سوية ثقافية ،أكرث منها إبداعية .فاإلبداع الشعري جزء من الحياة ذاتها ،لكن
الحاالت الحيوية للشعر تستدعي بالضرورة عالقة للشعر باللغة ترتبط به وجودًا وعدمً ا .فالشعر إذ يظل كام ًنا بني
الكلمات (وليس يف الكلمات) يظل يف حاجة إىل تسوية ً امتالكا ملادة لغوية؛ إىل عالقة ما تجعل من امتالك اللغة العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
املعاصرة ،فيغيبها عن املشهد الثقايف العام ،لكنه بكل تأكيد يتشكل باستمرار يف خامات متنوعة؛ من الغناء إىل السرد إىل األناشيد حتى عبارات الدعاية واإلعالن ،ففي كل ذلك ثمة وجود
قوي للشعر .وفيما يعزو بعض املهتمني انسحاب الشعر من ً اتساقا مع رعويات الحياة اإلنسانية الحياة الحديثة؛ ألنه األكرث
األوىل وبراءتها ـ احتجاجً ا عىل صخب الحداثة املعاصرة وتذررها ً ً مسوغا يف ذاته؛ فإن مسوغا بذلك ما ليس وقسوتها املادية ـ
قوة الشعر تكمن أساسً ا يف قدرته كطاقة رخوة ـ لكنها األكرث شراسة يف مواجهة قسوة الحياة ـ إن قوة الشعر هنا هي قوة
املجاز ذاته الذي يفجر اللغة ويعيد إليها الشعر يف كل منعطف من منعطفات الدهشة ،والبداهة املتجددة مع الحياة.
مأمون التلب
أنس مصطفى
تجربة الحركة الشعرية ً يف الخرطوم ،أحدث شعراء شباب حراكا جماهرييًّا مذهلاً للشعر ،اقرتبوا به كثريًا من حياة الناس ،وجالوا عىل الساحات ،واألسواق ،والشوارع ،وامليادين ،عرب تجربة
ملهمة ،خلصت الشعر من العزلة واالنكفاء اللذين فرضتهما سياسات عزل طاردة أكرث من ربع قرن تقريبًا .يقول الشاعر
الشاب مأمون التلب صاحب فكرة الحركة الشعرية« :يوم ٌ حدث عظيم ،بالنسبة يل عىل الثالثاء 28يوليو 2015م ،حَ دَ ث ً ّ ُ حركة رأيت وتتلخص العظمة يف انعدام التخطيط: األقل.
ِّ أخطط لها ،كما تفعل األحزاب السياسيّة الفاشلة ذلك: لم َّ ُ تخطط وتخطط وتنىس ،تمامً ا ،أن العالم ليس خطة! لقد
نجالء التوم
حاتم الكناني
وبصراحة لقد سئمنا من هذه الصورة الفاترة ،فبتلك الصورة يخدم الشاعر حركة أخرى ّ مكارة ،سلبته قيمته واعتداده ً مساحة للتعبري عن الحريّة بخياله .إننا ال نريد أن نخلق ً مساحة لحريّة التأمّ ل يف الحياة السياسيّة ،نريد أن نصنع والكون» .ويعلق عىل الرواج الذي لقيه النشاط الشعري
املكثف يف تلك الساحة بفعل جهود الحركة الشعرية« :لقد أصبحت «أتنيه» ساحة مشهورة عامليًّا ،باملناسبة ،ومحليًّا كذلك .بمج ّرد أن تقول :أتنيه ،فإن الناس يفهمون عما تتحدّ ث .لذلك فإن كل مبادرة وفعاليّة تقام يف تلك الساحة مكتوب لها النجاح ،وذلك ّ يمثل جزءً ا أصيلاً لنجاح فعاليّة ٌ تدشني الحركة الشعريّة».
َن َشأت هذه الحركة اليوم وحدها ،نبتت عىل األرض كما ً ُ ُ خططا وال تنظيمً ا كنت أص ُّر عىل أنني لن أضع تنبت الغابة.
لـ«الدياسبورا» السودانية ،وشكلت تلك الحالة السودانية
الشعريّة ،وقد كانت النتيجة مذهلة :لقد تكوّنت الفعاليّة
خارج السودان) ما يمكن أن يعكس هوية جديدة للشعر
ُ داع للقاءـ مع انطالقة الحركة لفعالية اليوم ـ وما كنت سوى ٍ
من تلقاء نفسها ،تمامً ا كما يحدث للنبات منذ قرون .لقد بادر الناس بالقراءة حتى ُذهلت!» لقد لقي الحراك الشعري الذي دشنه الشعراء الشباب من أمثال( :مأمون التلب،
خارجيًّا ،اغرتب الشعر السوداين عىل جغرافيا واسعة
الخاصة واالستثنائية لشعراء سودانيني معاصرين (جلهم السوداين؛ هوية غنية بالتجارب التي يمكنها أن تؤشر عىل
زمن مختلف للشعر السوداين يف الخارج.
بني زمنني ،ال تتساوى القوة بالفعل حيال جدلية
الخفاء والتجيل التي طبعت الشعر كمدونة تعبريية يف
وأنس مصطفى ،ونجالء التوم ،وحاتم الكناين) يف ساحة مشهورة بالخرطوم تدعى «أتنيه» تفاعلاً كبريًا بلغ املئات من
أجناس اإلبداع ،عربيًّا ،فغياب الفعل الشعري ال يعني
الشعر للناس.
تعبريات أخرى.
املتابعني ،وبدا واضحً ا ،من خالل التفاعل الكبري مدى أهمية
لقد كانت تجربة الحركة الشعرية بعفويتها؛ لحظة
إدراك مباشر ألثر الشعر عىل الناس ،أدرك بها الشاعر مأمون
التلب س ّر الشعر وطاقته الخفية عىل البشر حني قارن تجربة
عام 2014م التي لم يتفاعل معها الناس كثريًا ،مع تجربة عام 2015م التي وجدت صدى وتفاعلاً كبريين بفضل قوة الشعر وتعبريه عن اإلنسان وتأمالته يف الكون والحياة.
يقول مأمون« :يف الفعاليّة املاضية ،كانت النصوص
املستثرية للتأمل قليلة ،بينما النصوص املستثرية للعاطفة
واالنفعال والشعور بفداحة واقع اليوم وبؤسه كثرية، النصوص ذات الطابع السيايس تستثري الناس بكل تأكيد...
59
غياب القوة الكامنة للشعر واملوازية ملمكنات وجوده يف
في الخرطوم ،أحدث شعراء شباب حرا ًكا كثيرا جماهيريا مذه للشعر ،اقتربوا به ًّ ً لاً من حياة الناس ،وجالوا على الساحات، واألسواق ،والشوارع ،والميادين ،عبر تجربة ملهمة ،خلصت الشعر من العزلة واالنكفاء اللذين فرضتهما سياسات تقريبا عزل طاردة أكثر من ربع قرن ً ملف العدد
سقطت سلطات الشاعر ولم يبق للشعر سوى نفسه رنا نجار بيروت
ّ تتبدل أحوال كثر الحديث عن تحوّالت تطال فنّ العرب األول وهو الشعر ،في وقت ّ يفضل العرب وأهواؤهم السياسية واالجتماعية .حُ كي عن أزمة لغة وتغريب من جيل
التعبير بلغة شكسبير ،ويهجر لغة ابن الرومي ،والمتنبي ،وعمر بن أبي ربيعة ،ونزار قباني، ومحمود درويش ،وسميح القاسم .هل الشعر الحديث اليوم في أزمة أم هي أزمة مجتمع
وحريات تنعكس على ثقافتنا وسلوكياتنا بصفة عامة ،كما يحلل الشاعر والكاتب والمخرج المسرحي يحيى جابر؟ في عصر الصورة والسينما ومواقع التواصل االجتماعي والصحافي
60
المواطن ،ماذا يعني هروب الشعراء إلى الرواية ،وانحسار القراء وعدم االهتمام بدواوين
مهمة يصدرها شعراء كبار وآخرون موهوبون؟ أم أننا نبالغ في وصفنا ما يعيشه الشعر
اليوم باألزمة ،وهي سيمفونية يجب أن تتوقف ،كما يقول الشاعر والكاتب فيديل سبيتي، على اعتبار أن «الجماهيرية لم تكن يومً ا معيارًا للشعر وال للنقد ،وأن الشعر اليوم هو المكان بد للشعر الذي ّ التعبيري األكثر جدوى من أي وقت مضى؟» لكن ال ّ يمثل اإليجابية والحياة والتحريض عليها أن يبقى .فهو حاجة الناس إلى التعبير والكالم ،وحاجتنا إلى الفرح والغناء
والمدح والذم والرفض والتعبير عن الواقع .الشعر سافر منذ سنوات في رحلة بعيدة ويم ّر بسحابة سوداء ،ال ّ بد أن يتخطاها ويخترع رسامين ألمنياتنا وأحالمنا وأوهامنا وحبنا للحياة. هنا شهادات لمجموعة من الشعراء اللبنانيين حول الشعر؛ راهنه وأحواله.
العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
يوسف بزي :شعراء بال مكافأة وال نجومية وال جمهور حتى وقت قريب ،كان الشعر يتبوأ مشهد الثقافة
العربية .كان هو «وجدان» هذه الثقافة ولسانها .هو الناطق بها ،هو لغتها وذاكرتها ومادتها .كان الشعر برئ الثقافة ً الحقا ،هو التحوالت العميقة العربية وموردها .ما حدث
يف ثقافة الفرد العربي ،ويف مصادر هذه الثقافة .تحوالت يف القيم والذائقة كما يف وسائط نشر املعرفة ،ووسائل
التبادل والتواصل .حدثت تبدالت جذرية يف معنى «القراءة» وأدواتها .باختصار ،تالقى نزوع القصيدة «الحديثة» نحو
النرث ،مع حاجة مجتمعاتنا املضطربة إىل السرد .جاءت الرواية جوابًا موضوع ًّيا ،تلبية تلقائية للتغري الذي أصاب
الكتابة العربية .ال نتحدث عن «قيمة» الشعر ،بل عن قابلية القراءة ،وعن القارئ الذي بات يف مكان آخر.
أما فيما يتعلق بالشعراء الشباب اللبنانيني ،فهم يف
معظمهم شعراء الحرية .يحاولون الفكاك من إرث السابقني. يصارعون ذاكرة شعرية مهيبة ،من ناحية ،وزم ًنا تأبى
يوسف بزي :الشعراء اللبنانيون الشباب في معظمهم شعراء الحيرة هذه الوسائط ذاتها تذهب شي ًئا فشي ًئا نحو املايض واالنصرام.
فوضاه أن تنتظم يف قصيدة ،من ناحية ثانية .واألصعب، أنهم أتوا يف وقت ال يأبه بالشعر أصلاً ؛ لذا هم شعراء بال
لتحوالت عميقة .يمكن القول بأن ثمة «سلطة» سقطت،
التداول والسجال والنقد .وحول القضايا املطروحة اليوم يف
املنابر السياسية ،سلطة الشاعر نفسها ،سلطة النقد ذاتها...
مكافأة وال نجومية وال جمهور ،محرومون من حيوية الشعر اللبناين ،لست أدري ما املقصود هنا بكلمة «قضايا»،
فالكتابة الشعرية مفتوحة عىل كل ما يتصل بالوضع اإلنساين ومأسوية الوجود .لكن يف البحث عن خاصية ما يف كتابات الجيل الجديد ،قد نلحظ هذا النزوع املتجدد نحو األنا
املعزولة ،التي تخاصم وقائع العالم وسريورته.
لكن الشعر اليوم أصبح أكرث يتمً ا ،فال جوائز مرموقة
تحفز الشعراء ،وال مطبوعة مهمة تهتم به ،وال نقاد مهمومني بنقد الشعر؟ الزم «ازدهار» الشعر العربي
الحديث ،انتشار الصحافة الورقية وتقنية الطبع والنشر
(الجرائد ،واملجالت ،والكتب ،)...كما الزمه املنرب املسرحي واملهرجاين (األمسيات ،والندوات ،واالحتفاالت الجماهريية).
معنى القراءة وأدواتها ،ومعنى النشر والتداول ،تعرضا
سلطة الصحيفة الثقافية ،سلطة املجلة النخبوية ،سلطة
61
كلها سلطات فقدت صالحيتها .يف رأيي ،كل هذا يمنح
الشعر عزلة إضافية ،نقاء أكرث ،غربة أشد ،حرية أكرب، ونرثية أرحب .لم يبق للشعر سوى نفسه .وهذا قد يكون مكسبًا عظيمً ا.
يحيى جابر :أزمة حريات
إنه مأزق عاملي عمومً ا .فالشعر موجود أكرث اليوم يف
ً وخصوصا يف الصورة والحوار الذيك السينما ويف الرواية، واللقطة الذكية .الشعر تغيرّ مع التحوالت السوسيولوجية
والسياسية والثقافية ،فالشاعر لم يعد وزي ًرا لإلعالم كما كان يف السابق ،وال مح ّر ً ضا وال رسولاً .فدور الشاعر وأنواع الشعر ،هي مسائل وهمية وخرافات .فتلك الصفات واملواصفات واألسماء الضخمة مثل شاعر الثورة ،أو شاعر
ملف العدد
الفلسفة ،أو شاعر البياض ،أو الشاعر الوجودي ،كلها انتهت مع الثورة التقنية الرقمية .وأصبح هناك فيسبوك
وتويرت وفنون مفاهيمية وموسيقا الراب وغريها ،وكلها يكمن فيها الشعر بشكل أو بآخر. الطموح إىل السلطة
كان الشاعر يعيش من بيع الدواوين واملهرجانات
واألمسيات التي يحييها ويلقي فيها قصائده .كان بمنزلة
رسول ،منجّ م ،متحدث باسم األمة ،أو املتحدث باسم الفرد
واألنا املتضخمة ...وهؤالء كلهم مثالهم األعىل املتنبي ،أي يحلمون بالسلطة والسلطة فقط بما يتضمنها املال .وهذه
السلطة إما أن تكون ثقافية وأقىص حدّ فيها أن ُيعينّ الشاعر مسؤولاً لقسم ثقايف يف صحيفة أو وزارة ،وإما أن تكون سلطة أيديولوجية؛ إذ يعينّ
ً متحدثا باسم الشاعر نفسه
الفقراء وعذاباتهم ،وإما أن تكون سلطة سياسية؛ أي يطمح الشاعر الذي يكون ً لبقا بهندسة الكالم برتؤس حزب ،أو متحدث باسم هذا الحزب ،أو متحدث باسم زعيم ما .وأكرب
62
مثال عىل ذلك الشاعر السوري أدونيس؛ ألنه يعدّ نفسه ّ منظ ًرا سياسيًّا فوق إرادة الشعوب املتنبي ،ويعينّ نفسه واألفراد .وحالة الشعراء هذه كوميدية بامتياز.
يحيى جابر :أزمة الشعر العربي تعكس أزمة مجتمعنا من النظام إلى السلوك اليومي أما القصيدة الشعرية فيمكننا القول :إنها بُرتت أو جُ رحت أو ُ ضربت يف السنوات األربعني األخرية ،وزاد
انكسارها مع ظهور وسائل تعبريية حديثة آخرها السوشيال
ميديا ومواقع التواصل االجتماعي التي كانت بمنزلة الضربة القاضية .وهنا يبقى فقط 5أسماء المعة من أربعني سنة
فيديل سبيتي :المحل التعبيري األكثر جدوى الشعر العربي ليس يف مأزق كما لم يكن يف أي وقت ،فهو وسيلة العرب
الوحيدة للتعبري عن مآزقهم وآرائهم فيها ،وتفنيدها ،ودفعها ،ورفعها ،والسري
بها ،أو مدحها ،أو ذمها .فكيف الحال يف هذه اآلونة من مآزق العرب الكثرية ّ ومغلب مشاعره عىل واقعه باملعنى واملتشعبة التي لن يفهمها إال شاعر ،أي متأمل التقليدي لتعريف الشعراء .بالتأكيد فإن الشعر العربي هو املحل التعبريي األكرث جدوى لقول ما ال يمكن قوله يف أي نوع من أنواع الفنون األخرى ،إال إذا كان
السؤال يتضمن جوابه؛ أي القصد بأن الشعر بال جمهور.
هنا أقول بأن السيمفونية الدارجة التي تقول بموت الشعر أو بانفضاض
الجمهور عنه يجب أن تتوقف إىل غري رجعة .فالشعر الحديث أو قصيدة النرث ،لم تكن منذ بداياتها جماهريية ،بل كانت محارَبة من مُ حبّي اإليقاع والقافية وبحور
فيديل سبيتي
الشعر والرتاث اآلفل .وقصيدة النرث أو الشعر الحديث لم تتوجه يومً ا إىل الجمهور إال إذا استثنينا بعض الشعراء الذين يكتبون أصلاً لجمهور متخيل حني يخطون قصيدتهم؛ كمحمود درويش ،ونزار قباين ،وبدر شاكر السياب ،ومظفر
النواب ،وغريهم قالئل .فالشعر الحديث نخبوي بطبعه وهو ال يطلب الشعبوية أو الجمهور أو التصفيق أو البيع؛ ألنه شعر رفض الجماعة ،وعاداتها ،وتقاليدها ،واملرسّ خ من كل ذلك ،إنه شعر قلب العالم إىل عالم آخر ال يحبذه الجمهور
وال يستسيغه ،بل يتهمه بالهرطقة.
العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
حتى اآلن ،بعد كل هذه الضربات املوجعة .فاملجالت واملالحق الثقافية العربية أنتجت مئات الشعراء ،لكنها لم ُتنتج حالة
وسلوكيات أسالفهم من الشعراء ،يف لباسهم ونمط عيشهم
عىل رغم ما أتت به مجالت الشعر املتخصصة التي ُعدّ ت
وهؤالء يكتبون عن الشعر ،ولكنهم يعجزون عن كتابة
شعرية مهمة باستثناء ما حصل يف بريوت ومصر .ويف لبنان بمنزلة ثورة يف القرن املايض ،إال أن الشاعر يف لبنان كان
دائمً ا تابعً ا بشكل عام للسلطة بغض النظر عن نوع السلطة
(وصاية سورية ،ثورة ،يمني ،حركة وطنية) .وأرى أن هذه
األزمة مسؤول عنها الشعراء أنفسهم واأليديولوجيات التي ّ تحكمت بهم وأنتجت دور نشرها ومؤسساتها الثقافية .وهنا
نقصد الحركات اليسارية والشيوعية والقومية والوطنية
حتى اإلسالمية.
لذا نحن اليوم نرى أن الشعراء الشباب يمارسون عادات
واملقاهي التي يرتادونها ،أما القصيدة فهي غري موجودة. قصائدهم.
باختصار أزمة الشعر العربي تعكس أزمة مجتمعنا من
النظام إىل السلوك اليومي .مجتمع ال يعرف أن يعبرّ ،وال كيف يهاجم سلطة ،وال كيف يثور وينجح يف ثورته ،وال كيف
يبني نظامً ا سياسيًّا .إنها أزمة حريات وشجاعة ،فالشاعر ابن
الرفض ،ولكن الـ «ال» لها ثمن وتحتاج إىل شجاعة ،ولكن الشجاعة مفقودة.
لوركا سبيتي :غياب النقد أول لو أردنا الحديث عن موضوعات الشعر ،أو ما قضايا الشعراء الشباب
اليوم ،سنتحدث عن كل األفكار التي قد تخطر ،وكل االنفعاالت التي قد تتجسد،
وكل الهموم اإلنسانية التي يستوي عندها جميع البشر عامة والشعراء خاصة؛ إذ ال يشء معني يتناوله الشعراء الشباب اليوم ،هي موضوعات أزلية أبدية تخص
الحياة واملوت وما بينهما ،لكل منهم طريقة يف التكلم عنها وتجسيدها بما يهوى،
63
بأسلوب يميزه من الكتاب اآلخرين .ولكن ،ال بد من اإلشارة إىل أن املالحظ أكرث ما
يكتب ،وليس جميعه ،له رائحة الواقع .ينقله بحقيقته من دون مواربة .ولنتخيل ما قد يكتبه هؤالء الذين يعيشون يف عالم دموي إن لم يكن قاتلاً فهو مقتول... منذ الجاهلية وصولاً إىل عصرنا هذا ال تزال املوضوعات ذاتها ...الحب ...العصبيات املتجسدة بمدح الفرد إىل مدح العشرية إىل مدح الوطن والزعيم. ...
لوركا سبيتي
عىل مستوى األفكار لم يرافق تطور الوعي والغايات تطور الوسائل ،فتغري شكل القصيدة من دون أن يتغيرّ
مضمونها ،وال يزال الشاعر يتغزل بمحبوبته بحسب لون شفتيها وشكل عينيها ،مسرتجعً ا صورة هارون الرشيد يف خياله وجواريه ،من دون أن ينفتح عىل بعد إنساين أبعد وأعمق .أما إن كان الشعر العربي بمأزق؟ فالشعر ليس بكيان
مجرد يك يقع يف أزمة خاصة ،هو نتاج الشعراء .وإن ابتعد الق ّراء عن الشعر فهذا مرده إىل عدم قدرة الشعراء عىل
مالمسة عصب الجمهور ودغدغة أحالمه عرب معانقة واقعه .وهذا ما ال تسمح به الرواية ،فطبيعة الرواية تفرض عىل الراوي االنطالق من الواقع ورسمه وتلوينه ،ما يجعلها جذابة لخيال القارئ الذي يبحث عن نفسه وموضوعاته وهمومه يف النص بعد أن ّ مل من «أنا» الشعراء التي يف األغلب ما تدور حوله القصائد بشكل مباشر أو غري مباشر ،يف هذا الزمن الذي انسحق فيه «أنا» الفرد يف الواقع وأصبح يبحث عن «أناه» عرب الخيال آملاً يف اسرتجاع بعض إنسانيته ،وهذا ما
تسمح به الرواية عرب فضائها األرحب واألوسع واملتحرر من «أنا» الكاتب. ثم إنني أرى يف هذه األيام أن األغنية ّ حلت محل قصيدة العصر القديم يف وجدان الناس ،بلحنها وأدائها وكلماتها،
حفظها الناس أكرث من القصائد بذاتها .واملشكلة الحقيقية للشعر يف وطننا ،هو غياب النقد الحقيقي؛ بسبب غياب املتخصصني يف النقد الشعري ،إذ إن أغلبية النقاد هم شعراء أو ك ّتاب أو مسؤولو صفحات ثقافية يف الصحف ،وهؤالء
يف األغلب يفتقدون الخلفية العلمية الخاصة بالنقد ،ليحل مكانها أهواؤهم ،ومصالحهم الشخصية ،ونظرتهم إىل
جودة الشعر ،وتقييمهم له.
ملف العدد
الشعر في السعودية: أسباب تدفع الشاعر إلى العزلة هدى الدغفق الرياض
ً خصوصا حين نتأمل المشهد الشعري في السعودية ،فإن أكثر من سبب يدفع الشعراء،
الجدد ،إلى اإلحباط ومن ثم االنكفاء على أنفسهم ،وإذا حدث لهم أن كسروا قشرة العزلة،
فإنهم سيكتفون بالتواصل مع دائرة ضيقة ًّ جدا من األصدقاء .لعل أول األسباب طغيان الرواية التي سرقت االهتمام تقريبًا من الجميع ،وانصراف عدد ال بأس به من غير كتاب السرد إلى كتابة
الرواية؛ مما أدى إلى هجرة نقاد الشعر إلى حقل الرواية ،طلبًا لألضواء ومزيد من االهتمام الذي
انحسر عنهم بانحسارها عن الشعراء .ومن األسباب أنه إذا حدث وجرى االهتمام بالشعر ،فإن
64
النوع الشعري محط االهتمام لن يكون سوى العمودي وفي أفضل األحوال شعر التفعيلة ،أما
قصيدة النثر فال أحد يفكر فيها .على أن الالمباالة وعدم االهتمام تطال الشعر بأنواعه.
ومن هنا انشغال بعض التجارب الشعرية الجديدة بالذهاب إلى مناطق معينة ،تصور فيها
عزلة الشاعر وممارسته العيش في أماكن مغلقة .سبب آخر يحبط الشعراء ،هو المستوى الثقافي المحدود لمن يدير دفة الثقافة ومؤسساتها؛ مما جعل ثقافة المجامالت والتحشيد
تتفشى ،من دون اعتبار ألي أي شيء آخر.
العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
غياب الشاعر الرمز
بسرعة ..كما قال الشاعر الفرنيس بول فالريي عن
يعتقد الشاعر جاسم الصحيح أن راهن
عبقرية الشاعر رامبو .الجماليات الشعرية ال يمكن
العربي؛ إذ يستحيل يف رأيه ،الفصل بني
والفوران والهذيان .الشعر هو عملية استكشاف
الشعر يف السعودية مرتبط براهن الشعر
أن تستقر عىل حال؛ ألن الشعر هو حال من القلق
ً «خصوصا يف ظل انبثاق وسائل التواصل املشهدين
مستمرة لجغرافيا الروح ،وكلما جاء جيل جديد
االجتماعي ،وثورة االتصاالت ،والتنسيق العام ملعارض الكتب يف العالم العربي ،فالتجارب
الشعرية والثقافية عمومًا مفتوحة بعضها عىل بعض بكل يسر وسهولة».
ويالحظ الصحيح أن أجيالاً جديدة من الشعراء صعدت
إىل مسرح الشعرية العربية يف معظم البلدان« ،وقد يكون
املشهد الشعري السعودي الجديد من أجمل املشاهد وإن خال
من فكرة الشاعر الرمز؛ ألن رمزية الشهرة لم تعد حاضرة يف عصر ما بعد الحداثة عرب كل املجاالت وليس الشعر فقط» .ويتطرق الصحيح إىل «مختارات
من الشعر السعودي الجديد» التي صدرت يف
«كتاب الفيصل» يف مارس املايض ،وكانت فكرة
اقرتحتها «الفيصل» عىل الشاعر زيك الصدير فقام بتنفيذها ،حول هذه املختارات يقول :يف
هذه املختارات اكتشفت عبقرية الشعراء الشباب، لكنني أرجو ألاّ تكون عبقرية عجولة ..أي ال تنطفئ
بمراكبه ومناظريه ،وأرىس عىل شواطئ الروح وحدَّق جاسم الصحيح
يف التضاريس البعيدة داخل أعماقه؛ استطاع أن يواصل االستكشافات التي بدأها أسالفه .هذا العمل
اإلبداعي يمثل مسؤولية كل موجة جديدة من الشعراء ،للخروج
من لحظتها الراهنة إىل املستقبل عرب مغامرة جامحة تضيف من خاللها مساحة جديدة من الكشف واالبتكار». الشعر عابر للعصور
ويرى الشاعر محمد عابس أن الشعر فن عابر
للعصور «وإن خفت ضوء االهتمام به بني فرتة وأخرى ألسباب متعددة منها :منافسة فنون أخرى،
واهتمام الناس بأشياء أخرى ،وانفتاح العالم عىل الفضائيات ووسائل التقنية ووسائل التواصل
االجتماعي ،وتطور أدوات الرتفيه ،ومن ناحية أخرى
سوء مناهج تعليم اللغة العربية وضعف النماذج
محمد عابس املختارة يف مواد األدب».
65
مقولة غياب النقد تدحضها الدراسات األكاديمية جنس أدبي عىل ال يثق الشاعر أحمد التيهاين كثريًا يف األقوال املعمّ مة التي تميل إىل تفضيل ٍ
جنسآخر ،ويرى ذلك «كالمً ا» إعالميًّا استهالكيًّا؛ «ذلك أنه –يف األغلب– يصدر عن املبدعني حساب ٍ لاً أنفسهم انتصارًا لألجناس األدبية التي يكتبونها» .وينتقد التيهاين املبدعني قائ « :يُفرتض لعقل املبدع أن يكون تفكريهمتجهًا نحو النص بوصفه ًّ جنسا أدبيًّا ،وهي نظرة متقدمة نصا ،ال نحو النص بوصفه ً
بمراحل عىل رجعية «التجنيس» التي تعيدنا إىل التصنيف اليوناين السابق ملا آل إليه اإلبداعاللغوي يف اللغات ّ كلها».
ويؤكد التيهاين عىل املكانة التي يحتلها الشعر قائلاً « :سيبقى الشعر املختلف واملميز بذاته ،ال
بالقواعد التي يضعها النقاد؛ لذلك يندر أن يتداخل الشعر مع غريه من األجناس األدبية ،فيمانجد ٌ «قول عاطفي يُقصد به التهوين ال غري؛ األجناس األخرى تتداخل رغم صرامة القواعد» ،مشريًا إىل أن القول بانحسار الشعر،
أحمد التيهاني
حجج بينة ،إضافة إىل أن يُبنى عىل إحصاءاتدقيقة؛ ألن القول بذلك ذلك أنه اليستند عىل معطيات واضحة ،وال يقوم عىل ٍ يناقض مسألة إشباع شكل من أشكال الجوع الجمايل الذي اليسده إال الشعر». ويلمح التيهاين إىل أن كل ما يقال عن انحسار الشعر ،وتمدد أجناس أخرى ،سيذوب حتمً ا« ،فالشعر يبقى حاض ًرا ،ويستمر متجددًا ،وليس ّ أدل عىل ذلك ممّ ا آلت إليه الشعرية العربية الحديثة،يف القصيدتني :اإليقاعية ،والنرثية ،عىل السواء ،من تطور سريع جدًّ ا ،مداه الزمني ال يتجاوزنصف
قرن» .ويف تصور التيهاين أنه« :ربما كانت عوامل التحول من شفاهية القصيدة ،إىل كتابيتها ،سببًا يف خلق وهمانحسار الشعر».
ويلفت إىل أن القول بغياب العمل النقدي املتعلق بالشعر ،تدحضه الدراساتاألكاديمية الغزيرة التي تشتغل بالشعر« ،ولو أننا أجرينا عملاً إحصائيًّا عن األجناس األدبية التياهتمت بها هذه الدراسات ،لوجدنا الغلبة للدراسات املتعلقة بالشعر».
ملف العدد
ومن ناحية أخرى ،يذكر عابس أن توجه
السياسية وانعكاساتها عىل مشاعر وروح
لها بالقضايا الكربى للمجتمعات لقيام وسائل
االجتماعي التي ساهمت -يف شكل مؤثر وقوي -يف
الشعراء .ويعزو الجلواح ذلك إىل وسائل التواصل
الشعر إىل موضوعات ليست جماهريية وال عالقة
صرف الشاعر والقارئ معً ا عن القراءة العميقة.
أخرى بذلك الدور ،دفع الشعر إىل االتجاه إىل
ويعزو الجلواح هروب الشعراء إىل الرواية ،إىل
«قضايا ومفردات اإلنسان وهمومه البسيطة ،وإىل مفردات الهامش واملهمل والبسيط.»...
ويلقي عابس باللوم عىل املؤسسات الثقافية
يف الرتاجع الذي يعيشه الشعر« :لم يعد هناك
اهتمام بالشعر والشعراء عىل مستوى الدول واملؤسسات إال عىل
استحياء أو بشكل محدود ،جوائز الشعر محدودة ومهمشة وغري مجزية وال يمكن تجاوز االهتمام األكرب بالعاميات (الزجل)
يف مختلف الدول عىل حساب الشعر الفصيح ،ولست ضد االهتمام بالعامّي ولكن بشكل ال يلغي الفصيح» ،مشريًا إىل أن
محمد الجلواح
الكتابة النرثية .كما أن انتشار الرواية ال يدل عىل وجود عافية فيها ،فقد أصبح الجميع يكتب
ً مضيفا سببًا آخر لعدم وجود حراك شعري يف اململكة، رواية»، وهو«:أننا ال نقبل النقد ،وال نرىض بالدراسات واملالحظات التي ُت َ السبق وقـ ََصبُه يف نشر يف الصحف ،وتأيت من آخرين لهم قـَدَ م ّ
الشعر ،بل نطري فرحً ا باملجامالت حتى لو كانت عىل حساب الجودة ،فينجم جراء ذلك الرتاجع من جهتني :جهة الشاعر
معظم النقد «توجه إىل البعد الثقايف العام وإىل الرواية ،وكثري
الذي ال يريد أحدً ا أن ينتقده .ومن جهة أخرى فإن املتلقي الناقد
قراءته بشكل سليم ،ومن ثم تصدر عشرات الدواوين املميزة وال أحد يعلم شي ًئا عنها!!».
والغضب واإلحباط ،وهو -يف الوقت نفسه -يخىش أن يفقد
من النقاد ال يجيدون التعامل مع الشعر وبعضهم ال يستطيع
66
تراجع الشعر عند هؤالء «إضافة إىل استسهال
عدم تقبل النقد
أما الشاعر محمد الجلواح فيتوقف عند الحال النفسية
واملزاجية للمواطن العربي بشكل عام ،وكذلك اإلفرازات
الذي ال يجد من يأخذ برأيه ونقده ودراسته ،يشعر بالحزن
بذلك صداقته وعالقاته بالشعراء».
وضع الشعر سيستمر هكذا حتى تحين التفاتة من مؤسسات الثقافة ،تُعلي شأنه وترفع أركانه
رؤية حول المشهد الشعري السعودي الحديث يوضح الشاعر زيك الصدير أنه يف ظل اكتساح الرواية للمشهد الثقايف بعموميته ،وقدرتها
عىل تحويل نفسها للدراما التلفزيونية ،أو لفلم سينمايئ« ،لم يعد الشاعر قادرًا بأدواته اللغوية
املحضة الوصول إىل القارئ غري النخبوي .األمر الذي يجعله قابعً ا يف إطار ال يستطيع من خالله ّ االتساع ومعانقة القارئ البسيط .ويعود ذلك لتعاظم انكفاء معظم الشعراء عىل ذواتهم ،ولعدم قدرتهم عىل تجاوز السؤال الفلسفي للسؤال الحيايت اليومي .ومن بني هذه التجارب خرجت
تجارب سعودية ،هنا وهناك ،استطاعت أن تستوعب بعمق ما يدور حولها فأنتجت اشتغاالت شعرية مهمة ،لكنها قليلة ،وال يمكن اعتبارها ظاهرة من املمكن القياس عليها».
ويقول« :إذا ما كنا نتحدث عن مشهد جغرايف متسع مثل السعودية ،فإنه من الصعب
زكي الصدير
الحديث عن هوية الشعر أو مالمحه بشكل دقيق ،حيث لكل منطقة من مناطقها املرتامية األطراف أسئلة شعرائها وقلقهم ورؤاهم الكونية الخاصة ،والتي تنعكس عىل واقع ما يشتغلون عليه شعريًّا .هذا ّ االتساع الجغرايف يجعلنا أمام مشهديات شعرية مختلفة ذات هويات مشتتة ،يجمعها االسم ،ويفرقها االشتغال .والحديث هنا بالطبع يشمل مضمون الشعر وليس
هندسته املعمارية فحسب» .ويلفت إىل أن الجغرافيا املكانية جعلت من التجارب الشعرية السعودية القريبة من الخليج «تمتلك سمات عىل مستوى اللغة والهوية تختلف عن تلك الحجازية أو الجنوبية أو التي تتوالد بندرة يف الشمال والوسط.
نجد شعراء الشرقية -عىل سبيل املثال -متماهني إىل حد كبري يف نصوصهم مع التجارب الشعرية املنجزة يف العراق ودول الخليج ،عىل حني يغيب أو يخفت هذا التأثر عن التجارب الشعرية يف بقية املناطق ،األمر نفسه بالنسبة لتجارب شعراء
الجنوب ،حيث تحضر التجارب اليمنية بقوة ،وتخفت يف بقية املناطق».
العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
الشعر السعودي بال تجارب عميقة
ويقول
الشاعر
عن الشعر في اللحظة الراهنة
مسفر
العدواين :إن الشعر السعودي «لم ينتج تجارب نتئك عليها
يف حال النقد باستثناء تجربة الثبيتي ،وما زلنا ً أيضا يف صراع
إذا استعرنا لغة الحروب
التي نعيش عىل وقعها اآلن،
كبري بني رفض وقبول قصيدة
فإنه يمكننا القول :إن الشعر
أمس النرث لدينا ونحن يف ّ
الحاجة لتجارب شعرية نواجه
مسفر العدواني
بها من يعتقد أن الشعر السعودي ما زال خجولاً ،ولن يصل إىل
منصات العالم» .ويرى العدواين أنّ األصوات الشعرية املعاصرة
«عندما ال تندمج مع الحاضر بكل معطياته فلن تتقدم ،وإذا توقف خيال الشاعر عند حد معني ً خوفا من املستقبل فلن نخلق موجات جديدة ومع ذلك نحن جزء من العالم ،وال شك أن ما يحدث فيه يؤثر فينا .أما من ناحية الجوائز الشعرية فليست
مقياسً ا لعمل تجربة شعرية؛ لكونها تخدم املؤسسة التابعة
لها ،وال تخدم الشاعر ،ويف زمن التقنية الحديثة يلزم الشاعر التفاعل معها بنصوص قصرية مكثفة تسهل عىل القارئ، وتناسب الواقع ،وتظهر الشاعرية .فالزمن اآلن زمن التواصل
االجتماعي وقراءة الكتب الورقية أصبح من النادر جدًّا». أدب بال أدب
تضخم كثريًا ،وبشكل مبالغ فيه ،يف عقد الثمانينيات من
القرن املنصرم ...إنه تحول إىل قنبلة انفجرت لتنتشر شظاياها يف كل مكان .نحن
مسفر الغامدي *
يف هذه اللحظة نعيش يف زمن الشظايا .لم يعد للشعر رموزه وتكتالته ومالحقه ونقاده ،بل أصبح متناثرًا يف كل
مكان .شعراء ال يحصون ،ودواوين ال تعد ،وسيل جارف من الحروف التي ال ّ تكف عن التناسل من بعضها البعض ،ثم ال أثر مهم يذكر بعد ذلك ،حتى مع تعدد املهرجانات الشعرية،
أو تكاثر الجوائز وتنوعها .مع كل ذلك هناك ورود حقيقية
ومدهشة ،تنبت يف كثري من الزوايا القصية ،لكن األغصان الكثيفة للغابة تحجبها .هناك أسماء تستحق القراءة واالحتفاء ،ولكن ليس هناك بستاين ماهر ،يحول الغابة إىل
وتنتقد الشاعرة هند املطريي شعر اليوم وأدبه بشكل
حديقة .هذه مهمة نقدية بامتياز ،لكن النقد تعوّد يف العقود
بال أدب .صرنا نسمع أسماء كثري من الشعراء لكننا ال نسمع
وسعه ،حتى اآلن عىل األقل ،أن يتعامل مع النتف املتناثرة
عام قائلة« :يصدر عدد هائل من األعمال األدبية سنويًّا ،لكن
شع ًرا؛ من أجل ذلك كله ،كان من الطبيعي جدًّا أن تذبل جنان الشعر التي كانت قد أبدعها الرواد يف عصرنا والعصور السابقة».
وال ترى املطريي أن طغيان الرواية تسبب يف تراجع الشعر؛ «ألن
ازدهار الرواية الجيدة قد يدفع الشعر الجيد إىل املنافسة ،لكن املسألة تتعلق بالوعي الجمايل الجمعي .الشعر يهب نفسه لألمة
التي تقدره وتحفظ قيمته ،فإذا تخلت عنه تخىل عنها تمامًا».
وتقول املطريي« :يف العصور القديمة كانت العرب تقدس
الشعر لدرجة دفعتهم للمقارنة بينه وبني القرآن (كالم الرب ّ جل وعال)؛ لذلك حفظ الشعر لهم أقدارهم وأخبارهم وأيامهم
السابقة عىل التعامل مع الكتل الصلبة (الجاهزة) ،وليس يف
هنا وهناك...
قد نعزو السبب لالنفجار املعلومايت ،للطبيعة السائلة
لألفكار وللعالم ،لعزلة الفرد ،ملوت األيديولوجيات الكربى، لوسائل التواصل االجتماعي ،للحظات الرتقب والخوف التي
نعيشها ،لعجز الخيال عن مجاراة الواقع ،لتسرب الشعر من ً إقناعا ...لكل ذلك قبضة اللغة وهروبه إىل فنون بصرية أكرث
وألكرث من ذلك .يف كل األحوال وبالعودة إىل لغة الحروب: أصبح الشعر ملجأ أكرث منه سالحً ا .الشعراء الذين ما زالوا
يظنونه سالحً ا يبدون هزليني ومضحكني بشكل كبري .لم
التي لم يكن التاريخ ليتحملها من دونه .أما اليوم وقد انصرفوا
يعد الشعر وسيلة نقل مناسبة لألفكار والعنرتيات البالية،
األقل لن يبقى كثري منه .لم نفتقد الدواوين فهي كثرية ،وتصدر
كمامً ا واقيًا ليك ال نلتقط املزيد من الجراثيم واألوبئة اللغوية
إىل صفصفة الكالم فال أظن الشعر يبقى يانعً ا مزده ًرا ،أو عىل عشرات منها كل عام ،لكننا نفتقد الشعر» .ويف ظن املطريي أن
وضع الشعر سيستمر هكذا «حتى تحني التفاتة من مؤسسات الثقافةُ ،تعيل شأنه وترفع أركانه .حني ذاك يعود ،ويزدهر، ويطرح ثماره اليانعة».
67
ً درعا واقيًا التقاء التلوث يف أحسن األحوال... بل أصبح
والحياتية الضارة.
حارسا ولم يعد محاربًا. الشاعر هنا أصبح ً
( * ) شاعر سعودي
ملف العدد
راهن الشعر الموريتاني الحديث
الشيخ ولد سيدي عبدالله أكاديمي موريتاني
68
يواجه أي باحث في الشعر الموريتاني الحديث مشكلة في تصنيف هذا الشعر وتقسيمه إلى
مدارس واتجاهات على غرار ما يحدث مع الشعريات العربية المماثلة .فقد مارست القصيدة الكالسيكية التقليدية سلطتها على التلقي واإلبداع في موريتانيا ردحً ا طويلاً من الزمن ،فغطت
بذلك غابة اإلبداع الشعري ،بحيث لم تترك أي مجال لألجناس األدبية األخرى ،وكذا األشكال ً مستحوذا على الذائقة األدبية الموريتانية، الشعرية الالحقة للظهور ،فقد ظل الشعر العمودي
وربما ال يزال حاضرًا بمستوى ال يستهان به من القوة والتأثير.
ويعود السبب في ذلك إلى البنية التكوينية للثقافة الموريتانية ،التي ظلت إلى وقت قريب،
ثقافة شفهية ،في بعض مناحيها« ،محظرية» في مناحي أخرى ،وقد اهتمت في تأسيسها على
الثقافة التراثية ،سواء منها الدينية أو األدبية ،فكانت «المحظرة» بشكلها المحافظ أكبر فاعل في تحديد العالقة بين المبدع والمتلقي ،وهذا ما نلحظه في قراءة سريعة لحياة الشعراء الموريتانيين
الكبار ومشاربهم الثقافية ،ومعاصريهم من متلقي الشعر ومتذوقيه.
العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
حني أنشئت جامعة نواكشوط يف ثمانينيات القرن العشرين،
العرب ،وتعرف املبتعثني من الطالب املوريتانيني إىل الجامعات
مشرقية ومغربية وأوربية ،بدأ التفكري النقدي يتبلور حول كثري
إماطة اللثام عن الشعر الجديد ،ودفعه إىل املزاحمة العلنية للشعر
وعاد أبناء البلد من رحلتهم العلمية التي قادتهم إىل جامعات
من القضايا الشعرية ،ويف مقدمتها قضية األصالة واملعاصرة.
ويف مقابل هذه املواقف ،قامت معركة الشعر الجديد بمحاولة خلق ذائقة غري تقليدية ،قادرة عىل فهم حركة الزمن واإلبداع،
متدثرة بثقافة جديدة ،تمكنها من التعامل مع الرموز الشعرية
وما تحيل إليه من دالالت .وهي محاولة جسورة يف ميدان يسيطر عليه املحافظون بشعرهم وبخلفيتهم الرتاثية ،التي سيجت اإلبداع
بمتاريس من التقديس ،تجعل تجاوزه مسألة يف غاية الصعوبة. والحقيقة أن اعتماد وسيط أو رقيب تقليدي بني الشاعر واملتلقي،
هو السبب يف إحداث الهوة بني الواقع واإلبداع؛ ذلك أن الرقيب
العربية عىل النظريات النقدية الجديدة ،وعىل الشعر الجديد ،من
التقليدي وح ّراسه.
لقد صاحب هذه الثورة ،فهم جديد لكثري من القضايا
الشعرية ،التي أصبحت هي األخرى بحاجة إىل نوع من التغيري
واإلدراك ،حتى تؤسس الدعامة الكربى الستمرار اإلبداع الشعري
الجديد ،ولهذا جاء فهم األصالة واملعاصرة من طرف جيل الحداثة، فهمًا مغاي ًرا للجيل املحافظ؛ بل إن وعيًا ثوريًّا بالحداثة بدأ يكشف
عن نفسه ،يف التعامل مع الشعر ومع الثابت واملقدس يف الثقافة
الوطنية .يقول الدكتور سيد األمني ولد سيد أحمد بناصر« :يشهد
الشعر املوريتاين قطيعة حاسمة وجذرية بني تيارين شعريني؛ األول تيار التقليد ،وينحو منحى كالسيكيًّا تقريريًّا ،بشكل يجعله معزولاً
التقليدي املحافظ يسعى إىل فرض قوالب نصية ،ومعجم لغوي ً وعقوقا ظاه ًرا ,وهذه خاص ،بحيث يرى أي خروج عليه كف ًرا إبداعيًّا
تمامًا عن اإلبداع العاملي والعربي ،وأما التيار الثاين فهو تيار الحداثة
الذين عرفوا بالوالء للقالب التقليدي نفسه .فهؤالء الشعراء ال
التقليدي إىل آلياتها املعاصرة ( )...وأظنني من الجيل الذي يحاول
الوصاية هي السبب يف انفجار الثورة ،من طرف بعض الشعراء
يرون املشكلة بني دعاة التجديد واملحافظني مشكلة شكلية ،إنما هي لغوية ،تعبريية.
يقول الشاعر فاضل أمني« :إن سجن األديب وراء جدار سميك
من اللغة حكاية قديمة مجها األدب املعاصر؛ ذلك أن الناس هم الذين يملكون حق إعدام الكلمة أو خلقها ،والشاعر ليس بوابًا يف ً موظفا عند الخليل واألصمعي ،إنه هو الذي املجمع اللغوي ،وليس
الذي ما فتئ يبحث عن متنفس للقصيدة ،ينقلها من واقعها فك العزلة وغلق باب التجمد ،هذا التيار يف نظري هو القادر عىل
مسايرة ركب الحداثة العربية ،وعىل عاتقه تلقى مهمة النهوض
بالشعر يف هذه البالد» . ()4
69
يخلق لغته ،وعليه أن يرتصد لغة الجمهور الذي يكتب له»( .)1وهذا ما عربت عنه النقاشات التي فجرتها قصيدة «السفني» للشاعر أحمدو ولد عبدالقادر عام 1984م ،التي كانت «مؤطرة بالبحث
عن الشعر الجديد ،وما يطرحه من قضايا ،وكانت االختالفات بني
املتخالفني أو املتكاتبني ،اختالفات يف التصور النقدي ،الذي ينطلق منه كل فريق ،والخلفية الفكرية التي تحكم هذا التصور»(.)2
ويرى الدكتور محمد األمني ولد موالي إبراهيم أن أهم نقاش
عرفته قضية «الشعر الجديد» يف موريتانيا هو ذلك الذي حدث عام 1986م والذي لم يكن «وليد نص إبداعي ،كما هو الشأن بالنسبة
لحوار 1984م ،إنما وليد طرح نقدي ،يصطدم مع طرح آخر مخالف له يف التصور ،ومعزز بخرق جمهور لم يتعود بعد عىل أساليب الشعر الحديث ،وجماليات تقبله»(.)3 الوعي بالحداثة
والحق أنه عىل رغم سيطرة الذائقة التقليدية عىل العملية
اإلبداعية املوريتانية ،وعىل رغم سلطتها القاسية التي تفرضها عىل ً اتساعا صام ًتا لدائرة الشعر الحديث واملهتمني به ،كان الشاعر ،فإن
يحدث من دون علم املحافظني .فقد مكنت املناهج األدبية الحديثة يف الجامعة ،وانفتاح جيل الشعراء الشباب عىل نتاج نظرائهم
ملف العدد
إن آراء املؤيدين للحداثة من هذا الجيل ،تنبثق أساسً ا من
الفهم الفني للنص الشعري الحديث ،يف مسايرة للظرف الزمني لإلنسان املوريتاين وعالقته باآلخر ،شكلاً ً ً إبداعا وتنظريًا، ومضمونا،
يجعل القصيدة تتحرك بحرية ،بدل أن تظل محصورة يف أغراض محدودة ،وهو ما نتج عنه تطور كبري يف معجم هذا الشعر. » .. ()6
ً ً مطلقا من الرتاث ،إنما هي محاولة انبتاتا لهذا فليست الحداثة لهم
والحداثة من هذا املنظور مرحلة تطورية للشعر التقليدي،
ليكون هناك تكامل بني األصالة واملعاصرة ،وهذا ما جعل بعض
(محاورة) ،فهي تنطلق من القديم ،لتتجاوزه ،مع بقاء صالتها
لفتح حصون ذلك الرتاث ،وفك متاريسه املنغلقة أمام الحداثة؛
الحداثيني املوريتانيني يستخدم الشكل التقليدي للقصيدة؛ ليبدع من خالله ًّ نصا حداثيًّا ،موغلاً يف التكثيف والتفجري الداليل.
من حيث اإليقاع واللغة ،وعالقتها بشعر التقليد هي عالقة به وثيقة .وغري بعيد من هذا الرأي يتبنى الشاعر الدكتور إدي
ولد آدب مقولة للشاعر اإلنجليزي إليوت؛ إذ يقول« :إن
أما الشاعر ببهاء ولد بديوه فريفض الرأي القائل بأن الحداثة
الجديد كل الجدة رديء كل الرداءة» وهو بذلك يريد أن يقول: ً انقطاعا وال انفصالاً عن الجذور، إن الحداثة ال يمكن أن تكون
هذا هو مفهوم الحداثة فليس ثمة من شعر حدايث ،ال يف الشعر
القيم ،التي بها ننظر إىل ما نبدعه من قيم جديدة ،فهل يمكن
نبذ للتقاليد ،وأنها ثورة شاملة عىل الرتاث ،وينطلق من أسس
فنية تربط الشعر الحدايث بالشعر التقليدي؛ إذ يقول« :إذا كان املوريتاين ،وال يف الكثري مما يسمى شع ًرا عربيًّا حداثيًّا؛ إذ إن هذا الشعر سواء كان يف موريتانيا أو غريها من البلدان العربية ،ال
يخرج عن تقليد أخذ يتأسس ابتداء من الخمسينيات ،وله جذوره
املمتدة ،مثل شعر «البند» الذي عرف انتشارًا واسعً ا يف العراق منذ القرن العاشر الهجري ،ومن ثم فإن هذا الشعر الحدايث ،لم ينبذ
تقاليد الشعر العربي القديم ،وإنما حاول تكييفها لتتالءم مع
التحوالت الجذرية ،التي يعرفها العالم»(.)5
70
وحدة إيقاعية من بدايتها حتى نهايتها ،كما حاول هذا الشعر أن
ونتيجة لهذا تأكد ارتباط النص الحدايث بأصله القديم، ً عائقا يف سبيل تغيري بعض األشكال ولكن هذا االرتباط لم يكن
واملفاهيم التي تحققت عىل يد شعراء الحداثة ،وهي تغيريات ال يستبعد أن تكون لها جذور يف الرتاث ،يقول ببهاء« :الحداثة العربية الشعرية ،ثورة يف الشكل واملضمون ،لها امتدادها املرتسخ
الجذور يف الرتاث ،وخاصة يف جوانبه الثورية ،فمن ناحية اإليقاع فإن هذا الشعر بدأ يؤسس منذ السياب تشكيلاً إيقاعيًّا ،يحاول التحرر من البيت باتجاه الدائرة؛ فالقصائد األوىل التي ظهرت من هذا الشعر غري ملتزمة بعدد من األجزاء (املفاعيل) ،وال بقافية
موحدة أو غري موحدة ،ولكن مرور الزمن أظهر أن هناك تطورًا
مستم ًّرا يف اإليقاع ،حيث صار لبعض القصائد التي هي أكرث جدة،
بدهي ج ًّدا أن النص الحداثي الموريتاني انفتاحا تطور بعد ذلك ،وأضحى أكثر ً وارتباطا بصنوه العربي ،ولكنه على ً عاجزا عن الوصول رغم ذلك كله ما زال ً لمكانة النص العمودي التقليدي لدى المتلقي .وتلك مسألة تبدو أنها ذات صلة ببنية الثقافة الموريتانية ،وليست مجرد موقف من الوافد الجديد
العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
وذلك ألن االنقطاع عن التقاليد األدبية ،ال ينتج عنه إال غياب
لغياب القيم أن يكون قيمة يف حد ذاته؟»( .)7ويرى أن دعاة
االنقطاع عن الجذور مصابون «بنوع من التطرف الحدايث»
سواء يف ذلك الشعراء والنقاد. التطرف الحدايث
أما الشاعر الدكتور بدي ولد ابنو فكأنه يف رأيه حول الفهم الخاطئ للحداثة ،يرد عىل رأي إسلم ولد بيه املذكور ً آنفا ،وذلك
يف معرض حديثه عن العالقة بني الشكل التقليدي والشكل الحدايث للنص الشعري املعاصر .يقول الدكتور بدي :الحداثة نظر إليها طويلاً يف املشرق عىل أنها طريقة جديدة يف إعادة توزيع ً أحيانا يصل إىل درجة بالغة الكلمات هندسيًّا عىل الورقة ،واألمر السطحية ،يكفي عند البعض أن يحذف من القصيدة رويها، وأن يعاد توزيعها لتصبح قصيدة حديثة؛ فعند نقاد معاصرين
يعني مصطلح «القصيدة الحديثة» كل قصيدة ال عمودية ،حتى لو كانت عمودية فعلاً ،ولكن توزيعها عىل األسطر ال يوحي بذلك ألول نظرة ،وبهذا املعنى ال يصبح اإلبداع إال لعبة شد وتمطيط» . ()8
ويتفق الشاعر بدي مع الشاعر سيد األمني حول الحداثة
الشكلية؛ فالقالب ليس معيارًا للجدة أو التقليد .يقول« :ما يهمني هو الشعر» .الشعر أولاً .للقصيدة أن تكون عمودية أو شعر تفعيلة
ً «إبداعا» ،ثمة قصائد أو خارج اإلطارين ،ولكن أن تكون قصيدة تفعيلة وقصائد تسمي نفسها (نرثية) بالغة التقليدية ،وثمة قصائد
عمودية بالغة الحداثة ،القصيدة كل متكامل والحكم عليها ال يمكن أن يكون جزئيًّا ،تكون القصيدة يف نظري حديثة حني تكون
ً إبداعا ،وأول ما يجعلها كذلك أن ال تفرض عليها أفكار خارجة قبلية ،ملجرد أن الرأي السائد يفضل إطارًا معي ًنا( .)9ويرفض أن ينتمي
لتيار الحداثة ،الذي سيطر عليه كثري من األدعياء ،فاستولوا عىل اللفظ «حداثة» ال عىل املعنى؛ لذلك فهو ينتمي إىل ما سماه الحداثة
األخرى« :أنتمي إىل ما بعد الحداثة ،أنتمي إليها زمنيًّا؛ ألن ما بعد
الحداثة راجت يف سنوات الثمانينيات التي بدأت أنشر فيها».
ويف محاولة منه للتنظري ملفهوم «الحداثة األخرى» يقول:
والرباغمايت أمكننا أن نخرج ببعض التصورات» ويرى املحاضر أن
خنقها منذ ما يسمى بعصر النهضة ،ولذلك أعتقد أن حداثة
موريتانيا ،ولكنها قد تكون مستوعبة عىل األقل لجزء غري يسري
الحداثة الشعرية العربية ،أي تجيل اإلبداع الشعري زمنيًّا ،تم ستبدأ اليوم نسميها الحداثة األخرى»( .)10أما الشاعر أحمدو ولد عبدالقادر ،فها هو بعد مرور سبعة عشر عامً ا عىل كتابته قصيدة «السفني» والنقاش الذي أثارته ،يرى أن فهم الحداثة الشعرية
رهني بشموليتها لكل مناحي الحياة ،وهو رأي يف نظرية التلقي؛ ذلك أن «الحداثة عندنا تكاد تكون قاصرة عىل اإلنتاج الشعري،
هذه التصورات ال يمكن تعميمها عىل املشهد الشعري الحدايث يف منه .ومالك القول أن الخطاب الشعري الحدايث يف موريتانيا ،عىل رغم محاولة إنتاج نص معرب عن عصره وعن العقلية الجديدة، ً مرتبطا بخيط رفيع مع الرتاث واألصالة .بيد أن ميزته فإنه ما زال
املهمة هي أن أغلبية رواده واملدافعني عنه ،مارسوا إىل جانب
الكتابة الشعرية ،عملية تنظري وتحليل ومسايرة للتطورات
مما جعل الشعر يف وا ٍد والحياة يف واد ،وليك يكون الشعر الحدايث مفهومً ا ،متقبلاً ،ال بد أن تكون الحداثة شاملة لجميع
ويمكننا أن نتفهم ذلك البعد النقدي عند شعرائنا ،فهم
الحدايث ،حتى يكون لهذه الحداثة إطارها وسياقها الذي ال يمكن
السنني ،ثم عليهم بعد ذلك أن يقنعوا املتلقي بتلك التفسريات،
مجاالت الحياة ،وأن تكون الفنون مواكبة للشعر يف اتجاهه
أن يكون لها إال به»(.)11
ويف محاضرته عن «الخطاب الشعري الحدايث يف موريتانيا»
()12
التي ألقاها يف «بيت الشعر»( )13يوم الثالثاء 8إبريل 2001م يدرس
الدكتور املختار ولد الجيالين ،التحول اإلبداعي للشعر املوريتاين،
من خالل سبعة دواوين شعرية لخمسة شعراء من جيل الشباب ،وهي يف نظرنا أهم دراسة أكاديمية( )14آنذاك ،تجاسرت
عىل تحليل الجماليات النصية للقصيدة الحداثية يف موريتانيا، وهذا سر تركيزنا عليها .ففيها يمايز مفهوم الخطاب «الذي يتالءم أكرث مع الشعر الحدايث ،حيث يتخلق النص الشعري مجراه كما
النهر ،دون أن يكون للتقاليد الشعرية السابقة أثر يف توجيه هذا املجرى ،من مفهوم القصيدة «الذي يتالءم مع النص الشعري
التقليدي الشتقاقه من القصد» .ومن هذا التحديد يحاول إبراز مدى مطابقة هذه املفاهيم -ولو جزئيًّا -مع الشعر الحديث يف ً انطالقا من خمسة نصوص وردت يف الدواوين السبعة موريتانيا املذكورة ً آنفا وهي:
دموع غيالن لسيد األمني بن سيد أحمد بناصر
()15
رحيل ملباركة بنت الرباء
()16
الكشف لبدي ولد ابنو
()17
الشريد لببهاء ولد بديوه
()18
رسائل سرية إىل شخصيات سرية ملحمد ولد عبدي
()19
وبعد «أن تناولت الدراسة هذه النصوص من حيث سبكها
املوسيقي واملعجمي والنحوي ،ومن حيث حبكها الداليل
يواجه أي باحث في الشعر الموريتاني الحديث مشكلة في تصنيف هذا الشعر وتقسيمه إلى مدارس واتجاهات على غرار ما يحدث مع الشعريات العربية المماثلة.
الحاصلة يف حقول اإلبداع اإلنساين.
مطالبون بتفسري الثورة عىل قوالب وأشكال فنية عمرها مئات ولنا أن نتصور صعوبة املهمة يف مجتمع كاملجتمع املوريتاين ،الذي
يمتح جهاز قراءته من منهاج (املحظرة) حيث يرتبع الشعر العربي
القديم عىل قمة الدرس األدبي ،وحيث منتهى الفتوة يكمن يف تقمص الصورة اإلبداعية للشاعر العربي القديم. هوامش:
- 1فاضل أمين – على باب المناجزة األدبية – جريدة الشعب – بتاريخ 14سبتمبر 1976م. - 2د .محمد األمين ولد موالي إبراهيم – ظهور الرواية الموريتانية - ،مصدر سابق. - 3نفسه. - 4نسخة جريدة الشعب من (كتاب في جريدة) الخاص بالشاعر السياب -وما بين ص 31-30مقابلة مع الشاعر سيد األمين ولد سيد أحمد بن ناصر. ( - 5بيت الشعر يواصل نشاطاته) جريدة الشعب -العدد 7153بتاريخ 26 – 24 مايو 2001م. - 6نفسه. - 7نفسه. - 8بدي ولد ابنو -صلوات المنفى الباريسي – ط – 1باريس 1998م -ص.179 : - 9نفسه ص. 186-185: - 10نفسه – ص .190 - 11الشعب ،العدد ( 7153بيت الشعر يواصل نشاطاته) – مصدر سابق. - 12منشورة في جريدة الشعب ،المصدر أعاله. - 13هو منتدى أقامه بعض الشعراء والنقاد من بينهم د .محمد ولد بوعليبة والشعراء ببهاء ولد بديوه و إدي ولد آدب وغيرهم وقد بدأ نشاطه عام 2000م. - 14هي عرض لرسالة الباحث لنيل شهادة الماجستير من معهد البحوث والدراسات العربية بالقاهرة عام 2000م ،وقد صدرت في كتاب يحمل العنوان نفسه عن دار يوسف بن تاشفين واإلمام مالك عام 2006م. - 15من ديوانه تيه المراكب -ص.5 : - 16انظر الوسيط في األدب الموريتاني الحديث (مجموعة باحثين) – ط – 1 نواكشوط 1997م -ص.61: - 17من ديوانه مدائن اإلشراقات الكبرى ،ط ،1دار القلم ،باريس1996م ،ص.17: - 18من ديوانه أنشودة الدم والسنا – ط – 1مكتبة اآلداب – القاهرة 1995م - ص.36: - 19من ديوانه األرض السائبة – ط – 1أبو ظبي 1995م -ص.49:
71
ملف العدد
الشعر في حال انحسار وضيق
عباس بيضون شاعر وصحافي لبناني
كلمة مأزق ليست الكلمة المُ ثلى واألصحّ في توصيف حالة الشعر العربي الحديث
اليوم ،أظن أن الكلمة األصح هي االنحسار ،أو الضيق ،أو التراجع .فالشعر عالميًّا هو في هذا الوضع المناسب ،وأظنّ أن الشعر العربي يلحق بهذا الوضع الذي بدأ في الغرب ،وهو يكمل مسيرته هكذا .بدأ الشعر يتراجع ويفقد قرّاءه من سبعينيات القرن
72
العشرين ،هذا بالقياس إلى الرواية التي ال تزال تجد قرّاءً .وال ننسى أن التطورات التقنية (اإلنترنت وسواه) لم ُتفقد الرواية حضورها وقراءها ،على رغم أننا ال نعرف اآلن ماذا سيكون تأثير التقنية الحديثة في الرواية على المدى البعيد.
أظنّ أن مشكلة الشعر ليست فقط مشكلة عامة تلحق
بكل األنواع األدبية ،إنها مشكلة خاصة؛ إذ إن الشعر بدأ مُ غ ّنيًا للعالم ومادحً ا للحياة ومُ ح ّر ً ضا عليها ،أي أنه بدأ
اإليجابية أي اإلنسانوية هي أقل الروايات انتشارا .والسلبية هنا
نقدية وفيها تشاؤم.
حدث أن الشعر بإيجابيته وغنائه لم يعد مناسبًا لوقته.
إيجابيًّا .وحني نقرأ الشعر القديم نجد أنه يف الدرجة األوىل
بدأ ينحدر إىل ما وصلت إليه الرواية .بدأ يصبح هو اآلخر سلبيًّا
الحديثة؛ إذ إن األدب والفن عامة استحاال سلبيّني بالتدريج.
فنّ شبه صامت ،فن مضمر ،ال يظهر منه سوى رأسه ،ويبقى ّ جله مكتومً ا .يحتاج الشعر من صانعه وقارئه إىل معاناة فعلية،
لنجد أن الرواية فنّ سلبي ،إنها رواية التهافت االجتماعي ّ
قدرة كبرية عىل التأويل ال يتم ّتع بها كثري من الق ّراء .العالمة
محرض عىل الحياة ،ومادح للحب والجمال وللحياة عامة .أي أن الشعر بدأ إيجاب ًّيا ،وهذه اإليجابية لم َ تبق للشعر يف األزمنة
ويكفي أن ننظر إىل الرواية الحديثة منذ بلزاك إىل كونديرا والوجودي .ال نجد الرواية إيجابية إال يف القليل ،والروايات
مناسبا الشعر بإيجابيته وغنائه لم يعد ً لوقته .بدأ ينحدر إلى ما وصلت إليه سلبيّا الرواية .بدأ يصبح هو اآلخر ً وعدميّا؛ أي أنه فقد وظيفته األولى. ً فن شبه فن مكبوتّ ، ثم إن الشعر ّ
صامت ،فن مضمر ،ال يظهر منه سوى مكتوما رأسه ،ويبقى جلّه ً العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
وعدميًّا ،أي أنه فقد وظيفته األوىل .ثم إن الشعر فنّ مكبوت،
إىل تركيز شديد يصل إىل حدّ االختناق .كما يحتاج الشعر إىل
بني الشعر وقارئه عالمة صراع وال بدّ أن يكون يف القارئ شاع ٌر
أو شبه شاعر؛ ليستطيع أن يتكيّف مع النص؛ ألن بني القارئ ً تواطؤا وشبه تعاقد عىل الطريقة والشكل ،حيث إن والشاعر
هذا التعاقد إذا لم يوجد ال يمكن للقارئ أن يقبل الشعر.
الشعر اآلن هو فنّ بني أشباه شعراء ،وهذا ال يمنع أن الشعراء يتكاثرون؛ ألن الشعر يبقى حاجة .يكفي أن ّ نفكر بالغناء مثلاً لنفهم أن الشعر حاجة .دائمً ا كان هناك شعراء قلة أو ّ ّ قلة من الشعراء القادرين عىل أن يجرتحوا اللغة.
ويف الكتابة ال يزال الوضع هكذا .ال أفقد األمل يف أن األجيال الحالية والقادمة ستأيت بشعراء جيّدين.
73
ملف العدد
مخطوطات
74
مخطوط ( ديوان ابن هانئ ) من مقتنيات مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية.
العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
75
ّ ألفه :الشاعر أبو القاسم محمد بن هانئ بن محمد األندلسي (ت362 .هـ) وهذه نسخة كتبها محمد بهادة الشافعي األشعري سنة 1272هـ .
تقارير
معهد العالم العربي في باريس.. خيبات وآمال تتجدد أوراس زيباوي باريس
76
العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
أثار «معهد العالم العربي» منذ تأسيسه سجالاً ّ ً وتطلعاته ،وإذا واسعا حول دوره وتمويله تباينت اآلراء حول هذه المسائل فثمة إجماع حول خصوصيّة المعهد الذي ّ يمثل الصرح الثقافي الوحيد من نوعه في أوربا ،بل في العالم أجمع ،هذا المعهد الذي تزداد الحاجة إليه اليوم ،في هذه اللحظة التاريخية الدقيقة ،يعيش مرحلة تحوّل إيجابي مع رئيسه
ً جديدا بدءً ا من سبتمبر الجاري هو الناقد واألكاديمي الجديد جاك النغ ،ويستقبل مديرًا
السعودي معجب الزهراني الذي يخلف السعودية منى خزندار. وإذا كان الزهراني يعطي مصداقية لهذا الموقع وثقلاً عربيًّا داخل المعهد بفضل مساره
الثقافي ،وتجربته وانفتاحه على الثقافات المختلفة ،ال سيما الثقافة الفرنسية التي يعرفها
عن قرب ،فإنّ التساؤالت تبقى قائمة حول الفرص التي ستتاح أمامه ،وحول التحديات
التي ستواجهه .وهو يعي الصعوبات التي تنتظره ..لكن المعهد ،وكما عبّر الزهراني في
تصريحات صحافية ،هو فرصة «لنصنع أثرًا جماليًّا عربيًّا» .هذا يعني أنه يفد إلى باريس بكثير من األمل ،ويؤمن بقدرة الثقافة والفن على تغيير الصورة النمطيّة السائدة..
جسر بني أوربا والعالم العربي
تأسس معهد العالم العربي يف باريس
77
عام 1980م بعدما اتفقت فرنسا مع عدد
من الدول العربية األعضاء يف الجامعة العربية عىل تأسيس مؤسسة للتعريف
بالثقافة والحضارة العربيتني يف فرنسا، وجعلها جس ًرا بني فرنسا وأوربا من جهة، والعالم العربي من جهة ثانية .وقد أرادت فرنسا ً أيضا ،من خالل هذا املعهد الخاضع للقانون الفرنيس واملسجل كمؤسسة ذات نفع عام ،أن تدعم عالقاتها السياسية
معجب الزهراني
منى خزندار
والدبلوماسية واالقتصادية يف العالم العربي ،وهي عالقات
املعهد عام 1987م يف عهد الرئيس الراحل فرنسوا ميرتان
يقع املعهد يف الدائرة الخامسة يف قلب العاصمة الفرنسية
أصبحت اليوم من معالم باريس األساسية ،ومنها «مكتبة
تاريخية قديمة ترجع إىل أزمنة بعيدة.
بالقرب من عدد من الصروح واملعالم التاريخية العريقة،
كجامعة جوسيو ،وجامع باريس الكبري ،وثانوية هرني الرابع، وقد أشرف عىل بنائه مجموعة من املعماريني ،ومنهم جان
نوفيل الذي يتمتع اليوم بشهرة عاملية بالتعاون مع مكتب «أرشيتكتور أستوديو» للهندسة.
يتميز املبنى بطابعه الحديث الذي يستوحي بعض عناصر
العمارة العربية اإلسالمية ،كما يف واجهته الجنوبية حيث تطالعنا عناصر معمارية مستقاة من املشربيات املؤلفة من نوافذ صغرية تنغلق وتنفتح مع تبدل حركة الضوء .افتتح
املعروف برعايته لعدد مهم من املشاريع الثقافية الكربى التي فرنسا الوطنية» ،و«متحف اللوفر الكبري» ،وهرمه الزجاجي،
وقوس النصر الكبري ،وأوبرا الباستيل...
منذ افتتاحه حتى اليوم ،أقيمت يف املعهد مئات األنشطة
الثقافية يف مختلف املجاالت ،ومنها الفنون ،والسينما،
واإلصدارات الجديدة ،والندوات الفكرية التي تستضيف الشخصيات العربية والفرنسية .كما أن املعهد يضم مكتبة كبرية ً متحفا جميلاً أعيد افتتاحه عام تحتوي عىل آالف الكتب ،وتضمّ
2012م ،وهو يع ّرف بحضارة العالم العربي ،مر ّك ًزا عىل تنوعه
الديني واإلثني واللغوي منذ مرحلة ما قبل اإلسالم.
تقارير
يف موازاة النشاطات األسبوعية،
«معهد العالم العربي» مؤسسة
التي تستقطب آالف الزوار ،ومنها
الفرنيس .منذ تأسيسه يرأسه رئيس فرنيس
تخضع ،كما سبق أن أشرنا ،للقانون
تقام يف املعهد املعارض املوسمية الكربى
يرشحه رئيس الجمهورية الفرنيس ،أما
املعرض الذي يتواصل حتى نهاية الشهر
مديره العام فهو عربي ويختاره مجلس
الجاري تحت عنوان «حدائق الشرق»،
سفراء الدول العربية املؤلف من 22دولة.
ويروي مسرية الحدائق يف العاملني العربي واإلسالمي ،مب ّي ًنا استنادها إىل أسس
الرئيس الحايل للمعهد ،ومنذ مطلع عام
من املوروث الثقايف العربي اإلسالمي
والوزير السابق جاك النغ الذي خلف
2013م ،هو السيايس والقانوين الفرنيس
جمالية وهندسية وروحية مستمدة
عرب العصور .وبهذه املناسبة ،أنشئت يف تجسد هذا الطراز من باحة املعهد حديقة ّ
منصب وزير الثقافة ،ومرة واحدة منصب
الحدائق وتستمر طوال مدة إقامة املعرض .إنها حديقة عابرة
وزير الرتبية والتعليم ،وكان له أثر مهم يف الحياة الثقافية يف
التاريخي ملدينة باريس.
واملسرح والفنون البصرية واملتاحف.
ومؤقتة يتفاجأ بها الزائرون والعابرون من هناك حيث القلب
إذا كان معجب الزهراني يعطي مصداقية لهذا الموقع وثقال عرب ًّيا
78
جاك النغ
رونو موسولييه ،وتقلد يف السابق مرتني
فإن التساؤالت تبقى داخل المعهد، ّ قائمة حول الفرص التي ستتاح أمامه، وحول التحديات التي ستواجهه
فرنسا ،وقد تجىل هذا األثر يف مجاالت كثرية تشمل املوسيقا عندما تسلم النغ رئاسة املعهد كان هذا الصرح الثقايف
يعاين مشكالت مالية وإدارية كثرية ،كما كان يعاين انخفاض يف عدد زواره .ويرجع السبب يف العجز املايل إىل إحجام الدول
العربية ،ومنذ أكرث من خمس عشرة سنة ،عن املساهمة يف امليزانية السنوية للمعهد .وكان االتفاق بني الدول العربية
وفرنسا ينص عىل الصعيد املايل أن يساهم الجانب الفرنيس
بنسبة ستني باملئة من امليزانية العامة ،ويساهم الجانب العربي بأربعني باملئة .غري أن الجانب العربي تراجع شي ًئا فشي ًئا عن
صالح ستيتية: أنتظر مواقف تتالءم مع آفاق الثقافة العربية في حوارها مع الثقافة الغربية «معهد العالم العربي» الكائن يف باريس عىل أرض حضارة قديمة كأرض فرنسا ،هو رمز لحضارة أخرى ،قديمة هي ً أيضا ومتعددة ،كالحضارة العربية اإلسالمية؛ لذلك يجب أن تكون التحديات عىل مستوى اآلمال ّ املعلقة عىل هذا املعهد يف جميع ميادين اإلبداع .وعىل املستوى الشخيص،
أنتظر من الرئاسة الفرنسية الحالية للمعهد ،ومن املدير العربي الجديد مواقف تتالءم مع آفاق الثقافة العربية يف حوارها
مع الثقافة الغربية يف هذه األيام الصعبة ،حيث يعمل بعض املجرمني عىل تحويل الحوار الثقايف إىل حرب عنصرية قذرة. تمنحني معرفتي الشخصية القديمة بجاك النغ ،وما سمعته عن اإلمكانيات الثقافية التي يتم ّتع بها معجب الزهراين،
كثريًا من األمل يف ما يمكن أن يقدمه معهدنا العزيز يف تطلعاته وإنجازاته.
العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
شاعر وباحث لبناين يقيم يف باريس
معهد العالم العربي في باريس ..خيبات وآمال تتجدد
مساهمته منذ بداية التسعينيات ،وصارت
ّ يتمكن من االستمرار يف عمله 2009م ،يك
وتساهم يف امليزانية ،وهذا أدى إىل إلغاء
رئيسان :األول هو رئيس املجلس األعىل،
فرنسا وحدها هي التي تتوىل األمور املالية،
رئيسا .كذلك صار للمعهد يف عهده ً
كثري من النشاطات والربامج الثقافية،
والثاين هو رئيس مجلس اإلدارة.
وإىل تدهور مهم يف الشراكة العربية
إعادة هيكلة املعهد أدت إىل تقليص
الفرنسية.
صالحيات املدير العربي ،ومنح الرئاسة
بعد أن توىل جاك النغ الرئاسة،
الفرنسية صالحيات إضافية .ويف زمن
مع الدول العربية ،وتشجيعها عىل
األعىل ،وبرونو لوفلوا رئيس مجلس
قام بخطوات عدة الستعادة العالقات املساهمة يف تمويل املشاريع الثقافية، فأصبح
بعض
هذه
الدول
يقوم
دومينيك بوديس كان هو رئيس املجلس
دومينيك بوديس
اإلدارة .وعندما توىل جاك النغ رئاسة
املعهد أصبح يتمتع بمنصبني :رئيس
بمساعدات محددة تطال هذا املشروع أو ذاك ،ومن هذه
املجلس األعىل ورئيس مجلس اإلدارة .وقد بقي منصب املدير ً فارغا بعد رحيل منى خزندار التي تبوأت هذا املنصب العربي
«الحج» الذي أقيم عام 2014م ،ومساهمة املغرب يف تمويل املعرض املخصص إلبداعات املغرب املعاصر عام 2014م ً أيضا.
إنّ تعيني معجب الزهراين اليوم مدي ًرا للمعهد من شأنه أن يع ّزز الحضور العربي فيه ،ويفتح هذا الصرح الثقايف
املشاريع والنشاطات ،عىل سبيل املثال ،مساهمة مكتبة
«امللك عبدالعزيز العامة» يف الرياض يف تمويل معرض
وهكذا أمست كل املشاريع التي تحققت ،والتي ستتحقق يف
املستقبل ،مرتبطة بتمويلها الخاص. تحوالت هيكلية
عام 2011م ملدة ثالثة أعوام.
النادر ،الجاثم عىل ضفة نهر السني ،عىل مبادرات جديدة
يحتاج إليها املعهد يف الظروف الراهنة التي تجتازها فرنسا، وأمام التحديات التي تواجه الجاليات العربية واإلسالمية بعد العمليات اإلرهابية التي من أهدافها ّ شق الصفوف ،وإحداث
لقد شهد «معهد العالم العربي» يف عهد رئيسه الراحل
هوّة بني مكوّنات املجتمع الفرنيس .يبقى السؤال حول
القانون الذي يمنع الرئيس الفرنيس تويل منصبني .وقد جاء
نفسه فيها ،هو الذي يعرف معنى الدور املنوط بالثقافة بشكل
دومينيك بوديس تحوالت يف هيكلته ،ومنها قيامه بتعديل
هذا التعديل بعد انتخاب بوديس نائبًا يف الربملان األوربي عام
اإلمكانيات املتاحة أمام الزهراين ،وحدود التح ّرك الذي سيجد
ّ خاص. عامّ ،ويف أزمنة امل ِحَ ن بشكل
أسعد عرابي: ال يمكننا نفي خيبة األمل المزمنة «كثريًا ما نطرح عىل أنفسنا السؤال نفسه حول هذا الصرح الكبري
يف عمارته ونفقاته وطموح مشروعه منذ األساس ،وحتى حول موقعه
اإلسرتاتيجي يف قلب العاصمة الفرنسية بجانب نهر السني .ال يمكننا أن ننفي خيبة األمل املزمنة يف ّ كل مرة نطرح مثل هذا السؤال أمام تواضع ما أنجزه املعهد .مع ذلك ،نحن من الذين يأملون دائمً ا يف تحسني ظروف املعهد والتأكيد عىل إيجابياته .فهناك مثلاً أسماء مرّت عىل املعهد ،بحجم
األمل الذي كنا نملكه يف البداية ،مثل الناشر والباحث السوري فاروق مردم
بك ،لكن الشروط التي عاقته عن العمل دفعته إىل أن يستقيل .وهذا مثل واحد من أمثلة كثرية ،يعني أنّ املعهد ال يزال ُّ ً التحقق وال نزال بانتظار ما هو أفضل. مشروعا قيد
فنان تشكييل وناقد سوري
79
مقال
النخب في الخليج العربي كأي مجتمع من المجتمعات اآلهلة بالسكان والحركة والنشاط كانت مجتمعات الخليج والجزيرة العربية -وال تزال -زاخرة بالنخب واألعالم والرواد ،رجالاً ونساء ،في مختلف مجاالت ومناحي الحياة من دون استثناء .فمنهم التكنوقراط الذين تسلقوا
ساللم العلم والتخصصات األكاديمية العليا قبل أن ينتظموا في سلك العمل الحكومي ،ويعملوا على رفعة شأن أوطانهم وبناء الدولة المدنية الحديثة .ومنهم الساسة الذين انخرطوا في الحراك السياسي والمجتمعي من أجل استقالل وسيادة بلدانهم. ً مرموقا في عوالم المال واألعمال ،يرفد بثروته جهود ومنهم من مارس التجارة واألنشطة االقتصادية المتنوعة فغدا اسمً ا
ومشاريع بالده التنموية ،ويساهم بما حباه الله من نعمه في ضروب البر والخير واإلحسان .ومنهم من استثمر علمه وجهده في الميدان الثقافي فأضحى فارسً ا من فرسان الكلمة ورقمً ا بار ًزا في مجال التنوير واإلبداعين األدبي واإلعالمي .ومنهم من ّ سخر
مواهبه في االرتقاء بالذائقة الفنية لمواطنيه من خالل المسرح والسينما والتلفزيون والموسيقا .ومنهم من قادته خطاه إلى أرقى الجامعات األجنبية للتخصص في الميادين العلمية الدقيقة الكفيلة بحل مشكالت ومعضالت البشرية.
ولعل ما ميـّز النخب في الخليج العربي قديمً ا شيئان؛ أولهما هو انفتاحها على اآلخر واستعدادها للتماهي مع كل جديد ً خالفا لما أورده بعض المستشرقين األجانب في كتاباتهم حول وجود صدود وحذر من هذه النخب لجهة وعصري ،وذلك
استقبالها وتعاطيها مع الظواهر العصرية ،أو لجهة تماهيها مع المجتمعات الجديدة التي انتقلت إليها من أجل الرزق أو العلم أو كليهما .وثانيهما سعيها الدؤوب وحرصها الشديد على فهم األشياء ومعرفة كنهها بأسرع وقت.
80
هجرات واندماج
فلو تتبعنا هجرات النخب الخليجية األولى التي انطلقت في القرنين الثامن والتاسع عشر الميالديين من بطون نجد باتجاه الزبير والكويت والبحرين ،وصولاً إلى العراق ومصر وبالد الشام ،هربًا من القحط وقسوة الحياة ،نجد أنها تمكنت بسرعة من
االندماج في تلك المجتمعات المغايرة كليًّا لمجتمعاتها ،بل برزت فيها كتجار وأصحاب نفوذ وعالقات واحترام ومكانة اجتماعية. َ الهجرة إلى الهند ،سواء أولئك ويصدق الشيء ذاته على النخب الخليجية التي فرض عليها امتهانها الغوص الستخراج اللؤلؤ
الذين قصدوا بومباي لتصريف محاصيلهم من اللؤلؤ الطبيعي في سوق «موتي بازار» الكبير للؤلؤ ،أو أولئك الذين قصدوا بومباي
وغيرها من مدن الهند الفيكتورية؛ مثل :كلكتا ،وحيدر آباد ،ومليبار ،بدافع تأسيس قواعد وعالقات تجارية دائمة لهم مع نظرائهم الهنود؛ كي يستثمروها في تصدير ما تحتاجه مجتمعاتهم من مواد غذائية وتوابل وأقمشة وعطور وأخشاب وكماليات
عصرية ،أو أولئك الذين أبحروا إلى هناك من أجل اكتساب المعارف الحديثة ،وال سيما اللغة اإلنجليزية ومسك الدفاتر.
فعلى هامش هذه الظاهرة التي شهد القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين أوضح تجلياتها ،برزت بومباي كواحدة
من أكبر تجمعات النخب الخليجية؛ إذ سكنتها وعملت وتعلمت بها نخب من الخليجيين ممن تركوا فيها مآثر وذكرى عطرة ،ال
يزال عبقها يفوح من جنبات شارعي «محمد علي رود» و«إبراهيم رحمة الله رود» ومنطقة «كوالبا»؛ من هؤالء :آل البسام ،وآل القاضي ،وآل القصيبي ،وآل الفوزان ،وآل الفضل من نجد ،وآل زينل ،وآل عبدالجواد ،وآل الصبان ،وآل باناجة من الحجاز، وآل عبدالرزاق ،وآل صانع ،وآل إبراهيم ،وآل مشاري ،وآل الشايع ،وآل الخالد ،وآل الغانم ،وآل المرزوق ،وآل الفليج ،وآل الحميضي ،وآل الصقر ،وآل غربللي ،وآل الخرافي ،وآل الهارون ،وآل الجسار ،وآل الرومي من الكويت ،وآل الزياني ،وآل
فخرو ،وآل مطر ،وآل مصطفى عبداللطيف بستكي ،وآل كانو من البحرين ،وآل المدفع من الشارقة ،وآل الصايغ ،وآل بدور،
وآل لوتاه ،وآل النومان ،وآل نابودة من دبي ،إضافة إلى الشيخ قاسم بن محمد آل ثاني المؤسس الحقيقي إلمارة قطر. وإذا ما أردنا دليلاً آخر على قدرة اإلنسان الخليجي ،في عصر ما بعد اكتشاف النفط ،على االرتقاء بنفسه إلى مصاف النخب
فهو سرعة اندماجه وتماهيه مع النقلة الحضارية التي أحدثها قدوم شركات البترول األجنبية إلى المنطقة ،وتأسيس األخيرة لما يمكن تسميته بمدن النفط الحديثة بمظاهرها ومنشآتها العصرية ،وثقافتها الغربية ،وأنماط معيشتها المتمدنة ،وفرصها
التجارية المربحة .وسرعة االندماج هي التي أهّ لت كثيرين من أبناء المنطقة للصعود إلى رأس الهرم االقتصادي ،أو للذهاب إلى
أوربا والواليات المتحدة لاللتحاق بأرقى الجامعات هناك ،والعودة منها بأعلى الدرجات الجامعية. العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
ويستوي هذا مع ما حدث في دول الخليج -عدا المملكة العربية
السعودية -من سرعة قبول وانتظام وعمل مواطنيها في دوائر الدولة
الحديثة من تلك التي أسستها السلطات البريطانية الكولونيالية ،وبخاصة في البحرين .ومن المفيد هنا اإلشارة إلى أن شي ًئا من هذا الجانب حدث ً أيضا يوم أنْ جاءت اإلرساليات األجنبية إلى البحرين والكويت لتأسيس أوائل المدارس والعيادات الطبية في مطلع القرن التاسع عشر. الخليج ليس ً نفطا
إن دراسة سير النخب في الخليج العربي وتسليط الضوء المكثف
على مسيرتها العلمية والمهنية وأنشطتها االجتماعية والثقافية ،وما واجهتها من صعاب ومعوقات في طريقها نحو االرتقاء بنفسها ،وتنمية
مجتمعاتها ،وتنوير مواطينها ،وتوطيد دعائم دولها؛ أمر في غاية األهمية ،ويستوجب عملاً دؤوبًا وممنهجً ا ،وجهدً ا مستم ًّرا ال ينقطع، ليس ألن في سرد مثل هذه السير عب ًرا وعظات فحسب ،إنما ألنها -وهذا
هو األهمِّ - تقدم لألجيال الشابة الصاعدة ،التي أخذها الترف بعيدً ا من
عبدالله المدني كاتب وأكاديمي بحريني
المعلومة والقراءة الجادة -لوحات بانورامية لما كانت عليه أحوال آبائهم وأجدادهم ،وما كابدوه من شظف العيش ،وقسوة الحياة،
وقلة الحيلة ،وكيف أنهم بالرغم من كل هذا شقوا طريقهم ،وحفروا أسماءهم في الصخر .ومما ال جدال فيه أن المتلقي سوف يقرأ من
81
خالل التدوين والتوثيق لسير هذه النخب كثي ًرا عن عملية االنتقال من المجتمع التقليدي إلى المجتمع الحديث بكل ما فيها من رصد لصور
العمل والصبر والكفاح واالجتهاد واالبتكار .كما سيقرأ صفحات من
التاريخ الديناميكي الناصع للخليج .فهذا الخليج ،بعد كل شيء ،ليس ً نفطا كما قال الصديق الدكتور محمد غانم الرميحي أستاذ علم االجتماع
السياسي بجامعة الكويت في كتابه «الخليج ليس ً نفطا» الذي صدرت طبعته األولى عام 1986م. ً نعم ،في الخليج نفط لكن فيه أيضا حضارة وقيم وإباء وشيم
وعادات أصيلة ،ورجال بنوا أوطانهم من الصفر ،ودافعوا عن حياضها. وفيه مجتمعات عـُرفت منذ القدم بحركة األفراد والجماعات وتبدل
األماكن واألزمنة وتغير أنماط الحياة من حال إلى حال وتطور المدن
والحواضر ،وتشكل التنظيمات االجتماعية المحلية؛ كالنخب الحاكمة، والقبيلة ،واألسرة والقرية والمدينة واألسواق والموانئ. لقد ظلت المكتبة الخليجية تفتقر طويلاً إلى مؤلفات توثق لحركة مجتمعاتها وتحوالتها المدهشة ،وتسرد سير نخبها وأعالمها
وروادها ،بطريقة علمية رصينة ،وعانى المهتمون بالتأريخ االجتماعي األنثروبولوجي من كثير من المثبطات التي أعاقت نشاطهم في هذا ً وفقا لألديب اإلماراتي والرئيس السابق للمجلسالمجال .والسبب
الوطني االتحادي األستاذ محمد أحمد المر -هو غياب الدعم المؤسساتي والمادي ،وضعف محتويات مراكز األرشيف والمعلومات الوطنية، إضافة إلى قلة اهتمام دور النشر بهذا النوع من اإلنتاج الفكري.
دراسة سير النخب في الخليج العربي وتسليط الضوء على مسيرتها العلمية والمهنية وأنشطتها االجتماعية والثقافية؛ أمر في غاية األهمية ،ويستوجب عمال وممنهجا دؤوبا ً ً
دراسات
ليس العبقري معيا ًرا للحقيقة أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري أديب سعودي
إمعيَّة العقل العربي المعاصر َّ قال أبو عبدالرحمن :ال أعلم في َّ أدل من ِ ِعبار ٍة لـ (سوسير) َي ُ زع ُم فيها َّ أن العا ِلـم العبقريَّ يكون معيارًا للحقيقة؛ وإنما ٍّ محمد صلى الله عليه وسلم في تبليغ الشرع ذلك للمعصوم عبدالله ورسوله
ً ُ ُ ُ ومحاكمته داللة، وتحقيقه توثيق النص تاريخيًّا، وتـبيينه ..إذن المعيا ُر هو ُ ِعلميًّا ِمن ْ حقله ال َـم ْع ِر ِفـي والحقول المعرفية المساعدة؛ والوسيط في ذلك الفك ُر بضروراته ..وليس في جزئيات كتاب (سوسير) ما هو راجح؛ فكيف يكون ُّ كله ْ بقانون ُم ْلزم ؟ أشبه ٍ
82
شريف الغاية.. والعا ِلـم العبقريُّ قد يجمح به الخيال ،وقد يكون غي َر ِ
َ كتاب سوسير (واد باسكين) من اللغة الفرنسية إلى اللغة اإلنجليزية؛ وترجم ُ ترجمة (أحمد نعيم الكراعين) إلى العربية ،وقد عرَّف (واد وعنه كانت ٌ باسكين) ُ «أشخاص قليلون هم الذين حظوا بالمؤلف (سوسير)؛ فقال: باالحترام الواسع واالنتشار في تاريخ علم اللغة على إنجازاتهم المختلفة مثل (فردينان دي سوسير) ،ولقد استعار (ليونارد ُ ِّ [األبلغ :في إضافة] السويسري بإضافة بلومفيلد) تف ُّو َق األستاذ األساس النظري لالتجاه الجديد في الدراسة اللغويةَّ .. وإن ِ الباحثين األوربيين نادرًا ما فشلوا في األخذ باالعتبار آراءَه هات نظره) كلما تعرضوا ِّ ألي مشكلة نظرية ..ولكن (وجْ ِ ِ ُ ْ كل ما تضمنته تعليماته -بالنسبة لجانِبَي الدراسات الثابتة (الوصفية) والتطورية :-ال تزال صحيحة..
فردينان دو سوسير
العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
لقد نجح (سوسير) في فرض طاب َِعه الشخصي على كل شيءٍ ِّ
من خالل مسيرته؛ ففي سنِّ العشرين [األفصح( :عشرينَ )؛ ألنه
ال معهو َد لها] عندما كان طالبًا في (ليبزج) :نشر بحثه الهامَّ [الهامُّ ألنه دا ِفعٌ إلى االهتمام ْ ٌ صحيحة؛ َّ والـم ُِهمُّ أ ْبل ُِغ] (النظام الصوتي
ُ البحث على للغة الهندوأوربية األصلية (البدائية) ..وقـد قـام هـذا ً َ ً ْ (مشاعا) في زمانه ،وال يزال عامة كانت م ُْل ِكي ًَّة وحقائق ـات نظري ٍ يُعْ تبر أوسعَ وأشمل معالج ٍة لصوتيَّات الهندوأوربية األصلية.. ولقد تتلمذ على النحويين الجدد (أوستوف) ،و(لسكين)؛ ولكنه
علم رفض منهجهم التجزيئي لعلم اللغة في محاولته لتشكيل ٍ مترابط لعلم اللغة.. َّ وبالرغم من [األفصح :وعلى الرغم مِن أنَّ ] قلة منشوراتِه (أبحاثه) [وهي] ست مئة صفحة خالل حياته :فقد وصل تأثير َّ (دي سوسير) حدًّا بعي َد المدى؛ ففي باريس (حيث تعلم السنسكريتية ِلـ ُم َّد ِة عشر سنوات ،سنة [ 1891 -1881م] ،وعمل
علم سكرتي ًرا للجمعية اللغوية الباريسية :فإن أثره في تطو ُِّر ِ َ لاً لاً واو َقبْلها] ..إن اللغة كان حاسمً ا وفعا [األفصح( :فعَّ ا ) بدون ٍ دراساتِه األولى للمخطوطات األفرنج َّي ِة واللهجات اللتوانية :ربما ً مسؤولة إلى ٍّ ب تكون حد ما من بعض الجوانب فيما يُعبِّر عن حُ ِّ
طالبه له في جامعة جنيف سنة 1911-1906م ..إن نظرته ْالـمُوحَّ دة أثمرت أو َّ َ ْ تفكير عصريٍّ ، أفضل حق َقت (التكاملية) لظاهر ِة اللغة ٍ
والفكر النافذ.. باإلضافة إلى الصبر على البحث لسنوات طويلة، ِ إنَّ سيطرة النظام الفلسفي لكل عصر يضع بصماتِه على كل خطوة من خطوات تطور علم اللغة [و] إنَّ ْالـمَنهج التجزيـ ِئ َّي في
البحث عن الحقيقة الذي ساد القرن الثامن عشر :هو الذي منع الباحثين من االقتراب من الحقائق الموجودة في مادة الكالم؛ فقد كانت اللغة تعني بالنسبة ألولئك الباحثين بكل بساطة: ْالـمَخزونَ ،أو َ اآللي من الوحدات [التي] ُت ْستعمل في الكالم.. الكمَّ َّ لقد حالت الدراسات ْالـمُتفرقة (التدرجيَّة) دون التطور في مفهوم ُ الحقائق التجزيئي َُّة.. الطريقة الكلية التي كانت تالئمها
ليونارد بلومفيلد
المفهوم التجزيئي للكالم
ذري) للكالم :انعكس على إنَّ المفهوم التجزيئي ِ (الج ِ ْ الدراسات التاريخية لعلماء فقه اللغة الـمُقارن ،وفتحت
المجال للمفهوم الوظيفي والبنائي للغة ..وقد كان (سوسير) ُ ًّ وظيفة خاصا تتوافق يرى في البداية أنَّ اللغة تحوي نظامً ا
قيمة من خالل عالقاتها مع الكل ْ ً [ال ُـك ّل بأداة أجزائِه ،وتكتسب ِ ُ ً التعريف صحيحة ل َغة؛ ألنها ترفع كثي ًرا من اإلبهام ،وقد حقق ذلك الزبِيدي في كتابه (تاج العروس)] ..وبتركيز االنتباه على اإلنساني الواضح في الكالم (أعني نظام اللغة) :فقد الجانب ِّ أعطى (سوسير) لعلمه الوحدة والمباشرة حتى نشر بحثه (وقد رجم أخي ًرا إلى األلمانية واألسبانية) ..فقط أولئك الذين سعدوا ُت ِ
بعالقات وثيقة مع (سوسير) هم الذين توصلوا (عرفوا نظريَّاته) إلى نظرياته ..وبقيامنا بترجمة محاضراته هذه إلى اإلنجليزية
آمل أن أسهم في تحقيق هدفه ،وهو دراسة اللغة في ذاتها [في نفسها] ،ومن أجلها» [فصول في علم اللغة العام ص.]9-7
قال أبو عبدالرحمن :في كتاب (سوسير) ميتافيزيقيات
وعمومات ومماحكات بتحليالت فيزيولوجية وفيزيائية (ال يهم ُ بطالنـها؛ ألنه ال أثر لها في علم دارس اللغة العربية صح ُتها أو
ُشو َ اصطالحات م َ ٌ ِّشة على اصطالح قائم دون أن الداللة) ،وفيه ُ حاصل ولكن بزيادة تعقيد ،وليس تفيد جديدً ا ،وفيه تحصيل ٍ الكتاب بعد ذلك بذلك المستوى من َ األ َلق بإضافاته ،وأنا قائم ً دراسة تحليلية بعد ترتيب واختصار؛ ألن إن شاء الله بدراسته الطبعتين العربيتين سَ ِّي َئتا الطباعة مع كثرة المحْ ِو ،وسوءِ
استخدام عالمات الترقيم -؛ مما يزيد الموضوع تعقيدً ا،- وإغفال ما يجب إيضاحُ ه األسلوب الفني عن الترجمتين، وانتفاءِ ِ ِ
وكون المترجمين حاويين غير محاكمين ..و(سوسير) وبسطه، ِ بعد ذلك تلميذ أمين لـ (دور كايم) ..وكفى بذلك فخ ًرا !![ ..انظر علم اللغة /مقدمة للقارئ العربي للدكتور محمود السعران /دار النهضة العربية ببيروت] ..ومن مصطلحاته التي طاروا بها فرحً ا
أوستوف
لسكين
83
دراسات
(السميولوجيا) :أي علم العالمات ..وعن تأثير سوسير قال الدكتور
من خالل ما ذكره عنه تالميذه»[ ..موجز تاريخ علم اللغة في
الخاصة بـ (الفونيم)ُ ..عني بذلك األمير الروسي المهاجر (ن.
ُ وأشياعهما ظهروا بتصو ٍُّر جاكوبسون /ولد سنة 1896م) ..هذان جديد هو (الفونولوجيا)؛ وقد ميز (تروبتسكوي) و(جاكوبسون)
المعرفة الكويتية /رجب عام 1418هـ] ..وقال (واد باسكين): «لطالما سمعنا َنعْ َي (دي سوسير) َ األسس والمناهج التي قلة ِ ُتـميِّز علمَ اللغة خالل فترته التطورية ،ولقد استمر طيلة حياته ً مباشرة عن أفكاره وسط هذه يبحث عن القوانين التي ُتعبِّر
األصوات اللغوية في المؤتمر اللغوي األول الذي عقد في الهاي
وهي واحدة في جميع األشياء في الجماد ،والنبات ،والحيوان؛
السعران« :وأخذ اللغويون يُنمُّون أفكار (دي سوسير) محمود َّ
تروبتسكوي 1938 -1890/م) ،وتلميذه ومساعده الروسي (رومان
ومساعدوهما بين (الفونولوجيا) وبين (الفونيتيك) :أي علم سنة 1928م؛ وكان مركز هؤالء مدينة (براغ)» [علم اللغة ص344 ] ..وقال (ر .ه .روبنز) عن تأثيره« :وكانت الشخصية الرئيسة في
تغيير مواقف القرن التاسع عشر لمواقف القرن العشرين على ُ [شخصية] اللغوي السويسري (فردينان دي نحو مهم :هي
سوسير) الذي ُع ِرف أولاً في المجتمع العـلمي من خـالل مسـاهم ٍة مهمة في عـلم اللغة الهندوأوربي المقارن ،بعد دراسته في
(ليبزج) مع أعضاء مدرسة القواعديين الجدد.. لاً ومع أن (دي سوسير) قد نشر القليل [الصواب :قلي ؛ ألنه
ال معهود ألداة التعريف] بنفسه :فإن محاضراتِه في علم اللغة في أوائل القرن العشرين قد َّأثرت كثي ًرا في بعض تالميذه في
84
الغرب ص / 287ترجمة الدكتور أحمد عوض /سلسلة عالم
ْالـ ُهيُولى [الهيولـى أو الهيوال كلمة يونانية تعني ْ األص َل أو الماد ََّة؛ وإنما تتباين الكائنات في الصور فقط؛ فالهيولى في نفسها ال
صورة لها وال صفة؛ لذلك تحتاج إلى الصورة لكي تجعله يوصف وتظهر وتتحدد معالمه؛ فالصورة هي المبدأ الذي يعيِّن الهيولى ً ماهية خاصة؛ فالهيولى والصورة ال ينفصالن؛ إذ كل ويعطيها َ الهيولـى ْالـجَ وْهَ ر الماديَّ ، موجود يتكوَّن من كليهما ..وتسمى َّ والشيءُ بما له من هيولى وصورة :أطلق وفي فلسفة أرسطو..
عليه (أرسطو) كلمة (الجوهر) ،ومن الجواهر المختلفة تتكون
الحقيقة (انظر :ويكيبيديا /الموسوعة الحرة)].. َّ محل ولـم يكن في مقدوره حتى سـنة 1906م عندما حـل (يوسف ويرثيمر) في جامعة جنيف أنْ يع ِّرف بأفكاره التي تب َّناها ورعاها خالل سنين عديدة؛ كما أنه درس ثالث مسافات في
باريس وجنيف؛ حتى إنهم نشروها في عام 1616م تحت عنوان ُ إعادة (محاضرات في علم اللغة العام)؛ وهذا بقدر ما أمكنهم
علم اللغة العام خالل السنوات :سنة 1906م ،سنة 1907م ،سنة
تاريخ علم اللغة فإن (دي سوسير) يُعْ َر ُف ويدرس إلى حد كبير
نصف وقت فصوله لتدريس تاريخ اللغات الهندوأوربية ووصفها، األساسي في موضوعه اس ُتقبل مع األخذ بعين االعتبار أنَّ القسم َّ
بنائها [الصواب :بناؤه] نقلاً عن كراسات محاضراتهم ومحاضرات ً باقية بخط (دي سوسير) ..وفي آخرين ،وموا َّد معين ٍة كانت
بين الكالم والرمز واللغةِ فرق عظيم؛ است ُْحدِ ث فالرمز السيميائي :ثمرةٌ لما ْ سا ِن َّيا ِ ت مِ ن ال ِّل َ
1909م ..وما بين سنتي 1911-1910م :فرض عليه جَ ْدو َُله أنْ يك ِّرس
باهتمام أقـل مما يسـتحق ..كـل الذين كـان لهم شرف االشتراك في ً مؤلفا من إنتاجه، أس ُفوا؛ ألنه لم يترك معرفة موهبته الفذةِ : وبعد وفاته نأمل أنْ نجد في مخطوطاته [كلمة (في) ههنا فضول]
ُس َّودَاتِه)؛ فقد تكرمت بإتاحتها لنا (مدام دي سوسير) [؛ وهي] (م َ ٌ مالحظات] صحيحة أو على األقل مالئمة من مالحظات [األصحُّ ٍ
محاضراته الحية المهمة ..وكان علينا في البداية أن نقارن بين مالحظات (دي سوسير) الخاصة ومدونات تالميذه.. لقد أخفقا بشكل كبير ،لم نجد شي ًئا ،أو دائمًا ..ال
شي َء يشابه مذكرات تالميذه ..وعلى كل حال فقد مسودات أدَّت َغ َر َضها؛ فقد أتلف (دي سوسير) ِ
أدراج مالحظاتِه التي استخدمها في محاضراته ..وفي ِ ً ً قديمة له ليست تافهة أو مالحظات سكرتيرتِه وجدنا ٍ
عديمة القيمة ،ولكن ال يمكن َدمْـجُ ها مع مادة الفصول ُ واكتشافنا كانت َتعْ َت ِر ُضه [األبلغ (كان يعترضه) الثالثة، بالياء ذات الثنتين من تحت قبل العين المهملة؛ ألنَّ
ٌ صعوبات؛ ألنَّ واجبات الضمي َر عائد إلى االكتشاف] ِ َ الجامعي) قد جعلت من المستحيل (العمل األستاذية َّ
بالنسبة لنا متابعة محاضراته األخيرة ،وهذه تبدو خطوة العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
معيارا للحقيقة ليس العبقري ً
دور كايم
مضيئة في سيرة حياته؛ ألنها الشاهد األو َُّل على ظهور بحثه عن النظام الصوتي في الهندوأوربية األصلية (البدائية) ..علينا أن نعود إلى المالحظات والمذكرات التي ُدو َِّن ْ ت وجمعت بواسطة تالميذه في محاضراته في الدورات الثالث ..ويوجد تحت تصرفنا ثالث مذكرات كاملة :بالنسبة للفصلين األولين ُكتبا بواسطة (مسز
تروبتسكوي
جاكوبسون
الحر -على الشفاه ،والتداخالت ،واألشكال المختلفة :ستظهر هذا النشر ،وتعطيه مظه ًرا متناف ًرا..
وتحديد الكتاب في فصل واحد -أي الفصلين اآلخرين
والفصل الثالث لوحده ،وهو أهم الفصول الثالثة -ال يمكنه أن يقدم لنا إحصاءً كاملاً لنظريات ومناهج (ف .دي سوسير)..
لويس كايلي) ،و(وليبوبولد جوتير) ،و(باول رجارد) ،و(ألبرت ب بواسطة ريدلينجر) ..أما بالنسبة للثالث -أكثرها أهمية[ -فقد] ُك ِت َ
الواضحة من غير تغيير ..هذه الفكرة طرأت في البداية ،ولكن
يوسف) ..ونحن مدينون لـ (م .لويس بروتش) بمالحظات خاصة..
على هذه الصورة من التجزيء التي ال تظهر قيمتها إال من
(ألبرت سيخهاي) ،والسيدة (جورج ديجالير) ،و(فرنسيس بنقطة معينة كل أولئك المساهمين يستحقون منا جزيل الشكر» [فصول في علم اللغة العام ص.]12 -11 تبعثر كتاب سوسير واضطرابه
قال أبو عبدالرحمن :أسلفت في إحدى المناسبات كالمً ا مماثلاً لمق ِّدمِي طبعة جنيف عام 1915م ،وهما (جارلس بالي)،
أحد االقتراحات كانت تنش ُر بعض الفقرات أو المقاطع األصلية
عندما اتضح أننا سنشوِّه أو نحرف أفكار أستاذنا إذا قدمناها خالل الصورة الجمعية أو الكلية ..ووصلنا إلى الجرأة ولكن كما نعتقد إلى ٍّ حل أكثر معقولية أن نحاول إعادة التركيب والتأليف باستخدام الفصل الثالث كنقطة بداية ،واالستفادة من كل المواد
األخرى الموضوعة تحت تصرفنا ،باإلضافة إلى مذكرات (ف .دي) الخاصة كمصادر مكملة ..إن مشكلة إعادة تمثل وإبداع فكر (ف.
دي سوسير) ،كانت األكثر صعوبة؛ ألن إعادة الخلق واإلبداع،
و(ألبرت سيكاهي) عن تبعثر كتاب (سوسير) واضطرابه ..ثم
يجب أن تكون موضوعية..
االختالفات ،ونعيد بناء أفكار (دي سوسير)؛ لنزيل عنها التردد
أو الحيوية لكل فكرة خاصة ،وذلك بمحاولة معرفة الشكل
قال (واد باسكين) عن منهجه ومعاناته« :علينا أن نقارن كل
والبهوت والتضارب في بعض األحيان والتلميحات ..وبالنسبة للفصلين األولين نستطيع أن نعدد الخدمات التي قدمها (م.
رايدلينجر) أح ُد الطالب الذين تابعوا فكرة األستاذ باهتمام بالغ؛
فعمله ذو قيمة كبيرة ..أما بالنسبة للفصل الثالث فإن واحدً ا منا وهو (أ .سيخهاي) قام بإنجاز تفصيالت العمل نفسه من فحص ومقارنة وتركيب للمادة ..ولكن بعد ذلك فإن الكالم الشفوي الذي
يتناقض غالبًا مع الشكل الكتابي يشكل أكثر الصعوبات ،وبجانب هذا فلم يكن (ف .دي سوسير) من أولئك الرجال الذين يقفون في
مكانهم؛ فأفكاره تتطور في كل االتجاهات دون أن تتناقض ذاتيًّا ً نتيجة لذلك ..إنَّ ْ نشر كل شيء في شكله األصلي يُعَ ُّد [في َن ْف ِسها] مستحيلاً ؛ فالتكرار -الذي ال يمكن تجنبه أثناء الكالم الشفوي
وعند كل نقطة كما نعمل على الوصول إلى النقطة األساسية
المحدد في ضوء النظام الكلي ..وكان علينا في البداية أن نزيل
االختالفات والخصائص الشاذة أو الغريبة للكالم الشفوي ،وأن
نضع الفكرة في مكانها الطبيعي من العمل ،ووضع كل جزء منها تبعً ا للنظام الذي قصده المؤلف؛ حتى ولو كان قصده غير واضح
دائمً ا يحتاج إلى حـدس ..من هـذا العمل من المماثلة ،وإعـادة التركيبَّ : ول َد أو َخ َّرج هذا الكتاب الذي نقدمه ..ليس من غير
حذر إلى الجمهور المثقف وإلى كل األصدقاء من اللغويين ..لقد كان هدفنا أن نعمل معً ا كلاًّ عضويًّا (وحدة عضوية) وذلك بعدم حذف شيء يؤثر على االنطباع أو الصورة الكلية ،ولكن بالنسبة
للسبب الرئيسي فمن المحتمل أنْ يوجَّ ه لنا النق ُد من جهتين َّ الكل غي ُر كامل ..إن األستاذ في األولى :سيقول النقاد :إنَّ هذا
85
دراسات
تدريسه لم َيد َِّع أو ي َُطالِب باختبار كل أقسام علم اللغة ،أو يُك ِّرس
(البحث عن فردينان دو سوسير) لـ (ميشال أَر ْ ِّيفيه) بترجمة
ماديًّا ..بجانب هذا لم يكن ذلك همه الرئيسي ..وباالنسياق مع
وبمراجعة الدكتور (نادر سراج) ،وصدر عن دار الكتاب الجديد
نفس الجهد لكل واحد من هذه االختبارات؛ فإنه ال يستطيع ذلك بعض العناصر األساسية والشخصية أينما وجدت في ثنايا البحث -والتي [قال أبو عبدالرحمن :الصواب :وهي التي] شكلت لحمة
أو نسيج هذا العمل (فبْركته) الذي يعتبر صعبًا بقدر ما هو متنوع -الذي حاول النفاذ إليها ،فقط عندما
تتطلب هذه األسس تطبيقات خاصة،
أو عندما تتضارب بوضوح مع جانب من جوانب النظرية التي يحاول أن ينجزها.. هذا هو السبب في أن بعض المجاالت
مثل علم الداللة ال تلمح بسهولة ،ونحن
ال نشعر بأن هذه الثغرات تقلل من شأن البناء الكلي ..إن عدم وجود علم لغة ً مؤسفا.. للكالم يعتبر أم ًرا هذه الدراسة التي قررت على طالب ً مكانا الفصل الثالث تحتل بدون شك ً مرموقا ،وعدم االحتفاظ بهذا المقرر أمر معروف جيدً ا ..كل ما كان في استطاعتنا
86
األستاذ الدكتور (محمد خير البقاعي) مِن اللغ ِة الفرنسية،
المتحدة ببيروت طبعتهم األولى عام 2009م ،وتك َّرم حفظه
الله في إهدائه ص 5بقوله« :إلى شيخي الفاضل الشيخ أبي ُ ودوحة عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري؛ بح ُر العلم المتدفق، اللغة النضرة ،رمز الكرم األصيل ،ومعدنُ َّ ُ لعل فيه بعض الوفاء الخلق الطيب؛
علي ..محمد خير محمود البقاعي»، بحقه َّ َ وما أنا إال أحَ د ْ أص َغ ِر تالميذه فيما هو مِن ُ استعراض ما َت َخ ُّص ِصه ،ويهمني ههنا
ذكره الدكتور البقاعي في مقدمته ..قال
حفظه الله« :لقد كان اللغوي السويسري (فردينان دو سوسير) الشخصية الرئيسة َ مواقف القرن التاسع عشر التي غيَّرت في مجال اللغة ،وانتقلت بها إلى القرن العشرين ..وال يستطيعُ أحدٌ أنْ ينكر تأثيره
دو سوسير في علم اللغة في القرن العشرين ،وهو الذي َّ دشنه ،وقد ُشبِّه ْ نش ُر كتابه (دروس)
عمله هو جمع االنطباعات السريعة من المالحظات المضطربة
بالثورة الكوبرنيكية ..وإذا أردنا أن نق ِّر َب شخصية (فردينان دو
الممكن أن يقول النقاد :إننا أعدنا استخالص الحقائق محمولة
أمالي دوَّنها تالمذته في أوروبا؛ لم ينشر كتابه بنفسه ،وإنما كان َ
لهذا المشروع ووضعها في مكانها الطبيعي ..وبالمقابل فمن على نقاط تطورت بواسطة (ف .دي سوسير) والسابقين له ..ليس
كل شيء على امتداد هذا البحث يعد جديدً ا ،ولكن إذا كانت
األسس المعروفة ضرورية لفهم الكل [قال أبو عبدالرحمن: بينت كثي ًرا جواز دخول (ال) على كل وبعض وغير] :فهل ُندَانُ ألننا لم نحذفها؟َ ..ف َف ْضل التغيرات الصوتية على سبيل المثال
يتضمَّن أشياء قيلت من قبل ،ومن الممكن أن تكون قيلت بصورة
أوضح ..ولكنَّ أح َد جوانب الحقيقة هو أن هذا الجزء يحتوي على تفصيالت أساسية وقيِّمة؛ وحتى [قال أبو عبدالرحمن :الواو ههنا فضول] أن القاري السطحي (البسيط) سوف يرى إلى أيِّ مدى سيقلل حذفها من فهم األسس التي بنى عليها (ف .دي سوسير)
نظامه لعلم اللغة الوصفي ..نحن حذرون من مسؤوليتنا أمام النقاد ،كما أننا حذرون من مسؤوليتنا بالنسبة للمؤلف الذي من الممكن أن ال يسمح لنا بنشر هذه الصفحات ..لقد تقبلنا حمل
المسؤولية كاملة ،ونرغب في تحملها منفردين؛ فهل يستطيع
النقاد التمييز بين األستاذ وشراحه؟ ..وسوف نكون شاكرين
لهم إذا توجهوا إلى مهاجمتنا مباشرة؛ ألنه ليس من العدل أن تنصب اللعنات على رجل ذكراه عزيزة علينا ..جنيف يوليو 1915م»
[فصول في علم اللغة العام ص.]12 – 11 كتاب العربية اللغة إلى قال أبو عبدالرحمن :و َُن ِق َل أخي ًرا ُ العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
سوسير) إلى القارئ العربي المهتم قلنا :إنه سي َب َويْه اللسانيات الذين حضروا دروسه ،وبادر اثنان منهم إلى نشرها بعد موته بين ط َّي َتي كتاب س َّموْه (دروس في اللسانيات العامة).. ونشأت حول الكتاب حركة لغوية نق ِّربها إلى القارئ العربي؛
فنقول :إنها كالحركة النقدية التي نشأت حول أبي تمام والمتنبي؛
فتعددت الشروح والتفسيرات والطبعات المحققة ،والمقارنة بالمخطوطات ،وإثبات الفروق ،واكتشاف أسس العلوم الالحقة من بنيوية وسيميائية ،وغير ذلك من المعارف ..إال أن أكثر ما َّأثر في الدراسات اللغوية من فكر (سوسير) الذي تضمَّن ْته الدروس هو
انتقاله في دراسة اللغة من المنهج التاريخي التطوري إلى المنهج الوصفي الذي اعتمدته العلوم الحديثة م ً ُنهية النظرة التاريخية
التي سيطرت على دراسات العلوم اإلنسانية َر َدحً ا غير قليل من الزمنُ ..ت ْر ِجم كتاب (سوسير) إلى لغات كثيرة ،وأُقيمت حوله دراسات متنوعة في أوروبا وأمريكا وآسيا وأفريقيا وأستراليا ..أشار إلى بعضها ميشال أرِّيفيه في هذا الكتاب ،وكان نصيب الكتاب في
العربية حتى ساعة كتابة هذه السطور خمس ترجمات ،وليس من مهمة هذه المقدمة تقويم هذه الترجمات ،وإنما اإلشارة إليها
في سياق اهتمام العرب بـ (فردينان دو سوسير)[ ..م.س ص.125
المترجم] ..وقد اختلفت الترجمات الخمس في كتابة اسم مؤلف ُ اخترت أن أكتب اسمه حسب األعمّ األشيع الدروس؛ أما هنا فقد
معيارا للحقيقة ليس العبقري ً
في الكتابات العربية مشي ًرا إلى أن النون األخيرة من فردينان خيشومية فيها ُغ َّن ٌة ُت ْش ِعر بالحرف األخير من االسم؛ وهو ُ (الدال) ،كما أن األداة ( )deينبغي أن تقابل بـ (دو) حسب النطق
الفرنسي الذي يقتضي أن نكتب ً أيضا (سوسور)؛ ألن الواو أقرب إلى نطق ( )uالفرنسية من الياء؛ فتكون صحة االسم الفرنسي
بالحروف العربية (فردينان دو سوسير)..
انظر في تفسير هذه التسمية كتاب (أرِّيفيه) الذي نترجمه في
أول الفصل األول ،ولم يعلل أحد من العرب الذين ترجموا كتاب ً ً معينة ..وانظر كتابة (دروس في اللسانيات العامة) سبب اختياره
ً أيضا تقديم صالح القرمادي لترجمة الطيب البكوش كتاب جورج
مونان (مفاتيح األلسنية) ،منشورات الجديد ،تونس1981 ،م، ص( 7تعاليم فردينان دو سوسير) ،ولو أتيح لـ (أَرِّيفيه) وغيره من الغربيين الذين اختصوا بسوسير قراءة ترجمات كتاب (سوسير)
إلى العربية ألقاموا عليها دراسات عظيمة ،ال في تقريعها ،وإنما في كونها قراءات ُتخطئُ في بعض األحيان ُ وتصيب [المترجم]..
أما عن أهمية ترجمة كتاب (سوسير) إلى العربية بعد زمن طويل
ـم َّيز من اللغة، َّ إن ملكة اللسان حدث ُم َ لكنه ال يحدث بدونها ،ونعني بالكالم عمل الفرد الذي يمارس َملكتَه بوساطة المواضعات االجتماعية التي هي اللغة وفي عام 1985م يقول الدكتور مالك يوسف المطلبي في
مقدمته لترجمة الدكتور يوئيل يوسف عزيز« :إنَّ المحاضرات في علم اللغة لفردينان دو سوسيرُ ،ترجمت على نحو أو آخر من خالل مؤلفات المعنيين بالدراسات البنيوية واللغوية وبحوثهم منذ منتصف هذا القرن».
صميم النظرية السوسيرية قال أبو عبدالرحمن :في صميم ال َّنظريَّ ِة السوسيريَّ ِة أَ ْبدَأُ َ ومناق َش ِة ما َتي ََّس َر في هذه الحلقة ..قال (ميشال باستعراض ِ أَرِّيفيه)« :إنَّ اللغة نظام العالمات النوعية –أهم نظام بين
من صدوره ،فيقول الدكتور حمزة المزيني« :وعلى رغم تأخر ً سبقا عظيمً ا ترجمة كتاب (دو سوسير) ،وسبق اللسانيات له اآلن ،إلاَّ أن ترجمته إلى اللغة العربية ضرورية لقيمته التاريخية،
السيميولوجيا ،ويبقى أن نخصص ذلك الموضوع ،وأن نميزه
ويقول الدكتور عز الدين المجذوب [م.ص .43المترجم]:
اإلشارة إليها هو أن اللغة مُدرجة في اللسان :لكن ما اللغة؟..
ويجب أن يُقرأ هذا الكتاب لهذا الغرض وحده»..
«حظي كتاب فردينان دو سوسير في الفترة األخيرة بعناية كبيرة
من قِبل الباحثين العرب ،فظهرت له خالل سنتي 1984و1985م ثالث ترجمات ،وقد تظهر له ترجمة رابعة؛ َ ول َكأَنَّ العرب يحاولون تدارك ما فاتهم من أمر هذا الكتاب الفذ ،وقد مضى اليوم عام 1987م على نشره سبعون سنة تداوله فيها الناس ،وتناهبه
الباحثون فكان له من األثر ما هو معلوم في علم اللسانيات
والثقافة العالمية بوجه عام ..وقد يبدو تأخر العرب عن ترجمة هذا الكتاب أم ًرا غريبًا بالنظر إلى قيمة الكتاب وخطره».
نفسها ُم ْدرَجة في األنظمة– :هو موضوع اللسانيات التي هي ُ
على وجه الخصوص من اللسان ،وأول النقاط التي ينبغي
إنها في رأينا ال تتداخل مع اللسان ..إنها ليست إال جزءً ا محددًا نفسه َنتاجٌ منه؛ لكنه جزء جوهري بال شك ..إنها في الوقت ِ اجتماعي لملكة اللسان ومجموعة من المواضعات الضرورية ٌّ ِّ ليمكن األفرا َد من ممارسة تلك التي يتبناها الكيان االجتماعي الملكة ،وإذا أخذنا اللسان في ُكليَّته :بدا لنا ُم َتعَ ِّد َد األشكال،
ً موزعا في اآلن نفسه بين ميادين متعددة؛ متباينَ المقوِّمات؛
نفسي منتميًا في فيزيولوجي ،وبعضها بعضها فيزيائي ،وبعضها ٌّ ٌّ اآلن نفسه إلى ما هو َف ْردِيٌّ ،وإلى ما هو اجتماعي ..وال يتس َّنى لنا تصنيفه في أيِّ قسم من أقسام الوقائع اإلنسانية؛ ألننا ال نستطيع أن نستخلص وحدته ..أما اللغة؛ فهي على عكس ذلك: ٌّ [بنفسه] ،ومبدأٌ يخضع للتصنيف ..وما إنْ نجعلها كل قائمٌ بذاته ِ
في المقام األول بين وقائع اللسان :حتى َن ُ دخ َل نظامً ا طبيعيًّا في مجموع ٍة ال تخضع أليِّ نوع آخر من التصنيف [دروس/25 ،
التونسية ،29 ،العراقية ،28 – 27 ،اللبنانية ،21 ،المصرية– 31 ، ،32المغربية / 18 ،المترجم]؛ وبذلك ،وضمن إطار هذه الم ََلكة
التي هي اللسان؛ وهي ملكة حَ ِريَّة بأنْ تتخذ مظاه َر (متعددة األشكال وغير متجانسة) :ال تسمح لها بأنْ تتحدَّد بدقة (تكونُ ُ اللغة ُكلاًّ ) ..ويبقى بالطبع تحدي ُد هُ ِويَّة الموضوع الذي إذا أضيف األقل ْ ( pastout َّ إلى كلية اللغة ،فإنه سيكوِّن َّ فلنمت ِنعْ مرة الكل أخرى عن هذا التعبير الالكاني) للسان في مفهوم سوسير ..ي َّتخِ ذ
87
دراسات
ُ الكالم parole؛ والعالقات ذلك الموضوع في الدروس اسمَ ِ ص بطريق ٍة واضحة َّ بين اللغة والكالم في رحاب اللسان ُت َل ّخ ُ كل الوضوح في الفقرة التالية:
تجنبًا لتعريف الكلمات تعريفات عقيمة :ميَّزنا في المقام
األول في نطاق [التونسية ص ،23والعراقية ص ،123واللبنانية ص ،199والمصرية ص ،140والمغربية ص .99المترجم ] ..نطق:
خطأ ..الظاهرة الكلية التي يُمثلها اللسان بين عاملين اثنين: اللغة والكالم ..واللغة بالنسبة إلينا هي اللسان إذا ُطرح منه الكالم ..إنها مجموع العادات اللغوية التي ِّ تمكن المتكلم من الفهم واإلفهام (دروس ص[ ..)112التونسية ص ،123والعراقية
ص ،95واللبنانية ص ،99والمصرية ص ،140والمغربية ص .99
المترجم] ..وبشكل مسبق؛ فالنص ينبثق من التضاد بين اللغة والكالم ..عندما نفصل اللغة عن الكالمَّ : فإننا نفصل في الوقت نفسه [بين] -1 :ما هو اجتماعي عما هو فردي [و] -2ما هو ً ونوعا ما َع َرضي (دروس ص[ ) 30التونسية جوهري عما هو ثانوي
ص ،34والعراقية ص ،32واللبنانية ص ،25والمصرية ص،37 والمغربية ص .23المترجم]..
لن أنازع هنا األصول المخطوطة ،مع أنها في هذا الموضع
مختلفة كل االختالف عن نص الطبعة المعتمدة :إنَّ األصول
88
المخطوطة ال تدرج –وسأعود إلى هذا الموضوع بالتفصيل في
الفصل الرابع– اللغة والكالم فقط ،لكن اللغة ،و(ملكة اللسان) ً أيضا (إنكلر1989 -1968 ،م ،41 ،كوماتسو ..)189 ،والكالم لاً يتدخل بعد حين بوصفه كما يبدو عام يسمح بممارسة تلك الملكة :إنَّ ملكة اللسان حدث مُ ـمَ يَّز من اللغة ،لكنه ال يحدث بدونها ،ونعني بالكالم عمل الفرد الذي يمارس مَ لك َته بوساطة
المواضعات االجتماعية؛ التي هي اللغة ..ليس من المتنازع فيه أنَّ نص (الدروس) يقيم َتراتِبي ًَّة بين اللغة والكالم :األولى ُ والثانية] (ثانوي) [سنرى في الفصل (جوهرية) ،والثاني [بل: الرابع أن الصفة (ثانوي) هي من زيادة الناشرين :لم يسمعها من (سوسير) أي من مستمعيه( ..المترجم)] ..ويوجد هنا على أي حال خطأ ينبغي تالفيه :إنه الخطأُ ِّ المتمث ُل في القول: إنَّ (سوسير) يستبعد من حقل اللسانيات كل ما يستخدمه (المتكلم) من راموز اللغة ..إنه خطأ يتك َّرر غالبًا ،وسأكتفي اآلن بمثال واحد :وكان رد (سوسير) [[ ..]...قال أبو عبدالرحمن: ؟] هو أن اللسانيات ينبغي أن تقتصر على دراسة اللغة لذاتها [لنفسها] ومن أجل ذاتها (سيرفوني ..9 ،1987 ،ونجد مثالاً آخر ِ
على الموقف نفسه في الفصل الرابع (وهناك العشرات من
النمط نفسه)..
إنَّ ما في (الدروس) يعارض هذا الموقف تمامً ا :فنصه ال
يعدل عن التراتبيَّة التي جرت اإلشارة إليها بين اللغة والكالم؛
بل إنه يؤ ِّكدها تأكيدً ا قويًّا ،وهي قوة مبالغ فيها بال شك إذا العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
ليس في جزئيات كتاب (سوسير) ما هو راجح؛ فكيف يكون ك ُّله ْ أشبه بقانون ُملْ زم؟ ٍ قيست باآلراء التي كان (سوسير) [مع ذلك فإنه قد يحدث لـ (سوسير) أنْ يقيم تراتبية بين اللغة والكالم] يقول [عنها]« :إن
ما ينجزه الكالم مما هو مُعبِّر عنه في اللغة يمكن أن يبدو غير جوهري» (كوماتسو ..)283،ويقول ً أيضا« :إن الظواهر األخرى
[ظواهر الكالم ،م .أ] تحتل بنفسها تقريبًا مرتبة تابعة[المترجم] يطرحها غالبًا ..لكن وجود الفصل الذي ُخصص (للسانيات اللغة
ولسانيات الكالم) في الدروس يُظهر بوضوح أنَّ اللسانيات عليها أن تهتمَّ باللغة بالتأكيد؛ لكنها تهتم بالكالم ً أيضا».
ومن هنا جاء التدقيق المصطلحي النهائي والحاسم
واو قبلها] :وقد يمكن مع شيء من التجوُّز أن نطلق [األفصح بال ٍ
اسم اللسانيات على كل من هذين الفرعين ،وأن نستعمل
عبارة لسانيات الكالم ،لكن ينبغي أال نخلط بين العبارة األولى واللسانيات بالمعنى الحقيقي للكلمة؛ أي تلك التي موضوعها
الوحيد هو اللغة (دروس[ )39 -38 ،التونسية ،42العراقية
،38اللبنانية ،33المصرية ،45المغربية / 30المترجم]( ..انظر البحث عن فردينان دو سوسير /ترجمة محمد خير محمود
البقاعي /ص.)73-71
الكالم والرمز واللغة قال أبو عبدالرحمن :أكتفي ههنا بتعليقة واحد ٍة واعدا إنْ شاء الله تعالى بال َّت َق ِّ ً صي في حلقةٍ قادمة؛ التعليقة :أنَّ بين الكالم والرمز واللغةِ فرقاً ُ وتلك ٌ اس ُتحْ دِ ث مِ ن عظيمً ا؛ فالرمز السيميائي: ثمرة لما ْ ِّ َ َّات؛ وغاية ما في األمر :أنه ال يُف َّس ُر بالرمز كالمٌ الل َسا ِني ِ
(ف ُ قديمٌ قبل االصطالح السيميائي الحديث ..وأما َ راغ ال َّن ِّ ص) فشيءٌ آخر غير الرَّمْ ز ،وله حديث يأتي إن شاء
الله تعالى ..وأما الكالمُ :فإنَّ منه ما ليس له معنى
َ يوصف بالمُ ْهمل ..ومنه ما يكون في اللغة؛ وهو ما ٌ حادث بعد االصطالح السيميائي ،أو من له معنى
ُ اإلهمال ،وحكمُ أنفسهم؛ فحكم األول المصطلحين ِ
َسعُ ه إال الثاني الرمز؛ وإذن فاالصطالحُ اللساني ال ي َ بناءُ ْ تق ِعيدِ ه على قوانين الداللةِ اللغوية.
89
دراسات
على دروب التنوير والحداثة.. حمزة شحاتة وعبدالله عبدالجبار
علي الدميني شاعر وناقد سعودي
عمل مفكرو النهضة واألنسنة والتنوير ،منذ القرن الرابع عشر الميالدي في أوربا حتى
90
قيام الثورة الفرنسية ،على التأكيد على دور أسئلة النقد والشك والنقض؛ لتسييد ثقافة العقالنية وفضاءات الحرية لمواجهة أسئلة وتحديات حياة مجتمعاتهم ،ولذلك عادوا إلى ثقافة العقل في الفلسفة اليونانية ،وإلى ما حمله فالسفة المسلمين منها وبخاصة «ابن رشد» ،ثم فتحوا األبواب بشكل نسبي للفكر النقدي؛ لمقاربة كل المنظومات التي
وقفت أمام تطور المجتمعات وتقدمها في مختلف الحقول والميادين.
العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
هؤالء األفراد لم يكونوا يمتلكون ترف رسم أفكارهم عىل
الحرية والعقالنية واإلبداع والثورة عىل قيود األنماط
معرفية وشجاعة إنسانية حاولوا ثقب الجدران واألسوار؛
وأساليب البحث عنه لإلمساك به باليدين؛ لذا ترى غريترود
الجدران أو جذوع األشجار يف نزهة ريفية ،لكنهم ببصرية لتفتيق فضاء كوى النور واآلفاق املستقبلية ،فعلقوا األجراس
وقرعوها بقوة؛ لتعرب عن مصداقية صوت العقل والضمري وجدارتهما برفض كل أشكال االستبداد والظلم والتخلف
ومؤسساتها ،يف كل املسارب والحقول ،وإن تعددت أشكال هيلمفارب مؤلفة كتاب «الطريق إىل الحداثة» أن عصور النهضة (واألنسنة ..باعتبار اإلنسان محور الحياة والكون ،ومصدر
املعارف) والتنوير تحديدً ا ،هي محطات ومقدمات أساسية يف
التي كانت تعم حياة مجتمعاتهم .وعىل الرغم مما عانوه من تحديات دفع بعضهم حياته ثم ًنا لها ،فقد ظلت أصواتهم
هي العقل والحقوق والطبيعة والحرية واملساواة والتسامح،
األخرى عرب مئات السنني؛ إذ أسهموا بفاعلية نوعية يف تعبيد
من أنها تذهب يف هذا الكتاب إىل االنتصار للتنوير الربيطاين ضد
حية وفاعلة يف وجدان مجتمعاتهم ويف املجتمعات اإلنسانية
الطريق واستنبات األشجار املعرفية الجديدة التي أنتجت «تيارات نقدية وفكرية وفلسفية ومذاهب سياسية ،كاإلصالح الديني عند لوثر ،وفلسفة التاريخ ( هيغل وماركس) ،وفلسفة
القانون ( مونتسيكو) ،ونظريات العقد االجتماعي (هوبز ولوك
وروسو) ،والحداثة الفلسفية ( ديكارت)» (.إبراهيم الحيدري – عصر التنوير والحداثة – موقع الحوار املتمدن – 2015\1\14م).
إن التوق إىل حياة تبتسم فيها الحرية ،وتتجىل فيها
مصابيح العقالنية ،وتتعمق عرب مخاضاتها ملكات النقد
والشك والنقض والبناء واإلبداع ،هي أصوات «الحداثة» املقموعة عرب العصور القديمة ،رغم ما بقي منها من أوراق حية قليلة تبدّت يف الفكر والفلسفة واآلداب .لهذا يقرع كانط
(مؤسس الفلسفة النقدية) يف عام 1784م أجراسه بصوت عال؛ لتحديد مفهومه للتنوير بالقول إنه« :خروج اإلنسان ٍ من قصوره املعريف الذي اقرتفه يف حق نفسه من خالل عدم
استخدامه «لعقله» إال بتوجيه من إنسان آخر» .وقال بعد ً شجاعا واستخدم عقلك». ذلك جملته الشهرية« :كن موقع معابر _ كانط والتنوير:
http://www.maaber.org/issue_january09/ perenial_ethics1.htm لكل هذا ،فإننا نرى أن هذا الصوت وسواه قد أسهما
يف خلق حالة «من التحوالت البنيوية الجذرية واالنقالبات أسسا لقيام عصر يف أغصان الحياة التي وضعت ً
التنوير يف أوربا وأمريكا ،وقيام الثورة الفرنسية يف عام 1789م ،التي قضت عىل السلطات والبنى اإلقطاعية والكنسية واالستبدادية، ُ وتـوجت بالئحة حقوق اإلنسان ،وتدشني عصر الحداثة الذي رأى فيه هيغل زم ًنا جديدً ا ..زم ًنا صنعناه بأنفسنا» (إبراهيم الحيدري – املرجع السابق).
الحداثة إذن تبدأ بذلك النزوع
والتطلع اإلنساين الطويل لبلوغ أزمنة
بنية فكر وعصر الحداثة ،وأن أبرز السمات التي ترتبط بالتنوير
والعلم والتقدم ،حيث يكون العقل يف املقدمة .وعىل الرغم التنوير الفرنيس الذي احتكر مفهوم التنوير بجدارة مستحقة، فإننا سرنى معها أن «التنوير الربيطاين قد حمل سمة إصالحية غري ثورية؛ ألنه عايش مراحل إصالح دينية وسياسية ،ويمثل (سوسيولوجيا الفضيلة) ،أما التنوير الفرنيس الذي لم يصاحبه
إصالح ديني أو سيايس ،فقد كان تنوي ًرا ثوريًّا ،واستند إىل (أيديولوجيا العقل) ،فيما ّ مثل التنوير األمرييك (علم سياسة الحرية) املتأثر بثقافة اإلصالح والتنوير الربيطاين»( .غريترود هيلمفارب -الطريق إىل الحداثة -ترجمة د .محمود سيد
أحمد– نشر عالم املعرفة الكويتية – سبتمرب 2009م).
91
دراسات
إذ سرنى أنه منذ البدء يف محاضرته سيسفر عن خطابه املعريف
الناهض عىل الفكر العقالين والفلسفة اإلنسانية ،حني يقول: «وأنا أريد التجريد والتعرية ،كباحث ال كمحاضر ...والتجريد
يف مرحلته األوىل رد املسائل إىل أصولها املفروضة ،وإىل أساساتها
العارية ...فالتجريد يمس العقائد الفكرية –ال شك– ويهدم منها شي ًئا ليقيم شي ًئا محله» ...ويميض للرتكيز عىل أهمية الشك نفس، املعريف بقوله« :والجديد متى استطاع أن يقيم الشك يف ٍ فإنه قد غزاها الغزوة األوىل».
وحني يتعمق يف منحى التجريد الفلسفي يقف عىل منشأ
الفضائل بالتساؤالت اآلتية :كيف نشأ الشعور بهذه الفضيلة؟ وكيف ُف ِر َضت وكيف تم اإليمان بها؟ أو االصطالح عليها؟ وكيف سادت أحكامها؟
ويذهب يف اإلجابة عن تساؤالته إىل البعد التاريخي العميق
لتكون التجمعات البشرية ،كباحث سوسيولوجي ،مؤكدً ا أن
الخري والشر كانا متزامنني ومرافقني للوجود البشري البسيط، ويقول يف هذا املنحى« :وال شبهة ،أن اإلنسان قد عرف النفع
واألذى قبل أن تقوم يف نفسه فكرته األوىل عن الخري والشر،
باعتبار مفهوميهما العام ،فاهتداؤه إىل الخري والشر ،كان بعد عقيدته يف النفع واألذى».
92
حمزة شحاتة ( 1972 -1910م)
يف الجزء األول من هذه الكتابة ،وقفنا عىل النواظم
األساسية يف اشتغاالت محمد حسن عواد( ،نشر يف هذه املجلة ،العددان )476 -475وهي تأكيد دور العقل والعلم
ويصل بعد ذلك إىل أن ترسُّ خ قيم الفضائل لم يتم إال
يف فجر املدنية الفكرية األوىل لإلنسان ،نافيًا أن تكون تلك ً موضوعا غريزيًّا ناب ًتا يف قلب اإلنسان ،بل يردها إىل الفضائل العالقات االقتصادية واالجتماعية يف التجمعات البشرية، وهنا نرى صدى وعمق الصراع الفلسفي بني جون لوك وهوبز
والحرية والثورة عىل التقاليد االجتماعية واألدبية وبخاصة يف
حول خريية اإلنسان الطبيعية وخرييته املكتسبة واملرتسخة
وعىل الرغم من أن كتاباته قد افتقرت إىل العمق املعريف
وحول القيم اإلنسانية الفاضلة التي أنتجتها حاجة
حقل الشعر ،كأسس للنهضة والتنوير والنزوع إىل الحداثة.
والفلسفي ،فإن نربتها الراديكالية الشجاعة العالية دقت األجراس وأحدثت أصواتها تفاعالت نسبية مع مضامينها
القوية ،يف حياتنا الثقافية؛ لذا يمكننا أن نعده منتميًا لألفكار
النهضوية العربية التي انحازت إىل التنوير الفرنيس.
أما حمزة شحاته ،الشاعر البارز الذي نهل بتميز عصري
من تراث الحداثة الشعرية العربية القديمة ،والكاتب املبدع
يف أسلوبه البياين املعاصر ،فقد نهل من منابع الفكر والفلسفة النهضوية األوربية التي وصلتنا عرب أبرز الكتاب واألدباء العرب
املتأثرين بفاعلياتها .ويمكن عده أقرب إىل التنوير الربيطاين النقدي
واإلصالحي الذي جعل من الفضائل والتعاون والضمري مسارًا رحبًا لتوجهاته.
ويف هذه الوقفة السريعة عىل منجزه الثقايف البارز (الذي
ُقمع بقسوة) ،سنشري إىل بعض تجليات تلك الجذور الفكرية يف محاضرته وبيانه املوسوم بـ«الرجولة عماد الخلق الفاضل»؛ العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
بفعل القانون!
املجتمعات للتعاون من أجل الوقوف ضد كل ما يهدد حياتهم ووجودهم من مخاطر ،والعمل عىل التطور والنهوض ،يقول بعد ذلك« :كلنا يؤمن بضرورة االرتقاء والنهوض ...فهل أفادنا
هذا اإليمان؟» ،ليؤكد عىل أنه ال قيمة لذلك من دون العمل بهذه القيم والفضائل لبلوغ مرحلة الوفاء لهذا اليقني النائم!
إنها ثقافة عارفة وفكر عميق ،نجدها يف كتابات حمزة
شحاتة ،تنبئ عن فجر مفكر بارز ومنهج فلسفي مطلع يعمد إىل ً عميقا صوب الجذور؛ إلعادة الظواهر والقناعات والقيم الغوص
إىل أسبابها ليك تسمو الفضائل إىل مصاف الضمري ،وهو ما عرب عنه «بالحياء» إذ يقول« :الحياء :قوة النفس ،وحرية العقل،
وميزان الضمري .والرحمة عدالة النفس .والعدالة رحمة العقل وبصره وسلطانه».
ويختتمها بشعارات ثقافية يكون الحياء الغائب عنص ًرا مهيم ًنا عىل خطابها ،قائلاً :أيها الكاتب الذي يئد الحق والجمال
على دروب التنوير والحداثة ..حمزة شحاتة وعبدالله عبدالجبار
استح! والقوة ليظهر ... ِ
أيها الشاعر الذي يصنع الكذب والباطل والتملق يف شعره
استح! أيها الفاضل الذي يتاجر فيسجل به عارًا عىل أمته... ِ ً استح! بفضيلته ليفيد بها مالاً وسمعة.... ِ أيها الوطني الكاذب الذي ّ ب سبل الجهاد ،ويروغ من يتنك ُ
فلسفة ّ ً تتعلق باملمكن وغري املمكن... التضحية الصادقة ،فيجعلها
استح! (اعتمدت يف نقل األجزاء املنصوص عىل نسبتها ملحاضرة ِ حمزة شحاتة ،عىل نصها املنشور يف مدونة محمود صباغ):
https://mahsabbagh.net/201222/09//elrojola
ً وبالغا قرأه مدة خمس ساعات الجماهريي الكبري ،فكانت كتابًا متواصلة ،قوبل خاللها بعض فقراتها بالتصفيق الحاد ألكرث من
ثالثني مرة !!
وقد عرب يف محاضرته عن إحساسه بذلك الخوف ،بقوله:
فإذا خفت الليلة ،فإين أخىش خط ًرا عرفت مشابهه يف نفيس، فإن ُكتبت يل السالمة –وال أتوقعها– فإنما تكون أثر الحظ، وخارقة من خوارق املعرفة .وما أود أن تكون خاتمتي بينكم ً موتا ،بل انتحارًا .فاالنتحار –هنا عىل األقل– أضمن لتحقق االختيار من االستسالم للموت .ولعله ّ أدل عندي عىل الحيوية،
وبعد هذه الخالصة املجحفة بحق ما ورد يف املحاضرة ،يخيل
وتركز اإلرادة ،ووضوح الفكرة ،وقديمً ا قالت العرب« :بيدي
فإما حياة تسر الصديق *** وإما ممات يغيظ العدا! لقد كانت املحاضرة ً بيانا شاملاً إىل األمة ،من مفكر نهضوي
كل ما توقعه حمزة شحاتة خالل املحاضرة قد حدث ،فقد
التيارات األدبية يف قلب الجزيرة العربية).
عميق وشجاع ومبدع؛ إذ كان يكتبها وهو يتحسس رأسه رمزيًّا
تنشر املحاضرة أو أجزاء منها يف الصحف آنذاك ،ولم يتفاعل
يل بأن حمزة شحاتة قد كتبها ويف ذهنه كلمات الشاعر:
وتنويري ،وكانت من جانب آخر ،رصاصته األخرية ،كمثقف وحياته معنويًّا ،ولكنه كان مص ًّرا عىل الجهر بها يف ذلك املشهد
ثقافة عارفة وفكر عميق ،نجدها في كتابات حمزة شحاتة ،تنبئ عن فجر مفكر بارز ومنهج فلسفي مطلع يعمد إلى الغوص عميقً ا صوب الجذور إلعادة الظواهر والقناعات والقيم إلى أسبابها
ال بيد عمرو»( .من مقتطفات يف كتاب عبدالله عبدالجبار –
ألغي النشاط الثقايف لجمعية اإلسعاف الخريي يف مكة ،ولم
مع مضمونها الكتاب ،وتعرض شخصيًّا لكثري من املضايقات عىل خلفيتها ،ومنها استدعاؤه من مدير األمن العام؛ إذ طلب منه نص املحاضرة ،فأجابه بأنه أحرقها! وحينما رأى هذا املثقف
صخر من الواعي والنابه أنه يبذر يف واد غري ذي زرع ،وينحت يف ٍ فراغ ،قرر الهجرة إىل مصر عام 1944م ،ومنذ ذلك التاريخ حتى
وفاته كان قد كسر قلمه إىل األبد!
ولذلك ،وكما يشري الدكتور عبدالله الغذامي يف كتابه
املهم «حكاية الحداثة» ،إىل أن الحداثة يف بالدنا بدأت
أصداء النهضة والتنوير األفكار الحضارية الفاعلة (كفكر إنساني) تمتلك أجنحة خفاقة تحملها على االنتقال بين األمكنة واألزمنة ،باحثة عن ّ التخلق والوالدة واالنبثاق؛ لذا وجدت في عالمنا العربي ،كما في غيره ،أفرا ًدا يحتفون مثاالتها المتعطشة إلى حاالت
بطيرانها قريبًا منهم.
ولذلك اشتغلت عوامل كثيرة على تأثر نخب العالم العربي بفكر النهضة والتنوير األوربيين ،يندرج ضمنها حالة التململ
والرغبة في االنعتاق من نير االستعمار التركي ،والتأثر المباشر باالطالع على مكونات وعود األفكار التنويرية للثورة الفرنسية،
والبعثات التعليمية إلى أوربا ،والحركة الثقافية للعرب في المهجر ،فيما كان للحملة الفرنسية «على الرغم من طابعها وأهدافها االستعمارية» على مصر في عام 1798م ،والشام بعد ذلك ،دور مهم في تشكيل مناخات فكر اليقظة والنهوض
العربي ،حين تعرفت تلك النخب المطبعة والكتاب والجريدة ،فبدأت في تكوين جمعياتها الثقافية والسياسية.
وكان مثقفو رعيلنا األول في المملكة (من أمثال محمد حسن عواد ،وحمزة شحاتة ،وأحمد سباعي ،وعبدالله
عبدالجبار ،وحمد الجاسر ،والجهيمان ،وغيرهم من معظم المشتغلين بالهم التقدمي في بالدنا) من المتأثرين ،بدرجات مختلفة ،بفواعل تلك المرحلة العربية ،ثقافيًّا وسياسيًّا وأدبيًّا؛ مما حدا بهم إلى اإلسهام المبكر في نقد ثقافة الجهل والتخلف في مجتمعاتنا ،واجتراح مهام إشعال أنوار الفكر الحر المتطلع إلى التقدم اإلنساني والحضاري.
93
دراسات
من محمد حسن عواد وحمزة شحاتة ،ومؤكدً ا عىل« :أن انكسار وانسحاب شحاتة قد حرم الحركة الثقافية عندنا من
نموذج مهم له من القوة والعمق ما كان سيكون سببًا لبدء حركة التحديث الثقايف الواعي»( .عبدالله الغذامي – حكاية الحداثة – املركز الثقايف العربي).
عبدالله عبدالجبار ( 2007 – 1919م)
ربما يكون أقرب التوصيفات لهذه القامة األدبية السامقة
هو املثقف النهضوي والتنويري ،الذي كانت بوصلة التقدم والحرية والعدالة االجتماعية والغد األجمل تقوده إىل دروب
الخيارات الصعبة فيقبل التحدي بصالبة رجل املواقف ،ويميض يف مساره برحابة أفق ورؤية واعية ،محتملاً النتائج من دون خوف أو تردد.
وهو شخصية وطنية تقدمية ترتكز عىل مقومات الثقافة
الواسعة والعميقة ،التي تمتد من سعة االطالع عىل الرتاث
إىل املدارس النقدية الحديثة –يف مرحلته– حيث يُعد كتابه «التيارات األدبية يف قلب الجزيرة العربية» أحد أهم املراجع األدبية التي رصدت بوعي مختلف مسرية الحياة األدبية يف
الحجاز قبل توحيد اململكة وبعدها حتى تاريخ نشر الكتاب يف
94
عام 1959م؛ لذلك سيلحظ قارئ كتابه موقفه النقدي ذا البعد االجتماعي واألخالقي والثوري من النتاجات األدبية التقليدية
امليتة ،مثلما سيقف عىل رؤاه النهضوية التنويرية ،وبخاصة
ما يتعلق منها بالحرية والعدالة االجتماعية ،بما يسمح لنا بالقول بأنه ينتمي للتيارات املتأثرة بالتنوير الفرنيس ،وبما يماثله بعد ذلك من تبديات اجتماعية وثقافية مختلفة يف
خندق ثقافة اليسار العربي.
ويبدأ الجانب النقدي من كتابه بالوقوف عىل معنى انطالق
رصاصة التحرر من االستعمار الرتيك وبدء الثورة العربية من مكة املكرمة يف عام 1916م ،وأثر ذلك يف املناخ الثقايف واإلبداعي العام يف املنطقة ،لينتقل بعد ذلك إىل مرحلة تكوين اململكة العربية
السعودية وما صاحبها من حراك متعدد األشكال والتباينات.
ربما يكون أقرب التوصيفات لعبدالله عبدالجبار هو المثقف النهضوي والتنويري ،الذي كانت بوصلة التقدم والحرية والعدالة االجتماعية والغد األجمل تقوده إلى دروب الخيارات الصعبة ،فيقبل التحدي بصالبة رجل المواقف ً تعريفا آخر رؤيته الجمالية والداللية يف تقييم النص .ويضع أسماه الكالسيكية الحية التي تجمع بني السري عىل محاكاة
ويف ملحات مختصرة وعميقة –تعكس سعة اطالعه–
أساليب الشعر القديمة يف حياة شعريتنا العربية وامتزاجها
ضمها كتابه ،ويصنفها بحسب موقعها ،ضمن ما جرى تبيئته
سلمى إىل أبي تمام واملتنبي وأبي نواس واملعري ،وامتدادها
يشتغل عىل قراءة وتحديد مالمح النصوص الشعرية التي
يف الثقافة النقدية العربية ،عن مسارات املدارس النقدية الحديثة األوربية التي انتشرت يف مراكز النهضة العربية، مستعي ًنا يف ذلك بعناوين تلك املدارس النقدية الرئيسة ،وبما فتقه منها من عناوين فرعية.
ففي تصنيف الشعر املنتمي إىل الكالسيكية يف بالدنا، ً توصيفا للكالسيكية امليتة املعتمدة عىل محاكاة القدماء يضع
يف أساليبهم يف املديح والنفاق ،بحيث تغدو التسمية جزءً ا من
العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
بالبعد الوجداين الذايت (الرومانيس) للشاعر ،من زهري بن أبي
عندنا من األسكوبي إىل حمزة شحاتة( .عبدالله عبدالجبار –
التيارات األدبية يف قلب جزيرة العرب –إشراف محمد سعيد طيب وعبدالله الشريف– دار الفرقان).
وعن التيار الرومانيس يف شعرنا ،يكتب خالصة ناقد مطلع
عليها يف مراجعها ،مشريًا إىل بواعثها اإلنسانية التي يتشابه فيها
كل البشر والناتجة عن وعي ضدي بالواقع املعيش الذي يبعث عىل «القلق واالضطراب [التي] عاش يف ظله األدباء ،وشعورهم
على دروب التنوير والحداثة ..حمزة شحاتة وعبدالله عبدالجبار
بتخلخل املجتمع وانتكاس القيم ،وعدم قدرتهم عىل تحقيق
مآربهم وآمالهم العريضة ،يف جو يسوده الجهل والفوىض
والجمود واالستبداد ...فهناك إذن مطامح عظيمة تجتاح قلوب الشعراء ،ولكنها تصطدم دائمً ا بعقبات وحوائل تحول دون
تحقيقها يف واقع الحياة» ( .املرجع السابق – ص ،)274وقد اختار يف هذا السياق عددًا من قصائد الشعراء؛ منهم :إبراهيم فاليل،
وحمزة شحاتة ،ومحمد سعيد املسلم ،ومحمد حسن فقي، ومحمد عامر الرميح ،ومحمد سعيد الخنيزي ،وغريهم .أما عن الشعر الرمزي يف نتاجات شعرائنا يف تلك املرحلة ،فيذهب إىل
تحليل معنى املعنى يف قصيدة «الدودة األخرية» للشاعر حسني سرحان املنشورة يف مجلة اآلداب ،عدد مارس من سنة 1958م،
التي رأى فيها أنموذجً ا لنقد الطبقة الجشعة التي تمتلك الجاه
واملال والسلطة ،وتقسو عىل البسطاء فتأكلهم ،لكن مصريها ً بعضا حتى تفنى! بعد ذلك سيقودها إىل أن يأكل بعضها
القديمة كواقعية تشاؤمية مغلقة وتصويرية باهتة ،ثم
يف فاتنة جميلة ما لبثت أن تحولت يف النص إىل داللة عىل
النقدية الحديثة» عىل يدي «غوريك» وأمثاله ،وتستند إىل
ويورد قصيدة حسن القريش «مناجاة» التي بدأها بالتغزل
«الحرية» .كما يشري إىل رمزية قصيدة حمزة شحاتة ضد
االستبداد ،الشهرية «ماذا قالت شجرة ألختها» ،وسواها من
نماذج أخرى.
وقد استدعى ضمن حقل ثقافته النقدية ،مقارنة دالالت
تلك النصوص بما يرتامى إىل مشابهاتها من قصائد رمزية ،وقف فيها عىل ما أبدعه الشاعر الرويس «بلوك» يف قصيدته «االثني
عشر» وما حوته من دالالت عن الليل والتسلط ،والجنود الذين يرمزون إىل الشعب ،والريح التي تومئ إىل القوى القادمة
لتكوين الحياة الجديدة .وأشار إىل ما حملته قصيدة «الوردة
الخفية» للشاعر اإليرلندي «ييتس» من رمزية ،حيث تدل
الوردة عىل وطنه إيرلندا. الواقعية النقدية
ً وممارسة إىل الناقد بعد كل هذا العرض ينتمي فكريًّا
«الواقعية النقدية» ،حيث أفرد لهذا الحقل النقدي اهتمامً ا ً معمقا ،تعرض فيه ملفهومها الذي ترتابط فيه الذاتية ثقافيًّا
الرومانسية بالذاتية الواقعية تاريخيًّا ،فعرض لتجلياتها
األفكار الحضارية الفاعلة تمتلك أجنحة خفاقة تحملها على االنتقال بين األمكنة واألزمنة، باحثة عن مثاالتها المتعطشة إلى حاالت التخلّق والوالدة واالنبثاق
تطورها بعد ذلك إىل واقعية تفاؤلية ،سميت «بالواقعية الرؤية النقدية للواقع والبحث عن آفاق تطور الحياة يف أبعادها الشاملة ،من أجل اإلعالء من شأن إنسانية البشر .ويورد
نماذج متعددة لشعراء تلك املرحلة يف بالدنا ممن عربوا عن ذلك االتجاه ،يف أبعاده االجتماعية ،والراديكالية ،والوطنية والقومية ،من أمثال حمزة شحاتة ،وماجد الحسيني،
واملنصور ،والششة ،وبابصيل ،وسواهم.
ولعل هذه املحاضرات -التي صارت كتابًا يف جزأين فيما بعد -قد أسهمت يف بقائه طويلاً مغرتبًا عنا يف مصر ،حتى
سُ جن يف العهد الناصري الذي عشقه ،وبعد خروجه من
املعتقل ذهب إىل لندن ،حتى عاد إىل الوطن ليميض فيه عشرين عامً ا قبل وفاته ،صام ًتا من دون مشاركة يف حياتنا الثقافية واألدبية ،عدا تعيينه شرفيًّا مستشارًا لجامعة امللك عبدالعزيز ،وملؤسسة تهامة .ويف هذا السياق أذكر أنني ذهبت إليه يف جدة إلجراء حوار ثقايف معه -بصحبة حسني بافقيه-
ملجلة النص الجديد ،لكنه اعتذر منا بأدب بالغ!
وهنا ،أخلص إىل القول بأن كتابه «التيارات» ال يُعد إضافة
أو رافدً ا للنقد األدبي يف اململكة ،خالل مرحلته وحسب ،بل هو تجاوز الشتغاالت الناقد نفسه خالل املراحل السابقة لتأليف الكتاب .ولو ُق ِّدر للكتاب أن ينشر ويوزع يف ربوعنا حينها ألسهم
بعمق يف ترسيخ ثقافة الدرس النقدي الحديث ،ولعمل عىل تطوير الرؤية النقدية ذات البعد االجتماعي والتحديثي والتنويري املفيض إىل دروب الحداثة ،عىل الرغم من افتقاره إىل
إيالء البعد الجمايل يف اإلبداع حقه وموقعه يف قراءة النصوص األدبية التي اشتغل عليها يف هذا الكتاب وسواه!
95
دراسات
صورة الصراع العربي اإلسرائيلي في الكتب الدراسية البريطانية:
دراسة في تحليل الخطاب اللغوي التربوي
عبدالمحسن بن سالم العقيلي أستاذ المناهج وتحليل الخطاب في كلية التربية -جامعة الملك سعود
96
تحاول هذه الدراسة تحليل صورة الصراع العربي اإلسرائيلي في المنهج الدراسي البريطاني
كما يعرضها كتاب عنوانه «الصراع العربي اإلسرائيلي» ،وهو مقرر دراسي يدرس في المرحلة األساسية الرابعة ( )Key Stage 4في النظام التعليمي البريطاني. ً تحديدا ،تهدف الدراسة إلى فحص مكونات الجهاز وبشكل أكثر المفاهيمي للخطاب اللغوي التربوي في الكتاب ،والكشف عن الرسائل الضمنية والرموز واإلحاالت التي يتضمنها .وقد وظفت الدراسة منهجية تحليل الخطاب بوصفها أسلو ًبا فعالاً ومعاصرًا في مقاربة موضوع الدراسة. وقد أظهرت نتائج الدراسة أن مكونات الجهاز المفاهيمي للخطاب اللغوي التربوي المتضمنة في الكتاب تتمركز في بعدين رئيسين :البعد القومي ،والبعد الحضاري.
ويتكون البعد القومي من ثالثة مكونات أساسية: ً أرضا لليهود في األصل، تصوير فلسطين بوصفها وأرض فلسطين بوصفها ًّ حقا إلهيًّا لليهود ،والتعاطف مع
اليهود والمبالغة في تصوير اضطهادهم على مر العصور .أما البعد الحضاري ،فيتضمن
ثالثة مكونات :هامشية العرب والمسلمين في مقابل مركزية اليهود ،وتسطيح القضايا الرئيسة
في الصراع العربي اإلسرائيلي ،والتحيز في االستخدام اللغوي والتناول النقدي. العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
خلفية الدراسة
ً وراعفا؛ التاريخ العربي الحديث ،وهما جرح ما زال مفتوحً ا
تكتسب هذه الدراسة أهمية خاصة؛ إذ تأيت يف ذروة
وهذا يجعلها تحتل مكانة بارزة يف الوعي العربي .ويضيف
الفكر واملفاهيم والقيم وسيطرة القطبية األحادية يف عالم
وهما املسألة العربية ببعديها القومي واإلقليمي ،وما تفرزه
التطورات العاملية ذات الوترية املتسارعة واملتجهة نحو عوملة اليوم ،وانعكاسات كل ذلك عىل املجاالت كافة بما فيها املجال
الرتبوي والتعليمي ،حيث تتعاىل االنتقادات الغربية ملا تحتويه
املناهج الدراسية يف بعض الدول العربية من مفاهيم ومبادئ
تبدو لهم غري متسامحة ،وترسم صورة سلبية عن اآلخر
الغربي ،عىل الرغم من أن جزءً ا كبريًا مما جاء يف هذه املناهج ينطلق أساسً ا من مجموع األسس الفكرية والثقافية والدينية
التي بني عليها املجتمع العربي واإلسالمي .ولعله من املنطقي يف هذا السياق أن يطرح بعض التساؤالت املتصلة بما تتضمنه
الكتب الدراسية يف بعض الدول الغربية من قيم ومفاهيم ومكونات فكرية وثقافية ،وهل تعكس هذه الكتب األسس
العقدية والفكرية واالجتماعية السائدة يف تلك املجتمعات؟
وذلك من أجل مقاربة صورة العرب واملسلمني بشكل عام، وتحديدً ا صورة الصراع العربي اإلسرائييل يف تلك الكتب
بشارة أن قضية فلسطني تقع عىل تقاطع مسألتني كبريتني،
من صراعات وتعقيدات ،وكذلك ما تقدمه من تحفيز وترميز لرفض االستعمار والنزوع نحو التحرر واالستقالل .أما املسألة
األخرى فهي اليهودية العاملية ،وذلك عىل أساس أن الغرب هو العالم ،وتاريخه هو التاريخ العاملي ،وثقافته هي املسيطرة
يف صنع الصور عىل املستوى العاملي .وهي املسألة التي ما زالت ً معلبة إىل منطقتنا من أوربا ،التي تمنع رؤية قضية تصدر
فلسطني بوصفها قضية استعمارية كولونيالية ،وتجعل إسرائيل جزءً ا من أوربا والغرب؛ إذ أُخرجت من عالم الشرق، وصورت عىل أنها ضحية شرقنا العربي .ولذلك كله فالقضية الفلسطينية تحمل قدرًا هائلاً من الرمزية والدالالت املكثفة التي
تجعلها حاضرة دومً ا يف الوجدان والعقل؛ وهذا يجعلها قضية
مركزية سياسيًّا واجتماعيًّا وتربويًّا .ومن هنا يأيت اهتمام بعض
الدول بتدريس القضية الفلسطينية والصراع العربي اإلسرائييل
الدراسية؛ وذلك لكون القضية الفلسطينية تقوم عىل رافعتني
لطالب التعليم العام ،وبخاصة يف دول بعيدة جغرافيا؛ مثل:
وتعد املسألة الفلسطينية إحدى املكونات الرئيسة للمخيال
ولعله من املثري للدهشة أن يُخصص كتاب كامل لتدريس
والفكرية والرمزية .ويف هذا املجال يؤكد (بشارة )2009 ،أن
هامشية لهم وملن يف سنهم «الكتاب يدرس لفئة عمرية من
أساسيتني :العروبة واإلسالم.
العربي واإلسالمي واإلنساين عىل جميع املستويات الوجدانية
مأساة احتالل فلسطني وقيام إسرائيل هما عقدة بارزة يف
بريطانيا وفرنسا وأمريكا.
الطالب الربيطانيني هذه القضية ،مع أنها قد تبدو قضية سن 14إىل »16؛ بل إننا حني ندقق النظر نجد أن أصحاب
97
دراسات
الشأن «وهم العرب واملسلمون» ال يخصصون كتابًا كاملاً
لهذه القضية يف كتبهم املدرسية مع مركزيتها يف وجدانهم
الهيكلية ،وفحص املنطق املفاهيمي الداخيل الذي يحكمه،
العلوم االجتماعية! وإذا كانت «املعرفة دهشة» كما يقول
بتعبري أكرث تجريدً ا «ما سكت عنه النص».
ً موضوعا داخل مواد وفكرهم ،حيث يكتفى بتدريسها بوصفها
الفالسفة؛ أي أن الدهشة أحد مصادر التحفيز للمعرفة ،فقد وجد الباحث نفسه مشدودًا معرفيًّا ونفسيًّا ووجدانيًّا ملقاربة
هذا الكتاب وقضيته بالتحليل والدرس العلميني .إضافة إىل ما سبق ،فإن قضية الصراع العربي اإلسرائييل تعد إحدى القضايا اإلشكالية يف عالقة العالم العربي والغربي؛ لذا فإنه
من املهم دراسة التنشئة الرتبوية السياسية للطالب تجاهها.
وقد جاء اختيار بريطانيا تحديدً ا؛ ألنها تعد واحدة من أهم الدول الغربية التي لها احتكاك مباشر بالعرب واملسلمني منذ
الحقبة االستعمارية حتى اليوم؛ بل إنها املسؤول األكرب عن املأساة الفلسطينية كما هو ثابت تاريخيًّا.
من مجموع ما سبق انبثقت مشكلة هذه الدراسة التي
تحلل صورة الصراع العربي اإلسرائييل يف كتاب درايس يف بريطانيا ،عنوانه «الصراع العربي اإلسرائييل» ،ومقاربة مستويات الخطاب اللغوي الرتبوي ،والرسائل الضمنية
واملشفرة املبثوثة فيه .ويمكن القول بشكل أكرث تحديدً ا :إن
98
كشف وتشخيص عيوب الخطاب ،وبيان تناقضاته البنيوية
مشكلة الدراسة تتمثل يف السؤال اآليت :ما أهم مكونات الجهاز
املفاهيمي للخطاب اللغوي الرتبوي يف كتاب «الصراع العربي
اإلسرائييل يف املنهج الدرايس الربيطاين؟» منهجية الدراسة
توظف هذه الدراسة منهج تحليل الخطاب ،وهو
منهج بحثي تحلييل نوعي «كيفي» ،وتتسم منهجية تحليل الخطاب بانفتاحها عىل مجموعة من املصادر واملرجعيات
يف العلوم السياسية واللغوية والفلسفية ،بل وحتى التاريخية؛ أي أنها توظف املعطيات واإلنجازات النظرية
التطبيقية لهذه العلوم .كما أنها تهتم بتفكيك العناصر
املؤسسة لبنية الخطاب «أي خطاب» سعيًا نحو إعادة بنائها
من جديد بما يسمح برؤية الكليات التي ينتظمها ذلك
الخطاب ،وذلك باستثمار آليات القراءة التأويلية؛ من أجل
التحليل الدقيق لألفكار والمفاهيم ومستويات الخطاب يشي بما يكشف تاريخا عن هامشية العرب والمسلمين ً وحضارةً وقضيةً في مقابل مركزية اليهود وتفوقهم في عراقة التاريخ وعدالة قضيتهم وأحقيتهم بفلسطين العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
وفضح املقوالت واألنساق املضمرة التي يحملها الخطاب ،أو
نتائج الدراسة ومناقشتها وتحليلها
مكونات الجهاز املفاهيمي للخطاب اللغوي الرتبوي يف
الكتاب:
من أجل بناء رؤية تحليلية متماسكة وشاملة لنتائج
الدراسة ،فإن مناقشتها وتحليلها سوف يكون متمحورًا عىل
إجابة السؤال املركزي للدراسة ،وهو :ما أهم مكونات الجهاز املفاهيمي للخطاب اللغوي الرتبوي يف كتاب «الصراع العربي
اإلسرائييل» يف املنهج الدرايس الربيطاين؟
وألغراض منهجية وتنظيمية ،فإن عرض نتائج الدراسة ً وفقا لبعدين (محورين) انتهت إليهما وتحليلها سيكون
ً وفقا ملنهجية إجراءات وعمليات التحليل النوعي االستقرايئ
تحليل الخطاب .وهذان البعدان هما :البعد القومي ،والبعد
الحضاري ،ويندرج تحت كل بعد ثالثة مكونات رئيسة ،مع الرتكيز عىل املوضوعات الرئيسة التي انتظمت الكتاب؛ إذ تكاد
تشكل هذه املوضوعات معظم ما يمكن أن يسمى بـ «مكونات الهيكل املفاهيمي والقيمي» الذي أنتجه الخطاب اللغوي
الرتبوي بجميع تجلياته املختلفة.
لقد أظهر توظيف منهجية تحليل الخطاب يف الدراسة أن
من أهم مكونات الجهاز املفاهيمي للخطاب اللغوي الرتبوي يف الكتاب املحلل ما يأيت:
أولاً :البعد القومي
-1تصوير فلسطني بوصفها ً أرضا لليهود يف األصل
من أهم األفكار املركزية التي تنتظم الكتاب تصوير فلسطني
بأنها أرض لليهود منذ فجر التاريخ ،أما العرب واملسلمون فهم
طارئون عليها ،وقد دخلوها يف صورة غزاة .ويحاول الكتاب أن يوحي إىل قارئه من تالميذ ناشئني وغريهم أن العالقة بني اليهود وفلسطني مستمرة وطويلة وقديمة حتى يبدوا كأنهما
متالزمان أو وجهان لعملة واحدة ،وهذه الرسالة مبثوثة يف
الكتاب بشكل واضح؛ بدءً ا من العناوين ،وانتهاءً بالنصوص
والفقرات ذاتها .ولعل من األمثلة عىل ذلك عنوان الوحدة الثانية ص 8وهو «فلسطني واليهود :من عصر الكتاب املقدس إىل العصر الحديث ،وتلح هذه الوحدة عىل التأكيد عىل الحق التاريخي لليهود يف فلسطني وأنهم لعبوا دوراً مهمًّ ا يف تاريخ فلسطني ،لقرون طويلة حتى قبل ميالد املسيح؛ بل إنهم
بلغوا قمة املجد والقوة تحت عهد امللكني داود وسليمان «وهنا
صورة الصراع العربي اإلسرائيلي في الكتب الدراسية البريطانية
إشارة إىل مدى عراقة وقدم الوجود اليهودي يف فلسطني
عاشوا فيها قبل ميالد املسيح .باإلضافة إىل ذلك ،فإن وصف
املؤلف يف ص 8ما يأيت:
ً انطباعا سلبيًّا عن العرب واملسلمني ،ويشكك يف لدى القارئ
وحكمه لها حتى إنه سابق للميالد نفسه بقرون طويلة» .يقول
«The Jewish people played an important part in the history of Palestine for many centuries before the birth of Christ… Under the kings David and Solomon, the Jews reached a peak of power in the »10th Century Before Christ
دخول العرب واملسلمني لفلسطني بأنه «فتح أو غزو» يخلف مدى شرعية وجودهم فيها.
-2أرض فلسطني بوصفها ًّ حقا إلهيًّا لليهود
ال يكتفي الكتاب بتصوير فلسطني عىل أنها أرض لليهود
بمقتىض «الحق التاريخي» وأسبقية وجودهم فيها منذ ما قبل
ويف خضم هذا اإللحاح يف التأكيد عىل قدم اليهود يف
ميالد املسيح بقرون ،وبلوغهم أوج قوتهم يف القرن العاشر
اليهود اليوم يف فلسطني ال يتجاوز كونه استعادة لحق طبيعي
وهو ما يمكن تسميته بـ «الحق اإللهي»؛ أي توظيف الرموز
فلسطني منذ ما قبل امليالد وهذا يعزز فكرة أن ما يفعله لهم تسنده الوقائع واألحداث التاريخية القديمة قدم التاريخ نفسه ،أقول يف خضم كل ذلك ويف موازاته يمعن الكتاب يف
تهميش الوجود العربي واإلسالمي يف فلسطني ،حيث يشري املؤلف إىل أن ذلك الوجود لم يبدأ إال يف القرن السابع امليالدي
حني فتحت «أو غزيت» فلسطني من العرب أتباع النبي محمد الذين أحضروا معهم دي ًنا جديدً ا هو اإلسالم ولغة جديدة
قبل امليالد كما مر قبل قليل ،لكنه يضيف إىل ذلك أم ًرا آخر واإلشارات واألساطري الدينية يف تدعيم الزعم بأحقية اليهود
بأرض فلسطني ،وكأنها حق وقدر إلهي ال مناص منه لهم ،بل ً خاف ما تنفيذا لإلرادة اإللهية ،وغري يجب العمل عىل تحقيقه ٍ يف هذا االستثمار الذيك لألساطري الدينية من محاولة إلضفاء هالة من القداسة والطهر عىل املزاعم اليهودية يف فلسطني
وترسيخها يف الوعي الغربي «وبخاصة الناشئة» بوصفها
هي العربية .كما أن هذا الغزو العربي قاد إىل إيجاد العرب
حتمية دينية مقدسة ال يجوز حتى مناقشتها .ومن األمثلة عىل ً عنوانا ص 8بخط عريض ولون مختلف ذلك أن املؤلف يضع
يف الكتاب ما يأيت:
الحديث عن عالقة اليهود بفلسطني« :أرض الـمـنـحــة اإللهية
الفلسطينيني .ويف أثناء العصور الوسطى أصبح يف فلسطني
أغلبية مسلمة تتحدث العربية .يقول النص اإلنجليزي األصيل
«In the seventh century, Palestine was conquered by the Arab followers of the Prophet Muhammad. They brought a new religion- Islam- and a new language- Arabic… The Arab conquest led to the creation of the Arab Palestinian people. During the Middle Ages, Palestine had an Arabic- speaking »Muslim majority. وقد يكون الغرض من ذلك تمرير رسالة ضمنية مؤداها
أن العرب واملسلمني طارئون عىل أرض فلسطني حني مقارنتهم
باليهود ،وبخاصة إذا عرفنا أن هذه املعلومة الواردة يف الكتاب جاءت مباشرة بعد التأكيد عىل مدى وعراقة الوجود اليهودي
فيها ،وكأن املؤلف هنا يعقد –ضمنيًّا -مقارنة بني اليهود والعرب واملسلمني ،وأيهما أحق تاريخيًّا بفلسطني ،ومن ثم
محاولة إنزال هذه األحداث التاريخية وتطبيقها عىل عالم اليوم
وتوظيفها سياسيًّا لتسويغ احتالل اليهود لفلسطني .هذا من
جهة ،ومن جهة أخرى فإن اإلشارة إىل أن الوجود العربي يف فلسطني ناتج عن الفتح أو الغزو العربي اإلسالمي لها يوحي
للمتلقي أو القارئ أن فلسطني كانت خالية من الجنس العربي واإلسالمي ،وأنهم لم يسكنوها إال بعد القرن السابع بعد
امليالد؛ أي أنها ليست بالدهم األصلية ،إنما هي لليهود الذين
ً صراحة عند عن بقية العناوين والنصوص األخرى يقول فيه .»A God given landثم يأيت تحت هذا العنوان ما يشري إىل أن تاريخ اليهود يف فلسطني والروايات اإلسرائيلية حول
99
دراسات
تلك الحقب التاريخية قد أخرب عنها يف الكتاب املقدس .وهذه
الصارم لكل ما تعرض له اليهود من مظالم ،حتى ليبدو
شعبه املختار ومنحهم أرض إسرائيل .يقول النص اإلنجليزي يف
له من االضطهاد والتشرد والعذابات؛ بل إن الكتاب يقدم ما يصفه بـ«اضطهاد اليهود» بوصفه شي ًئا أسطوريًّا خرافيًّاً عاب ًرا
الرواية اليهودية تصف كيف أن الله اصطفى اليهود بوصفهم
الكتاب ص 8ما يأيت:
«The Jewish version of this period is told in the Bible. It describes how God chose the Jews as his »special people and gave them the land of Israel. وهنا محاولة لتمرير رسالة ضمنية لتحويل الروايات
اليهودية حول فلسطني من مجرد كونها مزاعم وروايات تاريخية
تقبل الجدل واملناقشة وربما الدحض ،إىل مسلمات دينية تجد
أساسها املقدس واليقيني يف الكتاب املقدس .أضف إىل ذلك أن
النص «وبمرجعية دينية» عىل أن الله تعاىل قد اصطفى اليهود ً مسكوتا عنه وهو اإليحاء بدونية بوصفهم شعبه املختار يتضمن األجناس األخرى ،وهم العرب واملسلمون يف السياق العام للكتاب الذي يتناول قضية الصراع العربي -اإلسرائييل.
للزمان واملكان كمحددين للوجود اإلنساين .والدليل عىل ذلك
أن املؤلف يستعرض بشكل مسهب اضطهادهم زمانيًّا بدءً ا من العصور الرومانية وانتهاءً بالوقت الحاضر وعرب العالم كله مكانيًّا ،ومن مختلف األجناس واإلمرباطوريات .ويوظف الكتاب عددًا من اآلليات والوسائل اللفظية «سواء يف العناوين أو منت الفقرات» وغري اللفظية من صور ورسوم ،من ذلك مثلاً جاء يف ص 9العنوان اآليت يف سياق الحديث عن اليهود
«الشعب املضطهد ،»A persecuted peopleوتحت هذا العنوان يقرر الكتاب أنه منذ العصور الرومانية كان اليهود
منتشرين ومبعرثين حول العالم .وخالل العصور الوسطى، كان التمركز اليهودي األكرب يف أوربا الغربية ،وقد هوجم
اليهود مرارًا من السكان النصارى املحليني ،حيث طوردوا من
-3التعاطف مع اليهود واملبالغة يف تصوير اضطهادهم
إنجلرتا عام 1290م ،ومن فرنسا 1394م ،ومن إسبانيا 1492م.
يتجاوز الكتاب حدود املعقولية واملقبولية يف إظهار
«Since Roman times, the Jewish people have been scattered all over the world. During the Middle Ages, the greatest concentration of Jewish people was in western Europe. The European Jews were repeatedly attacked by local Christians. Jews were expelled from England in 1290, from France in 1394, »and from Spain in 1492.
عىل مر العصور
100
تاريخهم للقارئ الخايل الذهن وكأنه مسلسل طويل ال نهاية
التعاطف مع اليهود من خالل املبالغة يف التتبع التاريخي
من أهم األفكار المركزية التي تنتظم الكتاب تصوير فلسطين بأنها أرض لليهود منذ فجر التاريخ ،أما العرب والمسلمون فهم طارئون عليها وقد دخلوها في صورة غزاة
العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
يقول النص اإلنجليزي يف الكتاب ص 9ما يأيت:
وفيما يتصل باستخدام الرسوم والنقوش يف تعزيز
فكرة اضطهاد اليهود عىل مر التاريخ ،تحتل رسمة ملونة ومخرجة بشكل جذاب يف منتصف صفحة كاملة «ص »8
صورة الصراع العربي اإلسرائيلي في الكتب الدراسية البريطانية
تصور تحطيم الرومان ملعبد يهودي عام 70م ،حيث كتب
عليها الجملة اآلتية:
This 17th – century painting shows the destruction by the Romans of the Jewish temple in AD 70. واليشء نفسه يتكرر ص ،9حيث يوجد نقش يعود إىل
القرن التاسع عشر حول املذابح التي تعرض لها اليهود يف العصور الوسطى يف سرتاسبورغ .وقد علق عىل هذا النقش
بالجملة اآلتية:
This 19th – century engraving shows a medieval massacre of Jews in Strasbourg. وال يفوت املؤلف أن يتحدث باستفاضة كبرية عن مذابح
الهولوكوست التي تعرض لها اليهود عىل يد النازية يف أملانيا، حيث يفرد الكتاب أربع صفحات كاملة من 15إىل 18للحديث
«After Hitler came to power in 1938, Jews in Germany were discriminated against in many ways. They were deprived of German citizenship and not allowed to marry non-Jews. During one night in November 1938, synagogues were destroyed all over the country…the Jews of many villages were rounded up and shot. …leading Nazis met together and decided to kill the Jewish population of Germany and German-occupied territory. Jews were taken to extermination camps to be murdered. By the end of the war in 1945, about six million Jews had been murdered and the large Jewish communities of »central and eastern Europe had been destroyed. ومع االعتذار عن هذه النقوالت الطويلة إال أنها ضرورية
لبيان مدى التعاطف الكبري الذي يفيض به الكتاب مع
عنها وتصوير مدى هولها وبشاعتها راصدً ا استجابات قادة
اليهود .ولعل الدليل عىل ذلك أن املؤلف ال يسلك األسلوب
مأساوية ملا القاه اليهود يف أملانيا الهتلرية ،فهم قد اضطهدوا
الصهيونية ضد الفلسطينيني ،وهي هولوكوست أخرى
الصهيونية وبريطانيا وأمريكا لها .ويوغل الكتاب يف بناء صورة
يف أساليب كثرية حيث حرموا من الجنسية األملانية ومنعوا
من الزواج من غري اليهود ،وخالل ليلة واحدة يف شهر نوفمرب
عام 1938م حطمت جميع املعابد اليهودية يف أملانيا كلها .ومع
نشوب الحرب العاملية عام 1939م طوق الجيش األملاين قرى يهودية وقتل سكانها ،كما قرر النازيون عام 1942م قتل اليهود
يف أملانيا واألرايض التي احتلتها أملانيا .وسيق اليهود إىل مخيمات اإلبادة لقتلهم .وعند نهاية الحرب عام 1945م وصل القتىل اليهود نحو ستة ماليني ،وحُ ِّطمت مجتمعات يهودية كبرية ً عرضا مختص ًرا لبعض يف وسط أوربا وغربها .ما سبق كان األفكار والفقرات التي تضمنها الكتاب ص ،16ومن نصوصها
اإلنجليزية ما يأيت:
نفسه مع املذابح والجرائم البشعة التي قامت بها العصابات يرتكبها اليهود .كما أن هذه املذابح التي اقرتفها اليهود ضد الفلسطينيني ال تقدم بذات العرض العاطفي املؤثر الذي قدم من خالله اضطهاد اليهود ،وقد يكون هذا جزءً ا من
التهميش والدونية التي يعرض بواسطتها التاريخ والقضية
العربية واإلسالمية يف هذا الكتاب ،وهو ما سوف يكون مدار الحديث يف الفقرات القادمة. ثانيًا :البعد الحضاري
-1هامشية العرب واملسلمني يف مقابل مركزية اليهود
التحليل الدقيق لألفكار واملفاهيم ومستويات الخطاب
التي تنتظم الكتاب ييش بما يكشف عن هامشية العرب
101
دراسات
ً ً ً وقضية وذلك يف مقابل مركزية وحضارة تاريخا واملسلمني
اليهود وتفوقهم يف عراقة التاريخ وعدالة قضيتهم وأحقيتهم بفلسطني .وإذا ما حاولنا أن نتجاوز «ظاهر النص» إىل «ما
لم يقله النص»؛ أي إذا واصلنا الحفر املعريف للبنى العميقة للخطاب املتضمن يف النصوص املشكلة للكتاب فإنه يمكن أن
ننتهي إىل الظواهر الداللية اآلتية: لاً ً -1تقدم نصوص الكتاب عرضا تاريخيًّا مفص لليهود يف العالم عامة ويف فلسطني خاصة ،حيث تخصص الوحدة
الثانية كلها للحديث عن تاريخ اليهود فيها وأنهم سكنوها وبنوا فيها مملكة قوية منذ قرون طويلة قبل ميالد املسيح،
وربما يعزز هذا التخصيص واالهتمام مفهوم «التميز التاريخي» لليهود .وتخصص الوحدة الثالثة للتفصيل يف صعود الحركة
يقدم الكتاب أحيانا تناوال مخال بالموضوعية عند عرضه لبعض القضايا المركزية في الصراع بين الطرفين ،وربما يؤدي هذا التسطيح في التناول إلى
102
الصهيونية بوصفها أيديولوجيا سياسية ناجحة ،ولعل يف
ذلك رسالة ضمنية تبني مفهوم «التميز السيايس» لليهود ً أيضا .أما العرب واملسلمون وتاريخهم وحضارتهم فتسكت ً ً مطبقا ،وكأنهم لم يكونوا شي ًئا مذكورًا، سكوتا النصوص عنها رغم ما يملكونه من تاريخ عريق وحضارة أصيلة .وبما أن الكتاب يبحث يف قضية الصراع العربي األمرييك اإلسرائييل
فإن املوضوعية واإلنصاف يقتضيان أن يعالج الكتاب القضايا
التاريخية والحضارية املتعلقة بكل طرف بشكل متوازن ال أن يميز ً طرفا عىل حساب طرف آخر. -2الرتكيز عىل الخصوصية الدينية الرتباط اليهود بأرض
فلسطني ،وبأنهم جنس فوق بقية األجناس البشرية األخرى
فهم «شعب الله املختار» الذين اختارهم الله ومنحهم أرض إسرائيل.
-3اإليحاء بتفوق العقلية السياسية اليهودية وقدرتها
عىل تأسيس الصهيونية التي استطاعت أن تجمع شتات اليهود ً محققة بذلك حلم اليهوديني يف العودة وتقيم دولة إسرائيل
إىل فلسطني .ومما يؤيد ذلك أن الكتاب ينقل ص 15أن كثريًا من القادة اإلسرائيليني يرون أن السبب الوحيد لتأسيس
تمييع القضية األساس؛ ما ينتج عنه إيصال
دولة إسرائيل هو صعود الحركة الصهيونية يف القرن التاسع
مضللة للقارئ تخدم الطرف اليهودي
ما يشري إليه املؤلف ص 18و 19من قدرة اليهود عىل استثمار
رسائل ليست غير دقيقة فقط؛ بل إنها
عشر وليس االعتداءات النازية عىل اليهود .ويتصل بذلك
التحيز في االستخدام اللغوي والتناول النقدي تختفي الموضوعية من الكتاب في االستخدام اللغوي والعرض النقدي للمفاهيم والقضايا التي تعالجها النصوص،
ويمكن توضيح هذه الفكرة في النقاط اآلتية:
-1يكثر استخدام األفعال السلبية في السياق اللغوي الخاص بالعرب؛ مثل :هزموا ،ودمروا ،وأذلوا ،واحتلوا، ورفضوا ،وتجاهلوا...أما السياق اللغوي الخاص باليهود فهو يندرج تحت المعجم الداللي اإليجابي واإلنتاجي؛
مثل :انتصروا ،وبنوا ،وأسسوا ،واستقبلوا ،وأنشؤوا ،ونظموا ،ونشطوا ،وسيطروا ،باإلضافة إلى صفات التعدد
والتنوع التي يوصفون بها.
-2تغيب النبرة النقدية عندما يتعلق األمر بالحديث عن إسرائيل واليهود وما يرتكبونه في حق الفلسطينيين منذ عقود؛ إذ يكتفي الكتاب بالعرض السردي الوصفي العام من دون أي انتقاد أو لوم.
-3التأييد المباشر وغير المباشر إلقامة دولة إسرائيل وتأسيس المشروعية التاريخية والدينية لها ،مع اإلهمال الكامل للمسألة الفلسطينية وعدم اإلشارة إلى شرعيتها وبداية معاناتها .وعندما جاء على ذكر وعد بلفور لم يذكر له أي
عالقة بالمشكلة الفلسطينية ،إنما عرضه من خالل اليهود والمصالح البريطانية ،حينما نجح اليهودي وايزمان في إقناع بلفور بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين؛ إذ أقنع بلفور مجلس الوزراء البريطاني بهذه الفكرة التي سوف تساعدها في كسب الحرب العالمية األولى وتسحب أميركا للوقوف معها ص .12
-4محاولة الربط بين المسيحية واليهودية؛ وهذا يوحي بأن اليهود قريبون للمسيحيين وهم مستحقون للدعم بناءً
على ذلك؛ إذ ينص الكتاب ص 8على أن النبي عيسى عليه السالم الذي توفي عام 29م كان يهوديًّا كما كان أتباعه األوائل كذلك.
العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
صورة الصراع العربي اإلسرائيلي في الكتب الدراسية البريطانية
صهيونيني المعني ألي يهودي «هرتزل» ص ،11أو زعماء سياسيني ناجحني «جولدا مائري وإسحاق شامري» ص .25
وال شك أن مثل هذه املرجعيات املتنوعة ذات الوزن الثقيل
ال تؤثر فقط يف طبيعة الحجة املقدمة وتماسكها وقوتها فقط، وإنما تمتد لتؤثر بشكل كبري يف نفسيات املتلقني لها؛ وهذا
يمنحها مصداقية أكرب لديهم؛ لكونها صادرة من أساتذة
وباحثني ،أو قادة ومفكرين ،أو زعماء سياسيني ،وهنا مكمن الخطر .أما مصادر الحجج الفلسطينية فهي ال تعدو أن تكون
صحيفة مغمورة يف أحد مخيمات الالجئني ،أو شخصية
فلسطينية خاملة الذكر ،أو إذاعة إحدى الدول العربية الفقرية
ص 23و ،22ومن ثم فإن تأثري هذه الحجج يف أذهان املتلقني ً ضعيفا؛ ألن مثل تلك املصادر لها ومدى اقتناعهم بها قد يكون تفتقد الجاذبية ،وربما املشروعية للحديث ،والقدرة عىل
التأثري واإلقناع. الهولوكوست يف صياغة الرأي العام الغربي يف بريطانيا وأمريكا
بحيث أصبح مؤيدً ا إلسرائيل.
-4تصوير إسرائيل بوصفها دولة صغرية محاطة بعدد
من أعدائها املجاورين لها من العرب واملسلمني ،ومع ذلك فقد انتصرت عليهم وأذلتهم يف حروبها معهم؛ بل إن ثالث
دول عربية «مصر واألردن وسوريا» قد خسرت أرايض كبرية
يف حرب األيام الستة عام 1967م بما فيها البقية الباقية من
أرض فلسطني .أما حرب 1973م ،فعىل الرغم من أن إسرائيل هوجمت عىل حني غرة حيث كانوا يحتفلون بيوم العبور،
ومعظم القطاعات العسكرية والحربية كانت غري مستعدة،
فإن إسرائيل تمكنت من االنتصار يف النهاية وكانت عازمة عىل مواصلة الحرب لوال الضغط األمرييك املكثف عليها
لوقفها ص 34و.35
-2تسطيح القضايا الرئيسة يف الصراع العربي اإلسرائييل ً أحيانا تناولاً مخلاًّ باملوضوعية عند عرضه يقدم الكتاب
لبعض القضايا املركزية يف الصراع بني الطرفني ،وربما يؤدي هذا التسطيح يف التناول إىل تمييع القضية األساس؛ مما ينتج
عنه إيصال رسائل ليست غري دقيقة فقط؛ بل إنها مضللة
للقارئ تخدم الطرف اليهودي .صحيح أن املؤلف يعرض وجهة
نظر الطرفني :العربي واإلسرائييل يف األعم األغلب وهو ما يجب
أن نقرره بكل صدق وأمانة؛ لكن اإلشكالية تنبع من األسلوب والكيفية التي تقدم بهما حجج كل طرف ،فعىل سبيل املثال
تكون الحجج الداعمة لوجهة النظر اإلسرائيلية أكرث من تلك الداعمة لوجهة النظر العربية .هذا أولاً ،وثانيًا أن بعض املصادر
التي تستقى منها الحجج ذات مرجعيات علمية وأكاديمية «أستاذ للتاريخ يف جامعة أكسفورد» ص ،55أو قادة ومفكرين
ومن األمثلة عىل تسطيح القضايا الجوهرية يف الصراع
العربي اإلسرائييل وتمييعها أن الكتاب يعرض لقضية الالجئني ً ً ومجردة من كل ما مفرغة من بعدها اإلنساين، الفلسطينيني
بها من فظاعة ،مع أنه لم يفعل اليشء نفسه عندما تناول ما مر به اليهود من محن وتهجري .كما أنه يقدم هذه القضية اإلنسانية الكبرية بأسلوب يخفف كثريًا من حدتها ،حيث يوحي بأنها قضية تتعدد فيها اآلراء ولها أسباب كثرية ،ويسهب يف
عرض مقوالت متعددة تثبت أن القادة الصهيونيني األوائل لم يقصدوا تهجري الفلسطينيني وأنهم يؤمنون بإمكانية التعايش ً ً مكثفا لوجهة نظر عرضا معهم ص .21ويورد املؤلف ص 25
املسؤولني الحكوميني اإلسرائيليني حيال مشكلة الالجئني من
حيث إنها مشكلة عربية ،فإسرائيل لم تخلقها إنما العرب هم
الذين بدؤوا الحرب ورفضوا قرار التقسيم .كما أن إسرائيل استقبلت 600ألف يهودي عربي من العراق واملغرب بني عامي 1948م و1972م ،ومن ثم فإنه يمكن للعرب أن يفعلوا اليشء
نفسه مع الالجئني الفلسطينيني .إضافة إىل ذلك فإن القادة العرب يتعمدون عدم حل هذه املشكلة؛ الستخدامها يف
الدعاية السياسية ضد إسرائيل ،والرثوة النفطية العربية قادرة عىل حلها منذ زمن طويل.
والحق أن مشكلة الالجئني الفلسطينيني ال تحتاج إىل كل
هذا الجدل الطويل من الكتاب ،فهي ناتجة بالدرجة األوىل عن
مذابح دير ياسني وعصابات الهاغانا ،كما أشار إىل ذلك املؤلف
لكن من طرف خفي ،وبإخراج متواضع ،وخط صغري جدًّ ا ،وذلك بخالف إخراجه لوجهة نظر املسؤولني اإلسرائيليني السابقة ،التي كانت بعنوان كبري وعىل شكل نقاط مركزة وبخط بارز.
103
نصوص
قصص قصيرة ج ًّدا جان لوي بالن ترجمة :عبدالسالم بن خدة كاتب مغربي
مسكينة هي فرئان مخترب NRPBبمدينة سيدين األسرتالية؛ إذ أصبحت تتغوط
بمعدل مرتني أكرث من الفرئان املماثلة لها منذ أن تم إرغامها يوم ًّيا عىل سماع 45دقيقة
من األصوات الصادرة عن الهواتف النقالة.
♦♦♦ اآلنسة «ماري س» الواقفة عىل درابزين شيب كنال بريدج بسياتل ،كانت تهدد
عل .رجال الشرطة ،رجال اإلطفاء ،القنطرة املغلقة ،عرقلة السري، بإلقاء نفسها من ٍ
104
قلة صرب سائقي السيارات انتهوا إىل حث اليائسة عىل القفز .وهو ما قامت به بالفعل. ♦♦♦
كان السيد «مرتان» ،من ساكني غرونوبل ،يتسكع عىل سكة الرتامواي املهملة من
طرف عمال الرتام املضربني .نهاية مفاجئة لإلضراب ،مرت قاطرة غري منتظرة؛ لن يكون بمستطاع السيد «مرتان» امليش سوى برجل واحدة. ♦♦♦ وهو يرتنح من الفرح بعد رأي جماعي ألطبائه أعلنوا فيه شفاءه التام من املرض
املرعب الذي أصابه .غادر السيد «فيليكس» املستشفى وث ًبا .لكن سرعان ما عاد إليه؛ لعدم انتباهه إىل القدوم املباغت للحافلة رقم .31
العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
نصوص
َص ْه ،ال ت َُب ِّ الم َطر .. ل ل ِث َ ياب هذا َ ْ عصام رجب شاعر سوداني
()1
هذا املساء َ َ ُ سيقول َ لك املطر َثمَّ َة شجَ ٌ رة ٌ وحيدة
هُ ناك ... َّ الط ُ ريق إىل َخ ْ ص ِرها مَ حْ ُف ٌ وفة بِظمأٍ يطول، وأخىش ... ُق ْل َله:
تشغ ُل َ َ ُ بال ال ُّنجوم القصائد التي
تنتظ ُرك، ِ َ عارية الحِ برْ ِ ، ِلك َّ تحت ت َ َ الشجَ رة ... ()2 مَ َط ٌر مِ سكني
َ يجه ُ أبسط األشياء َل يط ُر ُق بابَك
َ َ ْ منزلك غادرت وقد ُ منذ ِسنني ... ها هُ و مُ ب َت ُّل الثياب
نيس كعا َد ِت ِه فقد َ يأخذ مِ َّ َ أنْ ظل َته العَ تيقة
التي أهداها له أحَ ُدهُ مْ ، ال يذ ُك ُر اآلنَ مَ نْ هو،
َ َ قبل أنْ يموت بِساعات ...
()3
ُ ستقول لك: ٌ َ خفيف َكغيم، «أنت
وامل َ َط ُر الذي بِك َّ كأنه قامَ ِل َتوِّه
مِ نْ السابِعة ... سرير سمائه َّ ِ ُ خفيف َ َ الغيم أنت رت ِسوى األناشيد فاخ ْ أُ ً رجوحة َلك » ...
ال تتأمَّ ْل كثريًا يف حَ ني ِنها، وقد َت َّ ْ شظى
حِ نيَ طا َر طريُك، َ أناشيد ...وال ... فال َغيمَ ...وال ()4 الخارج المَْط ُر الذي ي َُط ْق ِط ُق أصابِعَ ه يف ِ َخبرِّ ْه َّأنهُم أقاموا ال ُبيوت يك يتش َّر َد يف ُّ الط ُرقات
نايات ْ والجُ دران ... وسطوح ال ِب ِ ِ َ يسيل ويك
وهو يرجُ ُ ف مِ نَ البرَ ْد،
ولكِنْ
ال أحد
سيف َتحُ َله الباب أو يأويه ً ليلة واحِ دة ِ يف ُغ َ رف ِة ُّ الضيوف ...
105
حوار
المفكر اللبناني أوضح أن المشروع اإليراني يرمي إلى تفكيك دول المشرق العربي
علي حرب:
شخص يحرص على نظافة البيئة أفضل متطرف من داعية مشعوذ أو مثقف ّ حاوره في بيروت محمد الحجيري
106
نعت أو ٌ ٌ ٌ رمز أو اسم أو «أنا كائن ال يستغرقه قناع ،بل إني أشعر بأن لي َ ُ عنيت ألف وجه ووجه، ّ ً ٌ بعضا ،بل يغلف بعضها ب أنني مركب من ُح ُج ٍ لشخوص أجهل إني أشعر بأن نفسي هي مسرح ٍ إقليمها ومضاربها .هكذا فأنا مجموع طيّاتي أو شبكة أطيافي وهواماتي» .هكذا يعرف الكاتب والفيلسوف اللبناني علي حرب المعروف بآرائه النقدية الحرة والمثيرة لإلعجاب ،والمتميز بنصه الفكري الرشيق القائم على نوع من فن الكتابة، وقد أغنى حرب الحقل الفلسفي في موضوعات تردد كثيرون في ولوجها ،وبرع بنقده مأزق الهوية وأوهام الحقيقة ،انتقل جهده من البحث عن الحقيقة إلى نقد خطابها؛ إذ ال نستطيع اإلمساك بها ،وكتابته بقيت ً ودائما تجدد منطلقاتها. ابنة زمنها، «الفيصل» التقت المفكر علي حرب في بيروت وحاورته حول كتبه وقضايا أخرى.
العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
ـــــ
من منظور نقدي ،كيف تقرأ ظاهرة «داعش
وأخواتها» ،كيف تفسرها؟ هل هي إفرازات الحداثة وصدام
«القيم الحضارية» أم نتاج النص الديني وخطاب الواعظين أم لعبة االستخبارات الدولية والتجاذبات؟
ال شك أن اإلرهاب الجهادي هو عنف فاحش ال سابق له،
كما تشهد نماذجه كحرق الناس أحياء ،أو قتلهم في المقاهي والمالعب ،أو دهسهم بشاحنة في الساحات والميادين .وال يفوق هذه األعمال البربرية سوى ما قام به ذلك اإلسالمي الذي
فقأ عيني زوجته؛ ألنها لم تمتثل ألمره بالذهاب إلى سوريا
لتنفيذ عملية انتحارية .مثل هذا العنف األعمى يحتاج إلى قراءة ّ ّ وتحلل األسباب التي تقف وراءه .والقراءة تتقصى جذوره. الجذرية تتناول المسائل على مستواها الفكري ،أي من جهة
لم ينجح الفالسفة العرب في إنتاج نصوص (نظرية .حقل .منهج. وتحتل تيار) تخرق السقف المحلي، ّ مكانتها في ساحة الفكر العالمي داخل اإلسالم أم بين المسلمين وسواهم ،بقدر ما اشتغل أئمّتها
بلغة التكفير والردّة ،أو بعقلية الكره والحقد ،أو بمنطق اإلقصاء والنفي المتبادل .والحصيلة هي كل هذه البحار من الدماء ،وكل
هذا الخراب المادي والمعنوي ،كما تصنعه الحروب األهلية الطاحنة أو األعمال اإلرهابية الوحشية على يد الجهاديين من أهل الخالفة أو المجاهدين من أتباع الوالية .لنحسن التشخيص.
العقليات وأنماط التفكير وأساليب التعامل ،ما دامت ميزة ّ ويتفكر فيما يحدث له أو يصنعه اإلنسان هي أنه كائن يفكر
إذا أردنا معالجة المشكلة ،لإلرهاب هويته اإلسالمية ،بوجهيها
الظاهرة ،منها ما هو خارجي كتدخل القوى الكبرى والدول
وبما هي إستراتيجية جذرية ،راديكالية ،عدائية ،ال تنتج سوى
من حيث ال يحتسب .قد تكون هناك عوامل مساعدة النتشار
الالعبة على المسرح .ومنها ما هو داخلي؛ سياسي أو معيشي،
حضاري أو نفسي ،كما هي مفاعيل األزمات الناجمة عن الفقر والجور واالستبداد أو عن االستالب واإلحباط .لكن األساس في تجسد في األطروحة نشوء الظاهرة هو أيديولوجي ثقافي ،كما ّ األصولية السلفية الرامية إلى أسلمة الحياة ،بإقامة دولة
الخالفة وتطبيق الشريعة. هكذا ّ نظر وش ّرع اآلباء المؤسسون لمشروع اإلسالم
السياسي ،من علماء ومرشدين ودعاة؛ من رشيد رضا وحسن
البنا وسيد قطب إلى الخميني وعلي خامنئي ،ومن حسن الترابي إلى راشد الغنوشي ،وصولاً إلى طارق رمضان .هذه األطروحة هي ما تعمل على ترجمتها على أرض الواقع المنظمات اإلرهابية؛
مثل :القاعدة ،وداعش ،والنصرة ،ومثيالتها في المعسكر السني ،أو أضدادها في المعسكر الشيعي. ُّ
ـــــ
أين هو دور القرآن الداعي إلى الوسطية واالعتدال
والتسامح؟!
حشر القرآن ال يفيد في المساجلة حول تفسير الظاهرة اإلرهابية ،أولاً -ألن الخطاب القرآني هو كالم يحتمل القول
ونقيضه ،بقدر ما هو كالم مفتوح على التأويالت المتعددة يتشكل ً ّ وفقا لمنطق والمتعارضة؛ ثانيًا -ألن تاريخ اإلسالم لم التعارف وال بحسب فضيلة التقوى.
ـــــ
ما الذي شكله إذن؟
إنها المنظومات العقائدية واألنساق الفقهية التي تضيِّق ما
اتسع وتقطع ما اتصل .فهي التي أسّ ست لالنشقاق والعداوة ،سواء
الدعوي والجهادي ،بما هي نمط فكري أصولي اصطفائي ،مغلق،
ّ التعصب والتط ّرف والعنف .من هنا تبدأ المعالجة :تفكيك هذا
النمط من التفكير وكسر نماذجه وصوره ،أو قوالبه وأختامه .وهذا
يقتضي ثورة في برامج التعليم الديني ،بقدر ما يتطلب الصدق مع النفس وشجاعة فائقة وعقلاً ً خالقا ،قادرًا على إيجاد المخارج
واستنباط الحلول .ال سيما أن اإلرهابيين إنما يكتبون ،ببربريتهم، التي ال نظير لها ،نهاية المشروع الديني.
ـــــ
كيف ذلك؟
لكل ظاهر ٍة وجهها اآلخر .من هنا قولي :إن الجهاد اإلرهابي هو
آخر مراحل اإلسالم السياسي .وهذه هي حصيلة كل سعي للتطابق ً حليفا، مع األصل :انتهاكه باستئصال كل مخالف ولو كان قريبًا أو كما هي العالقة ،مثلاً ،بين داعش والنصرة .هذا هو مآل العودة إلى نماذج مستهلكة أو بائدة لتطبيقها في هذا العصر :اإلطاحة
بمكتسبات الحضارة القديمة والحديثة ،وانتهاك كل المقدسات
آن واحد. والقيم واألعراف :أي البربرية والعدمية في ٍ عنصرية البلدان األوربية
ـــــ
كيف تفسر صعود اليمين المتطرف في أوربا وأميركا
وشخصيات؛ مثل :نوربرت هوفر النمساوي ،ودونالد ترامب األميركي ،ومارين لوبين الفرنسية ،وبوريس جونسون
البريطاني؛ إضافة إلى انفصال بريطانيا عن االتحاد األوربي،
هل هو إخفاق لليسار أم ردة فعل تجاه الالجئين واألجانب؟
ال شك أن العنصرية «تزدهر» اليوم في البلدان األوربية،
وبخاصة بعد تدفق الالجئين والمهاجرين بسبب الحروب األهلية ،وباألخص بعد تصاعد اإلرهاب الذي ّ ولد نماذج ترد على
107
حوار
التطرف بمثله .هذا ما يحدث اآلن بعد صعود لوبن في فرنسا
(نقد العقل) ،هي من أخصب المراحل ،كما مثلها أعالم مثل:
النماذج العنصرية الفاضحة .ومع أن بريطانيا أثبتت انفتاحها
الفالسفة العرب ،على أهمية ما أنجزوه ،في إنتاج نصوص ّ وتحتل (نظرية .حقل .منهج .تيار) ،تخرق السقف المحلي،
أو ترامب في أميركا أو جونسون في بريطانيا ،وسواهم من بانتخاب عمدة للندن ،المسلم البريطاني صادق خان ،فإن التيار
اليميني ،المحافظ والعنصري ،صار أقوى من ذي قبل ،ومن فضائحه أن إحدى الشخصيات السياسية البريطانية التي كانت ّ مرشحة لمنصب رئيس الوزراء ،إنما تتهم الرئيس األميركي
مكانتها في ساحة الفكر العالمي.
ـــــ
أوباما ،بأنه نصف كيني ونصف أميركي .تفسيري للظاهرة أن
كيف ّ تفسر ذلك؟ َ َ أشير إلى خلل متعدد الوجوه :األول هو غلبة هواجس
المختلفة والمتعارضة .وما نحسبه ماضيًا قد يعود ،إذا تهيّأت
بوصفه تح ّرر الفكر من كل أشكال الوصاية على العقل .والثاني
اإلنسان هو كائن جيولوجي تتداخل فيه األطوار وتتراكب المراحل
له األسباب ،عودة مرعبة ،كما هي عودة الدين بعقول وحوشه
اإلرهابية ،أو كما يشهد صعود التيارات العنصرية والفاشية من أحشاء المجتمعات الغربية ،وعلى نحو مفاجئ وصادم.
التح ّرر السياسي والنضال الوطني على مهام التنوير العقلي، هو غلبة االعتبارات األيديولوجية ،القومية أو الدينية ،على
مشاغل المعرفة ولغة الفهم ،على حين أن الفلسفة هي خطاب
عقالني عابر لحواجز اللغات والثقافات واالنتماءات .أشير إلى عائق ثالث هو األهم ومضمونه أن مشكلة العقل العربي ُفهمت
والدرس المستخلص هو أن الماضي يتوارى وال يمحى، ً تفكيكا، يجر العمل عليه وصرفه ،تعرية وتصفية أو إذا لم ِ
بوصفها آتية من خارجه؛ من السلطات السياسية أو الدينية
ومنازع العنصرية .ومع ذلك ال ينبغي أن نثق ثقة مفرطة
أن مشكلة العقل عامة ،هي بنيوية ،داخلية .وأساس ذلك أن
لسراديب الذاكرة ومعسكرات العقيدة ،أو ألفخاخ الهوية باإلنسان .وإال كيف نفسر تحول الضحية إلى جالد ،والمظلوم إلى قاهر ظالم! مما يعني أن القيم المتعلقة بالمساواة والعدالة
108
أركون والجابري وحنفي والعروي وصفدي ..ومع ذلك لم ينجح
أو الحقوق والحريات ليست مكتسبات نهائية ،بل هي محتاجة
على الدوام إلى تعزيزها وتوسيعها وتفعيلها ،بابتكار مساحات
أو أطر وسياق للتداول والتبادل والعمل المشترك.
ـــــ
هناك إشكالية دائمة ،يختلف المهتمون بالفلسفة
في البلدان العربية بشأنها ،وهي هل يوجد نص فلسفي في
العالم العربي؟
أو من اجتياح الخرافة له من جانب ثقافة أخرى .على حين العقل ال ينفك عن أوهامه وخرافاته وممارساته المعتمة ،فيما هو ينتج أدواته المنهجية وأنساقه المعرفية وصيغه العقالنية.
وهكذا فالوهم حاكم على العقل .من هنا جاءت حاجته الدائمة إلى النقدّ . لعلي أشير إلى عامل رابع هو أن الفالسفة العرب لم يتصرفوا بصفتهم العالمية ،بل وقعوا في فخ تجنيس العقول بحديثهم عن عقل عربي أو إسالمي أو غربي ،على حين خطاب
العقل ال هوية له؛ ألنه يخاطب جميع العقول ،بصرف النظر عن جنسيات أصحابها ،أو عن المعطيات التي يشتغلون عليها.
من هنا نجد أن بعض الفالسفة والمفكرين الذين يقيمون
هناك جهد فلسفي عربي قد انبثق وانتظم ،شرحً ا أو ترجمة ً وتأليفا ،منذ االحتكاك بالعالم الحديث .وهذا الجهد الذي امتدّ
في هذا البلد األوربي أو ذاك ويحملون جنسيته ،كما هو شأن المقيمين في فرنسا ،مثالاً ،وبخاصة من كان منهم من أصول
تجلى في تعدد المذاهب واالتجاهات الفكرية التي هي ،في
وعقولهم مشدودة إلى العالم العربي .لم ينخرطوا في قراءة
على مراحل مختلفة ،بدءً ا من عصر النهضة حتى المعاصرين، معظمها ،استعادة للمنتج في أوربا وأميركا من الحركات
الفكرية؛ مثل :الوجودية والوضعية والذرائعية والبنيوية ،أو
من فروع المعرفة؛ مثل :الظاهراتية واألناسة وأصول المعرفة
أو أثريات المعرفة .وال شك أن المرحلة األخيرة المتعلقة بالنقد
العالم العربي هو اليوم في واضطرابا، وترديا أسوأ أحواله تفك ًكا ً ً باستثناء دول الخليج التي تشكل المساحة الحضارية المتبقية العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
مسلمة ،قد وقعوا في قوقعة الهوية .لذا فقد كتبوا وألفوا
المجريات وتشخيص الواقع العالمي بمشكالته وتحدياته؛ لكي ينتجوا أفكارًا تستأثر باهتمام اإلنسان المعاصر أيًّا كان
انتماؤه .هذا ما حاولت تجنبه منذ البداية ،بحيث تصرفت بوصفي عاملاً في حقل معرفي ،هو الفلسفة ،همّ ي األول
تجديد العُ دّ ة الفكرية عبر تشخيص الواقع .هذا ما تشير إليه عناوين كتبي( :التأويل والحقيقة -نقد النص -أوهام النخبة- ً وانطالقا من حديث النهايات -هكذا أقرأ -العالم ومأزقه)...
ذلك فأنا أكتب عن أرسطو والفارابي وابن رشد وابن عربي، كما أكتب عن ديكارت وكانط وهيغل وهيدغر وفوكو ...كذلك
فأنا أتناول األزمة المالية العالمية ،وأفكك الظاهرة األصولية المعولمة ،وأكتب عن األزمة في فرنسا ،وأكتب عن األزمات
متطرف علي حرب :شخص يحرص على نظافة البيئة أفضل من داعية مشعوذ أو مثقف ّ
في العالم العربي .واألزمة في العالم العربي ،في هذا العصر
حيث تتشابك المصالح ،ال تنفصل عن أزمة العالم ،بل هي وجه من وجوهها تتأثر بها ،كما تغذيها ،بعد أن اع ُتبر العرب مصدرًا لتصنيع اإلرهاب وتصديره.
من هنا تشخيصي للواقع العالمي بقولي :ثالث كلمات تلخص اليوم األزمة الكونية ،هي أولاً التخبّط؛ إذ الالعب على المسرح من القوى الكبرى والدول الفاعلة ،إنما يتردد بين
النقيض والنقيض في مواقفه وسياساته .وثانيًا التورط؛ إذ هو ال
يصنع سوى مآزقه ،بمعنى أن حلوله للمشكالت يجعلها تزداد ً وثالثا التواطؤ ،بمعنى أنه ال يخدم إال عدوّه ،بقدر ما تعقيدً ا. يصنع النماذج التي يدّ عي محاربتها.
ـــــ
في رأيك هل انتهت الفلسفة في
زمن التحوالت ،وهل بقي من دور للفلسفة؟
للفلسفة جذرها الراسخ في حياة البشر،
ما دام اإلنسان ،كما م ّر ذكره ،هو كائن ميزته
ّ ويتفكر ،بالعودة النقدية االرتدادية، أنه يفكر
على ذاته وأفكاره وأعماله ،بالنظر والتأمل ،أو
بالمراجعة والمحاسبة؛ لتقصي أسباب األشياء
أو تحليل الظواهر أو قراءة التجارب أو تشخيص
المشكالت..
لذا ال يعرى إنسان من منزع فلسفي .كل واحد
يمكن أن يتفلسف ،عندما يتفكر ويتساءل؛ لكي يعرف
والهجرات؛ العرب إلى أين؟
ً تفككا وترديًا العالم العربي هو اليوم في أسوأ أحواله
واضطرابًا ،باستثناء دول الخليج التي تشكل المساحة ّ ولعل المجتمعات العربية تدفع اآلن ثمن الحضارية المتبقية.
ّ يخص إصالح أحوالها وتطوير حياتها، عجزها أو ممانعتها فيما
بالطرائق السلمية والديمقراطية ،كما فعلت شعوب أخرى، ّ وشل الطاقات الحية، وكانت الحصيلة هي هدر الموارد،
والوصول إلى هذه النهايات الكارثية ،كما تتمثل في االنفجارات والحروب األهلية والتدخالت الخارجية؛ إذ أصبحت دول
مثل :سوريا والعراق واليمن وليبيا ولبنان ،ساحات مفتوحة
لكل داعية مشعوذ أو جنرال متغطرس ّ متدخل من الخارج .والخارج ال أو العب ّ يحل لك مشكلتك، يعتمد عليه ،أي ال بل يجعلها تزداد تعقيدً ا ،بانتظار ّ حل مشكلته أو ضمان مصالحه .واإلنسان، فردًا كان أم جماعة ،إنما يحصد
ما يزرع .وهذا مآل ما ال يحسن
طي صفحة وفتح أخرى في ّ سجل الحقيقة؛ لكي يتدبر حاضره ويهيئ لمستقبله، بما يبتكره في مجال من
المجاالت ،وعلى النحو الذي
يتيح له المشاركة في صناعة الحضارة .وإذا كانت أجيالنا
أسباب ما يحدث ،أو لكي يحسن تدبير شؤونه ،بتغيير أسلوبه
قد أخفقت أو عجزت أو حتى تواطأت ،فاألمل في األجيال
أو مشكلة ،تمامً ا كما أن هناك أناسً ا ليسوا بشعراء لكنهم ً أحيانا بصورة شاعرية. يتحدثون
في االنتفاضات والثورات العربية ،التي تألب ضدها ثالوث االستبداد واإلرهاب في الداخل والغزو من الخارج.
لتجديد العدة الفكرية ،فيضع نظرية في األسباب ،أو يجترح
الحضاري ،إال بتغيير العقليات والمفاهيم وأنماط التفكير.
في التفكير أو طريقته في المعالجة ،عندما تواجهه صعوبة
أما الفيلسوف المحترف فهو الذي يشتغل على األفكار
طريقة في التفكير ،أو يصوغ معادلة وجودية فيما يخص العالقة بين الذات والفكر والواقع ،كقول ديكارت :انا أفكر ً إذا أنا موجود.
الجديدة من القوى الحيّة والمدنية ،وقد شهدنا نماذج منها
لكن ال عودة إلى الوراء .ال مخرج من هذا المأزق
من غير ذلك سنحصد المزيد من الخراب والكوارث .والتغيير ّ متأله أو بطل منقذ؛ ألن لم يعد صنيعة زعيم أوحد أو قائد أعمال النهوض واإلصالح أو التطوير والتحسين ،هي مسؤولية
لذا لن تموت الفلسفة ،لكنها تتطور بموضوعاتها ونظرياتها
المجتمع بكل دوائره وقطاعاته وفاعلياته .ودور الحكام
ابن رشد أو كانط ،فلن نجد فلسفة؛ ألن الفلسفة تكتب اآلن
نحو يتيح للمجتمع أن يتحوّل إلى ورشة دائمة من التفكير على ٍ
جديدة للحياة ،أو تقتحم ُصعُ دً ا جديدة للوجود غير مسبوقة
وهذا هو الرهان أمام البلدان العربية :أن تتقن لعبة الخلق
ومناهجها .ولو حكمنا على ما يُكتب اليوم ،بمقاييس أرسطو أو
بأشكال وأنماط وأساليب مختلفة ،كما تنفتح على مجاالت وال متوقعة.
تفكك العرب واضطرابهم
ـــــ
بعد موجة الحركات والتظاهرات والحروب والنزوح
والساسة ،هو المساعدة على فتح اآلفاق واألبواب والفرص، الحي والخالق ،بقدر ما يترجم إلى عمل تنموي مثمر وبناء. ّ والفتح؛ لكي تمارس وجودها وحضورها على سبيل الجدارة
واالستحقاق .فهي تملك موارد هائلة طبيعية وبشرية ،رمزية وتراثية .ولكن ما ينقصها هو الرؤى المستقبلية والسياسات
الرشيدة أو اإلدارات العقالنية واإلستراتيجيات الفعالة.
109
حوار
مشروع شمولي ،أو إلى فرد في قطيع تسيره الغرائز العمياء
والفالتة من كل معيار ،كما نعاني في البلدان العربية ذات
التركيب الطائفي المتعدّ د.
فأنا ال يعنيني أن يكون الواحد مسيحيًّا أو مسلمً ا على هذا
المذهب أو ذاك .ما يعنيني بالدرجة األولى عمله وما يتقنه، رئيسا أم عاملاً ،أم كاتبًا أم فالحً ا ،أم صاحب شركة سواء أكان ً
ً ً بسيطا ...إن امرءً ا يحترم قانون السير أو يحرص على موظفا أم
نظافة البيئة ،هو في نظري أفضل من داعية مشعوذ أو مثقف متط ّرف يحدثنا ،من على الشاشة ،عن مشاريعه وحروبه التي تقود إلى هالك العباد وخراب البالد.
ـــــ
ـــــ
يكاد اإلنسان يدمّر الطبيعة بجشعه وتكالبه وجهله بما يفعل.
لذا فالحفاظ عليها هو أولى من جميع العقائد واأليديولوجيات
كيف تقرأ هويتك وأنت القائل في كتابك «خطاب
التي تدمر من جهتها جسور التواصل بين البشر .من هنا كان نقدي لهويتي الثقافية ،مدخلاً لنقد هويتي كإنسان وهو األهم،
وإثنيني وبوذيّ وزنديق.. المعاني ،ومسيحي ويهودي ووثني ّ ّ من هنا كان السؤال عن ماهيّته :أين أنا من كل هذه ُ الهويّات؟
المنطلق إلى ذلك هو أزمة المشروع الحداثي .فبعد كل هذه العهود والمواثيق حول حقوق اإلنسان ،نجد أن أكثر من يسيء
التنوع واالختالف ،إبان الحرب األهلية التي لم تنته بعد؛ بسبب
التنوير العقلي والتطور الهائل في العلوم والمعارف ،تنتهي
وقبلي وعربي ومسلم الهوية ،سيرة فكرية» :أنا بدوي وجاهلي ّ ولبناني شيعي عاملي ويوناني وغربي وفرنسي بمعنى من
110
ّ الحد تكتسب مسألة البيئة أهميتها في نظرك؟ ألهذا
أنا عبرت عن مفهومي لهويتي على هذا النحو المفتوح على
التعامل مع الهويات بمنطق االصطفاء والنقاء والثبات .وهكذا،
فإن التجارب المريرة واإلخفاقات المتالحقة والمعايشات اليومية ،بمعاناتها ومكابداتها ،حملتني على وضع هويتي، كلبناني وعربي ومسلم ،على طاولة النقد والتشريح؛ للكشف
على ما هو شأن المقاربة الوجودية والتحليل الفلسفي .وكان
إليها هم دعاتها وحراسها .وبعد كل هذه العصور واألطوار من
المجتمعات البشرية إلى مثل هذه المآالت البائسة أو الكارثية،
من تلويث البيئة إلى االنهيارات المالية ،ومن أزمة الديمقراطية
إلى صعود األصوليات الدينية والعنصرية .وكل ذلك يشهد على عجز اإلنسان عن التدبير وفقدانه السيادة على نفسه.
هذا ما دعاني إلى إعادة النظر في مفهوم اإلنسان ،بتفكيك
عمّ ا يقف وراءها من األوهام الخادعة والقوالب الجامدة أو الصور ّ تشكلت النمطية والتهويمات النرجسية .وكانت حصيلة ذلك أن
العدّ ة التي صنعنا بها إنسانيتنا أو صنعتنا ،من حيث ال
اآلخر ،بقدر ما هي شبكة تأثيراتها المتبادلة وسيرورة تحوّالتها
والعصمة والبطولة والنخبة والنجومية ،وسواها من الصور
عندي قناعة جديدة مضمونها أن الهوية هي ِن َسبها وعالقاتها مع المستم ّرة .وهذا شأن الهوية الغنية والقوية أو المزدهرة .إنها قدرتها على التواصل والتفاعل مع اآلخر ،بقدر ما هي طاقتها
على التجدّ د في ضوء التحوالت وعلى وقع األزمات .فكيف ونحن في عصر التواصل والتداول واالعتماد المتبادل ،حيث تشابك المصالح والمصاير.
ـــــ
ولكن أليس هناك محطات ثابتة لهويتك؟
نعقل ،كما هي مفاعيل مفردات كاأللوهة والقداسة والعظمة
والنماذج والقيم .وهكذا فما ندافع عنه هو ما نشكو منه. بهذا المعنى يتجاوز النقد الصراعات األيديولوجية والصدامات
الثقافية .والرهان للخروج من المأزق ،هو اشتغال اإلنسان على نفسه لصوغ مفاهيم ونماذج أو قيم وقواعد جديدة إلدارة
شؤونه وشؤون الكوكب .من هنا ال مخرج إذا لم ننجح في إدارة العالم ً وفقا إلستراتيجية جديدة تنبع من رؤية جديدة ،بل من
إنسان جديد .هذا ما يجعلني أعود دومً ا إلى مانديال الذي قضى
بالتأكيد .هناك ثالث ركائز .بلدي لبنان حيث أقيم وأعمل،
في السجن 27عامً ا .وعندما تح َّرر بلده وتولى سدة الرئاسة ً خالفا للقانون ،وهو الرمز المقاوم والمحرر لم يشأ التجديد،
الضيقة ،بل ال أعترف بها وأحاول التح ّرر من تصنيفاتها الخانقة
مثل هذا النموذج الذي اتسم صاحبه بالتعقل ضد التعصب،
ثمّ مهنتي ككاتب ،ثمّ هويتي العربية لكوني أنطق وأكتب بالعربية .ال تعنيني كثي ًرا األصول الدينية أو األطر الطائفية
التي تحشر الفرد تحت خانة لتحيله إلى رقم في حشد لخدمة العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
والمؤسس .نحن نفتقر ،وبخاصة في العالم العربي ،إلى وبالتواضع ضد التأله ،وبالخضوع للقانون ضد االستبداد
متطرف علي حرب :شخص يحرص على نظافة البيئة أفضل من داعية مشعوذ أو مثقف ّ
واالنفراد بالحكم؛ لذا ،ال نبحثنّ عن العلة في العولمة ،وال في
ً إمكانا للتفكير ُفتحت معه أبواب وهكذا ،فإن أعمالي شكلت جديدة بالمقاربة والمعالجة أمام النقاد والك ّتاب والدارسين،
األنا النرجسية والعقلية المفخخة ،والذاكرة الجريحة ،والهوية
في كتاباتهم الفلسفية ،أو استخدموا تقنياتها المنهجية في ً وصيغا الدرس والتحليل ،أو اقتبسوا منها أو نقلوا عنها أفكارًا
التقنية ،وال في السوق المفتوحة أو في الرأسمالية المتوحشة.
بل في اإلنسان ،فهو مصدر كل هذا التوحش الذي هو حصيلة
الموتورة ،والنفس األمَّ ارة. الشخصية الثقافية
ـــــ
فاعتمدوها مراجع في تحصيلهم ،أو نسجوا على منوالها
استخدموها في مؤلفاتهم ومقاالتهم.
بعد عقود من االنغماس في الكتابة والمقاربات
ـ ـ ـ ـ ـ كيف تتعاطى اآلن مع كتابك «أوهام النخبة» الذي
العالمية واألضداد والتناقضات والفتوحات والصدامات؛
أما كتاب «أوهام النخبة» الذي رسخ لنقد المثقف ،فيكفي
الفلسفية والفكرية إلى جانب أنك عشت تحوالت الثقافة كيف تقرأ شخصيتك الثقافية باختصار وموقعك في حقل الفلسفة ،وما الذي لم تكتبه بعد؟
كانت له أصداؤه الواسعة في الساحة الثقافية؟
أن أذكر هنا أنه بعد صدوره قال لي أحد المثقفين الذي أصبح صديقي :بعد قراءتي الكتاب خرجت على حزبي السياسي
ّ يخص شخصيتي ،أشعر بأن هناك فجوة بين موقعي فيما
الفاشي.
بجهة أو مؤسسة أو جماعة أو حزب أو حتى صحيفة .أما من حيث موقعي الفكري ،فأنا ،على العكس ،أُمارس حضوري
مؤخ ًرا سئل جيجك :ماذا نفعل في مواجهة الرأسمالية التي
جيجك؟
بالطبع ليس عبر عالقاتي أو منصبي ،لكوني عاريًا من أي منصب
علينا أن نقلب نظرية ماركس؛ ألن المطلوب ليس فهم العالم
ككاتب ،وبين مكانتي االجتماعية أو السياسية .على هذا الصعيد ً أحيانا ،بأنني أضعف خلق الله؛ لكوني ال أرتبط أو ألوذ أشعر
وأثري في المشهد الثقافي اللبناني والعربي ،وربما خارجه، ثقافي أو سواه ،بل عبر أعمالي ونصوصي ال غير .وبات من
النرجسية أن أعاود الحديث عن األثر الذي تركته أعمالي .بدءً ا من
ـــــ
كيف تقرأ في هذا السياق كتابات الفيلسوف سالفوي
ال تتوقف عن التوسع واالنتشار؟ أجاب :لست أدري ،ثم أضاف كما يفعل الفالسفة ،بل تغييره؛ أي العودة إلى موقف الفالسفة. وعندما كان أحدنا يقول قبل عشرين عامً ا ،على وقع انهيار المشاريع األيديولوجية للنخب الثقافية:
كتابي «التأويل والحقيقة» (1985م) .ثم
إن النظريات واإلستراتيجيات السائدة في فهم
كتاب «النص والحقيقة» بأجزائه الثالثة، وباألخص «نقد النص» الذي اع ُتمِ د مقررًا
العالم وتغييره ،قد فقدت مصداقيتها ،وباتت
دراس ًّيا في جامعة باريس منذ عقدين، وما أعقب ذلك من كتب اس ُتقبلت بوصفها
بحاجة إلى التغيير ،كان يُتهم صاحب الرأي
بأنه بورجوازي ومعا ٍد للتقدم .واآلن يأتي
طريقة جديدة في التفكير ،أو أسلوبًا جديدً ا
جيجك ليتبنى هذا الرأي ويتخلى عن رأي ماركس بوصفه تعبي ًرا عن موقف
في الكتابة الفلسفية ،أو رؤية مختلفة
بورجوازي سابق .وهكذا فإن جيجك، ً عوضا من أن يعيد النظر في أساس
إلى األشياء والعالم .فالفالسفة مشهورون
بأنهم من عشاق الحقيقة وشهدائها .ثم
مشروعه ،يع ّد كل ما هو رأسمالي خاط ًئا ،وكل ما هو اشتراكي صحيحً ا،
أتى من يكتب عن «نقد الحقيقة» ،فكان
ذلك بمنزلة فتح أفق جديدة للتفكير والتنوير.
التجارب المريرة واإلخفاقات المتالحقة والمعايشات اليومية، حملتني على وضع هويتي ،كلبناني وعربي ومسلم ،على طاولة النقد عما يقف وراءها والتشريح؛ للكشف ّ من األوهام والقوالب الجامدة
مثله في ذلك مثل األصوليين اإلسالميين الذين
يسطون على النظريات العلمية لنسبتها للقرآن الكريم.
ـــــ
ً تعليقا على مجزرة صحيفة شارلي يقول إدغار موران
إيبدو الساخرة ،إنه يدين هذا االعتداء ،لكنه ليس مع ّ مس
المقدسات...
أنا أخالفه الرأي ،فيما يخص العالم العربي؛ ألن الممارسات
التقديسية هي علة العلل وأم المشاكل ،كما تتجلى في عبادة
الكتب واألشخاص واألسماء أو األمكنة واألحجار .وللقداسة
111
حوار
ً أحيانا ،بقدر ما تقوم على مفاعيلها السلبية ،المدمرة والقاتلة
ـــــ
على ما هو عادي ونسبي ويومي ومتغير ،وربما غير مقبول أو مشروع ....وهكذا من يُقدس شي ًئا ،إنما يسدل الستار على عقله ً تعلقا أعمى .والحصيلة أن يقع ضحيته ،أو أن بقدر ما يتعلق به
والداعشية؟
حجب قوامه خلع صفات األلوهة والتعالي أو العظمة واإلطالق
يضحي بغيره ،كما تشهد عالقة الناس بمطلقاتهم ومقدساتهم وطوطماتهم الدينية أو السياسية أو الثقافية.
ـــــ
ما رأيك في المقوالت التي تتكرر في بعض األفكار؟ ّ يخص أعترف بأن هناك شي ًئا من التكرار فيما أكتبه ،أما فيما
ما لم أكتبه بعد ،فأنا منذ سنوات أفكر في أن أكتب كتابًا يكون بمنزلة الجزء الثاني لكتابي «خطاب الهوية» ،وبالطبع سوف يختلف األمر ،بعد أكثر من ثالثين عامً ا ،باألسلوب والمقاربة.
المهم أن يكون منطلق الكتاب عن حياتي وسيرتي أو مسيرتي.
ولكن مشاغل الدراسة والصحافة وقراءة المجريات واألحداث العاصفة ،قد صرفتني عن ذلك .وأخشى ألاّ يكون أمامي م ّتسع من العمر؛ لكي أنجز قصتي مع الحقيقة ،من خالل التطرق إلى
هويتي ومهنتي ومهمتي.
112
ً دائما تحاول أن تكون سجاليًّا انتقاد ًّيا ،نجحت بقوة
في كتابك «أوهام النخبة /نقد المثقف» ،وتابعت في مجاالت ً خصوصا األصوليات واألصنام الفكرية واأليديولوجية أخرى، ثمة كالم يتك ّرر منذ زمن ،بأنه ال وجود لسجاالت خصبة
على ساحات الفكر في العالم العربي .وكي ال أقول بأن هذا
الكالم ال معنى له أو ال طائل من ورائه ،أقول بأن ما يعنيني من ً أحيانا علنية المعارك األدبية والسجاالت الفكرية ،التي تكون ً وأحيانا أخرى صامتة ،هو أن أُحْ ِسن قراءة المجريات ،وأن تفتح ً إمكانا لتشخيص ما أتناوله من القضايا والمشكالت. مقارباتي
ـــــ
كيف تقيّم ما كتبته في السنوات األخيرة؟
ما كتبته في السنوات األخيرة ،حول مشكالت الساعة
وحول التحديات المصيرية التي تواجه العرب ،والعالم، أعطى مصداقية لما قدمته من اآلراء والتحليالت .صحيح أن ما
قلته القى معارضة شديدة من جانب المتشبثين بأطروحاتهم
ومواقفهم ،من أصحاب التيارات األصولية ،الدينية والعلمانية، القومية واليسارية ،ممن يتعاملون مع شعاراتهم بعقل أمني، عسكري ،شمولي .لكن ما كتبته أ ّكد صحة رهاناتي ،سواء
أمين معلوف كاتب فرنسي غير ملتزم بمقاطعة إسرائيل ـــــ
لم تقل رأيك في قضية أمين معلوف الذي تحدث إلى قناة إسرائيلية ،وما أثاره
ذلك من الجدل واالنقسام؟ ً ً حرصا في تعليقي أميّز بين الذين خونوا معلوفا وبين الذين تم ّنوا عليه االعتذار؛ على مكانته .أما األول فال ينطبق عليهم إال قول المتنبي :يا أمة ضحكت من جهلها
األمم؛ ألنهم يشهدون على جهلهم وعلى خيانتهم؛ لكونهم يسيرون في ركاب أنظمة ً وتشريدا ،بما يفوق ما فعلته أو ودول تفتك بالشعوب العربية ،قتلاً وتعذيبًا أو تهجيرًا ً معلوفا باالعتذار. تفعله إسرائيل بالفلسطينيين؛ لذا كان نقدي يستهدف الذين طالبوا وهؤالء تعاملوا معه كمثقف لبناني عربي ،عضوي ،منخرط في دعم القضايا العربية. ً لكنّ معلوفا هو فرنسي؛ ألنه يحمل الجنسية الفرنسية ،ويكتب باللغة الفرنسية .ولم يعرف عنه طوال مسيرته ككاتب أي موقف داعم للقضية الفلسطينية أو للقضايا العربية.
أمين معلوف
من هنا قولي :يا لسذاجة المثقفين اللبنانيين والعرب .لقد رسموا لمعلوف صورة ليست له ،وطالبوه بدور ال يطيقه وال
يرغب فيه .فهو كاتب فرنسي غير ملتزم بمقاطعة إسرائيل ،شأنه شأن أي كاتب فرنسي .وأعتقد أنه لو كان يدعم القضية ً معلوفا كاتب فرنسي من أصل لبناني .وهو الفلسطينية ،لما دخل األكاديمية الفرنسية .فهل كان يخطط لذلك؟! صحيح أن
يأتي إلى لبنان؛ لكي يُحتفى به أو يكرَّم .كذلك لمعلوف وجهه العربي ،وهو يأتي إلى البالد العربية ،وبخاصة عندما ينال الجوائز .وهو وافر الحظ في هذا الخصوص؛ إذ نال أهم وأكبر جائزتين عربيتين :جائزة العويس لإلنجاز الثقافي ،وجائزة زايد ّ يخص عن شخصية العام .وهذا ما لم ينله ك ّتاب عرب لهم أثرهم البالغ وحضورهم القوي وسط المشهد الثقافي ،سواء فيما
ّ يخص ادعاءات النصر المستحيل والخادع. الهوية وإستراتيجياتها القاتلة ،أو فيما يخص العالم ومأزقه الحضاري ،أو فيما
مرة أخرى :يا لسذاجة المثقفين!
العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
متطرف علي حرب :شخص يحرص على نظافة البيئة أفضل من داعية مشعوذ أو مثقف ّ
في تفسيري للظاهرة األصولية بالعودة إلى جذورها الدينية، أو بقولي :إن أنظمة االستبداد ،شأنها شأن المشاريع الدينية،
غير قابلة لإلصالح أو للمفاوضة والتسوية ،وهذا ما كتبته عن المحادثات حول اليمن قبل شهور :إنها مضيعة للوقت .وهذا
ما حصل؛ ألنه ال مساومة مع من يفكر بعقل طائفي ،عنصري، ّ يخص قراءتي لحرب تموز من خالل فاشي .كذلك األمر فيما
مقولتي عن النصر الخادع والمستحيل ،بعد أن انخرط أهل
التحرير في خوض حروب تفضي إلى تدمير غير بلد عربي، بدعم من إيران .هنا ً أيضا ،صحّ رهاني ،حول طبيعة المشروع اإليراني الرامي إلى تفكيك دول المشرق العربي؛ إلعادة ترتيب
أوضاعه السياسية والطائفية ،كما كتبت منذ سنوات. أَ ِص ُل من هذه المرافعة ،غير المحمودة ،إلى قضية
أعمالي شكلت إمكا ًنا للتفكير ُفتحت معه أبواب جديدة بالمقاربة والمعالجة أمام النقاد والك ّتاب والدارسين هواجس التحرر السياسي والنضال الوطني تغلّبت على مهام التنوير العقلي الشمولي ،وحسبانها إشكالية تتعلق بوجودنا ،على نحو
الساعة ،بعد المذابح التي تعرضت لها فرنسا .فأنا من القائلين،
تكون فيه الحقيقة ممارسة تنتجها الخطابات والروايات
الجهادية .وما حصل شاهد؛ إذ تحولت الجالية اإلسالمية إلى
ال شك أنني أفدت من نيتشه فوائد جليلة .لكني لست
منذ زمن ،بأن فرنسا قد تراخت وتأخرت بمعالجتها للظاهرة حاضنة اجتماعية وثقافية لوالدة الوحوش اإلرهابية. مقوالت نيتشه
ـــــ
اشتغلت كثيرًا على مصطلحات «المنطق التحويلي»،
و«العقل التداولي» إضافة إلى ترجمات لمصطلحات أخرى؛
هل بات لديك قاموسك الخاص في الحقل الفلسفي؟
والتأويالت؛ ما رأيك بهذه المقاربة؟
نسخة عنه ،وال مجرد شارح له .لقد تجاوزته بقدر ما جددت وأضفت .مثال ذلك مقولتي حول «المنطق التحويلي» ،حيث شعاري ليس «أن أكون ذاتي» ،كما هو شعار نيتشه وكثيرين. وبحسب المنطق التحويلي يجري تجاوز منطق المماهاة ومنطق
هيغل الجدلي معً ا ،حيث الفكرة الحيّة والخصبة ،تتغير هي
نفسها بقدر ما تسهم في تغيير الواقع ،وتغير صاحبها أو من
أنا حصيلة كل ما قرأته وتأثرت به من األعمال الفكرية
يتداولها بقدر ما تسهم في تغيير عالقته باآلخر .نحن إزاء تحويل
ودولوز أو ابن عربي وابن خلدون .لكني لم أكن مجرد شارح.
بالثوابت ليست ثابتة ،بل متحولة .وآية ذلك أن الفكر هو توتره الدائم ،والواقع هو حراكه المستمر ،سلبًا أو إيجابًاّ ، تخل ًفا أو
والنصوص الفلسفية .ويأتي نيتشه في الطليعة ،شأنه شأن فوكو بل أعدت إنتاج ما قرأته وتم ّرست به من األعمال .وال أوثر هنا
كلمة «تخريج» القاصرة عن الوصف والفهم .فاألمر يتعدى ذلك ً صرفا وتحويلاً ،أو تركيبًا إلى إعادة الخلق ،شرحً ا وتأويلاً ،أو
ً انطالقا من لغتي وبيئتي الثقافية ،أو أسئلتي ومشاغلي وتجاو ًزا، المعرفية ،وبالطبع في ضوء تجاربي وخبراتي .وهذه النصوص باتت تعبر عن فرادتي ،وتحمل ْ بصمتي وختمي .والشاهد أن
كثيرين قد اطلعوا على فكر نيتشه وفالسفة ما بعد الحداثة من
خالل أعمالي .هناك من يكتب عن نيتشه ،على حين أن كتابته آتية من نصوصي أكثر مما هي آتية من نصوص نيتشه.
ـــــ
كتب عبدالرزاق بلعقروز مقارنة معرفية ومنهجية ً كاشفا عن فضاءات التشارك والحوار بينك وبين نيتشه،
بينكما ،ويستنتج أنك من أشد الناقدين للفيلسوف األلماني، ال سيما دعوته إلى اإلنسان «السوبرمان» .ومع ذلك يجد
بلعقروز أن في نصك استثمارًا لمقوالت نيتشه وإشكاليته
الفكرية ،أعدت تخريجها ومقاربتها والتعاطي معها ،بما يتالءم مع تصورك لمقولة نقد الحقيقة بمعناها الكلياني
مربع الوجه .بهذا نتجاوز مقولة الثابت والمتحول؛ ألن عالقتنا
ازدهارًا .ولكن التغير قد يحصل بصورة صامتة أو بطيئة ،ثم ينفجر ،كما هي األزمات والثورات.
مثال آخر ،أنا لست مع مفهوم «اإلنسان األعلى» الذي أورث ّ نيتشه محنته وجنونه ،وهذا شأن ّ يتعلق بمبدأ مثالي: كل من أن يُحبَط ويُجَ نّ ،أو أن يتحول إلى إرهابي .ومفهوم اإلنسان األعلى هو الذي يصنع أزمة اإلنسان عمومً ا .من هنا مقولتي حول
«اإلنسان األدنى» ،بمعنى أن الفاعل البشري هو أدنى بكثير مما يدعيه أو يدعو إليه ،من حيث عالقته بشعاراته ومشاريعه.
نفسر كل هذا التراجع أو االنهيار على مستوى القيم وإال كيف ّ والمبادئ؟ والرهان هو كسر منطق التعالي واألعلى واألقصى؛
لالشتغال بمفردات الوسط والمساحة والفضاء واألفق ،أي ما يتيح للبشر إقامة عالقات تبادلية مثمرة ،وذلك يقتضي التفكير ّ والتحلي بالتقى الفكري والتواضع الوجودي. في عقل تداولي وأخي ًرا هناك قضية الحقيقة .وأنا أفدت من نيتشه بفتحه
مفهوم الحقيقة على اللغة والمجاز واللغة والجسد والقوة. ولكن بقيت لديه أوهام ما ورائية حول الحقيقة عبر عنها بوصفه
113
حوار
أحد كتبه بأنه «اإلنجيل الخامس للبشرية» .أنا أفهم الحقيقة
ما تنطوي عليه المنظومة األيديولوجية حول مفاهيم
التجاوز والتركيب ،بل أفهمها من خالل مفردات اإلستراتيجية ّ ولعلنا نحتاج إلى مثل هذه المفاهيم لمقاومة واللعبة والرهان.
والخداع؛ لذا كان المآل الفشل واإلخفاق .وكما أن حركات
من خالل مفردات الخلق والفتح ،أو الصناعة والتحويل ،أو
موجات التأله والتعصب والتطرف التي تنفجر حروبًا أهلية ،أو بربرية إرهابية.
المساواة واالختالف والتحرر ،من الوهم واالدعاء أو الزيف
التح ّرر الوطني والسياسي ،ترجمت مزيدً ا من االستبداد،
فإن الحركات النسوية لم تمنع أعمال التمييز ضد النساء، ً تضييقا وقمعً ا أو اغتصابًا أو والتعامل معهنّ بلغة العنف
أنا تحررت من المفهوم األيقوني للحقيقة ،بوصفها ماهية
قتلاً .ثمة تبسيط ت ّتسم به الحركة النسوية ،بنسائها ومن
منطق التيقن والقبض والتحكم .أين هو التحكم فيما اإلنسان
والرجل ،إلى مج ّرد قوانين وقواعد أو إلى أدوار ووظائف. ّ محل وذلك يطمس الكينونة الجنسية لكل منهما ،أي ما هو
ثابتة أو هوية تامة أو بنية سحيقة وغائرة ،بقدر ما تجاوزت
عاجز اآلن عن معالجة نفاياته؟ من كان يحسب أن بيروت التي
كانت مدينة نظيفة ،أنيقة ،في زمن الفرنسيين وما بعده ،تكاد تطمرها النفايات؟!
ـــــ
يقف معهنّ من الرجال ،يقوم على اختزال عالقة المرأة
جذب أو إغراء أو افتتان .لذا فإن الرجل حين يلتقي المرأة إنما تلفته بالدرجة األولى صفاتها األنثوية، أي كونها امرأة بالدرجة األولى ،أيًّا كانت
التعليقات على مقاالتك على
صفاتها األخرى العارضة؛ زميلة أو رفيقة،
اإلنترنت كثيرة ،وكثير منها يصب في خانة
خادمة أو رئيسة ،عالمة أو كاتبة ...إال
الهجوم عليك؛ لمجرد أنك تقترب من
في الحاالت االستثنائية التي يدجّ ن فيها
«التابو الديني» أو حتى االجتماعي ،هذا من
الرجل أو يغلب على أمره .وبالعكس
دون أن ننسى ما حصل في إحدى الندوات ً انطالقا من هذا؛ هل تعرّضت في القاهرة،
114
إال إذا كانت المرأة تسحق رغبتها
بحكم التقاليد أو ألي سبب آخر. هنا ً أيضا يمكن القول بأن
للتهديد؟ هل شعرت بخطر على حياتك؟
ما يختزل ال يمحى ،بل يتوارى
_ مثل هذه التعليقات ليست غريبة ،بل هي طبيعية عندما تصدر عمن ُختم على عقولهم،
ويعود بصورة مخاتلة؛ مفاجئة
أو صادمة .لنحسن التشخيص؛
ممن يتقنون تقديس الكتب وعبادة السلف .نحن
إزاء ردات فعل غريزية تشهد على ممانعة أصحابها
كي نعالج المشكلة .فاإلنسان هو ذات راغبة بالدرجة
تشخيص المشكلة التي يعترف الجميع بوطأتها .ومثل هؤالء
األولى .وإال كيف نفسر أعمال التح ّرش واالغتصاب ،بعد هذه
ّ الحل هو المشكلة .وبالعكس استعصاء! مما يعني أن ما نحسبه
بالفستان ألول مرة ،حتى يخرج النواب الذكور ،الذين يش ّرعون ً وصراخا وصفي ًرا .ناهيك بحاالت لألمة ،عن طورهم ،هياجً ا
كمثل المريض النفسي الذي يقاوم محاوالت تفكيك عقدته .وإال كيف نفسر أن نتصوّر حلولاً للمشكالت ،فإذا بها تزداد تعقيدً ا أو
ما نرفضه وندينه قد يكون بداية الحل .وهكذا فهم يهربون من مقاربة المشكلة ،على نحو جذري ،للكشف عن مكامن الخلل والعجز والقصور .والحصيلة هي االستبداد السياسي واإلرهاب
الديني ،أو التخلف المجتمعي والتقهقر الحضاري.
الحب والفناء َ قلت بعض المفاهيم عن المرأة في كتابك «الحب
ـــــ
والفناء» بعضهم اعتبرها سلبية وتقليدية على غير عادتك في ّ متمس ًكا بتلك األفكار الكتابة وتحطيم األصنام ،هل ما زلت أو تعدها ابنة مرحلة وانتهت أو ّ تبدلت؟ وكيف تفسر كتاباتك
عن الحركة النسوية؟
كتابتي عن حرية المرأة ،هي وجه لكتابتي النقدية
عن حركات التح ّرر الوطني ،بمعنى أنها ترمي إلى كشف العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
العهود التنويرية والتحررية؟ وأين؟ في البلدان األوربية؛ ففي فرنسا ،مثلاً ،كان يكفي أن تأتي إحدى النائبات إلى البرلمان
الطالق وأعمال التحرش التي تضاعفت عما كانت عليه قبل عقود .والدرس ألاّ ّ نلتف على المشكلة .فالرغبة حاكمة على الذات؛ إذ هي األصل تمامً ا كما أن الوهم هو األصل في مسألة
العقل .لذا ال تكفي القوانين والتشريعات التي تساوي بين المرأة والرجل ،كما ال تكفي العقوبات لردع الرجال عن الخروج على
المسلك الحضاري.
ـــــ
هل يعني ذلك أننا أمام مشكلة تستعصي على الحل؟
السؤال يطرح إشكالية العالقة بين الطبيعة والثقافة ،بين
الرغبة والواقع ،بين الغريزة والقانون .والصعوبة الفائقة هنا،
إن لم أقل االستحالة ،تتأتى من كون الهوى عند اإلنسان هو األصل وليس العقل .فالمرء لكي يصبح عاقلاً أو متعقلاً في
متطرف علي حرب :شخص يحرص على نظافة البيئة أفضل من داعية مشعوذ أو مثقف ّ
عالقته مع اآلخر ،يحتاج إلى كثير من االشتغال على الذات بالجهد والمراس أو التدرب والتحول .لذا ال أخشى القول بأن مفردات الوفاء واالستقامة واالنضباط قاصرة عن إيجاد
الحل؛ ألن العالقة بين الرجل والمرأة ،كما بين أي شريكين، ً وعشقا .وعندها قد تستهلك ولو كانت في البداية ودًّا أو حبًّا تشتغل المخيلة الخائنة ،تحت وطأة الرغبات المتقلبة أو األهواء
الجامحة التي تجنح بصاحبها ،نحو انتهاك القيم والقوانين.
ولكي ال تتحول الشراكة إلى حياة رتيبة أو إلى حرب باردة ،أو تؤول إلى الهجر واالنفصال ،فإنها تحتاج إلى من يحسن إدارتها
بالمصارحة والمكاشفة كما بالمرونة والمواربة والترويض الدائم ،واألهم أنها تحتاج إلى التجديد؛ كي ال تستنفد العالقة
بين الزوجين ،بل يبقى بينهما رابط جامع من سر جاذب أو لغز غامض .واألساس ألاّ يفكر الواحد بامتالك شريكه؛ إذ إنه بذلك يخدع نفسه أو يظلم شريكه.
ـــــ
التأليف ،أَوْليت أهمية لألسلوب .وقد أفادني في ذلك تدريسي
كتب المفكر الجزائري محمد شوقي الزين «هناك
للفلسفة العربية طوال ربع قرن ،وأكثر الفالسفة العرب هم ك ّتاب .أضف إلى ذلك أن التم ّرس بالنص الفلسفي العربي ،قد
ذوق جمالي يحيونه بقوة النظر أو ببالغة األسلوب .هذا حال
وال أنسى مداومتي على قراءتي اآلثار واألعمال األدبية ،شع ًرا
فالسفة في تاريخ الفكر البشري هجروا األنساق المعرفية؛ لتتح ّول الفلسفة عندهم إلى كتابة أو فن أو متعة ،أي إلى علي حرب الذي ابتكر مفردات أصيلة تعبر عن نفوره من
التصنيفات أو التنميطات ،وهي مفردات حُ بلى بالمجاز ،وال
تنفك عن نمط استعاري في الداللة واألداء...
ّ يخص ترجمة المصطلحات األجنبية. زوّدني بإمكانيات فيما ورواية .وهكذا فقد حرصت على أن أكتب بأسلوب ذوقي بياني،
يجمع بين جمال العبارة وجدّ ة المفهوم أو قوة الفكر .وأذكر
أنني في أول زيارة لي إلى تونس عام 1993م ،سُ ئلت عما إذا كنت أتعاطى الشعر ،فنفيت ،لكني لم أستغرب السؤال؛ ذلك ألن
أنا محظوظ مع الجزائر؛ ألن كتبي تقرأ فيها أكثر من أي بلد آخر ،وألن أعمالي ّ شكلت مادة لكثير من الدراسات واألطروحات
الكتابة ذات المنحى الذوقي ،بإشاراتها والتماعاتها ،شكلت
الزين ،الذي هو اليوم أحد أعالم الجيل الجديد من الفالسفة
وأنا كانت لي تجربة في هذا الخصوص ،على صفحات جريدة
الجامعية من جانب كثيرينًّ . حقا كان الدكتور محمد شوقي العرب الذين أثبتوا جدارتهم في الساحة الفلسفية ،هو أول من
اهتمّ بأعمالي وكتب عنها .ثم ترجم كتاب «حديث النهايات» ّ شك أن ما قاله الصديق محمد شوقي هو إلى الفرنسية .وال في مكانه .فأنا لم أكتب ً وفقا لقواعد المنهج الصارم أو لقوالب النسق المغلق ،كما أنني لست من أصحاب المشاريع الفكرية
العريضة والشاملة .إنما أكتب بصورة ح ّرة ومفتوحة على األحداث والمعايشات .فأتناول بالدرس والتحليل قضية أو
تجربة أو ظاهرة أو ًّ نصا.
رافدً ا من روافد القصيدة العربية الحديثة؛ أعني قصيدة النثر. «النهار» ،منذ ثالثة عقود تحت العنوان اآلتي« :إشارات» .من
مثاالتها هذه العبارة :كلما قتل امرؤ نظيره فزعت من نفسي. وقد قرأت مؤخ ًرا كالمً ا جميلاً في هذا الخصوص للشاعر محمد علي شمس الدين :أخشى أن يكون قاتلي في داخلي. ـ ـ ـ ـ ـ هل يربكك المديح والثناء؟
أعتقد ،باالستناد إلى تجربتي ،أن من يكتشف شي ًئا ،هو
أول من يعرف ما كشفه أو ما أنجزه ،أي قبل النقاد وأهل الحقل أو االختصاص .ومع ذلك فاإلنسان ،ككائن اجتماعي محتاج إلى
من هنا لست مضط ًّرا إلى تغيير بعض ما كتبته بصورة جوهرية .يكفي أن أحذف فصلاً أو أضيف فصلاً آخر .وقد أغير
االعتراف بما ينجزه .ومن سعادة المرء أن ينجح في عمله ،وأن
األصولية والشعائر التقدمية ،ثم أصنام النظرية وأطياف
السعادة .لكن لكل شيء وجه آخر .فالنجاح والشهرة أو الصيت،
ً عنوانا .وهذا ما أنوي فعله ،فيما لو أعيد طبع كتابي :األختام
الحرية ،بحيث أقوم باختصار كل منهما على النحو اآلتي: األختام والشعائر ،ثم األصنام واألطياف ،فيكون ذلك أبلغ
وأجمل .أما من حيث طريقة الكتابة ،فأنا منذ أن شرعت في
يكون مقدرًا في وسطه وعالمه .أما إذا كان محبوبًا فتلك غاية قد تكون آلخرين ،مصدرًا لمشاعر الحسد والكره والغل .ثمة
من يظن أنك بنجاحك حجبت ذكره أو سرقت دوره ،كما يظن أصحاب األقالم الرديئة والنفوس المريضة.
115
قضايا
مشرق ومغرب حوار بين كيانات متساوية ثقاف ًّيا أم بين مركز وهامش؟ خاص
هل المشرق مشرق ،والمغرب مغرب ولن يلتقيا ،أم أن المغرب مشرق،
116
والمشرق مغرب ولن يفترقا ،على حد تعبير المفكر الراحل محمد عابد الجابري ،في حواره المشهور مع المفكر حسن حنفي في مجلة اليوم
السابع؟
هل تجاوز النقاش اليوم ثنائية المشرق والمغرب ،وما تستدعيه من الغيبي لطرف ،وتعطي الطرف اآلخر البعد توصيفات ،تنسب التفكير ّ الفلسفي؟ هل تخطى السجال مقوالت مثل :الضعف في «العربية» لدى المغاربة ،وهشاشة في التفكير العقالني عند المشارقة؟ إذ يرى مثقفون
أنه عند أي نقاش لثنائية المشرق والمغرب دائمً ا هناك ما يمكن وصفه
بـ«اللبس» أو«سوء الفهم» في تصور العالقة بين الطرفين؛ فهل هي عالقة بين كيانات ثقافية واجتماعية وفكرية متساوية ،ال مجال فيها للتعالي أو
المفاضلة ،أم بين مركز وهامش؟
«الفيصل» تفتح ملف هذه القضية ،وتسعى لتجديد النقاش عبر استكتاب
كتاب ينتمون إلى أكثر من بلد عربي ،كتاب ال يختزلون المشرق والمغرب بقدر ما يتيحون ،من خالل مقاالتهم ،زوايا نظر مختلفة إلى القضية التي ما
إن يغيب السجال حولها حتى يعود ثانية أكثر سخونة...
العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
العالقة بين المشرق والمغرب
الحقل الثقافي العربي بيـن مشرق ومغرب مـحــمد بــرادة ناقد وروائي مغربي
يـبدو لي أن معظـم ال ِـجـدال المتـصـل بفضاء الثقافة العربية المـمـتد من الخـليج إلى ً عوضا من المحيط األطلسي ،يقوم على غير أساس؛ ألنه يــتوخى المفاضلة والتـرجيح، اعـتبـار التـكامل وتـبا ُدل التأثيـر .وإذا كان هذا التـوجّ ـه مبررًا في العصور القديمة ،فـإنه غير
مقبول اآلن ونحن نعيش حقبة تاريخية وحضارية مخـتلفة تمامً ا عما كانت عليه منذ أكثر من خمسة عشـر ق ً ـرنا .قديمً ا ،كنا نسمع نقا ًدا من المشرق يـرددون ،بعد اطالعهم على
كتابات وإبداعات المغاربييــن :هــذه بضاعـتـنا ُر ّد ْ ت إلـيـنا .ولم يكونوا يأخذون في الحسبان بعض العناصر المائزة تاريخيًّا وجغرافيًّا لدى الشعراء والنقاد األندلسيـيـن والمغاربة.
117
قضايا هذا املوقف املـتـعايل يعود إىل أن العرب املشارقة كانوا يعدون
املـنـتجني الثقافيـيـن ،وعن طـرائق استـهالك هذه الثقافة ،وحجم
بعيدة يف ركاب التبـشيـر باإلسالم ،لكن عصور االنحطاط وما أعقبها
تحظى بالقبول؛ ذلك أنه لم يعـد ممكنا يف عصرنا أن نتحدث عن
أنفسهم ماليك اللغة والرتاث والقواعد التي ص ّدروها إىل أرجاء من يقظة مـتباطئة عىل أصوات مدافع حملة نابـليون ،ثم حركات
االستعمار طوال القرن التاسع عشر ،ونصف القرن العشـرين، كانت تـعـلن تـدشني مرحلة غري مسـبوقة يف تاريخ اإلنسانية ،هي مرحلة األزمنة الحديثة القائمة عىل العلوم والتـقـانة وتـرشيد ـات الـدولة والصـراع السيايس؛ بـعبارة أخرى :دخلت البشـرية بـنـي ِ
الثقافة واإلبداع من دون أن تكون لنا مـعطيات ملموسة عن نوعية
وحجم املـنـتجيـن واملستهلكني ،وعن مرجعيات هذه الثقافة وثـقلها
داخل الحقل االقـتـصادي.
الثقافة ّ مكون للمتخيل الوطني
يف أزمنة مختلفة تـمامًا عن سابقتها؛ ألنها اعتمدت عىل علوم
ـواز مع نشوء الحركات يف مطلع القرن العشـرين ،وبـت ٍ الوطنية من أجل مكافحة االستعمار ،أصبحت الثقافة عنص ًرا مُـكو ًّنـا لـلمــتخيّل الوطني ،تـرمي إىل إحـياء الجوانب املُشرقة من
ما يهمنا نحن هنا أن املـثاقفة وتـبادل التـأثري يف كل املجاالت
فعـاليتها .وبـعد االستـقالالت دخلت الثقافة العربية إىل مرحلة
ووسائط وأنـساق فكرية وفلسفية تستـهدف فك ألغاز املجهول،
وتطـويع الطبيـعة ،وغزو الفضاء ،وجعل التواصل الـرقـمي حقيقة ملموسة ُتـزيل الحواجز وتفرض الشفافية املطلقة.
الرتاث ،ويف اآلن نفسه تـنفتح عىل ثقافة «اآلخـر» التي أثبتت
عمـا كانا عليه ،سواء
مغـايرة تحمل بصمات الصراع؛ من أجـل تـثـبـيت العدالة واملساواة
أصبحا عنصريْن مؤثـريْن ومـخـتلفينْ
بيـن ثقافة وأخــرى أم داخل الثقافة القائمة عىل لـغة واحدة
مـشـرتكة .من هنا يمكن أن نضع أيدينا عىل الخلــل الذي يعانيه النقاش املغلوط حول الثقافة واإلبداع بني املشرق واملغرب؛ ـول اهتمامً ا ملبحث ذلك أن مؤسساتـنا التعليمية واألكاديمية لم ُت ِ
سـوسيولوجيا الثقافة واألدب الذي يسعى لتـشـريح هذا الـحـقل
118
املتلقـني ،وعــن األجناس األدبية واألشكال الفنية والسينمائية التي
الشاسع؛ لتقديم إحصائيات وأرقام وتحليالت موضعية عـن عدد
إعادة اإلنتاج الثقافي العربي المعاصـر المتــصف بالـتـنوع والتكامل مؤهــل ألن بين مشرق ومغرب ،هـو ّ يكون منـطلقً ا إلعــادة التفكيـر الجدي في أزمة المجـتمعات العربية
العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
وحرية الرأي ضمن دساتيـر وقوانني تحرتم املواطنة ،وتـتخذ من
دمـقـرطة الثقافة وسيلة لـتغـيـري الوعي ،واالنفتاح عىل الثقافة
اإلنسانية الـمـمثلة لقيم السالم والحوار ورفض العنف والتعصب. وهنا أصبحت الثقافة العربية ،عىل اختالف موقعها بني مشـرق ومغرب ،أمام إشكالية مشــرتكة تــتمثل يف االنتماء إىل األزمنة الحديثة من خالل نظام سيايس عادل ،وثقافة مسـتـوعبة ألشكال التعـبري والتفكري ،قادرة عىل جعل املواطن حاض ًرا ومشار ًكا يف بناء
مجتمع جديد ،وهذا الوضع املـستـجد بعد مرحلة االستقالل عن االستعمار ،هو ما يجعل التفاخر أو املفاضلة بني مشرق ومغرب
ثقافـيًّا ،غري قائم عىل أساس .أنا ال أتـوفـر ،لـألسف ،عىل دراسات
سوسيولوجية للثقافة العربية يف مـضاربها املختلفة ،لكنني ألحظ أن ما َنـتجَ عن هذه التحوالت السياسية واالجتماعية قد تـرك بصمات عميقة يف الحقل الثقايف ،وبخاصة منذ ستـيـنيات القرن
العالقة بين المشرق والمغرب
أحد األعمال المسرحية المغربية
املايض وتـبـلوُر الصراع بني اتجاهات الحداثة والتـراثيني الذين
ـوق اقتصادية تعـتـمـد عىل صـناعة الثقافة محـليًّا عىل إنشاء س ٍ وعامليًّا؛ إذ ال يـعـقل أن املنتجيـن الثقافيـني العرب ال يـستـطيعون أن
الحقل الثقايف العربي الراهـن ،هو تفاعل نسـبي عىل مسـتوى
استطاعت السوق األوربية املوحدة ،عىل رغم تعدد اللغات ،أن
والفني والسينمايئ ،وبخاصة لـدى األجيال الشابة التي تـعيش تـم ً ً وتهميشا داخل املجتمع ،وذهـولاً أمام الـمـ ّد ـزقـا يف الهوية،
وإعــادة صوغ اإلشكالية الثقافية سـيـقودنا ،بالـحـ ْتـم ،إىل
يـتـشبثون بمنـهجية ماضوية يف التـعاطي مع ما يحدث من حركة ً مشرقـا ومغربًا .والظاهرة الواضحة يف وتبدّل يف الحقل الثقايف
اإلنتاج األكاديمي ،وتفاعـل أكرب منه يف مجال اإلبداع األدبي
األصـويل املـتطرف الذي يوظف الدين لـهدْم املجتمعات العربية.
من هذه الزاوية ،ال مجال للمفاضلة أو التصنيف (املشرق أقوى
يف اإلبداع ،وأقطار املغرب أفضل عىل مستوى الفكر) ،فهي أحكام مطلقة ال تـستـند إىل تحليل مقارن ملموس ،إضافة إىل أنها تـتـغافل
عن دور املثاقفة العاملية يف تـوحيد وبلورة أشكال ومفاهيم مشــرتكة بني الثقافات يف عصــر الـعوملة .ال أتصور ،مثلاً ،أن روائيًّا أو مخرجً ا سينمائيًّا عربيًّا ،سيـنـطلق يف إنتاجه من أشكال تقليدية متجاهلاً ما
حقـقـه اإلبداع يف مجاله .ونفس اليشء بالنسبة للناقد أو املفكـر ،إذا كان يـريد إلنتاجه أن يجد صدى يف مجال البحث العلمي. إعادة صياغة اإلشكالية
يعيشوا من إنتاجهم عىل رغم هذا الفضاء الواسع املشرتك .بينما
تخلق صناعة ثقافية ذات أبعاد اقتصادية وحضارية فاعــلة.
وضع أيدينا عىل الخـلـل يف مؤسسة الجامعة العربية التي ،إذا كانت تجد أعذارًا بالنسبة للمجال السيايس ،فـإنها تقف عارية
أمام تقـصريها وفشـلها يف مجال الثقافة .لكن األمـر ،يف نهاية التحليل ،يـتـعـلق ً أيضا باملأزق السيايس العربي املـتمـثل يف عدم الحسم بني الحداثة واملاضوية؛ بني االستبداد والديمقراطية؛ بيـن
ثقافة التــنوير وثقافة النـقل واالجتـرار.
ألجـل ذلك ،فإن اإلنتاج الثقايف العربي املعاصـر ،املتــصف بالـتـنوع والتكامل بني مشرق ومغرب ،هـو مؤهّ ــل ألن يكون من ً ـطلقا
إلعــادة التفكيـر الجدي يف أزمة املجـتمعات العربية ،عىل أساس من دراسات سوسيولوجية ميدانية ،تجعلنا عىل بـينة من تأثـريها، ومدى رواجها ،وقدرتها عىل محاربة ثقافة التـدجيل والعنف.
إن من شأن إتاحة الفرصة إلنشاء صناعة ثقافية عربية،
عىل ضوء هذه امللحوظات املقتضبة ،أرى أن االهتمام
أن يـتـيح لكل بلد عربي أن يـتـعرف ما تـنتجه األقطار األخرى،
سـيـسـعـفنا بإعــادة صـياغة اإلشــكالية بـطريقة عميقة ،بـعيدً ا من املفاضلة واملـفاخرة واألحكام املـ ُبـتسـرة.
وأفالمهم ولوحاتهم ،محـقـقيـن بذلك ً نوعا من االستقالل املادي الذي هو ضـروريّ لحماية حـرية املنتجني الثقافيني واملبدعني،
أنه شــاسع بفضل لـغـته التي تشمـل ثالث مئة مليون نسمة ،ومن
بمهمة اإلبداع والنــقد الضـرورية لكل مجتمع يتطلع إىل بناء
بـسـوسيولوجيا الثقافة العربية ،وبخاصة يف جوانبها العملية،
ويف طليعة الحقائق التي يفاجئـنا بها الحقل الثقايف العربي،
خاللها يـتـكوّن فضاء مـتـنوع ومـمـتـلك ألداة الحوار والـتـبـادل ،وقادر
وأن يسمح للمنتـجني يف هذا املجال أن يعيشوا من أقالمهم
ويمـهد الستـقالل الحقل الثقايف عن كل وصاية تـعـوق اضطــالعه مستقبل أفضل.
119
قضايا
التواصل والقطيعة .. التنافس والتباري الخلاَّ ق
حسين حمودة ناقد وأكاديمي مصري
مسيرة المشاركة والتواصل المتكافئ بين المشرق والمغرب العربيين مسيرة
120
قديمة وحديثة ً معا ،طويلة وممتدة ،ومتعددة المجاالت ،ومتجددة المعالم.
قد يتوارى أو يبهت شيء من مالمح هذه المسيرة ،في بعض األزمنة ،لكن ال
يمكن للذاكرة البعيدة أو القريبة أن تذهب بها األهواء ،أو سطوة النسيان ،أو النزوع للتنافس ،إلى ّ حد نكران تلك المسيرة وال إلى درجة تجاهلها.
خالل حقب تاريخية طويلة قديمة ،كما نعرف جميعً ا، ً أحيانا ،لم تتوقف االرتحاالت بني وينىس بعضنا أو يتناىس
ومحمد بن الحسن الحجوي .وكان من بني هؤالء الرحالة، ً أيضا وطبعً ا ،عبدالرحمن بن خلدون الذي ال تزال «مقدمته»
تتواىل طيلة قرون ممتدة .أغلبها كان رحالت للحجّ وللمثاقفة
هذه الكتابات ،أو أغلبيتهاّ ، تمثل وثائق وشهادات صيغت
املغرب واملشرق .كان منها أسفار الرحّ الني املغاربة التي ظلت رث عرب عن وللتقارب وللتصاهر ،ونتاجها األدبي واملعريف ال ّ
صامدة يف وجه تقلبات الزمن وتراكمات املعرفة وتجدّ دها.
بأكرث من منظور ،حول مظاهر الحياة الروحية واالجتماعية
باق وملموس األثر ،عن سعي إىل مناهضة تباعد تجسيدٍ ، املسافات التي تفرضها الجغرافيا الواحدة املرتامية األطراف.
وحول الذات العربية الجمعيّة التي ظلت أطرافها ،دائمً ا،
بكل الطرق الوعرة واملمهّدة ،عن امتدادها يف أرض بعيدة،
هي قطع من األدب العربي الرفيع.
كما قدّ م هذا النتاج صورًا دالة عىل روح ظلت دائمً ا تبحث،
والسياسية والثقافية العربية يف مراحل عدة من التاريخ، تطمح إىل االلتئام .وبعض هذه الكتابات ،يف قراءتها حتى اآلن،
وترنو إىل هذه األرض؛ لكونها جزءً ا من عاملها الواحد .يف
اتصل بهذه الرحالت ممارسات انصهار متعددة األشكال. ّ توطن بعض املغاربة يف املشرق، لم تتوقف «عمليات»
ابن جبري ،وأبو عبدالله العبدري ،وابن بطوطة ،وأبو البقاء
أوطانهم الجديدة ،وتحوّل بعضهم إىل «أقطاب» ،يف العلم
هذه الناحية ،وضمن هذا النتاج ،يمكن أن نستعيد كرثة
من كتابات صاغها الرحّ الون املغاربة طيلة قرون :أبو الحسن البلوي ،وأبو الحسن عيل القلصادي ،وأبو سالم العيايش،
والشاوي الغنامي ،وأبو عبدالله الحضييك ،والشيخ ماء
العينني ،والحسن بن محمد الغسال ،وأبو عبدالله الكناين، العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
ومشاركتهم أهله .وقد توىل كثري منهم مناصب مهمة يف واملعرفة ويف الصوفية ،ويف غري ذلك. ***
طبعً ا ،مع أشكال التقارب واالنصهار هذه ،لم يتالش
العالقة بين المشرق والمغرب الوعي «الطبيعي» بالخصوصية .يف دائرة األدب العربي
الثقايف ،األدبي والنقدي العربي ،الواحد عىل رغم تنوعاته
الشامي» ،أو «أدب بني الرافدين» ،أو «أدب الجزيرة العربية»،
املشهد :هل هم من أهل املشرق أم من أهل املغرب.
القديم ،كانت هناك تصنيفات لدوائر أصغر من مثل« :األدب أو «األدب املصري» ،وطبعً ا كان هناك «األدب املغربي» .ومثل
هذا التصنيف لم يكن يعني أكرث من تحديد الدوائر الصغرى ضمن الدائرة الكربى ،من دون قطيعة أو انفصال.
امتداد الوعي بالخصوصية ،بهذا املعنى ،هو ما سيجعل بعض الك ّتاب املغاربة ،يف العصر الحديث ،يضع كتبًا تعمل
الفرعية ،بما يستبعد التساؤل حول املسهمني يف عناصر هذا ***
«الخصوصية الفرعية عىل رغم االنتماء الواحد» ،ذلك
املظهر املطروح قديمً ا ،هو نفسه الذي يمكن طرحه اآلن .وإذا
شئنا التمثيل ،من بني النتاج األدبي والثقايف املتنوع؛ فالرواية املغاربية املعاصرة ،مثلاً ،يمكن أن نجد فيها ما يميزها عىل
عىل «توصيل» األدب املغاربي ألهل املشرق؛ تقوم بتجميعه
مستوى املوضوعات والتناوالت والجماليات ،ولكننا يف النهاية
املائزة لهذا األدب؛ لتؤكد هويته العربية يف مواجهة هوية
وما يقال عن الرواية املغاربية املعاصرة يمكن أن يقال
وتقديمه لهم ،ويف الوقت نفسه تسعى لتلمّ س املالمح
أخرى ،استعمارية ،عملت عىل ابتالع معالم الهوية املغاربية
العربية .ومن أشهر هذه الكتب كتاب محمد بلعباس القباج املعنون بـ«األدب العربي يف املغرب األقىص» ،الصادر يف نهايات عشرينيات القرن املايض ،وكتاب عبدالله كنون «النبوغ املغربي
يف األدب العربي» ،الصادر يف ثالثينيات القرن نفسه .وقد
انطلق الكتابان من تسليم أساس :األدب املغاربي دائرة من
دوائر األدب العربي ،ال تنفصل عن مجالها األكرب وال تنقطع عنه.
***
بهذا كله ،تصعب اإلجابة بغري النفي عن أسئلة من مثل:
هل انقطع ،يف وقت من األوقات ،التواصل األدبي والثقايف بني املشرق واملغرب العربيني؟ هل غاب إنجاز هؤالء عن هؤالء؟
نتلقاها ونراها كما نتلقى ونرى كل رواية عربية أخرى.
عن النقد املغاربي .هناك حركة نشطة ،وهناك «خصوصية»
ً خصوصا، فرضها التوجه لبعض إسهامات النقد الفرنيس، وهو نقد أساس ومهم ضمن مناهج أو مدارس «النظريات
األدبية املعاصرة» التي ظلت اجتهاداتها تتشكل خالل عقود القرن العشرين كلها تقريبًا ،يف غري لغة ويف غري بلد .طبعً ا، لم يكن اإلسهام الفرنيس هو اإلسهام الوحيد بهذه النظريات.
ولكن قراءة النقاد املغاربة ،بالفرنسية ،قادتهم إىل إسهام النقد الفرنيس أ ّولاً ،ثم قادتهم إىل إسهامات نقدية أخرى، فيما بعد .ويمكن بسهولة مالحظة اهتمام كرثة منهم ،إىل
حد الشغف ،بمفاهيم نقاد من خارج فرنسا؛ مثل الناقد
الرويس ميخائيل باختني ،وبعض األسماء املحسوبة عىل النقد األنغلو/ساكسوين.
هل كان أدب املغرب وثقافته بعيدين عن التجاوبات املشرقية، وهل كان أدب املغرب أقل ً شأنا من أدب املشرق أو العكس؟
مع مسرية التواصل واملشاركة املتكافئة ،املشرقية املغربية،
األسئلة ،وهي إجابة مدعومة بحركة التاريخ ،وبتصورات ثاقبة
أصوات تنحو إىل القول بتأكيد التفاوت يف اإلنجازات بني
«ال» ،هي اإلجابة القاطعة واملؤكدة والنهائية عن مثل هذه
ومنصفة؛ ومن بني هذه التصورات ما رآه بعض «أهل املشرق» يف أدب املغرب وثقافته .كتب مثلاً عن كتاب «النبوغ املغربي»، املشار إليه ،كل من شكيب أرسالن وطه حسني؛ وقد أكدا
قيمة األدب املغاربي الكبرية ،وأهمية التواصل بينه وبني األدب املشرقي .وغري بعيد عن هذا السياق ،كلمات كثرية قالها طه
حسني يف غري محاضرة له ،بتونس واملغرب ،خالل خمسينيات
القرن املايض وما بعدها (وبعض هذه املحاضرات متاح بالصوت عىل شبكة «اإلنرتنت») ،وهي كلمات تشعر بالجميل وبالدين
العظيم ملا قدّ مه األدب املغاربي والثقافة املغربية لألدب العربي كله وللثقافة العربية كلها.
***
املمتدة عرب التاريخ ،فقد الحت هنا وهناك ،يف بعض األزمنة،
املشارقة واملغاربة.
ولعل أغلب هذه األصوات كان ينطلق من النزوع إىل
«التنافس»؛ وجزء منه هو التنافس املحمود الذي يمكن أن
يحتدم بني األشقاء يف األسرة الواحدة ،الذي يبدأ ليتالىش ّ يتخطاه. سريعً ا ،ويقف دائمً ا عند حدّ بعينه ،ال يجاوزه أو التنافس املحمود يستدعي السؤال عن التنافس غري
املحمود :ما الذي يفارق بينهما؟ التنافس غري املحمود تؤسسه
نزعة للنفي واالستبعاد ،وينطلق التنافس املحمود من حرص عىل «قوة التباري الخلاّ ق». آمل أن ما نسمعه مؤخ ًرا ،من أصوات تسري يف هذه
فيما بعد القباج وكنون وأرسالن وطه حسني ،وقريبًا من
الوجهة أو تلك ،حول تقييم منجزات إبداع أو نقد أهل املشرق
املشرق واملغرب :هناك كثري من املؤتمرات والندوات ،وهناك
النوع األخري؛ ينطلق من امليل للتباري الخالق وليس من النزوع
سنواتنا التي نحياها ،ثمة كثري من معالم املشاركة املتكافئة بني
كثري من تكامل اإلسهامات ،املشرقية واملغربية ،يف املشهد
وأهل املغرب ،ينتمي إىل النوع األول من التنافس وليس إىل
للنفي واالستبعاد.
121
قضايا
اإلشكال المشرقي المغاربي
بين النهضة والحداثة
عبده وازن شاعر وناقد لبناني
122
ال يكاد يخفت السجال حول العالقة بين المشرق والمغرب حتى يستعر مرة تلو أخرى، فيُعاد طرح قضايا هذه العالقة الثقافية الشائكة التي لم تتخلص من طابعها اإلشكالي، وهذا يدل على أن السجال لم يلق خاتمته المفترضة ،وأن األسئلة التي طالما طرحها منذ عقود ال تزال من دون أجوبة شافية .وواضح أن المثقفين المغاربة لم يتخطوا مشكلة تاريخية ما زالت تحفر في ال وعيهم الجماعي ،وهي تتمثل في غيابهم عن الحركتين الرئيستين اللتين شغلتا القرن العشرين :وهما حركة النهضة ،وثورة الحداثة .وفي المقابل ما برح المثقفون المشرقيون يرون أن هاتين الحركتين اللتين وسمتا القرن المنصرم هما إرث مشرقي ترسخ في جغرافيا «المركز» بين القاهرة وبغداد وبيروت، وظل المغرب العربي ً وقفا على جغرافية «األطراف» مثله مثل الخليج وسواه.
العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
العالقة بين المشرق والمغرب معروف أن حركة النهضة الفكرية
والروائيني املشارقة فاعلاً يف نشوء
األخرية من القرن التاسع عشر ،ونشأت
ال سيما عرب أدونيس وشعراء مجلة «شعر» ،وك ّتاب مجلة «اآلداب» ،لكنّ
الحداثة املغاربية ،إن أمكن القول،
واألدبية انطلقت من القاهرة يف العقود فيها وترسخت خالل العقود األوىل من
الجيل الالحق واألجيال التي أعقبته
القرن العشرين .وكانت القاهرة حينذاك
ما لبثت أن تفردت بإبداعها ورؤيتها
بمنزلة البوصلة التي جذبت أعالم بالد ً مالذا يقيهم الشام الذين وجدوا فيها
الحداثية ،ومقاربتها الجمالية للغة،
الطغيان العثماين ،ومساحة لإلبداع
الفكري والشعري خاصة ،وفيها أسسوا ً صحفا ،وكتبوا وأبدعوا وناضلوا .أما
متمردة عىل اإلرث املغاربي الذي غالبًا
محمد أركون
ما عرف بأصالته التقليدية ،ولغته
التقعريية «أركاييك» .وأغلب الظن اآلن
حركة الحداثة ،واملقصود هنا الحداثة الشعرية ،فانطلقت
أن املبدعني املغاربة واملشارقة ،ومبدعي جميع «األطراف» ً سابقا) باتوا يف حال من (أو ما كان يسمى «األطراف»
شعراء مثل بدر شاكر السياب ،ونازك املالئكة ،وعبدالوهاب
«املركزية» ،ولم يعد هناك من عواصم تقصر اإلبداع عىل
يف مرحلتها األوىل يف بغداد من خالل الثورة التي أعلنها بني
نهاية األربعينيات ومطلع الخمسينيات من القرن العشرين، البيايت ،وبلند الحيدري ،وسواهم.
التساوي واالنصهار بعدما زالت التخوم الجغرافية ،وغابت نفسها.
لكن حركة الحداثة ما برحت أن انتقلت إىل بريوت مع
لم تعد بريوت عاصمة الشعر الجديد ،وال القاهرة
املشروع الحدايث ،ليس يف الشعر فحسب؛ إنما فكريًّا وفنيًّا ً أيضا ،نظريًّا وإبداعيًّا ،وقد جمعت يف بداياتها شعراء
العددي ،وال بغداد وسواها .لقد تحررت الحركة اإلبداعية
انطالق مجلة «شعر» عام 1957م ،وهي املجلة التي جسدت
عاصمة الرواية الجديدة ،وإن كانت هي األغزر عىل الصعيد العربية الراهنة من وطأة الجغرافية ،وباتت تدور يف أفق
ونقادًا من لبنان وسوريا والعراق .وبرزت هنا ً أيضا مجلة
عربي واسع يضم كل الدول ،إضافة إىل املنفى أو املغرتب.
عام 1956م ،وكانت تمثل مرجعً ا للتيار العربي القومي،
يف صهر التجارب العربية ،وال سيما بعضها ببعض ،حتى
«اآلداب» التي أسسها ورأس تحريرها الروايئ سهيل إدريس واألدب امللتزم.
وقد ساهمت حتمً ا مساحة اإلنرتنت يف السنوات األخرية بات املبدعون العرب ينتمون إىل أجيال
وتيارات شاملة أكرث مما ينتمون إىل
اضطراب املعادلة الثقافية
عواصم وبلدان.
ال شك يف أن غياب املغرب العربي
العقدة املشرقية
عن هاتني الحركتني جعل املعادلة
الثقافية املشرقية املغربية يف حال من
وعىل الرغم من صعود نجم
االضطراب وعدم االنصهار ،ال سيما أن
الحضور املغاربي ،ال سيما يف حقول
هذا املغرب سرعان ما شهد حركة فكرية
مهمة مثل الفلسفة الحديثة والفكر
استطاعت خالل ما يقارب العقدين
أن توازي الحركة الفكرية املشرقية،
والرتجمة
عبدالله العروي
والنقد
األكاديمي،
وقد
تجىل هذا الحضور كل التجيل يف هذه
ً الحقا .ولعل مفكرين يف وبخاصة املصرية ،وأن تتخطاها
ً سباقا ،وكذلك يف حقيل الرواية والشعر بدءً ا الحقول ،وبات
ومحمد عابد الجابري ،وفاطمة املرنييس ،وعبدالكبري
تسميته «العقدة» املشرقية ،وبخاصة فيما يتعلق بحركتي النهضة والحداثة .وليست املواقف السلبية أو املتوترة التي ُتعلن
حجم عبدالله العروي ،ومحمد أركون ،وهشام جعيط، الخطيبي ،وعبدالفتاح كيليطو ،وجمال الدين بن شيخ،
وسواهم ،كانوا يف مقدّ م املوجة الفكرية الحديثة ،وساهموا يف تأسيس تيار فكري جديد وطليعي يف طروحاته وتطلعاته
ومناهجه. أما اإلبداع األدبي والشعري ،فكان عليه أن ينتظر قليلاً
حتى يربز عىل الصعيد العربي ،وقد بدا أثر بعض الشعراء
من السبعينيات ،فما زال بعض املثقفني يعانون ما يمكن
حي ًنا تلو آخر يف مضمار هذه العالقة ،إال تعبريًا عن اإلشكال الذي لم ينته حتى اآلن .وما يزيد من استعاره مواقف بعض
املشارقة التي ال تخلو من الغلو يف مدح الريادة املشرقية .لكن ذنب تغيّب املغرب العربي أو غيابه عن النهضة والحداثة ال يقع عىل عاتق املشارقة .واملسألة أبعد من أن تحد يف إطار الجغرافيا
123
قضايا أو الجهات .وليس من املستغرب أن يغيب املغرب العربي مثلاً عن كل
أمثال :بدر شاكر السياب ،وأدونيس،
النهضة والحداثة ،ما خال بضع مالمح
لم يركز بنيس عىل أسماء هؤالء
(1991-1941م) إىل جانب أسماء رائدة من
األبحاث النقدية والتاريخية التي تتناول
ومحمود درويش.
أو أسماء قليلة جدًّ ا .الناقد والباحث
الشعراء املغاربة غري املعروفني عربيًّا،
يف تاريخ األدب العربي ،قديمه وحديثه
ويمعن يف دراستهم مثلهم مثل
األب حنا الفاخوري الذي وضع واحدً ا من
نظرائهم املشارقة ،إال ليعيد إىل الشعر
أهم الكتب املرجعية عن األدب املغاربي
املغاربي حضوره ودوره املنتقص يف
وعنوانه «تاريخ األدب العربي يف املغرب» لم يذكر يف كتابه املوسوعي «الجامع يف
تاريخ األدب العربي» (األدب الحديث)
سوى اسم الشاعر التونيس النهضوي أبي القاسم الشابي .حتى أدونيس يف كتابه «الثابت واملتحول» يف أجزائه األربعة لم يركز عىل أي شاعر من املغرب العربي.
شعراء بنيس غري املعروفني
فاطمة المرنيسي
أن من املستغرب أن يدرج اسم الشاعر محمد الخمار الكنوين إىل جانب أسماء
الرواد الثالثة ،مع أنه لم يصدر سوى ديوان واحد هو «رماد هسربيس» الذي صدر متأخ ًرا عن دار توبقال عام 1987م.
أما كتاب الشاعر محمد بنيس األكاديمي «الشعر
العربي الحديث» يف أجزائه األربعة ،وسائر أعماله النقدية النظرية والتطبيقية ،فبدت خطوة مهمة نحو ترسيخ
ولعل هذا «التغييب» الذي يخضع ملقياس موضوعي
الشعرية املغربية تاريخيًّا وحداثيًّا ،وقد آزرته مجموعة من
كتابه الضخم «الشعر العربي الحديث» يف أجزائه األربعة،
األنطولوجية ودالالتها ،ومن هؤالء النقاد :محمد مفتاح،
حدا الشاعر والناقد محمد بنيس عىل إبراز شعراء مغاربة يف
124
مرحلتي النهضة والحداثة .وبدا واضحً ا
سواء يف مرحلة النهضة أم الحداثة .ففي الجزء الذي خصه
بما يسمى النزعة التقليدية أورد اسم الشاعر املغربي محمد ابن إبراهيم (1955-1897م) املكنى بـ«شاعر الحمراء» ،إىل جانب أسماء شعراء نهضويني كبار من
أمثال :أحمد شوقي ،ومحمود سامي
البارودي ،ومحمد مهدي الجواهري .أما يف الجزء الخاص بالنزعة الرومانطيقية
فأدرج اسم الشاعر املغربي عبدالكريم
ابن ثابت (1961-1917م) مع أسماء كبرية
النقاد الجدد يف إيضاح خصائص هذه الشعرية وهويتها
والشاعر صالح بوسريف ،وعبدالرحيم جربان ،ومصطفى الغرايف ،وعبدالفتاح الحجمري ،وسواهم.
ً انطالقا من وبات من املمكن الكالم عن شعرية مغاربية الجهود التي بذلها ً أيضا نقاد يف تونس والجزائر ،ومنهم محمد لطفي اليوسفي،
واملنصف الوهايبي .وكان صدور مجلة
«انفاس» (سوفل) املغربية عام 1973م ً حدثا بالفرنسية أولاً ،ثم بالعربية،
شعريًّا مهمًّ ا عىل مستوى الشعر املغاربي
مثل :خليل مطران ،وجربان خليل
الفرانكفوين واملكتوب بالعربية .هذه املجلة
الخاص بالشعر املعاصر أورد اسم
املغاربية التي تضاهي الحداثة املشرقية
جربان ،وأبي القاسم الشابي .ويف الجزء الشاعر املغربي محمد الخمار الكنوين
واضح أن المثقفين المغاربة لم يتخطوا مشكلة تاريخية ما زالت تحفر في ال
أرست ما يمكن تسميته الحداثة الشعرية أدونيس املوازية لها زمنيًّا ،وقد شارك يف تأسيسها
الطاهر بن جلون ،ومصطفى النيسابوري ،وعبداللطيف
اللعبي ،ومحمد خري الدين .ثم صدرت مجلة «الثقافة الحديثة» عام 1974م التي أسسها محمد بنيس مع الكاتب مصطفى
املسناوي ،وأعقبتها مجلة «البيت» الصادرة عن «بيت الشعر
وعيهم الجماعي ،وتتمثل في غيابهم
املغربي» .وعىل الرغم من انفتاح هذه املجالت عىل األدب العربي
القرن العشرين وهما حركة النهضة
هو بلورة الهوية املغربية ثقافيًّا وأدبيًّا وشعريًّا ،وجعلها هوية
عن الحركتين الرئيستين اللتين شغلتا
ً مشروعا أساسيًّا، الراهن واألدب العاملي ،فإنها بدت كأنها تتبنى
وثورة الحداثة
عربية ،ولكن منفتحة عىل آفاق فرانكفونية وعاملية ،وهذا يسبغ
العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
عليها سمات التفرد والخصوصية.
العالقة بين المشرق والمغرب
فتنة المغاربة بالشرق حسونة المصباحي ّ روائي تونسي
ما يجمع أبناء بلدان المغرب العربي الثالثة؛ أي المغرب والجزائر وتونس ،أكثر
ممّ ا يمكن أن يفرق بينهم .وفتنتهم بالشرق هي من بين ما يشتركون فيه وجدانيًّا
ّ والمقدس هو الفاعل ودينيًّا ومعرفيًّا وتاريخيًّا منذ أن انتشر اإلسالم في ربوعهم. األساسي في هذه الفتنة .فقد أصبحت مكة المكرمة وجهتهم؛ منها جاء اإلسالم، ّ والقرآن الكريم ،واللغة العربيّة التي فرضت وجودها في البلدان الثالثة ابتداء من
القرن التاسع ،ماحية وجود اللغة الالتينية التي كانت سائدة في العصور الرومانية، ومُ ّ قلصة من نفوذ اللغة األمازيغية :لغة البربر .وكان الحجّ إلى بيت الله الحرام
الوسيلة المثلى لتعرف الشرق .فقد كان الحجاج المغاربة ملزمين بعبور ليبيا، ومصر ،وجزء من بالد الشام ،والبحر األحمر؛ لبلوغ األماكن المقدسة .وكانت ّ الشاقة والطويلة ،تسمح لهم باكتساب معرفة واسعة بعادات وتقاليد هذه الرحلة
وتاريخ البلدان والمناطق التي يمرّون بها في غدوّهم ورواحهم .كما كانت تسمح لهم بااللتقاء برجال دين ،وشخصيّات سياسيّة وأدبيّة ،وتجار ،ومغامرين.
125
قضايا وشي ًئا فشي ًئا لم يعد الحجّ وحده الباعث الوحيد للرحلة
بطوطة ،وابن طنجة ،دليل آخر عىل فتنة املغاربة بالشرق .من
توسيع معارفهم يف الفقه ،ويف األدب ،ويف مجاالت معرفيّة
واشتدت األزمات ،والكوارث ،والزالزل السياسيّة التي مَ هّدت
إىل الشرق .حدث ذلك عندما أصبح املغاربة يتطلعون إىل أخرى سواء يف دمشق ،أم يف بغداد ،أم يف البصرة ،أم يف
القاهرة ،أم يف حواضر أخرى .وكان طالب العلم املغربي يعود
إىل القريوان ،أو إىل تلمسان ،أو إىل فاس ،أو إىل مراكش؛
ليحظى بتقدير واحرتام أهل السياسة ،والدين ،واألدب. فالشرق هو منبع املعارف الكربى .ومن ينهل منه يصبح من
املك ّرمني املبجّ لني .وكثريون هم املغاربة الذين فتنهم الشرق
ففضلوا أن يمضوا فيه ما تبقى لهم من العمر .ومحيي الدين بن عربي واحد من هؤالء .فبعد أن ساح طويلاً يف بالد األندلس، واملغرب ،وتونس ،رأى يف منامه وهو يف مراكش عرش الله، ً ومالكا ينصحه بالتوجه إىل الشرق ،فأخذ بالنصيحة من دون تردّد ليميض الجزء األكرب من حياته متنقلاً بني بلدان كثرية.
لسقوط العرب الحضاري.
سري مثقفني ومصلحني وسياسيني ويف العصور الحديثةّ ، ظلت فتنة املغاربة بالشرق مشعّ ة
وملتهبة .وهذا ما تعكسه سري مثقفني ومصلحني وسياسيني.
والتونيس الشيخ محمد بريم (مولود عام 1840م) الذي كان من ّ
أنصار املصلح الكبري خري الدين باشا التونيس واحدً ا من هؤالء. فبعد أن طاف طويلاً يف بلدان أوربيّة مختلفة للتداوي من مرض
عضال أصيب به يف طفولته ،عاد إىل تونس ليناصر األفكار اإلصالحيّة ،املنوّرة للعقول ،لكن الوزير الفاسد مصطفى بن إسماعيل الذي تآمر مع الفرنسيني الحتالل تونس ،شدّ د عليه
ويف النهاية ،استقر به املقام يف دمشق ليموت ويدفن
الخناق ليجربه يف النهاية عىل الهجرة إىل إسطنبول ،ثم إىل مصر التي وجد فيها َخيرْ َ املالذ؛ لذا ّ فضل االستقرار فيها حتى
فلمّ ا هلك أهله بسبب الطاعون الجارف الذي ضرب البالد،
والفتنة باملشرق هي التي ح ّرضت الشيخ التونيس املصلح
هناك .وكذا كان األمر لعبد الرحمن بن خلدون الذي أمىض السنوات العشرين األوىل من حياته يف تونس ،مسقط رأسه،
126
خاللها نتعرف حقبة مهمة من تاريخ بلدان كثرية ،فيها تكاثرت
ذهب إىل فاس ليختلط فيها بأهل الفقه واألدب والسياسة.
بل إنه تورط يف مؤامرة سياسية ،سجن بسببها ملدة عامني، اكتسب خاللهما تجربة مهمة سوف تفيده عندما يشرع يف
كتابة مقدمته الشهرية .كما أنه عاش يف بالد األندلس ،يف
وفاته يف الثامن عشر من شهر ديسمرب عام 1889م.
والزعيم السيايس الكبري عبدالعزيز الثعالبي عىل ترك تونس يف مطلع العشرينيات من القرن املايض ليميض ما يزيد عىل 15سنة متنقلاً بني بالد الشرق ،مدرّسً ا يف بغداد ،وداعية
حماية وضيافة صديقه لسان الدين بن الخطيب ،السيايس
والشاعر الالمع .فلمّ ا كرثت السعايات الخبيثة بينهما ،عاد من جديد إىل املغرب ليواجه تجارب ومح ًنا أخرى ،نجد مالمحها
وعبرَ ها يف مقدمته. ِ
وكان ابن خلدون يف سنّ األربعني عندما عاد إىل تونس
آملاً أن يجد فيها ما يريض طموحاته ،إال أن غريمه اإلمام ابن
عرفة شدّ د عليه الحصار واملراقبة ليجربه أخريًا عىل الرحيل بقى له من العمر مُ ّ إىل الشرق ليميض ما َت ّ تنقلاً بني األماكن املقدسة ،وبالد الشام ،ومصر حيث مات ودفن .ورحلة ابن
اليوم وقد انتفت الفتنة ،أنظر إلى الشرق وهو يحترق ،بقلب مفعم باألسى واأللم .ويزداد أساي وألمي اتساعا حين أعاين حرائق الشرق ً والدينية التي بدأت األيديولوجية ّ أيضا تهدد بلدان المغرب ً ّ
عبدالرحمن بن خلدون العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
العالقة بين المشرق والمغرب
عبدالعزيز الثعالبي
إصالحيًّا يف مصر ،ويف بالد الشام ،ويف اليمن ،ويف الكويت، ً وأيضا يف الهند ،ويف إندونيسيا .وكان حلمه خدمة العالم
الحبيب بورقيبة
لم أسلم من فتنة الشرق
وبالرغم من أنني أنتسب إىل جيل متشبّع بالثقافة
اإلسالمي ،ومساعدة العرب عىل النهوض من جديد ،حتى
الفرنسيّة ،وبلغة موليري َدر َْس ُ ت التاريخ ،والجغرافيا،
وفالسفتها التنويريّني والعقالنيّني ،لم يسلم من غواية فتنة
املواد فإنني لم أسلم من فتنة الشرق .وكم كان يروق يل أن
الزعيم الحبيب بورقيبة العاشق لعدوّته فرنسا ،ولشعرائها الشرق .فبعد الحرب العامليّة الثانية ،ف ّر إىل مصر عرب ليبيا بعد
أن بات متأكدً ا من أن السلطات الفرنسيّة تسعى العتقاله .ويف القاهرة ،التقى الزعماء املغاربة الذين كانوا قد بعثوا هناك
مكتبًا للدفاع عن قضايا املغرب العربي من أمثال عاللة الفايس،
والرياضيات ،والفيزياء ،والكيمياء ،والفلسفة ،وغريها من
أجلس إىل صديقي الشاعر خالد النجار الذي سافر إىل القاهرة
وبريوت ودمشق يف سنّ العشرين ليحدثني عن الشعراء والكتاب والفنانني واملفكرين الذين التقاهم هناك .وبلهفة
بالغة كنت أقتني املجالت القادمة من عواصم الشرق؛ مثل:
وعبدالكريم الخطابي ،والدكتور الحبيب ثامر ،وغريهم .ومن رحلته املشرقيّة تلك ،استخلص بورقيبة أن ّ جل زعماء تلك
وقد سمح يل مؤتمر اتحاد الكتاب العرب الذي انعقد
وكان امللك عبدالعزيز هو الزعيم الوحيد الذي لفت انتباهه؛
أحلم برؤيتهم من أمثال :الطيب صالح ،ومحمود درويش،
املنطقة يكرثون من الكالم ،وال يعريون الفعل اهتمامً ا كبريًا. لذلك أشاد بخصاله الرباغماتيّة.
«اآلداب» ،و«شعر» ،و«مجلة املجلة» ،وغريها.
يف تونس يف ربيع عام 1973م ،بتعرف شعراء وكتاب كنت ويوسف الصائغ ،وعبدالوهاب البيايت ،ويوسف السباعي،
وبسبب شعوره املبكر بالغربة يف وطنه ،شرع الشاعر
وغريهم؛ لذلك انطلقت يف خريف العام املذكور إىل الشرق
تجارب شعراء املهجر .وبهم سيتأثر ،مُ ْنجذبًا إىل جربان خليل
الغرب ،ودمشق ،وبغداد ،وبريوت التي كانت مالمح الحرب
التونيس الكبري أبو القاسم الشابي يف التطلع إىل الشرق ليتع ّرف
عازمً ا عىل العيش فيه سنوات طويلة .وبعد أن زرت طرابلس
جربان خاصة .كما سيتأثر بأفكار طه حسني وبخاصة الواردة يف كتابه« :يف الشعر الجاهيل» .وكان يلتهم ّ كل ما يأيت من
وهذا ما عبرّ ت عنه يف روايتي «اآلخرون»؛ إذ رويت تفصيالت
ينشر من أفكار وأشعار ودراسات نقديّة .وهذا ما نتبيّنه من
واإلحباطات.
القاهرة ،أو من بريوت ،من كتب ومجالت ،مبديًا آراءه فيما
خالل رسائله إىل صديقه القريواين محمد الحليوي الذي ساعده عىل االطالع عىل روح الحركة الرومنطيقية يف أوربا .فلمّ ا ضاقت به األحوال ،وصدّت ّ كل األبواب أمامه ،بعث الشابي بقصائده
إىل مجلة «أبولو» ليتمّ االحتفاء بها من جانب أسرة تحريرها.
األهليّة بادية عليها ،عدت إىل وطني ويف قلبي مرارة الخيبة. رحلتي من بدايتها إىل نهايتها ،التي كانت سلسلة من الخيبات واليوم ،وقد انتفت الفتنة ،أنظر إىل الشرق وهو يحرتق،
ً اتساعا حني بقلب مفعم باألىس واأللم .ويزداد أساي وأملي
أعاين حرائق الشرق األيديولوجية والدينيّة التي بدأت تهدّ د بلدان املغرب ً أيضا.
127
قضايا
صناعة الكتاب العربي في أزمة تواجه صناعة الكتاب في الوطن العربي صعوبات جمة منذ عام 2011م ً ً ومناقشا لمشكالت كاشفا حتى اآلن؛ لذا فقد أُ ِعد هذا الموضوع لكي يكون صناعة الكتاب في الوطن العربي ،التي وإن كانت قد شهدت نم ًّوا مطر ًدا
خالد عزب كاتب مصري
في دولة كالجزائر نتيجة برنامج وزارة الثقافة الجزائرية الذي يدفع بحركة النشر بصورة كبيرة ،وبخاصة عند
االحتفاء بمدن كالجزائر وتلمسان وقسنطينة كعواصم ثقافية أو عبر تحفيز القراءة على الصعيد الوطني أو من الجامعات الجزائرية التي باتت معنية بحركة التزويد.
لكن المذهل هو أنه أثناء قيامي بمسح لحركة النشر في الوطن العربي وجدت دولة مثل الصومال
تنتج سنويًّا 300عنوان ،لكن ما يحزن هو غياب الوطن العربي بصورة غير كاملة من التقرير السنوي التحاد
128
الناشرين الدولي .إن عدم وجود سياسات في الدول العربية لتزويد المكتبات بالكتب وبخاصة العامة منها أدى إلى تحجيم حركة النشر في الوطن العربي ،وبخاصة الكتب العلمية والدراسات اإلنسانية .الحقيقة المذهلة ً أيضا في صناعة النشر العربية هي افتقاد دور النشر العربية لمدير النشر الذي هو من يقيم الكتاب
ّ ويعد دراسة جدوى له وخطة تسويقية ،بل ويبحث عن مؤلفين في موضوعات محددة يراها مهمة وناقصة
في حركة النشر ،وبالتالي لدينا في الوطن العربي طباعون للكتب وموزعون ،هذا ما يجعل النشر في الوطن بال سياسات محددة إال ما ندر في مؤسسات رسمية.
أرقام غير واقعية
في محاولة لتتبع أرقام جادة وتحليلية لحركة النشر في
الوطن العربي ،تؤدي بنا كافة الدروب والمسالك إلى أرقام غير حقيقية؛ فحجم النشر في الوطن العربي يراوح بين 50
و 75ألف عنوان ،ما بين مجلة وكتاب ودورية وسلسلة... إلخ ،لكن تقف عقبة أمام تحديد الرقم بدقة هي عدم دقة
أرقام اإليداع وعدم اكتراث عدد من المؤسسات بفكرة اإليداع
الوطني؛ فالمنشور رسميًّا في الوطن العربي خالل عام 2012م
ً فارقا كبي ًرا بين الرسمي وغير الرسمي ،وهذا االستنتاج هناك
نستطيع أن نبنيه من مالحظات عدة أبرزها:
حجم النشر في دولة مثل اإلمارات العربية المتحدة التيشهدت نموًّا في حجم الكتب المنشورة بين عامي 2010 2014م ،وتكشف النظرة الفاحصة لحركة النشر هذه عنعدم دقة تقديرات حجم النشر في اإلمارات العربية،
ونعود إلى تقسيم النشر إلى نشر حكومي تتواله مؤسسات داعمة للنشر على النحو اآلتي:
يراوح بين 30و 40ألف عنوان ،ونفس الرقم عام 2013م، والرقم ذاته أو يزيد قليلاً عام 2014م .نستدل على ذلك من أن
-مركز اإلمارات للدراسات السياسية واإلستراتيجية.
ألرقام اإليداع بدار الكتب المصرية ،بينما بلغ عدد الكتب
-مؤسسات األوقاف في دولة اإلمارات العربية المتحدة.
ً طبقا مصر وحدها في عام 2014م سُ جل لديها 22ألف عنوان
والمجالت التي لم تحصل على أرقام إيداع 4آالف ،هذا يعني
أن مجمل النشر في مصر وحدها 26ألف عنوان .وعليه ،فإن العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
-هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث.
-دائرة الثقافة واإلعالم – الشارقة.
-المؤسسات الصحفية؛ كالبيان واالتحاد والخليج.
تنتج هذه المؤسسات الثالث مع غيرها من دور النشر
دور النشر العربية تفتقد لمدير النشر ويعد دراسة الذي هو من يقيم الكتاب ّ
ولكننا نرصد نموًّا مطردًا للطباعة في دولة اإلمارات العربية المتحدة التي اتسمت مطبوعاتها بالجودة والدقة ،وتأخذ في بعض األحيان أرقام إيداع لبنانية ،وهو ما يمثل حالة
جدوى له وخطة تسويقية ،بل ويبحث
من حاالت الرصد غير الدقيق لحجم المنشور من كتب في
يراها مهمة وناقصة في حركة النشر
-حجم النشر في قطر :تعددت في العشرين عامً ا الماضية
عن مؤلفين في موضوعات محددة
ومؤسسات األوقاف إضافة إلى النشر باللغة اإلنجليزية وبخاصة في دبي وأبو ظبي ما ال يقل عن 500عنوان ،وهو
رقم أكبر مما هو مقدر إلنتاج دولة اإلمارات من الكتب .وإذا
اإلمارات العربية.
المؤسسات المنتجة للكتب في دولة قطر ،وكانت وزارتا
الثقافة واألوقاف هما أكبر مؤسستين ناشرتين للكتب في قطر ،يليهما نادي الجرة ،لكن برز في السنوات
أضفنا لهذا الرقم ما تنتجه دور النشر ومؤسسات المجتمع
دورة اﻟﻜﺘﺎب اﻟﻤﺴﺘﻌﻤﻞ
المدني ،ودعم رجال األعمال إلى حركة النشر ،سنجد أن هناك مؤسسات فاعلة في حركة النشر بقوة على النحو
اآلتي:
-ندوة الثقافة والعلوم (دبي).
ﻣﻜﺘﺒﺔ
ﻗﺎرئ
مؤسسة سلطان العويس (دبي). مركز جمعة الماجد (دبي). -مركز زايد للتراث (العين).
-دار مدارك (دبي).
ﻣﺴﺘﺤﻮذ ﺑﺎﻟﺸﺮاء
ﻣﺴﺘﺤﻮذ ﺑﺎﻹﻫﺪاء
تكمن أكبر المشكالت هنا في أن عددًا ال بأس به
من هذه الكتب يطبع خارج اإلمارات العربية المتحدة، وبخاصة في بيروت ،بل نرى اتجاهً ا للطبع في الهند،
ﻣﺸﺘﺮٍ ﻗﺎرئ
اﺳﺘﺤﻮاذ ﻻﻗﺘﻨﺎء اﻟﻨﺎدر
ﻣﻜﺘﺒﺎت
129
قضايا
العشر األخيرة المزيد من المؤسسات المعنية بالنشر،
مطبوعاته نقلة في حركة النشر في قطر. ً وفقا لما سبق عدد العناوين المنشورة في قطر ويقدر سنويًّا ما ال يقل عن 300عنوان ،وهو ً أيضا رقم أكبر من
-هيئة المتاحف واآلثار التي بدأت برنامجً ا للنشر باللغتين
من ناحية أخرى تمثل المملكة المغربية الجانب اآلخر
ومنها:
مؤسسة قطر التي أسست دار نشر مع بلومزبري ،إضافةإلى النشر الذي تقوم به كليات ومراكز المؤسسة.
العربية واإلنجليزية.
-مؤسسة كتارا التي تنشر بالعربية واإلنجليزية.
-المركز العربي لدراسات وأبحاث السياسات الذي شكلت
%60من حجم ما ينشر في الوطن العربي ينحصر بين %40للكتاب الديني، و %20للروايات األدبية .ويعني هذا أن الكتب الدينية خالل األعوام 2012و2013 و2014م احتلت المرتبة األولى في مضمون النشر العربي
130
الحجم المقدر للمطبوعات الصادرة في دولة قطر.
في رصد حركة النشر في الوطن العربي .هنا نتحدث عن
حجم أكبر من النشر؛ إذ ال يقل عدد المطبوع في المملكة المغربية سنويًّا عن 4آالف عنوان ،لكن هناك مشكالت في هذا النشر وحركته والتعريف به ،منها:
-ضعف التوزيع خارج التراب الوطني المغربي.
قلة عناوين النسخ المطبوعة؛ إذ تراوح النسخ ما بين 200و 1000نسخة من العنوان الواحد.
-ارتفاع سعر الكتاب المغربي.
ترتكز حركة النشر في المملكة المغربية على المجتمع
المدني العلمي الذي يتم التغاضي عن دوره في كثير من
التقارير ،فمجتمعات المؤرخين والتراث في الجمعيات الدينية واألكاديمية تلعب دورًا غير منظور خارج النطاق
مرصد عربي للكتاب
هناك إشكالية كبيرة في حركة النشر في العالم العربي تتمثل في العالقة بين مضمون ما ينشر وحجم ما ينشر
وطبيعة النشر ذاته .إن الحراك الذي حدث مع بداية القرن الحادي والعشرين والمرتكز على الرواية بشكل أساسي
كمصدر لحراك النشر ،إنما قام على عدة معطيات أبرزها التفاعل عبر شبكات التواصل االجتماعي؛ فأجيال الكتاب الجدد نجحوا في بناء شبكة للدعاية لهم والترويج ألعمالهم عبر هذه الشبكات ،بغض النظر عن مضمون إنتاجهم
الذي يصل في بعض األحيان إلى التعبير عن خواطر شخصية ،حتى إن دور النشر العربية الكبرى نشرت مدونات على اإلنترنت ،واجتذبت شبابًا لهم صفحات رائجة ،وعدت هذا نجاحً ا كبيرًا .لقد ساهمت شبكة التواصل االجتماعي بصورة أو بأخرى في ظهور أجناس مختلفة في عالم النشر ،وظهور نجوم لهذه األجناس ،حتى ظهرت القصة القصيرة ًّ جدا
التي أتت مواكبة لطبيعة الشبكة العمودية .إن تفاعل الكاتب مع قرائه عبر شبكة اإلنترنت ورده على جمهوره؛ يتيح له ساحة لترويج أعماله ،وهو ما جعل ُك ّتابًا مثل أحمد مراد الذي حققت مبيعات إحدى رواياته 100ألف نسخة ،وهو رقم غير مسبوق في ساحة النشر األدبي العربي ،يليه عمرو الجندي الذي صدرت روايته « »313عن الدار المصرية اللبنانية ِّ محققة أكثر من 9طبعات في أقل من شهرين .وبدأت دور النشر العربية تنتبه لهذا االتجاه من أدب الشباب ،فتبنت دار الكتاب العربي في بيروت برنامجً ا كبيرًا لنشر الروايات ألدباء من مصر والمغرب والخليج العربي.
لكن يخالط هذا ظهور عدد من دور الشباب التي بلغت عام 2012م في مصر 30دار نشر ،لترتفع في 2013م إلى 50دار
نشر ،ويتجاوز األمر القاهرة إلى اإلسكندرية التي اشتهرت دور النشر فيها بصورة أساسية بنشر الكتب الجامعية ،لتظهر
دار نشر كلمة وغيرها لنشر أدب الشباب ،ويواكب هذا تالعب دور النشر العربية بأرقام الطبعات ،وكذلك بأرقام التوزيع تحت ضغط حمالت إعالمية لألعلى مبيعً ا حتى صار بعض دور النشر يعلن تعدد طبعات أحد األعمال.
يؤشر هذا إلى ضرورة بناء مرصد عربي للكتاب ،وهو مشروع أساسي يجب أن يقوم عليه اتحاد الناشرين العرب؛ ليكون مرجعً ا في الحكم في هذه المسائل الخالفية ،التي قد تؤثر مستقبلاً في صناعة النشر العربي بالسلب؛ إذ إن
استمرارية الخداع بلعبة األرقام ستؤدي إلى فقدان المصداقية بين القارئ والناشر ،لكن بوجود قواعد حاكمة وتسجيل حقيقي على المرصد الخاص بالكتاب الذي سيرتبط ً أيضا بمنافذ التوزيع؛ سيؤدي هذا إلى بناء مصداقية لحركة النشر.
العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
صناعة الكتاب العربي في أزمة
األكاديمي ،فيما يتعلق بحركة النشر في المملكة المغربية،
-المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (األليسكو
المحمدية للعلماء كناشر بدأ ينشر بكثافة ما ال يقل عن 100
-المنظمة اإلسالمية للتربية والثقافة والعلوم (اإلسيسكو
ولكن خالل األعوام من 2010إلى 2014م ،برزت الرابطة
عنوان سنويًّا ،إضافة إلى ثالث مجالت دورية ،وهذه األرقام آخذة في التزايد .وتتميز الرابطة المحمدية بأن مطبوعاتها
أكبر من حيث عدد المطبوع في كل طبعة ،وأكثر توزيعً ا
على الصعيد المغاربي ،واكتسبت مصداقية من حيث جودة َ عدت إلى ركائز المضمون والدقة وجودة الطباعة .ولكن إذا النشر في المغرب ستجد أنها من:
وزارة الثقافة (دار المناهل ودائرة الكتاب). -وزارة األوقاف.
ومقرها تونس).
ومقرها المغرب).
-معهد المخطوطات العربية ،مصر.
-رابطة العالم اإلسالمي ،السعودية.
-منظمة المدن العربية ومقرها الكويت.
ينشر بعض هذه المنظمات اإلقليمية بصورة موسعة؛
فعدد العناوين الصادرة عن اإلسيسكو ال يقل سنويًّا عن ً عنوانا ،فهل تحسب ضمن النشر الوطني المغاربي؟ أم 150
أنه من الواجب إفراد رقم مستقل للنشر العابر للحدود في
-األكاديمية المغربية.
مثل هذه التقارير ،باعتبار أن هذه المنظمات هي منظمات
-مكتبة الملك عبدالعزيز (الدار البيضاء).
إقليمية عابرة للحدود.
-الجامعات.
إن الرأي األصوب هو قياس النشر العابر للحدود في
إن العديد من دور النشر المغربية نجحت في تثبيت
الدول العربية برقم مستقل؛ ويكشف مثل هذا الرقم عن
احتفلت عام 2015م بمرور 30عامً ا على إنشائها ،وتعددت
النشر المشترك ،وقد يساهم هذا التعاون كرافد في نمو
أقدامها في حركة النشر المغاربية ،وأبرزها دار توبقال التي
مطبوعاتها بين المعرفة التاريخية والفلسفة والروايات والنشر العام .وقد أسسها عدد من الكتاب وأساتذة
الجامعات؛ لدعم حركة النشر في المملكة المغربية.
حجم التمويل العربي المشترك للنشر ،واتجاهات حركة
حركة المعرفة والنشر في العالم العربي ،كما أنه يحسب ضمن النشر الوطني في دولة المقر باعتباره منج ًزا على التراب الوطني لهذه الدولة.
ويرتبط بهذا وجود مؤسسات مجتمع مدني أنشئت في
النشر العابر للحدود
السنوات األخيرة ،كمؤسسة الفكر العربي التي تتخذ من
تبرز هنا قضية النشر العابر للحدود ،وهل يمكن
بيروت مق ًّرا لها ،فهل نحتسب إنتاجها ضمن النشر العابر
النشر ضمن النشر الوطني للدولة المقر؟ وهنا نقصد بصورة
يمكن أن ينطبق عليها المعيار السابق ،أي إدراجها ضمن
احتسابه ضمن النشر الوطني ،أم يجب إدماجه داخل تقارير محددة المنظمات اإلقليمية ،ومنها:
لحدود العالم العربي ،أم يحسب على النشر اللبناني؟ وهل
الرقم العابر للدول واعتباره جزءً ا من النشر الوطني؟ مع
دورة اﻟﻜﺘﺎب اﻟﻌﺮﺑﻲ
اﻟﻨﺎﺷﺮ
اﻟﻤﺆﻟﻒ
اﻹﻋﻼم اﻟﺮﻗﻤﻲ اﻟﺘﺴﻮق اﻟﺮﻗﻤﻲ
ﻣﻌﺎرض اﻟﻜﺘﺎب
اﻟﻤﻮزع
ﻋﺮوض اﻟﻜﺘﺐ اﻟﺼﺤﻔﻴﺔ واﻟﻤﺠﻼت
ﺑﺮاﻣﺞ اﻟﻜﺘﺐ
اﻷﻓﺮاد اﻟﻤﺸﺘﺮﻛﻮن
اﻟﻤﻜﺘﺒﺎت
131
قضايا
أخذ مالحظة على كل دولة بشأن النشر العابر المنشور بها.
وهنا ال بد من مراجعة النشر في لبنان كأحد أكبر الدول
العربية المنتجة للكتاب؛ فلبنان تقوم بدور الطابع بشكل
حالة التقاذف اإلعالمي بين أنصار الحركات اإلسالمية ومناوئيها،
أساسي بحكم جودة الطباعة ورخصها في ذات الوقت؛ لذا
انعكست على نشاط كتب محددة القت
فالسعودية واإلمارات والكويت وقطر وعمان والمغرب تطبع
إقبا لدى القراء ،على غرار مؤلفات لاً رضوان السيد ،وعبدالجواد ياسين،
تلجأ العديد من المؤسسات العربية للنشر عبر بيروت؛ في بيروت ،وبالتالي فإن أرقام اإليداع في بعض األحيان ال
تعكس الحجم الحقيقي للنشر في لبنان .وهذه مالحظة ال بد من أخذها في الحسبان .لذا على الناشر من هذه الدول أن يحرص على النشر بأرقام إيداع تعود إلى بلده حتى مع
طباعة األعمال في بيروت؛ ألن هذه المسألة تخلق اضطرابًا
وطه عبدالرحمن ،ومحمد الحداد، والطاهر سعود ،وعبدالغني عماد، وهشام جعيط وغيرهم
في احتساب طبيعة حركة النشر في كل دولة.
132
الكتاب الديني والرواية
لفهم ظاهرة اإلسالم السياسي والتيارات الدينية المتطرفة،
إن أكثر األمور التي جرى بحثها مضمون النشر ومدى
والفكر اإلسالمي ،والتاريخ اإلسالمي ،والصراعات السياسية
وترويج المعرفة .وفي حقيقة األمر ،إن قوائم دور النشر
الموضوعات؛ كالجدل السني الشيعي ،كل هذه الموضوعات
تقديمه خدمات للباحثين والقراء ،بل مدى امتداده إلى نقل العربية التي توزع في المعارض ،كانت هي محل التحليل
للوصول إلى نتائج محددة في هذا االتجاه.
اإلسالمية ،والتصوف ،والحركات اإلسالمية وغيرها من كانت سببًا في زيادة عدد الكتب الدينية وحجم ما يطبع على
الصعيد العربي.
هناك نسبة محددة هي %60من حجم ما ينشر في الوطن
وحققت دور نشر مثل الشبكة العربية لألبحاث ،ومركز
األدبية .ويعني هذا أن الكتب الدينية خالل األعوام 2012و2013
الدوحة ،وسلسلة مراصد التي تصدر عن مكتبة اإلسكندرية وغيرها إقبالاً من القراء العرب ،وبخاصة في ظل حالة
العربي ،ينحصر بين %40للكتاب الديني ،و %20للروايات
و2014م احتلت المرتبة األولى في مضمون النشر العربي .وهذه النسبة ليست ثابتة بل كانت في عام 2012م ،%43وفي عام
2013م ،%40وفي عام 2014م .%44
ويعود تصاعد هذه النسبة ليس فقط إلى وزارات
األوقاف العربية والمؤسسات الدينية التي تمتلك برامج نشر وميزانيات كبيرة ،بل إلى ظهور رغبة عربية عارمة العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
دراسات الوحدة العربية في بيروت ،والمركز العربي في
التقاذف اإلعالمي بين أنصار الحركات اإلسالمية ومناوئيها، وانعكس ذلك ً أيضا على نشاط كتب محددة القت إقبالاً لدى
القراء على غرار مؤلفات الدكتور رضوان السيد ،وعبدالجواد ياسين ،وطه عبدالرحمن ،ومحمد الحداد ،والطاهر سعود،
وعبدالغني عماد ،وهشام جعيط وغيرهم.
نصوص
لعبة شطرنج بالل قايد عمر شاعر يمني
يف البدء كان جمالك يحدثني:
ُ وجسدك ميلء بالطعنات. ترحلني
وللحرية النصف اآلخر.
يرقص عىل شرفك،
للموت نصف راحتنا،
والجرح يزف الجرح ويورق الكرنفال غابات من املنفى ٍ
والشمس حني تنهض ببطء من سباتها
تتوه يف وجوه املوت املتشابكة. ٭٭٭ حني تختبئ أغنية عاشقة داخل ورد ٍة آيلة للذبول... قلب، يلذن الحمائم بسنبلة ٍ
يخبنئ أعمارهن املطعونة بالخيبات،
وعىل طاولتي مقربة للعابرين املفقودين. ٭٭٭
ً زنبقة تكتب سريتها لعاشق ٍة املساء يصافح لعصفور تبلل بالشوق. أوقدت الضوء ٍ
حني يجز النهار شرايينه، فأي بال ٍد ُ ك نصف جثة. تقبل ِ
٭٭٭ ألنك لعبة شطرنج ِ
تتقاذفها
الحركات واملربعات املرسومة لها بدقة،
ووحده األلم
يشعل سجائره ويسكر. وحده ُ قلب لم يعد يعرتف سوى باللعنات. ينشد اإلجابات من ٍ ٭٭٭ انتظارك، عىل حافة الغيم تزخرفني ِ
حكايات من الخرافات، وتحكني للذابالت ٍ ويف زحمة االنتظار
شجر اللحظات. شرنقات من ألحالمك تنسجني ِ ٍ ِ ضباب يك تولدي من رحم ٍ داكن اللون،
جناحيك ليهشمهما حزن املدينة. وتفردي ِ
133
مقال
في النقد الثقافي: فوبيا الخوف من اآلخر لعل من أهم العوامل التي تشكل ارتبا ًكا وخللاً في تقاسم الثروات والكنوز اإلنسانية الثقافية والمعرفية واالقتصادية ظاهرة الخوف؛ خوفنا من اآلخر ،وخوف اآلخر م ّنا .وفي هذه الحال تتكاثر الحروب وتتشعب وتتوالد الكراهيات ،وتتشكل القطائع ،وترفع الحدود ،وتنتج األمراض الثقافية
واالجتماعية والسياسية ،وتلك هي األسس األولى لبذرة التخلف ،بل التعصب الذي يتستر بستار حماية الذات والخوف عليها مما يسمى بالذوبان ،أو
التفكك ،أو التلوث ،أو االحتواء .وإن الخوف اإلبستيمي ،الخوف المعرفي ،حالة تاريخية يعيشها الشمال كما يعيشها الجنوب على حد سواء .يعيشها الشرق كما يعيشها الغرب على قدم المساواة .ويمكن ع ّد الخوف الثقافي صناعة تمارسها الشعوب التي تعيش حالاً من التخلفً ، وأيضا حالاً من
العالقة المضطربة تجاه ما يسمى بمشكلة الهوية الحضارية أو الوطنية أو القومية. تجليات الخوف اإلبستيمي في الغرب:
أنتجت الثقافة الغربية في أوج حالة توسعها االستعماري في إفريقيا ما بعد الصحراء ،أنتجت ثقافة احتقار ذوي البشرة السوداء الذين ظلوا إلى
زمن قريب بمنزلة سلعة تباع وتشترى لخدمة السيد األبيض .وعلى الرغم من االستقالالت الوطنية التي حازت عليها كثير من الدول اإلفريقية ،وبعد وصول جالية من هذه البلدان على شكل يد عاملة إلى أوربا ،ومع انتشار ثقافة حقوق اإلنسان في العالم ،وبتوسع خبرات المعرفة والعلوم ،فإن
مجموعة من األوربيين الذين ظلوا على نوسطالجيا (األسود السلعة) تولدت لديهم بوادر مرض يمكن أن نسميه: أولاً -الزنجفوبيا « :»Negrophobieفي مرحلة الحقة ،ومع انحسار الفكر االستعماري المباشر الكالسيكي اتخذ هذا المرض «فوبيا اآلخر» تجليات
134
وصورًا أخرى كثيرة عكست حالة من االرتباك والتأزم السياسي والثقافي واالقتصادي الذي دخلته أوربا قبل توحيدها ،وقد عبر عنه من خالل كثير من
الممارسات التي تجلت في الحياة االجتماعية اليومية وأفرزت جراء ذلك سلسلة من المفاهيم المعرفية واالصطالحية التي ننحتها في العربية كما يأتي . ثانيًا -العربوفوبيا :Arabophobieوهي ّ علة سياسية ثقافية لغوية محورها الخوف من اإلنسان «العربي» ،خوف يُغلف دائمًا بكثير من األوصاف
العنصرية التي تلحق بالعربي الخائن ،الوسخ ،غير الوفي ،الخداع ،العنصري ،المهووس بالجنس ،غير الحضاري ،المنتقم ...ثقافة في مرجعيتها كثير
من مخلفات النظام االقتصادي الكولونيالي والعنصرية التي تأسس عليها منذ بداية القرن التاسع عشر .وتجدر اإلشارة إلى أن هذه التهم والتوصيفات
الملحقة بالعربي ال تستثني األمازيغي «سكان إفريقيا الشمالية األولون من غير العرب» .وإذا كان االستعمار في السابق ،وهو يملك اليد الطولى المنبسطة على بلدان المغرب الكبير وبشكل خاص الجزائر ،يعمل جاهدًا على التفريق العرقي والسياسي بين العرب واألمازيغ -ويطلق عليهم ً أيضا
اسم البربر -بقصد التجزئة حتى تترسخ الهيمنة ،فإنه وبعد االستقالالت الوطنية ،لم يعد يفرق بين هذا وذاك ،فالجميع في عين الثقافة العنصرية،
وفي نظر الثقافة المصابة بمرض العربوفيا ،هم كتلة واحدة تصدر ذات الريبة ،وتنتج الخوف ،ومن ثم تتطلب ذات المقاومة وتستدعي التهميش. ً ثالثا -المغاربوفوبيا :Maghrébophobieإنها الفوبيا التي ينتجها الوجود المغاربي في الحيز األوربي بشكل عام ،وفي بلجيكا وهولندا ،وفي
فرنسا على وجه الخصوص .ونظ ًرا لعدد المقيمين المغاربيين الذين يبلغون نحو خمسة ماليين نسمة فإن الوجود االجتماعي la visibilité sociale الواضح ،والمكثف ،يوجد ردة فعل ثقافية سياسية رافضة وخائفة ،تتأكد يوميًّا في ثقافة أحزاب اليمين المتطرف التي أصبحت تحقق وجودًا سياسيًّا
كبي ًرا ،وبدأت تنتقل إلى حقول النخب حيث ظهرت بعض بوادر هذه المغاربوفوبيا في خطابات النخب الفلسفية واألدبية واإلعالمية والفنية ،وهو ما يعمق المرض ،ويجعل الخوف من المغاربي سالحً ا سياسيًّا في الخطاب االقتصادي ً وأيضا في بناء أو خلخلة االتحاد األوربي. رابعً ا -اإلسالموفوبيا :Islamophobieولعل بقايا اإلسالموفوبيا تجيء من بقايا ذاكرة الحروب الصليبية ،إال أنها تتجدد سياسيًّا ،وبشكل واضح
في العشريتين األخيرتين ،وقد تقننت سياسيًّا وإعالميًّا وعسكريًّا بعد هجوم 11سبتمبر ضد المجمع التجاري األميركي .لقد مثلت أحداث 11سبتمبر ً مرتبطا عضويًّا باإلرهاب ،وانتقلت عدوى اإلسالموفوبيا من النخب إلى العامة، المفصل التاريخي لإلسالموفوبيا ،بحيث أصبح كل ما يمت لإلسالم مرضا اجتماعيًّا عامًّا متفشيًا في كل الطبقات االجتماعية األميركية واألوربية .ويجب التنبيه إلى أن كثي ًرا من المصابين ّ فأضحت اإلسالموفوبيا ً بعلة
اإلسالموفوبيا ال يفرقون بين «العربي» و«اإلسالمي» ،فهم ال يتصورون أن هناك عربيًّا مسيحيًّا ،أو عربيًّا يهوديًّا ،فكل عربي في مخيال اإلسالموفوبي ُ ظاهرة اإلرهاب التي أصبحت األميركي أو األوربي ،هو مسلم بالضرورة .ومن ثم فهو إرهابي بالحتمية الدينية .وقد ساعد على تنمية ثقافة اإلسالموفوبيا، مادة اإلعالم العالمي ،وشبكات القنوات التليفزيونية؛ إذ تحولت إلى أجهزة ملحقة بوزارات الدفاع وبالجيوش ،التي تجوب العالم ب ًّرا وبح ًرا ،شمالاً وجنوبًاً ، شرقا وغربًا ،ومن هذه الحال تعممت اإلسالموفوبيا في االجتماع ،والسياسة ،والدين ،والثقافة ،واإلعالم ،والسياحة ،واالقتصاد ،والمال،
واألعمال.
العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
إن الحرب على اإلرهاب وما أعقبها من تفكك في بنية الدولة التي تنحدر من منتصف
القرن الماضي ،وهي دولة نتاج األيديولوجيا الوطنية أو القومية التحريرية التي لم تعد
صالحة لالستعمال السياسي في هذا القرن ،نتج عنه بروز ظاهرة ثقافة االستبداد، والغضب ،والرفضَ ، وتم ََّثل كل ذلك في ما سمي بالربيع العربي :تونس ،ليبيا ،مصر، اليمن ،سوريا ،السودان ..هذا الوضع هذا وسّ ع من مساحة ثقافة اإلسالموفوبيا ،وأنتج
بالمقابل تنويعات في الدين السياسي.
ولقد زادت العمليات اإلرهابية في أوربا ،وفي فرنسا خاصة -منذ مجلة شارلي إيبدو
واعتداءات 13نوفمبر 2016م ،وأخي ًرا العملية اإلرهابية التي عاشتها مدينة نيس في 14يوليو 2016م -من حدة هذا الوضع ،وتوسيع ثقافة اإلسالموفوبيا بشكل واضح ،وتجاوزت رقعة
الخطاب السياسي لليمين المتطرف فأضحت مادة في الثقافة والفن والمسرح واإلعالم. خوف الجنوبي من اآلخر:
الخوف من اآلخر الغربي ،شعور ورثه الفرد في بلدان الجنوب من أيام االستعمار،
ويتميز بخصوصيات بعضها يجد منبته في المجال السياسي ،وبعضها في الديني ،واآلخر في اللغوي -الثقافي ،وبعضها في اضطراب الهوية. أولاً -المستعمِر :يحاول أصحاب الدعوة إلى فوبيا اآلخر ،أن ينقلوا الماضي إلى
ربيعة جلطي روائية وشاعرة وأكاديمية جزائرية
الحاضر ،وذلك باستعادة الذاكرة االستعمارية ،ال لنقدها وإدانتها ،وهذا واجب الذاكرة، والذهاب في البحث عن عالقة جديدة مع هذا اآلخر ،مؤسسة على االحترام المتبادل واالستقالل والشراكة ،بل ُتستدعى لتغليب ثقافة التوجس والحذر من هذا اآلخر عدو الماضي ،والنظر إليه على أنه عدو األبد .األمر الذي أحدث ردة فعل لدى المستعمَر ً «سابقا» من أن يقف موقف الريبة من الغرب،ويعده غربًا واحدًا متجانسً ا ال يزال يتربص
135
به الحتالله من جديد.
ثانيًا -مقولة عداوة العروبة :يركز حاملو فيروس فوبيا اآلخر على مقوالت
أيديولوجية جاهزة ،وهي أن الغرب عامة و(بالجمع) يقف ضد العروبة ،وأنه ال يبحث سوى عن التخلص منها ويعمل على القضاء عليها .وقد ظهر مصطلح «حزب فرنسا» في الجزائر خاصة للترميز إلى حالة التربص بالعروبة ومحاربتها من الداخل ،من خالل
فيلق المثقفين المفرنسين .ولعل من أهداف هذا كله قطع أوصال الحوار بين المثقفين الجزائريين على أساس اللغة ،وبتر كل ما يمكن أن يجمع الضفة الجنوبية بالشمالية،
من خالل الثقافة واللغة المشتركة التي يمكنها أن تتحول إلى عامل لتطوير عالقة شراكة لبناء مستقبل مؤسس على ما هو إيجابي ،من دون نسيان ما هو سلبي .يبدو أن الروائي
الجزائري كاتب ياسين تفطن مبك ًرا إلى هذه العالقة المرتبكة حين قال عن اللغة الفرنسية بأنها «غنيمة حرب». ً ثالثا -القضية الفلسطينية :لغرض إذكاء نار العداوة بين الجنوب والشمال ،يوظف
دعاة فوبيا اآلخر القضية الفلسطينية التي ال أحد يشكك في عدالتها ،وذلك لتأجيج ونشر ثقافة الكراهية عن طريق تعميم األحكام ،وع ّد موقف الغرب موحدًا تجاه هذه القضية التي تعد في جوهرها قضية تصفية استعمار ،وحق شعب في استعادة أرضه
واستقالله .وجب التنويه إلى أنه كما كان للثورة الجزائرية أصدقاء من األوروبيين ومن بين الفرنسيين أنفسهم ،ومنهم من ضحّ ى بحياته من أجلها ً إيمانا منه بعدالتها ،فإن للقضية الفلسطينية رأس مال مهمًّا من أصدقائها في أوربا وأميركا ،يدافعون عنها بشتى
السبل ،ولعل االستثمار فيه يعد ورقة رابحة للدفاع عن هذه القضية العادلة .هذه بعض
من مداخل قراءة الزلزال الذي يضرب اإلنسان منذ بداية العشرية األولى من هذه األلفية، حيث يسود الخوف ويتالشى السالم وتظهر بوادر حروب ثقافية وقيمية جديدة.
يركز حاملو فيروس فوبيا اآلخر على مقوالت أيديولوجية جاهزة وهي أن الغرب عامة و«بالجمع» يقف ضد العروبة، وأنه ال يبحث سوى عن التخلص منها ويعمل على القضاء عليها
شخصيات
حسن المشاري من رجاالت اإلصالح اإلداري
يوسف بن محمد العتيق كاتب سعودي
136
الراحالن الملك فيصل وحسن المشاري في افتتاح أحد المشاريع
العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
درجة الحرارة مرتفعة والطريق خالية من السيارات تمامً ا
يف كل االتجاهات األربعة يف العاصمة الرياض ،ويقف حسن بن
مشاري الحسني يف املسار الذي تيضء له اإلشارة اليدوية الحمراء،
فيأذن له رجل املرور بالعبور؛ ألن الطريق خالية من السيارات، ورجل املرور هو سيد املكان! يرفض حسن بن مشاري ْ إذن رجل
املرور ،ويقول :ال بد أن تيضء اإلشارة خضراء يل حتى أستطيع تجاوز اإلشارة!!
هذا هو حسن بن مشاري الحسني الذي فارقنا إىل رحمة الله
مؤخ ًرا ،رجل يعيش االنضباط يف كل جوانب حياته ،ويف كل موقع
يعمل فيه .حسن املشاري هو أحد أعضاء مجلس الوزراء الشهري يف عهد امللك فيصل رحمه الله ،وله بصمات واضحة يف أكرث من مجال يف خدمة الدولة السعودية.
ولد الراحل يف محافظة األحساء بلد الزراعة والنخيل األول
سنة 1349هـ ،وفيها نشأ ،ودرس يف املدرسة األمريية باألحساء،
وهي قلعة علمية كبرية لها تاريخها ،ومن رواقها تخرج كثري من
الشخصيات الوطنية ،ثم أعقب ذلك الدراسة يف مكة املكرمة حيث الدراسة املميزة يف مدرسة تحضري البعثات .اب ُتعث إىل بريطانيا لكن
توقفت البعثة؛ بسبب حرب السويس ،وانتقل للدراسة يف الواليات
املتحدة األمريكية ،وهناك حصل عىل املاجستري يف إدارة األعمال. ً أستاذا لالقتصاد بجامعة امللك سعود ،ثم عني عمل املشاري وكيلاً لوزارة املالية واالقتصاد الوطني ،ويف هذه املرحلة من التاريخ
اإلداري لبالده كان من املساهمني يف تأسيس معهد اإلدارة ،معلمة اإلدارة األوىل يف السعودية.
يعد حسن بن مشاري من أبرز العاملين في اإلصالح اإلداري في المملكة العربية السعودية ،من خالل عمله وكيال لوزارة المالية ،وعضويته في لجنة اإلصالح اإلداري االحتفاء والتكريم لضيوف البلد أو األصدقاء ،وقال عنه«:حسن
لذا يعد حسن بن مشاري من أبرز العاملني يف اإلصالح اإلداري يف اململكة العربية السعودية من خالل عمله وكيلاً لوزارة املالية،
رجل باسم ،ذو أناة يف الحديث وطريقة محببة يف هذا ،وهو حسن
توسم فيه امللك فيصل مالمح النجابة ،فأوكل إليه وزارة
قوة رأي محدثه وصوابه ،وهي ميزة ال تتوافر إال عند القليلني.»...
فبقي فيها إحدى عشرة سنة كان البلد فيها يمر بمرحلة تطور
السعودي للمرة األوىل احتاج إىل صاحب خربة ومعرفة بالربوتوكول
وعضويته يف لجنة اإلصالح اإلداري.
الزراعة سنة 1384هـ وهو ال يزال شابًّا يف سن الخامسة والثالثني، إداري مهم يف الوزارات والدوائر الحكومية كافة .وهو ما توسم ُه
املؤرخ منري العجالين يف كتابه (تاريخ مملكة يف سرية زعيم)« :يقوم عىل الوزارة شاب ذيك نشيط».
عمل وزير الزراعة حسن املشاري يف حقول مهمة يف وزارته:
الزراعة ،واملياه ،والرتبية الحيوانية إال أن اسمه ارتبط باملشروع املايئ
املهم يف شرق الوطن واألحساء تحديدًا ،وهو مشروع الري والصرف الذي افتتحه امللك فيصل بنفسه يف عام 1391هـ بحضور إعالمي كبري
محليًّا وعربيًّا ،وكان الهدف من هذا املشروع توفري املياه الجوفية يف األحساء التي تذهب سدى.
تحدث عنه زميله يف العديد من مراحل الحياة ويف مجلس
الوزراء السعودي الراحل الدكتور عبدالعزيز الخويطر يف مذكراته «وسم عىل أديم الزمن» ووصفه بالكرم وكرثة إقامة مناسبات
االستماع ،وحسن عند النقاش ،سريع الرجوع عن رأيه إذا تبني له وال ينىس الخويطر نفسه أنه حني دخل بالط مجلس الوزراء
الوزاري ،فكان حسن املشاري هو من يقدم الخويطر لهذا املجلس.
وبعد أن ترك الوزارة لم يرتك العمل يف خدمة الوطن ،وكان له بصمات واضحة يف االقتصاد الوطني ،فقام مع آخرين بتأسيس
البنك السعودي الفرنيس ،والشركة السعودية للفنادق واملناطق السياحية ،وترأس مجلس إدارة هاتني املؤسستني العمالقتني بموجب مرسوم مليك.
تويف املشاري يوم الثالثاء (1437 / 10 / 7هـ) يف مدينة الرياض
وبها صيل عليه ودفن بعد أن قىض حياة حافلة قاربت التسعني
عامً ا ،متوّجة بالعمل والعطاء التأصييل والتأسييس يف وطنه ،ال
سيما يف عهد امللك فيصل بن عبدالعزيز آل سعود –رحمه الله -إذ
بلغ عطاؤه يف تلك املرحلة قمته ،مع أنه كان يف تلك املرحلة يف سنوات الشباب.
137
شخصيات
وقفة خاطفة في سيرة رجل نورة الشمالن أكاديمية وأديبة
ال أدري ما الشجاعة التي ملكتني حين اتصلت بي األخت األستاذة هدى الدغفق
وطلبت مني باسم مجلة الفيصل أن أكتب عن زوجي وحبيبي الراحل الدكتور سليمان السليم في ألف كلمة فقط.
هل يمكن اختصار عمر يزيد على األربعين عامً ا بألف كلمة؟ لم أفكر كثيرًا ،وأبديت
استعدادي لذلك ،ومرت األيام ،وكلما أمسكت القلم ألكتب ظهرت صورته أمامي كابوسا ثقيلاً وكأنها تكذب الواقع ،وتتناغم مع أمنياتي بأن ما حدث ليس إال ً
138
سينجلي .وليلة البارحة وصلتني رسالتان من األخت هدى ،وأخرى من المجلة للسؤال عن المقال ،وتذكر أن المجلة في عجلة من أمرها لنشره، فاستجبت للطلب ولكن من أين أبدأ؟
سأنحي العواطف جانبًا؛ ألن املجلة لم تطلب مني تأبي ًنا
للراحل العزيز ،إنما طلبت تقديمه للقراء .هو سليمان بن
عبدالعزيز السليم ،حصل عىل الدكتوراه من جامعة جونز هوبكنز يف العالقات الدولية ،وقبلها املاجستري من جامعة
جنوب كاليفورنيا يف التخصص نفسه ،تدرج يف الوظائف بعد
حصوله عىل الدكتوراه من نائب ملدير التأمينات االجتماعية ،إىل
أستاذ يف جامعة امللك سعود – كلية التجارة .ويُعد التحاقه بها أحد مفاصل حياته؛ فقد أتاها ورياح الخالفات بني أساتذتها عاتية ،وكانوا ينقسمون إىل فريقني متخاصمني :الفريق األول يضم غازي القصيبي ومحسون جالل ،والفريق الثاين يضم محمد امللحم ومحمد الهوشان ،وكان سليمان يتمتع بحب الفريقني فاستطاع أن يكون حمامة السالم بينهما. ً أحيانا أربع وزارات يف آن واحد عندما كان يدير يسافر بعض الوزراء ويكلفونه بذلك ،ولم أسمعه يومً ا يتأفف من ذلك أو يشكو كرثة العمل .كان نظيف اليد لم يدخل يف جيبه إال راتبه عىل الرغم من اإلغراءات الكثرية التي صدها من اليوم األول له يف الوزارة، وهذا حديث يطول شرحه وتكرث أمثلته.
العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
عندما مزق األمري محمد بن عبدالعزيز خطابه
حالته الصحية ،وتوسط له امللك سلمان بن عبدالعزيز الذي
كان يحظى بتقدير القيادة ،وهذا ما جعله يتخطى
كان سليمان يكنّ له االحرتام والتقدير ،فقبل امللك االستقالة،
أزمة األسمنت عام 1979م قررت وزارة التجارة تقنني التوزيع،
وزي ًرا من الشعب يستقيل .وبعد استقالته آثر التفرغ ألسرته وهواياته وقراءاته ،فقد كان -رحمه اللهً - قارئا نهمً ا.
الكثري من العقبات ،منها عىل سبيل املثال عندما حدثت وتحديد حصص املقاولني ،فأتاه يومً ا أحد املقاولني الكبار يطلب
وأعلنت يف الصحف ،وهي املرة األوىل يف تاريخ اململكة أن
حصة أكرث بكثري من املقرر له ،ويشفع الطلب بخطاب من األمري محمد بن عبدالعزيز شقيق امللك خالد الذي يكربه س ًّنا،
خاص ،فاعتذر عن كل ذلك ،ثم كلفه امللك فهد بعضوية
الحصة املقررة له ،فما كان من سليمان إال أن أخذ الخطاب
عىل ذلك ،واستمر فيها دورتني ،ثم طلب عدم التجديد.
ويف هذا الخطاب أم ٌر بصرف أسمنت لهذا املقاول أكرث بكثري من ووعد املقاول خريًا ،ثم اتجه إىل بيت األمري محمد وشرح له
املوضوع ،وأن إعطاء هذا املقاول كمية كبرية سيكون عىل حساب حصص املقاولني الصغار ،فاستمع إليه األمري ثم أخذ منه الخطاب ومزقه بعد أن شكره عىل حسه الوطني وإخالصه
وجرأته يف إحقاق الحق ،واألمثلة تتكرر.
عند تويل امللك فهد الحكم عينه وزي ًرا للمالية ،ولم
يكن سعيدً ا بهذا التعيني؛ ألنه يعتقد أن حمل هذه الوزارة ثقيل جدًّ ا ،لكنه التحق بالعمل ،وحقق كثريًا من اإلنجازات،
وهو أمر مسجل له .وبعد أشهر عدة قدم استقالته ورفضها امللك فهد ،وأتذكر جيدً ا املهاتفة الطويلة التي كان فيها امللك
فهد يقنعه بالبقاء بحب وإعزاز ،لكنه أصر عىل ذلك؛ بسبب
كان نظيف اليد ،لم يدخل في جيبه إال راتبه ،على الرغم من اإلغراءات الكثيرة التي صدها من اليوم األول له في الوزارة ،وهذا حديث يطول شرحه وتكثر أمثلته
عرضت عليه مناصب عدة ،بعضها حكومي وبعضها
اللجنة االستشارية العليا ملجلس التعاون الخليجي ،فوافق ألحّ عليه كثري من األصدقاء أن يرأس مجلس إدارة البنك السعودي األمرييك (سامبا) فوافق لدورة واحدة ،ثم اعتذر عن ذلك رغم اإللحاح الشديد من أعضاء مجلس إدارة
البنك ،وانضم عضوًا يف مجلس إدارة مجموعة الزامل ،وبقي
فيها حتى وفاته.
تعرض ألزمات صحية عديدة ،فذهب إىل أمريكا ،وكان
من املقرر أن يخضع لعملية يف القلب املفتوح ،ولم يخرب أحدً ا بذلك ،وملا علم امللك فهد أرسل إليه رجلاً من السفارة يخربه أن جميع تكاليف العملية وسكن العائلة سيغطى من الدولة ،فشكره شك ًرا جزيلاً ،لكنه اعتذر عن ذلك ،قائلاً :إن
شركة التأمني ستدفع تكاليف املستشفى ،أما السكن فقد دفع مقدمً ا ،ولم يستلم من الحكومة ريالاً واحدً ا. أجرى عمليات عدة ،منها عملية تبديل صمام يف
القلب ،وترقيع الحجاب الحاجز ،ولم أسمعه يومً ا يتأفف
أو يشتيك ،فكلمته التي الزمته دائمً ا «الحمد لله» .قبل وفاته
تع ّرض ألزمة قلبية يف لندن ،وبقي يف املستشفى عشرة أيام، ً تاركا قلوبًا تنزف ثم انتقل إىل الرفيق األعىل راضيًا مرضيًّا، دمً ا من لوعة الفراق.
غازي القصيبي يؤنبه لعدم اهتمامه باإلعالم يف عام 1974م عني وكيلاً لوزارة التجارة ،وبعدها بأقل من عام عني وزيرًا للتجارة ،واستمر
يف الوزارة عشرين عامً ا ،مرت خاللها البالد بكثري من األزمات االقتصادية ،أدارها بكل حرفية، ً بعيدا من اإلعالم ،فقد كان شعاره «العمل يتحدث عن نفسه». وكان يعمل ليلاً ونهارًا
بحكم العالقة الوطيدة التي تربطه بالدكتور غازي القصيبي الذي عني وزيرًا للصناعة
معه ،فطاملا سمعته يثور عليه لعدم إعالنه منجزاته ،وإغالق باب وزارته أمام اإلعالم .ويف
إحدى املرات ،وكان سليمان يف جولة بني الفنادق يف الطائف فوجئ بكامريات اإلعالم ،ولم يدر من الذي أرسلها؛ إذ إنه لم يطلب من وزارة اإلعالم ذلك ،فعرف بعد ذلك أن الدكتور غازي علم بتلك الجولة فاتصل بوزارة اإلعالم ،ولم يكن هذا التصرف من غازي النابع من الحب
غازي القصيبي
ً معتقدا أن ما يقوم به هو الواجب الذي ال يستحق الشكر عليه. مرضيًّا لسليمان؛ فقد تعود أن يعمل يف الظل،
139
ثقافات
اتفقا في مناظرة على ضرورة قراءة بروست وأن أفكار نيتشه صالحة لمجتمع المستقبل
جيليه ليبوفيتسكي وماريو فارغاس يوسا: الحياة ليست ثقافة فقط.. أيضا الحياة سياسة ً ترجمة :إلياس فركوح روائي ومترجم
140
ماريو يوسا
جيليه ليبوفيتسكي
العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
جيليه ليبوفيتسكي وماريو فارغاس يوسا
في مناظرته مع الفيلسوف وعالم االجتماع الفرنسي جيليه ليبوفيتسكي ،وصاحب كتاب «إمبراطورية الموضة» ،و«األزمنة الحديثة ًّ جدا» ،يناقش الروائي الحائز على جائزة نوبل
لألدب ماريو فارغاس يوسا ما هو جدير بالفحص حول الثقافة الراقية و«الجماهيرية» ضمَّ نها كتابه األخير «حضارة ُ مدافعا عن األفكار التي َ ً الف ْرجَ ة». في العالم المعاصر، ً الحقا إلى المناظرة التي عقدت في معهد سرفانتس بمدريد باللغة اإلسبانية ،ثم ترجمت ً ً عميقا وحيويًّا حول العديد من الموضوعات والقضايا نقاشا اللغة اإلنجليزية ،شهدت ذات الطابع اإلشكالي .هنا نص المناظرة مترجمً ا من اإلنجليزية.
يوسا« :حضارة ُ شعور بالقلق، الفرْجَ ة» محاولة للتعبري عن ٍ
بمقدور األفراد اليوم االختيار ضمن مجال واسع وعريض من
ضرب من األىس ،وعن رؤية ما كنا فهمناه بـ«الثقافة» عندما عن ٍ
االحتماالت الثقافية ،وبالتايل ال تنحصر قدرتهم يف عدم االكتفاء
إىل يشء مختلف جدًّا ،إىل يشء أصابه التميّز والتغيرّ يف جوهره ً مقارنة بما كنا نعنيه بكلمة «ثقافة» يف خمسينيات وستينيات
كذلك ممارسة أذواقهم وميولهم الشخصية .إنه يحاجّ ليربهن
كنت شابًّا وقد أصابه التغيرُّ يف سني حيايت ،حيث تحوّل فهمُ نا
وسبعينيات القرن املايض .سعى الكتاب محاولاً وصف التحوُّل،
وفحص تأثريات أوهام ما نسميها ثقافة اليوم عىل مظاهر مختلفة من األفعال اإلنسانية –اجتماعيًّا ،وسياسيًّا ،ودينيًّا ،وجنس ًّيا-
طارحً ا مسألة أن الثقافة تعمل عىل تخصيب كل أفعالنا يف الحياة وتحيلها إليها. َ هدف إىل اإلقالق لم ُي ْنجَ ز الكتاب ليكون متشائمً ا ،لكنه
وحفز الناس إىل التفكري بالدور املهيمن للتسلية واإللهاء؛ لكونهما ينشران الزيف يف وقتنا الحاضر ،مثلما كانا ً أيضا سببًا يف أن يصبحا مرك ًزا يف الحياة الثقافية .أعتقد أن هذه هي املسألة ،وأنها
حدثت بمباركة من قطاعات واسعة يف املجتمع ،ومن ضمنها أولئك الذين ّ مثلوا تقليديًّا مؤسساته و ِقيَمه الثقافية. إنّ جيليه ليبوفيتسيك ،من وجهة نظري ،أحد املفكرين اليوم
الذين حللوا هذه الثقافة الجديدة بعمق بالغ وصرامة قصوى.
ففي كتابه «إمرباطورية املوضة :ديمقراطية اللباس الحديثة» ،قام ً ُّ وخالفا ملا قمت به، وبتبص ٍر بوصف مكونات هذه الثقافة الجديدة. لاً عالجها محل إيّاها من دون قلق ،ومن دون أيّ إحساس مفرط باألذى؛ عالجها بتعاطف ،رائيًا يف صورها ومالمحها ما عده أم ًرا إيجابيًّا جدًّا .فمثلاً ،التأثري باتجاه الديمقراطية لثقافة تصل لكل شخص ،إنما هو ثقافة ،يف مقابل الثقافة التقليدية ،ال تخلق ً فروقا ،ثقافة ال تحتكرها النخبة ،ليست محصورة باملتخصصني أو املثقفني واملفكرين ،لكنها تتخلل كليَّة املجتمع وتنفذ فيه،
بطريقة أو بأخرى.
كما أنه يقول ،وهذه نقطة الفتة وقابلة للنقاش :إن هذه
الثقافة أدّت إىل حرية فردية كبرية .وبالعكس يف املايض –عندما
نحو ما ،هو األسري واملعبرِّ عن ثقاف ٍة ما– بات كان الفرد ،عىل ٍ
بممارسة استقاللهم وإرادتهم الحرة فقط؛ ولكن بمقدورهم
عىل أن هذه الثقافة تتيح للناس البحث عن متعهم عرب أنشط ٍة نحو قاطع ،لكنها لم تكن تعدّ كذلك يف املايض. هي ثقافية عىل ٍ ً ً وأحيانا أحيانا ُتقنعني، هذه األفكار قابلة للجدال حولها: أخرى ترتكني حائ ًرا بال قرار .أعتقد أن حوارًا بني موقفينا –
موقفان مختلفان لكنهما ،بطريق ٍة ما ،يمكن أن يتكامال – سيكون حوارًا مثم ًرا.
ليبوفيتسيك :شك ًرا جزيلاً ،ماريو ،عىل هذا التقديم الذي
أدركت فيه نفيس كاملاً .لقد أ َّك َ ُ دْت عىل حقيقة أن مجتمع ُ ُ ّ الفرْجَ ة هذا يشكل تحديًا ملعنى الثقافة النبيل .أنا أوافقك
بهذا الخصوص .ولسوف أسمح لنفيس بتطوير هذه النقطة قليلاً ؛ ألنني أعتقد أنها تندرج يف االتجاه الذي تر ِّك ُز عليه .ماذا كانت الثقافة النبيلة ،الثقافة الراقية ،بالنسبة لدعاة الحداثة؟
قامت الثقافة بتقديم الكمال الجديد .ففي الوقت الذي بدأ فيه َ خلقت دعاة الحداثة بتطوير املجتمع العلمي والديمقراطي، ً صيغة للدين بوساطة الفنّ ،حيث تمثلت الرومانطيقيّة األملانيّة مهمتها يف توفري ما لم يقم ال الدين وال العلم بتزويد املجتمع به،
وذلك ألنّ العلم ببساطة ال يقوم سوى بوصف األشياء .أصبحَ
الفنّ شي ًئا مقدّ سً ا .كان الشعراء –والفنانون عامة– هُ م أولئك
الذين يُظهرون الطريق ،الذين قالوا ما كان الدين يقوله منذ وقت ِّ مبكر.
عندما نتقيَّد بماهيّة الثقافة يف عالم االستهالك ،يف عالم
الفرْجَ ة –ما رأي َته مناسبًا أن تدعوه بـ«حضارة ُ ُ الفرْجَ ة»– إنما هو
تحديدًا التسليم بانهيار النموذج الرومانطيقي .باتت الثقافة ً وحدة من وحدات االستهالك .لم نعد ننتظر من الثقافة أن
تغيرِّ الحياة ،أن تغيرِّ العالم ،مثلما َّ فك َر رامبو .كانت هذه َ رفض العالم مَ همة الشعراء ،كبودلري عىل سبيل املثال ،الذي
141
ثقافات
ال َّن ْفعي .لقد آمنوا بأنّ الثقافة الراقية بمقدورها تغيري اإلنسان،
تغيري الحياة .واليوم ،من غري املحتمَ ل وجود أحد يؤمن بأنّ
السباق الثقافة الراقية سوف تغيرِّ العالم .يف الحقيقة ،وبمفهوم ِّ والتنافس ،فإنّ مجتمع التسلية ،مجتمع ُ الفرْجَ ة هو الذي فاز .إنّ ضرب من اللهو ما نتوقع الحصول عليه من الثقافة هو التسلية، ٌ
الرفيع بعض اليشء؛ غري أن الرأسماليّة هي ما تغيرِّ الحياة اليوم َ بشكل أسايس ،والتكنولوجيا ً أيضا .ولقد تحولت الثقافة لتصبحَ ٍ املجد امل َُتوِّج لهذا ّ كله.
نحن ،ضمن حدود معينة ،نشرتك يف رؤي ٍة صارم ٍة سلبيّة لحضارة ُ الفرْجَ ة هذه ،وللمجتمع االستهاليك عامة .ورغم ذلك، ُ حاولت عرب السنني إظهار إمكانياتهما اإليجابيّة .وعند النظر من زاوية نموذج الثقافة التقليدي ،فإنّ ما يبدو سلبيًّا هو الجانب
الطاغي بال ِجدال .غري أن الحياة ليست ثقافة فقط .الحياة سياسة ً أيضا –الديمقراطية بالنسبة لنا -عالقاتنا مع اآلخرين ،عالقاتنا
مع أنفسنا ،مع أجسادنا ،مع املتعة ومع عناصر كثرية أخرى. عىل هذا الصعيد ،يمكننا القول بأنّ مجتمع ُ الفرْجَ ة ،املجتمع االستهاليك ،قام بتعميم مسلكيات َنمَ طيَّة ،ومنح قدرًا أكرب من االستقالليّة للفرد .ملاذا؟ ألنه َع َنى انهيار الخطابات الكربى، األيديولوجيات السياسية الكربى التي قيَّدَت األفراد برباط محكم
142
من مجموعة قوانني ،واستبدلت بها الفراغ ،بمذهب لذة ثقايف.
يوسا :خالفً ا لك ،ال أعتقد أن حضارة الفُ ْر َجة قد أتت بالسالم ،وبالتالي التخ ُّلص من العنف ،أو التقليل منه .على موجودا العكس من ذلك ،ال يزال العنف ً وحاضرا في مدننا المبتالة بالجريمة ً ُ الفرْجَ ة ،رغم إمكانية مواصلتنا توجيه نقدنا له. انتصار الفوىض
يوسا :تلك هي املظاهر اإليجابيّة لمِ ا يمكن لنا تسميتها بحضارة ُ ُ وافقت عىل املسألة ككل .ولكن ،فلننظ ْر الفرْجَ ة ،إذا ما
وبتعاظم هذه الحال ،لم يعد الناس يريدون الخضوع للسلطة، إنما يريدون أن يكونوا سعداء ،والبحث عن هذه السعادة ّ بكل
أدّى كذلك إىل انتصار الفوىض واالرتباك .لقد شهدنا ،ضمن
املجتمع االستهاليك ،أتاحا ألنماط الحياة أن تتكاثر .فالتلفزيون،
التي أسستها الثقافة القديمة التي كنا نحرتمها بنسبة أو بأخرى؛
ً إضافة إىل معانيها ووضعها تحت تصرفهم .مذهب اللذة، عىل سبيل املثالَ ، بات ضربًا من املقربة للثقافة الراقية ،لكنه مَ دَّ الناس بمصادر أخرى وفتح لهم ً آفاقا جديدة؛ إذ مَ َّكنَ األفراد من عقد املقارنات .عىل هذا الصعيد ،أتاح مجتمع ُ الفرْجَ ة لألفراد أن نوعا من مجتمع بحسب َ ُوجدوا ً الط َلب يصبحوا مستقلني ،وأن ي ِ ٍ ً ووفقا للثمن ،حيث يشكلون فيه طريقة عيشهم الخاصة.
أعتقد أن هذا مظه ٌر مهمّ ؛ ألنّ املجتمعات حيث تهيمن ُ الفرْجَ ة هي مجتمعات اتفاقيّة بشكل عام أوجدها َع ْقدٌ ديمقراطي.
واليوم لم تعد الصراعات االجتماعيّة تنتهي بحمّ امات دم ،وبات
ً مرفوضا يف جميع هذه األماكن .بهذا املعنى ،أعتقد رمز الطاغية أن مجتمع ُ الفرْجَ ة أتاحَ للديمقراطيات أن تحيا بمأساوية ّ أقل، ّ أقل حالة شيزوفرينيّة عمّ ا كانت من قبل .ومع هذا ،لم يحررنا ذلك ّ كله من مَ ظهرين أساسيني –من العَ يبني العظيمني -للعصر
الحديث :الثورة ،والقوميّة .فالقوميّة توجد حيثما يسود مجتمع ُ الفرْجَ ة ،لكنها ليست مجتمعات دمويّة ،والثورة –ملحمة ُ بأتباع املاركسيّة الكربى -األمل الثوري األخروي ،لم تعد تحظى ٍ مؤمنني ُكرث .إنّ َت َذ ُّكرنا ما كانت تعنيه ُك ٌّل من القوميّة والثورة للقرن العشرين إنما يتيح لنا َتجَ ُّنب القراءة الرؤيوية ملجتمع العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
إىل بضعة مظاهر سلبيّة .إنَّ اختفاء –أو انهيار– الثقافة الراقية
سريورة الثقافة الراقية ،انهيار ِقيَم جَ مالية معينة ،والرتاتبيّة
لم يعد للقاعدة أو املبدأ أو النظام املقبول لألولويات أيّ وجود.
يجوز لنا القول بأنّ هذا أم ٌر استثنايئ ،ما دام أنه يعني حيازتنا
لحري ٍة مطلقة يف الوقت الراهن يف املجال الثقايف ،غري أنه باإلمكان ،ضمن تلك الحرية ،أن نكون ضحايا السفاهة األسوأ.
هذه حقيقة يمكننا معاينتها يوميًّا .وربما تكون الفنون البصريّة هي الحالة األكرث دراماتيكيّةّ . تتمثل الحرية التي أحرزتها الفنون
البصريّة يف حقيقة أنّ بمقدور أيّ يشء أن يكون ف ًّنا ،وأن ال يشء هو فنّ ؛ وأن كل فنّ يمكن أن يكون جميلاً أو قبيحً ا ،غري أنه
ال مجال للتمييز بني االثنني .لم يعد املبدأ أو النظام القديم، الذي أتاح لنا التمييز بني املمتاز ،بني الدنيوي الطبيعي واللعني املقيت ،متوف ًرا ،اليوم يعتمد الوضع عىل و ََلع أو ذوق الزبون.
ً أحيانا ،حدودًا قصوى ب ََل َغت الفوىض واالرتباك يف عالم الفنّ ، مضحكة .الذيك األملعي والوغد كالهما ضحية ملؤامرات مختلفة؛ القوْل َ إلعالنات وإشهارات ،عىل سبيل املثال ،لها َ الف ْصل .صحيحٌ ٍ
أن الفوىض واالرتباك ،يف حقول أخرى ،لم تبلغ هذا الحد ً َ ً حالة حادّة وخلقت طريقا لها بمعنى ما، األقىص ،لكنها وجدت من عدم اليقني.
جيليه ليبوفيتسكي وماريو فارغاس يوسا
إذا كانت الثقافة مجرد تسلية خالصة ،فذلك يعني أنْ ال يشء يتسم باألهميّة .إذا كانت مسألة لهو ،فبمقدور امل ُ ْن َتحَ ل
شخص أصيل عميق .ولكن إلهايئ وتسليتي بال أدىن شك أكرث من ٍ َ ّ إذا كانت الثقافة تعني أكرث من هذا؛ إذن فإنها تدعو للتفكري .وإين أعتقد أنّ الثقافة تعني أكرث بكثري ،ليس بسبب املتعة التي نحصل عليها نتيجة قراءة عمل أدبي كبري ،أو مشاهدة أوبرا عظيمة،
أو اإلنصات لسيمفونيّة جميلة ،أو حضور حفلة باليه ساحرة؛ إنما ألنّ طبيعة الوعي ،طبيعة الخيال ،طبائع األذواق والرغبات
التي تخلقها الثقافة الراقية والفنّ العظيم يف الكائنات اإلنسانيّة
تمنحها القوة وتمدّ ها بما يجعلها تعيش عىل نحو أفضل .تجعل
الكائنات اإلنسانيّة أكرث اهتمامً ا باملشكالت التي تغوص فيها،
وأكرث تبص ًرا بما هو صحيح وما هو خطأ يف العالم الذي تعيش فيه .إنّ الوعي املُصوغ عرب الفنّ يجعل الكائنات اإلنسانيّة قادرة عىل الدفاع عن نفسها أكرث ،وأن تستمتع بالحياة أكرث ،أو أن تعاين ّ أقل.
وسيلة ملواجهة تلك األنانية والغرور ،تلك الوحدة ،وتلك املنافسة
الرهيبة التي تصل إىل حدّها األقىص من التج ّرد من اإلنسانيّة،
إنما هي الحياة الثقافية الغنية يف حدّ ها األقىص ،وإنها املعنى
الرفيع السامي لكلمة «ثقافة». إين ،خِ ً الفا لجيليه ،ال أعتقد أن حضارة ُ الفرْجَ ة قد أتت ُّ التخلص من العنف، بالسكينة واالنسجام ،وبالتايل بالسالم، َّ
أو التقليل منه .عىل العكس من ذلك ،ال يزال العنف موجودًا وحاض ًرا يف مدننا املبتالة بالجريمة ،يف جرائم الجنس ويف التمييز ٍّ متأت عن األزمات بني األجناس والتحامل عليها .ثمّ ة ناتجٌ متخيَّل
االقتصاديّة أدّى إىل رُهاب األجانب ،إىل العنصريّة والتمييز عىل ُ ٌ ماثل ضد األقليات الجنسيّة ،وهو منتشر، العنف هذا الصعيد. نفسر هذا ّ كله؟ أحد مع استثناءات قليلة ،عرب العالم .كيف ِّ التعبريات الذي يتجلىّ فيه هذا العنف إنما يرتكز تحديدًا يف انهيار الثقافة الراقية .هذه الثقافة التي ُترثي وعينا وتقودنا ،بطريقة أو
بأخرى ألن ننشغل نحن أنفسنا بالقضايا الكبرية .ثقافة بقدر ما
إين أتحدث بناءً عىل تجربة شخصية .وإين أعتقد أن حصويل
هي ممتعة فإنها تدعو للتفكري ،وللقلق ،غارسة يف الذهن حالة
إسباين 1627 -1561م) .واالستمتاع به ،وقراءة وفهم «يوليسيس» لجويس ،قد ْ نحو عميق .ليس فقط بسبب أغ َنت حيايت عىل ٍ
الثقاقة املسليّة الخالصة .هذه الثقافة التي سمّ اها جيليه يف إحدى
عىل فرصة قراءة «غونكورا» ( لويس غونكورا :شاعر بارويك
املتعة التي منحتني إياها بالعيش يف تلك التجارب الثقافية؛
بفهم أفضل للسياسة ،وللعالقات اإلنسانيّة، لكن ألنها أمَ دّتني ٍ ولمِ ا هو عادل وما هو جائر ،ولمِ ا هو صواب وما هو خطأ ،ولمِ ْا هو
من عدم االنسجام ومثرية روح النقد؛ وهو أمر تعجز عن خلقه مقاالته «عالم الثقافة». ّ لست ضد ُ ُ ُ الفرْجَ ة؛ إنها بالنسبة يل باهرة وتسليني كثريًا. ولكن ،إذا تحوَّلت الثقافة لتكون هذا فقط ،فإنّ فقدان املعايري سيسود يف النهاية وليس االطمئنان ،سيسود ٌ نوع من اإلذعان
خطأ كبري ..كبري جدًّا .اختفى الدين من حيايت عندما كنت يافعً ا، وحَ َّلت محله ِقيَمٌ روحيّة ما كان يل أن أبلغها من دون تلك الكتب.
الرأسمايل الحديث ،ال يعني تعزيز ثقافة ديمقراطية بقدر ما هو
تعنيه ل ُت ْس َتبْدَل بالتسلية الخالصة ،فماذا سيحدث لمِ ا َتبَقى؟ هل
املقاوم ملشاركة األفراد املبدعة والنقديّة يف الحياة االجتماعية، والسياسية ،واملَدنية .فيما يتعلق بي؛ إنّ أكرث الظواهر املقلقة
إين أتحدّث من زاويتي كفرد ،غري أننا ،إذا مددنا هذا ليشمل مجتمعً ا كاملاً ؛ عندها ،ويف حالة اختفاء تلك الثقافة وكل ما
بوسع التسلية الخالصة تمكني املجتمع من مواجهة كل تلك املشكالت والتصدي لها؟
أنا لست ضدّ الرأسماليّة ،أنا مؤيدٌ لها؛ لقد أتاحت املجال إنساين استثنايئ .لقد جَ َلبَت لنا مستويات معيشية لتقدم ّ ً وصيغة من التطور العلمي سمحت لنا بالعيش عىل مرتفعة،
نحو أفضل وبال حصر مقارنة بأسالفنا .ورغم ذلك ،لطاملا قال امل ُ ِّ قاس بال قلبِ ،نظامٌ يخلق نظرون الكِبار بأنّ الرأسماليّة ِنظامٌ ٍ
الرثاء لكنه يخلق األنانيّة ً أيضا .وهذا يجب أن يُعَ وَّض بحيا ٍة ثقافية ِّ َ ري من مُ نظري الرأسماليّة اعتقدَ أنّ السبيل يف حدّ ها األقىص .كث ٌ الروحي كان الدين؛ وآخرون ،من غري املتدينني ،اعتقدوا أنه الثقافة .وإذا كنا ال نريد الوصول إىل النقطة التي يتحرك نحوها
روحي حيث جميع تلك املظاهر السلبيّة للمجتمع املجتمع –خواء ّ
الصناعي ،وجميع حاالت التج ّرد من اإلنسانيّة التي يجلبها معه، ً وسطوعا كل يوم– فإين أعتقد أن أفضل أصبحت أكرث وضوحً ا
السلبي .واإلذعان السلبي الخالص لدى األفراد ،داخل املجتمع
انهيار املؤسسات الديمقراطية؛ واملثال عىل ذلك السلوك املضاد
يف املجتمع املعاصر تتجلىّ يف عدم انخراط املثقفني والفنانني يف الشؤون العامة ،ويف احتقارهم الكامل للحياة السياسية التي يرون أنها قذارة ،وخساسة ،وفساد ،وأنها يشءٌ ينبغي لهم إدارة
ملجتمع ظهورهم له إذا ما أرادوا البقاء غري ملوَّثني .كيف باإلمكان ٍ ديمقراطي النجاة عىل املدى الطويل من دون مشاركة الشخص ً إبداعا األكرث تفكريًا ،األكرث وعيًا ،من دون مشاركة الناس األكرث ً وقدرة عىل التخيُّل؟
ليبوفيتسيك :نحن غالبًا ما ُن ْرف ُِق مجتمعَ ُ الفرْجَ ة باختفاء ّ شك ،لكنها ليست امل ُثل العُ ليا .هذه واحدة من مظاهره بال الوحيدة .ففي األجيال الجديدة من الناس املَعنيني ثمّ ة قواعد وأُسس لم تعد سياسية ،غري أنها متصلة بلزومات َ الك َرم ً مرادفا لكليّة والسماحة ،وبالعَ ون املشرتك .املجتمع املعاصر ليس َّ ْ َ االستخفاف باألشياء (الكلبيّة) والعَ دَ ميّة .ربما يكون هذا مظهره املسيطر ،لكنّ ثمّ ة نزوعات مضادة وميولاً أخرى ،نعاينُ ذلك يف
143
ثقافات
املنظمات غري الحكوميّة :يف املتطوعني الواهبني أنفسهم للعطاء،
والواهبني وقتهم والساعني لِعَ مَ ل يشء يف سبيل اآلخرين ال يف ً ُ ظاهرة عامليّة ،لكنني أعرتف بأنّ هذا األمر ليس سبيل أنفسهم.
مفاجَ أ ،بالرغم من كل يشء ،من أن مجتمع ُ الفرْجَ ة يساند ويدعم هذا العطاء وينشره عرب العالم .مجتمع ُ الفرْجَ ة ال يخلق األنانيّة فقط؛ بل يخلق ظواهر أخرى تسمح لنا بتعديل َّ كفة
امليزان. ً َ ِّ نحن نملك رؤية مختلفة للثقافة الراقيةَ . أنت تراها كالثقل نوعا من َ املوازن ً الخالص أو الرتياق حيال الحقيقة القاتلة املاثلة يف إفساح السلطة لصناعة ُ الفرْجَ ة والرأسماليّة الحرية األكرب
الراقية :الطليعة .فهناك يحدث الهجوم املضاد للفنّ األكاديمي،
لـ«الجَ مال» .لم يكن «دوشان» (مارسيل دوشان (1968 -1877م)،
رسّ ام فرنيس وأحد مؤسيس املدرسة الدادائية والسريالية) جزءًا من مجتمع ُ الفرْجَ ة ،ومع ذلك كان مَ ن فتحَ باب الفكرة القائلة
بقابلية وضع كل يشء يف املعرض ،وأنّ هذا يجوز لنا أن ندعوه «ف ًّنا» .إنّ بذور انهيار الجماليات والثقافة الراقية تكمن يف داخل الثقافة الراقية نفسها.
ويف النهاية ،لم يكن مجتمع ُ الفرْجَ ة مَن قام بتغيري الرتاتبية
الجَ مالية كثريًا .ما الذي حدث؟ لقد خلق مجتمعُ القرن العشرين الحديث شي ًئا لم ي ُْسمع به من ُ قبل يف التاريخ« :فنّ الجماهري
َ يف إدارة شؤونهاَ . لست ضد الرأسماليّة ،لكنك تبحث عن أنت وسيلة ْ ألن َسنتها .نحن متفقان هنا .لكننا لسنا ،من ناحية ثانية،
– الفنّ الجماهريي» .فلنأخذ السينما عىل سبيل املثال .فالفلم
العامل األسايس والجوهري يف عملية ضبط وتصويب أحد مظاهر الرأسمالية .أما أنا فأكرث ً ريبة؛ ربما ألين ّ ً إيمانا َ منك بالثقافة أقل
منحنا أعمالاً متوسطة القيمة لكنها رائعة ً أيضا .وإذا أخذنا يف
ِّ متفائلني بالقدر نفسهَ . تشكل أنت تعتقد أنّ الثقافة الراقية
الراقية.
َ َ ذكرت بعض األشياء عن العنف يف غاية األهمية ،منها أنت أن يف داخل مجتمع ُ الفرْجَ ة ،املتصف كذلك بالتسلية واإللهاء، وقعت جميع أشكال العنف .ومع ذلك ،ففي لحظة مهمة يف
144
مجتمع ُ الفرْجَ ة ليس املجرم امل َّتهم الوحيد .فاألمر يبدأ بالثقافة
سريورة الثقافة الراقية أمىض أوسكار وايلد سنتني يف السجن، وبقية حياته الوجيزة يف املنفى .كما عجزت الثقافة الراقية عن حماية الب ََشر ،يف أُمة غوته وكانط ،من الوحشيّة النازيّة.
أنا رجل أكاديمي ،أدافع عن الثقافة الراقية ،لكنني أعتقد أنْ َ العالم علينا أن نقرتح وسائل أخرى ومختلفة .وبالنظر إىل حرية
املعاصر وتيهانه ،فإنّ ما ينبغي لنا عمله هو املحافظة عىل كرامة
الناس واإليمان بالعمل .ال االكتفاء باإليمان باملعرفة واالستمتاع باألعمال األدبية العظيمة .الثقافة الراقية تساعد اإلبداع والفرد،
لكن يف الوقت نفسه فإنّ األفراد هم املمثلون الذين يبنون عواملهم الخاصة .عىل التعليم ألاّ يقف ساك ًنا أو يهرب بعيدًا من التلفزيون وما يماثله .عىل التعليم توفري األدوات لألفراد ليصبحوا مبدعني، ليس فقط فيما يتعلق بالفنّ واألدب إنما يف كل يشء .عىل
الثقافة الراقية والنزعة اإلنسانية العمل جنبًا إىل جنب بطرائق
مختلفة ،أما إذا مارسنا ذلك بطريقة محددة واحدة؛ فلسوف
السينمايئ يستهدف كل إنسان ،بصرف النظر عن مكوناته ً مختلفا .لقد خلق فنَّ تسلي ٍة بمقدوره الثقافية؛ مجرتحً ا شي ًئا الحسبان معدالت األفالم ،وعىل نحو مطرد ،فإنّ األعمال التي
هي ليست عظيمة وليست رديئة ،تؤدي إىل تحريك املشاعر
وتدفع الناس إىل التفكري.
حريق يف الهواء الطلق
س موضوع النازيّة .إنّ أوّل يوسا :يسعدين أن جيليه قد المَ َ
يشء فعلته النازيّة وهي يف طريقها الستالم السلطة كان إقامتها ً محرقة هائلة للكتب أمام جامعة برلني ،حيث بات كامل اإلرث
الثقايف العظيم ألملانيا ،عمل ًّيا ،داخل أتون حريق يف الهواء الطلق.
أن الثقافة ليبوفيتسكيَ : أنت تعتقد ّ الراقية تشكِّل العامل األساسي والجوهري في عملية ضبط وتصويب أحد مظاهر الرأسمالية .أما أنا فأكثر منك أقل إيما ًنا ريبةً ؛ ربما ألني َ ّ
بالثقافة الراقية
نواجه مشكالت .فمشاركة الجماهري ،يف مجتمع التسلية ،أكرث
صعوبة حني يتعلق األمر باختمار هذه الثقافة .عند النظر إىل غري املمتلكني للتعليم الضروري ،فإنّ قراءة «يوليسيس» اليوم ليست
هينة ،لكنها ليست مستحيلة .نحن بمقدورنا العيش ،والعيش
وبوضع يتيح الكرامة ،من دون االطالع عىل األعمال جيدًا، ٍ األدبية العظيمة. ُ نحن متفقان يف تشخيصنا ملجتمع الفرْجَ ة وبدء انهيار
الرتاتبيّة الجَ مالية .لكن هنا علينا أن نرتاجع قليلاً ونشهد عىل أن العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
يوسا :ليس هناك من مجتمع واحد في العالم ال يعكس نظامه التعليمي لسبب بسيط أزمات عميقة ،وذلك ٍ يتم ّثل في أننا ال نعرف ما هو النظام األفضل واألكثر قابلية لتلبية الحاجات
جيليه ليبوفيتسكي وماريو فارغاس يوسا
النازيّة ليست الحركة الشموليّة الوحيدة التي أضمرت ارتيابًا ً ساحقا يف اإلبداع الفني ،وبالتفكري الفلسفي ،وبالفنانني الذين
كانوا ،بشكل أو بآخرُ ،ن ّقادًا لزمنهم ،وملجتمعهم؛ الفنانني
ليس سويًّا ،وأنه باملقارنة مع األشياء الجميلة جدًّا ،والكاملة
تمامً ا ،والرائعة جدًّا ،حيث كل األشياء رائعة –األشياء البشعة والرديئة هي ً أيضا رائعة وجميلة -وأنّ العالم الحقيقي متوسط
وحيش. لقمع الذين ،بطبيعة الحال ،قد تعرضوا ّ ٍ وبسبب ارتيابهم الفظيع يف الثقافة ،فإنّ أوّل يشء قامت به جميع املجتمعات التسلطيّة ّ تمثل يف سَ ِّنها ألنظمة الرقابة عىل
الرئيس للتقدم والحرية ،ليس يف العالم املادي فقط؛ بل يف
التداول الحُ ر لآلراء والقناعات ،وذلك بغية تصنيف األفكار
والديمقراطية.
الكتابة والنشر .وكانوا محقني يف رؤيتهم للخطر الكبري الكامن ٌ مؤسسة لقمع يف الثقافة .فمنذ محاكم التفتيش ،اجْ ترُ ِحَ ت والحياة الفرديّة كما الحياة الروحيّة ضمن نماذج ومعايري دقيقة ُتدين ُ وتجَ ِّرم بما يتوافق مع السلطة .هذا ما فعلته الشيوعيّة، والفاشيّة ،والنازيّة ،وجميع الدكتاتوريات التي و ُِجدَت .وهنا نجد
الدليل األمثل عىل أهمية الثقافة الغنية ،والراقية ،واملبدعة، ً ً ً ً والحُ رة .يف الحقيقة ،إنّ مبدعة ال تكون وراقية غنية ثقافة ُ إلاّ حُ رة ،وهيًّ ، حقا ،أحد أسس الحرية .وإذا ما اختفت تلك
القيمة إىل حد كبري .لقد خلق فينا هذا األمر شعورًا رهيبًا بانعدام التكيُّف ،باملقاومة ورفض الحقيقة الواقعية .ذلك هو املصدر
مجال الحقوق اإلنسانية واملؤسسات الديمقراطية .إنّ الدفاع عن الثقافة الراقية مرتبط بذلك االنهماك الكبري ٍّ بكل من الحرية صحيحٌ أن فظائع اجتماعيّة وإجحافات اقتصاديّة قد وقعت
يف مايض املجتمعات املثقفة .ولكن ،ما الذي جعلنا نقلق من كونها ُ َ واإلدراك الوعي الثقافة كانت موجودة؟ إنها الثقافة .منحتنا َ والعقالني َّة مما دفعنا ألن نشعر بالقلق حيال ما كان ليس
صحيحً ا ،وأن علينا وضع نهاية له؛ وأن االستعمار كان أم ًرا ليس صحيحً ا وأنْ علينا وضع نهاية له؛ وأن جميع ضروب العنصريّة
الثقافة ،فبسبب أن الحرية اختفت من قلب ذلك املجتمع .يمكن
والتمييز ليست صحيحة وعنيفة .عندما كان بروست يكتب
هتلر ،ستالني ،فيدل كاسرتو ،ماو تيس تونغ ،لكن ثمّ ة إمكانية الختفائها ً أيضا بطرائق أخرى .فإذا وصلنا نقطة االعتقاد بوجود ً أُناس معينني ال يجدون ضرورة للثقافة؛ لجويس ،إلليوت،
أجل الحرية والعدل ،لكنه كان يفعل هذا .هذا ما كان رامربانت
للثقافة أن تختفي عىل أيدي األنظمة املتوحشة ،والشموليّة؛
«البحث عن الزمن الضائع» ،لم يكن يعرف أنه إنما يعمل من
ومايكل أنغلو يفعالنه؛ مثلما فعل فاغرن عندما قام بتأليف موسيقاه ،مع أنه كان عنصريًّا .وهذا نفسه ما حصل مع فنانني
كِبار ،ومع مفكرين كِبار ،ومع مبدعني كِبار .إنّ عملهم يختلف
ولربوست ،وأن هؤالء جميعً ا ال نفع منهم عىل اإلطالق وال يخدمون َغ َر ًضا ،وأنّ لهؤالء الناس اهتمامات فوريّة آنيّة أكرث
عن عمل التكنوقراط أو املشتغلني بالعلوم ،ومساهمة األخريين
العَ بَث والطيش ،والزهو والخيالء .هذا الضرب من التفكري
يتحرك يف خط مستقيم .أما عمل اإلنسانيني الكِبار ،باملقابل،
ً وضغطا؛ فلسوف يُصاب املجتمع باإلفقار املتزايد عرب إلحاحً ا خطري .أعتقد أن بروست مهمّ لكل إنسان؛ رغم أن البعض ربما
مباشرة؛ إنهم متخصصون وعملهم االستثنائيّة لإلنسانيّة ِ فإنه يتحرك يف أكرث من اتجاه واحد؛ إنه يتجه نحو املجتمع ً ً وأحيانا يقوم بالتأسيس للقواسم املشرتكة مستهدفا إيّاه ككل،
ال يعرف كيف يقرأ؛ رغم أن ما قاله بروست يقع يف صالحهم، أيضا ،بصرف النظر عن أنهم ليسوا يف وضع ّ ً يمكنهم من قراءته. ٍ َ لقد خلق ً نوعا من الوعي يعرب أشياء معينة تجعل األفراد غري قادرين عىل التأثر به هو أكرث إدرا ًكا لوضع الناس األفقر واألحْ وَج.
يجعلنا نشعر باملسؤولية الجماعية والرباط األخوي؛ ألن يف
إنسانيّة معينة .هذا الضرب من اإلدراك والوعي ناتج عن الثقافة.
الثقافة ما يخلق مجموعة االنشغاالت تلك؛ فهي لم تتأسس أبدًا
كما أنه دفعهم إىل االلتفات واالهتمام باإلشارة إىل وجود حقوق
وحني ال تكون الثقافة وراء هذا الوعي واإلدراك ،فإنها فقرية ً إضافة إىل أن أوربا عاشت تجربة يفسر، عىل نحو استثنايئ .وهذا ِّ ّ
تختف الالساميّة؛ بل ولدت من الهولوكوست الشنيعة ،ملاذا لم ِ َ ٌ عاملي، يفسر ملاذا رُهاب األجانب ،الذي هو ف َشل جديد .وهذا ِّ ّ
التي ضاعت يف خضم التحديث والتصنيع .املجتمع الحديث يعزل
ويشتت األفراد؛ وهنا تكمن أهمية حصولنا عىل قاسم مشرتك
ذلك تتأسس فيما بيننا مجموعة اهتمامات وانشغاالت .وحدها
بالتكنولوجيا والعلم؛ إذ يخلق األخريان متخصصني من أصحاب خالفات تبادلية فيما بينهم ال َلبس فيها. الدفاع عن الثقافة الراقية ال يعني الدفاع عن ال ُّن َخب
يجتاح املشهد ً ثانية ،ليس يف مجتمعات بدائية غري مثقفة ،إنما يف
الصغرية فقط ،التي تستمتع بمخرجات هذه الثقافة ،ولكنه دفاع ً ٌ أمور أساسية وضرورية لإلنسانية؛ كالحرية، أيضا عن ٍ
لم تصلها كتابات بروست ،وإليوت ،ورائعة جويس «يوليسيس».
الشمولية والتسلطية ،كما تدافع عنا ضد الطائفية واالعتقادات
مجتمعات مثقفة ثقافة قصوى ،وتحديدًا ضمن تلك الدوائر التي الثقافة الراقية غري منفصلة عن الحرية .ولطاملا كانت ثقافة
نقديّة ،ولطاملا كانت نتيجة لعدم التطابق ومصدرًا له .فاملرء ال
يمكنه قراءة كافكا ،أو تولستوي ،أو فلوبري ،وال يوقِن بأن العالم
والثقافة الديمقراطية .الثقافة الراقية تدافع عنا نحن ضد األنظمة
املغلقة.
يطرح جيليه ليبوفيتسيك رأيه القائل بأنّ األيديولوجيات –التي أيضا وأخشاها -قد تآكلت يف مجتمع ُ ال أثق بها أنا ً الفرْجَ ة؛ وأنّ
145
ثقافات
مجتمع ُ الفرْجَ ة هذا كان أشد فعالية وتأثريًا من املنطق والعقالنية،
ذلك ،فإننا ال نستطيع َشي َْط َنة املجتمع االستهاليك ،وال ينبغي لنا
التفسخ إىل حاجته للهو والتسلية ،واملوضة ،واملتعة العاجلة -فإنه ُّ
إىل أن ندرك ،وهنا نحن متفقون ،عىل أن عالم االستهالك ليس
ومن السجال الديمقراطي يف الصراع ضد األيديولوجيات اليوتوبية الكربى .وإذا ما كان ثمّة إنجاز من إنجازات مجتمع ُ الفرْجَ ة –بالنظر
لكثري من األيديولوجيات ،ولهذا فعلينا التدريجي والتاليش املتصل ٍ االحتفال بهذا األمر ًّ حقا .إنّ انهيار األيديولوجيات الكربى هو انهيا ٌر
لواحدٍ من أكرب مصادر الحرب والعنف يف املجتمع الحديث. هيجان عنف السلطات الشمولية
ً نقطة أوافق عليها تمامً ا ،إننا ليبوفيتسيك :لقد أضاء ماريو حقيقة رجالاً ونساءً نعيش العصر الحديث ،وندين بالكثري للثقافة
وعي الراقية .إننا نشأنا هكذا نتيجة عملية اختمار لألفكار ،ونتيجة ٍ َ ٌ صاغ فالسفة وك ّتاب ،وهذا بالضبط ما حديث أسهمَ يف تكوينه َ اإلنساين ،والفرديّ ،والديمقراطي .لقد نشأ العالم وصبغ الكون ّ ُ الحديث من عقول مفكرين معينني زرعوا البذور ،بوساطة أناس
منحوا الشيفرة والناموس مجتمعً ا ال يُضاهى يف مؤسساته ،ولكنها تواجه نفسها بإدراكها للحرية ،والكرامة ،واملساواة للجميع .هذا
االبتكار العقيل ندين به للثقافة الراقية .نحن متفقون ،تمامً ا
مثلما اتفقنا عىل أنه يجب عىل اإلبداع أن يكون مدافعً ا عن الحرية
146
بوصفه مندوبًا عنها.
ُ لست مقتنعً ا تمام االقتناع بأنّ الثقافة الراقية تقينا باملقابل،
من هيجان عنف السلطات الشمولية ،أو أي عنف من نوع آخر. فإذا كانت الثقافة الراقية تعمل عىل توليد الحرية ،فإنها ،يف كثري من األوقات ،مثلما يمكن لـ«كانط» أن يقول ،تحتمل أن ُتصاب
بالعجز تحت تهديدات السلطة واملصالح الخاصة .واليوم ،ليست الثقافة الراقية وحدها مَن يدافع عن ال ِقيَم التي تحبّها وتق ّدرها
بقدر ما أفعل أنا؛ فهناك التلفزيون ،والسينما ،وسلسلة عريضة من منتجات وسائل اإلعالم الجماهريية تحتفي هي ً أيضا بحقوق اإلنسان وكرامته .ربما ال تكون أعمالاً قابلة للتكريس يف التاريخ، لكنها ،رغم كل يشء ،بذرت أيديولوجيا إنسانية .إين أُدْهَ ش عندما أشاهد فلمًا لـ«سبيلربغ» (املخرج األمرييك ستيفن سبيلربغ
صاحب أفالم :اللون القرمزي .لينكولن .ميونخ .قائمة شندلر). ِّ ً وتكلف ماليني ثقافة راقية ،إنها أعمال رائجة جدًّا تلك ليست الدوالرات ل ُت ْن َتج ،لكنها تعمل عىل نشر األفكار اإلنسانية والرموز الديمقراطية ،وكذلك ال ِقيَم التي صيغت أصلاً يف ثقافة راقية وقد باتت يف حالة تواصل وتفاعل مع املجتمع.
أسهمَ مجتمع االستهالك ،مجتمع ُ الفرْجَ ة –إنهما يشريان إىل كثري من األشياء؛ لقد َ خلق الرغبة يف حياة أفضل، املعنى نفسه– يف ٍ وأتاح للناس املشاركة بآرائهم ،ودمَّر األيديولوجيات الكربى،
ومنح الشعب مزيدًا من االستقالل .غري أن هذا ليس كافيًا .إنّ
مجتمع ُ الفرْجَ ة ،الذي ي َِعد بامل َ َس َّرات ،ال يمكنه الوفاء بوعده .ومع العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
رفضه بقضه وقضيضه ككل .علينا امليض مع ما هو إيجابي يف هذا املجتمع –الحرية .إطالة العُ مْر .طرائق العيش -غري أننا نحتاج ً أيضا بمقدوره اإليفاء بطموحات الشعب وآماله .فالناس ليسوا مجرد
مستهلكني ،رغم أن املجتمع االستهاليك يتعامل معهم كأنهم كذلك .ما الفارق بني املستهلك والفرد؟ الفرق كبري جدًّا .إننا بطرحنا
للمنظور اإلنساين ،وإرث الثقافة الراقية ،إنما نتوقع من الناس أن
يكونوا مبدعني ،وأن يبتكروا أشياء ،وأن يمتلكوا ِقيَمً ا .املجتمع
االستهاليك ال يزوِّدنا بذلك ،ولهذا فإننا نشاهد حركات متكاثرة
تعمل عىل الربهنة عن نفسها ،وعىل طرح األفكار واقرتاحها ،وعىل اإلتيان باألعمال .الناس بحاجة إىل توكيد ذواتهم.
نحن نرى ،بوساطة اإلنرتنت وأدوات التواصل الجديدة، تطورًا مذهلاً لدى الهواة من الشباب وهم ينجزون أعمالاً معينة،
يبدعون أشرطة فيديو ،وأفالمًا قصرية ،وموسيقا .ليست جميع هذه امل ُ ْخ َرجات عبقريّة ،غري أن هذا النشاط يُرينا أنّ مقولة نيتشه «إرادة السلطة» ُترتجم اليوم بإرادة اإلبداع .هذه اإلرادة لم يعمل
مجتمع االستهالك عىل تدمريها ،كما لم يعمل عىل تحويل الناس إىل مجرد كينونة ال تريد سوى العالمات التجارية .فالناس يواصلون املطالبة بأن يجعلوا من حيواتهم شي ًئا مهمًّا .هذا ما يجب
عىل التعليم عمله :إتاحة األدوات للناس ،أينما كانوا؛ ليخلقوا من ً حالة مهمة من دون االكتفاء بكونهم مجرد مستهلكني حياتهم
للعالمات التجارية الشائعة وصراعات املوضة .ثمّة َعم ٌ َل كبري يقع إنجازه عىل عاتقنا.
لقد َ قلل نظام الرأسمالية العاملي من مجال املناورةَ ، وضي ََّق من
الزمن املمنوح للفعل ،لكننا نستطيع عمل أمور عدة يف الثقافة؛ وبإمكان التعليم أن يفعل ً أيضا .هذه واحدة من تحديات القرن
الحادي والعشرين الكبرية .لن يتشكل املجتمع عرب التكنولوجيا فقط؛ بل عرب الناس الذين يملكون الحَ صافة ورجاحة العقل فيما يتعلق بذواتهم ،والذين يملكون رغبات قوية .يجب عىل التعليم
مساعدة الناس عىل فعل ذلك .الثقافة الراقية واحدة من األدوات،
لكنها ليست األداة الوحيدة .علينا إعادة التفكري بالتعليم يف حقبة مجتمع مرتبك تائه اإلنرتنت .علينا التفكري يف طبيعة التعليم يف ٍ
لم يعد يملك املرجعيات السابقة .إنها مَهمة هائلة ،لكنها كفيلة بتصميم عالم الغد.
يوسا :أتفق معك تمامً ا .لقد أتاح املجتمع الصناعي الحديث، َ شروط العيش للفرد ومجتمع السوق ،ومجتمع البلدان املتقدمة،
َ السعادة التي يبحث نحو هائل .لكنه لم يجلب ،قط، اإلنساين عىل ٍ ّ عنها الناس لكونها تمثل مصريهم األخري .الناقص هو تحديدًا ما
يندرج تحت عنوان «الحياة الروحيّة الغنية» .لقد أتاح الدين هذه
لقطاع من املجتمع –القطاع الذي يشعر بأنّ وجوده املادي الحياة ٍ
جيليه ليبوفيتسكي وماريو فارغاس يوسا
االشتراك السنوي إن مجتمع الفُ ْر َجة ،الذي َي ِعد ليبوفيتسكيّ :
150ريالاً سعوديًّا لألفراد 250 ،ريالاً سعوديًّا للمؤسسات ،أو ما يعادلهما
س َّرات ،ال يمكنه الوفاء بوعده .ومع ذلك ،فإننا َ بالم َ
بالــدوالر األمـيـركــي خـــارج المملـكــة
ال نستطيع َش ْي َطنَة المجتمع االستهالكي ،وال
العربية السعودية.
ينبغي لنا رفضه بقضه وقضيضه ككل السعر اإلفرادي ٌ قطاع ال ُمحاط باإليمان -لكن يتبقى قطاع عريض لم يكن للدين وجو ٌد فيه،
معنى للدين يف أوساطه ،وهناك بالضبط ما يجب عىل الثقافة أن تلعب دورًا أساس ًّيا فيه.
السعــوديـــة 10ريـــاالت ،اإلمــــارات 10دراهم ،قطر 10رياالت ،البحرين فلسا ،مصر 4 دينار واحد ،األردن 750 ً جنيهات ،المغرب 10دراهم.
أوافق .يجب عىل التعليم أن يكون واحدًا من األدوات الرئيسية التي
بوساطتها يمكن للمجتمع الحديث أن يمأل هذا الخواء الروحي .ولكن ،إذا ما كان هناك ما يتعرض لألزمات يف املجتمع الحديث؛ فهو التعليم عىل وجه
الخصوص .ليس هناك من مجتمع واحد يف العالم ال يعكس نظامه التعليمي لسبب بسيط ّ يتمثل يف أننا ال نعرف ما هو النظام األفضل أزمات عميقة ،وذلك ٍ
واألكرث قابلية لتلبية الحاجات ،النظام الذي يلبّي ،من جهة ،حاجات املجتمع
من تقنيني ومحرتفني ،ومن جهة أخرى ،يمأل الثغرات الكائنة يف العالم ً أزمة؛ ألنه عجز عن إيجاد الروحي لهذا املجتمع الحديث .يعيش التعليم
معادلة يمكن لها أن تجمع هذين البُعدين معً ا .هناك تحديدًا يجب أن نعمل ً حديثا قادرًا عىل إشباع الحاجات املاديّة للرجال والنساء مثلما إذا أردنا مجتمعً ا
أسايس بكل تأكيد ،ولكن إىل جانب التعليم يمأل العالم الروحي .التعليم أم ٌر ٌّ أيضا ،وهذا ّ فإنّ العائلة والفرد أساسيان ً كله يقتيض وجود إجماع معينّ حني
تبدأ عملية تطوير الربامج التي سوف تحكم حياة مدارسنا ،وحياة مؤسساتنا وجامعاتنا .ث ّمة فوىض وارتباك غري مسبوقني يعرتيان هذه العملية ،ولكن ّ األقل والرتكيز عىل أن ضمن مجال التعليم ينبغي إذا ما توافر االهتمام عىل ً خطوة هائلة أن نكون مبدعني وفعّ الني ،عندها أعتقد أننا سنكون قد حققنا
إىل األمام .عىل أي حال ،ورغم أن تناقضاتنا تبدو عىل السطح عديدة؛ فإين أعتقد أنيّ وجيليه قد اتفقنا عىل ضرورة قراءة بروست ،وجويس ،ورامبو؛ وأنّ أفكار كل من كانط ،وبوبر ( كارل بوبر 1994 -1902م :فيلسوف نمساوي –
هنغاري ،ولد يف فيينا ،ودرّس كأستاذ يف جامعات بريطانية عدة .يُعترب أحد أكرب فالسفة العلوم يف القرن العشرين) ونيتشه تصلح لهذا اليوم والعصر، وقادرة عىل مساعدتنا يف تشكيل تلك الربامج التعليمية التي يعتمد عليها مجتمع املستقبلً ، أقل ً ّ إذا سوف يكون ّ وأقل خلوًا من السعادة. عنفا
الموزعون السعودية ،الشركة الوطنية الموحدة للتوزيع ،هاتف ،)٠١1(٤٨٧١٤١٤ :فاكس: ،)٠١1(٤٨٧١٤٦٠مصر ،مؤسسة توزيع األهرام ،شارع الجالء ،هاتف: ،٣٣٩١٠٩٥فاكس ٣٣٩١٠٩٦ :ـ ،..٢٠٢ قطـر ،دار الشرق للطباعة والنشر والتوزيع ،ص.ب ،٣٤٨٨هاتف: ،٤٦٦١٢٨٢فاكس ٤٦٦١٨٦٥ :ـ ،٠٠٩٧٤ األردن ،شركة وكالة التوزيع األردنية، ص.ب ،٣٧٥هاتف ،٤٦٣٠١٩١ :فاكس: ٤٦٣٥١٥٢ـ ٦ـ ،٠٠٩٦٢البحرين ،مؤسســــة الهالل لتوزيع الصحف ،ص.ب ٢٢٤ هاتف ،٢٩٤٠٠٠ :فاكس ٥٣١٢٨١ :ـ ،٠٠٩٧٣اإلمارات العربية المتحدة، مكتبة دار الحكمة ص.ب ٢٠٠٧هاتف: ،٤٩٣٥٦٦٢فاكس ٢٦٦٩٨٢٧ :ـ ٤ـ ،٠٠٩٧١ المغرب ،الشركة الشريفية لتوزيع الصحف فاكس ٢٢٤٠٤٠٣١/٣٢ :ـ ،٠٠٢١٢ هاتف.٢٢٤٠٠٢٢٣ :
147
مقال
أثر الفلسفة اليونانية في الفكر العربي في العصر الوسيط كان للعرب قبيل اإلسالم لغة ناضجة ،لكن كانت معارفهم وفنونهم وصفية في األغلب ،وتخلو من التأمل والتفلسف .فلم ُت ِتح البيئة الطبيعية لغالبية مجتمعات الجزيرة العربية مجالاً لثبات االستقرار المدني «المتواصل عبر أجيال» وال ثبات الوحدة السياسية ،ومن ثم لم تتراكم
المعارف الفكرية بما يسمح لتكوّن شكل من أشكال التفكير الفلسفي.
عبدالرحمن الحبيب كاتب سعودي
وحتى في الحواضر القليلة الثابتة عبر أجيال ،فإنها لم تتعرف
الفلسفة؛ ألنها كانت جزرًا صغيرة مستقرة في بحر مجتمعات الترحال،
وكانت ثقافتها السائدة من ثقافة تلك المجتمعات المحيطة .وعدا
الحكمة الموجودة في األمثال والعبارات والخطب والشعر والقصص، فإن العقل السائد آنئذ كان يتحكم به التصور الخرافي للكون والحياة، إضافة لوجود السحر والكهانة والعرافة والتنجيم .وعلى الرغم من ذلك
148
فالجزيرة العربية شهدت تالقيًا بين أديان وحضارات مختلفة؛ فقد كانت
مواسم الحج وأسواق العرب كسوق عكاظ تجمعً ا بين العرب وغيرهم من الشعوب التي تقطن المنطقة المحيطة بشبه الجزيرة العربية أو قريبة
منها كالسريان والفرس والهنود واليونان. وإذا أخذنا البعد الفلسفي في الدين ،سنجد أن قليلاً من العرب كانوا إما يهودًا أو نصارى ،والغالبية العظمى كانوا وثنيين دهريين .هذه الديانة
الوثنية تتزامن مع ازدهار مذهب الدهرية الفارسي في عهد يزدجر الثاني
«ت457م» ،وهذا قد يشير إلى مدى تأثر العرب بفلسفة المذهب الفارسي؛ فالدهرية الفارسية تجعل الزمان هو المبدأ األسمى ،وترى أنه ال نهاية له،
وتعده عين القدر أو الفلك األعظم .وهذا المبدأ نال إعجاب أهل النظر ً مكانا بار ًزا في األدب الفارسي وفي اآلراء الشعبية «دي بور». الفلسفي ،وتبوأ العصر اإلسالمي األول ..البوادر األولى
مع اإلسالم تشكلت الوحدة السياسية للعرب ،حتى تمددت خارج
حدودها مشكلة الدولة اإلسالمية ،التي كانت لغتها الدينية والسياسية هي اللغة العربية ،لكن مع زيادة تمدد الدولة اإلسالمية واختالط المسلمين
بحضارات وأديان مختلفة ظهرت الحاجة لتعريب الدواوين التي بدأت منذ مطلع الخالفة األموية ،وكانت تكتب أصلاً بالفارسية واليونانية «ماجد فخري».
في تلك األثناء ،كانت الدراسات الفلسفية والمنطقية مستمرة في
مراكز الدراسات اليونانية من دون انقطاع حتى بعد الفتح اإلسالمي لسوريا والعراق .وظهر عدد من الشراح الذين ينتمون إلى فرقتي اليعقوبية
العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
والنسطورية المنشقة ،أمثال سويرس سيبوخت «ت 47هـ» وأثناسيوس البلدي «ت 77هـ» ويعقوب الرهاوي «ت 90هـ» .أعقب
ذلك وتزامن معه بوادر تعريب المصنفات الطبية والكيميائية والفلكية .في عهد مروان بن الحكم «ت 66هـ» ترجم أهرن اليعقوبي ً ملخصا طبيًّا مشهورًا في األوساط السريانية للطبيب اليهودي ماسرجويه .كما ينسب إلى األمير األموي خالد بن يزيد «ت 85هـ»)
االشتغال بالكيمياء والتشجيع على ترجمتها من اليونانية إلى العربية .كانت الترجمة آنذاك مشوشة من ناحية التعريب أو من
ناحية نحل األعمال لغير أصحابها .فمن ذلك أن العرب وقتئذ يحسبون أن تاريخ اليونان لم يبدأ إال مع اإلسكندر األكبر ،وقد عرفوا شي ًئا من أطوار الفلسفة وكتب أرسطو لكنها معرفة مشوبة بأساطير كثيرة «دي بور». العصر العباسي األول ..ممهدات الفلسفة
مع زيادة اختالط المسلمين بحضارات وأديان وأعراق مختلفة ،وبأشكال مدنية جديدة وعادات وأفكار وفلسفات وأنماط
معيشية متنوعة وجديدة عليهم ،ال يكفي معها مجرد الرجوع لنص القرآن الكريم والسنة الشريفة ،كان ال بد من الرأي المستند
على القياس والتأويل واالجتهاد .وكان ال بد من وضع مناهج ومقاييس لهذه االستنادات وقواعد للرجوع للقرآن والسنة .ومن
هنا ظهر الفقه والفقهاء وفرقهم مثل أهل الرأي وإمامهم أبو حنيفة النعمان ،وأهل الحديث كالشافعي .وألن القرآن الكريم دعا الناس للتأمل والتبصر والتعقل ،فإن ذلك أثر في نشوء الفرق اإلسالمية والجدل العقلي وعلم الكالم .كان هدف علم الكالم
الدفاع عن العقائد الدينية باألدلة العقلية مقابل األدلة النقلية. على رغم أن القياس وهو من أشكال المنطق ظهر قبل التأثر بالمنطق الفلسفي اليوناني ،لكن مع التوسع فيه واتخاذه أصلاً
من أصول األحكام ومصدرًا للتشريع ،كان ال بد من دراسة المنطق اليوناني والتأثر به بطريقة مباشرة أو غير مباشرة .والفقه بحد
ذاته -وليس القياس فقط -هو علم نظري فكري بشري وإن كان يستند على نص سماوي؛ لذا ال بد له من التفلسف ،وبخاصة في
المنطق االستنباطي وليس فقط االستقرائي.
كانت تلك ممهدات لدخول الفلسفة اليونانية للفكر اإلسالمي والعقل العربي .فاآلراء الفقهية اضطرت للدخول في فلسفة
اللغة لتفسير وتأويل وشرح النص المقدس ،ثم دخلت في تفرعات فلسفية أخرى .ظهرت بوادر الترجمات الفلسفية في مطلع الخالفة العباسية مثل ما ينسب إلى عبدالله بن المقفع بتعريبه لكتب المقوالت والعبارة والبرهان ألرسطو .كان ذلك في عهد
أبي جعفر المنصور «ت 159هـ» الذي تصفه المصادر القديمة ببراعته في الفقه وكلفه بالفلسفة ،ورعايته لترجمة كتب الطب والهندسة والفلك «تاريخ مختصر الدول البن العربي» .ومن الكتب التي ترجمت في عهده رسائل ألرسطو ،وكتاب «المجسطي»
في الفلك« ،وأصول الهندسة» إلقليدس «مروج الذهب للمسعودي» .وقد أضاف هارون الرشيد مزيدً ا من الدعم للتعريب،
واعتنى بالثقافة والعلم وترجمة األعمال اليونانية ،وعلى وجه الخصوص في الطب والفلك والتنجيم. من الترجمة إلى الشرح والتأسيس
ظلت الترجمات مشتتة حتى عهد المأمون حين بلغ االهتمام بالفلسفة ذروته بإنشاء «بيت الحكمة» في بغداد سنة 217هـ. ً إضافة إلى ترجمة األعمال ترجمت األعمال الفلسفية اليونانية إلى السريانية والعربية ،فترجمت أهم أعمال أفالطون وأرسطو، األخرى؛ مثل :كتاب البرهان ،وكتاب األخالق لغالينوس .في تلك الحقبة نقل الجزء األكبر من التراث اليوناني في الفلسفة والطب والعلوم إما عن اليونانية مباشرة أو عن السريانية .لم تنحصر الترجمة في التراث اليوناني ،بل امتدت إلى غيره كالتراث
الفارسي والهندي ،وتركزت في مجالي الطب والمعتقدات الدينية ،لكن التعريب كان في توجهه األكبر نحو اإلرث اليوناني.
تطورت الحالة الفلسفية آنذاك من تراجم الفلسفة اليونانية ،إلى الشرح ،مع بعض االبتكارات الفلسفية ،حيث مهد لها
الكندي «ت 260هـ» الذي يتفق أغلب الدارسين أن بداية التأليف الفلسفي العربي بالمعنى األصيل للفلسفة ظهر معه .وتعد
الفلسفة الرياضية للكندي أهم ما في نتاجه الفلسفي ،وفيها تمتزج األفالطونية الجديدة بالفيثاغورية الجديدة «دي بور» .مثله األعلى سقراط ،مع محاولة التوفيق بينه وبين أرسطو الذي يجله كثي ًرا على طريقة األفالطونية الجديدة .أما الرازي «298هـ» فيعد حامل لواء األفالطونية في تاريخ الفلسفة العربية «ماجد فخري» .أكبر أعالم الفلسفة في الحضارة اإلسالمية وأعالهم شأوًا هو
الفارابي «ت 339هـ» أول واضع ألسس األفالطونية المحدثة في صيغتها العربية ،وأول مفكر عربي عمل على وضع نظام فلسفي متكامل .إضافة إلى شرحه فلسفة أفالطون ،فقد درس الفارابي مؤلفات أرسطو ورتبها وفسرها وشرحهاُ ، فل ِّقب المعلم الثاني. وعلى رغم ذلك فإن األفالطونية المحدثة اقترنت أكثر بابن سينا «ت 428هـ» في كل من المشرق والمغرب العربي ،أما كتابه في الطب «القانون» فله تأثير هائل عالميًّا جعل منه األشهر على النطاق العالمي.
149
مقال
انتقال الشعلة إلى األندلس
في الجانب الغربي من العالم العربي ظهرت في المغرب العربي واألندلس أعمال فلسفية كان من أوائل أعالمها ابن باجة
«533هـ» وله مصنفات في الفلسفة والطب ،واعتنى بشرح عدد من مؤلفات أرسطو .وكان العلم الثاني ابن طفيل «ت 580هـ» الذي لم يصلنا من مؤلفاته غير «حي بن يقظان» .أما العلم األكبر ،وربما في الفلسفة العربية كلها ،فهو ابن رشد «595هـ» الذي شرح
أغلب كتب أرسطو بطريقة تضاهي جميع من سبقه ،إضافة إلى شرحه جمهورية أفالطون؛ لذا لقب بالشارح .وكان البن رشد كثير من المؤلفات الفلسفية ،وبخاصة في التوفيق بين الفلسفة والشريعة. تأثير الفلسفة اليونانية في الفلسفة العربية
أهم عامل مؤثر في الفلسفة العربية هو الدين اإلسالمي :القرآن الكريم ،والحديث الشريف ،والفقه ،وعلم الكالم ،والتأويل،
وأهل الحديث «أهل الظاهر» وأهل الرأي واالجتهاد «المدلول الباطن» .بعد هذا العامل تأتي الفلسفة اليونانية .المصدر الرئيس
للفلسفة اليونانية كان عبر ترجمة التراث اليوناني :المنطق ،والطبيعيات ،واإللهيات ،واألخالق ،والرياضيات ،و الفلك ،والطب. ً أستاذا للعرب في كان للفلسفة اليونانية تأثير هائل في الفلسفة العربية ال سيما في الطبيعيات والرياضيات ..وإذا كان فيثاغورس الرياضيات كما يقول دي بور ،فإن أرسطو أستاذهم في المنطق. وكان للفلسفة اليونانية ً أيضا تأثير في غير العلوم الطبيعية والرياضيات «الفقه ،والكالم ،والنحو،والتاريخ ،واألدب». لاً فمثلاً الخطابة ألرسطو والمنطق اليوناني عمومً ا أثرا في النحو العربي والبالغة بشكل واضح ،فالجاحظ ،مث ،أدخل أشكال القياس المنطقية في أساليب البالغة .وقد كان التأثر العربي إيجابيًّا متفاعلاً ؛ إذ أضاف العرب إليها إضافات ضخمة أصيلة
ومبتكرة ،ومن ثم أسسوا منها علومهم الخاصة ،مثل فلسفة أساس اللغة بين الفطري والوضعي ،والقياس واالستنباط في علم اللغة ،وفلسفة البالغة بين المبنى والمعنى ،وتقسيم أنواع الجمل «خمسة أو ثمانية أو تسعة» أو أقسام الكالم «اسم، وفعل ،وحرف» .ومن ذلك ما أطلق على نحاة البصرة «أهل المنطق»؛ ألنهم يجعلون للقياس ً شأنا كبي ًرا في األحكام المتعلقة
150
بأمور اللغة تميي ًزا لهم من نحاة الكوفة الذين ترخصوا في أمور كثيرة تشذ عن القياس .وقد يكون مرد ذلك أن تأثير المذاهب
الفلسفية ظهر في البصرة قبل غيرها .ومن فروع اللغة ظهر علم العروض للفراهيدي ،وعده بعضهم علمً ا طبيعيًّا ومن أقسام
الفلسفة؛ ألن الوزن اإليقاعي أمر طبيعي فطري مشترك بين البشر؛ فهو حالة جوهرية ،وليس حالة اجتماعية خاصة بشعب
معين «دي بور».
أثرت الترجمات في حقل التصنيف العلمي وبزوغ روح علمية جديدة في األوساط الفكرية العربية ،فقد أدخلت الترجمات األرسطية منهج «المقالة» أو أسلوبها الذي يتبع ًّ خطا موضوعيًّا ال يحيد عنه ،ويقتصر على موضوع معين للمقال ،واإلحاطة به،
واالسترشاد باألعمال السابقة وتمحيصها والتعليق عليها .وكانت الحال قبل ذلك أن الموضوعات التي تدور عليها العلوم الجزئية. وكان يغلب عليها االستطراد او االسترسال األدبي .حيث ينتقل المؤلف من خبر إلى آخر كما لدى الجاحظ في أوضح صورة.
وإذا أردنا أن نعطي طابعً ا عامًّ ا للفلسفة العربية؛ ففي األغلب سنجد أنها تأثرت كثي ًرا باألفالطونية المحدثة .االحتكاك
بالشعوب األخرى؛ كالسريان ،والفرس ،واليونان ،والهنود ،مزج الفكر الشرقي الروحاني «ديني وصوفي» مع الفكر اليوناني الفلسفي .ومن هنا نالت األفالطونية المحدثة التي مزجت بين الروح الشرقية والروح اليونانية ،نالت حظوة كبرى وقبولاً واسعً ا لدى الفالسفة العرب في فكر القرون الوسطى؛ إذ حاول أغلبهم التوفيق بين الفلسفة اليونانية والعقيدة اإلسالمية أو الشريعة اإلسالمية.
الموقف العربي من الفلسفة اليونانية
يمكن أن نجمل موقف المفكرين العرب من فالسفة وفقهاء ومؤرخين وأدباء تجاه الفلسفة اليونانية إلى ثالثة مواقف.
األول موقف جمهور الفالسفة العرب المؤيد والمرحب بالفلسفة اليونانية ،وبعضهم يعدها ضرورة عقالنية للتعامل مع النص
الديني ،إضافة إلى التعامل مع الحياة الدنيوية .الثاني نقيضه تمامً ا ،ويرى أن ال حاجة لهذه الفلسفة بالجملة ،بل هي مفسدة
للدين والعقل ،ومن أشهر القائلين بذلك ابن تيمية وابن قيم الجوزية .الموقف الثالث ،يرى التمييز بين أجزاء هذه الفلسفة؛ فالمنطقيات والطبيعيات «فيزياء ،وطب ،وكيمياء ،وزراعة» نافعة ،بل يجب تعلمها عند بضعهم؛ مثل :الغزالي وابن حزم األندلسي ،أو ال مانع منها مثل ابن خلدون؛ أما اإللهيات «الماورائيات» واألخالقيات فهي ال شك في فسادها وبطالنها ووجوب
منعها .ولعل هذا الموقف يمثل أغلبية السياق في الفكر العربي من مفكرين وفقهاء وأدباء وغيرهم. العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
نصوص
الذين غامروا بالضحك االبتسام؟ كم إهانة وشتيمة ظلت ملتصقة بهم لم تمحها السنوات
إبراهيم غرايبة كاتب أردني
الخمسون بسبب االبتسام؟ اليوم ،ما يحريه ويدعوه إىل التوقف طويلاً للتأمل والتفسري ،كيف كان األساتذة «يسلخون» التالميذ
ال يزال عيسو غري قادر عىل فهم درس الولد الشجاع يف
بسبب االبتسام ،ثم يقرؤون لهم درس القراءة ،ويشرحون لهم
متواصلة ،لقد استوعب هيغل وبرتراند راسل وكارل ماركس لكنه ما
نفسه ملح حسن يضحك ،وكان املوقف يسمح لألوالد بأن يتهامسوا ويبتسموا ،فقد كان منشغلاً عن التالميذ ومكبًّا يقرأ أو يكتب شي ًئا
كتاب القراءة حتى بعد خمسني عامً ا أعقبت الدرس؛ كلها قراءة
زال يفكر فيما تعلمه ،وما زال يتذكره عن أطفال القرية الذين صاروا
يلعبون يف الحقول بعيدًا عن الطريق« .األطفال يلعبون» ..صورة مدهشة لم يستوعبها عيسو ،كيف يكون اللعب متقبلاً وأم ًرا جيدًا كما يبدو يف الكتاب ،ولكنه كان لدى املعلمني الذين يعلمون الدرس نفسه عملاً بشعً ا ،يتلقى األطفال بسببه عقوبات قاسية! واألهل ً أيضا
بصدق وإخالص فائضني عن الولد الشجاع الباسم! هو األستاذ
(يظن عيسو أنه كان يعد خطته املنهجية :صفحات مسطرة طوليًّا وعموديًّا ،تشرح األهداف والوسائل للدروس ،وما سيفعله األستاذ
لتحقيق األهداف .قرأها كلها مرة يف غفلة من األستاذ) .لكنه رفع رأسه
فجأة ورأى حسن يضحك« ،ملاذا تضحك يا ابن الـ ...تعال هنا منشان
كانوا يعتربونه جريمة! ..كيف كان األستاذ يعلمهم الدرس الذي يثني
أسلخ بدنك» هو لم يضحك ،ولكنه ابتسم .كان هناك أوالد كثريون وأساتذة ً أيضا اسمهم بسام وباسم ،لكنه لم يعرف معناها ...،لعلها
باحرتام؛ وألن اللعب كان مغويًا وال يمكن مقاومته فقد كان يلعب
باإلرهاب نفسه ضد من يقدر عليه كلما رآه يضحك ،ويصرخ فيه بكل
عىل اللعب أو يتقبله ،وهو يعاقبهم عىل الفعل نفسه؟ وبما أن عيسو كان يأخذ الكتاب بجدية ،ويتلقى من املعلم بقبول ،ويسمع ألهله
ويشعر يف الوقت نفسه بالخطيئة وتعذيب الضمري ،ظل اللعب
والضحك خطيئة يمارسها عندما ينىس أو يضعف أو يستدرج ،ثم
أشياء مثل فاكهة املانجا! وملا كرب عيسو صار بال إدراك واضح ،يقوم
ما يقدر عليه من غضب :الضحك بدون سبب قلة أدب. تنازل عيسو عن كربيائه ،وهمس سائلاً الصديق الذي كان ً ضاحكا .وازدادت حريته؛ ملاذا يجلس بجواره ما معنى باسمً ا؟ قال له:
يحاسب نفسه عليها بقسوة! ويا للخسارة ،فعندما اكتشف املعلمون واألهل ،واكتشف عيسو ً أيضا أن اللعب واملرح يشء إيجابي وجميل،
يشجعنا الكتاب عىل االبتسام؟ «حتى عندما كربنا قليلاً وقرأنا قصيدة
التالميذ الذين غامروا باالبتسام ظلت مغامرتهم قصة تروى عىل
بقيا (االبتسام والتفاؤل) ممارسات جرمية ،نمارسها بالسر ،ونضحّ ي
«الولد الشجاع» .جاء الولد ،ووقف باسمً ا
يف حصة الرياضة يلعب األطفال؛ يصبح اللعب واجبًا قاسيًا مثل
كان قد فات األوان!
مدار العقود ،ولم يكن للمصري الذي واجهوه عالقة بدرس أمام الطبيب ،وقال عنه الطبيب :هذا ولد شجاع .ظل عيسو حائ ًرا أمام كلمة «باسمً ا»؛ لم يعرف معناها .كتاب القراءة الذي قرأه كله مرات عدة يف أول يوم استلمه من املدرسة ،كما
قرأ كتب إخوانه الكبار يف اإلعدادية، وحفظ كثريًا من قصائدها وما زال
يحفظها حتى اليوم؛ ومجلة العربي
التي كان يقرؤها خلسة مغام ًرا بما
يمكن أن يتلقاه من عقاب ..كل ذلك لم
يسعفه يف معرفة معنى «باسمً ا» .كيف سيعرف كلمة غري مستخدمة؟ كم
جلدة
تلقى
التالميذ بسبب
إيليا أبو مايض «ابتسم» ،ومقالة أحمد أمني عن االبتسام والتفاؤل،
ألجلها بعقوبات يجب أن تكون رادعة».
حصة اإلمالء والعلوم ،ويتعرض عيسو للتوبيخ؛ ألنه يف امللعب مثل
«العمود» ،ال يضر وال ينفع .ولكنه تعلم فيما بعد ،بسبب فشله يف اللعب ،درسً ا جميلاً من أجمل ما َّ تعلم يف الحياة. ففي املدينة التي كان يدرس فيها يف الجامعة ،كانت ممارسة كرة
القدم فرض عني (تقريبًا) يف أيام العطل ويف الرحالت ..،كان يجلس
وحده والشباب يلعبون ،ويف إحدى املرات ،انخرط الشباب جميعهم
يف لعب الكرة ،وبقي عيسو وشادي ابن السنوات األربع جالسني وحدهما يتحدثان ،تعلم عيسو من شادي درسً ا مفيدًا وجميلاً يتذكره دائمً ا .فقد بدأ النهار يرحل .كانت الشمس تغرق يف البحر ،والقمر ّ يطل متسللاً من وراء الجبال .سأل عيسو شادي :ملاذا تغيب الشمس
يف الليل ويأيت القمر؟ قال :الشمس ال تسمح لها أمها بالبقاء حتى
الليل ،فتذهب إىل بيتها ،والقمر تسمح له أمه بالخروج يف الليل! وال يزال عيسو مدي ًنا لشادي بهذا التفسري الجميل والعميق لحركة الكون والليل والنهار.
151
إصدارات
الخطاب الديني في الفضائيات العربية
المؤلف:يحيى اليحياوي
الناشر :مكتبة مؤسسة مؤمنون بال حدود للدراسات واألبحاث
َّ تشكل؟ وما س ّر االنتقال من الدين إلى التدين؟ ما مكوّنات ما طبيعة التدين الجديد؟ كيف
التديّن المرتكز على الفرد؟ وكيف بدأت ظاهرة الدعاة الجدد الذين يروجون لثقافة دينية يلتقي حولها ّ كل األطياف االجتماعية ،الميسورة منها ،والمتواضعة اإلمكانيات ،والفقيرة على حدّ سواء؟ ما مدى نجاح تقديم الدين إعالميًّا ،بعدما كان مقتص ًرا على حلقات
المساجد واللقاءات التوجيهية في الحسينيات؟ هل انفجار أعداد الفضائيات الدينية في كرمز للهوية ،أو كملجأ لالحتماء من انفتاح العالم العربي ،نتيجة تنامي الحاجة إلى الدين ٍ المجال واسعً ا لعولمة تنقل السلع المادية والالمادية الغربية؟ تساؤالت كثيرة يطرحها هذا
الكتاب الصادر عن «مؤمنون بال حدود» لمؤلفه يحيى اليحياوي. أوربا والعالم العربي
المؤلف:بشارة خضر
الناشر :مركز الجزيرة للدراسات
تتبَّع الدكتور بشارة خضر في كتابه «أوربا والعالم العربي :رؤية نقدية للسياسات األوربية
من 1957إلى 2014م» ،الصادر عن مركز الجزيرة للدراسات ،تاريخ العالقات األورومتوسطية واألوروعربية خالل العقود الخمسة األخيرة؛ مُ تأمِّ لاً في مراحلها ،وناظ ًرا في تحوُّالتها المختلفة التي م َّرت بها العالقة بين الجماعة األوربية واالتحاد األوربي ،الذي َ خل َفها ،من
152
جهة ،والعالم العربي من جهة أخرى ،منذ إبرام معاهدة روما عام 1957م حتى اليوم. ويرى المؤلف أن العالقات بين االتحاد األوربي ومجلس التعاون الخليجي َّ ظلت من دون
مكانة مجلس التعاون الخليجي اإلستراتيجية ،وأهمية مصالح االتحاد األوربي واستثماراته ِّ المؤلف أن أوربا إذا لم تتمكن من أن تعتمد ،في طريقة تعاملها مع الخليج، المالية .ويتوقع ً موقفا أبرز ،فإنها س ُتخلي الساحة لالعبين اآلسيويين الجدد في القريب العاجل.
القطة ..التاريخ الطبيعي والثقافي
المؤلف :كاثرين روجرز
ترجمة :ريم أحمد الذوادي الناشر :مشروع كلمة -أبو ظبي
َ العالقة بين القطط والبشر ،التي تأرجحت بين التأليه واالحتقار من القرون الكتاب يتتبّع ُ ّ السابقة إلى يومنا هذا الذي تحتل فيه القطط مكانة عزيزة كرفيق أليف إلى جانب الكلب الوفي .يقدم هذا الكتاب معلومات مفيدة ودقيقة عن تاريخ القطط وصورها في األدب والفن. ّ
مخرج على الطريق
المؤلف :محمد خان
الناشر :دار الكتب
ً بعضا من ذكرياته وسيرته عبر مشوار حياته مع يستعيد المؤلف في هذا الكتاب
السينما والبشر .قدم على مدار صفحاته ،التي تقترب من ستمئة ورقة ،خالصته في مشواره ً ً وصناعة وإخراجً ا ،عبر عشرات المقاالت التي تناول فيها قضايا عشقا الطويل مع السينما، وموضوعات كلها عن السينما؛ همومها وأوجاعها ،وحنين السنوات البعيدة ،وذكريات لندن ،وغيرها مما سجله خالل أكثر من خمسة وعشرين عامً ا على صفحات الجرائد العربية
والمصرية والمواقع اإللكترونية. العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
نساء األسرة العلوية ودورهن في المجتمع المصري المؤلف :مروة علي
الناشر :دار الشروق
يقع الكتاب في خمسة فصول ،ومقدمة وضعها الدكتور حمادة إسماعيل .الفصل
األول يتناول «الحياة الخاصة» ألميرات أسرة محمد علي :الملكات ،واألميرات ،والنبيالت، والفصل الثاني عن الشؤون المالية واألوقاف واألراضي الزراعية ،والثالث يتحدّث عن األنشطة
الثقافية و َدوْر أميرات األسرة العلوية .والرابع مخصص لالهتمامات الصحية ،وفصل أخير عن القضايا والمنازعات والخالفات العائلية داخل األسرة.
إلى الفنار
المؤلف :فرجينيا وولف
الناشر :الهيئة العامة لقصور الثقافة
ُت َع ّد هذه الرواية إحدى عالمات الحداثة الروائية في القرن العشرين ومن أهم األعمال
التي أسست لتيار الوعي في الرواية العالمية .وهي رواية من دون أحداث خارج سياق وعالم
الداخلي النص المكتوب ذاته ،فال تعنيها أشياء هذا العالم بقدر ما يعنيها الغوص في العالم ّ للكاتبة؛ حيث العالم غير المعلن وغير المكتشف ،والكامن فيما وراء جذور عملية اإلدراك والوعي بالعالم.
حفيدات غريتا غاربو المؤلف :عائشة البصري الناشر :الدار المصرية اللبنانية بالقاهرة
في هذه الرواية تعتمد الكاتبة على ابتكار شخصية طبيب أمراض نفسية يدعى خوان
رودريغو ،يدّ عي أنه ابن الفنانة السويدية المشهورة غريتا غاربو ،وعبر تقنية سرد توثيقية تجيء أحداث الرواية التي ُتذيب المساحة الفاصلة بين الواقع والخيال.
هل يستطيع غير األوربي التفكير؟ المؤلف :حميد دباشي ترجمة :عماد األسعد الناشر :منشورات المتوسط
يصوغ هذا الكتاب منظورًا جديدًا في نظرية ما بعد االستعمار؛ إذ يتساءل حميد دباشي :ما الذي
يحدث للمفكرين الذين يشتغلون خارج الساللة الفلسفية األوربية؟ ومن خالل الخوض في هذه الجدلية ّ والموظفين والمزيّفين .ويدرس الطريقة التي يستمر اإلشكالية ،يناقش حميد دباشي وصفهم بالمهمّشين من خاللها النقاش الفكري في ترسيخ نظام كولونيالي للمعرفة ،مستندًا إلى سنوات من الدراسة والنشاط؛ ليقدم في كتابه هذا مجموعة من االستكشافات الفلسفية التي تثير الحفيظة والفرح على حد سواء.
رسائل إلى الوطن المؤلف :سالمة بنت سعيد (إميلي رويته) ترجمة :زاهر الهناني الناشر :منشورات الجمل
في الجزء الثاني من «مذكرات أميرة عربية» ،تتناول الرسائل تفاصيل حياة سالمة من
لحظة انطالق رحلتها من عدن إلى ألمانيا عبر البحر األحمر في منتصف الثمانينيات تقريبًا،
واستقرارها في العاصمة األلمانية برلين .وقد وجّ هت سالمة رسائلها إلى إحدى صديقاتها
ّ النص على الشكل المعهود في زنجبار ،وربما تكون شخصية وهمية على األرجح ،ولم يكن ً متدفقا من دون انقطاع. للرسائل ،فقد خال من ذكر اسم المرسل إليه والعنوان ..وكان سردًا
153
زمان الفيصل
154
العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
155
بورتريه
جمـاليـة البسيــط في تجـربة أيف بونفوا انت ُّ اعرَ ،و َي ِق ُ ُواج ُه َّ ف يف َطري ِقه. َك ِ الش ِ الل َغ ُة ،دا ِئمً ا ،هي ما ي ِ ُّ وإذا كان الشعراء ،كما قال الخليل بن أحمد الفراهيديُ ،هم ّف يف ُّ اع َر يتصر ُ «أُمراء الكالم» ،باملع َنى الذي يجعل َّ الل َغة، الش ِ وي َْفعَ ُل بها ما ي ََشاء ،بعكس غريه ِممَّ ن يكتبون ،يف غري ِّ الشعر،
َت ُّ الل َغة ،بمنزلة الحَ جَ ر َّ الث ِقيل الذي يعوق حُ رِّية فقد َب ِقي ِ َ ُّ َّ َ اعر ،ويضعُ ه يف مواجَ هَة ماضيها ،من جهة ،فاللغة لها الش ِ ُ تاريخهاَ ، ولها َذاك ُ رون َ ُ مض ْ ت ،بمع َنى أنَّ ِراتها التي تعو ُد إىل ق ٍ الل َغ َة مُ حَ مَّ َلة ْ ُّ ض عىل َّ بأل ِس َنة األسْ الف ،ما ي َْف ِر ُ اعر أن ي َْخرُج الش ِ َ كيف ينزاحُ عنه ،أو يعمل عىل من ماضيهم هذا ،أو يعرف، َّ اعرُ، توسيعه ،واال ْب ِتداع فيه ،من داخله .ومن جه ٍة أخرى ،الش ِ ِ
156
مهما كانت طبيعَ ة ال َّزمَ ن الذي َي ْن َتمِ ي إليه ،فهو مُ جْ برَ ٌ عىل َ آخر إىل َصرْح ِّ وإضافة حَ جَ ٍر َ الشعْ ِر هذا ،ح َّتى ال َّتف ُّردِ ،وال َّتمَ يُّز، ِّ ال يكون مُ ج َّر َد مُ َقلدٍ ،تابِ ٍع ،ي َْذ َه ُ كالم أسْ ال ِفه، ب إىل امل َ ْكرُور من ِ أو يكون ،باألحْ رَىَ ، عال ًة عليهم. ُّ الل َغة ،بهذا املعنى ،هي املحَ ّك ،أو هي األرْض التي ي َْخ َتبرِ
مساحات غري مَ حْ ر َ فيها َّ ُوثةٍ ،أ ْو َلم اعر ُق ْدر ََته عىل الحَ رْث يف ٍ الش ِ ُ ي َْس ِبق أن جرَى حَ رْثها من قبل. *** ُّ َ ُ َّ أتحدث عن حني أ ْك َت ِفيُ ،هنا ،بالحديث عن اللغةِ ،فأنا ُ الك ّل ِّ ُ َّ أتحد ُث عن ِشعْ ِريّة ال َّن ّ ص ،عن األ ُفق الجمايل الشعْ ِريّ .
ِّ الذي ي َْف َتحُ ُه ،أو ُي ِتيحُ ه ،هذا ال ّنص ،بما فيه من َدو ّ فالشعْ رُ، َال. َ ْسيع َد ّ فإضافةً واله َ ُ وت ْك ِثي ِفها. يتم َّي ُز ،من حيث َط ِبيعَ ُته ،بِ َتو ِ
إىل ِّ الصوَر ِّ دال اإليقاع ،هناك ُّ دال الخيال ،أو ُّ الشعرية ،وهو قارئِه، ما يحْ ُدث من خالل ِ املجازات التي ي َْقترَ ِحُ ها ال َّنص عىل ِ ْ للكلمات ،وإعا َدة بناء ْ ً فاظ ،وَف َق جديدا باعتبارها تركيبًا لألل ِ ِ
نظام ،هو نوع من «االنزياح» عن ُ مألوف الكالمَ ، وخر ٍْق له، ٍ الشعراء ،باعتبار ما ي ْب َتدِ ُع َ وهنا َتب ُْدو «إمارة» ُّ ُ وخروج عنهُ . ونه، الل َغةُّ ، يف ُّ بالل َغة ذاتِها ،أي بمفرداتها نفسها ،وبنحوهاً ، أيضا.
*** ُ َ ْ بقدر ما يَعْ ِنينا هذا يف العَ َربِية ،بقدر ما ن ِج ُده أحَ َد املشترَ َكات ِ الث َ يف َّ قافة َ الك ْو ِنيَة ،أو يف الو َْع ِي الجَ ماليِ ّ ،أو ما كان هربرت دِث َّ َّ «الشرْط الجَ ماليِ » ،الذي فيه ُيحْ ُ اعرُ، ماركوز سَ مَّ ا ُه بـ الش ِ العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
صالح بوسريف شاعر وكاتب مغربي
َّ خاصة ،ما يُمْ كِن ترجَ مَ ُته بـ «ال َّتب ِْعيد» .وهو ما كان جَ رَى بصورة النقاش الذي دار حول «عمود ِّ عندنا َع َربِيًّا ،يف ِّ الشعْ ر» ،أو َّ اع ِريِّني العربْ ، اع َتبرَ ُوها ضرورية الخِ صال التي كان بعض الش ِ ْ َ ري وَفق خصوصية «القصيدة لهذا العَ مُ ود ،ليستقيم ،وي َِس َ
خاصْ . ّ وأق ِصد ُهنا، العربية» ،يف بنائها ،ويف لغتها ،بشكل ْ َخ ْص َلة «املُقاربَة يف ال َّت ْشبيه» ،أي عدم اإلفراط يف َتجْ ِسري ال ُه َّو ِة
َبينْ امل ُ َشبَّة وامل ُ َشبَّه به ،أو َتبْدِ يد عالقة ال َّت ْشبيهَ ، وت ْص ِعي ِبها ،بهذا املعنى الذي ْ اقترَ َحَ ه ماركوزُ ،هنا. ***
إيف ْ اعر الفرنيسْ ، بال َّن َظر يف تجربة َّ بونفوَا الذي رحل يف الش ِ َ ُّ يوليو املايض ،فهو كان بني الشعراء القالئِل الذين حَ ر ُ َصوا عىل هذا «ال َّت ْقريب» ،فهو َلمْ ي َُكنْ ي ْن َت ِصر للخيال ْ راط ،أو بنوع من بإف ٍ ِ ُ نفسه ،أما ُل َغة شديدة الترَّ ْ كِيب، القارئ فيه د َج ي الذي ال َّتجْ ِسري َ ِ َ ْسيع األمْ ِك َنة َ َ أقول ال َّتعْ ِقيد .وليس مبدأ َ اءات» ح َّتى ال والف َض ِ «تو ِ لاَّ َ االخ ِتيار الجَ ماليِ ّ ،وهو ْ الذي نا َدى به ،إ تعبريًا عن ْ اختيار ال
ينفي ِشعْ ِرية ال َّن ّ ص ،أو ي ُْقصيها لِصالِح «البسيط» أو «الوا ِق ِع ّي». ُ َّ تتبدى عند بونفوا ،يف َت َصو ُِّره ال َّن َظريّ ،ويف فالكلمات ،كما ُ ُ َّ تجربته ِّ الشعرية ،هي أفق مف ُتوحٌ عىل اللاَّ مُ َتوَقع ،أي بِما َيحْ ُد ُث
ضافر َ ُ من َت ُ اآلن ذاتِه ،واملقصو ُدُ ،هنا ،الترَّ ْ كِيب ،ال وتنافر ،يف ِ الكلمات يف إطارها املُعْ جَ مِ ّي ِّ الصرْف. الذين َقرَؤوا بونفوا ،أو َك َتبُوا عن تجرب ِته ،يف حُ ُدود ما قرأتهَ ،لمْ ي ُْدر ُكوا أنَّ بُونفوا ،رغم انحيازه للبسيط ،أو َّ ُ اهر الظ ِ ِ
من األشياء التي تجري يف الطبيعة ،ويف الواقعَ ، يذه ُ ب إىل َف ْتح َ هايئْ ، هايئُ ،هنا، الكل ِ باع ِتبار اللاَّ ِن ّ ِمات عىل جُ رْحِ ها اللاَّ ِن ّ ِ الكلمات ،من دون دالالت هو َذلِك ال َّت َخ ُّلق الذي َيحْ ُد ُث يف ِ ِ
فالداللةَ ، ْ طاعَّ . تتش َّق ُق ،وتتوسَّ ع ،وهي بهذا ،بقدر ما ترت ِبط ان ِق ٍ ُ ضاع ُ ف باألشياء البسيطة اليومية التي نراها ،ونعرفها ،بقدر ما ُت ِ
أص َ ـ«الصو ُ واتها .ف َّ ْ ْت هو الكا ِئنُ الذي يُمْ كِن أنْ ُي ْز ِهرَ ،حَ َّتى فيما ُ َ ْ َّ َ َ َ َ ِّ ال يُوجَ د» .وأنا أشد ُد عىل هذه العبارة؛ ألنها ،تفتح مَ عْ ِرفتنا، وو َْعيَنا ِّ َ سَّ ، الشعْ ِريَّينْ ،عىل هذا َ واملتخ ِّفي ،الذي الد ِفني، املند ّ َت ْن َط ِوي عليه َ ِمات ،وهي يف و ْ َض ِعها ُ الكل ُ الغ ْفل .فـ «الحَ ْسمُ » عند بونفوا «للكلمات» ،لكنه الحَ ْسم الذي ي َ ُصيرِّ «ال َّز ْهر ََة الحَ ِقي ِقي ََّة… ُ اسْ ِتعار ًَة» ،أي َ َ ُ بالق ْدر الذي تتحرَّر فيه من حُ لمِ ها ،أو ت ْدخل فيه، لكن ،بِحُ ِّريَةْ ، وانطِ الق.
*** َ َ أعمالِه ِّ َ يف ْ الشعْ ِريَة ،كام َِل ًة ،ثمَّ ة ُصوَر ،أو تعْ بريات، َ َحر ُ ص بونفوا عىل وتراكِيب ،تتك َّر ُر بصورَة ال ِفتةٍ .و ُربَّما ،ي ِ ِّ ضارها ،وال َّت ْذكِري بِها باستمرار؛ َّ َ رات التي املؤش ى د ألنها إحْ ِ اسْ ِتحْ ِ ُتمَ ِّي ُز َفهْمَ ُه ِّ للشعر ،أو رؤ َي َته له ،من جهة ،وطريقة مُ مارَسَ ِته َن ِّصيًّا ،يف ْ ْ و«أصواتِه» ،أو مُ وسيقاه ،من االش ِتغال عىل ُصو َِره، رات ،أو التعبريات «الينابيع األ ْكثرَ جهة أخرى .وبني هذه امل ُ ِّ ؤش ِ َّ ي ََق َظ ًة»« ،ال َّنبْع الحَ ّي ً «الثمَ رَة أبدا» ،أو «ال َّت َد ُّفق األبدي»،
اللاَّ مُ ْن َت ِهيَة». ِّ الس ُ ِّ التعبريات ،يرتبط، يص ،أو الشعْ ِري ،لهذه ِ ياق ال َّن ّ َ ْ َّ الداليل الذي يتوخى بونفوا فضحَ ه يف تجربتهَ . باألفق َّ عند ُه، «ع ْو َدة» لجَ و َْهر مَ ْنسيِ ٍّ ،أو ل َ دا ِئمً اُ ،هناك َ ِضرورة ي ََق َظةٍ ،يف َلحْ َظة َ من َّ عالقة َ الكلِمات بعضها ببعض ،وهي حظات ،يف ال َّن َظر إىل الل ِ َ تتجا َو ُر وتتحاوَر ،أو ت َ تصا َدى ،وتتجاوب فيما بينها ،ولو بنوع من ال َّت ُ َ ُ ْ ِّ ِّ نافر ،لك َّنها ،يف النهايَة ،تؤدي إىل اإلشراق ،أو إىل ُ الخروج من َلي ِْل املع َنى إىل نهاره .هذا ال َّت َخ ِّفي ،الذي هو ُّ والظهور ،أو ما كان كمال ُورات ال َّت َك ُّشف أحد َضر ِ ليِّ أبو دِيب سَ مَّ ا ُه بـ «جدلية الخفاء وال َّتج ». يقول بونفوا ،يف هذا املعنى:
«أسْ مَ ُع َكلِمَ ًة ،أُ ْد ِنيها ِمنْ أُ ْخرَى، ُ ظان هذا ال َّنا ِئمُ و ََهذِ ه ال َّنا ِئمَ ة ي َْس َت ْي ِق ِ َ ور َّ س َ س أ ْيدِ يِهما…» ت تتالمَ ُ الخا ِف ِ الشمْ ِ فيِ ُن ِ أخرَىُ ،تعا ِن ُقهاَ ، ي ٌَد ُتصافِحُ ْ وت ْن َف ِتحان ،معً ا ،يف مِساحَ ة للكلمات أن َ تتآل َ ف، س الذي ُي ِتيح هذا ال َّت َك ُّشف املُيضء .ال َّتالمُ ُ ِ َ َ َّ ْ ري املعْ َنى .فبتوسيع اللفظة ،يف عالق ِتها تتزاوَجَ ِ ،ل ُت ْفضيِ إىل َت ْك ِث ِ ْ زاوجُ ها بها ،أو معها ،فنحنُ ُنحْ ُ دِث بغريها من األلفاظ التي ُن ِ َ ً ُّ َ ْداع جديدة ،وهو ما ُك ْن ُ ت سَ مَّ ْي ُته يف اللغ ِة دينا ِميَة ،أو حَ َر ِكيَة إب ٍ ُ ص .وبونفوا ،حني يضع ِّ أف ًقا ،يف شعرية ال َّن ّ الشعْ رَ ،يف مواجَ هَة
الوا ِقع ،فهو ،يف حقيقة األمْ ِر ،ي َ نفسه ،أي يف َضعُ ه يف مواجَ هَة ِ َ مواجَ هَة وُجُ و ِده ،باعتبار ِّ ب الوُجود، الشعٌ ر ،هو وُجُ ود يف ق ْل ِ َ َ ب الواقع ،وقد كانَ َّ أك َد عىل هذا املعنى ،حني رأى يف وواقع يف ق ْل ِ ِّ الشعْ رَ ،توا ُزناً يف العالقة بني ْ سان ووُجو ِده .من ُهنا ،نفهَم اإلن ِ َ َ معنى تأكيدِ ه عىل ضرُورة أن « َيبْقى هذا العالم» ،وي َْس َتمِ رّ ،أمام ما َيحْ دِ ق به من ْ طار. أخ ٍ ***
ُص ِّد ُر به بونفوا بعض أعمالِه ِّ ما كان ي َ الشعرية من مقاطع َ مأخوذة من نصوص ،أو كتابات مسرحية ،كان ذا داللةٍ ،يف
157
بورتريه
َ عالق ِته بهذا العَ مَ ل كا ِملاً .ويب ُْدو يل أنَّ بونفوا كان مشغولاً بكتابة ّص ِّ «العَ مَ ل ِّ الشعْ ِري» L’oeuvre poétiqueال النـ ّ الشعري ،أو
ْ واالن ِب َثاق ،أو «الخالص» أو َيحْ ُد ُث الوال َدة، بهذا ال ِفعْ لَ ،تحْ ُد ُث ِ ْ الش ،أو «الهالك». االنهيار ،وال َّت يِ ْ ْ َ عند بونفوا ،يف لحظة الربزخ ،بني االث َنينْ ،يف هذا املفرق
يمكن تفادِي َ الق ْصد من وُجود هذه العبارة يف َعمَ ٍل ِشعْ ِري َ َّس للحَ جَ ر ،ليس حَ جَ ر أوس بن حَ جَ ر ،الذي تمَ َّنى أن يكون مُ كر ٍ َ َ َ َ ترَ ْ َّ الغياب ،بل إنَّ الف َتى حَ جَ رًا ،حتى ال يَخ ِقه املوْت ،أو َيجْ ِرفه ِ
وباخ ِتفاء ال َّنهار ،بنوع من ال َّت ُ ْ عاقب والتواليِ وال َّتبا ُدلَ .ف َكما يخرُجُ الليل من ال َّنهار ،ي َْخرُجُ ال َّنهار من الليل ،وال أحد منها ي َْس َت ِب ُّد
ما ُنترَ ِْجمُ ه نحن يف العربية بـ «القصيدة». يف تصدير «حَ جَ ر مَ ْك ُتوب» ،نقرأ هذه العبارة ْ «أن َ ت َت ْل َت ِقي ْ ْ األشيَا َء ال َول َ ِيد َة» [حكاية شتاء] .ال األشيا َء امل َِّي َت َة ،وأنا ْأل َت ِقي
الحَ جَ رُ ،هنا ،هو حَ جَ ر َ ياب ،ي َُق ُ وله ،كما بأث ٍر ،حَ جَ ٌر ي يَِش ِ بالغ ِ أصمّ ْ ، ي يَِش بالعُ بور ،فهو َأث ٌر بعد َعينْ ٍ ،وليس حَ جَ رًا َ ملمُ ومً ا عىل راره؛ ما يعنيَّ ،أننا يف هذا ِّ السياق ،ويف عالقته بالنصوص أسْ ِ ْ َ َّ التي يف العمل ،أو املقاطع ،باألحرى ،ووَفق الت ْصدِ ير ،الذي ٌ وينبوع ،ال ي َْف َتأ يُجَ ِّدد هو َع َتبَة َن َّصية ،فثمَّ ة َت َخ ُّلق ،ووالدة، َ الحياة ،مثلما َت َتجَ َّد ُد َّ الشمْ س ،أو كما قال هرياقليط ،فيلسوف
س التي نراها اليوم ،ليست هي َّ الصيرْ ُورَة َّ َّ نفسها «الشمْ ُ الشمْ س ُ َ نفسه الذي يُعَ برِّ عنه يف قولِه البارحَ ة» ،وهو املعْ نى ُ التي رأيْناها ِ َّ الشائع «ال يُمْ ِك ُنك أن َت ْسبَحَ يف [ماءِ ] ال َّنهْر مَ ر ََّتينْ ِ ». ***
158
ثمَّ ة َخ َطرٌ ،كما يقول جان ستاروبنسيك ،يف تأرْجُ ح األشياء بني املَوْت والحَ ياةَِ . ِّت ،فإمَّ ا الخ َطر الذي هو ُخروج الحَ ّي من املَي ِ
ُ الكلمات ،كما تتب َّدى عند بونفوا ،هي الالمت ََوقَّ ع ،أي ِبما ُوح على ُأفُ ق مفت ٌ ُ
اآلن ذاتِه، َي ْح ُد ُث من تَضافُ ر وتَنافُ ر ،في ِ هنا ،الت َّْركِيب ،ال الكلمات والمقصودُ ، ُ
الص ْرف ي ِّ الم ْع َج ِم ّ في إطارها ُ
ب والحَ ِرجَ ،تحْ ُدث الوالدة؛ ألنَّ َلحْ َظة ُ َّ الغروب ،لي َْست الصعْ ِ ِ ْان ً سائدا ،بل َّإنها إيذانٌ ُ ً بظهور الليل، بثاقا ل ِل َّنهار الذي كان
ُ تذهب إليه تجربة بونفوا، باآلخر ،و َيجْ ثم عليه .وهذا هو ما يف رؤيتها ِّ الشعْ ِريَة التي تتأبَّى عىل املفاهيم ،وعىل الحسابات
الع ْلمِ يَة ،ذات َّ الطابَع الريايض املنطقي ،رغم َّأنه هو رجل علم ِ ْ ِّياضياتُ ،هما ما جعال بونفوا يبتعد العلم والر ِ ٍ ورياضيات ،بل إنَّ ِ دال برأْسَ ينْ ،أو بدالينَّْ الشعْ ر؛ ألنَّ ِّ من ال َّتجريد يف ِّ الشعْ ر ،هو ٌّ
ُكبرْ َ يَينْ ،كما َّ أك ْد ُت يف أكرث من َعمَ لُ ،هما الخيال واإليقاع ،ال ُ َت إىل ذلك ِّ اإليقاع وَحْ َده ،كما َذ َهب ْ املعاصرَة عند هرني عرية الش ِ ْ ميشونيك ،أو مَ نْ حَ ذا حَ ذوَه من العرب.
وبونفوا ،حني ر ََف َ السرْيا ِليِّني ،رغم ما ض البَقاء يف مُ ربّع ُّ تأثري يف املشهد ِّ الشعري ْ الس ِت ْغرا ِق ِهم يف كان َلهُم من اإلنساينْ ، ٍ ُ الخيال ،ويف ما ُّ عدوه «كتاب ًَة أوتوماتيكي ًَّة» ،وحني ْان َت َقد َذهاب ً جان بول سارتر ،إىل األيديولوجيا ،فهو كان حريصا عىل بناءِ َفهْمِ ه الخاص ،أو ر ُْؤ َي ِته لعالقة َّ اعر بالكلمات ،وعالق ِته الش ِ
بالواقع ،أو بالطبيعة .هذه البساطة يف تناوُل األشياء ،ويف هانه ِّ ال َّن َظر إليها ،كانت ِر َ الشعريّ والجمايل .فهو لم يكن ِض َّد ُ تذهب إىل البسيط، الجمال ،بل إنَّ ر ُْؤ َي َته للجمال ،هي رؤية املُتاح ،لكن ،بنوع من ال َّتوْسيع ،يف عالقة «الوردة» بتح ُّولِها إىل
«استعارة» ،كما قال يف أحد أعماله ِّ الشعرية .فهل يُمْ كِن ّ عد يتوخا ُه بونفوا يف تجربته ِّ َّ الشعرية جمالية البسيط ،هي ما كان والنقدية معً ا؟
األفق الممكن لشعرية البسيط ْ تنطوي عليه كانت َت ْس َته ِْويه ،بما َب ِق َي أنْ َنتساءَل ،بصدد عالق ِة بونفوا ،بال َّت ْشكيل ،واملسرح ،وال َّنحْ ث ،والحِ جارة التي ِ ً َّ خاصةٍ. وأيضا الفلسفة والفكر ،وغريها مما له عالقة بحقول الجمال ،بصور ٍة أسرار، من ْ
َسيط ال املُعَ َّقد ،فهو كان يب ُْدو ليِ ،أنَّ ْان ِتصا َر بونفوا ل ِِشعْ رية ال َّنص ،و ِلو َْع ِيه الجمايل ،يأيت يف سياق التأسيس لِجما ِليَّة الب ِ ّ مُ جْ برَ ًا ،يف معرف ِته ،ويف تكوينه ،عىل أن َيحْ َتمِ َي بهذه ُ الفنون واملعارفِ ،ل ُيعَ ِّ ض َد بِها هذه الجمالية ،أو الحِ س الجماليِ ّ الذي ب إليه ،أو بدا له هو ُ األفق املُمْ كِن ل ِِشعْ ِرية ال ِبسيط ،الذي ليس ،هو َّ َذ َه َ بالضرُورَة امل ُْب َت َذل. َ ومهما ي َُكن ،فتجربة بونفوا ،يف عالقته ُّ اختا َر أن ُيحْ َ بالل َغة ،وبهذا املزج الخِ يمْ يائيِ ّ الذي ْ عالق ٌة، دِث به زواج الكلمات ،هي الد َ َسعَ ى من خاللِها إىل تنويع َّ وسعَ ى ،من جهة ثاني ٍة ،إىل توظيف املجاز ،لكن ،بالبقاءِ يف اللة ،من جهةَ ، السياق الجماليِ ِ الج ْسر الذي يربط بني َض َّف َتينْ ِ َ ،ض َّفة اللفظة يف الذي ا ْب َت َد َعه ،ومن خاللِهَ ،ك َتب أشعا َر ُه ،وجعلها قابِ َل ًة ألنْ تكون بمثاب ِة ِ كمثالَ ، وض َّفة التوسيع ،الذي ي َْخرُج َّ ذاكرتهاَّ ، بالشجَ رَة من املَعْ َنى العامّ ،السائِد وامل ُْب َت َذل .ويف هذا املفرقَ ،تحْ ُدث الشجرة، ٍ
بعض ْال ِتباسات فهم الوعي الجمايل ،يف تجربة بونفوا ،التي هي تجربة امل َُتفرِّد ،والباحِ ث عن املُغاي ِ ِر وامل ُ ْخ َتلِف.
العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
159
آثار
مقدمة في لغة النقوش اللحيان َّية وتاريخها محمد علي الحاج باحث يمني بقسم اآلثار في كلية السياحة واآلثار بجامعة الملك سعود
160
ملحة تاريخية
بينما يرى آخرون أن شعب لحيان من الشعوب العربية
تقع مدينة العال عاصمة مملكة لحيان يف وادي القرى
الجنوبية األصل ،كون بليني ذكرهم يف جملة شعوب العربية
الجبال يف الشرق والغرب ،عىل بعد 22كيلو مرتًا جنوب مدائن
من أصل عربي جنوبي ،ورود اسم لحيان يف النقوش العربية
جنوب شرق حرة عويرض ،ويف وا ٍد ضيق بني سلسلة من صالح ،عىل الطريق التجاري الذي يربط املحيط الهندي عرب غرب
الجزيرة العربية بالبحر األبيض املتوسط مارًّا بمكة ويرثب وخيرب
ومدائن صالح ،وهذا الطريق كان له الفضل يف ازدهار مدينة العال خالل عصور ما قبل اإلسالم (أبو الحسن1997 ،م.)32 :
وقد سكن هذه املنطقة مجموعة قبائل عربية استطاعت أن تؤسس دولاً امتد تاريخها من القرن السادس قبل امليالد، إىل الثاين امليالدي ،كان أولها كما يرى الدكتور عبدالرحمن
األنصاري ،قبيلة دادان ،ثم قبيلة لحيان ،ثم املعينيني الذين انتهى حكمهم عىل يد األنباط (األنصاري1975 ،م.)79 :
العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
الجنوبية؛ مما يؤيد وجهة نظر من يرى أن اللحيانيني هم
الجنوبية املعروفة باملسند مثل( :أب يدع ذلحني) أي( :أبيدع اللحياين) (عيل1978 ،م.)244 :
وقد أظهرت األعمال األثرية يف جنوب الجزيرة العربية
وشمالها أن مملكة لحيان قد عاشت كشعب يف شمال الجزيرة
العربية ،وامتد سلطانها حتى شمل معظم أجزائها الشمالية،
وكانت عاصمتها فيما يبدو منطقة الخريبة ،التي هي جزء من مدينة العال حاليًا ،ثم توسعت حتى شملت مدينة العال بحجمها الحايل جنوبًا ،وامتدت حتى قبيل مدائن صالح (الحجر شمالاً ) ،ومما يساعدنا عىل هذا التحديد انتشار الكتابات
اللحيانية يف املنطقة؛ مثل :جبل الخريبة ،وجبل عكمة ،ووادي ساق ،وتلعة الحمادي ،وأبي عود وغريها( .اللحياين مساعد، 2004م.)27 :
جنوب الجزيرة العربية عالقات اقتصادية وسياسية متينة ،وفق
ما أشار إليه النقش أعاله ،ونقوش مسندية أخرى. الدراسات السابقة
كما أظهرت الحفريات األثرية يف قرية ذات كهل (الفاو حاليًا) وجودًا واضحً ا وفعالاً للحيان ،حيث ُعرث عىل نصب
يعد الرحالة اإلنجليزي تشارلز داويت الذي زار املنطقة عام
لحيانية ،وكذلك كثري من النصوص التي تحمل أسماء وقبائل
أخرى من النقوش اآلرامية والثمودية والنبطية واإلسالمية
ورغم ما ذهب إليه الدارسون عن أصل اللحيانيني وحقبة
صدر عام 1884م ،ثم أعقبه يف عام 1884م الرحالة واملستشرق
بتشجيع من البطاملة ليتمكنوا من الضغط عىل األنباط الذين
تشارلز هوبر وقاما باستنساخ مجموعة من النقوش اللحيانية
تذكاري ُق ِّدمت للمعبود ذي غيبة ،ووجود مقابر عائلية
لحيانية (أبو الحسن1997 ،م.)7 :
حكمهم من حيث إن ظهورهم كان يف عهد بطليموس الثاين يعملون عىل عرقلة التجارة (عيل1978 ،م ،)246-245 :أو ما
1876م أول من قام باستنساخ النقوش اللحيانية مع مجموعة يف كتابه( :وثائق نقشية من شمال الجزيرة العربية) الذي
األملاين يوليوس أويتنغ الذي زار املنطقة برفقة الرحالة الفرنيس
(السعيد2001 ،م.)334-333 :
يأت إال بعد ذهب إليه كاسكل من أن الوجود اللحياين لم ِ
وعىل ضوء دراسة هوبر وأويتنغ نشر موللر كتابه عام 1889م الذي خصص قسمًا منه لدراسة ً 75 نقشا لحيانيًّا (أبو
(اللحياين مساعد2004 ،م)33 :؛ فإننا نرى من خالل ما جاء يف
فك رموز الكتابة اللحيانية اعتمادًا عىل النقوش التي كان قد
الوجود املعيني يف الشمال حيث انتزع اللحيانيون الحكم منهم عام ( )150قبل امليالد بعد أن ضعف حكم املعينني يف الجنوب
النقوش املسندية أن الوجود اللحياين يف العال كان مبك ًرا ،رافق ظهور ممالك جنوب الجزيرة العربية ،بدليل أنه كشف مؤخ ًرا
عن نقش سبئي يف جوف اليمن يؤرخ ببداية القرن السادس قبل امليالد ،جاء فيه ذكر كثري من األماكن يف الجزيرة العربية؛ منها: دادان ولحيان (:)Demirjian 1
حيث يذكر صاحب ذلك النقش القائد (صبحهمو بن عم
شفق بن رشوان النشقاين) املهام الحربية والدبلوماسية التي كلفه بها سيده امللك (يدع إيل بني بن يثع أمر) ملك سبأ؛
من بينها أن صبحهمو (ركل ومصر عد ددن وغزة) بمعنى
(ذهب يف حملة إىل دادان وغزة) ،ويف السطر الثامن عشر والتاسع عشر من النقش نفسه يرد ذكر (أرض ذكرم ولحيان)
(.)Robindemaigret 2009,83
وبحق فإن هذا النقش يعد وثيقة مهمة عىل ِقدَم املمالك
العربية يف شمال الجزيرة العربية التي كان يربطها بممالك
الحسن2002 ،م .)17 :هذا ويعود لهايرن شموللر الفضل يف
أحضرها يوليوس أويتنغ عام 1884م ،مع أن البداية ملحاولة فك رموز الخط اللحياين كانت من قبل يوسف هاليفي الذي قام
بقراءة أربعة نصوص لحيانية كان قد جلبها معه تشارلز داويت عام 1876م (السعيد2001 ،م .)334 :ويف عام 1909م زار منطقة
العال كل من جوسني وسافينياك ،واستطاعا خالل هذه الزيارة نقشا لحيانيًّا وً 660 جمع ما يقارب ً 380 نقشا ثمود ًّيا ومجموعة
من الكتابات املعينية والنبطية واإلغريقية ،وقاما بدراسة هذه النقوش وتحليلها ،ويعد عملهم من أهم الدراسات التاريخية
واألثرية بالعال ومدائن صالح.
ييل ذلك الدراسة التي قام بها جريمي عام 1937م عن النقوش التي جمعت من العال؛ إذ ميز أشكالاً من الحروف
لها ميزات خاصة من باقي األحرف ،ثم دراسة العالم وينت ( )Winnettعام 1937م عن النقوش اللحيانية والثمودية، وتعد دراسته من الدراسات املهمة؛ إذ استطاع أن يفرق بني
161
آثار
حريف امليم والجيم ،وحريف الضاد والطاء يف اللحيانية املتأخرة، إضافة إىل تناوله تطور الكتابة الثمودية والدادانية (أبو الحسن،
1997م.)26-25 :
كذلك دراسة كاسكل ( )Kaskelعام 1953م عن مملكة
لحيان واللحيانيني التي تناول فيها موضوع النقوش اللحيانية
والدادانية ،ووضع قائمة باألبجدية اللحيانية ،والتسلسل الزمني لدادان ولحيان ومعني ،ودرس ً 112 نقشا من النقوش التي درسها
جوسني وسافينياك ،ويعود إليه الفضل يف أنه أول من حاول دراسة الكتابات العربية القديمة بحروف عربية ،ويعد ما قام به كاسكل أفضل ما ُق ِّدم عن مملكة لحيان ،إضافة إىل الدراسة التي
الحسن2002 ،م.)395 -27 :
بعض خصائص النقوش اللحيانية ومضمونها
وجدت الكتابات اللحيانية يف منطقة العال يف شمال غرب
اململكة العربية السعودية ،حيث أقيمت حضارة مملكة لحيان التي كانت سائدة يف تلك املنطقة يف املدة من بداية القرن السادس قبل
امليالد إىل نهاية القرن الثاين قبل امليالد .وقد اشتق القلم اللحياين
من القلم املسند ،مثله مثل القلم الثمودي والصفوي؛ ذلك ألن
قام بها روث شتيل ( )Stiehlعام 1971م عن مجموعة من النقوش اللحيانية يف عكمة التي تشتمل عىل دراسة أربعني ً نقشا.
عىل كتابات معينية يف العال أقدم عه ًدا من الكتابات اللحيانية
أعدها الدكتور عبدالرحمن األنصاري عام 1966م ،عن أسماء
وما يميز الكتابات اللحيانية أن مدونيها لم يتقيدوا بهندسة
ومن الدراسات العربية عن النقوش اللحيانية الدراسة التي
األعالم اللحيانية يف رسالته للدكتوراه ،تناول فيها التحليل لنقوش من منطقة العال وآثارها ،ومقارنة هذه األسماء مع أخرى سامية
من فلسطني وسوريا وغريهما (أبو الحسن1997 ،م.)27 :
162
كذلك رسالته للدكتوراه عن نقوش لحيانية من منطقة العال التي شملت دراسة ً 151 نقشا لحيان ًّيا جديدًا من منطقة العال (أبو
القلم املسند متقدم يف الوجود عىل هذه األقالم ،بدليل العثور والثمودية (عيل1978 ،م.)231-230 :
أشكال الحروف كما هو متبع يف املسند الجنوبي؛ مما نتج عنه تعدد أشكال الحروف ،ومعظم الكتابات اللحيانية تبدأ من اليمني
إىل اليسار ما عدا بعض النقوش القليلة جدًّا ،فإنها تبدأ من اليسار
ومن أهم الدراسات عن النقوش اللحيانية ما قام بها أبو
وتتجه إىل اليمني ،ويف هذه الحالة توجه الحروف باتجاه معاكس
إىل جانب إعادة دراسة أربعني ً نقشا لحيان ًّيا كان قد قام بدراستها
الواحد أكرث من شكل إال أنها متقاربة ،كما أن الكتابة اللحيانية ال
الحسن يف رسالة املاجستري عام 1996م ونشرت عام 1997م؛ إذ شملت دراسة مئة وستة وخمسني ً نقشا لحيانيًّا من جبل عكمة روث شتيل (أبو الحسن1997 ،م.)500-39 :
أظهرت الحفريات األثرية في قرية ذات واضحا وفعا وجودا حاليا) كهل (الفاو ً ً ً للحيان ،حيث ُعثر على نصب تذكاري
لاً
ُقدمت للمعبود ذي غيبة ،ووجود مقابر عائلية لحيانية
ملا هو معروف. ً والحروف اللحيانية تعدادها سبعة وعشرون حرفا ،وللحرف تستعمل حروف اللني إال نادرًا ،وتعنى بذلك بعض النقوش التي
تعود إىل الحقبة اللحيانية املتأخرة التي ُعرث عليها يف موقع أم درج،
حيث بدأت تظهر حروف اللني يف بعض األسماء مثل( :ذ غ ب ت) أصبحت ُتك َتب( :ذ غ ي ب ت) .كما أن الفاصل بني الكلمات له أكرث من شكل يف الكتابات اللحيانية؛ ففي بعض النقوش يكتب
عىل شكل خط عمودي ،ويف نقوش أخرى يكتب عىل شكل خطني ً وأحيانا يكون عبارة عن نقطتني متقابلتني أو أفقيني متقابلني، نقطة واحدة ،وهناك نقوش تخلو من الفواصل بني الكلمات ،كما
الفعل في النقوش اللحيانية ..ماض ًيا يأيت الفعل يف النقوش اللحيانية بصيغة املايض؛ مثل:
حروف الجر ،فهي حرف الباء ،وهي تسبق األماكن( :ببدر) ،وحرف
ورد يف نقش (أبو الحسن )38بصيغة ييسر ،أي يسهل .ويرجع
له) ،كذلك حرف الالم( :لذغيبة) ،وحرف الجر من( :من دثأ) (أبو
نذر ،أطلل ،فعل ،ثلم ،ويندر استخدام الفعل املضارع حيث السبب يف مجيء معظمها بصيغة املايض أنها كتبت بعد القيام بالعمل الذي تتحدث عنه النقوش .كما استخدم اللحيانيون ً ملحقا حرف الهاء ضمريًا متصلاً للمفرد املذكر واملؤنث الغائب بالفعل؛ مثل( :فرضيهم ،أثابه) ،كذلك اس ُتخدم حرفا الهاء وامليم ضمريًا متصلاً بالفعل يف حالة الجمع؛ مثل( :أثابهم) .أما
العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
الجر عن( :عن فرضه) ،وعل( :عل ذكن لهم) ،وعىل( :عىل ما كان الحسن1997 ،م.)410 :
وللتنوين حضور يف النقوش اللحيانية يتمثل يف إضافة حرف
النون يف آخر الكلمة ،كما جاء يف نقش (أبو الحسن « )35أطلل/ طللن» بمعنى« :أطلل طللاً » .كذلك صيغة املضاف واملضاف إليه؛
مثل( :نخله) فنخل مضاف ،والهاء مضاف إليه( .املرجع السابق،
مقدمة في لغة النقوش اللحيان َّية وتاريخها
أن بعض الخطوط اللحيانية جاءت دقيقة يف كتابتها يظهر عليها
حيث يذكر النقش أن الحدث وقع يف سنة كذا من حكم امللك
ومعظم النقوش اللحيانية التي ُعرث عليها يف منطقة العال
التسلسل الزمني ململكة لحيان ،وأن الحكم يف لحيان كان وراثيًّا،
العناية والدقة (أبو الحسن2002 ،م.)303 :
تتحدث عن أمور شخصية يف الغالب إال أنها أمدَّتنا بمعلومات
ذات فائدة كبرية عن تاريخ لحيان ،فعىل سبيل املثال جاءت النقوش اللحيانية لتلقي مزيدً ا من الضوء عىل النواحي الدينية
عند اللحيانيني ،فهناك نقوش تتحدث عن تقديم قرابني ،وأخرى
عن تقديم زكاة ،وأخرى تتحدث عن الحج للمعبود ذي غيبة
أو املعبود خرج ،ومن النقوش اللحيانية ما تتحدث عن أنواع
النذور والقرابني التي كان يقدمها اللحيانيون ملعبوداتهم ،إضافة إىل أسماء اآللهة والشخصيات التي وردت يف النقوش ،وجميع
النقوش السابقة عىل الرغم من أنها دينية فإنها إثبات ملكية
(أبو الحسن1997 ،م ،)406 :وما يميز النقوش اللحيانية من باقي
النقوش الشمالية أن بعضها مؤرخ بسنوات حكم ملوك لحيان،
فالن (سنة خمس برأيهنأوس بن تلمي)؛ مما ساعد عىل معرفة ويف معرفة تطور الكتابة من خالل أشكال الحروف (أبو الحسن، 2002م.)304 :
وتتشابه النقوش اللحيانية من ناحية املضمون وبخاصة
النقوش الدينية؛ إذ تبدأ جميعها بأسماء أعالم بسيطة أو مركبة، وييل األسماء بعض األفعال التي تدل عىل العمل الذي قام به
صاحب النقش؛ مثل( :أطلل ،أطلت ،نذر ،نذرت) كتقديم زكاة، أو قربان ،أو نذر ،أو حجّ ،أو غري ذلك من األعمال ،ثم يأيت اسم املعبود الذي قدم له العمل ،ويف أكرثها يكون املعبود ذا غيبة
يليه املعبود خرج ،ثم عبارات طلب الرضا والسعادة من املعبود لصاحب النقش وذريته ،ويف بعضها يطلب صاحب النقش من
املعبود إلحاق الضرر بمن يتلف أو يدمر النقش.
.)413أما أداة التعريف يف النقوش اللحيانية فهي حرف الهاء يف
يف النقوش اللحيانية شواهد تدل عىل معرفة اللحيانيني بنظام
(الطلل).
األرقام ،فالرقم واحد يعرب عنه بخط عمودي ،ويتكرر حتى الرقم
بداية الكلمة؛ مثل( :هـ ن ق) بمعنى :النوق ،و(ه ط ل ل) بمعنى: وجميع النقوش اللحيانية التي ُعرث عليها يف منطقة العال
كانت مكتوبة إما عىل واجهات صخرية يف سفوح الجبال وقممها، أو عىل ألواح حجرية ُنحتت لهذا الغرض ،أو عىل مذابح ومجامر منحوتة من الحجر ،ولم يوجد أي كتابة عىل املعادن ،وتتفاوت
أحجام النقوش اللحيانية بني الطويل والقصري ،فهناك نقوش ً حرفا، يتجاوز عدد سطورها 12سط ًرا ،كل سطر يحتوي عىل 24 ومنها ما هو عبارة عن كلمة أو كلمتني تمثل اسم شخص .وظهرت
العدد والرتقيم ،وذلك إما بكتابتها حسب نطقها أو حسب تسعة ،أما العشرة فتكون عبارة عن دائرة أو معني ،والرقم عشرون عبارة عن دائرتني ،واألربعون شكل العشرين مرتني (أبو الحسن2002 ،م.)306 :
كما جاء يف النقوش اللحيانية وبخاصة املتأخرة منها ما يدل
عىل قربها من اللغة العربية الفصحى ،ومن هذه الجمل..( :أن/ي ك ن /ل هـ /و ل د /ف ر ض هـ /وأ خ ر ت هـ) بمعنى :إن يكن له ولد
فرضيه وأخرته (الرضا عنه)( .أبو الحسن ،املرجع السابق).
163
إعالم
في مواجهة التضليل اإلعالمي بدر اإلبراهيم كاتب سعودي
164
لعل كثيرًا منا سمع هذا النوع من العبارات في الماضي القريب :نحن في زمن االنكشاف
المعلوماتي ،ال شيء يمكن إخفاؤه في عصر الصورة ،تمرير الكذب بات صعبًا مع ثورة
االتصاالت وتكاثر وسائل اإلعالم ،ال يمكن حجب المعلومة في عصرنا .راجت هذه العبارات وغيرها ،مع الدهشة التي رافقت التقدم التقني ،وزيادة عدد الفضائيات ،وتوسع شبكة
اإلنترنت ،وسهولة االتصال بالعالم ،ومنطلق هذه العبارات كلها ،يتلخص في إيمان من يرددها بنهاية عصر األكاذيب والضحك على الذقون ،وتقليدية اإلعالم الرسمي ،بفعل االتصاالت المتطورة ،وعدسات الكاميرات المصوبة للمشهد ،من الفضائيات والمواطنين
على السواء ،حيث يصعب خداع الناس برواية إعالمية في هذه الحالة.
العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
من يتابع اإلعالم يف السنوات األخرية ،بشقيه التقليدي
والجديد «شبكات التواصل االجتماعي» ،يجد أن العبارات
املذكورة كانت حاملة ،وبعيدة تمامً ا عن الواقع؛ فالتطور التقني
زاد من إمكانية التضليل والخداع ،ولم يقلصها ،ولم تعد الشكوى
يف األغلب من حجب املعلومات أو إخفائها ،بل من سيلها العارم وتضاربها؛ إذ يعاين املتلقي التدفق الكثيف واملتواصل للمعلومات،
ويصبح ضروريًّا أن يقوم بفرزها ،إذا كان يريد بالفعل الوصول
إىل الحقائق ،وهو ما يستدعي بذل مجهود كبري يف التحقق والتدقيق ،وتقديم الشك والتساؤل حول كل معلومة.
لم يكن تطور أدوات االتصال والتوثيق سوى فرصة للتالعب،
فكامريات الفيديو التي أصبحت يف كل الهواتف النقالة ،والصورة الناتجة عنها ،التي َّ ِّي «صحافة املواطن» ،حيث بشرت بما سُ م َ
بمقطع اإلنسان العادي يمكنه أن يصنع الخرب ويحرك الرأي العام ٍ مصور ،تبني أنها تساعد يف التضليل ،عرب االقتطاع وعدم نقل املشهد كاملاً ً أحيانا ،أو عرب املونتاج الذي يوجه مقطع الفيديو أمر غري موجود نحو إدانة هذا أو تربئة ذاك بالفربكة واصطناع ٍ عىل أرض الواقع .عززت أدوات االتصال املتطورة يف العموم فرص ٌ التضليل ً وسط ينضح أيضا ،فشبكات التواصل االجتماعي مثلاً هي بأنواع اإلشاعات واألكاذيب سريعة االنتشار ،وهي إشاعات تشمل
مجاالت مختلفة ،لكنها تؤكد ذات الفكرة ،من أن ثورة االتصاالت ٍ َّ ُ يمكن أن توَظف يف التضليل والخداع.
التطور التقني زاد من إمكانية التضليل والخداع ،ولم يقلصها ،ولم تعد الشكوى في األغلب من حجب المعلومات أو إخفائها ،بل من سيلها العارم وتضاربها
اإلعالم املنحاز
ليس هناك وسيلة إعالم محايدة؛ إذ إن لكل وسيلة إعالم
توجهًا ورأيًا ،ينبثق من توجه مالكيها ومن يديرونها ،وهذا يشمل اإلعالم العربي والغربي عىل السواء .ربما بسبب سوء اإلعالم
العربي ،بالذات يف أزمنة ماضية ،وغياب املصداقية فيما يبثه، تنتشر أسطورة عىل نطاق واسع ،مضمونها أن اإلعالم الغربي
متفوق عىل صعيد املصداقية واملوضوعية ،أو أنه مستقل تمامً ا، لكن أبسط فحص لهذه األسطورة ،يخلص إىل عدم دقتها؛ إذ
إن اإلعالم الغربي يف أغلبه ،يتحرك يف إطار مصالح املتنفذين من ً ونفوذا سياسيني، أصحاب رؤوس األموال ،الذين يملكون توجهًا أو يرتبطون بصناع السياسات ،وهذا اإلعالم ال ينفصل عن
املؤسسة الحاكمة يف البلدان الغربية بخطوطه العامة؛ إذ يعرب
هذا اإلعالم عن قيم املؤسسة الحاكمة ورؤيتها العامة ،وإن كان أكرث حرية يف نقدها ،كما أن الصحفيني الغربيني ،مثل غريهم،
عرضة للتأثريات املالية والسياسية ،التي تجعلهم يكتبون مقاالت،
بحمالت أو يصيغون تقارير مع هذا أو ضد ذاك ،ويقومون ٍ
أجندات محددة. إعالمية ضخمة تخدم ٍ
ال يوجد إعالم محايد ،واالنحياز مفهوم ،لكن املوضوعية
مطلوبة ،ونعني هنا محاولة مقاربة الحقائق بغض النظر عن
االنحيازات .املوضوعية الكاملة ال يمكن تحقيقها ،لكن السعي ألعىل درجة من املوضوعية ركيزة مهمة ألي وسيلة إعالم ،غري
أن اإلعالم العربي ،خالل السنوات األخرية ،ودّع الحد األدىن من املوضوعية .ومع اشتعال األزمات يف املنطقة العربية ،صارت
أغلبية وسائل اإلعالم أدوات للتعبئة والتحشيد ،لصالح خيارات
سياسية محددة ،ولم تعد تهتم بنقل الخرب بشكل اعتيادي؛ بل بالتعليق عىل الخرب يف أثناء تقديمه ،والتالعب بالخرب نفسه،
لخدمة التوجه الذي تتبناه.
165
إعالم
انتقلنا من تراجع املوضوعية إىل انعدامها تقريبًا ،يف وسائل
اإلعالم التقليدية ،وسطوة الدعائية عىل نقل الخرب ،أما اإلعالم
الجديد ،الذي ُروِّجَ له بوصفه الحالة املتجاوزة لحسابات ومصالح ً مكانا مالئمًا لنشر الشائعات وفربكة اإلعالم التقليدي ،فقد أصبح ً خزانا إسرتاتيجيًّا لوسائل اإلعالم التقليدية، األخبار والصور ،وصار
عىل مستوى األخبار واملقاطع املصورة املفربكة ،وهو بالطبع ال ينفصل عن التأثريات املالية واإلعالمية خارجه ،وقد وضعت وسائل
اإلعالم التقليدية أقدامها فيه؛ لتبث أخبارها لرواده ،ونجومها يتصدرون قائمة األكرث متابعة يف شبكات اإلعالم الجديد املختلفة.
الناس واهتماماتهم بناءً عىل الخرب املتصدر؛ بل أصبح التعبري عن االنحياز متمثلاً بالذهاب بعيدً ا يف التالعب بالخرب.
يف هذا اإلطارُ ،تص َنع خدعة أساسية ،تتمثل يف وجود ً مضمونا «مطبخ» لصناعة األخبار ،يصنع فيه الخرب ليتواءم
ً وصياغة مع أجندة محددة ،ويخرج الخرب ليتوزع عىل مجموعة
من وسائل اإلعالم املختلفة ،من صحف وقنوات فضائية ومواقع إلكرتونية ،وتقوم برتويجه ً أيضا مجموعات من املوظفني يف هذه
القنوات والصحف ،يف مواقع التواصل االجتماعي ،فينتشر بسرعة
االنحياز وسط األزمات الكربى يدفع إىل استخدام الكذب
فائقة ،ويصبح املتلقي أمام تدفق هائل للخرب نفسه ،من مجموعة
الناس؛ لجذبهم نحو الخيار السيايس الذي تتبناه الوسيلة
هذه تستقي الخرب من جهة واحدة طبخت الخرب وأعدَّته ،أي أنها
والتضليل ،واالستعانة بالخطاب الشعبوي ،واستنفار عواطف اإلعالمية.
أساليب التضليل
كبرية من وسائل اإلعالم ،من دون أن ينتبه ألن كل وسائل اإلعالم
ليست مصادر متعددة للخرب ،بل مصدر واحد بقنوات متعددة، تسهم كلها يف إغراق الناس باألخبار واملعلومات ،التي تخدم
توجهًا محددًا لهذه الجهة.
أسايس لخدمة توجه وسائل دغدغة العواطف اإلنسانية أمر ّ
الضخ املتواصل واإلغراق باألخبار ،حول مسألة معينة ،يضمن
مع رفدها بصور أو مقاطع ،معدلة أو مفربكة ،ليكتمل استنفار
أعصابه وعواطفه بشكل متتابع ومستمر ،وحتى لو شكك املتلقي
اإلعالم ،ويمكن مالحظة صياغة األخبار يف إطار هذه الدغدغة، املشاعر .لم يعد االنحياز يعرب عن نفسه بتغيري ترتيب األخبار،
166
ولفت الجمهور لخرب بعينه وإهمال آخر ،وتاليًا صياغة أولويات
اإلعالم الجديد ،الذي ُر ِّو َج له بوصفه الحالة المتجاوزة لحسابات ومصالح مالئما اإلعالم التقليدي ،فقد أصبح مكا ًنا ً لنشر الشائعات وفبركة األخبار والصور
تكرار الدعاية عىل الجمهور ،وتحشيده وتعبئته ،بالضغط عىل خرب أو اثنني ،فإنه لن يتمكن من مقاومة السيل الجارف من يف ٍ
األخبار واملعلومات كل يوم .أكرث من ذلك ،ال يدقق املتلقي يف مصدر الخرب نفسه ،واملقصود هنا املصدر األويل للخرب ،وليس ناقل الخرب
من القنوات واملواقع؛ إذ إنه لو دقق لوجد أخبارًا كثرية من مناطق الصراع والحروبُ ،تحيل إىل «ناشطني» أو «مراقبني» أو «شهود عيان» ،بوصفهم املصدر األويل للخرب ،وهم اليوم املصدر األساس
ألخبار عدد من وسائل اإلعالم ،التي تلجأ لهم دائمًا وليس بشكل
اختراع حرب للتغطية على فضيحة الرئيس يف فلم « ،»Wag the dogمن بطولة روبرت دي نريو وداسنت هوفمان ،يستعني مستشارو الرئيس األمرييك ،بأحد
منتجي هوليوود ،للتغطية عىل فضيحة أخالقية للرئيس ،قبل االنتخابات الرئاسية بأسبوعني .يقوم املنتج السينمايئ،
مع مدير العالقات العامة يف حملة الرئيس ،بإنتاج حرب افرتاضية أمريكية يف ألبانيا ،ال تحصل إال عىل شاشات التلفزة األمريكية؛ لشد العصب الوطني ،وإبعاد األنظار عن الفضيحة .للحرب هذه روايتها املصورة ،التي تستند إىل خطر يشكله متمردون ألبان ،ومشهد سينمايئ يصور فتاة ألبانية هاربة من قصف املتمردين ،كما أن هذه الحرب تنتج قصصها الخاصة ،مثل قصة جندي أمرييك مفقود يف ألبانيا ،تستثري عواطف الناس ،وتصبح حديث الرأي العام .الفلم يعرض
حرب لم تحدث عن طريق اإلعالم ،وتوجيه اهتمام الناس ،والتالعب بعاطفتهم الوطنية وحسهم اإلنساين، كيفية فربكة ٍ
من خالل الصورة وسطوتها. الفلم ُع ِرض عام ١٩٩٧م ،وبعد ما يقارب عشرين عامً ا ،نجد أن أدوات اإلعالم واالتصال أصبحت قادرة بسهولة عىل
صناعة وقائع غري موجودة ،واستثارة عواطف الناس واستنفارهم ،والتحكم بتوجهات الرأي العام ،ومع التطور التقني مقطع مصور ،وهو يجلس بخبري سينمايئ ،فكل شخص يمكنه فربكة أو تغيري املذهل ،لم تعد الحاجة كبرية لالستعانة ٍ ٍ
أمام حاسوبه يف بيته.
العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
في مواجهة التضليل اإلعالمي
استثنايئ ،وهؤالء الناشطون مجهولون ،إضافة إىل أنهم يف األغلب ً وأحيانا تخرتعهم بعض جزء من الصراع القائم ،وليسوا محايدين، وسائل اإلعالم؛ ألنها تريد بث خرب ما ،فتنسبه إليهم. الصور ً أيضا تخضع للفربكة ،وقد تنقلها وسائل اإلعالم
ال بد من وضع أمور كثرية يف الحسبان؛ أهمها :خلفية هذه
الوسيلة اإلعالمية ،والخيارات التي تتبناها ،ومن يقف وراءها، اصر هذا الطرف أو ذاك. وما مصلحتها من نشر أخبار ُتدِ ين أو ُت َن ِ
هذا النهج يف التدقيق يشمل حتى وسائل اإلعالم الغربية ،التي
من دون تثبت ،أو يشارك بعضها يف فربكتها ،واملسألة سهلة،
تحدثنا عن عدم حياديتها وانحيازاتها.
صورة تختلف تمامً ا عن الواقع ،كما يمكن لوسائل اإلعالم أخذ
الخرب املنشور نفسه ،ومعرفة مصدره األول ،أي معرفة املصدر
فباستخدام أدوات تقنية من برامج وتطبيقات ،يمكن صناعة صورة تتعلق بحدث معني جرى يف بلدٍ ما ،وتقديمها كصورة ملا وزمن آخر ،وهذا التضليل البصري يهدف غالبًا يجري يف بلدٍ آخر ٍ
لكسب عواطف الناس ،ويحوي كمية من الوحشية وربما الدموية التي ُتذهب عقل املتابع لشدة قسوتها عىل النفس .بعض وسائل اإلعالم تستثمر هذه الصور لزراعة الكراهية واألحقاد ،وإشعال الفنت يف املجتمعات ،عرب تفسري الصورة ضمن صراع بني املكونات
االجتماعية يف املنطقة ،عىل أسس قبلية أو مذهبية ،ورفد الصور بتحليالت ملوتورين طائفيني ،يُق َّدمون كخرباء ومحللني التي ُتبَث ٍ إسرتاتيجيني ،بما يسهم يف شد العصب الطائفي.
تتنوع أساليب التضليل ،لكن الخالصة واحدة :ال بد من
التشكك يف سيل األخبار الجارف ،والتدقيق للوصول إىل الحقائق، قبل االنفعال واتحاذ مواقف بفعل عمليات التضليل املتنوعة. مواجهة التضليل
من الضروري أن يف ّرق املتلقي بني الخرب والرأي؛ فوسائل
ً انطباعا ألحد العاملني فيها ،وقد يمزج اإلعالم قد تنشر رأيًا أو
هذا الشخص بني صياغة خربية ،ورأيه الشخيص ،ما يستدعي االنتباه والحذر .مع قراءة الخرب املنشور يف أي وسيلة إعالمية،
بعد التدقيق يف الوسيلة اإلعالمية ،ال بد من التدقيق يف
الذي اعتمدت عليه الوسيلة اإلعالمية يف نقل الخرب؛ إذ إن مصادر مثل «شهود عيان» أو «ناشطني» ُت َ ضعِّ ف كثريًا من
مصداقية الخرب ،ومثل هذه األخبار يمكن فربكتها ببساطة؛ إذ يمكننا أن نخرتع خربًا ما ،ثم ننسبه لناشطني أو شهود
عيان ،وال يشء يؤكد األمر .التأكد من وجود مصادر متعددة، متناقضة املصالح ،يعطي للخرب مصداقية أكرب ،والتدقيق ً أيضا ال بد أن يشمل الصور واملقاطع املصوّرة ،فليست كل صورة
تأكيدً ا لخرب ما ،وال حتى كل مقطع مصوَّر ،ففربكة مثل هذه املقاطع والصور بات سهلاً كما نعلم ،وهذا يستدعي الحذر من التعاطي معها ،وعىل األقل عدم نشرها بكثافة يف وسائط
التواصل االجتماعي ،من دون التأكد من صحتها.
إذا كان التدقيق يف أخبار وسائل اإلعالم التقليدية واملشهورة
ضرورة يف هذه املرحلة ،فإن التدقيق يف أخبار شبكات التواصل االجتماعي ،التي تنتشر بشكل سريع بيننا ،هو أوىل وأوجب،
أخبار وبخاصة أن الكذب فيها كثري .أخطر ما يحصل هو استخدام ٍ وصور مفربكة؛ لتهييج الناس يف اتجاهات سلبية ،وإذا كان املرء ٍ
ال يستطيع التدقيق يف كل خرب ،فعليه أال يص ّدق كل خرب؛ يك ال
يقع ضحية التضليل ،و ُي َم ِّررَه عرب أجهزته لآلخرين.
لقطة من الفلم
167
مقال
حسرة المثقف على انحساره
ّ يتحسر المثقف اليوم .يلعن التلفزيون واإلنترنت ،يحمّ لهما المسؤولية كاملة .يحزن على ما كانه في ماضيه القريب .يتذكر، ً ً مسموعا ،نجمً ا مرموقا، وبحنين موجع .الصورة القديمة التي بنى من أجلها دوره كانت مشرقة .وهو ال يستطيع أن ينساها :كان ساطعً ا في محيطه الضيق واألوسع .هو الذي يفسر ،ويشرح ،ويصف ،ويترجم .هو المرجع الفكري .كان هذا هو دوره. ً ومنخرطا في هموم ومنغمسا، بل جاء من يقول له :إن عليه أن يكون «عضويًّا»؛ أي نازلاً من برجه العاجي المفترض، ً
وأفعال وخطايا المجتمع الذي يريد أن يغيره بالفكر .وهذا إرث عريق ،يعود إلى الثوار البالشفة الروس ،وإلى فيلسوف التجديد الشيوعي أنطونيو غراشي ،مخترع كلمة «المثقف العضوي» .وبعده صفة «النهضوي» التي أذاعها مثقفو عصر النهضة ،أصحاب
األفكار الكبيرة ،وقد أثروا في التكوينة الذهنية ألجيال بعينها من المثقفين .بحيث صار عصر النهضة المحطة ،والمنبع، والمرجعية؛ وإن كانت ّ جل أفكارها ونظرياتها منتهية المدة ،بحكم الزمن وتعقيداته .اآلن ،الوضع تغير .تراجع المثقف إلى مصاف المواطن البسيط .مثله يبحث عن دور ،أو يئس من البحث عن دور .مثله فاقد التأثير في الجموع ،ومحروم من النجومية ّ وينق ،وينظر جالسا في زاويته ،يسخر ،ويندب، واالمتيازات الرمزية والمادية التي كان يتمتع بها نظيره في عصور االزدهار .فتراه ً
إلى المهانة بصفتها نهاية تاريخه ودوره ،ومعها نهاية السياسة والتاريخ. لاً بعضهم ،األكثر ذكاء من غيرهم ،يريد أن يثبت العكس؛ من أن المثقف ما زال بألف خير .يتجه صوب األداة الجديدة ،مث ، التلفزيون ،ويفعل المستحيل ليحتل شاشته ،ولو برهة من الزمن :كخبير في شؤون قضية أو ملف ،كمقدم للبرامج ،أو كمحاور مع من يستحق رتبته ،أي مثقفين مثله أو أقل منه ً شأنا لكنه ال يبلغ مبلغ بقية النجوم ،الشيوخ أو مغنيات الفيديو ،أو اإلعالميين
المخضرمين ،فينسحب بعضه .أما بعضه اآلخر ،فلكي يستمر ،عليه أن يغير طبائعه الثقافية ،ويتحول إلى «إعالمي» ،أي صحافي بالصورة ،سطحي ،متس ّرع ،ال يبالي ًّ حقا بالمادة الثقافية التي «يقدمها» ,أو ««يناقشها».
168
أهم مقدم ألهم برنامج ثقافي
أذكر منذ سنوات ،لدى صدور كتابي األول ،اتصل بي مثقف كانت له طموحات تلفزيونية ،وكان لتوه ً بادئا تجربة تلفزيونية
ُ فرحت وسألته ما رأيه به ،أي ثقافية .قال لي :إنه يريد أن أظهر في برنامجه؛ ألنه سوف يعرض فيه كتابي الجديد ويناقشه.
ُ ُ وطرحت عليه السؤال البديهي ،وقتها« :كيف تريد أن تقدم كتابًا على الشاشة لم تقرأه؟». تعجبت بكتابي .أجاب بأنه لم يقرأه.
ُ علي أسئلة يعرف هو كيف يصيغها أجاب بعبارات مغمغمة فهمت منها أن التلفزيون «ال يحتاج إلى قراءة»؛ وأنه يكفي أن يطرح ّ ُ شئت ،أن أقترح عليه األسئلة ،فأسهّل عليه المهمة وغير ذلك .طبعً ا رفضت وقتها. من دون العودة إلى الكتاب؛ وبأنه بوسعي إذا
أما هو فأصبح اآلن أهم مقدم ألهم برنامج ثقافي. لاَّ ّ كلهم لم ينجحوا مثل صديقنا هذا :بعضهم ألنهم ال يتمتعون ،مثله ،بط ت بهية ،فوتوجينيك ،تحبها الكاميرا .وجلهم ألن البرامج التلفزيونية الثقافية أصلاً ضاقت سُ بُلها؛ كأن الطلب عليها تفوق على العرض بمسافات.
على الرغم من خروجه إلى الشاشة ،فإن شأن المثقف لم يرتفع ،وال الثقافة معه ،وبقيت الحسرة لدى األكثر جدية وتجهّمً ا من أن المثقف ماذا يفعل بالضبط؟ ما دوره؟ هل كان فعلاً في عصره الذهبي ،أيام المثقف التقليدي ،الثوري ،المرغوب،
صاحب الهالة والدور؟ بل ،هل يمكن االسترسال في الحسرة إلى األبد؟ بانتظار انقشاع لن يأتي؟ وما العمل من أجل أن يكون
ً خصوصا الكتابي منه ،ممارسة محبوبة لنفسها؟ من أجل أن يقرأ المثقف ،أن يكتب ،أن يسأل الميدان ،مادته الفعل الثقافي،
الحيوية ...من دون أن يلهث خلف «األكثر مشاهدة» ،من دون أن يضطر للكتابة االستفزازية الترفيهية عن الجنس أو الدين أو
الرعب المشوِّق...؟
ثالثة أنواع من النرجسيات عليه أولاً أن يتخلص من ثالثة أنواع من النرجسيات ،تقف خلف الحسرة على االنحسار :النرجسية الواسعة ،أولها ،أي التي
تنكب على نظراء المثقف ،أشباهه .أو كل من ينتج نتاجه .وتكتفي بهذا االنكباب ،نظ ًرا لكون ال أحد يستحق فعلاً الكتابة عنه، ّ
واالهتمام به إال أصحاب الكتب ،الشهيرة إن أمكن ،أو الجوائز ،األسماء «الكبيرة» وغير ذلك .الثانية هي النرجسية المتوسطة، ً ّ جزافا «األصدقاء»؛ الذين يتصورون أنهم «أفضل» ما أنتجته ثقافتنا في مجاالت الكتابة، الشلة ،أو ما يسمى المقتصرة على العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
أصحاب الجاه الثقافي .وهذه الحلقة المتوسطة من النرجسيات يمكن أن
تكون عابرة للقارات ،لكنها ضيقة ،قائمة على تبادل المصالح ،وحسب؛
تبادل خفي ،ال تنتبه إلى تأثيراته إال بعد حين.
ثم الحلقة النرجسية األخيرة .هي فردية ،باطنية؛ لكنها مفهومة،
بفضل مئة إشارة وإشارة .بعضهم ال يخفيها ،وصار من عاديات األمور،
أن يتفاعل مع الدنيا كلها على أساس نفسه هو .على أساس استثنائيته، ً خصوصا إذا كانوا من خارج الدائرة وعلوّه درجات عن بقية أقرانه، المتوسطة ،وقد دخل إليها «المستحقون» .وقد يورث هذه الصفة غير
المتواضعة ألبنائه ،مثله مثل سياسيي بالده. فقط عندما يعترف أولاً بإصابته بمرض النرجسيات الثالث ،أو بواحدة
منها ،ثم يقبل الدخول في «برنامج» التخلص من الحسرة على االنحسار، يستطيع المثقف أن يتابع درب السعادة الثقافية .ويتكوَّن هذا «البرنامج»
من نقاط محدّ دة. ّ التواضع أولاً : التحلي به في هذا الزمن الفايسبوكي ،أمر في غاية ّ الصعوبة .كذلك التخلي عن فكرة أن المثقف سوف يغير العالم بمقاالته
دالل البزري
ً دمثا ،ليس ًّ وكتبه ،أو بمجرد ّ سلسا ً جارفا؛ كأن جافا طلته .يمكن أن يبدأ ً
كاتبة لبنانية
يقول المثقف لنفسه بأنه سوف يبقي على نرجسياته الثالث هذه؛ لكنه بموازاتها ،سوف يخلق عالمً ا جديدً ا ،قوامه أنه ،بالنسبة إلى هذا الكون الذي ال يتوقف عن التوسع ،هو ليس إال ذرة ،بالكاد تراها بالمجهر ،وأن
التواضع يوسع نطاق حريته ،مغامراته؛ بحيث ال يخشى ال ارتكاب الخطأ
169
النظري أو المفهومي ،وال يخشى االعتراف لنفسه بأنه ال يعرف في هذه أو
تلك من الموضوعات ،أو لم يفهمها.
ثانيًا -الفضول :التواضع يج ّر إلى الفضول ،والفضول هو باب ً خصوصا الفضول لعوالم غير معهودة ،أو منبوذة، المعرفة المتجدّ دة. أو «غير نبيلة» .مثل أن تخلق مجالاً للمعرفة اسمه عالم الفيديو كليب،
ً موضوعا سوسيولوجية الفيديو كليب مثلاً ،من دون أن تعد بأنك تعالج ّ أقل خطورة من السجال األبدي بين الحداثة والتقليد .ما يستدعي الخفة؛ خفة الوجود تناقض الحسرة على مجد فارغّ . النقطة الثالثةّ : خفة اللهجة، والموضوع والمقاربة .خفة ألاَّ يقبض المثقف نفسه جديًّا .أن يكون قادرًا على
السخرية من نفسه ،ومن دوائره ،قبل السخرية من خصومه وشريريهم.
ورابعً ا -الغيرية :أي الفضول بالغير ،واالهتمام به ،واالستماع إليه،
وتحويله إلى مادة سؤال عبر حياته ومجمل حَ يَوات غيره ،وإعطاء الوقت
للغير ،واقتطاع هذا الوقت من ذاك الذي يسخره في عمليات التسويق
لشخصه أو اسمه. لاَّ لاَّ ّ المفخمة ،وأ ينتحل صفة والجاذبية أخي ًرا :أ يكتب بتلك اللغة المنظر ،أو أن ّ ّ ينظر بحرية ،من دون «تعريفات» إنجليزية أو فرنسية، غالبها ال يفهمها القارئ ،وال هو يفهمها ،وأن يختار الموضوعات التي ً حقيقة ،وأن يتخلص من انفصاميته ،من أنه في السر يفكر بهيفاء تجذبه
وهبي ،ويطلب من أصدقائه ان ينظموا له موعدً ا سريًّا معها ..وفي العلن ينشد األشعار المك َّررة من أجل الوطن واإلنسان .كما حصل مع أحد شعرائنا الكبار ،وقد يكون حاصلاً ً ، أيضا ،مع أدنى منه.
على الرغم من خروجه إلى الشاشة ،فإن شأن المثقف لم يرتفع ،وال الثقافة معه ،وبقيت الحسرة لدى وتجه ًما من أن األكثر جدية ّ
المثقف ماذا يفعل بالضبط؟ ما دوره؟ هل كان فعال
في عصره الذهبي ،أيام المثقف التقليدي ،الثوري، المرغوب ،صاحب الهالة والدور؟
تراث
الربيعية.. بلدة الشعراء وميدان معركة الصريف تعد بلدة ال ُّر َبي ِْعيَّة من أبرز المناطق التاريخية واألثرية َ بالق ِصيم ،كما أنها من أهم المناطق الزراعية بالمنطقة ،وتقع شرق مدينة ُب َري َْدة -حاضرة َ الق ِصيم -وتبعد منها 27.5كم تقريبًا بخط مستقيم أما الطريق المزفت
170
فهو 30كم تقريبًا ،ويبلغ تعداد سكانها حسب النتائج األولية للتعداد ً ووفقا للتقسيم اإلداري الذي العام للسكان لعام 1413هـ ( )1987نسمة، ً مرتبطا بإمارة المنطقة. صدر مؤخرًا صنفت ال ُّر َبي ِْعيَّة مرك ًزا فئة (أ)
تركي إبراهيم القهيدان باحث في اآلثار والجغرافيا
الرُّب ْي ِع َّية ،بناه عبدالله العوني داخل مزرعته في حدود عام 1250هــ ،وفيه ولد ابنه منزل (العوني) في َ شاعر الجزيرة المشهور محمد بن عبدالله العوني ،في عام 1275هــ.
العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
لمحة تاريخية عن ال ُّر َبي ِْعيَّة
يعرف موقع ال ُّر َبي ِْعيَّة إبان القرون اإلسالمية األولى (الديرتين أو روضة الز ْب َر َتين)؛ إذ يقول ياقوت الحموي: الديرتان :روضتان لبني أسيد بمفجر وادي ال ُّرمة من التنعيم
َ (الق ِصيم) عن يسار طريق الحاج المصعد (،معجم البلدان،
ج ، 2ص ،)495وابتدأ العمران فيها قبل نحو ثالثة قرون، واستمرت تتنامى حتى وصلت إلى ما هي عليه من حاضر
الط ْرفِ َّية أن يؤكد كبار السن من سكان ُّ العديد من آبارهم استخدمت كقبور جماعية ،ومما يؤكد ذلك أن شواهد قبر عبدالرحمن الربدي ال تزال باقية حتى وقتنا الحاضر
مُ شرق.
وقد أكسب مرور وادي ال ُّرمة بأراضي ال ُّر َبي ِْعيَّة أهمية بارزة
لها في القديم والحديث ،من جانب آخر فقد كانت المنطقة
خالل العصور اإلسالمية المختلفة مم ًّرا للحجاج والتجار والمسافرين عبر طريق الحج العراقي البصري ،الذي يتخذ من ً َّ طريقا له (السنيدي ،ال ُّر َبي ِْعيَّة، الص ِريف وال ُب َري َْكة وقاع بوالن ص.)17
وعندما ظهرت السيارات في المملكة أصبحت ال ُّر َبي ِْعيَّة من أشهر محطات طريق الرياض -الوشم َ - الق ِصيم ،ثم بعد ذلك وقوعها على طريق الرياض -سدير َ - الق ِصيم.
ولكثرة الشعراء الذين يتمتعون بجودة الشعر وغزارته في
ال ُّر َبي ِْعيَّة فقد أطلق عليها بعض المختصين «بلدة الشعراء»،
171
ومن هؤالء الشعراء شاعر الجزيرة المشهور محمد بن عبدالله
ُ وقفت العوني ،الذي ولد في ال ُّر َبي ِْعيَّة في عام 1275هــ ،وقد على منزل (العوني) في ال ُّر َبي ِْعيَّة ،الذي بناه عبدالله العوني داخل مزرعته في حدود عام 1250هـ (النقيدان ،من شعراء
بريدة ،ج ،1ص ،)254وال يزال منزله باقيًا ومزرعته قائمة في
ال ُّر َبي ِْعيَّة حتى اآلن ،وفيه ولد ابنه شاعر الجزيرة المشهور ،
ومن أشهر قصائده (الخلوج) التي مطلعها: خلوج تجذ القلب باتلي عوالها (السنيدي ،ال ُّر َبي ِْعيَّة ،ص)163
ترزم بعبرات تحطم أسمالها
ُ ُ وزرت عدة معالم قمت بزيارة ميدانية لمنطقة ال ُّر َبي ِْعيَّة،
طبيعية ومواقع أثرية مهمة ،منها: منشآت ودوائر حجرية
ُ شاهدت منشآت ودوائر حجرية في عدة مواقع شرق
ُ تتبعت تلك المواقع في المنطقة وشمال شرق ال ُّر َبي ِْعيَّة ،وقد لاً الواقعة من طريق األسياح شما إلى جنوب طريق الملك عبدالعزيز جنوبًا ،ووقفت على عدد كبير منها ،وقد الحظت أن الفاصل بين كل وحدة وأخرى ما بين كيلو متر إلى نصف
كيلو متر تقريبًا ،وأغلب تلك المنشآت تمتد بمحاذاة الحافات الصخرية المتعددة في هذه المنطقة.
الرُّب ْي ِع َّيةُ ،وضع لمراقبة األعداء والتصدي لهم أحد أبراج َ مؤخرا. قبل مباغتتهم البلدة ،وقد جرى ترميمه ً
ال ُب َري َْكة ُتحَ ِّتم مكانة هذا الموقع األثري وأهميته بيان مكوناته
العمرانية ومنشآته المائية وغير ذلك مما شاهدته في الموقع، ً حديثا آخر. ولهذا فإنني سأخصص له َّ الص ِريف
ُ خصصت هذا الموقع األثري بحديث في هذه سبق أن
الصريف». المجلة بعنوان« :مواقع أثرية في أرض معركة ِ قاع بوالن
ومستو ،يقع جنوب غرب ال ُّر َبي ِْعيَّة ،وكان هو مكان واسع ٍ ً معروفا منذ القدم ،فقد ذكره بعض الشعراء المتقدمين؛
مثل :مالك بن الريب وجرير ،ويمر بهذا القاع الحجاج
والمسافرون القادمون عبر طريق الحاج البصري ،يقول العبودي مؤكدً ا ذلك :وجدنا بقايا أعالم طريق الحاج باقية ظاهرة للعيان (مُ عْ جَ م بالد َ الق ِصيم ،ج ،5ص .)1910
تراث
لكثرة الشعراء الذين يتمتعون بجودة الر َب ْي ِع َّية فقد أطلق الشعر وغزارته في ُّ عليها بعض المختصين «بلدة الشعراء» المعالم التاريخية ،وقد جرى في اآلونة األخيرة تعبيد جزء منه شجرة (العبرية) يقدر عمرها بأكثر من 250سنة ،اشتهرت كمحطة بالرُّب ْي ِع َّية. يستظل بها المسافرون الذين يمرون َ
األبراج
شجرة (العبرية)
ُ شاهدت شرقي ال ُّر َبي ِْعيَّة في قمة الحافة الصخرية برجين،
تقع في وسط ال ُّر َبي ِْعيَّة جنوب طريق الملك عبدالعزيز.
والتصدي لهم قبل مباغتتهم البلدة في وقت كان الخوف وعدم
بال ُّر َبي ِْعيَّة بعد أن يهيئ لهم أهل البلدة سبل الراحة فيها،
يسمي األهالي المفرد منها صنقر ،وقد وُضعت لمراقبة األعداء االستقرار السمة البارزة في نجد ،ويطل أحد هذه األبراج على
وسط البلدة ،ويشرف على قصر اإلمارة القديم فيها ،وقام األهالي بترميمه سنة 1405هـ ـ أما اآلخر فيقع شمال البرج
السابق بنحو 1٫5كم تقريبًا ،ويطل على شمال البلدة ،وهذا ً محتفظا بشكله رغم انهيار بعض أجزائه. البرج ما زال
172
وسفلتته.
طريق الملك عبدالعزيز َ في عام 1347هـ توجه الملك عبدالعزيز إلى الق ِصيم ،وم ّر
بال ُّر َبي ِْعيَّة في أول رحلة له إلى المنطقة بالسيارات ،ونظ ًرا إلى
وقد اشتهرت كمحطة يستظل بها المسافرون الذين يمرون
ويقدر عمرها بأكثر من 250سنة. قصر اإلمارة القديم
يعد من أهم القصور األثرية في ال ُّر َبي ِْعيَّة وأقدمها؛ إذ
أُسِّ س سنة 1250هـ تقريبًا ،وهو مربع الشكل ،وتبلغ أطواله:
100م × 100م تقريبًا ،ويحيط به سور ضخم ،في كل زاوية
مقصورة (برج مراقبة) ،وال تزال المقصورة الشمالية الشرقية وأجزاء من المقصورة الجنوبية الشرقية باقيتين ،إضافة إلى
أجزاء من أسوار القصر ،وغرف وآبار للمياه ،ويؤكد ما تبقى
صعوبة تضاريس المنطقة الشرقية من ال ُّر َبي ِْعيَّة على مرور السيارات قام أمير ال ُّر َبي ِْعيَّة وأهلها عندما اقترب موكب الملك
وصر بها أهالي ال ُّر َبي ِْعيَّة عندما القصر من أهم القصور التي حُ ِ
اشتهر هذا الطريق باسم طريق الملك عبدالعزيز ،وأصبح أحد
عشر الهجري.
عبدالعزيز بإصالح طريق لعبور سياراته ،ومنذ ذلك الحين
من البناء قوته ومتانته وحسن تصميمه .الجدير بالذكر أن هذا هجم عليهم بندر بن رشيد في العقد التاسع من القرن الثالث
من أبرز األحداث التاريخية التي وقعت في ال ُّر َب ْي ِع َّية (والقريبة منها) أولاً -نظ ًرا إلى موقعها المتميز اتخذها اإلمام عبدالله
بن فيصل بن تركي في عام 1271 - 1270هــ ،وكذلك عام 1277هـ ً ومنطلقا لعدد من عملياته مق ًّرا له في رحالته للقصيم، الحربية آنذاك.
ثانيًا -تعرضت ال ُّر َبي ِْعيَّة لحصار دام أكثر من شهر من
بندر بن رشيد ،وقد نجح أهلها في الدفاع عنها. ً ثالثا -معركة َّ الص ِريف المعروفة التي وقعت أحداثها عام 1318هــ ،بين ابن أمير الكويت ابن صباح ومعه أهل َ الق ِصيم ،ضد ابن رشيد .وقد كانت بداية المعركة هجوم جيش ابن رشيد على أهل َ الق ِصيم مع ابن صباح في ُق َويْ َرة الحاكم شمال ُّ الط ْر ِفيَّة بميل نحو الشرق على بعد 3.2كم
العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
تقريبًا ،وإحداثيات الموقع كاآلتي: 26ْ , 33َ , 970
44ْ , 02َ , 395
ثم امتدت المعركة إلى َّ الص ِريف ،ويؤكد كبار السن من سكان ُّ الط ْر ِفيَّة أن العديد من آبارهم استخدمت كقبور
جماعية ،ومما يؤكد ذلك أن شواهد قبر عبدالرحمن الربدي ال تزال باقية حتى وقتنا الحاضر ،وهو يقع جنوب ُق َويْ َرة الحاكم على بعد 1250مت ًرا تقريبًا .وإحداثيات الموقع كاآلتي: 26ْ , 33َ , 302
44ْ , 02َ ,478
رابعً ا -معركة أبرق المذبح الشهيرة بروضة مهنا التي
وقعت سنة 1324هــ ،وتعد من أهم المعارك التي خاضها الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود.
الربيعية ..بلدة الشعراء وميدان معركة الصريف
آثار أخرى
تقريبا ،وهو من أهم القصور األثرية في الرُّب ْي ِع َّية ،أسس سنة 1250هــ أطالل قصر اإلمارة القديم في َ ً الرُّب ْي ِع َّية وأقدمها ،ويؤكد ما تبقى منه من بناء على قوته ومتانته وحسن تصميمه. َ
ومبان مطمورة تحت رمال يقال :إن هناك آثار آبار ٍ عرق العويقر جنوب الركيّة عن يمين الطريق المتجه نحو ً وأيضا آثار زراعة طمرتها الرمال ال َّن ْب ِقيَّة عبر طريق األسياح، بالركية شمال ال ُّر َبي ِْعيَّة على بعد 9.8كم ،وتحديدً ا في روضة شجعان في الجزء األوسط من شمال غرب الركيّة،
وهذا ما أشار إليه الدكتور عبدالعزيز السنيدي؛ إذ يقول:
173
ذكر لي بعض الرواة :كان هناك آثار زراعة ،إضافة إلى آثار بئر قد طمرتها الرمال ،وقد أعيد حفرها فوجدها مطوية
بالحجارة ،ولما وصلوا إلى قعرها وجدوا بعض جماجم رجال دُفنت فيها ،كما ذكر أن هناك آثارًا أخرى في الجزء
الغربي من الركية ،مطمورة في الرمال وهي بقايا جدران ومبان .إضافة إلى أن هناك العديد من القصور واألبراج ٍ واآلبار القديمة في ال ُّر َبي ِْعيَّة مما مضى عليه أكثر من قرن من الزمن ال يزال معظمها ماثلاً للعيان.
عدة منازل طينية بعضها متهدم وبعضها اآلخر ال يزال يحتفظ ببعض قديما (الجصة). أجزائه ،واألسهم تشير إلى أماكن حفظ التمر ً
الرُّب ْي ِع َّية ،وبعض المزارع الرائعة ،وتبدو فيها غابة نخيل كثيفة. منظر جوي يوضح جانبا من المنازل الجميلة في َ ً
فنون
محمد خان..
المثقف الذي تعاطف مع الفاشلين في تحقيق أحالمهم القاهرة
مثل فلم «ضربة شمس» لمحمد خان ،الذي رحل في يوليو الماضي عن 73عامً ا،
البداية القوية التي ينشدها أي مخرج لمسيرته الفنية ،فمن خالله أظهر خان قدراته على رسم مسارات الكاميرا وتحريك الشخوص ومفاجأة المتلقي .أظهر ً أيضا مدى عشقه القاهرة وشوارعها وليلها الطويل وصمتها المريب ،ومزج ما بين الواقع
الجديد لها في ثمانينيات القرن الماضي وما شاهده في السينما األوربية ،وما درسه
174
في لندن ،ومارسه كمساعد مخرج ببيروت في منتصف السبعينيات.
هكذا قدم خان الواقعية التي أحبها لدى أستاذيه صالح
قدم معادلاً جيدً ا قال من خالله :إنه بإمكان السينما الجيدة
منهما لتفصيالت األماكن والشوارع ومالمح الشخوص من
إىل أن خان لم يكن مخرجً ا نمطيًّا« ،فقد كان انشغاله الدائم
أبو سيف وكمال الشيخ ،وسعى إىل املزج بني عشق كل
خالل أربعة وعشرين فلمً ا هي مجمل إنتاجه السينمايئ، من بينها« :طائر عىل الطريق .موعد عىل العشاء .نصف أرنب .الحريف .مشوار عمر .خرج ولم يعد .عودة مواطن.
زوجة رجل مهم .أحالم هند وكاميليا .سوبر ماركت .فارس املدينة .مسرت كاراتيه .أيام السادات .يوم حار جدًّ ا .بنات وسط البلد .يف شقة مصر الجديدة .عشم .فتاة املصنع .قبل زحمة
الصيف» .وهي يف مجملها أعمال ناقشت أزمة املواطن املصري
يف ظل التحول إىل عصر االنفتاح ،وكيف استطاع املصري النزول بسقف أحالمه إىل الحدود الدنيا ،لكنه ً أيضا عجز عن
تحقيقها.
يرى الناقد السينمايئ طارق الشناوي أن خان كان من أكرث
املخرجني الذين عملوا ضد منطق السوق؛ إذ إنه يف ذروة انتشار ما سمي أفالم املقاوالت قدم أفالمً ا تتوافق مع مزاجه هو وليس مزاج السوق ،وأنه بنجاح أفالمه يف الثمانينيات والتسعينيات العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
أن تنجح وتحقق أرباحً ا .أما الناقدة سارة نعمة الله فقد ذهبت بالطبقتني الوسطى والدنيا من املجتمع املصري ،ما جعله يخرج علينا بأعمال شديدة الجاذبية ،كان الحلم فيها هو
محرك األحداث لدى البطل الذي تارة نراه مواط ًنا عاديًّا تمثل
كرة القدم حلم حياته الذي يتخىل من أجله عن كل يشء، كما يف «الحريف» ،وتارة يكون الريفي الفقري الذي يأيت فيعيش
هوسً ا بأفالم األكشن والكاراتيه كما يف «مسرت كاراتيه» ،وهكذا ً عنوانا ألبطالها». تجيء أعمال خان ظل الحلم
خان كان من أكثر المخرجين الذين عملوا ضد منطق السوق ،وبنجاح أفالمه في الثمانينيات والتسعينيات قدم معادال جيدا قال من خالله :إنه بإمكان السينما ً أرباحا الجيدة أن تنجح وتحقق ً
مع السيناريست وسام سليمان فقدما (بنات وسط البلد .يف
شقة مصر الجديدة .فتاة املصنع) وغريها». عاش محمد خان حاملًا بالجنسية املصرية أكرث من
سبعني عامً ا ،فقد ولد ألب باكستاين وأم مصرية عام 1942م
بحي السكاكيني بالقاهرة ،ولم يحصل عىل الجنسية املصرية
إال بقرار رئايس من عديل منصور عام 2014م ،وقد تويف يف 26
يوليو 2016م بعد مشوار طويل يف الفن والحياة ،بدأه عام
1956م حينما سافر إىل إنجلرتا لدراسة الهندسة املعمارية، غري أنه ترك الهندسة والتحق بمعهد السينما ،ولم يكتف
بمعرفة اآلالت والتقنيات فقد تعرف السينما العاملية يف الستينيات ،من خالل متابعته أفالم املوجة الفرنسية الجديدة ،وأفالم املوجات الجديدة يف السينما التشيكية والهولندية واألمريكية ،وما قدمه أنطونيوين وفلليني وكريوساوا وغريهم من عمالقة اإلخراج يف العالم ،إضافة إىل
متابعته مدارس النقد السينمايئ؛ مثل« :كراسات السينما الفرنسية» وغريها من املجالت السينمائية األخرى التي شكلت مدرسة محمد خان الحقيقية.
أما الناقد كمال القايض فريى أن فلم «أحالم هند
وكاميليا» قدم شريحة اجتماعية مهمشة تمثلت يف الخادمة وابنتها وصديقتها والزوج ،وجميعهم ضحايا قطار الحياة،
«فظلت أمنياتهم مختزلة يف الحصول عىل املال والخالص
من الفقر الذي صار هويتهم ،أما فلم «موعد عىل
العشاء» فهو من النوعية اإلنسانية التي ميزت
أعماله ،ففيه يتناول العالقة القسرية املركبة بني زوجني مختلفني يف كل يشء ،إىل الحد الذي تصعب معه قدرة الزوجة عىل التكيف؛ ومن
ثم اختيارها االنتحار كحل بديل للحياة ،وفيه
يؤكد خان عىل أهمية الحرية كقيمة إنسانية ال يعوضها
يشء آخر».
ويرى املخرج الكبري داود عبدالسيد أن خان مر بمراحل
عدة« ،أكرثها غنى هي التى تعاون فيها مع السيناريست
عاصم توفيق ،فقدما عددًا من أجمل األفالم؛ من بينها
«خرج ولم يعد» .وذهب عبد السيد إىل أن أفالم خان التي قامت عىل فكرة البطل الوحيد كـ(ضربة شمس ،والحريف،
وفارس املدينة ،وطائر عىل الطريق) «تحيك بشكل غري مباشر
تجربته كابن وحيد سافر وحيدً ا وتعلم وأثبت نفسه» .وقال عبدالسيد :إن خان كان شديد االهتمام بقضايا املرأة منذ
«أحالم هند وكاميليا»« :وتأجج هذا االهتمام بعد أن تعاون
175
سينما
عباس كياروستامي.. السينما التي ال تشبه إال ذاتها إبراهيم العريس ناقد سينمائي لبناني
176
«تعجز كلماتي عن وصف شعوري تجاه هذه األفالم .حين رحل ساتياجيت راي ،شعرت بانهيار شديد .لكني بعدما شاهدت أفالم كياروستامي ،شكرت ربي على كونه أعطانا الشخص المناسب ليأخذ مكانه» .قائل هذا الكالم ليس سوى المخرج الياباني الكبير الراحل آكيرا كوروساوا .وهو كتبه كما يبدو واضحً ا ،بصدد أفالم المخرج اإليراني الراحل قبل أسابيع عباس كياروستامي، ليضاف كالمه إلى ما قال كبير آخر من كبار السينما العالمية في أيامنا هذه ،مارتن سكورسيزي مشيرًا إلى أن كيارستامي يعد من بين أفضل السينمائيين األحياء في العالم.
العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
اليوم بعد رحيل صاحب «طعم الكرز» ،و«أين منزل
الصديق؟» ،يمكن التساؤل عن املكانة التي يحتلها يف تاريخ
السينما ،وقد اكتملت سينماه ،ولم يعد قادرًا عىل إضافة يشء إىل ما سبق له إنجازه .مهما يكن ،من املؤكد أن رحيل كياروستامي،
سوف يعدل النظرة إىل سينماه ومساره الفني؛ إذ لم يعد قادرًا
اآلن عىل أن يحدث أي تعديل فيه.
لكن رحيل كياروستامي أىت مفاج ًئا ،ويف وقت كان الرجل ال
يزال مملوءً ا باألحالم واملشروعات .هو الذي كان يقول دائمً ا :إن لديه باستمرار شي ًئا يقوله ،يف سينماه ،وهو الذي كان التجديد،
يف املوضوعات واألشكال السينمائية سمة أساسية لديه ،ناهيك عن اهتمامه بعدد ال يستهان به من الفنون األخرى ،كاألوبرا
والشعر والتصوير الفوتوغرايف واملسرح .فكياروستامي كان من
طينة أولئك املبدعني القلة يف األزمان األخرية ،الذين ال ينظرون إىل
السينما ،مجال نشاطه الرئيس عىل أي حال ،كفن بني الفنون، بل كفن يشمل العديد من الفنون .ومن هنا حتى وإن كان إيرانيًّا، ً منغلقا عىل هوية محددة ،أو يف تراثه وتعبرياته ،فإنه لم يكن عىل ثقافة محدودة .بمعنى أنه حني انصرف يف سنواته األخرية إىل تحقيق أفالم يف «الخارج» ،مرة يف إفريقيا «إ.ب .ث .إفريقيا»،
ومرة يف إيطاليا مع نجمة فرنسية ومغني أوبرا إنجليزي شهري،
«نسخة طبق األصل» ،وثالثة يف اليابان «مثل شخص مغرم»،
لم يكن يرى نفسه منفيًّا خارج بلده ،وخارج ثقافته؛ بل متابعً ا
عمله يف سرب أغوار املوضوعات التي دائمًا ما أثارت اهتمامه ،لكن
أكرث من هذا ،األشكال السينمائية التي كانت تحركه فتستنفره، ويجدد فيها؛ يك يبدع تلك السينما املتفردة ،التي من الصعب
القول :إنها تشبه أية سينما أخرى. إعادة اخرتاع الحقيقة
فلم نسخة طبق األصل
«الحياة مستمرة» ،موضوعه الزلزال ،والبحث عن مصري صبي الفلم األول عىل وقع تلك النكبة...
قد يبدو كالمنا هنا أشبه بالكلمات املتقاطعة ،ولذلك سنعود ً انطالقا من سؤال قد يبدو تبسيطيًّا هنا ،لكن أهميته إليه مواربة،
سوف تنجيل بعد قليل :ترى لوال الزلزال املريع الذي عرفته منطقة
شمال إيران يف (يونيو) 1990م ،هل كان من شأن سينما املخرج اإليراين الكبري عباس كياروستامي ،أن تلفت نظر العالم إىل الحد
الذي لفتته به؟ وبشكل معاكس يمكن طرح السؤال عىل النحو
لعل «الشكل» السينمايئ األول لديه يتلخص يف ذلك املزج
اآليت :لوال ثالثية عباس كياروستامي املؤلفة من أفالمه «أين منزل
لعبًا عىل الكالم هنا ،بل قسط من جوهر اللعبة الفنية ،يتمثل
يمكن لذلك الزلزال املرعب أن يبقى يف ذاكرة الناس الذين لم يعيشوا ذلك الزلزال ًّ حقا؟
املدهش بني الواقع والخيال ،أو باألحرى ،إعادة اخرتاع الحقيقة ً انطالقا من فكرة تخييلية مستمدة أصال ً من الواقع .وليس هذا لدى كياروستامي منذ البداية ،ويجد نموذجه األمثل يف العالقات
االستنباطية التي تربط أفالم ثالثيته املشتهرة واملسماة «ثالثية
كوكر»؛ ألن «أحداث أفالمها الثالثة» تقع يف منطقة جبال كوكر اإليرانية ،املنطقة التي بقدر ما اشتهرت بأفالم كياروستامي،
اشتهرت كذلك بالزلزال العنيف الذي وقع يومًا فيها .لكن ما يجدر
مالحظته هنا هو أن كياروستامي قد بدأ االشتغال سينمائيًّا عىل قرية يف تلك املنطقة الجبلية ،قبل وقوع الزلزال ،وكان ذلك يف
أول أفالمه الشهرية «أين منزل الصديق؟» .أما الزلزال فقد حدث ً الحقا بعد إنجاز الفلم ،ما دفع املخرج ،يف ربطه املحكم بني الواقع والسينما ،إىل أن يعود بعد الزلزال إىل املنطقة ليصور فلمً ا ثانيًا هو
الصديق؟»« ،الحياة مستمرة» ،و«عرب أشجار الزيتون»؛ هل كان
نطرح هذين السؤالني ملجرد اإلشارة إىل ذلك التواصل املدهش
بني ما ينتمي إىل عالم الواقع والحياة ،وما ينتمي إىل عالم الفن، نعني الفن الحقيقي الذي ينهل من الحياة وشرايينها .ومع هذا
فإن العالقة بني سينما كياروستامي والزلزال الذي ضرب شمال إيران يوم 1990/6/21م ،لم تبنها سوى صدفة مدهشة جعلت من
تلك املنطقة املكان الذي صور فيه كياروستامي واحدً ا من أجمل
وأول أفالمه وهو «أين منزل الصديق؟». ً إذا ،حني صور املخرج فلمه هناك ،لم يكن الزلزال قد حدث بعد .والفلم يدور حول حكاية هادئة عن فتى يبحث عن منزل
صديقه؛ ليعطيه دفرت دروس كان هو قد احتفظ به خطأ .الذي
177
سينما
حدث بعد إنجاز الفلم ،هو أن الزلزال ضرب املنطقة نفسها ودمر
كان كرث يدهشون لكونه ال يغادر إيران نهائيًّا كما فعل حتى اآلن
ومن هنا كان من الطبيعي لكياروستامي أن يحقق فلمً ا جديدً ا
انصرف ،من دون أي إعالن سابق ،ومن دون أداء دور املضطهد
القرية التي يسكن فيها الصديق الذي بحث الفلم األول عن منزله. يدور حول البحث عما آل إليه مصري بطل الفلم الصغري .فإذا
بالفلم يكشف عن إصرار الناس عىل العيش رغم قسوة الزلزال. ً متحدثا عن قوة الفن وارتباطه أما الجزء الثالث من الثالثية فأىت
أو الشهيد ،خالل األعوام األخرية إىل تحقيق فلميه األخريين يف الخارج :يف إيطاليا بالنسبة إىل «نسخة طبق األصل» ،ويف اليابان بالنسبة إىل «مثل شخص مغرم» .والالفت أن ليس ألي من هذين
بالحلم من خالل حكاية شاب يحب فتاة ،لكن أهلها ال يرغبون عريسا لها؛ ألنه ال يملك بي ًتا .وإذ يحدث الزلزال ،يصبح أهل فيه ً
ظاهريًّا عىل األقل كما سوف نرى بعد قليل .ألم نعرف دائمً ا
والفتى) ال يجتمعان إال ككومبارس خالل تصوير فلم كياروستامي
أفالمه األوىل؟ وتجريبية كياروستامي كانت تشمل كل يشء ،من
الفتاة أنفسهم من دون بيت ،فيتساوى الطرفان .لكنهما (الفتاة
الثاين ،حيث يحل اجتماعهما يف الفن الفلم ،محل اجتماعهما يف الحياة .وهكذا صار للزلزال ثالثية .ولكن لنئ كان العالم كله
قد اهتم بالثالثية فإن اإليرانيني أنفسهم -وهذا طبيعي -اهتموا بالزلزال نفسه؛ ألن جمال السينما وعمقها ال يمكن أن ينسيا أحدً ا
عمق املأساة ورهبتها.
الفلمني عالقة بسينماه القديمة الرائعة ،وال بإيران نفسها، أن كياروستامي فنان تجريب متواصل ،وعىل كل الصعد ،منذ االشتغال بالتصوير الفوتوغرايف ،إىل ربط أفالمه بعضها ببعض. عوالم استثنائية
باك ًرا ،منذ أول أفالمه إىل «ستحملنا الرياح» ،و«كلوز أب»،
وما أعقبها من أفالم ،سرعان ما غزت العالم وحققت الجوائز
والحقيقة أننا ما أسهبنا يف الوقوف عند هذه النقطة ،إال
الكربى ،وأضافت اسم عباس كياروستامي إىل أسماء أولئك
بني الواقع والفن .ونعود هنا إىل رحيل كياروستامي ،الذي لم
الياباين ،حتى يوسف شاهني املصري ،الذين يؤكدون دائمً ا مقولة
ألنها تكاد وحدها تختصر تلك العالقة التي يقيمها كياروستامي
178
معظم كبار املبدعني واملفكرين اإليرانيني ،تمامًا كما دهشوا حني
السينمائيني العامليني الكبار :ساتياجيت راي الهندي وكوروساوا
يكن أحد يتوقع له أن يأيت يف مثل تلك السرعة؛ فالرجل كان ً معروفا منذ شهور ،أنه مريض وتزداد حال مرضه سوءً ا يومً ا
سينما عن املوت والحياة ،سينما عن السينما ،سينما ال تخاف
السرعة .فصاحب األفالم الكبرية التي طبعت السينما العاملية
الفرد وموقعه ،سينما روحية تكاد تكون صوفية ،سينما تستنجد
بعد يوم ،لكن أحدً ا لم يكن يتوقع أن يكون رحيله بمثل هذه بتجديداتها اللغوية واملفهومية ،وساهمت يف السمعة املبهرة التي
حازتها السينما اإليرانية يف العالم ،كان ال يزال يعطي حتى شهور
قليلة خلت ،مؤشرات حيوية ال تنضب ،ويشتغل عىل موضوعات
عدة ملشروعات مقبلة .ومع هذا ،ها هو نبأ رحيله يصل يف وقت أوبرايل، سينمايئ، كنا نتساءل عمّا سيكون مشروعه املقبل؟ ّ ّ أدبي...؟ فكياروستامي خاض كل هذه األنواع وغريها، فوتوغرايفّ ، ّ ً وخصوصا األنواع مجتمعة أو متفرقة ،يف داخل إيران وخارجها،
غري السينمائية ،كانت خارجها.
مهما يكن ،وعىل رغم أن كل الدالئل كانت دائمً ا تشري إىل أن
راض عن بعض سياسات بالده ،من دون عباس كياروستامي غري ٍ
أن يجعل من نفسه وفنه سالحً ا يف أي معركة من هذا النوع،
أن ال مكان لنبي يف بلده ،حدد كياروستامي عوامله السينمائية:
خوض التجارب ،سينما تتأرجح بني الوثائقي والروايئ ،سينما عن بالصورة لكنها ال تخىش اختفاءها تاركة لألصوات أن تشتغل
بديلة منها ،وبخاصة سينما تشاكس إنما ال يبدو عليها أنها تفعل
ذلك ،تشاكس أخالقيًّا وسياسيًّا وجماليًّا ...ولكن دائمً ا باالستناد إىل ذلك املكر اإليراين الظريف والخفي الذي كان كياروستامي ً ملكا من ملوكه يف مجال الفن.
وعلينا للتيقن من هذا عىل أية حال ،أن نتذكر امرأة فلم «عشرة» وهي تتجول بسيارتها يف شوارع طهران مبدّلة ر ّكابها عشر مرات ،أو نساء إيرانيات وهنّ يشاهدن بشغف حكاية «شريين» َّ تمثل أمامهن عىل شاشة ال نراها .أو ذلك الشغف بالسيارات ودالالتها يف درامية أفالمه ...هذا كله وغريه علينا أن نتذكره؛ يك ندرك الخسارة التي يمثلها غياب هذا املبدع الكبري الذي حني سئل يومً ا :ملاذا ال يغادر إيران كما فعل غريه؟ أجاب
رحيل كياروستامي أتى مفاج ًئا ،وفي وقت
مبتسمًا« :أنتم لو انتزعتم شجرة من أرضها وزرعتموها يف أرض
دائما :إن لديه باستمرار هو الذي كان يقول ً
املذاق كما كانت حالها يف أرضها القديمة» .والحقيقة أن مقارنة
كان ال يزال مملوءًا باألحالم والمشروعات. شي ًئا يقوله ،في سينماه ،وهو الذي
كان التجديد ،في الموضوعات واألشكال السينمائية سمة أساسية لديه
العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
أخرى ،قد تواصلون الحصول عىل ثمارها ،لكنها لن تكون طيبة سريعة بني أفالم كياروستامي اإليرانية ،والسينما التي حققها يف
الخارج ،ستحسم الجواب هنا.
موسيقا
شيخ المؤرخين والنقاد الموسيقيين
زين نصار :االستخدام العشوائي للتقنية دمر الموسيقا وأفسد الذوق العام القاهرة
يعد الدكتور زين نصار شيخ المؤرخين الموسيقيين في مصر وربما في العالم العربي ،فقد شغل منصب أول رئيس لقسم
النقد الموسيقي في المعهد العالي للنقد الفني مدة سبع
سنوات ،وأشرف وشارك في مناقشة ( )147رسالة ماجستير
ودكتوراه في مجاالت الموسيقا والغناء والنقد في كل من (أكاديمية الفنون ،وجامعة حلوان ،وجامعة القاهرة،
وجامعة عين شمس ،وجامعة اإلسكندرية) ،وكتب المادة العلمية على مدار 37عامً ا لكثير من البرامج الموسيقية في اإلذاعة المصرية ومن بينها :عالم الموسيقا (استمر مدة 26عامً ا)، وفن الباليه ،وسؤال موسيقي، والموسيقا المصرية المتطورة، وإيقاعات ونغمات ،وسهرة مع الموسيقا ،ومع الموسيقا العالمية ،وأوتار موسيقية، والموسيقا عبر العصور.
179
موسيقا
زكريا أحمد
اهتم بشكل خاص بالتأريخ للموسيقا والغناء يف مصر
ملاذا لم تلجأ إىل الدولة لتقديم العون يف هذا الشأن؟
كبار املوسيقيني املصريني؛ لتوثيق املعلومات عن حياتهم
الجمع والتسجيل والتفريغ ،وكنت كلما أنجزت رصدي لحياة
يف القرن العشرين ،وأجرى كثريًا من األحاديث املسجلة مع ومؤلفاتهم ،وصدر له كثري من املؤلفات يف مقدمتها «موسوعة املوسيقا والغناء يف مصر يف القرن العشرين» .الفيصل حاورته
حول هذه املوسوعة وموضوعات أخرى.
_ ألنه لن يساعدين أحد ،ولدي خربة كبرية اآلن يف مسألة
وتاريخ وأعمال ملحن أو مؤلف أقوم بنشر ما أنجزت يف مجلة الفنون التابعة للنقابات الفنية التي صدرت عام 1977م ،وبدأت مشاركتي فيها من العدد الخامس.
ما الذي دفعك إىل إعداد موسوعة عن املوسيقا والغناء
هل تسعى إلعداد موسوعة موازية عن املوسيقا والغناء
_ يف عام 1977م كنت أعد دراستي للماجستري ،ولم
_ هذه خطة طموحة أتمنى أن يوفقني الله لها ،وإن كنت
كباحث ،ومن هنا بدأت الفكرة وأنا أعمل عىل املؤلفني املصريني
املصري ،إضافة إىل أن األشقاء يف البلدان العربية لديهم من
املصري ،وما الذي قدمته عىل مدار أجزائها الثالثة؟
180
سيد درويش
عمار الشريعي
يكن هناك تاريخ مكتوب للموسيقا بشكل يفي بالغرض لدي
ومؤلفات األوركسرتا السيمفوين ،وقد نشرت هذا الكتاب عام 1990م تحت عنوان« :املوسيقا املصرية املتطورة» ،بعد ذلك بدأت يف تسجيل حوارات حية مع كبار امللحنني ،وصدرت املوسوعة
عام 2003م ،كان جزؤها األول عن امللحنني ،وقد رتبتهم فيها
حسب أسبقية تواريخ امليالد بداية من عبده الحامويل إىل عمار الشريعي املولود عام 1948م .ويف الجزء الثاين من املوسوعة
أضفت ملحنني آخرين ،فقد اشتمل الجزء األول عىل نحو 48 ملح ًنا ،أما الجزء الثاين فقد ضم أسماء لم تكن أدرجت ،من
يف العالم العربي؟
أرى أنني لم أنته بعد من رصد وتسجيل كامل املوسيقا والغناء يؤرخ ملوسيقاهم ،وقد التقيت كثريين منهم يف إطار سفريايت
أو عميل األكاديمي ،وأشرفت يف بعض األوقات عىل رسائل ماجستري ودكتوراه لبعضهم يف هذا املجال ،ويف حال توافر
الطاقة والجهد املالئم فإنني سأشرع يف ذلك.
يف رأيك كيف يمكن الحفاظ عىل تراثنا املوسيقي املتنوع؟ _ عرب كتابة تاريخه بشكل صحيح ودقيق ،وتسجيله
عىل تسجيالت صوتية ومرئية لألجيال املقبلة ،ونشره اآلن
بينها :محمد رشدي ،وكمال الطويل ،وسيد إسماعيل ،وسيد
يف الصحف واملجالت ومختلف تقنيات اإلعالم الحديثة ،مع
وقمت بتفريغ الحوارات وإعادة تحريرها وحدي وبنفيس ،وبلغ تعداد امللحنني يف الجزء الثالث نحو 150ملح ًنا ،وأسعى اآلن
حدث يف أثناء إنجازهم لها وكل ما يعن من تفصيالت مفيدة
مكاوي وغريهم ،وأجريت حوارات مع الجميع بالكاسيت،
إلنجاز جزء جديد عن املؤلفني وقادة الفرق والنقاد.
تعريف بأهم الفنانني وامللحنني والتعليق عىل أعمالهم وما يف الرصد والتأريخ.
كيف أثرت فكرة السعي املتزايد خلف الربح يف املنتج
ثورة يوليو تعاملت بسخاء مع الفن،
املوسيقي اآلن؟
1959م وما بها من معاهد فنية ،لكن
أجل استمرار الحياة ،لكن اآلن أصبح التفكري يف هذا االتجاه متزايدً ا ،ومع تدهور الذوق العام ُ ضمِّ نت األغاين املصرية
فهي أنشأت أكاديمية الفنون عام عصر االنفتاح أضر بكل شيء
العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
_ طيلة الوقت والفنان يفكر يف الربح بشكل ما ،ربما من
ً ألفاظا خارجة وبذيئة وسوقية ،وصاحب ذلك تركيبها عىل
أعمال فنية تلفزيونية تدعو إىل البلطجة
وتجعل الشباب يتصورون أن هذه هي الحياة الحقيقية ،وقد لعب عامل
الربح بشكل واضح عىل دفع الفنانني من شعراء وملحنني وموزعني إىل السري
يف ركاب املوج العايل للمادة ،وهذا أسهم بشكل واضح يف تزييف كل يشء بدءً ا من املوسيقا وصولاً إىل القيم التي يتغنون بها.
حدثنا عن املحطات األساسية يف تاريخ املوسيقا والغناء
املصري يف العصر الحديث؟
_ أول محطة أساسية يف تقديري هي صناعة األسطوانات
عام 1904م ،حيث سُ جِّ ل للشيخ سالمة حجازي وغريه .املحطة
الثانية هي ظهور املسرح الغناين لسالمة حجازي وسيد درويش وزكريا أحمد وكامل الخلعي وغريهم .واملحطة
الثالثة كانت ظهور اإلذاعة املصرية عام 1934م ،فقد كانت من قبل إذاعات أهلية يقوم كل صاحب محطة بإذاعة
وقول ما يريده من خاللها ،حتى قررت الحكومة إلغاء هذه اإلذاعات وإنشاء اإلذاعة املصرية فقط ،وكانت تقدم املؤلفات
املصرية والعاملية من خالل أوركسرتا اإلذاعة املصرية ،وظل هذا األوركسرتا موجودًا يف اإلذاعة حتى عام 1959م إذ انتقل إىل دار األوبرا .لكن املحطة الرابعة يف نظري هي ثورة يوليو
التي تعاملت بسخاء مع الفن ،كما أنشأت أكاديمية الفنون عام 1959م وما بها من معاهد فنية .واملحطة الخامسة كانت
ظهور شرائط الكاسيت ،وهي تضافرت مع مجيء عصر
االنفتاح الذي أضر بكل يشء؛ إذ إن املهنيني كانوا يعودون من بلدان الخليج بما معهم من أموال ،فيقومون باالستثمار يف املجال الفني ،كل حسب ذوقه ودرايته بالفن ،فظهرت شرائط الكاسيت خارج نطاق لجان اإلذاعة املصرية ،وهذا عاد
بنتائج سيئة جدًّ ا عىل الذوق العام ،ولنا أن نتخيل أن فريد األطرش تويف عام 1974م ،وتوفيت أم كلثوم عام 1975م،
وتويف عبدالحليم حافظ عام 1977م ،هكذا خسر العالم العربي أهم وأشهر ثالث قامات يف الغناء عىل مدار ثالث أو
عبدالحليم حافظ
أم كلثوم
عدم المعرفة بالفن والموسيقا أدى إلى قتل المواهب وفتح المجال على مصراعيه للسرقة من األعمال العالمية أو التراث الشرقي ً أصواتا ال عالقة هذا الجهاز أيسء استخدامه بشكل أنتج
لها بالواقع ،كما أيسء استخدام األورغ الكهربايئ وقدرات الحاسب اآليل وضبطها ألصوات اآلالت الصناعية .لقد صرنا
نعيش يف عالم زائف ال وجود له ،عالم من الخداع والربامج الجاهزة التي تستخدم من دون فهم ،إضافة إىل أن الحس
اإلنساين يف الغناء واملوسيقا لم يعد موجودًا .ولألسف ال
أحد يعرف أن املوسيقا العربية أساسها العود ،وأن كل هذه اآلالت غربية .املوسيقا العربية هي العود وليس الغيتار ،وأهم أساس إلنتاج موسيقي جيد هو فهم اآلالت وطبيعتها إضافة إىل املوهبة والدراسة ،أما االستخدام العشوايئ لآلالت توفريًا
لتكاليف ال ِف َرق أو عدم معرفة بالفن واملوسيقا فقد أدى ذلك
كله إىل قتل املواهب وإفساد الذوق العام وجعل الفن كتمثال من نحاس ،ضجيج بال روح .وهو ما أضر بالبناء املوسيقي كله،
كما فتح املجال عىل مصراعيه للسرقة من األعمال العاملية أو
الرتاث الشرقي ،وكذلك فتح املجال لالستسهال واستخدام األلحان القديمة بتوزيعات جديدة ،حتى إن كل اإلعالنات اآلن تقوم عىل سرقة ألحان مهمة مثل الليلة الكبرية وغريه،
ولألسف قانون جمعية املؤلفني وامللحنني حسبما علمت مؤخ ًرا
أربع سنوات ،لنفتح املجال لكل من أراد أن يغني ،وكل من ً شريطا ويطرحه يف األسواق. أراد أن يمأل
يسمح بأن يدفع أي شخص رسوم استغالل أي لحن ويقوم
ما أثر التقنية الحديثة يف الغناء يف مصر والعالم
يزيحه وال يتذكر الناس سوى شكل اإلعالن ،كما أنه ال يدفع
العربي؟ _ لقد زيفت كل يشء ،يكفي أن نعرف أن هناك جهازاً
لتحسني الصوت وضبطه من غري إعادة الغناء من جديد،
بإعادة إنتاجه ،وهذا األمر كارثة ألنه يفقد املرجع أهميته ،وقد الشباب إىل االبتكار واملغامرة وتقديم طرح موسيقي جديد
بقدر ما يجعلنا ندور يف حسبة عدد معني من األلحان نعيد إنتاجها بشكل مبتذل ومتكرر.
181
مقال
عزلة الشاعر وواقع الشعر
ماجد الحجيالن رئيس التحرير
182
لعل أكثر الظواهر بروزا فيما يخص الشعر ً العربي اليوم هي مرور الربيع العربي ثقيلاً على الشعب خفيفً ا على الشعر .خرجت الناس إلى الشوارع والميادين، وصدحت الحناجر ولم نرصد قصيدة واحدة ترددها الجماهير
ُ حاورت الشاعر الراحل محمد الثبيتي منذ قرابة عقدين في لقاء إعالمي ،وكان حينها قد مال إلى العزلة ،وابتعد من النشر وأجواء الصحافة الثقافية في أعقاب ما تعرضت له موجة الحداثة من نكسات ،وعلى خلفية ما واجهه ديوانه (التضاريس) من هجوم التيارات اإلسالمية؛ إذ صودر من األسواق ،ثم سحبت من الشاعر جائزة النادي األدبي في جدة ،أتذكر قوله ً ُ موظفا عند النقاد» مؤكدً ا أنه تجاوز (التضاريس) لكن النقاد «لست وقتها: ّ لم يتجاوزوها ،وظلوا يسجنون قصيدته في أجوائها ،وأنه مل من إقناع األكاديميين بذلك ،وكدليل على تجاوزه هذا؛ أنشدني ألول مرة قصيدته النوعية (تعارف /غرفة باردة) ،وتضمنت تأمله الذاتي واشتغاله بالمحسوس واليومي ،تمامً ا كما يصف النقاد قصائد شعراء اليوم التي تحولت من الشأن العام إلى الخاص ،ومن قضايا األمة إلى هموم الفرد.. والحقيقة أن نصوص الثبيتي في الثمانينيات كانت مختبر جيل كامل من النقاد السعوديين المفتونين بالشعر الحديث آنذاك ،وهو ما أثقل روحه المرهفة وشخصيته الميّالة للعزلة والخجل ،غير أن عزلته وغيابه الطويل بعد (التضاريس) أنتجا في وقت الحق مجموعة (موقف الرمال) التي رآها هو نقلة فنية وبنيوية في شعره إلى مرحلة جديدة ..ومنذ أن رأيته في لقاء المثقفين السعوديين بالرياض منفردًا وحائ ًرا ،مرورًا بانتظاره على مسرح كلية اليمامة حيث أدرج اسمه في األمسية ولم يحضر ،حتى زرته في المستشفى في أيامه األخيرة بجدة مستوحدً ا ومنتظ ًرا الرحيل؛ ً برهانا على الثمن الذي يدفعه الشاعر إلنتاج ظلت شخصية الثبيتي عندي قصائده ،إنه كم هائل من المزاجية والعزلة والفردية.. إلي بعض هذه الذكريات وأنا أقرأ مقالة الشاعر سعدي يوسف عادت ّ َ ٌ أطال صمت المنشورة في هذا العدد من مجلة الفيصل ،حين تساءل« :ثمّ ة الـمَ ْـك َ ث .مَ ن بعد الثبيتي؟» مستفهمً ا عن حال الشعر السعودي بعد غياب
الثبيتي ،والواقع أن سعدي يوسف كرر السؤال نفسه عن المشهد الشعري في دول عربية أخرى بعد رحيل كبار الشعراء العرب ،وقد تبدو اإلجابات الجاهزة عن هذه األسئلة يسيرة ،بإحالتها إلى ما يتردد عن زمن الرواية ،أو ظهور أوعية إلكترونية جديدة للتعبير ،وخالف ذلك من أسباب؛ غير أنها جميعً ا غير كافية لتكون إجابة شافية عن مساحة الشعر اآلخذة في التقلص واالنكماش.
وقد خصصت « الفيصل » ملف هذا العدد لمحاولة اإلجابة عن أسئلة غياب الشعر العربي ومآالته في السنوات األخيرة ،وكثير ممن شاركوا في هذا الملف رفضوا فكرة تقسيم أحوال الشعر جغرافيًّا مؤكدين أن ما يمر به الشعر العربي هو شأن عام وال يخص منطقة أو بلدً ا بعينه ،وسيجد القارئ العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
مقاالت لكبار الشعراء والنقاد العرب يحاولون فيها التعاطي مع المسألة الشعرية اليوم ،رافضين وصفها باألزمة ،مؤكدين أن «الشعر ضرورة» كما يعبِّر أحمد عبدالمعطي حجازي في مقالته. ولعل أكثر الظواهر برو ًزا فيما يخص الشعر العربي اليوم هي مرور ً خفيفا على الشعر .خرجت الناس إلى الربيع العربي ثقيلاً على الشعب الشوارع والميادين ،وصدحت الحناجر ولم نرصد قصيدة واحدة ترددها الجماهير ،لقد حمل العرب حقائبهم ،وتشتتوا في المنافي ،أو هاجروا في البحر ،وتركوا الشعر وراءهم ..إن غياب الشعر عن أكبر هزة زلزلت الثقافة والسياسة العربية لهُو سؤال كبير ،وحيثما قرأت اعتذارات نقدية تقول :إنها لحظة انفعالية آنية يحتاج الشاعر وق ًتا ليستوعبها؛ تذكرت الجواهري ونزار قباني وغازي القصيبي. القصيدة هي ثمرة احتدام طويل ،إنها المرحلة األخيرة من تجارب حياتية ولغوية يجب أن يعيشها الشاعر ،وإذا قطع هذا االحتدام طارئ ما؛ أفسد التجربة كلهاّ ، ونغص على الشاعر عزلته التي يغتنمها ليجمع المعاني وتنصهر الصور في الكلمات ،فهل تتوافر هذه العزلة في أيامنا هذه؟ لقد صار الشعراء اليوم مصلوبين على حساباتهم في فيسبوك وتويتر ،وما إن تعنّ للشاعر فكرة حتى يسربها في مئة حرف لتغيب وسط ماليين الحروف
األخرى في الدقيقة الواحدة. ويعنيني هنا إيراد حكاية شاعر ظل يقاوم فكرة الهاتف الذكي وحسابات المواقع االجتماعية وتطبيقاتها المتناسلة ،ونجح في الصمود سنوات حتى هُ زم أمام إلحاح الناس ،وصار اليوم يكره قراره بشراء هذا «الجاسوس
الصغير» كما يسميه .لقد أنهكت األخبار العاجلة وبرامج المحادثات خصوصية المبدع ،وانطواءه الخالق ،ولعلها خدمت الكاتب واإلعالمي، غير أن األجهزة الذكية أجهزت على خيال الشاعر ،واقتحمت عليه الباب، وهاجمته بالنصوص والمعلومات والصور. ولد الشعر عند العرب ليكون وسيلة التواصل االجتماعي ،به يتناقلون األخبار ويعبرون عن أشجانهم وأفراحهم ،عن واقعهم وأحالمهم ،وجاء استحداث وسائط تقنية لهذا االتصال االجتماعي ليؤثر في الشعر تأثي ًرا ً بالغا، لقد هزم الفيديو الصورة الشعرية ،وخضع المجاز واالستعارة أمام النصوص اإلخبارية والتعليقات اليومية .عالمنا اليوم شديد الواقعية ،ال يترك مساحة للخيال الذي هو مادة الشعر ..إنه واقع جديد يتطلب استجابات جديدة تناسبه .هكذا نرى الشعر محض نص هامشي ألغنية سريعة ،لقد عبث موسيقيو اليوم بالقصيدة؛ كي تستجيب للنوتات الزاعقة ،وهكذا ً أيضا نجد َ أردت دليلاً أخي ًرا على واقع الشعر يلهث في مسابقات ال عالقة لها به ،وإذا الشعر اآلن فما عليك إال قراءة قصائد الفائزين بالجوائز الشعرية العربية.
www.alfaisalmag.com مدير التحرير
أحمد زين
اإلخراج
ينال إسحق التنفيذ
رياض دفدوف مبارك علي الموقع اإللكتروني
معتز عبدالماجد
المراجعة اللغوية
محمد نصير سيد مراسالت التحرير واإلدارة
ص.ب ( )3الرياض 11411 المملكةالعربيةالسعودية هاتف المجلة )+966( 11٤٦٥3027 : )+966( 11٤٦٥٢٢٥٥ فاكس)+966( 11٤٦٤٧٨٥١ : contact@alfaisalmag.com
اإلعالنات هاتف .11٤٦٥٢٢٥٥ :ـ فاكس.11٤٦٤٧٨٥١ : advertising@alfaisalmag.com االشتراكات والتوزيع
.11٤٦٥٢٢٥٥تحويلة6640 : subscriptions@alfaisalmag.com
مقال
ديوان العرب... ُ أمأهول هو اآلن؟ ٌ اعتراضات ِع ّدةٍ ،أن الشع َر ال يزال ديوانَ العرب. أرى ،بالرغم من ٍ ِ ُ معرض مفاضل ٍة نافلةٍ ،بين الشعر والرواية، أقول هذا ،ليس في ِ ٌ ٌ ُ ً ُ ُ روائي فاألنواع األدبية متداخلة ،متآخية ،يش ُّد بعضها بعضا .كم من ٍّ بدأَ شاعر انتهى روائيًّا. من وكم ا، ر شاع ً ٍ الحالي لساحة اإلبداع ،وهو مشو ٌ َّش ،غي ُر إالّ أن المشه َد ّ َ ٌ نفسا ،مع أن باهت ،يدعوني إلى أن أكون أهدأ مست ِقرٍّ ،بل َ وأرحب ً النفس هذا قد يأتي إلى نتائجَ ال تس ُّر أحدًا ،مثل ما أنها ال تس ُّرني. هدوءَ ِ ُ أعوام وقبل الشعر»؛ «زمن عن ا الحديث كان د عقو قبل جً مؤجَّ ٍ ٍ ُ الحديث متوات ًرا عن «زمن الرواية»، كان ّ وفي الحالتين كلتيهما ،كنا غير دقيقين. العربية تي ٌ ُ ُ الحديث عن «زمن الشعر» كان آنَ ّاهة في بهائها الرواية لدى نجيب محفوظ ،وعبدالرحمن منيف ،وجمال الغيطاني. ُ العربي حمّال أسئل ٍة والحديث عن «زمن الرواية» كان آنَ الشع ُر ّ
184
الجدة ّ والصرامة. في تمام ِ * * * ً العرب :الشعر. الحالي لديوان إذا ،نحن إزاء المشهدِ ِ ّ إقامتي المديدة في ديار العرب ،وإطاللتي الدائمة على المشهدِ الشعري فيها ،جعلتاني أتق ّرى األمو َر في من ِبتِها. أبدأُ بالبدء. وأعني هناَ ، التهائم والنجود والسواحل. أرض الجزيرة ذات ِ َ أطال الـم َْـك َ ٌ ث .مَن بعد الثبَيتي؟ صمت ثمّة مَن بعد أحمد راشد ثاني؟ السالمي؟ مَن بعد زهران ّ أشاع ُر المليون؟ النبطي المتنافجون؟ أم أمراءُ ّ * * * ُ اليمن اليمان ،بعد رحيل محمد حسين هيثم... ّ ظل عبدالعزيز المقالح يحرس المعبد...
* * * ُ العجيب للقصيدة الح ّر ِة بُعَ ي َد الحرب العراق الذي شه َد الميال َد َ العالمية الثانية ،خام ُد الجذوة ،بعد أن فقد استقالله ،وتداوَلهَ األعاجمُ ،وأمسى وزير ثقافته ُكرديًّا. * * * في الشام التي أنجبت نزار قبّاني ،وعلي أحمد سعيد ،وممدوح ٌ ْ خلت ،ومراب َد ّام عدوان ،ورياض الصالح حسين ،حسرة على أي ٍ ْ أقفرت. وبسام حَ جّ ار ،مضى ولبنان ...مَن فيه اآلن؟ مضى سعيد عقل ّ ُّ ُ مسوخ القصيدة الفرنسيّة في تخل ِفها .هؤالء حسن عبدالله .هناك ّ الذين ال يعرفون من قصيدة النثر سوى تخليها. * * * فلسطين :هل أراهن على طارق الكرمي ،ومهيب البرغوثي ؟ باق... لكن زكريّا محمد ٍ العددان 480 - 479ذو الحجة 1437هـ -محرم 1438هـ /سبتمبر -أكتوبر 2016م
سعدي يوسف شاعر عراقي
وادي النيل ،وكان فيه مَن فيه :الفيتوري ،وأمل دنقل ،وحلمي سالم ،وصالح عبدالصبور. هذا العام فاز بجائزة الشعر الكبرى فاروق شوشة. َ ْ استقاللها ،واندثرت اندثرت ،كالعراق ،بعد أن فقدت ليبيا ٌ ٌ إرهاصات عميقة لقصيد ٍة جديدة. * * * ٌ جديرة باالنتباه .أعتق ُد أن الحركة الشعرية في تونس، تونس ُ العربي. المشهد في واألبهى، ، األعمق اآلن ،هي الشعريّ ّ ِّ رحيل محمد الصغير أوالد أحمد لم يؤث ْر في الصورة البهيّة: لدينا شاعر القيروان ،منصف الوهَ يبي. * * * الجزائر ،لم ُ تكن ،في أحد األيام ،غاب ًرا كان اليوم أو حاض ًرا، َ عر ،باستثناء المكتوب باللغة الفرنسية. حاضنة ِش ٍ * * * ّ النص المملكة المغربية كانت مهادًا غنيًّا لحركة التجديد في العربي. الشعريّ ّ َ أمّا اآلن ُ المعيش، فأزعمُ أن انفصال القصيد ِة المغربية عن الواقع ِ َ ب الخروجُ منها إِلاَّ بالعودة الشجاع ِة إلى أدخلها في متاه ٍة يصعُ ُ المغربي المناضل :عبداللطيف اللعَ بي ورفاقه. الحي للشعر الميراث ّ ّ * * * ُ وددت لو تحد ُ ّثت قليلاً عن موريتانيا ذات الخصيصة المختلفة، لكن ّ رأي حتى قل َة ما بين ي َديّ من ٍ نصوص جعلتني أتحرّجُ من إبداءِ ٍ لو كان موجَ ًزا. * * * ٌ كابية؟ هل الصورة بالتأكيد... سبيل إلى خارج النفق؟ من لكنْ هل ٍ صعب المنال. أرى أن ثمّة سبيلاً ،وإنْ كان َ ٌ العجب ،أجب ُته: الدرب سائل عن هذا فإنْ سألني ِ ِ الجاهلي! العودة إلى الشعر ّ لماذا؟ ٌ ُ َّ النص ِشع ًرا: يجعل متوافرة على ما ألن القصيدة الجاهلية ُ ّ (استعمال االسم الجامد ال اللغة الماديّة المشتق ،وانتفاءُ واإلقالل من َ ُ ْ الف ْضلة). المص َدر، العالقة مع الطبيعة. العالقة مع «أنا» ال مع «نحن». بدائية الموسيقا الداخلية. * * * ٌ مأهول. ديوان العرب لكن أيّامَ الجاهلية األولى... لندن 2016/07/16